تلخيص التمهيد الجزء ٢

تلخيص التمهيد0%

تلخيص التمهيد مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 579

تلخيص التمهيد

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد هادي معرفة
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: الصفحات: 579
المشاهدات: 99839
تحميل: 9944


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 99839 / تحميل: 9944
الحجم الحجم الحجم
تلخيص التمهيد

تلخيص التمهيد الجزء 2

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

(مالكم تَكَأكَأتم عليَّ كما تَتَكَأكَأون على ذي جِنّة، افرنقعوا عنّي!).

فجعل الناس ينظرون إليه ويقول بعضهم لبعض: دعوه فإنّ شيطانه يتكلّم بالهندية! (1) .

قال: ومنه ما يحتاج إلى أن يُخرّج له وجه بعيد، نحو مُسرّج في قول العجّاج:

ومُقلةً وحاجباً مزجّجا

وفاحماً ومَرسِناً مُسرّجا (2)

لم يُعلم أنّه مأخوذ من السيف السريجي في الدقة والاستواء، أو من السراج في البريق واللمعان.

قال: والوحشي قسمان، غريب حسن وغريب قبيح، فالغريب الحسن هو الذي لا يُعاب استعماله على العرب؛ لأنّه لم يكن وحشياً عندهم، وذلك مثل شرنبث واشمخرّ واقمطرّ (3) وهي في النظم أحسن منه في النثر، ومنه غريب القرآن والحديث.

والغريب القبيح يُعاب استعماله مطلقاً (حتى على العرب) ويُسمّى الوحشيّ الغليظ، وهو أن يكون مع كونه غريب الاستعمال ثقيلاً على السمع كريهاً على الذوق، ويُسمّى المتوعّر أيضاً، وذلك مثل جحيش واطلخمّ الأمر وجفخت (4) وأمثال ذلك (5) .

____________________

(1) المطوّل طبعة اسلامبول: ص18، وراجع الفائق للزمخشري: ج2 ص241. نسب الجاحظ ذلك إلى أبي علقمة، حدّث به ذلك في بعض طرقات البصرة.

والمعنى: مالكم اجتمعتم عليّ كما تجتمعون على مجنون، تفرّقوا عنّي.

(2) المُقلة: حدقة العين، والمزجّج كمعظّم: المدقّق المرقّق، والفاحم: الشعر الأسود، والمَرسن كمجلس: موضع الرسن من أنف الناقة، شاع استعماله في مطلق أنف الإنسان.

(3) الشرنبث كغضنفر: الغليظ الكفّين والرجلين. واشمخرّ: طال. واقمطرّ: اشتدّ.

(4) والجحيش: المُنعزل عن الناس بمعنى الفريد، واطلخمّ الأمر:اشتبك واشتبه، مأخوذ من الطلخوم بمعنى الماء الآجن. وجفخت: تكبّرت.

(5) المطوّل: طبعة اسلامبول ص18.

٢٤١

والخلاصة: القرآن كما يترفع عن الاسترسال العامي المرتذل، كذلك يبتعد عن استعمال غرائب الألفاظ المتوعّرة بمعنى وحشيها غير مأنوسة الاستعمال ولا مألوفة في متعارف أهل اللسان المترفّعين.

قال الخطابي: ليست الغرابة ممّا اشترطت في حدود البلاغة، وإنّما يكثر وحشيّ الغريب في كلام الأوحاش من الناس والأجلاف من جفاة العرب، الذين يذهبون مذاهب (العنهجية) (1) ولا يعرفون تقطيع الكلام وتنزيله والتخيّر له، وليس ذلك معدوداً في النوع الأفضل من أنواعه، وإنّما المختار منه النمط الأقصد الذي جاء به القرآن، وهو الذي جمع البلاغة والفخامة إلى العذوبة والسهولة.

قال: وقد يُعدّ من ألفاظ الغريب في نعوت الطويل (2) نحو من ستين لفظة أكرها بشع شنع، كالعشنّق والعشنّط والعنطنط، والشوقب والشوذب والسلهب، والقوق والقاف، والطوط والطاط... فاصطلح أهل البلاغة على نبذها وترك استعمالها في مرسل الكلام، واستعملوا الطويل، وهذا يدلّك على أنّ البلاغة لا تعبأ بالغرابة ولا تعمل بها شيئاً (3) .

وبعد، فالذي جاء منه في القرآن الشيء الكثير، هو الغريب العذب والوحش السائغ، الذي أصبح بفضل استعماله ألوفاً، وصار من بعد اصطياده خلوباً. دون البعيد الركيك والمتوعّر النفور، الذي لم يأتِ منه في القرآن شيء، ممّا جاء في كلام أمثال ذاك النحوي المتكلّف عيسى بن عمر.

والسبب في ازدحام غرائب الألفاظ وعرائس الكلمات في القرآن؛ هو ارتفاع سبكه عن مستوى العامّة الهابط، واعتلاء أُسلوبه عن متناول الأجلاف المبتذل.

____________________

(1) العنهج لغة في العمهج بمعنى الإبل الضخم الطويل، والعنهجية: كناية عن سلوك طرائق وَعِرة بعيدة المدى، إما تعسفّاً أو تفنّناً لا لغرض معقول.

(2) أي كل ذلك ينعت به الطويل بمختلف أطواره، كالعشنّق يوصف به الطويل الذي ليس بضخم ولا مثقّل، والعشنّط: الشابّ الظريف الحسن الجسم، والشوذب: الطويل الحسن الخلق... وهكذا.

