تلخيص التمهيد الجزء ٢

تلخيص التمهيد10%

تلخيص التمهيد مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 579

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 103951 / تحميل: 10584
الحجم الحجم الحجم
تلخيص التمهيد

تلخيص التمهيد الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

ومن المعلوم أنّ وقوع الخطاء في هذه المرحلة أعني مرحلة الدين ورفع الاختلاف عن الاجتماع يعادل نفس الاختلاف الاجتماعيّ في سدّ طريق استكمال النوع الإنسانيّ، وإضلاله هذا النوع في سيره إلى سعادته، فيعود المحذور من رأس.

قلت: الأبحاث السابقة تكفي مؤنة حلّ هذه العقدة، فإنّ الّذي ساق هذا النوع نحو هذه الفعليّة أعني الأمر الروحي الّذي يرفع الاختلاف إنّما هو الناموس التكوينيّ الّذي هو الإيصال التكوينيّ لكلّ نوع من الأنواع الوجوديّة إلى كماله الوجوديّ وسعادته الحقيقيّة، فإنّ السبب الّذي أوجب وجود الإنسان في الخارج وجوداً حقيقيّاً كسائر الأنواع الخارجيّة هو الّذي يهديه هداية تكوينيّة خارجيّة إلى سعادته، ومن المعلوم أنّ الاُمور الخارجيّة من حيث أنّها خارجيّة لا تعرضها الخطاء والغلط، أعني: أنّ الوجود الخارجيّ لا يوجد فيه الخطاء والغلط لوضوح أنّ ما في الخارج هو ما في الخارج! وإنّما يعرض الخطاء والغلط في العلوم التصديقيّة والاُمور الفكريّة من جهة تطبيقها على الخارج فإنّ الصدق والكذب من خواصّ القضايا، تعرضها من حيث مطابقتها للخارج وعدمها، وإذا فرض أنّ الّذي يهدي هذا النوع إلى سعادته ورفع اختلافه العارض على اجتماعه هو الإيجاد والتكوين لزم أن لا يعرضه غلط ولا خطاء في هدايته، ولا في وسيلة هدايته الّتي هي روح النبوّة وشعور الوحى، فلا التكوين يغلط في وضعه هذا الروح والشعور في وجود النبيّ، ولا هذا الشعور الّذي وضعه يغلط في تشخيصه مصالح النوع عن مفاسده وسعادته عن شقائه، ولو فرضنا له غلطاً وخطائاً في أمره وجب أن يتداركه بأمر آخر مصون عن الغلط والخطاء، فمن الواجب أن يقف أمر التكوين على صواب لا خطاء فيه ولا غلط.

فظهر: أنّ هذا الروح النبويّ لا يحلّ محلّاً إلّا بمصاحبة العصمة، وهي المصونيّة عن الخطاء في أمر الدين والشريعة المشرّعة، وهذه العصمة غير العصمة عن المعصية كما أشرنا إليه سابقاً، فإنّ هذه عصمة في تلقّي الوحى من الله سبحانه، وتلك عصمة في مقام العمل والعبوديّة، وهناك مرحلة ثالثة من العصمة وهي العصمة في تبليغ الوحى، فإنّ كلتيهما واقعتان في طريق سعادة الإنسان التكوينيّة وقوعاً تكوينيّاً،

١٦١

ولا خطاء ولا غلط في التكوين.

وقد ظهر بما ذكرنا الجواب عن إشكال آخر في المقام وهو: أنّه لم لا يجوز أن يكون هذا الشعور الباطنيّ مثل الشعور الفطريّ المشترك أعني الشعور الفكريّ في نحو الوجود بأن يكون محكوماً بحكم التغيّر والتأثّر؟ فإنّ الشعور الفطريّ وإن كان أمراً غير مادّيّ، ومن الاُمور القائمة بالنفس المجرّدة عن المادّة إلّا أنّه من جهة ارتباطه بالمادّة يقبل الشدّة والضعف والبقاء والبطلان كما في مورد الجنون والسفاهة والبلاهة والغباوة وضعف الشيب وسائر الآفات الواردة على القوى المدركة، فكذلك هذا الشعور الباطنيّ أمر متعلّق بالبدن المادّيّ نحواً من التعلّق، وإن سلّم أنّه غير مادّيّ في ذاته فيجب أن يكون حاله حال الشعور الفكريّ في قبول التغيّر والفساد، ومع إمكان عروض التغيّر والفساد فيه يعود الإشكالات السابقة البتّة.

والجواب: أنّا بيّنّا أن هذا السوق أعني سوق النوع الإنسانيّ نحو سعادته الحقيقيّة إنّما يتحقّق بيد الصنع والإيجاد الخارجيّ دون العقل الفكريّ، ولا معنى لتحقّق الخطاء في الوجود الخارجيّ.

وأمّا كون هذا الشعور الباطنيّ في معرض التغيّر والفساد لكونه متعلّقاً نحو تعلّق بالبدن فلا نسلّم كون كلّ شعور متعلّق بالبدن معرضاً للتغيّر والفساد، وإنّما القدر المسلّم من ذلك هذا الشعور الفكريّ (وقد مرّ أنّ الشعور النبويّ ليس من قبيل الشعور الفكريّ) وذلك أنّ من الشعور شعور الإنسان بنفسه، وهو لا يقبل البطلان والفساد والتغيّر والخطاء فإنّه علم حضوريّ معلومه عين المعلوم الخارجيّ، وتتمّة هذا الكلام موكول إلى محلّه.

فقد تبيّن ممّا مرّ اُمور:أحدها: انسياق الاجتماع الإنساني إلى التمدّن والاختلاف.

ثانيها: أنّ هذا الاختلاف القاطع لطريق سعادة النوع لا يرتفع ولن يرتفع بما يضعه العقل الفكريّ من القوانين المقرّرة.

ثالثها: أنّ رافع هذا الاختلاف إنّما هو الشعور النبويّ الّذي يوجده الله سبحانه

١٦٢

في بعض آحاد الإنسان لا غير.

رابعها: أنّ سنخ هذا الشعور الباطنيّ الموجود في الأنبياء غير سنخ الشعور الفكريّ المشترك بين العقلاء من أفراد الإنسان.

خامسها: أنّ هذا الشعور الباطنيّ لا يغلط في إدراكه الاعتقادات والقوانين المصلحة لحال النوع الإنسانيّ في سعادته الحقيقيّة.

سادسها: أنّ هذه النتائج (ويهمّنا من بينها الثلثة الأخيرة أعني: لزوم بعثة الأنبياء، وكون شعور الوحى غير الشعور الفكريّ سنخاً، وكون النبيّ معصوماً غير غالط في تلقّي الوحى) نتائج ينتجها الناموس العامّ المشاهد في هذه العالم الطبيعيّ، وهو سير كلّ واحد من الأنواع المشهودة فيه نحو سعادته بهداية العلل الوجوديّة الّتي جهّزتها بوسائل السير نحو سعادته والوصول إليها والتلبّس بها، والإنسان أحد هذه الأنواع، وهو مجهّز بما يمكنه به أن يعتقد الاعتقاد الحقّ ويتلبّس بالملكات الفاضلة، ويعمل عملاً صالحاً في مدينة صالحة فاضلة، فلا بدّ أن يكون الوجود يهيّئ له هذه السعادة يوماً في الخارج ويهديه إليه هداية تكوينيّة ليس فيها غلط ولا خطاء على ما مرّ بيانه.

١٦٣

( سورة البقرة آية ٢١٤)

أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ( ٢١٤ )

( بيان)

قد مرّ أنّ هذه الآيات آخذة من قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ) إلى آخر هذه الآية، ذات سياق واحد يربط بعضها ببعض.

قوله تعالى: ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ) ، تثبيت لما تدلّ عليه الآيات السابقة، وهو أنّ الدين نوع هداية من الله سبحانه للناس إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة، ونعمة حباهم الله بها، فمن الواجب أن يسلّموا له ولا يتّبعوا خطوات الشيطان، ولا يلقوا فيه الاختلاف، ولا يجعلوا الدواء دائاً، ولا يبدّلوا نعمة الله سبحانه كفراً ونقمة من اتّباع الهوى وابتغاء زخرف الدنيا وحطامها فيحلّ عليهم غضب من ربّهم كما حلّ ببني إسرائيل حيث بدّلوا نعمة الله من بعد ما جائتهم، فإنّ المحنة دائمة، والفتنة قائمة، ولن ينال أحد من الناس سعادة الدين وقرب ربّ العالمين إلّا بالثبات والتسليم.

وفي الآية التفات إلى خطاب المؤمنين بعد تنزيلهم في الآيات السابقة منزلة الغيبة، فإنّ أصل الخطاب كان معهم ووجه الكلام إليهم في قوله: يا أيّها الّذين آمنوا ادخلوا في السلم كافّة، وإنّما عدل عن ذلك إلى غيره لعناية كلاميّة أوجبت ذلك، وبعد انقضاء الوطر عاد إلى خطابهم ثانياً

وكلمة أم منقطعة تفيد الإضراب، والمعنى على ما قيل: بل أحسبتم أن تدخلوا الجنّة الخ، والخلاف في أم المنقطعة معروف، والحقّ أنّ أم لإفاده الترديد، وأنّ الدلالة على معنى الإضراب من حيث انطباق معنى الإضراب على المورد، لا أنّها دلالة وضعيّة، فالمعنى في المورد مثلاً: هل انقطعتم بما أمرناكم من التسليم بعد الإيمان والثبات على

١٦٤

نعمة الدين، والاتّفاق والاتّحاد فيه أم لا بل حسبتم أن تدخلوا الجنّة الخ.

قوله تعالى: ( وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ) ، المثل بكسر الميم فسكون الثاء، والمثل بفتح الميم والثاء كالشبه والشبه، والمراد به ما يمثّل الشئ ويحضره ويشخّصه عند السامع، ومنه المثل بفتحتين، وهو الجملة أو القصّة الّتي تفيد استحضار معنى مطلوب في ذهن السامع بنحو الاستعارة التمثيليّة كما قال تعالى:( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ) الجمعة - ٥، ومنه أيضاً المثل بمعنى الصفة كقوله تعالى:( انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ ) الفرقان - ٩، وإنّما قالوا لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مجنون وساحر وكذّاب ونحو ذلك، وحيث أنّه تعالى يبيّن المثل الّذي ذكره بقوله: مسّتهم البأساء والضرّاء إلخ فالمراد به المعنى الأوّل.

قوله تعالى: ( مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ ) إلى آخره لمّا اشتدّ شوق المخاطب ليفهم تفصيل الإجمال الّذي دلّ عليه بقوله: ولمّا يأتكم مثل الّذين، بيّن ذلك بقوله: مسّتهم البأساء والضرّاء والبأساء هو الشدّة المتوجّهة إلى الإنسان في خارج نفسه كالمال والجاه والأهل والأمن الّذي يحتاج إليه في حياته، والضرّاء هي الشدّة الّتي تصيب الإنسان في نفسه كالجرح والقتل والمرض، والزلزلة والزلزال معروف وأصله من زلّ بمعنى عثر، كرّرت اللفظة للدلالة على التكرار كأنّ الأرض مثلاً تحدث لها بالزلزلة عثرة بعد عثرة، وهو كصّر وصرصر، وصّل وصلصل، وكبّ وكبكب، والزلزال في الآية كناية عن الاضطراب والادّهاش.

