تلخيص التمهيد الجزء ٢

تلخيص التمهيد10%

تلخيص التمهيد مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 579

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 103991 / تحميل: 10585
الحجم الحجم الحجم
تلخيص التمهيد

تلخيص التمهيد الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

المشبّه به، فقد أدّى التشبيه كلّ هذه المعاني بأوجز بيان ممكن، فجمع إلى فضيلة البيان فضيلة الإيجاز والمبالغة والإيفاء.

قال: إلاّ أنّه من بين أنواع علم البيان مُستوعر المذهب، وهو مقتل من مقاتل البلاغة؛ لأنّ حمل الشيء على الشيء بالمماثلة، إمّا صورة أو في خفايا المعنى، ممّا يعزّ صوابه وتعسر الإجادة فيه، وقلّما أكثر منه أحد إلاّ عثر، وخاض في عبابه إلاّ غرق، فكم من أُدباء وبلغاء أكثروا منه إلاّ زلّوا، وخاضوا لُججه إلاّ عاثوا وماثوا، كما فعل ابن المعتزّ من أُدباء العراق، وابن وكيع من أُدباء مصر، إنّهما أكثرا من ذلك، فلا جَرم أنّهما أتيا بالغثّ البارد الذي لا يثبت على محكّ الصواب (١) .

والتشبيه الذي نبحث عنه لا يخصّ ما كان تشبيهاً بالتصريح، وإنّما يعمّ التشبيه المضمر في أنواع الاستعارة والتمثيل وغيرهما ممّا هو محطّ بلاغة الكلام.

* * *

والغرض من التشبيه لا يُحصر في عدّ، حسبما يأتي في كلام الجرجاني، وإنّما فائدته العامّة هي: أنّك إذا شبّهت شيئاً بآخر فإنّما تقصد إلى تخييل صورة في النفس تشبه صورة المشبّه به من حظّ الحسن أو القبح في النفوس، وهذا يوجب رفعة شأن المشبّه أو ضعته، تحسينه أو تقبيحه، على درجة قوة أداة التصوير في مقام التشبيه، الأمر الذي يرتبط وقدرة المتكلّم في حسن الأداء والإجادة في البيان.

قال السكاكي: والغرض من التشبيه يعود في الأغلب إلى المشبّه؛ إمّا لبيان إمكانه، كقول أبي الطيّب:

فإن تفُق الأنامَ وأنت منهم

فإنّ المِسكَ بعضُ دمِ الغزالِ

فإنّه لمّا أراد تفضيل الممدوح على سائر الناس، مع أنّه من جنسهم، فقد أوهم أنّه من نوع أشرف، فكان كالممتنع؛ ومِن ثَمّ حاول بيان إمكانه بالتشبيه المذكور.

____________________

(١) المَثَل السائر: ج٢ ص١٢٣.

٣٢١

وقد يكون لبيان حاله بوصفٍ خاص، كما وصف تعالى الهلال بعد خروجه من المحاق، بتشبيهه بالعرجون ( وَالْقَمَرَ قَدّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتّى‏ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ) (١) .

أو لبيان المقدار في شدّته وخفته، كما جاء في وصف قلوب أهل الغيّ والعناد ( فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ) (٢) .

أو لتقرير حالة المشبّه في الفظاعة وفضح الحال، أو في الكرامة وشرف المآل، وهذا مِن أهمّ أنواع التشبيه وأفضله، وهو: أن يعمد المتكلّم إلى ذكر خصوصيات مشهودة في المشبّه به في جميع أبعادها وجزئيّاتها القابلة للتصوير، ليُقاس عليها حالة المشبّه السيّئة أو الحسنة، فتبدو كالمحسوس الممسوس باليد والمشاهد بالعيان، وهذا من أكثر التشبيه في القرآن، وسنذكر أمثلتها.

فهذه أنواع أربعة من التشبيه البليغ، ذكرهنّ السكاكي (٣) .

قال التفتازاني: يجب في النوع الأوّل أن يكون المشبّه به في وجه الشبه أشهر، ليصحّ القياس عليه وجعله دليلاً على الإمكان، وفي النوع الثاني أن يكون وجه الشبه فيه أبين، وكذا في النوع الثالث، أمّا النوع الرابع: فيجب أن يكون الوجه فيه أتمّ وهو به أشهر، لأنّ النفس إلى الأتمّ الأشهر أميل، فكان التشبيه به لزيادة التقرير وقوّة البيان أجدر (٤) .

* * *

وقد ذكروا من أغراض التشبيه: تحسين حال المشبّه وتزيينه، أو تهجينه وتقبيحه، أو التنفير منه أو الاستعطاف عليه، أو الاستطراف، ونحو ذلك ممّا فصّله أئمة البيان.

فمِن التشبيه لغرض التزيين ما وصف به الشاعر عشيقته السوداء، يشبه

____________________

(١) يس: ٣٩.

(٢) البقرة: ٧٤.

(٣) مفتاح العلوم: ص١٦٢.

(٤) المطوّل: ص٣٣٢.

٣٢٢

سوادها بسواد المسك المستحسن، كلّما ازداد سواده ازدادت مرغوبيته، قال:

يقولون ليلى سودةٌ حبشيةٌ

ولولا سوادُ المِسكِ ما كان غاليا

ومن التشبيه للتهجين تشبيه وجه مجدّر بسُلَحة يابسة قد نقرتها الدِيَكة، وهو غاية في تشويه صورته والتهجين بشأنه.

وهكذا قولهم بشأن عادم الصفات الكريمة وهو يفتخر بمكارم الآباء: (العنّين يفتخر بذكر أبيه) وهو من ألذع أنحاء التهجين.

ومن الاستطراف - وهو إبداء الشيء طريفاً وبديعاً عديم النظير - قول أبي العتاهية يصف ورد البنفسج في زهوه وجماله:

ولا زَوَرديّة تزهو بزُرقَتِها

بين الرياضِ على حُمر اليواقيتِ

كأنّها فوقَ قامات ضَعفنَ بها

أوائلُ النارِ في أطرافِ كبريتِ

وقول الآخر - هو الصنوبري - يصف الشقايق الحُمر في تصوّبها وتصعّدها:

وكأنّ محمرَّ الشقيق إذا تصوّب أو تصعّد

أعلامُ ياقوتٍ نُشرنَ على رماحٍ مِن زَبرجَدِ

وهو من طريف التشبيه الذي يكسو فنّ التصوير حلّةَ الحركة والحياة، فيزداد بهاءً وجمالاً!

* * *

اعترف أهل البيان بأنّ تشبيهات القرآن أمتن التشبيهات الواقعة في فصيح الكلام، وأجمعهنّ لمحاسن البديع، وأوفاهنّ بدقائق التصوير.

مثّل ابن الأثير لتشبيه المفرد بالمفرد بقوله تعالى: ( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً ) (١) فإنّه شبّه الليل باللباس؛ وذاك أنّه يستر الناس بعضهم عن بعض، مَن أراد هرباً مِن عدوّ، أو ثباتاً لعدوّ، أو إخفاء مالا يُحبّ الاطّلاع عليه من أمره.

قال: وهذا من التشبيهات لم يأتِ بها إلاّ القرآن الكريم، فإنّ تشبيه الليل باللباس ممّا احتفى به دون غيره من الكلام المنثور والمنظوم.

____________________

(١) النبأ: ١٠.

٣٢٣

وكذلك قوله تعالى: ( هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ) (١) فشبّه المرأة باللباس للرجل، وشبّه الرجل باللباس للمرأة (٢) .

وهذا من لطيف التشبيه، كما أنّ اللباس زينة للمرء وساتر لعورته وحافظ له عن التعرّض للأخطار، كذلك زوج المرء يزيّنه ويستر عوراته ويقيه من مزالق الأدناس، فما أجمل هذا التشبيه وأدقّه من تعبير!

قال: ومن محاسن التشبيه قوله تعالى: ( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ ) (٣) ، وهذا يكاد ينقله تناسبه عن درجة المجاز إلى الحقيقة. والحرث هو الأرض التي تُحرث للزرع، وكذلك الرحم يُزدرع فيه الولد ازدراعاً كما يُزدرع البذر في الأرض.

ومن هذا الأُسلوب قوله تعالى: ( وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ ) (٤) فشبّه تبرّء الليل من النهار بانسلاخ الجلد عن الجسم المسلوخ؛ وذلك أنّه لما كانت هوادي الصبح (٥) عند طلوعه ملتحمة بأعجاز الليل أجرى عليهما اسم السلخ، وكان ذلك أولى من أن لو قيل (يخرج)؛ لأنّ السلخ أدلّ على الالتحام من الإخراج، وهذا تشبيه في غاية المناسبة.

وكذلك ورد قوله تعالى: ( وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ) (٦) فشبّه انتشار الشيب باشتعال النار، ولمّا كان الشيب يأخذ في الرأس ويسعى فيه شيئاً فشيئاً حتى يُحيله إلى غير لونه الأَوّل كان بمنزلة النار التي تشتعل في الجسم وتسري فيه، حتى يُحيله إلى غير حاله الأوّلي.

وأحسن من هذا أن يقال: إنّه شبّه انتشار الشيب باشتعال النار في سرعة التهابه، وتعذّر تلافيه، وفي عظم الألم في القلب به، وأنّه لم يبقَ بعده إلاّ الخمود! فهذه أوصاف أربعة جامعة بين المشبّه والمشبّه به، وذلك في الغاية القصوى من

____________________

(١) البقرة: ١٨٧.

(٢) المَثل السائر: ج٢ ص١٣٣.

(٣) البقرة: ٢٢٣.

(٤) يس: ٣٧.

(٥) الهوادي: المقادم.

