تلخيص التمهيد الجزء ٢

تلخيص التمهيد0%

تلخيص التمهيد مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 579

تلخيص التمهيد

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد هادي معرفة
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: الصفحات: 579
المشاهدات: 99695
تحميل: 9926


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 99695 / تحميل: 9926
الحجم الحجم الحجم
تلخيص التمهيد

تلخيص التمهيد الجزء 2

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

المشبّه به، فقد أدّى التشبيه كلّ هذه المعاني بأوجز بيان ممكن، فجمع إلى فضيلة البيان فضيلة الإيجاز والمبالغة والإيفاء.

قال: إلاّ أنّه من بين أنواع علم البيان مُستوعر المذهب، وهو مقتل من مقاتل البلاغة؛ لأنّ حمل الشيء على الشيء بالمماثلة، إمّا صورة أو في خفايا المعنى، ممّا يعزّ صوابه وتعسر الإجادة فيه، وقلّما أكثر منه أحد إلاّ عثر، وخاض في عبابه إلاّ غرق، فكم من أُدباء وبلغاء أكثروا منه إلاّ زلّوا، وخاضوا لُججه إلاّ عاثوا وماثوا، كما فعل ابن المعتزّ من أُدباء العراق، وابن وكيع من أُدباء مصر، إنّهما أكثرا من ذلك، فلا جَرم أنّهما أتيا بالغثّ البارد الذي لا يثبت على محكّ الصواب (1) .

والتشبيه الذي نبحث عنه لا يخصّ ما كان تشبيهاً بالتصريح، وإنّما يعمّ التشبيه المضمر في أنواع الاستعارة والتمثيل وغيرهما ممّا هو محطّ بلاغة الكلام.

* * *

والغرض من التشبيه لا يُحصر في عدّ، حسبما يأتي في كلام الجرجاني، وإنّما فائدته العامّة هي: أنّك إذا شبّهت شيئاً بآخر فإنّما تقصد إلى تخييل صورة في النفس تشبه صورة المشبّه به من حظّ الحسن أو القبح في النفوس، وهذا يوجب رفعة شأن المشبّه أو ضعته، تحسينه أو تقبيحه، على درجة قوة أداة التصوير في مقام التشبيه، الأمر الذي يرتبط وقدرة المتكلّم في حسن الأداء والإجادة في البيان.

قال السكاكي: والغرض من التشبيه يعود في الأغلب إلى المشبّه؛ إمّا لبيان إمكانه، كقول أبي الطيّب:

فإن تفُق الأنامَ وأنت منهم

فإنّ المِسكَ بعضُ دمِ الغزالِ

فإنّه لمّا أراد تفضيل الممدوح على سائر الناس، مع أنّه من جنسهم، فقد أوهم أنّه من نوع أشرف، فكان كالممتنع؛ ومِن ثَمّ حاول بيان إمكانه بالتشبيه المذكور.

____________________

(1) المَثَل السائر: ج2 ص123.

٣٢١

وقد يكون لبيان حاله بوصفٍ خاص، كما وصف تعالى الهلال بعد خروجه من المحاق، بتشبيهه بالعرجون ( وَالْقَمَرَ قَدّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتّى‏ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ) (1) .

أو لبيان المقدار في شدّته وخفته، كما جاء في وصف قلوب أهل الغيّ والعناد ( فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ) (2) .

أو لتقرير حالة المشبّه في الفظاعة وفضح الحال، أو في الكرامة وشرف المآل، وهذا مِن أهمّ أنواع التشبيه وأفضله، وهو: أن يعمد المتكلّم إلى ذكر خصوصيات مشهودة في المشبّه به في جميع أبعادها وجزئيّاتها القابلة للتصوير، ليُقاس عليها حالة المشبّه السيّئة أو الحسنة، فتبدو كالمحسوس الممسوس باليد والمشاهد بالعيان، وهذا من أكثر التشبيه في القرآن، وسنذكر أمثلتها.