قوله تعالى: ( حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ) ، قرء بنصب يقول، والجملة على هذا في محلّ الغاية لما سبقها، وقرء برفع يقول والجملة على هذا لحكاية الحال الماضية، والمعنيان وإن كانا جميعاً صحيحين لكنّ الثاني أنسب للسياق، فإنّ كون الجملة غاية يعلّل بها قوله: وزلزلوا لا يناسب السياق كلّ المناسبة.

قوله تعالى: ( مَتَىٰ نَصْرُ اللَّه ) ، الظاهر أنّه مقول قول الرسول والّذين آمنوا معه جميعاً، ولا ضير في أن يتفّوّه الرسول بمثل هذا الكلام استدعائاً وطلباً للنصر الّذي وعد به الله سبحانه رسله والمؤمنين بهم كما قال تعالى:( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا

١٦٥

الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ ) الصافّات - ١٧٢، وقال تعالى:( كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ) المجادلة - ٢١، وقد قال تعالى أيضاً:( حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا ) يوسف - ١١٠، وهو أشدّ لحناً من هذه الآية.

والظاهر أيضاً أنّ قوله تعالى: ألا إنّ نصر الله قريب مقول له تعالى لا تتمّة لقول الرسول والّذين آمنوا معه

والآية (كما مرّت إليه الإشارة سابقاً) تدلّ على دوام أمر الابتلاء والامتحان وجريانه في هذه الاُمّة كما جرى في الاُمم السابقة.

وتدل أيضاً على اتّحاد الوصف والمثل بتكرّر الحوادث الماضية غابراً، وهو الّذي يسمّى بتكرّر التاريخ وعوده.

١٦٦

( سورة البقرة آية ٢١٥)

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ( ٢١٥ )

( بيان)

قوله تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ ) ، قالوا: إنّ الآية واقعة على اُسلوب الحكمة، فإنّهم إنّما سألوا عن جنس ما ينفقون ونوعه، وكان هذا السؤال كاللّغو لمكان ظهور ما يقع به الإنفاق وهو المال على أقسامه، وكان الأحقّ بالسؤال إنّما هو من ينفق له: صرف الجواب إلى التعرّض بحاله وبيان أنواعه ليكون تنبيهاً لهم بحقّ السؤال.

والّذي ذكروه وجه بليغ غير أنّهم تركوا شيئاً، وهو أنّ الآية مع ذلك متعرّضه لبيان جنس ما ينفقونه، فإنّها تعرّضت لذلك: أوّلاً بقولها: من خير، إجمالاً، وثانياً بقولها: وما تفعّلوا من خير فإنّ الله به عليم، ففي الآية دلالة على أنّ الّذي ينفق به هو المال كائناً ما كان، من قليل أو كثير، وأنّ ذلك فعل خير والله به عليم، لكنّهم كان عليهم أن يسألوا عمّن ينفقون لهم ويعرفوه، وهم: الوالدان والأقربون واليتامى والمساكين وابن السبيل.

ومن غريب القول ما ذكره بعض المفسّرين: أنّ المراد بما في قوله تعالى: ماذا له ينفقون ليس هو السؤال عن المهيّة فإنّه اصطلاح منطقيّ لا ينبغي أن ينزّل عليه الكلام العربيّ ولا سيّما أفصح الكلام وأبلغه، بل هو السؤال عن الكيفيّة، وأنّهم كيف ينفقونه، وفي أيّ موضع يضعونه، فاُجيب بالصرف في المذكورين في الآية، فالجواب مطابق للسؤال لا كما ذكره علماء البلاغة!.

ومثله وهو أغرب منه ما ذكره بعض آخر: أنّ السؤال وإن كان بلفظ ما إلّا أنّ

١٦٧

المقصود هو السؤال عن الكيفيّة فإنّ من المعلوم أنّ الّذي ينفق به هو المال، وإذا كان هذا معلوماً لم يذهب إليه الوهم، وتعيّن أنّ السؤال عن الكيفيّة، نظير قوله تعالى:( قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ) البقرة - ٧٠، فكان من المعلوم أنّ البقرة بهيمة نشأتها وصفتها كذا وكذا، فلا وجه لحمل قوله: ما هي على طلب المهيّة، فكان من المتعيّن أن يكون سؤالاً عن الصفة الّتي بها تمتاز البقرة من غيرها، ولذلك اُجيب بالمطابقة بقوله تعالى:( إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ ) الآية البقرة - ٧١.

وقد اشتبه الأمر على هؤلاء، فإنّ ما وإن لم تكن موضوعة في اللغة لطلب المهيّة الّتي اصطلح عليها المنطق، وهي الحدّ المؤلّف من الجنس والفصل القريبين، لكنّه لا يستلزم أن تكون حينئذ موضوعة للسؤال عن الكيفيّة، حتّى يصحّ لقائل أن يقول عند السؤال عن المستحقّين للانفاق: ماذا اُنفق: أي على من اُنفق؟ فيجاب عنه بقوله: للوالدين والأقربين، فإنّ ذلك من أوضح اللحن.

بل ما موضوعة للسؤال عما يعرّف الشئ سواء كان معرّفاً بالحدّ والمهيّة، أو معرّفاً بالخواصّ والأوصاف، فهي أعمّ ممّا اصطلح عليه في المنطق لا أنّها مغايرة له وموضوعة للسؤال عن كيفيّة الشيئ، ومنه يعلم أنّ قوله تعالى:( يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ ) وقوله تعالى:( إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ ) سؤال وجواب جاريان على أصل اللغة، وهو السؤال عمّا يعرّف الشئ ويخصّه والجواب بذلك.

وأمّا قول القائل: إنّ المهيّة لمّا كانت معلومة تعيّن حمل ما على السؤال عن الكيفيّة دون المهيّة فهو من أوضح الخطاء، فإنّ ذلك لا يوجب تغيّر معنى الكلمة ممّا وضع له إلى غيره. ويتلوهما في الغرابة قول من يقول: إنّ السؤال كان عن الأمرين جميعاً: ما ينفقون؟ وأين ينفقون فذكر أحد السؤالين وحذف الآخر، وهو السؤال الثاني لدلالة الجواب عليه! وهو كما ترى.

وكيف كان لا ينبغي الشكّ في أنّ في الآية تحويلاً ما للجواب إلى جواب آخر تنبيهاً على أنّ الأحقّ هو السؤال عن من ينفق عليهم، وإلّا فكون الإنفاق من الخير

١٦٨

والمال ظاهر، والتحوّل من معنى إلى آخر للتنبيه على ما ينبغي التحوّل إليه والاشتغال به كثير الورود في القرآن، وهو من ألطف الصنائع المختصّة به كقوله تعالى:( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ) البقرة - ١٧١ وقوله تعالى:( مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ ) آل عمران - ١١٧ وقوله تعالى:( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ ) البقرة - ٢٦١، وقوله تعالى:( يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) الشعراء - ٨٩، وقوله تعالى:( قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا ) الفرقان - ٥٧، وقوله تعالى:( سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ) الصافّات - ١٦٠، إلى غير ذلك من كرائم الآيات.

قوله تعالى: ( وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ) ، في تبديل الإنفاق من فعل الخير هيهنا كتبديل المال من الخير في أوّل الآية إيماء إلى أنّ الإنفاق وإن كان مندوباً إليه من قليل المال وكثيره، غير أنّه ينبغي أن يكون خيراً يتعلّق به الرغبة وتقع عليه المحبّة كما قال تعالى:( لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) آل عمران - ٩٢، وكما قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ ) البقرة - ٢٦٧.

وايماء إلى أن الإنفاق ينبغى أن لا يكون على نحو الشرّ كالإنفاق بالمنّ والأذى كما قال تعالى:( ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى ) البقرة - ٢٦٢، وقوله تعالى:( وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ) البقرة - ٢١٩.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور عن ابن عبّاس قال ما رأيت قوماً كانوا خيراً من أصحاب محمّد ما سألوه إلّا عن ثلاث عشرة مسألة حتّى قبض، كلّهنّ في القرآن، منهنّ: يسئلونك عن الخمر والميسر، ويسألونك عن الشهر الحرام، ويسألونك عن اليتامى، ويسألونك عن المحيض، ويسألونك عن الأنفال، ويسألونك ماذا ينفقون، ما كانوا يسألون إلّا عمّا كان ينفعهم.

١٦٩

في المجمع في الآية: نزلت في عمرو بن الجموح - وكان شيخاً كبيراً ذا مال كثير - فقال: يا رسول الله! بماذا أتصدّق؟ وعلى من أتصدّق؟ فأنزل الله هذه الآية.

اقول: ورواه في الدرّ المنثور عن ابن المنذر عن ابن حيّان، وقد استضعفوا الرواية، وهي مع ذلك غير منطبق على الآية حيث لم يوضع في الآية إلّا السؤال عمّا يتصدّق به دون من يتصدّق عليه.

ونظيرها في عدم الانطباق ما رواه أيضاً عن ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريح قال: سأل المؤمنون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أين يضعون أموالهم؟ فنزلت يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير، فذلك النفقة في التطوّع، والزكوة سوى ذلك كلّه.

ونظيرها في ذلك أيضاً ما رواه عن السدّي، قال: يوم نزلت هذه الآية لم يكن زكاة، وهي النفقة ينفقها الرجل على أهله، والصدقة يتصدّق بها فنسختها الزكاة.

اقول: وليست النسبة بين آية الزكاة:( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ) التوبة - ١٠٣، وبين هذه الآية نسبه النسخ وهو ظاهر إلّا أن يعني بالنسخ معنى آخر.

١٧٠

( سورة البقرة آية ٢١٦ - ٢١٨)

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ( ٢١٦ ) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( ٢١٧ ) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٢١٨ )

( بيان)

قوله تعالى: ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ) ، الكتابة كما مرّ مراراً ظاهرة في الفرض إذا كان الكلام مسوقاً لبيان التشريع، وفي القضاء الحتم إذا كان في التكوين فالآية تدلّ على فرض القتال على كافّة المؤمنين لكون الخطاب متوجّهاً إليهم إلّا من أخرجه الدليل مثل قوله تعالى:( يْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ) النور - ٦١، وغير ذلك من الآيات والأدلّة.

ولم يظهر فاعل كتب لكون الجملة مذيّلة بقوله:( وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ) وهو لا يناسب إظهار الفاعل صوناً لمقامه عن الهتك، وحفظاً لاسمه عن الاستخفاف أن يقع الكتابة المنسوبة إليه صريحاً مورداً لكراهة المؤمنين.