(٦) مريم: ٤.

٣٢٤

التناسب والتلاؤم (١) .

وقيل من شرط بلاغة التشبيه أن يُشبّه الشيء بما هو أفخم وأروع منه؛ ومِن هنا غلط بعض الكتّاب من أهل مصر في ذِكر حصن من حصون الجبال مشبّهاً له، فقال: (هامةٌ، عليها من الغَمَامَة، وأنملة خضبها الأصيل، فكان الهلال منها قُلامَة).

قال ابن الأثير، وهذا الكاتب حفظ شيئاً وغابت عنه أشياء!! فإنّه أخطأ في قوله (أنملة) وأيّ مقدار للأنملة بالنسبة إلى تشبيه حصن على رأس جبل؟ وأصاب في المناسبة بين ذكر الأنملة والقُلامَة، وتشبيهها بالهلال.

فإن قيل: إنّ هذا الكاتب تأسّى فيما ذكر بكلام الله تعالى حيث قال: ( اللّهُ نُورُ السّماوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ) (٢) ، فمثّل نوره بطاقة فيها ذُبَالة (٣) .

وقال الله تعالى: ( وَالْقَمَرَ قَدّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتّى‏ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ) (٤) فمثّل الهلال بأصل عِذق النخلة.

فالجواب عن ذلك أنّي أقول: أمّا تمثيل نور الله تعالى بمشكاة فيها مصباح، فانّ هذا مثال ضربه للنبي (صلّى الله عليه وآله)، ويدلّ عليه أنّه قال: ( يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) ، وإذا نظرت إلى هذا الموضع وجدته تشبيهاً لطيفاً، عجيباً، وذاك أنّ قلب النبي (صلّى الله عليه وآله) وما اُلقي فيه من النور، وما هو عليه من الصفة الشفّافة، كالزجاجة التي كأنّها كوكب بصفائها وإضاءتها.

وأمّا الشجرة المباركة التي لا شرقيةٍ ولا غربية، فإنّها عبارة عن ذات النبي (صلّى الله عليه وآله)؛ لأنّه من أرض الحجاز التي لا تميل إلى الشرق ولا إلى الغرب.

____________________

(١) المَثل السائر: ج٢ ص١٣٣ - ١٣٥.

(٢) النور: ٣٥.

(٣) الطاقة: سقيفة لها طوق هلالي. والذُّبالة: الفتيلة.

(٤) يس: ٣٩.

٣٢٥

وأمّا زيت هذه الزجاجة، فإنّه مضيء من غير أن تمسه نار، والمراد بذلك أنّ فطرته فطرة صافية من الأكدار، منيرة من قبل مصافحة الأنوار.

فهذا هو المراد بالتشبيه الذي ورد في هذه الآية.

وأمّا الآية الأُخرى فإنّه شُبّه الهلال فيها بالعرجون القديم، وذلك في هيئة نحوله واستدارته، لا في مقداره، فإنّ مقدار الهلال عظيم، ولا نسبة للعرجون إليه، لكنّه في مرأى النظر كالعرجون هيئةً لا مقداراً.

وأمّا هذا الكاتب فإنّ تشبيهه ليس على هذا النسق؛ لأنّه شَبّه فيه صورة الحِصن بأنملة في المقدار لا في الهيئة والشكل.

وهذا غير حسن ولا مناسب، وإنّما ألقاه فيه أنّه قصد الهلال والقُلامة مع ذِكر الأنملة فأخطأ من جهة، وأصاب من جهة، لكن خطأه غطّى على صوابه (١) .

أنواع التشبيه:

١ - إمّا تشبيه معنىً بمعنى ، كما في تشبيه الصفات والأحوال، كقولنا: زيد كالأسد، وهو من التشبيه المتعارف.

٢ - أو تشبيه صورة بصورة ، كما في تشبيه منظر مشهود بآخر مثله في الحُسن، والجمال، قال تعالى: ( وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطّرْفِ عِينٌ * كَأَنّهُنّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ) (٢) .

٣ - أو تشبيه معنىً بصورة ، فيما إذا أُريد تجسيد معنىً ذهني أو جسيم حالة نفسية تصويراً فنّياً مخلعاً عليه ثوب والحياة، وهذا من أبلغ أنواع التشبيه وأروعها، ويُسمّى عندهم بالتمثيل، وقد أكثر منه القرآن الكريم، حيث وفاؤه بمقاصده العليّة في خطابه وبيانه ودعوته إلى الحقّ الصريح، وستوافيك أمثلة منه بارعة، تُغنيك دليلاً على أنّ (التصوير الفنّي) كانت هي الأداة المفضّلة في أُسلوب القرآن.

____________________

(١) المَثل السائر: ج٢ ص١٢٦ - ١٢٨.

(٢) الصافّات: ٤٨ و٤٩.

٣٢٦

من ذلك قوله تعالى: ( وَالّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظّمْآنُ مَاءً حَتّى‏ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللّهَ عِندَهُ فَوَفّاهُ حِسَابَهُ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجّيّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراهَا وَمَن لّمْ يَجْعَلِ اللّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ ) (١) وسيأتي شرح الآيتين.

٤ - أو تشبيه صورة بمعنى، وكان ألطف الأنواع؛ لأنّه نقل صورة مشهودة إلى الخيال آخذاً طريقه إلى الأوهام، فإن أُجيد في ذلك كان بديعاً، ويُنبئك عن دقّةٍ ومهارةٍ، وهو فنّ من فنون التخييل.

ومثّل له ابن الأثير بقول أبي تمّام:

وفتَكتَ بالمالِ الجزيلِ وبالعِدا

فتكَ الصَبابَة بالمحبِّ المُغرَمِ

حيث شبّه فتكه بالمال وبالعِدا - وذلك صورة مرئية - بفتك الصبابة وهو فتك معنوي (٢) وفتك المال كناية عن بذله وتفريقه بين المحاويج. والصَبابَة: الشوق ورقّة الهوى.

ومثاله من القرآن قوله تعالى: ( إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ) (٣) فقد شبّه فورَان الماء وخروجه عن حدّ الاعتدال، بحالة التكبّر والاستعلاء الذي يجعل الإنسان عاتياً وخارجاً على القوانين والحدود والأعراف، فالطغيان - وهو التكبّر والاستعلاء من غير حق - أمرٌ معنوي، وقد شُبّه به فوران الماء وهو أمرٌ محسوس.

وهكذا قوله تعالى: ( وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ) (٤) .

والعتوّ - وهو التكبّر - من الأُمور المعقولة، استُعير هنا للريح، وهي محسوسة، والجامع بينهما - في كلتا الآيتين - هو الإضرار الخارج عن حدّ العادة (٥) .

____________________

(١) النور ٣٩ و٤٠.

(٢) المَثل السائر: ج٢ ص١٣٠.

(٣) الحاقة: ١١.

(٤) الحاقة: ٦.

(٥) الطراز للأمير العلوي: ج٣، ٣٣٩.

٣٢٧

تعبير بلفظ أم إفاضة بحياة؟

ميزة قرآنية أُخرى جاءت في تعابيره المفيضة بالحياة، وتلك طريقته الفنّية في تصويره لمباهج هذا الكون، لا تمسّ ريشة تعبيره جامداً إلاّ نَبَض بالحياة، ولا يُصيب قلم تحبيره هامداً إلاّ انتفض بالتحرّك والهياج، كأنّما العالم كله في لوحة تصاويره، أحياء غير أموات، والمظاهر كلها حركات لا هدوء ولا خمول، هكذا يفعل القرآن في منطقه الساحر، ويُصوّر من عالم الوجود في بيانه الباهر، كل شيء حي، وكل شيء دائب في الحركة مستوٍ في طريقه نحو الكمال، تلك قدرته الفنّية في بيانه وفي إبداعه في فنون التصوير، يخلع عليها الحركة والحياة، ولم يعهد للعرب نظيره، وقد حاز قصبَ السبق في مضماره.

* هذا هو الفجر ينبثق في مطلعه، لكنّه في القرآن: ( وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ) (١) ، هذا هو الجديد في تعبير القرآن: الصبح حيّ يتنفّس، أنفاسه الإشعاع والنور والضياء، وإفاضته الحركة والحياة، حركة تدبّ معها كل حيّ عند الصباح.

قال سيّد قطب: وتكاد اللغة العربية بكل مأثوراتها التعبيرية لا تحتوي نظيراً لهذا التعبير عن الصبح (٢) وتكاد رؤية الفجر تُشعر القلب المتفتّح أنّه بالفعل يتنفّس؛ لأنّ الصبح إذا أقبل أقبل بإقباله روح ونسيم، كالمحتصر إذا زال غمّه يتنفّس الصُّعداء، وقد كلّ اللسان عن النطق بها، نعم يتنفّس الصبح تنفّس الأحياء ويصعد بأنفاسه، هي أنواره نحو آفاق السماء.

* وهذا هو الليل له عسعسة أي حركة إلى الوراء لها صوت ( وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ) (٣) أي أدبر وأخذ في التراجع إلى الوراء، كأنّه يأخذ في الانهزام والتراجع إلى الخلف أمام هجمة أضواء النهار، انظر إلى هذين المقطعين (عس،

____________________

(١) التكوير: ١٨.

(٢) في ظِلال القرآن: ج٨ ص٤٨٢.

(٣) التكوير: ١٧.

٣٢٨

عس) من كلمة (عسعس) كيف يُوحيان بحركة حثيثة ومنتظمة، لها حسيس، وكأنّه من أثر اصطكاك أرجلها الثقيلة مع الحسائك المُتيبّسة ولا سيّما في مثل ظلام الليل.