(3) بيان إعجاز القرآن: ص 37.

٢٤٢

القرآن اختصّ بإحاطته على عوالي الكلمات الفصحى، وغوالي العبارات العليا، لا إعواز في بيانه ولا عجز ولا قصور، الأمر الذي يُنبئك عن علم شامل بأوضاع اللغة وكرائم الألفاظ، دليلاً على أنّه من ربّ العالمين المحيط بكلّ شيء، هذا أوّلاً.

وثانياً: احتواؤه لِما في لغات القبائل من عرائس الغرائب، كانت معهودةً في أقطار اختصّت بوضعها، ومعروفة في أمصار توحّدت في استعمالها؛ ومِن ثَمّ كانت غريبةً في سائر البقاع والبلدان.

وقد استعمل القرآن كلّ هذه اللغات، فتعارفت القبائل بلغات بعضها من بعض، وبذلك توحّدت اللغة، وخلصت من التشتّت والافتراق، وهذا من فضل القرآن على اللغة العربية.

* * *

٢٤٣

2 - طرافة سبكه وغرابة أُسلوبه

جاء القرآن بسبكٍ جديد وأُسلوبٍ فريد، كان غريباً على العرب، لا هو نثر كنثرهم، ولا شعر كشعرهم، ولا فيه شيء من هذر السجّاع، ولا تكلّفات الكهّان، وإن كان قد جمع بين مزايا أنواع الكلام، واشتمل على خصائص أنحاء البيان، فيه طلاقة النثر واسترساله البديع، وأناقة الشعر وسلاسته الرفيع، وجزالة السجع الرصين، وهذا عجيب!

قال الإمام كاشف الغطاء: تلك صورة نظمه العجيب وأُسلوبه الغريب المخالف لأساليب كلام العرب ومناهج نظمها ونثرها، ولم يوجد قبله ولا بعده نظير، ولا استطاع أحد مماثلة شيء منه، بل حارت فيه عقولهم، وتدلّهت دونه أحلامهم، ولم يهتدوا إلى مثله في جنس كلامهم من نثر أو نظم أو سجع أو رجز أو شعر... هكذا اعترف له أفذاذ العرب وفصحاؤهم الأوّلون (1) .

* * *

قال عظيم العرب وفريدها الوليد: يا عجباً لِما يقول ابن أبي كبشة، فو الله ما هو بشعر ولا بسحر ولا بهذي جنون، وإنّ قوله لمن كلام الله (2) .

____________________

(1) الدين والإسلام: ج2 ص107.

(2) تفسير الطبري: ج29 ص98.

٢٤٤

وقال - ردّاً على مَن زعم أنّه من الشعر -: فو الله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار منّي، ولا أعلم برجز ولا بقصيدة منّي، ولا بأشعار الجنّ، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا.

ثُمّ قال: ووالله إنّ لقوله الذي يقول حلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنّه ليعلو وما يُعلى... وفي رواية الإصابة زيادة: (وما هذا بقول بشر)، وفي نسخة الغزالي: (وما يقول هذا بشر) (1) .

ولمّا سمع عتبة بن ربيعة - وكان سيّداً في العرب - آياً من مفتتح سورة فصّلت، قرأها عليه النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وسلّم أتى معشر قريش، فسألوه، ما وراءك؟ قال: ورائي أنّي قد سمعت قولاً، والله ما سمعت مثله قطّ، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة (2) .

وهكذا أنيس به جنادة، لمّا بعثه أبو ذر ليستخبر من حالة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وسلّم وكان من أشعر العرب، فلمّا رجع قال: لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر (أي أوزانه) فما يلتئم على لسان أحد بعدي (أي غيري) أنّه شعر، والله إنّه لصادق، وإنّهم لكاذبون (3) .

إلى غيرها من كلمات تنمّ عن رفيع شأن هذا الكلام الإلهي الخالد... وقد مرّت (4) .

* * *

وتوضيحاً لهذا الجانب من إعجاز القرآن البياني - في سبكه وأُسلوبه - نقول: لا شكّ أنّه نثر، لا كنثرهم، أمّا من حيث اللفظ فإنّه رُصّع على أحسن ترصيع، ورُصفت كلماته وجمله وتراكيبه على أجمل ترصيف، فيه جمال الشعر ووقار

____________________

(1) المستدرك للحاكم: ج2 ص507.

(2) ابن هشام: ج1 ص314.

(3) شرح الشفاء للقاري: ج1 ص320.

(4) راجع (المدخل لدراسة الإعجاز) التمهيد: ج4 ص200 - 203.

٢٤٥

النثر وإجادة السجع الرصين، مع قوّة البيان ورشاقة التعبير، من غير أن يعتريه وهن أو ضعف، في طول كلامه وتعدّد بياناته.

وهكذا من حيث المعنى، جاء بمعانٍ جديدة كانت مهجورةً أو مطموسةً، فأحياها من جديد، وأبان من مراميها، وألقى الضوء على فلسفة الوجود وسرّ الحياة في المبدأ والمعاد، فجاء بمعارف جليلة وتعاليم نبيلة، أنار بها درب الحياة بما أذهل القلوب وأبهر العقول وأحار ذوي الألباب.