فهذه أنواع أربعة من التشبيه البليغ، ذكرهنّ السكاكي (3) .

قال التفتازاني: يجب في النوع الأوّل أن يكون المشبّه به في وجه الشبه أشهر، ليصحّ القياس عليه وجعله دليلاً على الإمكان، وفي النوع الثاني أن يكون وجه الشبه فيه أبين، وكذا في النوع الثالث، أمّا النوع الرابع: فيجب أن يكون الوجه فيه أتمّ وهو به أشهر، لأنّ النفس إلى الأتمّ الأشهر أميل، فكان التشبيه به لزيادة التقرير وقوّة البيان أجدر (4) .

* * *

وقد ذكروا من أغراض التشبيه: تحسين حال المشبّه وتزيينه، أو تهجينه وتقبيحه، أو التنفير منه أو الاستعطاف عليه، أو الاستطراف، ونحو ذلك ممّا فصّله أئمة البيان.

فمِن التشبيه لغرض التزيين ما وصف به الشاعر عشيقته السوداء، يشبه

____________________

(1) يس: 39.

(2) البقرة: 74.

(3) مفتاح العلوم: ص162.

(4) المطوّل: ص332.

٣٢٢

سوادها بسواد المسك المستحسن، كلّما ازداد سواده ازدادت مرغوبيته، قال:

يقولون ليلى سودةٌ حبشيةٌ

ولولا سوادُ المِسكِ ما كان غاليا

ومن التشبيه للتهجين تشبيه وجه مجدّر بسُلَحة يابسة قد نقرتها الدِيَكة، وهو غاية في تشويه صورته والتهجين بشأنه.

وهكذا قولهم بشأن عادم الصفات الكريمة وهو يفتخر بمكارم الآباء: (العنّين يفتخر بذكر أبيه) وهو من ألذع أنحاء التهجين.

ومن الاستطراف - وهو إبداء الشيء طريفاً وبديعاً عديم النظير - قول أبي العتاهية يصف ورد البنفسج في زهوه وجماله:

ولا زَوَرديّة تزهو بزُرقَتِها

بين الرياضِ على حُمر اليواقيتِ

كأنّها فوقَ قامات ضَعفنَ بها

أوائلُ النارِ في أطرافِ كبريتِ

وقول الآخر - هو الصنوبري - يصف الشقايق الحُمر في تصوّبها وتصعّدها:

وكأنّ محمرَّ الشقيق إذا تصوّب أو تصعّد

أعلامُ ياقوتٍ نُشرنَ على رماحٍ مِن زَبرجَدِ

وهو من طريف التشبيه الذي يكسو فنّ التصوير حلّةَ الحركة والحياة، فيزداد بهاءً وجمالاً!

* * *

اعترف أهل البيان بأنّ تشبيهات القرآن أمتن التشبيهات الواقعة في فصيح الكلام، وأجمعهنّ لمحاسن البديع، وأوفاهنّ بدقائق التصوير.

مثّل ابن الأثير لتشبيه المفرد بالمفرد بقوله تعالى: ( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً ) (1) فإنّه شبّه الليل باللباس؛ وذاك أنّه يستر الناس بعضهم عن بعض، مَن أراد هرباً مِن عدوّ، أو ثباتاً لعدوّ، أو إخفاء مالا يُحبّ الاطّلاع عليه من أمره.

قال: وهذا من التشبيهات لم يأتِ بها إلاّ القرآن الكريم، فإنّ تشبيه الليل باللباس ممّا احتفى به دون غيره من الكلام المنثور والمنظوم.

____________________

(1) النبأ: 10.

٣٢٣

وكذلك قوله تعالى: ( هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ) (1) فشبّه المرأة باللباس للرجل، وشبّه الرجل باللباس للمرأة (2) .

وهذا من لطيف التشبيه، كما أنّ اللباس زينة للمرء وساتر لعورته وحافظ له عن التعرّض للأخطار، كذلك زوج المرء يزيّنه ويستر عوراته ويقيه من مزالق الأدناس، فما أجمل هذا التشبيه وأدقّه من تعبير!