* ومثله ( وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ) (١) وكأنّ الليل يُولّي مدبراً منهزماً تجاه أسفار الصباح، ودقيقة أُخرى: الفرق بين (إذ) في التعبيرين، وهو توقيت دبور الليل بوقت إسفار الصباح، وهكذا الليل لا يطيق النظر إلى وجه الصباح عند إسفاره.

* وهكذا الليل يسري ( وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ) (٢) ... يقال: سرى يسري إذا سار في الليل، وهو أفضل المسير أيام القرّ، ترافقه نفحة ونسيم، لكن في تعبير القرآن كأنّ الليل هو الساري، وهو آن من آنات الزمان، يتّخذ مسيره في هدوء وهينة واتّئاد، وكأنّه ساهر يجول في ظلام، أو مسافر يختار السري لرحلته هذه في الفضاء، يا له من أناقة في التعبير، ورقّة ولطف، أضف إليه جمال تناسقه ونغمه مع ( والفجرِ * وليالٍ عَشر * والشفعِ والوترِ ) .

* وكذلك الليل يطلب النهار طلباً حثيثاً ( يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً ) (٣) وكأنّهما فَرسا سباق يتعاقبان، لكنّ الليل سائر خلف النهار وفي أثره سيراً حثيثاً سريعاً لا وقفة فيه ولا فتور، وهل يطلبه ليفتك به والنهار شارد أمامه يخشى فتكه؟! حتى إذا ما وقعت حبائل الليل عليه حصره وأحاطه، وإذا الدنيا كلّها ظلام.

* والجدار بنية جامدة كالجلمود، لكنّه في تعبير القرآن صاحب حسّ وإرادة وعقل؛ لأنّه يريد أن ينقضّ ( فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ) (٤) .

* والجبال، وهي على الأرض يُسار بها مع الأرض، لكنّها في تعبير القرآن هي التي تجتاز الفضاء وتمرّ مرّ السحاب، رغم أنّك تحسبها جامدة أي واقفة لا

____________________

(١) المدّثر: ٣٣ - ٣٤.

(٢) الفجر: ٤.

(٣) الأعراف: ٥٤.

(٤) الكهف: ٧٧.

٣٢٩

حراك فيها: ( وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرّ مَرّ السّحَابِ ) (١) .

* والسماوات والأرض تحسبها جوامد، لكنّها تنطق وتُسبّح في منطق القرآن: ( تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ ) (٢) .

* والرعد، صوت البرق يحصل من خرق في طبقات الجوّ، لكن له دمدمة وزمزمة وتسبيح ( وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ ) (٣) .

* وهكذا الجبال يُرافقنَ الأنبياء في الحمد والتسبيح ( وَسَخّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبّحْنَ ) (٤) ( إِنّا سَخّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبّحْنَ بِالْعَشِيّ وَالإِشْرَاقِ ) (٥) .

* بل وكان لها (٦) عقل واختيار؛ ومِن ثَمّ فإنّها تقع تحت تكليف واختيار ( فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) (٧) .

* وفوق ذلك فإنّ لها حقّ الرفض أو القبول فيها إذا عُرضت عليها مشاقّ التكاليف (٨) .

* وهذه جهنم تتكلّم وتنطق عن نَهمها وجشعها، وفوق ذلك فهي ترى وتدعو مَن أدبر وتولّى، فتغيظ عليهم وتكاد تتميّز من الغيظ، ولها زفير وشهيق.

( يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَزِيدٍ... ) (٩) .

( إِنّهَا لَظَى‏ * نَزّاعَةً لِلشّوَى * تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلّى...‏ ) (١٠) .

( إِذَا رَأَتْهُم مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيّظاً وَزَفِيراً ) (١١) .

( إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيّزُ مِنَ الْغَيْظِ ) (١٢) .

____________________

(١) النمل: ٨٨.

(٢) الإسراء: ٤٤.

(٣) الرعد: ١٣.

(٤) الأنبياء: ٧٩.

(٥) ص: ١٨.

(٦) أي للسماوات والأرض.

(٧) فصّلت: ١١.

(٨) الأحزاب: ٧٢.

(٩) ق: ٣٠.

(١٠) المعارج: ١٥ - ١٧.

(١١) الفرقان: ١٢.

(١٢) الملك: ٧ و٨.

٣٣٠

* وهذه الشمس وهذا القمر كوكبان، الشمس تَشغل مركزية المنظومة وهي تجري لمستقرٍّ لها، وتجرّ معها أبناءها وبناتها، وهم يدورون حولها، والقمر يدور حول الأرض التي هي بدورها تدور حول الشمس، لكنّهما بظاهر المشاهدة الحسّية يدوران حول الأرض عند رؤية العين المجرّدة، كأنَهما يتلاحقان، كما أنّ الليل والنهار يتسابقان على سطح الأرض، هذا من طرف وهذا من جانب، لكن (١) كأنّ عَرْصة الفضاء ساحة المسابقة، والسبّاق هم: الشمس والقمر والليل والنهار، فساحة الكون كلّه عَرْصة السباق، والفضاء جميعه تسابق وتنافس وحركة وحياة... ( صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ) (٢) .

* * *

* وأعجب من ذلك أنّه يُصوّر من حالة الغضب - وهي صفة نفسانية - إنساناً صاحب شعور وإدراك رقيق، قد يثور ويفور غيظه ثمّ يهدأ ويسكن غضبه، وقد جاء في التعبير القرآني عن هذا الثَوَران بإلقاء الوساوس والإغراء بالأخطار، وعن ذاك الهدوء بالسكوت والإمساك عن الكلام.

قال الزمخشري - عند تفسير قوله تعالى: ( وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ ) (٣) -: كأنّ الغضب كان يُغريه على فعل ما فعل، ويقول له: قل لقومك كذا، وألقِ بالألواح، وجرّ برأس أخيك إليك، هكذا كان يهمس في أُذُنه ويُلقي في روعه، فكأنّ موسى يفعل ما يفعل بإغرائه وتحريضه، حتّى إذا ما سكت الغضب عن الكلام وأمسك بلسانه ترك موسى وشأنه وقطع الإغراء.

قال: ولم يَستحسن هذه الكلمة ولم يَستفصحها كلّ ذي طبع سليم وذوق صحيح إلاّ لذلك؛ ولأنّه من قبيل شُعب البلاغة، وإلاّ فما لقراءة معاوية بن قرة:

____________________

(١) يس: ٤٠.

(٢) النمل: ٨٨.

(٣) الأعراف: ١٥٤.

٣٣١

( وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ ) لا تجد النفس عندها شيئاً من تلك الهزّة وطرفاً من تلك الروعة (١) .

التصوير الفنّي في القرآن

التصوير - وهو تجسيد المعاني - هي الأداة المفضّلة في أُسلوب القرآن، فهو يُعبّر بالصورة المتمثلة عن معنىً ذهني أو حالة نفسية، أو عن حوادث غابرة أو مشاهد آتية، أو عن نموذج إنساني وغرائزه وتصرّفاته في هذه الحياة، فكأنّما هي صورة شاخصة، وهيئة مشهودة، ثمّ يرتقي بالصورة التي يرسمها فيمنحها الحياة ويفيض عليها الحركة، فإذا ما أضاف إليها الحوار فقد استوت لها كل عناصر التجسيد، فما يكاد يبدأ العرض حتى يُحيل المستمعين نُظارة، وحتى ينقلهم نقلاً إلى مسرح الحوادث فيُشرفهم عليها، حيث تتوالى المناظر وتتجدّد الحركات... وحتى ينسى المستمع أنّ هذا كلامٌ يُتلى أو مثلٌ يُضرب، وإنّما يتخيّل أنّه حاضر المشهد بمرأى منه ومسمع، ومِن ثَمّ ترتسم في نفسه سِمات الانفعال بشتّى الوجدانات المنبعثة من مُشاهدة المنظر، المتساوقة مع الحوادث.

نعم إنّها الحياة هنا، وليست حكاية حياة، فإذا كانت الألفاظ - وهي كلمات جامدة وتعابير هامدة، وليست بألوان تصوير وأرياش تحبير - هي التي تُصوّر من المعنى الذهني نموذجاً إنسانيّاً، ومن الحادث المرويّ أو الحالة النفسية لوحةً مشهودةً أو منظراً مشهوداً، أدركنا بعض أسرار الإعجاز في تعبير القرآن (٢) .

قال السيد رشيد رضا: وهذا النوع من التشبيه - وهو إبراز المعاني في صورة التمثيل - نادر فذّ بديع، ويقلّ في كلام البلغاء، لكنّه كثير وافر في القرآن العزيز (٣) .

____________________

(١) الكشّاف: ج٢ ص١٦٣.

(٢) سيد قطب في تصويره الفني: ص٢٩.

(٣) هامش أسرار البلاغة: ص٩٢.

٣٣٢

وقلّما يوجد في سائر الكلام تشبيه غير معيب، وقد عقد ابن الأثير باباً ذكر فيه معايب التشبيه الواقع في كلام البلغاء؛ لقصورهم عن الإحاطة بجوانب فنّ التصوير، هذا أبو تمّام - الشاعر المفلّق - يُريد أن يصف السخاء فيجسّده في صورة ذي حياة، فيجعل له رَوثاً وفَرثاً ممّا تأباه طبيعة السخاء المترفّع عن الأدناس، قال في قصيدة يمدح بها أبا سعيد كرمه وجوده:

وتقاسمَ الناسُ السخاءَ مجزّأً

وذهبتَ أنتَ برأسهِ وسَنامِهِ

وتركتَ للناسِ الإهابَ وما بقي

مِن فَرثِه وعروقِه وعظامِه

قال ابن الأثير: والقبح الفاحش في البيت الثاني، وكل هذا التعسّف في التشبيه البعيد دندندة (١) حول معنى ليس بطائل، فإنّ غرضه أن يقول: ذهب بالأعلى وترك للناس الأدنى، أو أذهبت بالجيّد وتركت للناس الرديّ (٢) .