والكره بضمّ الكاف المشقّة الّتي يدركها الإنسان من نفسه طبعاً أو غير ذلك، والكره بفتح الكاف: المشقّة الّتي تحمّل عليه من خارج كأن يجبره إنسان آخر على

١٧١

فعل ما يكرهه، قال تعالى:( لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًاً ) النساء - ١٩، وقال تعالى:( فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًاً ) فصّلت - ١١، وكون القتال المكتوب كرهاً للمؤمنين إمّا لأنّ القتال لكونه متضمّناً لفناء النفوس وتعب الأبدان والمضارّ الماليّة وارتفاع الأمن والرخص والرفاهية، وغير ذلك ممّا يستكرهه الإنسان في حياته الإجتماعيّة لا محالة كان كرهاً وشاقّاً للمؤمنين بالطبع، فإنّ الله سبحانه وإن مدح المؤمنين في كتابه بما مدح، وذكر أنّ فيهم رجالاً صادقين في إيمانهم مفلحين في سعيهم، لكنّه مع ذلك عاتب طائفة منهم بما في قلوبهم من الزيغ والزلل، وهو ظاهر بالرجوع إلى الآيات النازلة في غزوة بدر واُحد والخندق وغيرها، ومعلوم أنّ من الجائز أن ينسب الكراهة والتثاقل إلى قوم فيهم كاره وغير كاره وأكثرهم كارهون، فهذا وجه.

وإمّا لأنّ المؤمنين كانوا يرون أنّ القتال مع الكفّار مع ما لهم من العدّة والقوّة لا يتمّ على صلاح الإسلام والمسلمين، وأنّ الحزم في تأخيره حتّى يتمّ لهم الاستعداد بزيادة النفوس وكثرة الأموال ورسوخ الاستطاعة، ولذلك كانوا يكرهون الإقدام على القتال والاستعجال في النزال، فبيّن تعالى أنّهم مخطئون في هذا الرأي والنظر، فإنّ لله أمراً في هذا الأمر هو بالغه، وهو العالم بحقيقة الأمر وهم لا يعلمون إلّا ظاهره وهذا وجه آخر.

وإمّا لأنّ المؤمنين لكونهم متربّين بتربية القرآن تعرق فيهم خلق الشفقة على خلق الله، وملكة الرحمة والرأفة فكانوا يكرهون القتال مع الكفّار لكونه مؤدّياً إلى فناء نفوس منهم في المعارك على الكفر، ولم يكونوا راضين بذلك بل كانوا يحبّون أن يداروهم ويخالطوهم بالعشرة الجميلة، والدعوة الحسنة لعلّهم يسترشدوا بذلك، ويدخلوا تحت لواء الإيمان فيحفظ نفوس المؤمنين من الفناء، ونفوس الكفّار من الهلاك الأبديّ والبوار الدائم، فبيّن ذلك أنّهم مخطئون في ذلك، فإنّ الله - وهو المشّرع لحكم القتال - يعلم أنّ الدعوة غير مؤثّرة في تلك النفوس الشقيّة الخاسرة، وأنّه لا يعود من كثير منهم عائد إلى الدين ينتفع به في دنياً أو آخرة، فهم في الجامعة الإنسانيّة كالعضو الفاسد الساري فساده إلى سائر الأعضاء، الّذي لا ينجع فيه علاجٌ دون

١٧٢

أن يقطع ويرمي به، وهذا أيضاً وجه.

فهذه وجوه يوجه بها قوله تعالى:( وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ) إلّا أنّ الأوّل أنسب نظراً إلى ما اُشير إليه من آيات العتاب، على أنّ التعبير في قوله: كتب عليكم القتال، بصيغة المجهول على ما مرّ من الوجه يؤيّد ذلك.

قوله تعالى: ( وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ) ، قد مرّ فيما مرّ أنّ أمثال عسى ولعلّ في كلامه تعالى مستعمل في معنى الترجيّ، وليس من الواجب قيام صفة الرجاء بنفس المتكلّم بل يكفي قيامها بالمخاطب أو بمقام التخاطب، فالله سبحانه إنّما يقول: عسى أن يكون كذا لا لأنّه يرجوه، تعالى عن ذلك، بل ليرجوه المخاطب أو السامع.

وتكرار عسى في الآية لكون المؤمنين كارهين للحرب، محبّين للسلم، فأرشدهم الله سبحانه على خطائهم في الأمرين جميعاً، بيان ذلك: أنّه لو قيل: عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم أو تحبّوا شيئاً وهو شرٌّ لكم، كان معناه أنّه لا عبرة بكرهكم وحبّكم فإنّهما ربّما يخطئان الواقع، ومثل هذا الكلام إنّما يلقى إلى من أخطأ خطأ واحداً كمن يكره لقاء زيد فقط، وأمّا من أخطأ خطائين كان يكره المعاشرة والمخالطة ويحبّ الاعتزال، فالّذي تقتضيه البلاغة أن يشار إلى خطائه في الأمرين جميعاً، فيقال له: لا في كرهك أصبت، ولا في حبّك اهتديت، عسى أن تكره شيئاً وهو خير لك وعسى أن تحبّ شيئاً وهو شرّ لك لأنّك جاهل لا تقدر أن تهتدي بنفسك إلى حقيقة الأمر، ولمّا كان المؤمنون مع كرههم للقتال محبّين للسلم كما يشعر به أيضاً قوله تعالى سابقاً: أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولمّا يأتكم مثل الّذين خلوا من قبلكم، نبّههم الله بالخطائين بالجملتين المستقلّتين وهما: عسى أن تكرهوا، وعسى أن تحبّوا.

قوله تعالى: ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) ، تتميم لبيان خطائهم، فإنّه تعالى تدرّج في بيان ذلك إرفاقاً بأذهانهم، فأخذ أوّلاً بإبداء احتمال خطائهم في كراهتهم للقتال بقوله: عسى أن تكرهوا، فلمّا اعتدلت أذهانهم بحصول الشكّ فيها، وزوال صفة الجهل المركّب كرّ عليهم ثانياً بأنّ هذا الحكم الّذي كرهتموه أنتم إنّما شرّعه

١٧٣

الله الّذي لا يجهل شيئاً من حقائق الاُمور، والّذي ترونه مستند إلى نفوسكم الّتي لا تعلم شيئاً إلّا ما علّمها الله إيّاه وكشف عن حقيقته، فعليكم أن تسلّموا إليه سبحانه الأمر.

والآية في إثباته العلم له تعالى على الإطلاق ونفى العلم عن غيره على الإطلاق تطابق سائر الآيات الدالّة على هذا المعنى كقوله تعالى:( إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ ) آل عمران - ٥، وقوله تعالى:( وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ) البقرة - ٢٥٥، وقد سبق بعض الكلام في القتال في قوله:( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) البقرة - ١٩٠.

قوله تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ) ، الآية تشتمل على المنع عن القتال في الشهر الحرام وذمّة بأنّه صدّ عن سبيل الله وكفر، واشتمالها مع ذلك على أنّ إخراج أهل المسجد الحرام منه أكبر عند الله، وأنّ الفتنة أكبر من القتل، يؤذن بوقوع حادثة هي الموجبة للسؤال وأنّ هناك قتلاً، وأنّه إنّما وقع خطائاً لقوله تعالى في آخر الآيات( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) الآية، فهذه قرائن على وقوع قتل في الكفّار خطائاً من المؤمنين في الشهر الحرام في قتال واقع بينهم، وطعن الكفّار به، ففيه تصديق لما ورد في الروايات من قصّة عبدالله بن جحش وأصحابه.

قوله تعالى: ( قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) ، الصدّ هو المنع والصرف، والمراد بسبيل الله العبادة والنسك وخاصّة الحجّ، والظاهر أن ضمير به راجع إلى السبيل فيكون كفراً في العمل دون الاعتقاد، والمسجد الحرام عطف على سبيل الله أي صدّ عن سبيل الله وعن المسجد الحرام.

والآية تدلّ على حرمة القتال في الشهر الحرام، وقد قيل: إنّها منسوخة بقوله تعالى:( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ) التوبة - ٦، وليس بصواب، وقد مرّ بعض الكلام في ذلك في تفسير آيات القتال.

قوله تعالى: ( وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ) ، أي والّذي فعله المشركون من إخراج رسول الله والمؤمنين من المهاجرين - وهم أهل المسجد

١٧٤

الحرام - منه أكبر من القتال، وما فتنوا به المؤمنين من الزجر والدعوة إلى الكفر أكبر من القتل، فلا يحقّ للمشركين أن يطعنوا المؤمنين وقد فعلوا ما هو أكبر ممّا طعنوا به، ولم يكن المؤمنون فيما أصابوه منهم إلّا راجين رحمة الله والله غفور رحيم.

قوله تعالى: ( وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ ) إلى آخر الآية حتّى للتعليل أي ليردّوكم.

قوله تعالى: ( وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ ) الخ تهديد للمرتدّ بحبط العمل وخلود النار.

( كلام في الحبط)

والحبط هو بطلان العمل وسقوط تأثيره، ولم ينسب في القرآن إلّا إلى العمل كقوله تعالى:( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) الزمر - ٦٥، وقوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَىٰ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ) محمّد - ٣٣، وذيل الآية يدلّ بالمقابلة على أنّ الحبط بمعنى بطلان العمل كما هو ظاهر قوله تعالى:( وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) هود - ١٦، ويقرب منه قوله تعالى:( وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا ) الفرقان - ٢٣.

وبالجملة الحبط هو بطلان العمل وسقوطه عن التأثير، وقد قيل: إنّ أصله من الحبط بالتحريك وهو أن يكثر الحيوان من الأكل فينتفخ بطنه وربّما أدّى إلى هلاكه.

والّذي ذكره تعالى من أثر الحبط بطلان الأعمال في الدنيا والآخرة معاً، فللحبط تعلّق بالأعمال من حيث أثرها في الحياة الآخرة، فإنّ الإيمان يطيّب الحياة الدّنيا كما يطيّب الحياة الآخرة، قال تعالى:( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) النحل - ٩٧، وخسران سعى الكافر، وخاصّة من ارتدّ إلى الكفر بعد الإيمان، وحبط عمله في الدنيا ظاهر لا غبار عليه، فإنّ قلبه غير متعلّق بأمر ثابت - وهو الله سبحانه - يبتهج به عند النعمة،

١٧٥

ويتسلّى به عند المصيبة، ويرجع إليه عند الحاجة، قال تعالى:( أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ) الانعام - ١٢٢، تبيّن الآية أن للمؤمن في الدنيا حياة ونوراً في أفعاله، وليس للكافر، ومثله قوله تعالى،( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ ) طه - ١٢٤، حيث يبيّن أنّ معيشة الكافر وحياته في الدّنيا ضنك ضيّقة متعبة، وبالمقابلة معيشة المؤمن وحياته سعيدة رحبة وسيعة.

وقد جمع الجميع ودلّ على سبب هذه السعادة والشقاوة قوله تعالى:( ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ ) محمّد - ١١.

فظهر ممّا قرّبناه أنّ المراد بالأعمال مطلق الأفعال الّتي يريد الإنسان بها سعادة الحياة، لا خصوص الأعمال العباديّة، والأفعال القربيّة الّتي كان المرتد عملها وأتى بها حال الإيمان، مضافاً إلى أنّ الحبط وارد في مورد الّذين لا عمل عباديّ، ولا فعل قربيّ لهم كالكفّار والمنافقين كقوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ) محمّد - ٩، وقوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ) آل عمران - ٢٢، إلى غير ذلك من الآيات.