قال: ومن محاسن التشبيه قوله تعالى: ( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ ) (3) ، وهذا يكاد ينقله تناسبه عن درجة المجاز إلى الحقيقة. والحرث هو الأرض التي تُحرث للزرع، وكذلك الرحم يُزدرع فيه الولد ازدراعاً كما يُزدرع البذر في الأرض.

ومن هذا الأُسلوب قوله تعالى: ( وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ ) (4) فشبّه تبرّء الليل من النهار بانسلاخ الجلد عن الجسم المسلوخ؛ وذلك أنّه لما كانت هوادي الصبح (5) عند طلوعه ملتحمة بأعجاز الليل أجرى عليهما اسم السلخ، وكان ذلك أولى من أن لو قيل (يخرج)؛ لأنّ السلخ أدلّ على الالتحام من الإخراج، وهذا تشبيه في غاية المناسبة.

وكذلك ورد قوله تعالى: ( وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ) (6) فشبّه انتشار الشيب باشتعال النار، ولمّا كان الشيب يأخذ في الرأس ويسعى فيه شيئاً فشيئاً حتى يُحيله إلى غير لونه الأَوّل كان بمنزلة النار التي تشتعل في الجسم وتسري فيه، حتى يُحيله إلى غير حاله الأوّلي.

وأحسن من هذا أن يقال: إنّه شبّه انتشار الشيب باشتعال النار في سرعة التهابه، وتعذّر تلافيه، وفي عظم الألم في القلب به، وأنّه لم يبقَ بعده إلاّ الخمود! فهذه أوصاف أربعة جامعة بين المشبّه والمشبّه به، وذلك في الغاية القصوى من

____________________

(1) البقرة: 187.

(2) المَثل السائر: ج2 ص133.

(3) البقرة: 223.

(4) يس: 37.

(5) الهوادي: المقادم.

(6) مريم: 4.

٣٢٤

التناسب والتلاؤم (1) .

وقيل من شرط بلاغة التشبيه أن يُشبّه الشيء بما هو أفخم وأروع منه؛ ومِن هنا غلط بعض الكتّاب من أهل مصر في ذِكر حصن من حصون الجبال مشبّهاً له، فقال: (هامةٌ، عليها من الغَمَامَة، وأنملة خضبها الأصيل، فكان الهلال منها قُلامَة).

قال ابن الأثير، وهذا الكاتب حفظ شيئاً وغابت عنه أشياء!! فإنّه أخطأ في قوله (أنملة) وأيّ مقدار للأنملة بالنسبة إلى تشبيه حصن على رأس جبل؟ وأصاب في المناسبة بين ذكر الأنملة والقُلامَة، وتشبيهها بالهلال.

فإن قيل: إنّ هذا الكاتب تأسّى فيما ذكر بكلام الله تعالى حيث قال: ( اللّهُ نُورُ السّماوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ) (2) ، فمثّل نوره بطاقة فيها ذُبَالة (3) .

وقال الله تعالى: ( وَالْقَمَرَ قَدّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتّى‏ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ) (4) فمثّل الهلال بأصل عِذق النخلة.

فالجواب عن ذلك أنّي أقول: أمّا تمثيل نور الله تعالى بمشكاة فيها مصباح، فانّ هذا مثال ضربه للنبي (صلّى الله عليه وآله)، ويدلّ عليه أنّه قال: ( يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ) ، وإذا نظرت إلى هذا الموضع وجدته تشبيهاً لطيفاً، عجيباً، وذاك أنّ قلب النبي (صلّى الله عليه وآله) وما اُلقي فيه من النور، وما هو عليه من الصفة الشفّافة، كالزجاجة التي كأنّها كوكب بصفائها وإضاءتها.

وأمّا الشجرة المباركة التي لا شرقيةٍ ولا غربية، فإنّها عبارة عن ذات النبي (صلّى الله عليه وآله)؛ لأنّه من أرض الحجاز التي لا تميل إلى الشرق ولا إلى الغرب.