نعم إنّه صَوّر من السخاء حيواناً له رأس وسنام، وهذا لا عيب فيه، إنّما العيب في جعل الإهاب والفرث - وهو السرجين داخل الكرش - له، الأمر الذي تتجافاه سجية السخاء التي هي مكرمة خالصة.

فوائد التمثيل:

والتجسيد الفنّي يُسمّى عندهم بالتمثيل، وكان من أروع أنواع التشبيه، ذو فوائد وحِكم شتّى ذكرها أرباب البيان:

قال الشيخ عبد القاهر الجرجاني: اتّفق العقلاء على أنّ التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني أو برزت هي باختصار في معرضه، ونُقلت عن صورها الأصلية إلى صورة التمثيل، كساها أُبّهة، وكسبها منقبةً، ورفع من أقدارها، وشبّ من نارها، وضاعف قُواها في تحريك النفوس لها، ودعا القلب إليها، واستنار لها من أقاصي

____________________

(١) الدندنة: طنين الذباب.

(٢) المَثل السائر: ج٢ ص١٥٤.

٣٣٣

الأفئدة صبابة وكلفاً، وقَسَر الطباع على أن تعطيها محبةً وشغفاً.

ثمّ جعل يُعدّد فوائده في أنواع الكلام، مدحاً أو ذمّاً، حجاباً أو فَخاراً أو اعتذاراً، أو وعظاً وإرشاداً، ونحو ذلك، قال:

فإن كان مدحاً كان أبهى وأفخم، وأنبل في النفوس وأعظم، وأهزّ للعطف، وأسرع للأُلف، وأجلب للفرح، وأغلب على الممتدح، وأوجب شفاعة للمادح، وأقضى له بغُرّ المواهب والمنائح، وأَسير على الألسن وأذكر، وأولى بأن تعلّقه القلوب وأجدر.

* ومثاله في القرآن قوله تعالى - في وصف المؤمنين الذين ثبتوا على الإيمان والجهاد في سبيله صفّاً كأنّهم بنيانٌ مرصوص -: ( مُحَمّدٌ رّسُولُ اللّهِ وَالّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكّعاً سُجّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللّهِ وَرِضْوَاناً سِيَماهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِنْ أَثَرِ السّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى‏ عَلَى‏ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزّرّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفّارَ ) (١) .

فقد شبّه صلابة الإيمان بزرع نَما فقوى، فخرج فرخه من قوته وخصوبته، فاشتدّ واستغلظ الزرع، وضخُمت ساقه وامتلأت، فاستوى وازدهر، الأمر الذي يبعث على الابتهاج والإعجاب من جهة، وإغاظة الكفّار من جهة أُخرى.

* وقوله تعالى: ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ) (٢) .

قال الزمخشري: يجوز أن يكون تمثيلاً، لاستظهاره به ووثوقه بحمايته، بامتساك المتدلّي من مكان مرتفع بحبل وثيق يُأمن انقطاعه.

فقد شُبّهت عُرى الدين بوشائج وثيقة تربط الأُمّة بعضها ببعض، فكأنّ الشريعة المقدّسة حبل ممدود على طرف مهواة سحيقة، والأُمّة المتماسكة مستوثقون

____________________

(١) الفتح: ٢٩.

(٢) آل عمران: ١٠٣.

٣٣٤

بعراها استيثاقاً يأمن جانبهم من أخطار السقوط، ويُنجيهم من مهاوي الضلال.

* وقوله تعالى: ( اللّهُ وَلِيّ الّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ ) (١) شبّه الهدى بالنور، والضلال بالظلمات، والاهتداء بحالة الخروج من الظلمات إلى النور.

* وقوله تعالى: ( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذّلّ مِنَ الرّحْمَةِ ) (٢) شَبّه الأولاد بأفراخ الطير تستذلّ لدى والديها تستطعمهما وتسترحمهما، ودليلاً على ذلك تبسط أجنحتها على الأرض خفضاً وذلاً، وهي من المبالغة في التشبيه وتصوير حالة الذلّ في موضع ينبغي الذلّ فيه بمكان.

* وقوله تعالى: ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ) (٣) لو اعتبرنا التشبيه في جملة (فاصدع) فقد شُبّهت شوكة المشركين وهيبتهم بصرح زجاجي، وشُبّهت الدعوة بمصادمة هذا الصرح، وشُبّه التأثير البليغ بالصدع، وهو الأثر البيّن في الزجاجة المصدومة.

وهذا من تشبيه عدّة أشياء بأشياء مع إفاضة الحركة والفعل والانفعال، فقد شبّه النبي (صلّى الله عليه وآله) في إبلاغ دعوته للمشركين بمَن يرمي بقذائفه إلى قلاع مبنية من زجاجات سريعة التكسّر والانهيار.

* * *

قال: وإن كان ذمّاً كان مسّه أوجع وميسمه ألذع، ووقعه أشدّ وحدّه أحدّ، كما جاء في قوله تعالى - في تصوير حالة من أُوتي الهداية لغيّه وانسلخ منها -: ( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ) (٤) إنّه من التمثيل الرائع وفي نفس الوقت لاذع، إنّه يمثّل مشهد إنسان يُؤتيه الله آياته ويخلع عليه من فضله ويُعطيه الفرصة للاكتمال والارتفاع... ولكن، ها هو ذا ينسلخ من هذا كله انسلاخاً، كمَن ينسلخ عن أديم جلده بجهد ومشقّة، ويتجرّد من الغطاء الواقي

____________________

(١) البقرة: ٢٥٧.

(٢) الإسراء: ٢٤.

(٣) الحجر: ٩٤.

(٤) الأعراف: ١٧٦.

٣٣٥

والدرع الحامي، ويهبط من الأُفق العالي إلى سافل الأرض، فيُصبح غرضاً للشيطان، لا وقاية ولا حِمى، وإذا هو أُلعوبة أو كرة قدم تتقاذفه الأقدار، لا إرادة له ولا اختيار، فمثله كمثل كلب هِراش لا صاحب له، ويلهث (١) من غير هدف، ويتضرّع من غير أن يجد مَن يشفق عليه.

وهكذا جاء تصويره لمَن حُمّل ثقل الحقّ ولا يهتدي به بالحمار يحمل أسفاراً، هي أفضل ودائع الإنسان، يَئنّ بثقلها ولا يعي شرف محتواها: ( مَثَلُ الّذِينَ حُمّلُوا التّوْرَاةَ ثُمّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً ) (٢) .

فقد كُلّفوا حمل أمانة الله في الأرض، لكن القلوب الحيّة الواعية هي التي تطيق عبء هذه الأمانة، وقد افتقدها هؤلاء فلم يصلحوا لحملها ومرافقتها.

* * *

وإن كان حجاباً كان برهانه أنور، وسلطانه أقهر، وبيان أبهر، قال تعالى: ( مَثَلُ الّذِينَ اتّخَذُوا مِن دُونِ اللّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ ) (٣) .

وقال تعالى: ( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنّ وَالأَذَى‏ كَالّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَ يَقْدِرُونَ عَلَى‏ شَيْ‏ءٍ مِمّا كَسَبُوا وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) (٤) .

قال ابن معصوم - في قوله تعالى: ( أَيُحِبُ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ ) (٥) -: إنّه من التمثيل اللطيف، مُثّل الاغتياب بأكل الإنسان لحم إنسان آخر مثله، ثمّ لم يقتصر عليه حتى جعله لحم الأخ وجعله ميّتاً، وجعل ما هو في

____________________

(١) اللهث: دَلع اللسان عطشاً أو تعباً.

(٢) الجمعة: ٥.

(٣) العنكبوت: ٤١.

(٤) البقرة: ٢٦٤.

(٥) الحجرات: ١٢.

٣٣٦

غاية الكراهة موصولاً بأخيه، ففيه أربع دلالات واقعة على ما قصدت له مطابقة المعنى الذي وردت لأجله:

أمّا تمثيل الاغتياب بأكل لحم المغتاب فشديد المناسبة جدّاً؛ لأنّه ذكر مثالب الناس وتمزيق أعراضهم.

وأمّا قوله (لحم أخيه) ؛ فلِما في الاغتياب من الكراهة، وقد اتّفق العقل والشرع على استكراهه.

وأمّا قوله (ميتاً)؛ فلأجل أنّ المغتاب لا يشعر بغيبته ولا يحسّ بها (١) .

* * *

قال: وان كان افتخاراً كان شأوه أبعد، وشرفه أجدّ، ولسانه ألذّ، قال تعالى: ( وَمَا قَدَرُوا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْسّمَاوَاتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى‏ عَمّا يُشْرِكُونَ ) (٢) .

وإن كان اعتذاراً كان إلى القبول أقرب، وللقلوب أخلب، وللسخائم أسلّ، ولغرب الغضب أفلّ، وفي عقد العقود أنفث، وعلى حسن الرجوع أبعث (٣) .

وإن كان وعظاً كان أشفى للصدر، وأدعى إلى الفكر، وأبلغ في التنبيه والزجر، وأجدر بأن يجلي الغياية (٤) ويبصر الغاية، ويبرئ العليل ويشفي الغليل.

قال تعالى - في وصف نعيم الدنيا وزوالها -: ( اعْلَمُوا أَنّمَا الْحَيَاةُ الدّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفّارَ نَبَاتُهُ ثُمّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَراً ثُمّ يَكُونُ حُطَاماً ) (٥) .

