تلخيص التمهيد الجزء ٢

تلخيص التمهيد0%

تلخيص التمهيد مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 579

تلخيص التمهيد

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد هادي معرفة
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: الصفحات: 579
المشاهدات: 99697
تحميل: 9926


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 99697 / تحميل: 9926
الحجم الحجم الحجم
تلخيص التمهيد

تلخيص التمهيد الجزء 2

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ) (1) ، فياء (يسر) حذفت قصداً للانسجام مع (الفجر، وعشر، والوتر، وحجر...).

ومثل ( يَوْمَ يَدْعُ الدّاعِ إِلَى‏ شَيْ‏ءٍ نُكُرٍ * خُشّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هذَا يَوْمٌ عَسِرٌ ) (2) فإذا أنت لم تخطف الياء في (الداع) أحسست ما يشبه الكسر في وزن الشعر.

ومثله: ( ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً ) (3) فلو مددت ياء نبغي - كما هو القياس - لاختلّ الوزن نوعاً من الاختلال.

ومثل هذا يقع عند زيادة هاء السكت على ياء الكلمة أو ياء المتكلّم في مثل: ( وَأَمّا مَنْ خَفّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَاهِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ ) (4) ، ومثل: ( فَأَمّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُا كِتَابِيَهْ * إِنّي ظَنَنتُ أَنّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ... ) (5) .

ومثال الحالة الثانية: أن لا يكون هناك عدول عن صيغة قياسية، ومع ذلك تُلحظ الموسيقى الكامنة في التركيب، والتي تختلّ لو غَيّرت نظامه مثل: ( ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيّا * إِذْ نَادَى‏ رَبّهُ نِدَاءً خَفِيّاً * قَالَ رَبّ إِنّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنّي وَاشْتَعَلَ الرّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً ) (6) فلو حاولت مثلاً أن تُغيّر فقط وضع كلمة (منّي) فتجعلها سابقة لكلمة (العظم): قال ربي إني وهن مني العظم، لأحسست بما يشبه الكسر في وزن الشعر؛ ذلك أنّها تتوازن مع (إنّي) في صدر الفقرة هكذا: (قال ربّ إنّي) (وهن العظمُ منّي)، على أنّ هناك نوعاً من الموسيقى الداخلية يُلحظ ولا يشرح - كما أسلفنا - وهو كامن في نسيج اللفظة المفردة

____________________

(1) الفجر: 1 - 5.

(2) القمر: 6 - 8.

(3) الكهف: 64.

(4) القارعة: 8 - 11.

(5) الحاقة: 19 - 21.

(6) مريم: 2 - 4.

٢٦١

وتركيب الجملة الواحدة، وهو يُدرك بحاسّة خفية وهبة لدُنية.

وهكذا تتبدّى تلك الموسيقى الداخلية في بناء التعبير القرآني، موزونة بميزان شديد الحسّاسية، تُميله أخفّ الحركات والاهتزازات، ولو لم يكن شعراً، ولو لم يتقيد بقيود الشعر الكثيرة، التي تحدّ من الحرّية الكاملة في التعبير الدقيق عن القصد المطلوب (1) .

* * *

وقال الرافعي: كان العرب يتساجلون الكلام ويتقارضون الشعر، وكان أُسلوب الكلام عندهم واحداً: حرّاً في المنطق وجزلاً في الخطاب، في فصاحة كانت تؤاتيهم الفطرة وتمدّهم الطبيعة، فلمّا ورد عليهم أُسلوب القرآن رَأوا ألفاظهم بأعيانها متساوقة، ليس فيها إعنات ولا مُعاياة، ووجوه تركيبه ونسق حروفه ونظم جمله وعبائره، ما أذهلهم هيبةً وروعةً، حتى أحسّوا بضعف الفطرة وتخلّف المَلَكة، ورأى بلغاؤهم جنساً من الكلام غير ما هم فيه، رأوا حروفه في كلماته، وكلماته في جمله، ألحاناً نغمية رائعة، كأنّها لائتلافها وتناسقها قطعة واحدة، قراءتها هي توقيعها، فلمْ يفتهم هذا المعنى وكان أبين لعجزهم.

وكل الذين يُدركون أسرار الموسيقى وفلسفتها النفسية يرون أن ليس في الفنّ العربي بجملته شيء يعدل هذا التناسب الطبيعي في ألفاظ القرآن وأصوات حروفه، وما أحد يستطيع أن يغتمز في ذلك حرفاً واحداً، والقرآن يعلو على الموسيقى إنّه مع هذه الخاصّة العجيبة ليس من الموسيقى.

إنّ مادة الصوت هي مظهر الانفعال النفسي في الأنغام الموسيقية، بسبب تنويع الصوت مدّاً وغنّةً وليناً وشدّةً وما يتهيّأ له من حركات مختلفة، وبمقدار ما يكسبه من الحَدرة والارتفاع والاهتزاز ممّا هو بلاغة الصوت في لغة الموسيقى.

فلو اعتبرنا ذلك في تلاوة القرآن لرأيناه أبلغ ما تبلغ إليه اللغات كلها، في هزّ

____________________

(1) التصوير الفني: ص80 - 83.