____________________

(1) المَثل السائر: ج2 ص133 - 135.

(2) النور: 35.

(3) الطاقة: سقيفة لها طوق هلالي. والذُّبالة: الفتيلة.

(4) يس: 39.

٣٢٥

وأمّا زيت هذه الزجاجة، فإنّه مضيء من غير أن تمسه نار، والمراد بذلك أنّ فطرته فطرة صافية من الأكدار، منيرة من قبل مصافحة الأنوار.

فهذا هو المراد بالتشبيه الذي ورد في هذه الآية.

وأمّا الآية الأُخرى فإنّه شُبّه الهلال فيها بالعرجون القديم، وذلك في هيئة نحوله واستدارته، لا في مقداره، فإنّ مقدار الهلال عظيم، ولا نسبة للعرجون إليه، لكنّه في مرأى النظر كالعرجون هيئةً لا مقداراً.

وأمّا هذا الكاتب فإنّ تشبيهه ليس على هذا النسق؛ لأنّه شَبّه فيه صورة الحِصن بأنملة في المقدار لا في الهيئة والشكل.

وهذا غير حسن ولا مناسب، وإنّما ألقاه فيه أنّه قصد الهلال والقُلامة مع ذِكر الأنملة فأخطأ من جهة، وأصاب من جهة، لكن خطأه غطّى على صوابه (1) .

أنواع التشبيه:

1 - إمّا تشبيه معنىً بمعنى ، كما في تشبيه الصفات والأحوال، كقولنا: زيد كالأسد، وهو من التشبيه المتعارف.

2 - أو تشبيه صورة بصورة ، كما في تشبيه منظر مشهود بآخر مثله في الحُسن، والجمال، قال تعالى: ( وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطّرْفِ عِينٌ * كَأَنّهُنّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ) (2) .

3 - أو تشبيه معنىً بصورة ، فيما إذا أُريد تجسيد معنىً ذهني أو جسيم حالة نفسية تصويراً فنّياً مخلعاً عليه ثوب والحياة، وهذا من أبلغ أنواع التشبيه وأروعها، ويُسمّى عندهم بالتمثيل، وقد أكثر منه القرآن الكريم، حيث وفاؤه بمقاصده العليّة في خطابه وبيانه ودعوته إلى الحقّ الصريح، وستوافيك أمثلة منه بارعة، تُغنيك دليلاً على أنّ (التصوير الفنّي) كانت هي الأداة المفضّلة في أُسلوب القرآن.

____________________

(1) المَثل السائر: ج2 ص126 - 128.

(2) الصافّات: 48 و49.

٣٢٦

من ذلك قوله تعالى: ( وَالّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظّمْآنُ مَاءً حَتّى‏ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللّهَ عِندَهُ فَوَفّاهُ حِسَابَهُ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجّيّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراهَا وَمَن لّمْ يَجْعَلِ اللّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ ) (1) وسيأتي شرح الآيتين.

4 - أو تشبيه صورة بمعنى، وكان ألطف الأنواع؛ لأنّه نقل صورة مشهودة إلى الخيال آخذاً طريقه إلى الأوهام، فإن أُجيد في ذلك كان بديعاً، ويُنبئك عن دقّةٍ ومهارةٍ، وهو فنّ من فنون التخييل.

ومثّل له ابن الأثير بقول أبي تمّام:

وفتَكتَ بالمالِ الجزيلِ وبالعِدا

فتكَ الصَبابَة بالمحبِّ المُغرَمِ

حيث شبّه فتكه بالمال وبالعِدا - وذلك صورة مرئية - بفتك الصبابة وهو فتك معنوي (2) وفتك المال كناية عن بذله وتفريقه بين المحاويج. والصَبابَة: الشوق ورقّة الهوى.