فمحصّل الآية كسائر آيات الحبط هو أنّ الكفر والإرتداد يوجب بطلان العمل عن أن يؤثّر في سعادة الحياة، كما أنّ الإيمان يوجب حياة في الأعمال تؤثّر بها أثرها في السعادة، فإن آمن الإنسان بعد الكفر حييت أعماله في تأثير السعادة بعد كونها محبطة باطلة، وإن ارتدّ بعد الإيمان ماتت أعماله جميعاً وحبطت، فلا تأثير لها في سعادة دنيويّة ولا اُخرويّة، لكن يرجى له ذلك إن هو لم يمت على الردّة وإن مات على الردّة حتم له الحبط وكتب عليه الشقاء.

١٧٦

ومن هنا يظهر بطلان النزاع في بقاء أعمال المرتدّ إلى حين الموت والحبط عنده أو عدمه.

توضيح ذلك: أنّه ذهب بعضهم إلى أنّ أعمال المرتدّ السابقة على ردّته باقية إلى حين الموت، فإن لم يرجع إلى الإيمان بطلت بالحبط عند ذلك، واستدلّ عليه بقوله تعالى( وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ) الآية وربّما أيّده قوله تعالى:( وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا ) الفرقان - ٢٣، فإنّ الآية تبيّن حال الكفّار عند الموت، ويتفرّع عليه أنّه لو رجع إلى الإيمان تملّك أعماله الصالحة السابقة على الارتداد.

وذهب آخرون إلى أنّ الردّة تحبط الأعمال من أصلها فلا تعود إليه وإن آمن من بعد الارتداد، نعم له ما عمله من الأعمال بعد الإيمان ثانياً إلى حين الموت، وأمّا الآية فإنّما أخذت قيد الموت لكونها في مقام بيان جميع أعماله وأفعاله الّتي عملها في الدنيا!

وأنت بالتدبّر فيما ذكرناه تعرف: أن لا وجه لهذا النزاع أصلاً، وأنّ الآية بصدد بيان بطلان جميع أعماله وأفعاله من حيث التأثير في سعادته!

وهنا مسألة اُخرى كالمتفرّعة على هذه المسألة وهي مسألة الإحباط والتكفير، وهي أنّ الأعمال هل تبطل بعضها بعضاً أو لا تبطل بل للحسنة حكمها وللسيّئة حكمها؟ نعم الحسنات ربّما كفّرت السيّئآت بنصّ القرآن.

ذهب بعضهم إلى التباطل والتحابط بين الأعمال وقد اختلف هؤلاء بينهم، فمن قائل بأنّ كلّ لاحق من السيّئة تبطل الحسنة السابقة كالعكس، ولازمه أن لا يكون عند الإنسان من عمله إلّا حسنة فقط أو سيّئة فقط، ومن قائل بالموازنة وهو أن ينقص من الأكثر بمقدار الأقلّ ويبقى الباقي سليماً عن المنافي، ولازم القولين جميعاً أن لا يكون عند الإنسان من أعماله إلّا نوع واحد حسنة أو سيّئة لو كان عنده شئ منهما.

ويردّهما أوّلاً قوله تعالى:( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) التوبة - ١٠٢، فإنّ الآية ظاهرة في اختلاف الأعمال وبقائها على حالها إلى أن تلحقها توبة من الله سبحانه، وهو ينافي التحابط

١٧٧

بأيّ وجه تصوّروه.

وثانياً: أنّه تعالى جرى في مسألة تأثير الأعمال على ما جرى عليه العقلاء في الاجتماع الإنسانيّ من طريق المجازاة، وهو الجزاء على الحسنة على حدة وعلى السيّئة على حدة إلّا في بعض السيّئآت من المعاصي الّتي تقطع رابطة المولويّة والعبوديّة من أصلها فهو مورد الإحباط، والآيات في هذه الطريقة كثيرة غنيّة عن الإيراد.

وذهب آخرون إلى أنّ نوع الأعمال محفوظة، ولكلّ عمل أثره سواء في ذلك الحسنة والسيّئة.

نعم الحسنة ربّما كفّرت السيّئة كما قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) الأنفال - ٢٩، وقال تعالى:( فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ) الآية البقرة - ٢٠٣، وقال تعالى:( إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ) النساء - ٣٠، بل بعض الأعمال يبدّل السيّئة حسنة كما قال تعالى:( إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ) الفرقان - ٧٠.

وهنا مسألة اُخرى هي كالأصل لهاتين المسألتين، وهي البحث عن وقت استحقاق الجزاء وموطنه، فقيل: إنّه وقت العمل، وقيل: حين الموت، وقيل: الآخرة، وقيل: وقت العمل بالموافاة بمعنى إنّه لو لم يدم على ما هو عليه حال العمل إلى حين الموت وموافاته لم يستحقّ ذلك إلّا أن يعلم الله ما يؤل إليه حاله ويستقرّ عليه، فيكتب ما يستحقّه حال العمل.

وقد استدلّ أصحاب كلّ قول بما يناسبه من الآيات، فإنّ فيها ما يناسب كلّاً من هذه الأوقات بحسب الانطباق، وربّما استدلّ ببعض وجوه عقليّة ملفّقة.

والّذي ينبغي أن يقال: إنّا لو سلكنا في باب الثواب والعقاب والحبط والتكفير وما يجري مجراها مسلك نتائج الأعمال على ما بيّناه في تفسير قوله تعالى:( إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ) البقرة - ٢٦، كان لازم ذلك كون النفس الإنسانيّة ما دامت متعلّقة بالبدن جوهراً متحوّلاً قابلاً للتحوّل في ذاته وفي آثار ذاته من الصور الّتي تصدر عنها وتقوم بها نتائج وآثار سعيدة أو شقيّة، فإذا صدر منه

١٧٨

حسنة حصل في ذاته صورة معنويّة مقتضية لاتّصافه بالثواب، وإذا صدر منه معصية فصورة معنويّة تقوم بها صورة العقاب، غير أنّ الذات لمّا كانت في معرض التحوّل والتغيّر بحسب ما يطرؤها من الحسنات والسيّئآت كان من الممكن أن تبطل الصورة الموجودة الحاضرة بتبدّلها إلى غيرها، وهذا شأنها حتّى يعرضها الموت فتفارق البدن وتقف الحركة ويبطل التحوّل واستعداده، فعند ذلك يثبت لها الصور وآثارها ثبوتاً لا يقبل التحوّل والتغير إلا بالمغفرة أو الشفاعة على النحو الّذي بيّناه سابقاً.

وكذا لو سلكنا في الثواب والعقاب مسلك المجازاة على ما بيّناه فيما مرّ كان حال الإنسان من حيث اكتساب الحسنة والمعصية بالنسبة إلى التكاليف الإلهيّة وترتّب الثواب والعقاب عليها حاله من حيث الإطاعة والمعصية في التكاليف الإجتماعيّة وترتّب المدح والذمّ عليها، والعقلاء يأخذون في مدح المطيع والمحسن وذمّ العاصي والمسئ بمجرّد صدور الفعل عن فاعله، غير أنّهم يرون ما يجازونه به من المدح والذمّ قابلاً للتغيّر والتحوّل لكونهم يرون الفاعل ممكن التغيّر والزوال عمّا هو عليه من الانقياد والتمرّد، فلحوق المدح والذمّ على فاعل الفعل فعليّ عندهم بتحقّق الفعل غير أنّه موقوف البقاء على عدم تحقّق ما ينافيه، وأمّا ثبوت المدح والذم ولزومهما بحيث لا يبطلان قطّ فإنّما يكون إذا ثبت حاله بحيث لا يتغيّر قطّ بموت أو بطلان استعداد في الحياة.

ومن هنا يعلم: أنّ في جميع الأقوال السابقة في المسائل المذكورة انحرافاً عن الحقّ لبنائهم البحث على غير ما ينبغي أن يبنى عليه.

وأنّ الحقّ أوّلاً: أنّ الإنسان يلحقه الثواب والعقاب من حيث الاستحقاق بمجرّد صدور الفعل الموجب له لكنّه قابل للتحوّل والتغيّر بعد، وإنّما يثبت من غير زوال بالموت كما ذكرناه.

وثانياً: أنّ حبط الأعمال بكفر ونحوه نظير استحقاق الأجر يتحقّق عند صدور المعصية ويتحتّم عند الموت.

وثالثاً: أنّ الحبط كما يتعلّق بالأعمال الاُخرويّة كذلك يتعلّق بالأعمال الدنيويّة.

ورابعاً: أنّ التحابط بين الأعمال باطل بخلاف التكفير ونحوه.

١٧٩

( كلام في أحكام الأعمال من حيث الجزاء)

من أحكام الأعمال: أنّ من المعاصي ما يحبط حسنات الدنيا والآخرة كالارتداد. قال تعالى:( وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ) وكالكفر بآيات الله والعناد فيه. قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ) آل عمران - ٢٢، وكذا من الطاعات ما يكفّر سيّئآت الدنيا والآخرة كالإسلام والتوبة، قال تعالى:( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم ) الزمر - ٥٥، وقال تعالى:( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ ) طه - ١٢٤.

وأيضاً: من المعاصي ما يحبط بعض الحسنات كالمشاقّة مع الرسول، قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَىٰ لَن يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ) سورة محمّد - ٣٣، فإنّ المقابلة بين الآيتين تقضي بأن يكون الأمر بالإطاعة في معنى النهي عن المشاقّة، وإبطال العمل هو الإحباط، وكرفع الصوت فوق صوت النبيّ، قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ) الحجرات - ٢.

وكذا من الطاعات ما يكفّر بعض السيّئآت كالصلوات المفروضة، قال تعالى:( وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ) هود - ١١٤، وكالحجّ، قال تعالى:( فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ) البقرة - ٢٠٣، وكاجتناب الكبائر، قال تعالى:( إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ )

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

ولأجل هذا التحرّج جاء السؤال التالي: ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى ) (١) .

فكان الجواب: ( قُلْ إِصْلاَحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَو شَاءَ اللّهُ لأَعْنَتَكُمْ ) . أي هذا واجب فرض، وكل أحد يمكنه المواظبة على ترك الحرام، وأخيراً فلو تعنّتم لأخذناكم بتكليف أشقّ وأعنت.

إذاً فاسترسلوا في أمركم وشاركوهم في أموالهم كما تشاركون سائر إخوانكم، مع المواظبة على غبطة مصلحة الشريك، فهذا هو خير يعود عليكم نفعُه أيضاً.

وأمّا إذا كانت اليتامى نسوة فطريق المخلص بشأن مخالطة أموالهم أسهل، ( وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النّسَاءِ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ وَمَا يُتْلَى‏ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى‏ النّسَاءِ اللاّتِي لاَ تُؤْتُونَهُنّ مَا كُتِبَ لَهُنّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنّ ) (٢) .

ففي الآية السابقة ترخيص لنكاحهنّ ( فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِنَ النّسَاءِ - أي يتامى النساء اللاّتي تحت كفالتكم - مَثْنَى‏ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ ) (٣) والآية بعد ذلك تستطرد في شؤون شتّى، كما هو دأب القرآن.