٢٦٢

الشعور واستثارة الوجد النفسي، ومن هذه الجهة تراه يغلب على طبع كل عربيّ أو عجميّ، وبذلك يؤوّل ما ورد من الحثّ على تحسين الصوت عند قراءة القرآن.

وما هذه الفواصل التي تنتهي بها آيات القرآن إلاّ صوراً تامّة للأبعاد التي تنتهي بها جمل الموسيقى، وهي متّفقة مع آياتها في قرارات الصوت اتّفاقاً عجيباً يُلاءم نوع الصوت، والوجه الذي يُساق عليه، بما ليس وراءه من العجب مذهب، وتراها أكثر ما تنتهي بالنون والميم، وهما الحرفان الطبيعيان في الموسيقى نفسها، أو المدّ، وهو كذلك طبيعيّ في القرآن (1) .

* * *

وقال بعض أهل الفنّ: كثر في القرآن ختم الفواصل بحروف المدّ واللين وإلحاق النون، وحكمة وجودها التمكّن من التطريب بذلك، كما قال سيبويه: إنّهم - أي العرب - إذا ترنّموا يُلحقون الألف والياء والنون؛ لأنّهم أرادوا مدّ الصوت، ويتركون ذلك إذا لم يترنّموا، وجاء في القرآن على أسهل موقف وأعذب مقطع.

فإن لم تنتِه بواحدة من هذه - كأن انتهت بسكون حرف - كان ذلك متابعة لصوت الجملة وتقطيع كلماتها، ومناسبة للون المنطق بما هو أشبه وأليق بموضعه، وأكثر ما يكون في الجمل القصار، ولا يكون إلاّ بحرف قويّ يستتبع القلقلة أو الصفير أو نحوهما ممّا هو موصوف بضروب أُخرى من النظم الموسيقي.

وهذه هي طريقة الاستهواء الصوتي في اللغة، وأثرها طبيعيّ في كل نفس، فهي تشبه في القرآن الكريم أن تكون صوت إعجازه الذي يُخاطب به كل نفس، سواء كانت تفهمه أو لا تفهمه.

فقد تألّفت كلماته من حروف، لو سقط واحد منها أو أُبدل بغيره أو أُقحم معه حرف آخر لكان ذلك خللاً بيّناً، أو ضعفاً ظاهراً في نسق الوزن وفي جرس النغمة، وفي حسّ السمع وذوق اللسان، وفي انسجام العبارة وبراعة المخرج،

____________________

(1) إعجاز القرآن: ص188 و216.

٢٦٣

وتساند الحروف وإفضاء بعضها إلى بعض، ولرأيت لذلك هُجنة في السمع.

* * *

قالوا: إنّ مردّ هذا الإعجاز في القرآن بالدرجة الأُولى هو ما يستثيره في القلب من إحساس غامض لمجرّد أن تصطفّ الحروف في السمع بهذا النمط الفريد، ذلك العزف بلا آلات وبلا قوافٍ وبلا بحور وبلا أوزان.

حينما نصغي إلى ما يقوله زكريّا لربّه - فيما اقتصّ من القرآن -:

( رَبّ إِنّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنّي وَاشْتَعَلَ الرّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً ) (1) .

أَو نستمع إلى كلام المسيح في المهد صبيّاً:

( إِنّي عَبْدُ اللّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصّلاَةِ وَالزّكَاةِ مَادُمْتُ حَيّاً ) (2) .

أو تلك الجملة الموسيقية التي تتحدث عن خشوع الرسل:

( إِذَا تُتْلَى‏ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرّحْمنِ خَرّوا سُجّداً وَبُكِيّاً ) (3) .

أو تلك النغمة الرهيبة التي تصف اللقاء بالله يوم القيامة:

( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيّ الْقَيّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً ) (4) .

أو ذلك الإيقاع الرحماني الذي يُخاطب الله به نبيه محمّداً (صلّى الله عليه وآله) في موسيقى عذبة تملك شَغَاف القلب:

( طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى‏ * إِلاّ تَذْكِرَةً لِمَن يَخْشَى * تَنزِيلاً مِمّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسّماوَاتِ الْعُلا‏ * الرّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏ * لَهُ مَا فِي السّماوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَرَى‏ * وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنّهُ

____________________

(1) مريم: 4.

(2) مريم: 30 و31.

(3) مريم: 58.

(4) طه: 111.

٢٦٤

يَعْلَمُ السّرّ وَأَخْفَى * اللّهُ لاَ إِلهَ إِلاّ هُوَ لَهُ الأَسْماءُ الْحُسْنَى ) (1) .

أمّا إذا تحوّل القرآن إلى الحديث عن المجرمين وما أُنزل بهم من عذاب، تحوّلت الموسيقى إلى أصوات نحاسية تصكّ الأُذن وتحوّلت الكلمة إلى جلاميد صخر وكأنّها رجم:

( إِنّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمٍ نَحْسٍ مُسْتَمِرّ * تَنزِعُ النّاسَ كَأَنّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنقَعِرٍ ) (2) .

فإذا سبّحت الملائكة طالبة من الله المغفرة للمؤمنين سالت الكلمات كأنّها سبائك ذهب:

( رَبّنَا وَسِعْتَ كُلّ شَيْ‏ءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلّذِينَ تَابُوا وَاتّبَعُوا سَبِيلَكَ ) (3) .