ومثاله من القرآن قوله تعالى: ( إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ ) (3) فقد شبّه فورَان الماء وخروجه عن حدّ الاعتدال، بحالة التكبّر والاستعلاء الذي يجعل الإنسان عاتياً وخارجاً على القوانين والحدود والأعراف، فالطغيان - وهو التكبّر والاستعلاء من غير حق - أمرٌ معنوي، وقد شُبّه به فوران الماء وهو أمرٌ محسوس.

وهكذا قوله تعالى: ( وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ) (4) .

والعتوّ - وهو التكبّر - من الأُمور المعقولة، استُعير هنا للريح، وهي محسوسة، والجامع بينهما - في كلتا الآيتين - هو الإضرار الخارج عن حدّ العادة (5) .

____________________

(1) النور 39 و40.

(2) المَثل السائر: ج2 ص130.

(3) الحاقة: 11.

(4) الحاقة: 6.

(5) الطراز للأمير العلوي: ج3، 339.

٣٢٧

تعبير بلفظ أم إفاضة بحياة؟

ميزة قرآنية أُخرى جاءت في تعابيره المفيضة بالحياة، وتلك طريقته الفنّية في تصويره لمباهج هذا الكون، لا تمسّ ريشة تعبيره جامداً إلاّ نَبَض بالحياة، ولا يُصيب قلم تحبيره هامداً إلاّ انتفض بالتحرّك والهياج، كأنّما العالم كله في لوحة تصاويره، أحياء غير أموات، والمظاهر كلها حركات لا هدوء ولا خمول، هكذا يفعل القرآن في منطقه الساحر، ويُصوّر من عالم الوجود في بيانه الباهر، كل شيء حي، وكل شيء دائب في الحركة مستوٍ في طريقه نحو الكمال، تلك قدرته الفنّية في بيانه وفي إبداعه في فنون التصوير، يخلع عليها الحركة والحياة، ولم يعهد للعرب نظيره، وقد حاز قصبَ السبق في مضماره.

* هذا هو الفجر ينبثق في مطلعه، لكنّه في القرآن: ( وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ) (1) ، هذا هو الجديد في تعبير القرآن: الصبح حيّ يتنفّس، أنفاسه الإشعاع والنور والضياء، وإفاضته الحركة والحياة، حركة تدبّ معها كل حيّ عند الصباح.

قال سيّد قطب: وتكاد اللغة العربية بكل مأثوراتها التعبيرية لا تحتوي نظيراً لهذا التعبير عن الصبح (2) وتكاد رؤية الفجر تُشعر القلب المتفتّح أنّه بالفعل يتنفّس؛ لأنّ الصبح إذا أقبل أقبل بإقباله روح ونسيم، كالمحتصر إذا زال غمّه يتنفّس الصُّعداء، وقد كلّ اللسان عن النطق بها، نعم يتنفّس الصبح تنفّس الأحياء ويصعد بأنفاسه، هي أنواره نحو آفاق السماء.

* وهذا هو الليل له عسعسة أي حركة إلى الوراء لها صوت ( وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ) (3) أي أدبر وأخذ في التراجع إلى الوراء، كأنّه يأخذ في الانهزام والتراجع إلى الخلف أمام هجمة أضواء النهار، انظر إلى هذين المقطعين (عس،

____________________

(1) التكوير: 18.

(2) في ظِلال القرآن: ج8 ص482.

(3) التكوير: 17.

٣٢٨

عس) من كلمة (عسعس) كيف يُوحيان بحركة حثيثة ومنتظمة، لها حسيس، وكأنّه من أثر اصطكاك أرجلها الثقيلة مع الحسائك المُتيبّسة ولا سيّما في مثل ظلام الليل.

* ومثله ( وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ) (1) وكأنّ الليل يُولّي مدبراً منهزماً تجاه أسفار الصباح، ودقيقة أُخرى: الفرق بين (إذ) في التعبيرين، وهو توقيت دبور الليل بوقت إسفار الصباح، وهكذا الليل لا يطيق النظر إلى وجه الصباح عند إسفاره.