وفي ذلك يقول العلاّمة محمّد عبد الله درّاز: أًسلوب القرآن لا يعكس نعومة أهل المدينة ولا خشونة أهل البادية، وزن المقاطع في القرآن أكثر ممّا في النثر وأقلّ ممّا في الشعر، وأنّ نثره ينفرد ببعض الخصائص والميزات، فالكلمات فيه مختارة، غير مبتذلة ولا مستهجنة، ولكنّها رفيعة رائعة معبّرة، الجمل فيها ركّبت بشكل رائع، حتى أنّ أقلّ عدد من الكلمات يعبّر عن أوسع المعاني وأغزرها، إنّ تعابيره موجزة، ولكنّها مدهشة في وضوحها، حتى أنّ أقلّ حظّاً من التعلّم يستطيع فهم القرآن دونما صعوبة، وهناك عمق ومرونة في القرآن ممّا يصلح أن يكون أساساً لمبادئ وقوانين العلوم والآداب الإسلامية ومذاهب الفقه وفلسفة الإلهيات (1) .

وفي أُسلوب القرآن نجد أنّه وضع لبعض الألفاظ معاني جديدة، وخاصّة ما اتّصل منها بالفقه الإسلامي، كما استحدث ألفاظاً جديدة وأعرض عن ألفاظ، فمنع استعمال مدلولاتها وأعاض عنها بغيرها، وخاصّة وحشيّ اللفظ....

كذلك أبطل سجع الكهّان وطوابع الوثنية، وأضعف فنون الفخر والاستعلاء والهجاء، وطبع الحوار بطابع السماحة وإقامة الحجّة والبحث عن الدليل، وأحلّ الإيجاز محلّ الإسهاب، والحكمة مكان الإطالة، وترك في الأُسلوب العربي الإسلامي طابعه الوسيط السمح، وأعطاه جزالةً وسلاسةً وعذوبةً ووضوحاً... ذلك

____________________

(1) راجع الفصحى لغة القرآن لأنور الجندي: ص40.

٢٤٦

أنّ القرآن رقّق القلوب وأفسح للعقول مجال النظر والفكر (1) .

* * *

والآن فإليك بعض التوضيح عن قوافي الشعر وأوزانه، والكلام عن تكلّفات الأسجاع القديمة، ممّا تحاشاه القرآن الكريم:

الشعر: كلام ذو وزن وتقفية، قد سُبك على نظام خاصّ، ومتقيّد بقافية خاصّة، على أنواعها الخمسة المعروفة التي ذكرها الخليل (2) .

وهذا النظم تشرحه البحور المقيسة التي هي الأوزان الشعرية التي كانت عليها العرب، إلاّ ما شذّ، وقد أنهاها الخليل بن أحمد الفراهيدي إلى خمسة عشر بحراً، هي:

(الطويل، المديد، البسيط، الوافر، الكامل، الهزج، الرجز، الرمل، السريع، المنسرح، الخفيف، المضارع، المقتضب، المجتثّ، المتقارب).

ولكلّ بحر أصل وفروع يشرحها علم العروض (3) .

____________________

(1) عن بحث للدكتور عبد المنعم خفاجي في جريدة الدعوة (الفصحى لغة القرآن): ص40.

(2) سنذكرها في الصفحة القادمة.

(3) أصل الطويل: (فعولن. مفاعيلن...) أربع مرّات.

وأصل المديد: (فاعلاتن. فاعلن...) أربع مرّات.

وأصل البسيط: (مستفعلن. فاعلن) أربع مرّات.

وأصل الوافر: (مفاعلتن...) ستّ مرّات.

وأصل الكامل: (متفاعلن...) ستّ مرّات.

وأصل الهزج: (مفاعيلن...) ستّ مرّات.

وأصل الرجز: (مستفعلن...) ستّ مرّات.

وأصل الرمل: (فاعلاتن...) ستّ مرّات.

وأصل السريع: (مستفعلن. مستفعلن. مفعولات) مرّتين.

وأصل المنسرح: (مستفعلن. مفعولات. مستفعلن) مرّتين.

وأصل الخفيف: (فاعلاتن. مُس، تفع، لن. فاعلاتن) مرّتين.

٢٤٧

قال السكّاكي: وهذه الأوزان هي التي عليها مدار أشعار العرب، بحكم الاستقراء لا تجد لهم وزناً يشذّ عنها، اللّهمّ إلاّ نادراً (1) .

* * *

والقافية - عند الخليل -: من آخر حرف في البيت، إلى أَوّل ساكن قبله، مع المتحرّك الذي قبل الساكن. مثل (تابا) في قوله: (أقلّي اللومَ عاذِلَ والعِتابا) فيجب أن تجري القصيدة في جميع أبياتها على نفس المنوال.

قال السكّاكي: ولابدّ في القافية - على رأي الخليل وقد رجّحه، لوقوفه على أنواع علوم الأدب نقلاً وتصرفاً واستخراجاً واختراعاً ورعايةً في جميع ذلك حقّ رعايته - أن تشتمل على ساكنين، فيستلزم لذلك خمسة أنواع:

أحدها: أن يكون ساكناها مجتمعين، ويُسمّى: (المترادف).

ثانيها: أن يكون بينهما حرفان متحرّكان، ويُسمّى: (المتواتر).

ثالثها: أن يكون بينهما حرفان متحرّكان، ويُسمّى: (المتدارك).

ورابعها: أن يكون بينهما ثلاثة أحرف متحرّكات، ويُسمّى: (المتراكب).

وخامسها: أن يكون بينهما أربعة أحرف متحرّكات، ويُسمّى (المتكاوس).

ثُمّ ذكر أنّ للمترادف 17 موقعاً، وللمتواتر 21 موقعاً، وللمتدارك 11، وللمتراكب 8 وللمتكاوس موقع واحد، فهذه 58 موقعاً لأنواع القافية الخمسة.