وعلى أية حال، فالتزويج بهنّ هي إحدى طرق التخلّص من مأزق التحرّج في مال اليتيم؛ إذ المرأة تغضّ طرفها عن المُداقّة في مالها المختلط مع مال زوجها المرافق لها الكافل لشؤونها.

وهذا خامس الوجوه التي ذكرها الطبرسي في توجيه مناسبة الآية (٤) وهو أحسن الوجوه، وأكثر انسجاماً مع سياق الآية، والله العالم.

* * *

* وقوله تعالى: ( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للّهِ‏ِ وَلِلرّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ) (٥) .

____________________

(١) البقرة: ٢٢٠.

(٢) النساء: ١٢٧.

(٣) النساء: ٣.

(٤) مجمع البيان: ج٣ ص٦.

(٥) الأنفال: ٢٤.

٢٨١

قيل: ما هي المناسبة بين الأمر باستجابة الرسول فيما إذا دعاهم إلى الحياة والتهديد بالحيلولة بين المرء وقلبه؟

وقد أخذت الأشاعرة - وفي مقدّمتهم شيخ المتشكّكين الإمام الرازي (١) - من هذه الآية - نظراً إلى الذيل - دليلاً على القول بالجبر بأنّ الله هو الذي يجعل المؤمن مؤمناً والكافر كافراً ( يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) (٢) .

وذهب عنهم أنّ الدعوة في صدر الآية دليل على الاختيار، وحاشا القرآن أن يتناقض كلامُه في آية واحدة.

وحاول العلماء تفسير الآية بوجوه أدقّ وأوفى، منها: أنّ في القلب نقطة تحوّلات مفاجئة، قد يتحوّل الإنسان من حالة إلى أُخرى في مصادفة مباغتة، فينقلب الشقيُّ سعيداً أو السعيدُ شقيّاً؛ لمواجهة غير مترقّبة عارضت مسيرته التي كان عليها، زاعماً عكوفه عليها مرّة حياته، ولكن رغم مزعومه أخذ في التراجع والانعطاف إلى خلاف مسيره.

وهذا، لخلق الخوف والرجاء، وطرد اليأس والغرور.

وهذا من أعظم التربية للنفوس البشرية، فلا يأخذها القنوط واليأس إن هي أسرفت في التمرّد والعصيان، ولا يسطو عليها العجب والاغترار إن هي بلغت مدارج الكمال.

ومنها: أنّ الإسلام دعوة إلى الحياة العُليا والسعادة القصوى، كما أنّ في رفضها والتمرّد عن تعاليمها إماتة للقلوب، وبذلك تموت معالم الإنسانية في النفوس وتذهب كرامتها أدراج الرياح، وإذا بهذا الإنسان دابّة، فبدلاً من أن يمشي على أربع، يمشي على رجلين لا أكثر من ذلك، وفي ذلك هبوط من قمّة الشموخ إلى حضيض الهمجية والابتذال.

____________________

(١) التفسير الكبير: ج١٥ ص١٤٧ - ١٤٨ و١٨١ - ١٨٢.

(٢) النحل: ٩٣، فاطر: ٨.

٢٨٢

( وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلكِنّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتّبَعَ هَوَاهُ ) (١) .

( وَلاَ تَكُونُوا كَالّذِينَ نَسُوا اللّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ) (٢) .

ووجوهٌ أُخر ذكرناها في فصل المتشابهات من الآيات (٣) .

قال سيّد قطب: من ألوان التناسق الفنّي هو ذلك التسلسل المعنوي بين الأغراض في سياق الآيات، والتناسب في الانتقال من غرض إلى غرض، وبعضهم يتمحّل لهذا التناسق تمحّلاً لا ضرورة له، حتى ليصل إلى حدّ التكلّف ليس القرآن بحاجة إلى شيء منه (٤) .

وقال الأُستاذ درّاز: إنّ هذه النقطة غفل عنها جميع المستشرقين، فضلاً عن بعض علماء المسلمين، فعند ما لاحظ بعضهم بنظرته السطحية عدم توافر التجانس والربط الطبيعي بين المواد التي تتناولها السور لم يرَ القرآن إلاّ أشتاتاً من الأفكار المتنوّعة، عُولجت بطريقة غير منظّمة، بينما رأى الآخر أنّ علّة هذا التشتيت المزعوم ترجع إلى الحاجة لتخفيف الملل الناتج من رتابة الأُسلوب.

وهناك فريق آخر لم يرَ في الوحدة الأدبية لكل سورة - وما لا يستحيل نقله في أيّة ترجمة - إلاّ نوعاً من التعويض لهذا النقص الجوهري في وحدة المعنى، وفريق آخر يضمّ غالبية المستشرقين، رأى أنّ هذا العيب يرجع إلى الصحابة الذين جمعوا القرآن، وقاموا بهذا الخلط عندما جمعوا أجزاءه ورتّبوها على شكل سور.

قال: إنّ هذه التفسيرات لا تبدو صالحة للأخذ بها؛ إذ من المتّفق عليه أنّ السور كانت بالشكل الذي نقرأها به اليوم، وبتركيبها الحالي، منذ حياة الرسول (صلّى الله عليه وآله).

قال: ولقد اتّضح أنّ هناك تخطيطاً واضحاً ومحدّداً للسورة، يتكوّن من ديباجة وموضوع وخاتمة، ولا جدال في أنّ طريقة القرآن هذه ليس لها مثيل على

____________________

(١) الأعراف: ١٧٦.

(٢) الحشر: ١٩.

(٣) راجع التمهيد في علوم القرآن: ج٣ ص٢٣٩ - ٢٥٢ تحت رقم ٨٠ الطبعة الثانية.

(٤) التصوير الفنّي في القرآن لسيد قطب: ص٦٩.

٢٨٣

الإطلاق في أيّ كتاب في الأدب أو في أيّ مجال آخر، يمكن أن يكون قد تمّ تأليفه على هذا النحو، وإذا كانت السور القرآنية من نتاج ظروف النزول تكون وحدتها المنطقية والأدبية معجزة المعجزات (١) .

التناسب القائم في كل سورة بالذات

الوحدة الموضوعية:

وممّا يسترعي الانتباه ما تشتمل عليه كل سورة من أهداف خاصة تستهدفها لغرض الإيفاء بها وأداء ما فيها من رسالة بالذات، الأمر الذي يوجه مصير انتخابها في كيفية لحن الأداء وفي كمّية عدد الآيات، يُنبئك بذلك اختلاف السور في عدد الآي، قليلها وكثيرها، فما لم تستوفِ الهدف لم تكتمل السورة، قصرت أم طالت، وهكذا اختلاف لهجاتها من شديدة فمعتدلة وإلى ليّنة خفيفة، فلابدّ من حكمة مقتضية لهذا التنويع في العدد واللحن؛ لأنّه من صُنْع عليم حكيم.

هذا مضافاً إلى ما لكل سورة من حسن مطلع ولطف ختام، فلابدّ أن تحتضن مقاصد هي متلائمة مع هذا البدء والختام، وبذلك يتمّ حسن الائتلاف والانسجام.

ومِن ثَمّ فمن الضرورة - بمقتضى الحكمة - أن تشتمل كل سورة على نظام خاصّ يستوعب تمام السورة من مفتتحها حتى نهاية المطاف، وهذا هو الذي اصطلحوا عليه من الوحدة الموضوعية التي تحتضنها كل سورة بذاتها.

ولسيّد قطب محاولة موفّقة - إلى حدّ ما - في سبيل الإحاطة بما تشتمل عليه كلّ سورة من أهداف، يُقدّم فكرة عامة عن السورة بين يدي تفسيرها، وبياناً إجمالياً عن مقاصد السورة قبل الورود في التفصيل، ممّا يدلّ على تسلسل طبيعي في كلّ سورة تنتقل خلاله من غرض إلى غرض حتى تنتهي إلى تمام المقصود،

____________________

(١) المدخل إلى القرآن الكريم (أهداف كل سورة، عبد الله محمود شحاته: ٥ - ٦).

٢٨٤

تناسقاً معنوياً رتيباً، تنبّه له المتأخرون في كلّ سورة بالذات، ولم يزل العمل مستمراً في البلوغ إلى هذا الهدف البلاغي البديع في جميع السور، لكن يجب التريّث دون التسرّع، ونحن في بداية المرحلة، فلا يكون هناك تكلّف أو تمحّل لا ضرورة إليه.

وقال الأُستاذ المدني: إنّ في كلّ سورة من سور القرآن الكريم روحاً تسري في آياتها، وتسيطر على مبادئها وأحكامها وتوجيهاتها وأُسلوبها، قال: ومن الواضح أنّ سور القرآن مع كون كلّ واحد منها ذات طابع خاص، وروح تسري في نواحيها - لا يمكن أن تُعدّ فصولاً أو أبواباً مُقسّمة منسّقة على نمط التآليف التي يُؤلّفها الناس، ومَن أراد أن يفهمها على ذلك أو أن يُفسّرها على ذلك فإنّه يكون متكلّفاً مشتطاً، محاولاً أن يُخرج بالقرآن عن أُسلوبه الخاص، الذي هو التنقّل والمراوحة والتجوّل، وبثّ العظة في تضاعيف القول، والوقوف عند العبر لتجليتها، والتوجّه إلى مغزاها، وانتهاز الفرصة أينما واتت، لدعم العقيدة السليمة والمبادئ القويمة.

إنّ هناك فرقاً بين مَن يحاول أن يفعل ذلك، ومَن يُحاول أن يجعل القارئ يَلمح الروح الساري والبيئة المعنوية الخاصّة التي تجول فيها السورة دون أن يُخرج التنزيل الحكيم عن سنته وأُسلوبه الذي انفرد به، وكان من أهمّ نواحي الإعجاز فيه....

وهذه الطريقة في الدراسة القرآنية أجدى على الناس مِن تتبّع الآيات آية بعد آية، فإنّ ذلك لا يعطي المنظر العام، ولا يُساعد على تصوّر عظمة الصورة مجتمعة الملامح، منضمّة التقاسيم، كاملة الوضع (١) .

وبعد، فإليك نماذج من محاولات بُذلت للحصول على تلك الوحدات

____________________

(١) المجتمع الإسلامي كما تنظّمه سورة النساء لمحمّد محمّد المدني: ص٥ - ٧ (الأهداف: ص٧).

٢٨٥

الموضوعية التي تشتمل عليها كلّ سورة لذاتها بحيث كادت تقرب من نظم التأليف من ديباجة ومقاصد وخاتمة في تبويب رتيب، حصولاً على قدر الجهد المبذول، والله من وراء القصد.

سورة الفاتحة: ما يشتمل عليه هذه السورة القصيرة من نظم وترتيب طبيعي، هو من أبدع النُظم التي تُصوّر موقف العبد تجاه ربّه الكريم، في ضراعة وخشوع، مسترحماً مبتهلاً إيّاه تعالى أن يهديه سواء السبيل ويُنعم عليه بأفضل نعمه وآلائه، في أُسلوب جميل وسبك طريف.