فإذا جاء الإنذار بالساعة فإنّ الهول والشؤم يَطلّ من الكلمات المتوتّرة والعبارات المشدودة:

( وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ ) (4) .

ثمّ العتاب، وأيّ عتاب حينما لا ينفع العتاب:

( يَا أَيّهَا الإِنسَانُ مَا غَرّكَ بِرَبّكَ الْكَرِيمِ * الّذِي خَلَقَكَ فَسَوّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكّبَكَ ) (5) .

والبشرى، حينما تُبشّر الملائكة مريم بميلاد المسيح:

( يَا مَرْيَمُ إِنّ اللّهَ يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الْدّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرّبِينَ ) (6) .

ثمّ ذلك الصراخ في الأُذن بتلك الكلمة العجيبة التي تشبه السكّين:

____________________

(1) طه: 1 - 8.

(2) القمر: 19 و20.

(3) غافر: 7.

(4) غافر: 18.

(5) الانفطار: 6 - 8.

(6) آل عمران: 45.

٢٦٥

( فَإِذَا جَاءَتِ الصّاخّةُ * يَوْمَ يَفِرّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) (1) .

وبعد، فهذا التشكيل والسبك والتلوين في الحروف والعبارات في معمار القرآن هو نسيج وحده، بلا شبيه - من قبلُ أو من بعدُ - كل ذلك يتمّ في يسر شديد، لا يبدو فيه أثر اعتمال وافتعال واعتساف، وإنّما تسيل الكلمات في بساطة شديدة لتدخل القلب فتثير ذلك الإحساس الغامض بالخشوع، مِن قبل أن يَتيقّظ العقل فيُحلّل ويُفكّر ويتأمّل، مجرّد قرع الكلمة للأُذن وملامستها للقلب تُثير ذلك الشيء الذي لا نجد له تفسيراً.

هذه الصفة في العبارة القرآنية إلى جانب كل الصفات الأُخرى مجتمعة، هي التي تجعل من القرآن ظاهرة لا تفسير لها فيما نعرف من مصادر الكلام المألوف (2) .

التغنّي بالقرآن

( وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ) :

وإذ قد عرفت الموسيقى الباطنة للقرآن، وصياغته المنتظمة على أنغام صوتية وألحان شعرية ساحرة، فاعلم أنّه قد ورد في دستور تلاوته الترغيب في تحسين الصوت ومدّه وترقيقه، والترجيع بقراءته ومراعاة أنغامه وألحانه، وفيما يلي قائمة نموذجية من روايات وردت بهذا الشأن:

* * *

____________________

(1) عبس: 33 - 37.

(2) محاولة لفهم عصري للقرآن: ص245 - 247.

٢٦٦

قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (لكلّ شيء حُلية، وحُلية القرآن الصوتُ الحسن).

وقال: (إنّ من أجمل الجمال الشعرَ الحسن، ونغمةَ الصوت الحسن).

وقال: (اقرأوا القرآنَ بألحان العرب وأصواتها، وإيّاكم ولحون أهل الفسوق والكبائر) (1) .

وقال: (إنّ حسنَ الصوت زينة للقرآن).

وقال: (حسّنوا القرآن بأصواتكم، فإنّ الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً).

وقال: (زيّنوا القرآن بأصواتكم).

وقال الصادق (عليه السلام) في تفسير الآية: (هو أن تتمكّث فيه، وتُحسّن به صوتَك) (2) .

وقال أبو جعفر الباقر (عليه السلام): (ورجّع بالقرآن صوتك فإنّ الله عزّ وجلّ يُحبّ الصوت الحسن يُرجّعُ فيه ترجيعاً) (3) .

قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (إنّ القرآن نزل بالحزن فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا، وتغنّوا به، فمَن لم يتغنَّ بالقرآن فليس منّا).

وقال: (ليس منّا مَن لم يتغنَّ بالقرآن) (4) .

وقال الصادق (عليه السلام): (إنّ القرآن نزل بالحزن فاقرأُوه بالحزن) (5) .

قال الصدوق (رحمه الله): معنى التغنّي بالقرآن هو الاستغناء به لِما رُوي أنّ قراءة القرآن غنىً لا فقر بعده (6) .

لكن الاعتبار بالقرائن الحافّة بالكلام دون غيرها، وهذا كلامٌ صادر عقيب

____________________

(1) الكافي الشريف: ج2 ص614 - 616 رقم 9 و8 و3.

(2) بحار الأنوار: ج89 كتاب القرآن رقم 21 ص 190 - 195.

(3) الكافي الشريف: ج2 ص616 رقم 13.

(4) بحار الأنوار: ج89 ص191.

(5) الكافي الشريف: ج2 ص614 رقم 2.

(6) معاني القرآن: ص 264، طبع النجف الأشرف.

٢٦٧

القول بأنّ القرآن نزل بالحزن، فكانت نتيجة مترتّبة عليه.. فالتناسب بين الصدر والذيل هو الملحوظ في الكلام الواحد المتّصل بعضه ببعض.

ويُؤكّد هذا المعنى - الذي ذكرنا - ما ذكره الثقات بشأن صدور هذا الدستور من النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله).