____________________

(١) أنوار الربيع: ج٣ ص١٧٩.

(٢) الزمر: ٦٧.

(٣) يقال: خَلَبه أي أصاب خِلبه أي قلبه وسلبه إيّاه وفتنه، والسخائم: الضغائن، وسلّها: نزعها، وغرب السيف: حدّه، وفلّه: ثلمه، والنفث: النفخ مع التفل.

(٤) الغياية - بياءين -: كل ما يغطّي الإنسان من فوق رأسه.

(٥) الحديد: ٢٠.

٣٣٧

وقال تعالى: ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السّماءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَالَهَا مِن قَرَارٍ * يُثَبّتُ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلّ اللّهُ الظّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ ) (١) .

وقال تعالى: ( أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ أَنزَلَ مِنَ السّماءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنّ فِي ذلِكَ لَذِكْرَى‏ لأُوْلِي الأَلْبَابِ ) (٢) .

قال الجرجاني: وهكذا في سائر فنون الكلام وضروبه ومختلف أبوابه وشعوبه (٣) .

* * *

____________________

(١) إبراهيم: ٢٤ - ٢٧.

(٢) الزمر: ٢١.

(٣) أسرار البلاغة: ص ٩٢ - ٩٦.

٣٣٨

٨ - جودة استعارته وروعة تخييله

قد أكثر القرآن من أنواع الاستعارة وأجاد في فنونها (١) وكان لابدّ منه وهو آخذ في توسّع المعاني توسّع الآفاق، في حين تضايق الألفاظ عن الإيفاء بمقاصد القرآن، لو قُيّدت بمعانيها الموضوعة لها المحدودة النطاق.

جاء القرآن بمعانٍ جديدة على العرب، لم تكن تعهدها، ولا وُضعت ألفاظها إلاّ لمعانٍ قريبة، حسب حاجاتها في الحياة البسيطة البدائية القصيرة المدى، أمّا التعرّض لشؤون الحياة العليا المترامية الأبعاد فكان غريباً على العرب الأوائل المتوغّلة في الجاهلية الأُولى.

ومِن ثَمّ لجأ القرآن في إفادة معانيه والإشادة بمبانيه إلى أحضان الاستعارة والكناية والمجاز، ذوات النطاق الواسع، حسب إبداع المتكلّم في تصرّفه بها، وقدرته على الإحاطة عليها في تصريف المباني والإفادة بما يرومه من المعاني، وقد أبدع القرآن في الاستفادة بها وتصريفها حيثما شاء من المقاصد والأهداف، ولم يُعهد له نظير في مثل هذه القدرة على مثل هذا التصرّف الواسع الأكناف، الأمر

____________________

(١) وقد كان الفصل السابق معرضاً خصباً لأنواع الاستعارة وفنونها، حيث الكلام عن فنون التشبيه وأنواعه، والاستعارة بأشكالها نوع من التشبيه ومتوقفة عليه.

٣٣٩

الذي أبهر وأعجب وأتى بالإعجاز.

وإليك إلمامة بجوانب من هذه الظاهرة القرآنية:

تعريف الاستعارة:

قال عبد القاهر: الاستعارة أن يكون لفظ الأصل في الوضع اللغوي معروفاً، وتدلّ الشواهد على اختصاصه به، فيكون استعماله في غيره نقلاً إليه نقلاً غير لازم، فيشبه أن تكون عارية (١) .

وقال السكاكي: هو أن تنوي التشبيه، ولا تُصرّح به، فتذكر أحد طرفي التشبيه وتريد به الآخر، مدّعياً دخول المشبّه في جنس المشبّه به، بدلالة ما تذكر له من خصائص المشبّه به، فلو قلت: في الدار أسد، وأنت تريد به إنساناً شجاعاً، كأنّك ادّعيت أنّه من جنس الأُسود فأثبتّ له خاصّية من خصائص الأسد وهي الشجاعة، وهذا فيما ذكر المشبّه به وأُريد المشبّه، وأمّا العكس فكقولك: أنشبت المنيّة أظفارها بفلان، وأنت تريد بالمنيّة السبع، فقد شبّهتها به وأفردتها بالذكر، وادّعيت لها السبُعية وإنكار أن تكون شيئاً غير السبع؛ ومِن ثَمّ أثبتّ لها الأظفار وهي من خصائص السبع (٢) .

وعليه فالاستعارة - بأنواعها الكثيرة - مبتنية على التشبيه، لكنّه مضمر في النفس غير مصرّح به، سوى أنّك تذكر أحد طرفي التشبيه مقتصراً عليه، وإنّما تردفه بخصوصية من خصوصيات طرفه الآخر المطوي ذكره، دليلاً على التشبيه.

فالاستعارة نوع من المجاز كانت علاقتها المجوّزة هي المشابهة، وتفوق عليه بما فيها من المبالغة وكونها الحقيقة الادّعائية، على ما فرضه السكاكي، وكذلك يفوق التشبيه في جعل المشبّه من جنس المشبّه به، وذلك بترك التصريح بالتشبيه،

____________________

(١) أسرار البلاغة: ص٢٢.

(٢) مفتاح العلوم: ص١٧٤.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) .

فهنا شبه المعاندين والمغرورين كمن يسير في جادّة متعرّجة غير مستوية كثيرة المنعطفات وقد وقع على وجهه ، يحرّك يديه ورجليه للاهتداء إلى سبيله ، لأنّه لا يبصر طريقه جيّدا ، وليس بقادر على السيطرة على نفسه ، ولا بمطّلع على العقبات والموانع ، وليست لديه القوّة للسير سريعا ، وبذلك يتعثّر في سيره يمشي قليلا ثمّ يتوقّف حائرا.

كما شبّه المؤمنين برجال منتصبي القامات ، يسيرون في جادّة مستوية ومستقيمة ليس فيها تعرّجات واعوجاج ، ويمشون فيها بسرعة ووضوح وقدرة ووعي وعلم وراحة تامّة.

إنّه ـ حقّا ـ لتشبيه لطيف فذّ ، حيث إنّ آثار هذين السبيلين واضحة تماما ، وانعكاساتها جليّة في حياة هذين الفريقين ، وذلك ما نلاحظه بأمّ أعيننا.

ويرى البعض أنّ مصداق هاتين المجموعتين هما : (الرّسول الأكرم) و (أبو جهل) فهما مصاديق واضحة للآية الكريمة ، إلّا أنّ ذلك لا يحدّد عمومية الآية.

وذكرت احتمالات متعدّدة في تفسير (مكبّا على وجهه). إلّا أنّ أكثر الاحتمالات المنسجمة مع المفهوم اللغوي للآية هو ما ذكرناه أعلاه ، وهو أنّ الإنسان غير المؤمن يكون مكبّا على وجهه ويمشي زاحفا بيده ورجليه وصدره.

وقيل أنّ المقصود من (مكبّا) هو المشي الاعتيادي ولكنّه مطأطئ الرأس لا يشخّص مسيره بوضوح أبدا.

كما يرى آخرون أنّ المقصود بـ (مكبّا) هو الشخص الذي لا يستطيع أن يحفظ توازنه في السير ، فهو يخطو خطوات معدودة ثمّ ما يلبث أن يسقط على الأرض وينهض ليمشي ، ثمّ تتكرّر هذه الحالة.

ويستفاد ممّا ذكره الراغب في مفرداته أنّ المقصود بـ (مكبّا) هو الشخص الذي يدور حول محور الذات والأنانية ، معرضا عن الاهتمام بغيره.

٥٠١

إلّا أنّ المعنى الأوّل أنسب حسب الظاهر ، وذلك بقرينة المقابلة مع وضع المؤمنين والذين عبّرت عنهم الآية بـ (سويّا).

وعلى كلّ حال ، فهل أنّ هذه الحالة (مكبّا) و (سويّا) تمثّل وضع الكفّار والمؤمنين في الآخرة فقط؟ أم في العالمين (الدنيا والآخرة)؟ لا دليل على محدودية مفهوم الآية وانحصارها في الآخرة ، فهما في الدنيا كما هما في الآخرة.

إنّ هؤلاء الأنانيين المنشدّين إلى مصالحهم الماديّة والمنغمسين في شهواتهم ، السائرين في درب الضلال والهوى ، كمن يروم العبور من مكان مليء بالأحجار زاحفا على صدره ، بخلاف من تحرّر من قيد الهوى في ظلّ الإيمان حيث يكون مسيره واضحا ومستقيما ونظراته عميقة وثاقبة.

ثمّ يوجّه الله تعالى الخطاب إلى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الآية اللاحقة فيقول :( قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ ) .

إنّ الله تعالى جعل لكم وسيلة للمشاهدة والإبصار (العين) وكذلك وسيلة وقناة للاطّلاع على أفكار الآخرين ومعرفة وجهات نظرهم من خلال الاستماع (الإذن) ثمّ وسيلة اخرى للتفكّر والتدبّر في العلوم والمحسوسات واللامحسوسات (القلب).

وخلاصة الأمر إنّ الله تعالى قد وضع جميع الوسائل اللازمة لكم لتتعرّفوا على العلوم العقلية والنقلية ، إلّا أنّ القليل من الأشخاص من يدرك هذه النعم العظيمة ويشكر الله المنعم ، حيث أنّ شكر النعمة الحقيقي يتجسّد بتوجيه النعمة نحو الهدف الذي خلقت من أجله ، ترى من هو المستفيد من هذه الحواس (العين والاذن والعقل) بصورة صحيحة في هذا الطريق؟

ثمّ يخاطب الرّسول مرّة اخرى حيث يقول تعالى :( قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) .