* * *

ثُمّ القافية لاشتمالها على حرف الرويّ - (وهو: الحرف الآخر من حروف

____________________

= وأصل المضارع: (مفاعيلن. فاعلاتن. مفاعلن) مرّتين.

وأصل المقتضب: (مفعولات. مستفعلن. مستفعلن) مرّتين.

وأصل المجتثّ: (مستفعلن. فاعلاتن. فاعلاتن) مرّتين.

وأصل المتقارب: (فعولن...) ثماني مرّات.

(1) راجع مفتاح العلوم للسكّاكي (علم العروض): ص244 - 267. وجامع العلوم للإمام الرازي: ص74 - 82.

٢٤٨

القافية إلاّ ما كان تنويناً أو بدلاً من التنوين أو كان حرفاً إشباعيّاً مجلوباً لبيان الحركة) - تتنوّع إلى ستة أنواع:

الأَوّل: القافية المقيّدة، وهي ما كان رويّها ساكناً، نحو قوله: (وقاتم الأعماق خاوي المخترق)، وحركة ما قبل الرويّ المقيّد يُسمّى: (توجيهاً).

الثاني: القافية المطلقة، وهي ما كان رويّها متحركاً، نحو قوله: (قِفا نبكِ مِن ذكرى حبيبٍ ومنزلٍ)، ويُسمّى حركة الرويّ: (مجرى).

الثالث: القافية المردفة، وهي ما كان قبل رويّها ألفٌ، مثل (عماداً) أو واو أو ياء مدّتين، نحو (عمود) و(عميد)، أو غير مدّتين، مثل (قول) و(قيل)، وتُسمّى كل من هذه الحروف (ردفاً)، وحركة ما قبل الردف (حذواً).

٢٤٩

3 - عذوبة ألفاظه وسلاسة عباراته

قد أجمل الكلام في ذلك الجرجانيّ والسكاكيّ وغيرهما من أعلام البيان من المتقدّمين، (وتقدّم بعض كلامهم)، وأكمله النُقّاد من المتأخّرين المعاصرين، قالوا:

لو تدبّرت ألفاظ القرآن في نظمها لرأيت حركاتها الصرفية واللغوية تجري في الوضع والتركيب مجرى الحروف أنفسها، ولن تجدها إلاّ مؤتلفة مع أصوات الحروف، مساوقة لها في النظم الموسيقي، حتى أنّ الحركة ربّما كانت ثقيلة فلا تعذب ولا تُساغ في نفسها، فإذا هي استُعملت في القرآن رأيت لها شأناً عجيباً، ورأيت أصوات الأحرف والحركات التي قبلها قد امتهدت لها طريقاً في اللسان واكتنفتها بضروب من النغم الموسيقي، حتى إذا خرجت فيه كانت أعذب شيء وأرقّه، وكانت متمكّنة في موضعها، وكانت لهذا الموضع أَولى الحركات بالخفّة والروعة.

من ذلك لفظة (النُذُر) جمع نذير، فإنّ الضمّة ثقيلة فيها لتواليها على النون والذال معاً، فضلاً عن جَسأة هذا الحرف ونبوّه في اللسان، وخاصة إذا جاءت فاصلة للكلام.

ولكنه جاء في القرآن على العكس وانتفى من طبيعته في قوله تعالى ( وَلَقَدْ

٢٥٠

أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ ) (1) فتأمّل هذا التركيب، وأنعِم ثُمّ أنعِم على تأمّله، وتذوّق مواقع الحروف، واجرِ حركاتها في حسّ السمع، وتأمّل مواضع القلقلة في دال (لقد)، وفي الطاء من (بطشتنا) وهذه الفتحات المتوالية فيما وراء الطاء إلى واو (تماروا) مع الفصل بالمدّ كأنّها تثقيل، لخفّة التتابع في الفتحات إذا هي جرت على اللسان؛ ليكون ثقل الضمّة عليه مستخفاً بعد، ولكون هذه الضمّة قد أصابت موضعها، كما تكون الأحماض في الأطعمة، ثُمّ ردّد نظرك في الراء من (تماروا) فإنّها ما جاءت إلاّ مساندة لراء (النذر) حتى إذا انتهى اللسان إلى هذه انتهى إليها من مثلها، فلا تجفو عليه، ولا تغلظ ولا تنبو فيه. ثُمّ اعجب لهذه الغنّة التي سبقت الطاء في نون (أنذرهم) وفي ميمها، وللغنّة الأُخرى التي سبقت الذال في (النُذُر).

وما من حرف أو حركة في الآية إلاّ وأنت مصيب من كلّ ذلك عجباً في موقعه والقصد به، حتى ما تشكّ أنّ الجهة واحدة في نظم الجملة والكلمة والحرف والحركة، ليس منها إلاّ ما يشبه في الرأي أن يكون قد تقدّم فيه النظر وأحكمته الرويّة ومن بين الكلمات، وأين هذا ونحوه عند تعاطيه! ومن أيّ وجه يلتمس! وعلى أيّ جهة يستطاع!