قال ابن الأعرابي (1) : كانت العرب تتغنّى بالرُكبانيّ (2) إذا رَكبت وإذا جلست في الأفنية وعلى أكثر أحوالها، فلمّا نزل القرآن أحبّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أن تكون هِجِّيراهم (3) بالقرآن مكان التغنّي بالرُكباني (4) .

قال الزمخشري: كانت هِجّيري العرب التغنّي بالرُكباني - وهو نشيد بالمدّ والتمطيط - إذا ركبوا الإبل وإذا انبطحوا على الأرض، وإذا قعدوا في أفنيتهم، وفي عامّة أحوالهم، فأحبّ الرسول أن تكون قراءة القرآن هِجّيراهم، فقال ذلك... يعني: (ليس منّا مَن لم يضع القرآن موضع الركباني في اللّهج به والطرب عليه...) (5) .

قال الفيروز آبادي: غنّاه الشعرُ وغنّى به تغنيةً: تغنّى به.

قال الشاعر:

تغنَّ بالشِعرِ إمّا كنتَ قائلَه

إنّ الغناءَ بهذا الشِّعر مضمارُ (6)

قال الزبيدي: وعليه حُمل قوله (صلّى الله عليه وآله): ما أذن الله لشيء كإذنه لنبيّ يتغنّى بالقرآن يجهر به.

____________________

(1) هو أبو عبد الله محمد بن زياد الكوفي، مولى بني هاشم، أحد العالمينَ باللغة والمشهورين بمعرفتها، كان يحضر مجلسه خَلقٌ كثير، وكان رأساً في الكلام الغريب، وربّما كان متقدماً على أبي عبيدة والأصمعي في ذلك، وُلد في رجب سنة 150 وتُوفي في شعبان سنة 231 هـ. (الكنى والألقاب للقمي: ج1، ص215).

(2) هو نشيد بالمدّ والتمطيط.

(3) الهجّيراء: زمزمة الغناء ورنّته.

(4) نهاية ابن الأثير: ج3 ص 319.

(5) الفائق: ج2 ص36 في (رثث).

(6) قال ابن منظور: أراد أنّ التغنّي... فوضع الاسم موضع المصدر.

٢٦٨

قال الأزهري: أخبرني عبد الملك البغوي عن الربيع عن الشافعي: أنّ معناه (تحزين القراءة وترقيقها) (1) ، ويشهد له الحديث الآخر: (زيّنوا القرآن بأصواتكم).

قال: وبه قال أبو عبيد (2) .

* * *

وهكذا دأب الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) على ترتيل القرآن ورفع الصوت به وتجويده حيث أحسن الأصوات.

روى محمّد بن علي بن محبوب الأشعري في كتابه بالإسناد إلى معاوية بن عمّار، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل لا يرى أنّه صنع شيئاً في الدعاء وفي القراءة حتى يرفع صوته؟ فقال: (لا بأس، إنّ علي بن الحسين (عليه السلام) كان أحسن الناس صوتاً بالقرآن، فكان يرفع صوته حتى يسمعه أهلُ الدار، وإنّ أبا جعفر (عليه السلام) كان أحسن الناس صوتاً بالقرآن، وكان إذا قام من الليل وقرأ رفع به صوته، فيمرّ به مارّ الطريق من السقّائين وغيرهم، فيقومون فيتسمعون إلى قراءته) (3) .

ورُوي أنّ موسى بن جعفر (عليه السلام) كان حَسِن الصوت حَسِن القراءة، وقال يوماً من الأيّام: (إنّ علي بن الحسين (عليه السلام) كان يقرأ القرآن، فربّما مرّ به المارّ فصُعق من حسن صوته، وإنّ الإمام لو أظهر في ذلك شيئاً لَما احتمله الناس. قيل له: أَلم يكن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يصلّي بالناس ويرفع صوته بالقرآن؟ فقال: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كان يُحمّل مَن خلفه ما يطيقون) (4) .

كما ورد عن الإمام علي بن موسى الرضا عن آبائه عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: (حسّنوا القرآن بأصواتكم، فإنّ الصوت الحسن يَزيد القرآن حسناً)، وقرأ: (يزيد

____________________

(1) في اللسان: ج15 ص136: (تحسين القراءة وترقيقها).

(2) تاج العروس في شرح القاموس: ج10 ص272.

(3) مستطرفات السرائر: ص484.

(4) كتاب الاحتجاج: ج2 ص170.

٢٦٩

في الخلق ما يشاء) (1) .

* * *

(ملحوظة) وممّا يجدر التنبّه له أنّ لترجيع الصوت مدخلاً في وصف الصوت بالحسن، وأنّ الصوت لا يكون حسناً إلاّ إذا ترجّع فيه، فيتّحد حينذاك بين الأمر بالتغنّي بالقرآن، وبين الأمر بقراءته بالصوت الحسن، أو قولهم (عليهم السلام): (حسّنوا القرآنَ بأصواتكم فإنّ الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً)... وأمثاله من تعابير.

* * *

____________________

(1) عيون أخبار الرضا: ج2 ص68 رقم 222، والآية 1 من سورة فاطر.