وفي الحقيقة فإنّ الآية الاولى تعيّن (المسير) ، والثانية تتحدّث عن (وسائل

٥٠٢

العمل) أمّا الآية ـ مورد البحث ـ فإنّها تشخّص (الهدف والغاية) وذلك بالتأكيد على أنّ السير يجب أن يكون في الطريق المستقيم ، والصراط الواضح المتمثّل بالإسلام والإيمان ، وبذل الجهد للاستفادة من جميع وسائل المعرفة بهذا الاتّجاه ، والتحرّك نحو الحياة الخالدة.

والجدير بالملاحظة هنا أنّ التعبير في الآية السابقة ورد بـ (أنشأكم) وفي الآية مورد البحث بـ (ذرأكم) ، ولعلّ تفاوت هذين التعبيرين هو أنّه في الأولى إشارة إلى الإنشاء والإيجاد من العدم (أي إنّكم لم تكونوا شيئا وقد خلقكم الله تعالى) وفي الثانية إشارة إلى خلق الإنسان من مادّة التراب ، وذلك يعني أنّ الله خلق الإنسان من التراب.

ثمّ يستعرض سبحانه قول المشركين في هذا المجال والردّ عليهم ، فيقول تعالى :( وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) .

إنّ المشركين يطالبون بتعيين التاريخ بصورة دقيقة ليوم القيامة ، كما أنّهم يطالبون بحسم هذا الأمر الذي يتعلّق بمصير الجميع( مَتى هذَا الْوَعْدُ؟ ) .

وذكروا احتمالين في المقصود من (هذا الوعد) : الأوّل : هو وعد يوم القيامة ، والآخر : هو تنفيذ الوعد بالنسبة للعقوبات الدنيوية المختلفة ، كوقوع الزلازل والصواعق والطوفانات. إلّا أنّ المعنى الأوّل أكثر تناسبا حسب الظاهر ، وذلك بلحاظ ما ورد في الآية السابقة. كما أنّ بالإمكان الجمع بين المعنيين.

ويجيبهم الله سبحانه على تساؤلهم هذا بقوله تعالى :( قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) .

إنّ هذا التعبير يشبه تماما ما ورد في الآيات القرآنية العديدة التي من جملتها

٥٠٣

قوله تعالى :( قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي ) (١) .

ولا بدّ أن يكون الجواب بهذه الصورة ، حيث أنّ تحديد تأريخ يوم القيامة إن كان بعيدا فإنّ الناس سيغرقون بالغفلة ، وإن كان قريبا فإنّهم سيعيشون حالة الهلع والاضطراب. وعلى كلّ حال فإنّ الأهداف التربوية تتعطّل في الحالتين.

ويضيف في آخر آية من هذه الآيات بأنّ الكافرين حينما يرون العذاب والوعد الإلهي من قريب تسودّ وجوههم :( فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) فسيماهم طافحة بآثار الحزن والندم( وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ ) .

«تدعون» من مادّة (دعاء) يعني أنّكم كنتم تدعون وتطلبون دائما أن يجيء يوم القيامة ، وها هو قد حان موعده ، ولا سبيل للفرار منه(٢) .

وهذا المضمون يشبه ما جاء في قوله تعالى مخاطبا الكفّار في يوم القيامة :( هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ) (٣) .

وعلى كلّ حال ، فإنّ الآية الشريفة ناظرة إلى عذاب يوم القيامة كما ذهب إليه أغلب المفسّرين ، وهذا دليل على أنّ جملة( مَتى هذَا الْوَعْدُ ) إشارة إلى موعد يوم القيامة.

يقول الحاكم أبو القاسم الحسكاني : عند ما شاهد الكفّار شأن ومقام الإمام عليعليه‌السلام عند الله تعالى. اسودّت وجوههم (من شدّة الغضب)(٤) .

ونقل هذا المعنى أيضا في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّ هذه الآية نزلت

__________________

(١) الأعراف ، الآية ١٨٧.

(٢) «تدعون» من باب (افتعال) ، ومن مادّة دعاء ، بمعنى الطلب والرجاء ، أو من مادّة (دعوا) بمعنى الطلب أو إنكار شيء معيّن.

(٣) الذاريات ، الآية ١٤.

(٤) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٣٠.

٥٠٤

بحقّ أمير المؤمنين عليعليه‌السلام وأصحابه(١) .

وهذا التّفسير نقل عن طرق الشيعة وأهل السنّة ، وهو نوع من التطبيق المصداقي ، وإلّا فإنّ هذه الآية تناولت موضوع (القيامة) ومثل هذه التطبيقات ليست قليلة في عالم الروايات.

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٨٥.

٥٠٥

الآيات

( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (٣٠) )

التّفسير

من الذي يأتيكم بالمياه الجارية؟

إنّ الآيات أعلاه ، التي هي آخر آيات سورة الملك ، تبدأ جميعها بكلمة (قل) مخاطبة الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث أنّها تمثّل استمرارا للأبحاث التي مرّت في الآيات السابقة حول الكفّار ، وتعكس هذه الآيات الكريمة جوانب اخرى من البحث.

يخاطب البارئعزوجل ـ في البداية ـ الأشخاص الذين يرتقبون وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه ، ويتصوّرون أنّ بوفاته سوف يمحى دين الإسلام وينتهي كلّ شيء. وهذا الشعور كثيرا ما ينتاب الأعداء المخذولين إزاء القيادات

٥٠٦

القويّة والمؤثّرة ، يقول تعالى مخاطبا إيّاهم :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ) .

ورد في بعض الروايات أنّ كفّار مكّة ، كانوا دائما يسبّون الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين ، وكانوا يتمنّون موته ظنّا منهم أنّ رحيله سينهي دعوته كذلك ، لذا جاءت الآية أعلاه ردّا عليهم.

كما جاء شبيه هذا المعنى في قوله تعالى :( أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ) (١) .

لقد كانوا غافلين عن وعد الله سبحانه لرسوله الأمين ، بأنّ اسمه سيكون مقترنا مع مبدأ الحقّ الذي لا يعتريه الفناء وإذا جاء أجله فإنّ ذكره لن يندرس ، نعم ، لقد وعده الله سبحانه بانتصار هذا المبدأ ، وأن ترفرف راية هذا الدين على كلّ الدنيا ، وحياة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو موته لن يغيّرا من هذه الحقيقة شيئا.

كما ذكر البعض تفسيرا آخر لهذه الآية وهو : إنّ خطاب الله لرسوله الكريم ـ الذي يشمل المؤمنين أيضا ـ مع ما عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الإيمان الراسخ ، كان يعكس الخوف والرجاء معا في آن واحد. فكيف بكم أنتم أيّها الكافرون؟ وما الذي تفكّرون به لأنفسكم؟

ولكن التّفسير الأوّل أنسب حسب الظاهر.

واستمرارا لهذا البحث ، يضيف تعالى :( قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

وهذا يعني أنّنا إذا آمنا بالله ، واتّخذناه وليّا ووكيلا لنا ، فإنّ ذلك دليل واضح على أنّه الربّ الرحمن ، شملت رحمته الواسعة كلّ شيء ، وغمر فيض ألطافه ونعمه الجميع (المؤمن والكافر) ، إنّ نظرة عابرة إلى عالم الوجود وصفحة الحياة تشهد

__________________

(١) الطور ، الآية ٣٠.

٥٠٧

على هذا المدّعى ، أمّا الذين تعبدونهم من دون الله فما ذا عملوا؟ وما ذا صنعوا؟

وبالرغم من أنّ ضلالكم واضح هنا في هذه الدنيا ، إلّا أنّه سيتّضح بصورة أكثر في الدار الآخرة. أو أنّ هذا الضلال وبطلان دعاواكم الفارغة ستظهر في هذه الدنيا عند ما ينتصر الإسلام بالإمدادات الإلهية على جيش الكفر بشكل إعجازي وخارق للعادة ، عندئذ ستتبيّن الحقيقة أكثر للجميع.

إنّ هذه الآية ـ في الحقيقة ـ نوع من المواساة للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين ، كي لا يظنّوا أو يتصوّروا أنّهم وحدهم في هذا الصراع الواسع بين الحقّ والباطل ، حيث أنّ الرحمن الرحيم خير معين لهم ونعم الناصر.

ويقول تعالى في آخر آية ، عارضا لمصداق من رحمته الواسعة ، والتي غفل عنها الكثير من الناس :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ ) .

إنّ للأرض في الحقيقة قشرتين متفاوتين : (قشرة قابلة للنفوذ) يدخل فيها الماء ، واخرى (غير قابلة للنفوذ) تحفظ بالماء ، وجميع العيون والآبار والقنوات تولّدت من بركات هذا التركيب الخاصّ للأرض ، إذ لو كانت القشرة القابلة للنفوذ لوحدها على سطح الكرة الأرضية جميعا ولأعماق بعيدة ، فإنّ جميع المياه التي تدخل جوف الأرض لا يقرّ لها قرار ، وعندئذ لا يمكن أن يحصل أحد على قليل من الماء. ولو كانت قشرة الأرض غير قابلة للنفوذ لتجمّعت المياه على سطحها وتحوّلت إلى مستنقع كبير ، أو أنّ المياه التي تكون على سطحها سرعان ما تصبّ في البحر ، وهكذا يتمّ فقدان جميع الذخائر التي هي تحت الأرض.

إنّ هذا نموذج صغير من رحمة الله الواسعة يتعلّق بموت الإنسان وحياته.

«معين» من مادّة (معن) ، على وزن (طعن) بمعنى جريان الماء.