وقد وردت في القرآن ألفاظ هي أطول الكلام عدد حروف ومقاطع ممّا يكون مستثقلاً بطبيعة وضعه أو تركيبه، ولكنّها بتلك الطريقة التي أومأنا إليها قد خرجت في نظمه مخرجاً سرياً، فكانت من أخصر الألفاظ حلاوةً وأعذبها منطقاً وأخفّها تركيباً؛ إذ تراه قد هيّأ لها أسباباً عجيبةً من تكرار الحروف وتنوّع الحركات، فلم يُجرِها في نظمه إلاّ وقد وجد ذلك فيها، كقوله تعالى: ( لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ ) (2) فهي كلمة واحدة من عشرة أحرف، وقد جاءت عذوبتها من تنوّع مخارج الحروف ومن نظم حركاتها، فإنّها بذلك صارت في النطق كأنّها أربع

____________________

(1) القمر: 36.

(2) النور: 55.

٢٥١

كلمات؛ إذ تنطق على أربعة مقاطع.

وقوله: ( فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ ) (1) فإنّها كلمة من تسعة أحرف، وهي ثلاثة مقاطع، وقد تكرّرت فيها لا الياء والكاف، وتوسط بين الكافين هذا المدّ (في) الذي هو سرّ الفصاحة في الكلمة كلّها.

واللفظة إذا كانت خماسية الأُصول فهذا لم يرد منه في القرآن شيء؛ لأنّه ممّا لا وجه للعذوبة فيه، إلاّ ما كان من اسم عُرّب ولم يكن عربيّاً: كإبراهيم، وإسماعيل، وطالوت، وجالوت، ونحوها، ولا يجيء به مع ذلك إلاّ أن يتخلّله المدّ كما ترى، فتخرج الكلمة وكأنّها كلمتان.

وفي القرآن لفظة غريبة هي من أغرب ما فيه، وما حسُنت في كلام قطّ إلاّ في موقعها من القرآن بالذات، وهي كلمة ( ضِيزَى ) من قوله تعالى: ( تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى ) (2) ، ومع ذلك فإنّ حسنها في نظم الكلام هنا من أغرب الحسن وأعجبه، وإذا أدرت اللغة عليها ما صلُح لهذا الموضع غيرها.

فإنّ السورة التي هي منها - وهي سورة النجم - مفصّلة كلّها على الياء، فجاءت الكلمة فاصلة من الفواصل، ثُمّ هي في معرض الإنكار على العرب، إذ وردت في ذكر الأصنام وزعمهم في قسمة الأولاد، فإنّهم جعلوا الملائكة والأصنام بنات لله مع وأدهم البنات (3) فقال تعالى: ( أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى ) ، فكانت غرابة اللفظ أشدّ الأشياء ملائمة لغرابة هذه القِسمة التي أنكرها عليهم، وكانت الجملة كلّها كأنّها تصوّر في هيئة النطق بها، الإنكار في الأُولى والتهكّم في الأُخرى، وكان هذا التصوير أبلغ ما في البلاغة، وخاصّة في اللفظ الغريبة التي تمكّنت في موضعها من الفصل، ووصفت حالة المتهكّم في إنكاره من إمالة اليد والرأس بهذين المدّين فيها إلى الأسفل والأعلى، وجمعت إلى كلّ ذلك غرابة

____________________

(1) البقرة: 137.

(2) النجم: 22. والضيز: الجَور، أي فهي قِسمة جائرة.

(3) أي دفنهنّ على الحياة كما كان من عادتهم.

٢٥٢

الإنكار بغرابتها اللفظية.

وإن تعجب فعاجِب لنظم هذه الكلمة الغريبة وائتلافه على ما قبلها، إذ هي مقطعان: أحدهما مدّ ثقيل: والآخر مدّ خفيف، وقد جاءت عقب غنّتين في (إذا ً) و(قِسمة) إحداهما خفيفة حادّة، والأُخرى ثقيلة متفشّية، فكأنّها بذلك ليست إلاّ مجاورة صوتية لتقطيع موسيقي.

ثُمّ الكلمات التي يُظنّ أنّها زائدة في القرآن - كما يقوله بعض النحاة - فإنّ فيه من ذلك أحرفاً، كقوله تعالى: ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ) (1) وقوله: ( فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً ) (2) .

قالوا: إنّ (ما) في الآية الأُولى و(أن) في الثانية، زائدتان، أي في الإعراب، فيَظنّ مَن لا بصر له أنّهما كذلك في النظم ويقيس عليه!

مع أنّ في هذه الزيادة لوناً من التصوير، لو حُذف من الكلام لذهب بكثير من حسنه وروعته، فإنّ المراد بالآية الأُولى تصوير لِين النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لقومه، وأنّ ذلك رحمة من الله، فجاء هذا المدّ في (ما) وصفاً لفظياً يُؤكّد معنى اللين ويُفخّمه، وفوق ذلك فإنّ لهجة النطق به تشعر بانعطاف وعناية لا يبتدأ هذا المعنى بأحسن منهما في بلاغة السياق، ثمّ كان الفصل بين الباء الجارّة ومجرورها - وهو لفظ (رحمة) - ممّا يُلفت النفس إلى تدبّر المعنى ويُنبّه الفكر على قيمة الرحمة فيه، وذلك كلّه طبعي في بلاغة الآية كما ترى.

والمراد بالثانية تصوير الفصل الذي كان بين قيام البشير بقميص يوسف وبين مجيئه؛ لبُعد ما كان بين يوسف وأبيه (عليهما السلام) وأنّ ذلك كأنّه كان منتظراً بقلق واضطراب (3) تُؤكّدهما وتصف الطرب لمَقدمه واستقراره غنّةُ هذه النون في الكلمة الفاصلة، وهي: (أن) في قوله (أن جاء...).

____________________

(1) آل عمران: 159.

(2) يوسف: 96.