إنّ هذه السورة المباركة انتظمت من ثلاثة مقاطع، كلّ مقطع مرحلة هي مقدّمة للمرحلة التالية في تدرّج رتيب، ويتمثّل خلالها أدب العبد الماثل بين يدي مولاه، تلك مراحل يجتازها في أناقة يريد مسألته، يمجّده أوّلاً، ثُمّ ينقطع إليه كما الانقطاع، وأخيراً يعرض حاجته في أُسلوب لطيف، ينتقل من الغيبة إلى الخطاب، وكأنّه كان في حجاب عن وجه سيّده المتفضّل عليه بالإنعام، ثمّ مَثَل بين يديه وحظي بالحضور.

قالوا (١) : إنّ العبد إذا افتتح حَمَد مولاه الحقيق بالحمد - عن قلب حاضر ونفس ذاكرة لِما هو فيه بقوله: ( الحمدُ للهِ ) الدالّ على اختصاصه بالحمد، وأنّه حقيق به - وَجَد من نفسه لا محالة محرّكاً للإقبال عليه، فإذا انتقل على نحو الافتتاح إلى قوله: ( ربّ العالمين ) - الدالّ على أنّه مالك للعالمين، لا يخرج منهم شيء عن ملكوته وربوبيته - قَوى ذلك المحرّك، ثمّ انتقل إلى قوله ( الرحمن الرحيم ) الدالّ على أنّه منعم بأنواع النعم جلائلها ودقائقها، تضاعفت قوّة ذلك المحرّك، ثمّ إذا انتقل إلى خاتمة هذه الصفات العظام، وهي قوله: ( مالكِ يومِ الدِّين ) الدالّ على أنّه مالك للأمر كلّه يوم الجزاء، تناهت قوّته، وأوجب الإقبال عليه، وخطابه بتخصيصه بغاية الخضوع والاستعانة في المهمّات: ( إيّاك نعبُدُ وإيّاك نستعين ) .

____________________

(١) الزمخشري في الكشّاف: ج١ ص١٤.

٢٨٦

وهذا كمال الانقطاع يُبديه العبد لدى مولاه، يُمهّد بها أسباب الشفاعة، فيردفها مع عرض حاجته، بُغية قضائها ونجاحها، والتوفيق يرافقه لا محالة.

وسورة البقرة - وهي أول سورة نزلت بالمدينة، واكتملت لعدة سنوات، ونزلت خلالها سور وآيات - تراها على طولها، منتظمة على أُسلوب رتيب: مقدّمة لابدّ منها، ثمّ دعوة، وأخيراً تشريع (١) .

أمّا المقدّمة ففي بيان طوائف الناس ومواقفهم تجاه الدعوة، إمّا متعهد يخضع للحقّ الصريح، أو معاند يجحد بآيات الله، أو منافق يراوغ مراوغة الكلاب، أمّا الشكّ فلا مجال له بعد وضوح الحقّ ووفور دلائله، وقد نفاه القرآن الكريم ( ذلكَ الكتابُ لا ريبَ فيهِ ) .

وقد أعلن الدعوة بتوجيه نداء عامّ إلى كافة الناس ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ) (٢) ودعمها بدلائل وبراهين نيّرة، مستشهداً بسابق حياة الإنسان منذ بدء الخلقة، وتصرّفاته الغاشمة في الحياة، ولا سيّما حياة إسرائيل السوداء المليئة بالمخازي والآثام، وهي الأُمّة الوحيدة التي تعرفها العرب ولهم معها نسب قريب.

ثمّ يأتي دور التشريع (٣) ويتقدّمه الحديث عن الكعبة وتشريفها، وبيان النسخ والإنساء في الشرائع، فيبتدئ بتحويل القبلة (٤) وتشريع الحجّ والجهاد والقتال في سبيل الله، والصوم والزكاة والاعتكاف، والنكاح والطلاق والعدد، والمحيض والرضاع والأَيمان، والوصية والدَين والربا، والتجارة الحاضرة وبذلك تنتهي السورة.

هذه هي الصبغة العامّة للسورة، وفي ضمنها الاستطراق إلى عدة مواضيع

____________________

(١) المقدمة في (٢٠) آية، والدعوة في قريب من (١٢٤) آية، والتشريع (١٤٢).

(٢) البقرة: ٢١.

(٣) من الآية رقم ١٢٥.

(٤) الآية رقم ١٤٤.

٢٨٧

بالمناسبة، كما هي طريقة القرآن في جمعه لشتات الأُمور.

وفي ختام السورة (١) جاء الحديث عن مَلكوت السماوات والأرض، وعِلمه تعالى بما في الصدور فيحاسب العباد عليه، وعن إيمان الرسول بما اُنزل إليه، والمؤمنون على أثره، وأن لا تكليف بغير المستطاع، ولابدّ من الاستغفار على الخطايا وطلب فضله تعالى ورحمته في نهاية المطاف.

والمناسبة ظاهرة بعد ذلك التفصيل عن دلائل الدعوة ومعالم التشريع، وقد جهد الإمام الرازي في بيان النظم القائم بين هذه الآيات الثلاث بالذات وما سبقتها من دلائل التوحيد وتشريع الأحكام، وذكر في ذلك وجوهاً لا بأس بها نسبياً، وعقبها بقوله:

ومَن تأمّل في لطائف نظم هذه السورة وفي بدائع ترتيبها علم أنّ القرآن كما أنّه معجز بحسب فصاحة ألفاظه وشرف معانيه فهو أيضاً معجز بحسب ترتيبه ونظم آياته، ولعلّ الذين قالوا: إنّه معجز بحسب أُسلوبه أرادوا ذلك، إلاّ أنّي رأيت جمهور المفسّرين معرضينَ عن هذه اللطائف، غير منتبهين لهذه الأُمور، ثمّ تمثّل بقول الشاعر:

والنجمُ تَستصغرُ الأبصارُ رؤيتَهُ

والذنبُ للطرفِ لا للنَجمِ في الصِغَرِ (٢)

* * *

والآيتان الأخيرتان منها قوله تعالى: ( آمَنَ الرّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَبّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كَلّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِن رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا

____________________

(١) الآيات رقم ٢٨٤ و٢٨٥ و٢٨٦.

(٢) التفسير الكبير ج٧ ص١٢٧.

٢٨٨

إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) (١) .

انظر كيف تناسق البدء والختام، وكيف تجمّعت مواضيع السورة وأهدافها، ملخّصة في آخر بيان، ليتأكد أوّلها بآخرها بهذا الشكل البديع.

* * *

ولعلّنا في مجال آتٍ نعرض سوراً أُخرى تكشّف لنا وجهُ التناسب القائم فيها في عدد آيها الخاصّ ولحنها الخاصّ إن شاء الله تعالى، ولا تزال المحاولات دائبة في هذا التكشّف بوجه عامّ، نسأل الله التوفيق والتسديد.

تناسب فواصل الآي

قال الأُستاذ أبو الحسن علي بن عيسى الرمّاني (توفّي سنة ٣٨٦ هـ): الفواصل حروف متشاكلة في مقاطع الآيات، تُوجب حسن إفهام المعاني، والفواصل في القرآن جمال وبلاغة؛ لأنّها تتّبع المعاني وتزيدها حكمةً وبهاءً كما تكسوها رونقاً ورُواءً، على خلاف أسجاع الكهّان، إنّها عيب وعيّ وفضول في الكلام؛ لأنّ المعاني في الأسجاع هي التي تكون تابعةً وليست بالمقصودة، ومِن ثَمّ فهو من قلب الحكمة في باب الدلالات - حسبما يأتي - (٢) .

أمّا فواصل القرآن فكلّها بلاغة وحكمة وأناقة؛ لأنّها طريق إلى إفهام المعاني والإجادة في المباني، وقد بلغ القرآن فيها حدّ الإعجاز فوق الإعجاب.

قال الإمام بدر الدين الزركشي: مِن المواضع التي يتأكّد فيها إيقاع المناسبة مقاطع الكلام، وهي كلمات وحروف متشاكلة في اللفظ، فلابدّ أن تكون متناسبةً مع

____________________

(١) البقرة: ٢٨٥ و٢٨٦.

(٢) سننقل كلامه في ص ٣٠٧. راجع النكت في الإعجاز: ص٩٧.

٢٨٩

المعنى تمام المناسبة، وإلاّ لتفكّك الكلام وخرج بعضه عن بعض، وفواصل القرآن العظيم لا تخرج عن ذلك، لكنّ منه ما يظهر، ومنه ما يُستخرج بالتأمّل للبيب (١) .

والفواصل في القرآن - على ما حقّقه الأُستاذ أبو محمّد عبد العظيم بن عبد الواحد المعروف بابن أبي الإصبع (توفّى سنة ٦٥٤ هـ) - على أربعة وجوه:

١ - التمكين ، وهو أن يمهّد قبلها تمهيداً تأتي به الفاصلة ممكّنة في موضعها.

٢ - والتصدير ، وهو أن يتقدّم من لفظها في صدر الكلام، ويُسمّى ردّ العجز على الصدر.

٣ - والتوشيح، وهو أن يكون سَوق الكلام بحيث يستدعي الانتهاء إلى تلك الخاتمة.

٤ - والإيغال ، وهو ختم الكلام بما يفيد نكتة زائدة على أصل المعنى (٢) .

وإليك شرح هذه الوجوه مع بيان أمثلتها:

١ - التمكين: هو أن يمهّد قبل نهاية الآية تمهيداً تأتي الفاصلة معها متمكّنة في موضعها، مستقرّة في قرارها، مطمئنة في محلّها، غير نافرة ولا قلقة، متعلّقاً معناها بمعنى الكلام كلّه تعلّقاً تامّاً، بحيث لو طُرحت لاختلّ المعنى واضطرب المقصود من الكلام، وتشوّش على الفهم، وبحيث لو سكت الناطق عنها لكمّله السامع بطبعه السليم (٣) .

قال الإمام بدر الدين الزركشي: وهذا الباب يُطلعك على سرٍّ عظيم من أسرار القرآن الكريم، فاشدُد يديك به (٤) .

* ومن أمثلته قوله تعالى: ( وَرَدّ اللّهُ الّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى

____________________

(١) البرهان: ج١ ص٧٨.

(٢) معترك الأقران: ج١ ص٣٩.

(٣) حُكي أنّ أعرابياً سمع قارئاً يقرأ: ( فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غفورٌ رحيم ) - ولم يكن قرأ القرآن - فقال: إنّ هذا ليس بكلام الله؛ لأنّ الحكيم لا يذكر الغفران عند الزلل؛ لأنّه إغراء عليه (معترك الأقران: ج١ ص٤٠) وصحيح الآية ( فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) البقرة: ٢٠٩.

(٤) البرهان: ج١ ص٧٩.

٢٩٠

اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً ) (١) .

ولا يخفى وجه المناسبة التامّة.

* وقوله تعالى: ( أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنّ فِي ذلِكَ لآيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ * أَوَلَمْ يَرَوْا أَنّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ ) (٢) .

لمّا كانت الآية الأُولى تَذكرة وعِبرة بما أصاب القرون الأُولى، ولا عِبرة بأحوال الماضين لولا الاستماع إلى قَصَصهم، فخُتمت بما يناسبه (يسمعون)، أمّا الآية الثانية فكان الاعتبار فيها بأمر مشهود منظور، فناسبه الختم بالأبصار.

* وقوله تعالى: ( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (٣) .