وقال آخرون : إنّها مأخوذة من (عين) والميم زائدة. لذا فإنّ بعض المفسّرين ذهبوا إلى أنّ معنى (معين) تعني الماء الذي يشاهد بالعين بغضّ النظر عن جريانه.

إلّا أنّ الغالبية فسّروه بالماء الجاري.

٥٠٨

وبالرغم من أنّ الماء الصالح للشرب لا ينحصر بالماء الجاري ، إلّا أنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ الماء الجاري يمثّل أفضل أنواع ماء الشرب ، سواء كان من العيون أو الأنهار أو القنوات أو الآبار المتدفّقة

ونقل بعض المفسّرين أنّ أحد الكفّار عند ما سمع قوله تعالى :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ ) قال : (رجال شداد ومعاول حداد) وعند نومه ليلا نزل الماء الأسود في عينيه ، وفي هذه الأثناء سمع من يقول : أتي بالرجال الشداد والمعاول الحداد ليخرجوا الماء من عينيك.

ومن الواضح أنّه في حالة عدم وجود القشرة الصلبة وغير القابلة للنفوذ ، فإنّه لا يستطيع أي إنسان قوي ولا أي معول حادّ أن يستخرج شيئا من الماء(١) .

* * *

تعقيب

جاء في الروايات عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّ المراد من الآية الأخيرة من هذه السورة هو ظهور الإمام المهديعليه‌السلام وعدله الذي سيعمّ العالم.

فقد جاء في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «نزلت في الإمام القائمعليه‌السلام ، يقول : إن أصبح إمامكم غائبا عنكم ، لا تدرون أين هو؟ فمن يأتيكم بإمام ظاهر يأتيكم بأخبار السموات والأرض ، وحلال الله وحرامه؟ ثمّ قال : والله ما جاء تأويل هذه الآية ، ولا بدّ أن يجيء تأويلها»(٢) .

والروايات في هذا المجال كثيرة ، وممّا يجدر الانتباه له أنّ هذه الروايات هي من باب (التطبيق).

وبعبارة اخرى فإنّ ظاهر الآية مرتبط بالماء الجاري ، والذي هو علّة حياة

__________________

(١) أبو الفتوح الرازي ، ج ١١ ، ص ٢١٩.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٨٧.

٥٠٩

الموجودات الحيّة. أمّا باطن الآية فإنّه يرتبط بوجود الإمامعليه‌السلام وعلمه وعدالته التي تشمل العالم ، والتي هي الاخرى تكون سببا لحياة وسعادة المجتمع الإنساني.

ولقد ذكرنا مرّات عدّة أنّ للآيات القرآنية معاني متعدّدة ، حيث لها معنى باطن وظاهر ، إلّا أنّ فهم باطن الآيات غير ممكن إلّا للرسول والإمام المعصوم ، ولا يحقّ لأي أحد أن يطرح تفسيرا ما لباطن الآيات. وما نستعرضه هنا مرتبط بظاهر الآيات ، أمّا ما يرتبط بباطن الآيات فعلينا أن نأخذه من المعصومينعليهم‌السلام فقط.

لقد بدأت سورة الملك بحاكمية الله ومالكيته تعالى ، وانتهت برحمانيته ، والتي هي الاخرى فرع من حاكميته ومالكيته سبحانه ، وبهذا فإنّ بدايتها ونهايتها منسجمتان تماما.

اللهمّ ، أدخلنا في رحمتك العامّة والخاصّة ، وأرو ظمآنا من كوثر ولاية أولياءك.

ربّنا ، عجّل لنا ظهور عين ماء الحياة الإمام المهدي ، واطفئ عطشنا بنور جماله

ربّنا ، ارزقنا اذنا صاغية وعينا بصيرة وعقلا كاملا ، فأقشع عن قلوبنا حجب الأنانية والغرور لنرى الحقائق كما هي ، ونسلك إليك على الصراط المستقيم بخطوات محكمة وقامة منتصبة

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة الملك

* * *

٥١٠
٥١١

سورة

القلم

مكيّة

وعدد آياتها اثنتان وخمسون آية

٥١٢

«سورة القلم»

محتوى السورة :

بالرغم من أنّ بعض المفسّرين شكّك في كون السورة بأجمعها نزلت في مكّة ، إلّا أنّ نسق السورة ومحتوى آياتها ينسجم تماما مع السور المكيّة ، لأنّ المحور الأساسي فيها يدور حول مسألة نبوّة رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومواجهة الأعداء الذين كانوا ينعتونه بالجنون وغيره ، والتأكيد على الصبر والاستقامة وتحدّي الصعاب ، وإنذار وتهديد المخالفين لهذه الدعوة المباركة بالعذاب الأليم.

وبشكل عامّ يمكن تلخيص مباحث هذه السورة بسبعة أقسام :

١ ـ في البداية تستعرض السورة بعض الصفات الخاصّة لرسول الإنسانية محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخصوصا أخلاقه البارّة السامية الرفيعة ، ولتأكيد هذا الأمر يقسم البارئعزوجل في هذا الصدد.

٢ ـ ثمّ تتعرّض بعض الآيات الواردة في هذه السورة إلى قسم من الصفات السيّئة والأخلاق الذميمة لأعدائه.

٣ ـ كما يبيّن قسم آخر من الآيات الشريفة قصّة (أصحاب الجنّة) والتي هي بمثابة توجيه إنذار وتهديد للسالكين طريق العناد من المشركين.

٤ ـ وفي قسم آخر من السورة ذكرت عدّة امور حول القيامة والعذاب الأليم للكفّار في ذلك اليوم.

٥ ـ كما جاء في آيات اخرى جملة إنذارات وتهديدات للمشركين.

٥١٣

٦ ـ ونلاحظ في آيات اخرى من السورة الأمر الإلهي للرسول العظيم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يواجه الأعداء بصبر واستقامة وقوّة وصلابة.

٧ ـ وأخيرا تختتم السورة موضوعاتها بحديث حول عظمة القرآن الكريم ، وطبيعة المؤامرات التي كان يحوكها الأعداء ضدّ الرّسول محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

انتخاب (القلم) اسما لهذه السورة المباركة ، كان بلحاظ ما ورد في أوّل آية منها ، وذكر البعض الآخر أنّ اسمها (ن).

ويستفاد من بعض الروايات التي وردت في فضيلة هذه السورة أنّ اسمها «ن والقلم».

فضيلة تلاوة سورة القلم :

نقل عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فضيلة تلاوة هذه السورة أنّه قال : «من قرأ (ن والقلم) أعطاه الله ثواب الذين حسن أخلاقهم»(١) .

كما نقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «من قرأ سورة (ن والقلم) في فريضة أو نافلة ، آمنه الله أن يصيبه في حياته فقر أبدا ، وأعاذه إذا مات من ضمّة القبر ، إن شاء الله»(٢) .

وهذا الأجر والجزاء يتناسب تناسبا خاصّا مع محتوى السورة ، والهدف من التأكيد على هذا النوع من الأجر من تلاوة السورة هو أن تكون التلاوة مقرونة بالوعي والمعرفة ومن ثمّ العمل بمحتواها.

* * *

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٨٧.

(٢) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٣٠.

٥١٤

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧) )

التّفسير

عجبا لأخلاقك السامية :

هذه السورة هي السورة الوحيدة التي تبدأ بحرف (ن) حيث يقول تعالى :( ن ) .

وقد تحدّثنا مرّات عديدة حول الحروف المقطّعة ، خصوصا في بداية سورة (البقرة) و (آل عمران) و (الأعراف) والشيء الذي يجدر إضافته هنا هو ما اعتبره البعض من أنّ (ن) هنا تخفيف لكلمة (الرحمن) فهي إشارة لذلك. كما أنّ البعض الآخر فسّرها بمعنى (اللوح) أو (الدواة) أو (نهر في الجنّة) إلّا أنّ كلّ تلك الأقوال ليس لها دليل واضح.

٥١٥

وبناء على هذا فإنّ الحرف المقطّع هنا لا يختلف عن تفسير بقيّة الحروف المقطّعة والتي أشرنا إليها سابقا.

ثمّ يقسم تعالى بموضوعين يعتبران من أهمّ المسائل في حياة الإنسان ، فيقول تعالى :( وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ ) .

كم هو قسم عجيب؟ وقد يتصوّر أنّ القسم هنا يتعلّق ظاهرا بمواضيع صغيرة ، أي قطعة من القصب ـ أو شيء يشبه ذلك ـ وبقليل من مادّة سوداء ، ثمّ السطور التي تكتب وتخطّ على صفحة صغيرة من الورق.

إلّا أنّنا حينما نتأمّل قليلا فيه نجده مصدرا لجميع الحضارات الإنسانية في العالم أجمع ، إنّ تطور وتكامل العلوم والوعي والأفكار وتطور المدارس الدينية والفكرية ، وبلورة الكثير من المفاهيم الحياتية كان بفضل ما كتب من العلوم والمعارف الإنسانية في الحقول المختلفة ، ممّا كان له الأثر الكبير في يقظة الأمم وهداية الإنسان وكان ذلك بواسطة (القلم).

لقد قسّمت حياة الإنسان إلى عصرين : (عصر التأريخ) و (عصر ما قبل التأريخ) وعصر تأريخ البشر يبدأ منذ أن اخترع الإنسان الخطّ واستطاع أن يدوّن قصّة حياته وأحداثها على الصفحات ، وبتعبير آخر ، يبدأ عند ما أخذ الإنسان القلم بيده ، ودوّن للآخرين ما توصّل إليه (وما يسطرون) تخليدا لماضيه.