(3) يُنبه على ذلك قوله تعالى قبل ذلك عن لسان يعقوب: ( إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ) (يوسف: 94).

٢٥٣

وعلى هذا يجري كل ما ظُنّ أنّه في القرآن مزيد، فإنّ اعتبار الزيادة فيه وإقرارها بمعناها إنّما هو نقص يجلّ القرآن عنه، وليس يقول بذلك إلاّ رجل يعتسف الكلام ويقضي فيه بغير علمه أو بعلم غيره... فما في القرآن حرف واحد إلاّ ومعه رأي يسنح في البلاغة - من جهة نظمه، أو دلالته، أو وجه اختياره - بحيث يستحيل البتة أن يكون فيه موضع قلق أو حرف نافر أو جهة غير محكمة أو شيء ممّا تنفذ في نقده الصنعة الإنسانية من أيّ أبواب الكلام إن وسعها منه باب.

وممّا يدلّ على أنّ نظم القرآن مادة فوق الصنعة ومن وراء الفكر، ولا يسعه طوق إنسان في نظم الكلام البليغ الجمع ولم يستعمل بصيغة الإفراد، فإذا احتيج إلى صيغة المفرد استعمل مرادفها، كلفظة (اللبّ) لم ترد إلاّ مجموعة ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى ِلأَوْلِي الأَلْبَابِ ) ، ( لِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ) ونحوهما (1) ولم تجئ فيه مفردة، بل جاء مكانها (القلب) (2) أو (الفؤاد) (3) .

وذلك لأنّ لفظ الباء شديد مجتمع، ولا يفضي إلى هذه الشدّة إلاّ من اللام الشديدة المسترخية، فلمّا لم يكن ثَمّ فصل بين الحرفين ليتهيّأ معه هذا الانتقال على نسبة بين الرخاوة والشدّة فتحسن اللفظة مهما كانت حركة الإعراب فيها، نصباً أو رفعاً أو جرّاً؛ ولذلك أسقطها القرآن من نظمه تبّةً، على سعة ما بين أَوّله وآخره.

ولو حسنت على وجه من تلك الوجوه لجاء بها حسنة رائعة، كما في لفظة (الجبّ) وهي في وزنها ونطقها، لولا حسن الائتلاف بين الجيم والباء من هذه الشدّة في الجيم المضمومة.

وكذلك لفظة (الكوب) استعملت فيه مجموعة ولم يأتِ بها مفردة؛ لأنّه لم

____________________

(1) في ستة عشر موضعاً من القرآن جاءت اللفظة بصيغة الجمع فقط، ولم تأتي إفراداً أبداً.

(2) في تسعة عشر موضعاً إمّا مقطوعاً أو مضافاً.

(3) في خمسة مواضع مقطوعاً ومضافاً.

٢٥٤

يتهيّأ فيها ما يجعلها في النطق من الظهور والرقّة والانكشاف وحسن التناسب كلفظ (الأكواب) الذي هو جمع.

و(الأرجاء) لم يَستعمل القرآن لفظها إلاّ مجموعاً، وتَرك المفرد - وهو الرَّجا أي الجانب - لعلّةِ لفظه وأنّه لا يسوق في نظمه كما ترى.

وعكس ذلك لفظة (الأرض) فإنّها لم ترد فيه إلاّ مفردة، فإذا ذُكرت السماء مجموعة جيء بها مفردة في كل موضع منه، ولم يجئ (أرضون) لهذه الجَسأة التي تدخل اللفظ ويختلّ بها النظم اختلالاً.

ومن الألفاظ لفظة (الآجر) وليس فيها من خفّة التركيب إلاّ الهمزة وسائرها نافر متقلقل، ولفظ مرادفها (القَرْمَد) وكلاهما استعمله فصحاء العرب ولم يعرفوا غيرهما، أمّا القرآن فلم يستعملهما ولكنّه أخرج معناهما بألطف عبارة وأرقّها وأعذبها، وساقها في بيان مكشوف، وذلك في قوله تعالى: ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هامَانُ عَلَى الطّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحاً ) (1) ، فعبّر عن الآجر بقوله: (فأوقد لي يا هامان على الطين) وانظر موقع هذه القلقلة التي هي في الدال من قوله (فأوقد) وما يتلوها من رقّة اللام، فإنّها في أثناء التلاوة ممّا لا يُطاق أن يُعبّر عن حسنه وكأنّما تَنتزع النفس انتزاعاً.

وليس الإعجاز في اختراع تلك العبارة فحسب، ولكن ما ترمي إليه إعجاز آخر، فإنّها تُحقّر من شأن فرعون وتصف ضلاله وتُسفّه رأيه؛ إذ طمع أن يبلغ الأسباب، أسباب السماوات فيطّلع إلى إله موسى (2) ، وهو لا يجد وسيلةً إلى ذلك المستحيل ولو نصب الأرض سُلّماً، إلاّ شيئاً يصنعه هامان من الطين (3) .

* * *

____________________

(1) القصص: 38.

(2) إشارة إلى الآية: 37 من سورة غافر.

(3) اقتضاب عاجل من إعجاز القرآن للرافعي: ص228 - 234.

٢٥٥

4 - تناسق نظمه وتناسب نغمه

وهو جانب خطير من إعجاز القرآن البياني، لَمَسته العرب منذ أوّل يومها فبهرتهم روعته ودهشتهم رنّته، فأخضعهم للاعتراف في النهاية بأنّه كلام يفوق طوع البشر وأنّه كلام الله.