الشيء إذا بلغ في اللطافة غايتها قصُرت الأبصار عن دركه، فناسب قوله: ( وهو اللطيفُ ) قوله: ( لا تُدرِكه الأبصارُ ) . والعالم بالشيء إذا بلغ كنهه وأحاط به علماً كان خبيراً به، فناسب قوله: ( الخبير ) قوله: ( وهو يُدرك الأبصارَ ) ، جمعاً محلّى باللام، وهو يفيد العموم الدالّ على إحاطته تعالى.

ومناسبة أشد: أنّ قوله: ( وهو اللطيفُ الخبيرُ ) برهانٌ على عدم إمكان إدراكه بالأبصار وأنّه هو الذي يُحيط بالأبصار، فكان كدعوى مقرونة بشاهد دليل.

* وقوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ أَنزَلَ مِنَ السّماءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرّةً إِنّ اللّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * لَهُ مَا فِي السّماوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنّ اللّهَ لَهُوَ الْغَنِيّ الْحَمِيدُ * أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ سَخّرَ لَكُم مّا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السّماءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاّ بِإِذْنِهِ إِنّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَؤُوفٌ رّحِيمٌ ) (٤) .

ختم الآية الأُولى بقوله: ( لطيفٌ خبير ) ؛ لأنّ (لطف) هنا من (اللّطف) بمعنى

____________________

(١) الأحزاب: ٢٥.

(٢) السجدة: ٢٦ و٢٧.

(٣) الأنعام: ١٠٣.

(٤) الحج: ٦٣ - ٦٥.

٢٩١

الرفق والرأفة، بخلافه هناك، كان من (اللطافة) بمعنى الدقّة ضدّ الضخامة والكثافة، فلمّا كان الكلام في إنزال الماء من السماء وإنبات الأرض... وهو السبب الأوّل لإمكان المعيشة على الأرض، فناسبه الإشارة بجانب لطفه تعالى بعباده، إلى جنب علمه المحيط بمواضع فقرهم وحوائجهم في الحياة.

وختم الثانية بقوله: ( لهو الغنيّ الحميدُ ) ؛ تنبيهاً على أنّه تعالى في غنىً عن ملك السماوات والأرض وأنّه يجلّ شأنه ويعزّ جانبه من أن يعتزّ بملك، ولو كان المملوك عوالم الملكوت فهو أعزّ شأناً وأرفع جانباً من الاعتزاز بهكذا أُمور، هي صغيرة في جنب عظمة ذاته تعالى وفخامة جانبه المرتفع إليه كلّ ثناء ومحمدة في عالم الوجود.

وختم الثالثة بقوله: ( لرؤوفٌ رحيمٌ ) ؛ لأنّه ذكر جعل الأرض وما فيها، والبحر وما عليها في خدمة الإنسان، وأمسك بقذائف السماء أن تَهدم الحياة على الأرض... فهذا كلّه ناشئ عن رأفته تعالى بعباده ورحمته عليهم.

* وقوله تعالى: ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ اللّيْلَ سَرْمَداً إِلَى‏ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ النّهَارَ سَرْمَداً إِلَى‏ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ ) (١) .

خُتمت الآية الأُولى بقوله: ( أفلا تَسمعون ) ؛ لأنّه المناسب لذكر الليل السرمد، وهي الظلمة المطبقة لا موضع فيها لحسّ البصر، سوى حسّ السمع يسمع حسيسها.

وأمّا الآية الثانية، فكان الكلام فيها عن النهار السرمد، فناسبه الإبصار.

قال الزركشي: وهذا من دقيق المناسبة المعنوية.

* وقوله تعالى: ( إِنّ فِي السّماوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ

____________________

(١) القصص: ٧١ و٧٢.

٢٩٢

وَمَا يَبُثّ مِن دَابّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلاَفِ اللّيْلِ وَالنّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السّماءِ مِن رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرّيَاحِ آيَاتٌ لِقٌوْمٍ يَعْقِلُونَ ) (١) .

ختم الآية الأُولى بقوله: ( للمؤمنينَ ) ، والثانية ( لقومٍ يوقنونَ ) . والثالثة ( لقومٍ يعقلونَ ) ؛ لأنّ العوالم كلّها هي دليل الصنع الباعث على الإيمان، أمّا التدبّر في تفاصيل الخلق الدالّة على التدبير فهو دليل النظم الموجب للإيقان، وأخيراً فإنّ الذي يدعو للإيمان واليقين بسبب التدبّر في آياته تعالى والتفكّر في خلقه هو شرف العقل، الموجود المفضّل في كيان الإنسان.

* وقوله تعالى: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِن طِينٍ * ثُمّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مّكِينٍ * ثُمّ خَلَقْنَا النّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (٢) .

فسياق الآية بهذا النظم البديع، وتسلسل الخلقة بهذا النمط الرتيب، لَيقضي بختمها بهكذا تحميد وتحسين عجيب، فقد رُوي أنّ بعض الصحابة - يقال: إنّه معاذ ابن جبل - حين نزلت الآية بادرَ إلى تحسينها والإعجاب بها، فنطق بهذه الخاتمة قبل نزولها، فضحك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقال لمعاذ: (بها خُتِمت) (٣) .

٢ - التصدير: هو أن تكون الفاصلة مذكورةً بمادّتها في صدر الآية، ويُسمّى أيضاً: ردّ العجز على الصدر، وهو من حسن البديع، إذ يرتبط صدر الكلام مع ذيله بوشائج من التلاحم والوئام، قال ابن رشيق: وهذا يكسب الكلام أُبّهة، ويكسوه رونقاً وديباجة، ويزيده مائيّة وطلاوة (٤) .

من ذلك قوله تعالى: ( وَهَبْ لَنَا مِن لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ ) (٥) . وقوله:

____________________

(١) الجاثية: ٣ - ٥.

(٢) المؤمنون: ١٢ - ١٤.

(٣) معترك الأقران: ج١ ص٤٠.

(٤) العمدة: ج٢ ص٣.

(٥) آل عمران: ٨.

٢٩٣

( وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ ) (١) ، ( لاَ تَفْتَرُوا عَلَى اللّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى ) (٢) .

وقد يكون التشاكل لفظياً بحتاً، وهو من لطف البديع، كقوله تعالى: ( قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ ) (٣) ، أي من الناقمين.

٣ - التوشيح: هو أن يكون سَوق الكلام بحيث يستدعي بطبعه الانتهاء إلى تلك الخاتمة، حتى لو سكت المتكلّم عن النطق لترنّم بها المستمعون، وهو قريب من التسهيم في اصطلاحهم (٤) : أن يكون الكلام ممّا يرشد إلى عجزه، ولذا قيل: الفاصلة تُعلم قبل ذكرها، قال الزركشي: وسمّاه ابن وكيع (هو القاضي أبو بكر محمّد بن خلف توفّي سنة ٣٠٦ هـ) (المطمِع)؛ لأنّ صدره مطمع في عجزه (٥) ، وهذا من بديع البيان وعجيبه، فمِن ذلك ما تقدّم من قوله تعالى: ( ثُمّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (٦) .

وقوله تعالى: ( وَآيَةٌ لّهُمُ الّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النّهَارَ فَإِذَا هُم مّظْلِمُونَ ) (٧) .

وقوله تعالى: ( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرّةٍ شَرّاً يَرَهُ ) (٨) .

٤ - الإيغال: وهو باب عظيم الشأن من أبواب البديع، هو عبارة عن ختم الكلام بما يفيد نكتة يتمّ المعنى بدونها، مأخوذ من أوغل في البلاد: إذا ذهب وبالغ وأبعد فيها (٩) وهو بمنزلة التأكيد المُبالغ فيه.

____________________

(١) الأنعام: ١٠.

(٢) طه: ٦١.

(٣) الشعراء: ١٦٨.

(٤) بديع القرآن لابن أبي الإصبع: ص١٠٠.

(٥) البرهان للزركشي: ج١ ص٩٥.

(٦) المؤمنون: ١٤.

(٧) يس: ٣٧.

(٨) الزلزلة: ٦ - ٨.

(٩) أنوار الربيع: ج٥ ص٣٣٣.

٢٩٤

* كقوله تعالى: ( أُولئِكَ الّذِينَ اشْتَرَوُا الضّلاَلَةَ بِالْهُدَى‏ فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ) (١) ، فقد تمّ الكلام عند قوله: ( فما رَبِحت تجارتُهم ) لكنّه أوغل في تفضيع حالتهم، وأفاد زيادة المبالغة في ضلالتهم، حيث كان عدم الاسترباح مستنداً إلى عدم اهتدائهم إلى طرق التجارة، ومِن ثَمّ استُبدلوا بالخير شرّاً وبالصلاح فساداً.

* وقوله تعالى: ( قَالَ يَا قَوْمِ اتّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتّبِعُوا مَن لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مّهْتَدُونَ ) (٢) ، حيث قد تمّ المعنى بدون ( وهم مهتدون ) ؛ إذ الرسل مهتدون لا محالة، لكنّه إيغال أفاد زيادة الحثّ على الاتّباع والترغيب في الرسل، وأنّ متابعتهم لا تستدعي خسراناً أبداً.

* وقوله تعالى: ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (٣) .

* وقوله تعالى: ( وَلاَ تُسْمِعُ الصّمّ الدّعَاءَ إِذَا وَلّوْا مُدْبِرِينَ ) (٤) ، فقد تمّ المقصود بدون ( إذا ولّوا مدبرينَ ) لولا أنّه أفاد المبالغة في عدم إمكان الإسماع؛ لأنّ الأصمّ إذا ولّى مدبراً كان أبلغ في تغافله وإعراضه عن الانصياع للدعوة.

هل في القرآن سجع؟

بعد أن عرفت مواضع الفواصل من آيات الذكر الحكيم، وأقسامها الأربعة على ما فصّلها علماء البيان، نُلفت نظرك إلى ناحية أُخرى هي مسألة السجع، هل في القرآن منه شيء؟ وأوّل مَن تكلّم في ذلك وأنكر وجوده في القرآن، وأنّه يترفّع

____________________

(١) البقرة: ١٦.

(٢) يس: ٢٠ و٢١.

(٣) المائدة: ٥٠.

(٤) النمل: ٨٠.

٢٩٥

عن مبتذلات أهل التكلّف في الكلام، هو الأُستاذ أبو الحسن علي بن عيسى الرمّاني، وتقدّم بعض كلامه (١) ، قال:

الفواصل بلاغة، والأسجاع عيب، وذلك أنّ الفواصل تابعة للمعاني، وأمّا الأسجاع فالمعاني تابعة لها، وهو قلب ما توجبه الحكمة في الدلالة؛ إذ كان الغرض من حكمة الوضع إنّما هو الإبانة عن المعاني التي الحاجة إليه ماسّة، فإذا كانت المشاكلة وصلة إليه فهو بلاغة، وأمّا إذا كانت المشاكلة الكلامية هي المقصودة بالذات، والمعاني مغفول عنها إلاّ عرضاً فهو عيب ولَكنَة؛ لأنّه تكلّف من غير الوجه الذي توجبه الحكمة، ومَثَله مَن رصّع تاجاً ثُمّ ألبسه إنساناً دميماً (٢) أو نظّم قلادة درٍّ ويواقيت ثُمّ ألبسها كلباً عقوراً، وقبحُ ذلك وعيبه بيّنٌ لمَن له أدنى فهم.