وتتّضح عظمة هذا القسم بصورة أكثر عند ما نلاحظ أنّ هذه الآيات المباركة حينما نزلت لم يكن هنالك كتاب ولا أصحاب قلم ، وإذا كان هنالك أشخاص يعرفون القراءة والكتابة ، فإنّ عددهم في كلّ مكّة ـ التي تمثّل المركز العبادي والسياسي والاقتصادي لأرض الحجاز ـ لم يتجاوز ال (٢٠) شخصا. ولذا فإنّ القسم بـ (القلم) في مثل ذلك المحيط له عظمة خاصّة.

والرائع هنا أنّ الآيات الاولى التي نزلت على قلب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في (جبل النور) أو (غار حراء) قد أشير فيها أيضا إلى المنزلة العليا للقلم ، حديث يقول تعالى :

٥١٦

( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ ) (١) .

والأروع من ذلك كلّه أنّ هذه الكلمات كانت تنطلق من فمّ شخص لم يكن يقرأ أو يكتب ، ولم يذهب للمكاتب من أجل التعليم قطّ ، وهذا دليل أيضا على أنّ ما ينطق به لم يكن غير الوحي السماوي.

وذكر بعض المفسّرين أنّ كلمة (القلم) هنا يقصد بها : (القلم الذي تخطّ به ملائكة الله العظام الوحي السماوي) ، (أو الذي تكتب به صفحة أعمال البشر) ، ولكن من الواضح أنّ للآية مفهوما واسعا ، وهذه الآراء تبيّن مصاديقها.

كما أنّ لجملة( ما يَسْطُرُونَ ) مفهوما واسعا أيضا ، إذ تشمل جميع ما يكتب في طريق الهداية والتكامل الفكري والأخلاقي والعلمي للبشر ، ولا ينحصر بالوحي السماوي أو صحائف أعمال البشر(٢) .

ثمّ يتطرّق سبحانه لذكر الأمر الذي أقسم من أجله فيقول تعالى :( ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ) .

إنّ الذين نسبوا إليك هذه النسبة القبيحة هم عمي القلوب والأبصار ، وإلّا فأين هم من كلّ تلك النعم الإلهية التي وهبها الله لك؟ نعمة العقل والعلم الذي تفوّقت بها على جميع الناس ونعمة الأمانة والصدق والنبوّة ومقام العصمة إنّ الذين يتّهمون صاحب هذا العقل الجبّار بالجنون هم المجانين في الحقيقة ، إنّ ابتعادهم عن دليل الهداية وموجّه البشرية لهو الحمق بعينه.

ثمّ يضيف تعالى بعد ذلك :( وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ ) أي غير منقطع ، ولم لا

__________________

(١) العلق ، الآية ١ ـ ٥.

(٢) اعتبر البعض أنّ (ما) في (ما يسطرون) مصدرية ، واعتبرها بعض آخر بأنّها (موصولة) والمعنى الثاني أنسب ، والتقدير هكذا : (ما يسطرونه) ، كما اعتبرها البعض أيضا بمعنى (اللوح) أو (القرطاس) الذي يكتب عليه ، وفي التقدير (ما يسطرون فيه) كما اعتبر البعض (ما) هنا إشارة لذوي العقول والأشخاص الذين يكتبون هذه السطور ، إلّا أنّ المعنى الذي ذكرناه في المتن أنسب من الجميع حسب الظاهر.

٥١٧

يكون لك مثل هذا الأجر ، في الوقت الذي وقفت صامدا أمام تلك التّهم والافتراءات اللئيمة ، وأنت تسعى لهدايتهم ونجاتهم من الضلال وواصلت جهدك في هذا السبيل دون تعب أو ملل؟

«ممنون» من مادّة (منّ) بمعنى (القطع) ويعني الأجر والجزاء المستمرّ الذي لا ينقطع أبدا ، وهو متواصل إلى الأبد ، يقول البعض : إنّ أصل هذا المعنى مأخوذ من «المنّة» ، بلحاظ أنّ المنّة توجب قطع النعمة.

وقال البعض أيضا : إنّ المقصود من( غَيْرَ مَمْنُونٍ ) هو أنّ الله تعالى لم تكن لديه منّة مقابل هذا الأجر العظيم. إلّا أنّ التّفسير الأوّل أنسب.

وتعرض الآية اللاحقة وصفا آخر لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك بقوله تعالى :( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) .

تلك الأخلاق التي لا نظير لها ، ويحار العقل في سموّها وعظمتها من صفاء لا يوصف ، ولطف منقطع النظير ، وصبر واستقامة وتحمّل لا مثيل لها ، وتجسيد لمبادئ الخير حيث يبدأ بنفسه أوّلا فيما يدعو إليه ، ثمّ يطلب من الناس العمل بما دعا إليه والالتزام به.

عند ما دعوت ـ يا رسول الله ـ الناس ـ لعبادة الله ، فقد كنت أعبد الناس جميعا ، وإذ نهيتهم عن سوء أو منكر فإنّك الممتنع عنه قبل الجميع ، تقابل الأذى بالنصح ، والإساءة بالصفح ، والتضرّع إلى الله بهدايتهم ، وهم يؤلمون بدنك الطاهر رميا بالحجارة ، واستهزاء بالرسالة ، وتقابل وضعهم للرماد الحارّ على رأسك الشريف بدعائك لهم بالرشد.

نعم لقد كنت مركزا للحبّ ومنبعا للعطف ومنهلا للرحمة ، فما أعظم أخلاقك؟

«خلق» من مادّة (الخلقة) بمعنى الصفات التي لا تنفكّ عن الإنسان ، وهي ملازمة له ، كخلقة الإنسان.

وفسّر البعض الخلق العظيم للنبي بـ (الصبر في طريق الحقّ ، وكثرة البذل

٥١٨

والعطاء ، وتدبير الأمور ، والرفق والمداراة ، وتحمّل الصعاب في مسير الدعوة الإلهية ، والعفو عن المتجاوزين ، والجهاد في سبيل الله ، وترك الحسد والبغض والغلّ والحرص ، وبالرغم من أنّ جميع هذه الصفات كانت متجسّدة في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أنّ الخلق العظيم له لم ينحصر بهذه الأمور فحسب ، بل أشمل منها جميعا.

وفسّر الخلق العظيم أيضا بـ (القرآن الكريم) أو (مبدأ الإسلام) ومن الممكن أن تكون الموارد السابقة من مصاديق المفهوم الواسع للآية أعلاه.

وعلى كلّ حال فإنّ تأصّل هذا (الخلق العظيم) في شخصية الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو دليل واضح على رجاحة العقل وغزارة العلم له ونفي جميع التّهم التي تنسب من قبل الأعداء إليه.

ثمّ يضيف سبحانه بقوله :( فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ) .

( بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ ) أي من منكم هو المجنون(١) .

«مفتون» : اسم مفعول من (الفتنة) بمعنى الابتلاء ، وورد هنا بقصد الابتلاء بالجنون.

نعم ، إنّهم ينسبون هذه النسب القبيحة إليك ليبعدوا الناس عنك ، إلّا أنّ للناس عقلا وإدراكا ، يقيّمون به التعاليم التي يتلقّونها منك ، ثمّ يؤمنون بها ويتعلّمونها تدريجيّا ، وعندئذ تتّضح الحقائق أمامهم ، وهي أنّ هذه التعاليم العظيمة مصدرها البارئعزوجل ، أنزلها على قلبك الطاهر بالإضافة إلى ما منحك من نصيب عظيم في العقل والعلم.

كما أنّ مواقفك وتحرّكاتك المستقبلية المقرونة بالتقدّم السريع لانتشار الإسلام ، ستؤكّد بصورة أعمق أنّك منبع العلم والعقل الكبيرين ، وأنّ هؤلاء الأقزام

__________________

(١) (الباء) في (بأيّكم) زائدة و (أيّكم) مفعول للفعلين السابقين.

٥١٩

الخفافيش هم المجانين ، لأنّهم تصدّوا لمحاربة نور هذه الشمس العظيمة المتمثّلة بالحقّ الإلهي والرسالة المحمّدية.

ومن الطبيعي فإنّ هذه الحقائق ستتوضّح أمامهم يوم القيامة بصورة دامغة ، ويخسر هنالك المبطلون ، حيث تتبيّن الأمور وتظهر الحقيقة.

وللتأكيد على المفهوم المتقدّم يقول سبحانه مرّة اخرى :( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) .

وبلحاظ معرفة البارئعزوجل بسبيل الحقّ وبمن سلكه ومن جانبه وتخلّف أو انحرف عنه ، فإنّه يطمئن رسوله الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه والمؤمنون في طريق الهداية والرشد ، أمّا أعداؤه فهم في متاه الضلالة والغواية.

وجاء في حديث مسند أنّ قريشا حينما رأت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقدم الإمام عليعليه‌السلام على الآخرين ويجلّه ويعظّمه ، غمزه هؤلاء وقدحوا بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا : (لقد فتن محمّد به) هنا أنزل الله تعالى قرآنا وذلك قوله :( ن وَالْقَلَمِ ) وأقسم بذلك ، وإنّك يا محمّد غير مفتون ومجنون حتّى قوله تعالى :( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) حيث الله هو العالم بالأشخاص الذين ضلّوا وانحرفوا عن سواء السبيل ، وهي إشارة إلى قريش التي كانت تطلق هذه الاتّهامات ، كما أنّه تعالى أعرف بمن اهتدى ، وهي إشارة إلى الإمام عليعليه‌السلام (١) .

* * *

بحثان

١ ـ دور القلم في حياة الإنسان

إنّ من أهمّ معالم التطور في الحياة البشرية ـ كما أشرنا سابقا ـ هو ظهور

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٣٤ ، (نقل الطبرسي هذا الحديث بسنده عن أهل السنّة).

٥٢٠

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579