٢٧٠

5 - تجسيد معانيه في أجراس حروفه

تناسب أجراس حروفه مع صدى معانيه:

من عجيب نظمه وبديع أُسلوبه، ذاك تناسب أجراس حروف كلماته المختارة، مع وقع معانيه في النفوس، وكأنّما اللفظ والمعنى يتواكبان ويتسابقان في السطو على الأسماع ومشاعر القلوب معاً، ذاك على السمع وهذا على الفؤاد في التئام ووئام. فإن كان تكريماً فلفظٌ أنيق، أو تشريفاً فتعبيرٌ رحيق، وإن تهديداً فكلمةٌ غليظة، أو تهويلاً فلفظةٌ شديدة... وهكذا تتجسّد معاني القرآن في قوالب ألفاظه وتتبلور في أجراس حروفه.

ألفاظٌ وتعابير أم قوامع من حديد؟

هو عندما يُهدّد أو يُندّد أو يُخبر عن وقع عذاب أليم - فيما سلف بأقوام ظالمين - تراه يصكّ الآذان بألفاظ ذوات أصوات نحاسية مزعجة، قد تحوّلت الكلم إلى جلاميد صخر أو قوامع من حديد، وكأنّها رُجُم وصواعق ورعود.

* عندما تقرأ ( وَالّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنّمَ لاَ يُقْضَى‏ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلاَ يُخَفّفُ عَنْهُم مِنْ عَذَابِهَا كَذلِكَ نَجْزِي كُلّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبّنَا

٢٧١

أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الّذِي كُنّا نَعْمَلُ ) (1) يُخيّل إليك جرس اللفظة غلظ الصراخ المختلط المتجاوب من كلّ جانب، المنبعث من حناجر مكتظّة بالأصوات الخشنة، كما يُلقى إليك ظلّ الإهمال لهذا الاصطراخ الذي لا يجد مَن يهتمّ بشأنه أو يلبّيه. وتَلمح من وراء ذلك كلّه صورة ذلك العذاب الغليظ الذي هم فيه يصطرخون.

وحين يستقلّ لفظ واحد بهذه الصور كلّها، ويدلّك اللفظ عليه قبل دلالة المعنى، يكون ذلك فنّاً من التناسق البديع (2) .

* وعندما تستمع إلى قوله تعالى: ( مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَيَاةِ الدّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرّ (3) أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ ) (4) ، وكأنّك تحس بسمعك صوت هذه الريح العاتية، ولها صرير وصراخ وقعقعة وهياج، تَنسف وتُدمّر كلّ شيء، فتُصوّر وقع عذاب شديد ألمّ بقوم ظالمين.

* وهكذا عندما تتلى عليك ( إِنّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمٍ نَحْسٍ مُسْتَمِرّ * تَنزِعُ النّاسَ كَأَنّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنقَعِرٍ ) (5) أو ( وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ) (6) تجد وقع العذاب وشدّته من مضض هذه اللفظة عند اصطكاكها مع صِماخ أُذنك، واللفظة مضاعفة بجرسها دلالة على مضاعفة العذاب.

* وعندما تقرأ ( فَإِذَا جَاءَتِ الصّاخّةُ * يَوْمَ يَفِرّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ - إلى قوله - وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ) (7) تجد وقع هذا الصراخ المدهش الذي يُذيب القلوب وتذهل النفوس.

____________________

(1) فاطر: 36 و37.

(2) التصوير الفني: ص72.

(3) صاد حرف مستعل ومصمت ذو صفير، وراء حرف مجهور منذلق ذو تكرير.

(4) آل عمران: 117.

(5) القمر: 19 و20.

(6) الحاقة: 6.

(7) عبس: 33 - 42.

٢٧٢

قال ابن عباس: (الصاخّة) صيحة القيامة، سمّيت بذلك؛ لأنّ صرختها تصخّ الآذان، أي تدكّها دكّاً عنيفاً تصمّها، وهكذا اللفظة دلّت عليه برنَتِها المُرعِدة ذات وقع صوتيّ عنيف، وكأنّك تشهد الموقف، وقد فاجأتك صرخته.

* ونظيرتها ( فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى ) (1) ، والطامّة: اسم للداهية الكبرى لا يُستطاع دفعها، وهكذا كانت وقعة القيامة تُفاجِئ بأهوالها ومكابدها، ممّا تُذهب وتُذيب القلوب، واللفظة دلّت عليه برنتها.

قال سيد قطب: ومن الأوصاف التي اشتقّها القرآن ليوم القيامة (الصاخّة) و(الطامّة) والصاخّة لفظة تكاد تخرق صِماخ الأُذن في ثقلها وعنف جرسها، وشقّه للهواء شقاً، حتى يصل إلى الأُذن صاخّاً مُلحّاً، والطامّة لفظة ذات دويّ وطنين، تُخيّل إليك أنّها تطمّ وتعمّ، كالطوفان يغمر كلّ شيء ويطويه (2) .

* ( كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكّاً دَكّاً ) ويتلو الآية: ( وَجَاءَ رَبّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً * وَجِي‏ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكّرُ الإِنسَانُ وَأَنّى‏ لَهُ الذّكْرَى‏ ) (3) ... وكأنّه عرض عسكري - الذي تشترك فيه جهنّم - بموسيقاه العسكرية المنتظمة الدقّات، المنبعثة من البناء اللفظي الشديد الأسر (4) وكأنّها قرعات وقمعات.

* ( وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ) (5) ، ما أهول هذه الكلمة في هذا الموضع، وما أوقع جرسها المدوّي المخوف، المتناسب مع أهوال يوم القيامة، المتطاير شرّها كالبركان الثائر المتقاذف شرارته، لا يَسلم منها قريب ولا بعيد.

* وزاده رعباً وهولاً تكراره بوجه آخر كان أخوف: ( إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً ) (6) ، كأنّه الضيغم الضاري عبس في وجه فريسته عبوساً شديداً،

____________________

(1) النازعات: 34.

(2) التصوير الفني: ص73.

(3) الفجر: 22 و23.

(4) الأسر: القبض على شيء (التصوير: ص76).

(5) الإنسان: 7.

(6) الإنسان: 10.

٢٧٣

ولعلّه من طول جوعه وضمور بطنه، فكان أشدّ رعباً - وهو سبع جائع يقصدك لا عن هوادة - من بركان، لا قصد له ولا عزم، والتخلص منه ممكن؛ لأنّه لا يتبعك.

* * *

* وتقرأ: ( وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ ) (1) فترتسم صورة التبطئة في جرس العبارة كلّها، وفي جرس ( ليبطِّئنَّ ) خاصّة. وإنّ اللسان ليكاد يتعثّر، وهو يتخبّط فيها حتى يصل ببطء إلى نهايتها.

* وتتلو حكاية قول هود: ( أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى‏ بَيّنَةٍ مِن رَبّي وآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِندِهِ فَعُمّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ) (2) ، فتحسّ أنّ كلمة ( أَنُلْزِمُكُمُوهَا ) تُصوّر جوّ الإكراه، بإدماج كلّ هذه الضمائر في النطق، وشدّ بعضها إلى بعض، كما يُدمج الكارهون مع ما يكرهون، ويشدّون إليه وهم منه نافرون.

قال سيد قطب: وهكذا يبدو لونٌ من التناسق - تناسق جرس اللفظ مع نوعية المعنى - أعلى من البلاغة الظاهرية، وأرفع من الفصاحة اللفظية، اللتين يحسبهما بعض الباحثين في القرآن أعظم مزايا القرآن (3) .

* انظر إلى هذا التشبيه البديع: ( وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَكَأَنّمَا خَرّ مِنَ السّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرّيحُ فِي مَكَانٍ سَحيقٍ ) (4) اللفظ يُصوّر السقوط المرير ( خَرّ مِنَ السّماءِ ) صوت تقطع الأنفاس وحسبها في البلعوم من هول هذا السقوط المفاجئ، ثمّ ماذا بعد؟ ( تَخْطَفُهُ الطّيْرُ ) لفوره فيقع فريستها ( أَوْ تَهْوِي بِهِ الرّيحُ فِي مَكَانٍ سَحيقٍ ) متقطّع الأشلاء، فلا يهتدي إليه أحد، هكذا وبهذه السرعة الخاطفة يطوى مسرح حياة المشرك بالله، وبهذه الخاتمة الأليمة (5) .

* ( عُتُلٍّ بعدَ ذلك زَنيم ) (6) هذه الكلمة (عتلّ) في مادّتها وهيأتها (ع:

____________________

(1) النساء: 72.

(2) هود: 28.

(3) التصوير الفني: ص72.

(4) الحج: 31.

(5) التصوير الفني: ص103.

(6) القلم: 13.

٢٧٤

مجهورة مستعلية، تاء: مهموسة شديدة، ل: مجهورة منذلقة) بضمّتين متعاقبتينِ وتشديد اللام الأخيرة، تُمثّل الغلظة الجافية والانهماك في الشهوات وملاذ الحياة السفلى، قبل أن تدلّ عليه الكلمة من المعنى الوضعيّ اللغوي: الأكول، الجافي، الغليظ.

تلك لفظة دلّت أجراسها على معناها قبل أن تدلّ أوضاعها؛ ومِن ثَمّ فقد تعقبها ما يناسبها (زنيم): اللئيم، الدعيّ، الذي لا يبالي بما قال ولا بما قيل فيه.

* ( وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنْ الْعَذَابِ ) (1) دلّت لفظة الزحزحة على تلك الحركة التدرّجية قبل المعنى.

* ( فَكُبْكِبُوا فِيهَا ) (2) كأنّ جرس اللفظة أدلّ على تعاقب الكبو في النار، هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون.

قال سيّد قطب: وحقيقةً أنّ وضع هاتين اللفظتينِ اللغوي هو الذي يمنحهما هذه الصور وليس هو استعمال القرآن الخاصّ لهما، كما هو الشأن في الكلمات الماضية، التي اشتقّها خاصّة أو استعملها أَوّل مرّة، ولكن اختيارهما في مكانيهما يُحسب بلا شكّ في بلاغة التعبير.

* ( إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً ) (3) انظر إلى هذا التعبير الذي ملؤه الامتهان والاحتقار بشأن الطاغين وتصغير جانبهم والإزراء بحالتهم الفظيعة، إنّ جهنم كانت ترصدهم فتتلقّاهم في شرّ مآب، ويلبثون فيه أحقاباً، لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً، نعم ( إِلاَّ حَمِيماً ) ماءً ساخناً يشوى الحلق ويزيد في التهاب البطن، ( وَغَسَّاقاً ) ما يغسق، أي ينصبّ من بدن الحريق، من قيح وصديد، تلك الانصبابة التي تكاد تتقطّع من أعضائه المشويّة تقطّعاً، تلك كؤوس الشراب تُقدّم إلى أُولئك الطواغيت، في مثل ذلك الحرّ القاطع.

____________________

(1) البقرة: 96.

(2) الشعراء: 94.

(3) النبأ: 25.

٢٧٥

شارب نتن قذر، مُدّت إليه أعناقهم ليشربوه، رغم استفظاعه واستقذاره، فيا له من فظاعة ومسكنة وتعاسة.

انظر إلى جرس اللفظة ( غسّاقاً ) إنّها تُصوّر حالة التهوّع التي تعتري الشاربين التُعساء يكاد يخنقهم أَلَم شوكه.

( لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاّ مِنْ ضَرِيعٍ ) (1) وما أدراك ما الضريع؟ إنّه طعام ( لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ ) لا يسدّ جوعة ولا يمنع نهماً، سوى مضغة مضنية يلوكها الآكل في تَلوٍّ وإرهاق، وتعب ونصب وضمور بطن، يَلحقها ضراعة وتعاسة ومسكنة مزرية، قال الراغب: هو نبات أحمر منتن الريح، يلفظه البحر، فإذا اقتاته الإبل أصنته تخمتُه وأثقلته وخامتُه.

قلت: واللفظة بجرسها المرهق الثقيل (2) دلّت على ضراعة حالة آكِله قبل دلالة المعنى الوضعي.

( وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ ) (3) وما أدراك ما الغِسلِين؟ هي غسالة أقذار الأبدان، ومِن ثَمّ فهي حثالة قيح وصديد تسيل من قروح أبدان أهل النار وجروحها، وفي تركيب اللفظة ما يُنبئ عن هذا الاستقذار، يمجّها السمع ويتنفّر منها الطبع.

* * *

____________________

(1) الغاشية: 6.

(2) ضاد حرف إجهار رخو مطبق، ومستعل مصمت، وراء حرف إجهار رخو منخفض، ومنذلق متكرر، ياء حرف لين منخفض، عين منفتح مستعل.

(3) الحاقة: 36.

٢٧٦

6 - تلاؤم فرائده وتآلف خرائده

الترابط والتناسق المعنوي:

لا شك أنّ حسن الكلام إنّما هو بالتناسب القائم بين أجزائه، من مفتتح لطيف وختام منيف ومقاصد شريفة احتضنها الكلام الواحد، وهكذا كان التناسب بين آيات الذكر الحكيم أنيقاً، والترابط بين جمله وتراكيبه وثيقاً.

وهذا التناسب والترابط بين أجزاء كلامه تعالى قد يُلحظ في ذات آية واحدة من صدر وذيل هي فاصلتها، أو في آيات جمعتها مناسبةٌ واحدة هي التي استدعت نزولهنّ دفعة واحدة في مجموعة آيات يختلف عددهنّ، خمساً أو عشراً أو أقل أو أكثر.

وقد يُلحظ في مجموعة آيات سورة كاملة؛ باعتبارها مجموعة واحدة ذات هدف واحد أو أهداف متضامّة بعضها إلى بعض، هي التي شكّلت الهيكل العظمي للسورة، ذات العدد الخاصّ من الآيات، فإذا ما اكتمل الهدف وتمّ المقصود اكتملت السورة وتمّت أعداد آيها، الأمر الذي يرتبط مع الهدف المقصود؛ ومِن ثَمّ يختلف عدد آيات السور من قصار وطوال.

وهناك مناسبة زعموها قائمة بين خاتمة كل سورة وفاتحة السورة التالية لها

٢٧٧

وقد تكلّفها البعض بغير طائل.

ولننظر في كل هذه المناسبات:

تناسب الآيات مع بعضها

كان القرآن نزل نجوماً، وفي فترات لمناسبات قد يختلف بعضها عن بعض، وكان كل مجموعة من الآيات تنزل لمناسبة تخصّها، تستدعي وجود رابط بينها بالذات، وهو الذي يُشكل سياق الآية في مصطلحهم.

والمناسبة القائمة بين كل مجموعة من الآيات ممّا لا يكاد يخفى، حتى ولو كانت هي مناسبة التضاد، كما أفاده الإمام الزركشي في عدّة من السور جاء فيها ذلك... قال:

وعادة القرآن إذا ذَكر أحكاماً ذكر بعدها وعداً ووعيداً؛ ليكون ذلك باعثاً على العمل، ثُمّ يَذكر آيات التوحيد والتنزيه؛ ليُعلم عِظَم الآمر والناهي، قال: وتأمّل سور البقرة والنساء والمائدة وأمثالها تجده كذلك (1) ، هذا ما ظهر وجه التناسب فيه.

لكن قد يخفى وجه التناسب، فتقع الحاجة إلى تأمّل وتدقيق للوقوف على الجهة الرابطة؛ لأنّه كلام الحكيم، وقد تحدّى به، فلابدّ أنّه عن حكمة بالغة.