فمن ذلك ما يُحكى عن بعض الكهّان: والأرض والسماء، والغراب الواقعة بنقعاء، لقد نفر المجد إلى العشراء.

ومنه ما يُحكى عنه مسيلَمة الكذّاب: يا ضفدع نقّي كم تنقّين، لا الماء تُكدّرين، ولا النهر تفارقين.

فهذا أغثّ كلام يكون وأسخفه، وقد بينا علّته، وهو تكلّف المعاني من أجله، وجعلها تابعة له من غير أن يبالي المتكلّم بها ما كانت!

وفواصل القرآن كلها بلاغة وحكمة - على ما سبق بيانه - لأنّها طريق إلى إفهام المعاني التي يحتاج إليها في أحسن صورة يدلّ بها عليها.

وإنّما اُخذ السجع في الكلام من سجع الحمامة؛ وذلك أنّه ليس فيه إلاّ الأصوات المتشاكلة مع إغفاء المعاني، كما ليس في سجع الحمامة إلاّ الأصوات المتشاكلة - الهدير (٣) - وهكذا المعنى في السجع، إذا تكلّف له من غير وجه الحاجة إليها ذاتاً، أو ملاحظة الفائدة فيه، لم يعتد به، ولم تخرج الكلمات بذلك عن

____________________

(١) في ص ٣٠٠ من هذا الجزء.

(٢) قبيح السيرة والصورة.

(٣) يقال: هَدَر الحمام إذا قرقر وكرّر صوته في حنجرته.

٢٩٦

كونها غير ذوات مفهوم، فصارت بمنزلة هدير الحمام، ليس فيه سوى ترجيع أصوات متشاكلة (١) .

فواتح السور وخواتيمها

لا شكّ أن أدب الكلام هو بمَطالعه ومقاطعه، والناطق المفوّه مَن أجاد الورود في مقصوده والتخلّص عنه، وهو من أركان شرط البلاغة التي بها تُعرف مقدرة المتكلّم البليغ في حسن التوفية ولطف التعبير.

ذكر ابن الأثير للكتابة شرائط وأركاناً، أمّا الشرائط فكثيرة - أودعها ضمن تأليفه (المَثَل السائر) - وأمّا الأركان التي لابدّ من إبداعها في كل كتاب بلاغي ذي شأن فخمسة، أحدها - وهو الركن الأول - أن يكون مطلع الكتاب عليه جِدَّة ورشاقة، فإنّ الكاتب من أجاد المطلع والمقطع. أو يكون مبنيّاً على مقصد الكتاب (٢) ، قال: ولهذا باب يُسمّى باب (المبادئ والافتتاحات) والركن الآخر - وهو الثالث - أن يكون خروج الكاتب من معنى إلى معنى برابطة لتكون رقاب المعاني آخذة بعضها ببعض، ولا تكون إلاّ متقضبة؛ ولذلك باب يُسمّى باب (التخلّص والاقتضاب) (٣) .

____________________

(١) النكت في إعجاز القرآن: ص٩٧ - ٩٨.

(٢) ويُسمّى ذلك (براعة الاستهلال)، وذكره ابن الأثير في النوع الثاني والعشرين، في (المبادئ والافتتاحات: ج٣ ص٩٦) قال: وحقيقة هذا النوع أن يجعل مطلع الكلام دالاً على ذات المقصود منه والجهة التي يريدها المتكلّم بكلامه.

وذكره ابن معصوم بعنوان: (حُسن الابتداء وبراعة الاستهلال) في (أنوار الربيع: ج١ ص٣٤).

(٣) ذكره ابن الأثير في النوع الثالث والعشرين (ج٣ ص١٢١) قال: أمّا التخلص فهو أن يأخذ المتكلّم في معنىً من المعاني، فبينا هو فيه إذ أخذ في معنى آخر غيره، وجعل الأوّل سبباً إليه، فيكون بعضه آخذاً برقاب بعض، من غير أن يقطع كلامه ويستأنف كلاماً آخر، بل يكون =

٢٩٧

قال أهل البيان: من البلاغة حسن الابتداء، ويُسمّى (براعة المطلع)، وهو أن يتأنّق المتكلّم في أول كلامه، ويأتي بأعذب الألفاظ وأجزلها وأرقّها وأسلسها وأحسنها نظماً وسبكاً، وأصحّها مبنىً، وأوضحها معنىً، وأخلاها من الحشو والركّة والتعقيد، والتقديم والتأخير الملبّس والذي لا يناسب.

قالوا: وقد أتت جميع فواتح السور من القرآن المجيد على أحسن الوجوه وأبلغها وأكملها، كالتحميدات وحروف الهجاء والنداء وغير ذلك (١) .

قال ابن الأثير: وحقيقة هذا الركن البلاغي أن يجعل مطلع الكلام دالاً على المعنى المقصود منه، إن كان فتحاً ففتحاً، وإن كان هناءً فهناء، أو عزاءً فعزاء، وكذلك في سائر المعاني.

قال: وهذا يرجع إلى أدب النفس لا إلى أدب الدرس، ولهذا عيب على كثير من الشعراء والخطباء، زلّتهم في هذا المقام (٢) .

قال: وإنّما خصّت الابتداءات بالاختيار لأنّها أول ما يطرق السمع من الكلام، فإذا كان الابتداء لائقاً بالمعنى الوارد بعده توفّرت الدواعي على استماعه.

قال: ويكفيك من هذا الباب الابتداءات الواردة في القرآن الكريم، كالتحميدات المفتتح بها أوائل السور (منها المسبّحات). وكذلك الابتداءات بالنداء في مثل قوله (٣) ، فإنّ عموم الخطاب ينمّ عن رعاية وعناية بالغة بشأن المخاطبين جميعاً، ولا سيّما

____________________

= جميع كلامه كأنّما أفرغ إفراغاً، وأمّا الاقتضاب فهو أن يقطع كلامه ويستأنف كلاماً آخر، ولا يكون بينهما علاقة في ظاهر الأمر، وهو مذهب من مذاهب العرب فيه طرافة وظرافة، وسنأتي على كلّ من القسمين في مبحث (حسن الختام) ص ٣٢٠ إن شاء الله.

(١) قاله ابن معصوم في أنوار الربيع: ج١ ص٣٤.

(٢) راجع ما ذكره من معايب الشعراء القدامى والمحدثين في هذا الباب، وكذلك ما أخذه ابن معصوم على مطلع قصيدة امرؤ القيس، وقد ذكرنا شطراً منه فيما سبق في حقل المقارنات، راجع ص ١٧٤.

(٣) النساء: ١.

٢٩٨

جاء تعقيبه بربّ الجميع الذي أفاض عليهم نعمة الوجود ومنَحهم الحياة وأنشأهم من أصل واحد، لا ميز بينهم في أصل ولا نسب، فما أبرعه من خطاب جلل فخم، يسترعي انتباه عامّة الخلائق في هذا الشمول والعموم.

وكذلك قوله تعالى: ( يَا أَيّهَا النّاسُ اتّقُوا رَبّكُمْ إِنّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ شَيْ‏ءٌ عَظِيمٌ ) (١) فإنّ هذا الابتداء المقترن بالتنبيه على خطورة أمر الانتهاء ممّا يسترعي الانتباه ويُوقظ السامعين للإصغاء إليه بكل وجودهم.

قال: وكذلك الابتداءات بالحروف المقطّعة في مثل قوله: (طس) و(حم) و(الم) و(ق) و(ن) وغيرهنّ ممّا يبعث على الاستماع إليه؛ لأنّه يقرع السمع شيءٌ غريب، ليس بمثله عادة، فيكون سبباً للتطلّع نحوه والإصغاء إليه.

ثمّ أخذ في بيان ما استقبح من الابتداءات أقوال الشعراء (٢) .

المبادئ والافتتاحات

في كلام الله تعالى

ولنبدأ بفاتحة الكتاب، وهي أُمّ الكتاب، وعِدل القرآن، وقد استهلّ المصحف الشريف بها؛ لاحتوائها على أُمّهات مقاصد القرآن الكريم وأُصول برامجه في الدعاء إلى الله والانقطاع إليه؛ ومِن ثَمّ عَدلت بالقرآن العظيم: ( وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) (٣) .

إنّها اشتملت على أُصول المعارف الخمسة:

١ - عرفان ذاته المقدّسة وصفاته الجمال والجلال ؛ لأنّه الحقيق بالحمد كله، الكافل لتربية عوالم الغيب والشهود، ذو الرحمة الواسعة، والعناية البالغة بعباده المؤمنين: ( الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ * الرّحمنِ الرّحيمِ ) .

____________________

(١) الحج: ١.

(٢) المَثَل السائر: ج٣ ص٩٨.

(٣) الحجر: ٨٧.

٢٩٩

٢ - العقيدة بيوم الحساب ، وأنّه إليه تعالى المنتهى، وبيده أَزِمَة الأُمور، كلٌّ إليه راجعون ( مالكِ يَومِ الدِّينِ ) .

٣ - وأن لا معبود سواه ، ولا ملجأ إلاّ إليه، هي روح العبادة وخلوص العبودية: ( إيّاك نعبدُ وإيّاك نستعينُ ) .

٤ - ثمّ الإيمان برسالة الله إلى الخلق أجمعين ، وأنّ الأنبياء (عليهم السلام) هم الطرق إلى الله والوسائل لديه، فعرفان طريقتهم هو عرفان الحقّ والمنتهى إلى الحق: ( اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) .

٥ - وأخيراً، فإنّ العناية بأحوال الأُمّم عِبرة للمعتبرينَ ، فيُجتَنب طرائقهم الاستغوائية المنتهية إلى الضلال وغضب الرحمن: ( غيرِ المَغضوبِ عليهم ولا الضالّينَ ) .

قال ابن معصوم: فقد نبّه في الفاتحة على جميع مقاصد القرآن، وهذا هو الغاية في براعة الاستهلال، مع ما اشتملت عليه من الألفاظ الحسنة، والمقاطع المستحسنة، وأنواع البلاغة.

وهكذا أوّل ما اُنزل من القرآن:

قال: وكذلك أول سورة اقرأ (خمس آيات من أوّلها) فإنّها مشتملة على نظير ما اشتملت عليه الفاتحة من براعة الاستهلال؛ لكونها أَوّل ما اُنزل من القرآن، فإنّ فيها الأَمر بالقراءة، والبدء فيها باسم الله، وفيها الإشارة إلى علم الأحكام، وفيها ما يتعلّق بتوحيد الله وإثبات ذاته وصفاته، من صفة ذات، وصفة فعل، وفي هذا إشارة إلى أُصول الدِين، وفيها ما يتعلّق بالإخبار من قوله ( عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) ولهذا قيل: إنّها جديرة أن تُسمّى (عنوان القرآن)؛ لأنّ عنوان الكتاب يجمع مقاصده بعبارة وجيزة في أوّله (١) .

____________________

(١) أنوار الربيع لابن معصوم: ج١ ص٥٥.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579