إنّه جانب (اتّساق نظمه وتناسب نغمه) وإيقاعاته الموسيقية الساطية على الأحاسيس، والآخذة بمجامع القلوب، وهذا الجمال التوقيعي للقرآن يبدو جلياً لكلّ مَن يستمع إلى آياته تُتلى عليه، حتى ولو كان من غير العرب، فكيف بالعرب أنفسهم، وأوّل شيء تحسّه الآذان عند سماع القرآن هو ذا نظامه الصوتيّ البديع، الذي قُسّمت فيه الحركات والسكونات تقسيماً متنوّعاً ومتوزّعاً على على الألحان الموسيقية الرقيقة، فيُنوِّع ويُجدِّد نشاطَ السامع عند سماعه، ووُزّعت في تضاعيفه حروف المدّ والغنّة توزيعاً بالقسط، يُساعد على ترجيع الصوت به، وتهاوى النَفَس فيه آناً بعد آن، إلى أن يصل قمّتها في الفاصلة، فيجد عندها راحته الكبرى، على ما فصّله أساتذة الترتيل.

وربّما استمع الإنسان إلى قصيدة، وهي تتشابه أهواؤها وتتساوق أنغامها، ولكنّه لا يلبث أن يملّها، ولا سيّما إذا أُعيدت عليه وكُرّرت بتوقيع واحد، بينما

٢٥٦

الإنسان من القرآن في لحن متنوّع ونغم متجدّد، ينتقل فيه بين أسباب وأوتاد وفواصل (1) ، على أوضاع مختلفة، يأخذ منها كل وَتر من أوتار القلب نصيبه بسواء، فلا يعرو الإنسان على كثرة ترداده مَلال أو سأم، بل لا يفتأ يطلب منه المزيد....

وأحياناً كان العرب تعمد إلى ما يقرب من هذا النحو من التنظيم الصوتي في أشعارها لكنّها تذهب مذهب الإسراف والاستهواء المُملّ في الأغلب، ولا سيّما عند التكرير، أمّا في منثور كلامها، سواء المرسل منه أو المسجوع، فلم تكن عَهِدته قطّ ولا كان يتهيّأ لها بتلك السهولة والمرونة والعذوبة التي في القرآن الكريم، بل ربّما كان يقع لها في أجود منثورها عيوب تغضّ من سلاسة تركيبه، بما لا يمكن معها من إجادة ترتيله، إلاّ بتعمل يبدو عليه أثر التكلّف والتعسّف الأمر الذي كان يحطّ من شأن الكلام.

فلا عجب إذاً أن يكون أدنى الألقاب إلى القرآن - في خيال العرب - أنّه شعر، وإذا لم يكن بشعر فهو سحر، وهذا يكشف عن مدى بهر العرب وحيرتهم تجاه هذا النوع من الكلام المُنضّد البديع، كان له من النثر جلاله وروعته، ومن الشعر جماله ومتعته!!

قال الأُستاذ درّاز: ويجد الإنسان لذّةً بل وتعتريه نشوة إذا ما طَرق سمعه جواهر حروف القرآن، خارجةً من مخارجها الشحيحة، من نظم تلك الحروف ورصفها وترتيب أوضاعها فيما بينها: هذا ينقر، وذاك يصفر، وثالث يهمس، ورابع

____________________

(1) من مصطلحات الأفنان الموسيقية: (الحرف المتحرك إذا تلاه حرف ساكن، يقال له: سببٌ خفيف، والحرفان المتحركان لا يتلوهما ساكن: سببٌ ثقيل، والمتحركات يتلوهما ساكن: وَتدٌ مجموع، وإذا توسّطهما ساكن: وتدٌ مفروق. وثلاثة أحرف متحركة: فاصلة صغيرة، وأربعة أحرف متحركة يعقبها ساكن: فاصلةٌ كبيرة) وهكذا... (النبأ العظيم: ص95).

ولعلّ القارئ النبيه يعذرنا في الاقتصار على النقل هنا، بعد أن كان موضوع البحث من الفنون الخارجة عن اختصاصنا!

٢٥٧

يجهر، وآخر ينزلق عليه النَفَس، وآخر يحتبس عنده النَفَس، فترى الجمال النغمي ماثلاً بين يديك في مجموعة مختلفة ولكنّها مؤتلفة لا كركرة ولا ثرثرة، ولا رخاوة ولا مُعاظَلَة، ولا تناكر ولا تنافر، وهكذا ترى كلاماً ليس بالبَدَويّ الجافي ولا بالحضريّ الفاتر، بل هو ممزوج مؤلّف من جزالة ذاك ورقّة هذا، مزيجاً كأنّه عصارة اللغتين وسلالة اللهجتين.

نعم من هذا الثوب القشيب يتألّف جمال القرآن اللفظي، وليس الشأن في هذا الغلاف إلاّ كشأن الأصداف، تتضمّن لآلي نفيسة، وتحتضن جواهر ثمينة، فإن لم يُلهك جمال الغطاء عمّا تحته من الكنز الدفين، ولم تحجبك بهجة الستار عمّا وراءه من السرّ المصون، ففُليت القشرة عن لبّها، وكشفت الصدفة عن دُرّها، فنفذت من هذا النظام اللفظي إلى تلك الفخامة المعنوية، تجلّى لك ما هو أبهى وأبهر، ولقيت منه ما هو أبدع وأروع، تلك روح القرآن وحقيقته، وجذوة موسى التي جذبته إلى نار الشجرة في شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة، فهناك نسمة الروح القدسية: ( إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) (1) .