* من ذلك قوله تعالى: ( يَسْألونَكَ عَنِ الأَهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنّاسِ وَالحَجّ وَلَيْسَ الْبِرّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا ) (2) ، فقد يقال: أيّ رابط بين أحكام الأهلّة وبين حكم إتيان البيوت من ظهورها؟

قيل: إنّه من باب الاستطراد - وهو الانتقال من مقصد إلى آخر لأدنى مناسبة يراه المتكلّم أَولى بالقصد - وكأنّه جعل مبدأ كلامه ذريعةً لهذا الانتقال، ولكن

____________________

(1) البرهان: ج1 ص40.

(2) البقرة: 189.

٢٧٨

بلطف وبراعة، وهو من بديع البيان (1) .

قال الزمخشري: لمّا ذَكر أنّها مواقيت للحج عمد إلى التعرّض لمسألة كانت أهمّ بالعلاج، وهي عادة جاهلية كانت بدعةً رذيلةً، كان أحدهما إذا أحرم لا يدخل حائطاً ولا داراً ولا فسطاطاً، فإن كان من أهل المَدر نقب في مؤخّرة بيته فيدخل ويخرج منه، وإن كان من أهل الوَبر جعل خلف خبائه مدخله ومخرجه، ولم يدخلوا من الباب... بدعة جاهلية مقيتة لا مبرّر لها... فلمّا وقع سؤالهم عن الأهلّة - وهي مواقيت للناس في شؤون حياتهم، وللحجّ بالذات، ولم يكن كبير فائدة في مثل هذا السؤال - استغلّه تعالى فرصة مناسبة للتعرّض إلى موضع أهم، كان الأجدر هو السؤال عنه، بغية تركه... على عكس ما كانوا يرونه برّاً، وهو عملٌ تافهٌ مستقبح (2) .

* * *

* وقوله تعالى: ( سُبْحَانَ الّذِي أَسْرَى‏ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى‏ الْمَسْجِدِ الأَقْصَى ) وعقبه بقوله: ( وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ) (3) ، فقد يقال: أيّ رابط بين حادث الإسراء وإتيان موسى الكتاب والتعرّض لحياة بني إسرائيل؟!

وهو أيضاً من الاستطراد البديع، كان المقصود الأقصى تذكير بني إسرائيل بسوء تصرّفاتهم في الحياة، وهم في أشرف بقاع الأرض، وفي متناولهم أفضل وسائل الهداية، فبدأ بالكلام عن الإسراء من مكة المكرّمة إلى القدس الشريف؛ وبذلك ناسب الكلام عن هتك هذا التحريم المقدّس على يد أبنائه والذين فُضلوا بالتشرّف فيه؛ تأنيباً وليتذكروا.

وهو من حُسن المدخل ولُطف المستهلّ من أروع البديع.

* * *

____________________

(1) قال الأمير العلوي: عليه أكثر القرآن. (الطراز: ج3 ص14).

(2) الكشّاف: ج1 ص234 نقلاً بالمعنى.

(3) الإسراء: 1 و2.

٢٧٩

* وقوله تعالى: ( لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ) (1) ، إذ لا تناسب لها ظاهراً مع سياق السورة الواردة في أحوال القيامة وأهوالها، قال جلال الدين السيوطي: وجه مناسبتها لأَوّل السورة وآخرها عسر جدّاً (2) .

وفي تفسير الرازي وجوه لبيان التناسب، وقد تعسّف فيها، وبهت قدماء الإمامية أنّهم قالوا بأنّ القرآن قد غيّر وبدّل وزيد فيه ونقص عنه، والآية من ذلك (3) .

لكن نزول القرآن مُنجّماً وفي فترات متلاحقة يدفع الإشكال برأسه، ولا موجب لارتكاب التأويل، ولا سيّما مع هذا التعسّف الباهت الذي ارتكبه شيخ المتشكّكين.

* * *

* وقوله تعالى: ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى‏ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِنَ النّسَاءِ ) (4) .

لكن لمّا كانت الآية السابقة عليها حديثاً عن إيتاء اليتامى أموالهم، والنهي عن تبدّل الخبيث بالطيّب، وأن لا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنّه كان حوباً كبيراً، فربّما كان المتكفّلون لأمر اليتامى يتحرّجون التصرّف في أموالهم خشية اختلاطه بأموال أنفسهم فيكون حيفاً لمال اليتيم أحياناً، فكانت قضية الاحتياط في الدين التجنّب عن مقاربة أموال اليتامى رأساً، الأمر الذي كان يوجب اختلالاً بشأن اليتامى فلا يتكفّلهم المؤمنون الصالحون.

هذا إلى جنب وفرة اليتيم في ظلّ الحروب التي شنّتها خصوم الإسلام طول التاريخ، فكان تكفّل أمر اليتيم ضرورة إيمانية. إذاً فما المَخرج من هذا المأزق؟! والآية فنزلت لتُري وجهاً من وجوه المخلص.

____________________

(1) القيامة: 17.

(2) الإتقان: ج3 ص328.

(3) التفسير الكبير: ج30 ص222.

(4) النساء: 3.

٢٨٠