* * *

وذكر سيّد قطب عن الإيقاع الموسيقي في القرآن أنّه من إشعاع نظمه الخاص، وتابع لانسجام الحروف في الكلمة، ولانسجام الألفاظ في الفاصلة الواحدة؛ وبذلك قد جمع القرآن بين مزايا النثر وخصائص الشعر معاً، فقد أعفى التعبير من قيود القافية الموحّدة والتفعيلات التامّة، فنال بذلك حرية التعبير الكاملة عن جميع أغراضه العامّة، وأخذ في الوقت ذاته من خصائص الشعر الموسيقي الداخلية، والفواصل المتقاربة في الوزن التي تُغني عن التفاعيل والتقفية التي تُغني عن القوافي، فشأنه شأن النثر والنظم جميعاً.

____________________

(1) النبأ العظيم: ص94 - 99، والآية 30 من سورة القصص.

٢٥٨

وحيثما تلا الإنسان القرآن أحسّ بذلك الإيقاع الداخلي في سياقه، يبرز بروزاً واضحاً في السور القصار، والفواصل السريعة، ومواضع التصوير والتشخيص بصفة عامة، يتوارى قليلاً أو كثيراً في السور الطوال، لكنّه على كل حال ملحوظ دائماً في بناء النظم القرآني.

ثمّ أخذ في ضرب المثال، قال:

وها نحن أُولاء نتلو سورة النجم مثلاً.

( وَالنّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى‏ * ذُو مِرّةٍ فَاسْتَوَى‏ * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمّ دَنَا فَتَدَلّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى‏ إِلَى‏ عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى‏ * أَفَتُمارُونَهُ عَلَى‏ مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى * عِندَهَا جَنّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى‏ مِنْ آيَاتِ رَبّهِ الْكُبْرَى * أَفَرَأَيْتُمُ اللاّتَ وَالْعُزّى * وَمَنَاةَ الثّالِثَةَ الأُخْرَى * أَلَكُمُ الذّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى ) (1) .

هذه فواصل متساوية في الوزن تقريباً - على نظام غير نظام الشعر العربي - متّحدة في حرف التقفية تماماً، ذات إيقاع موسيقي متّحد تبعاً لهذا وذلك، وتبعاً لأمر آخر لا يظهر ظهور الوزن والقافية؛ لأنّه ينبعث من تآلف الحروف في الكلمات، وتناسق الكلمات في الجمل، ومردّه إلى الحسّ الداخلي والإدراك الموسيقي، الذي يَفرق بين إيقاع موسيقي، وإيقاعٍ ولو اتّحدت الفواصل والأوزان.

والإيقاع الموسيقي هنا متوسط الزمن تبعاً لتوسط الجملة الموسيقية في الطول، متّحد تبعاً لتوحّد الأُسلوب الموسيقي، مسترسل الرويّ كجوّ الحديث الذي يشبه التسلسل القصصي، وهذا كله ملحوظ، وفي بعض الفواصل يبدو ذلك جلياً

____________________

(1) النجم: 1 - 22.

٢٥٩

مثل: ( أَفَرَأَيْتُمُ اللاّتَ وَالْعُزّى * وَمَنَاةَ الثّالِثَةَ الأُخْرَى ) ، فلو أنّك قلت: أفرأيتم اللات والعزّى الثالثة لاختلت القافية، ولتأثر الإيقاع، ولو قلت: افرأيتم اللات والعزّى ومَناة ومَناة الأُخرى فالوزن يختل، وكذلك في قوله: ( أَفَرَأَيْتُمُ اللاّتَ وَالْعُزّى * وَمَنَاةَ الثّالِثَةَ الأُخْرَى ) فلو قلت: ألكم الذكر وله الأُنثى تلك قسمةٌ ضيزى لاختلّ المستقيم بكلمة (إذاً).

ولا يعني هذا أنّ كلمة (الأُخرى) أو كلمة (الثالثة) أو كلمة (إذاً) زائدة لمجرّد القافية أو الوزن، فهي ضرورية في السياق لنكت معنوية خاصّة، وتلك ميزة فنّية أُخرى أن تأتي لتؤدّي معنى في السياق، وتؤدّي تناسباً في الإيقاع، دون أن يطغى هذا على ذلك، أو يخضع النظم للضرورات.

ملاحظة اتّزان الإيقاع في الآيات والفواصل تبدو واضحة في كل موضع على نحو ما ذكرنا أو قريباً من هذه الدقّة الكبرى. ودليل ذلك أن يعدّل في التعبير عن الصورة القياسية للكلمة إلى صورة خاصّة، أو أن يُبنى النسق عل نحو يختلّ إذا قدّمت أو أُخّرت فيه أو عدلت في النظم أيّ تعديل.

مثال الحالة الأُولى حكاية قول إبراهيم:

( قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنّهُمْ عَدُوّ لِي إِلاّ رَبّ الْعَالَمِينَ * الّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالّذِي يُمِيتُنِي ثُمّ يُحْيِينِ * وَالّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدّينِ ) (1) .

فقد خُطفت ياء المتكلّم في (يهدين ويسقين ويشفين ويحيين) محافظة على حرف القافية مع (تعبدون، والأقدمون، والدين...) ومثله خَطف الياء الأصلية في الكلمة: نحو ( وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللّيْلِ إِذَا يَسْرِ * هَلْ فِي

____________________

(1) الشعراء: 75 - 82.

٢٦٠