* وهكذا الليل يسري ( وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ) (2) ... يقال: سرى يسري إذا سار في الليل، وهو أفضل المسير أيام القرّ، ترافقه نفحة ونسيم، لكن في تعبير القرآن كأنّ الليل هو الساري، وهو آن من آنات الزمان، يتّخذ مسيره في هدوء وهينة واتّئاد، وكأنّه ساهر يجول في ظلام، أو مسافر يختار السري لرحلته هذه في الفضاء، يا له من أناقة في التعبير، ورقّة ولطف، أضف إليه جمال تناسقه ونغمه مع ( والفجرِ * وليالٍ عَشر * والشفعِ والوترِ ) .

* وكذلك الليل يطلب النهار طلباً حثيثاً ( يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً ) (3) وكأنّهما فَرسا سباق يتعاقبان، لكنّ الليل سائر خلف النهار وفي أثره سيراً حثيثاً سريعاً لا وقفة فيه ولا فتور، وهل يطلبه ليفتك به والنهار شارد أمامه يخشى فتكه؟! حتى إذا ما وقعت حبائل الليل عليه حصره وأحاطه، وإذا الدنيا كلّها ظلام.

* والجدار بنية جامدة كالجلمود، لكنّه في تعبير القرآن صاحب حسّ وإرادة وعقل؛ لأنّه يريد أن ينقضّ ( فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ) (4) .

* والجبال، وهي على الأرض يُسار بها مع الأرض، لكنّها في تعبير القرآن هي التي تجتاز الفضاء وتمرّ مرّ السحاب، رغم أنّك تحسبها جامدة أي واقفة لا

____________________

(1) المدّثر: 33 - 34.

(2) الفجر: 4.

(3) الأعراف: 54.

(4) الكهف: 77.

٣٢٩

حراك فيها: ( وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرّ مَرّ السّحَابِ ) (1) .

* والسماوات والأرض تحسبها جوامد، لكنّها تنطق وتُسبّح في منطق القرآن: ( تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ ) (2) .

* والرعد، صوت البرق يحصل من خرق في طبقات الجوّ، لكن له دمدمة وزمزمة وتسبيح ( وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ ) (3) .

* وهكذا الجبال يُرافقنَ الأنبياء في الحمد والتسبيح ( وَسَخّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبّحْنَ ) (4) ( إِنّا سَخّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبّحْنَ بِالْعَشِيّ وَالإِشْرَاقِ ) (5) .

* بل وكان لها (6) عقل واختيار؛ ومِن ثَمّ فإنّها تقع تحت تكليف واختيار ( فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ) (7) .

* وفوق ذلك فإنّ لها حقّ الرفض أو القبول فيها إذا عُرضت عليها مشاقّ التكاليف (8) .

* وهذه جهنم تتكلّم وتنطق عن نَهمها وجشعها، وفوق ذلك فهي ترى وتدعو مَن أدبر وتولّى، فتغيظ عليهم وتكاد تتميّز من الغيظ، ولها زفير وشهيق.

( يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَزِيدٍ... ) (9) .

( إِنّهَا لَظَى‏ * نَزّاعَةً لِلشّوَى * تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلّى...‏ ) (10) .

( إِذَا رَأَتْهُم مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيّظاً وَزَفِيراً ) (11) .

( إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيّزُ مِنَ الْغَيْظِ ) (12) .

____________________

(1) النمل: 88.

(2) الإسراء: 44.

(3) الرعد: 13.

(4) الأنبياء: 79.

(5) ص: 18.

(6) أي للسماوات والأرض.

(7) فصّلت: 11.

(8) الأحزاب: 72.

(9) ق: 30.

(10) المعارج: 15 - 17.

(11) الفرقان: 12.

(12) الملك: 7 و8.

٣٣٠

* وهذه الشمس وهذا القمر كوكبان، الشمس تَشغل مركزية المنظومة وهي تجري لمستقرٍّ لها، وتجرّ معها أبناءها وبناتها، وهم يدورون حولها، والقمر يدور حول الأرض التي هي بدورها تدور حول الشمس، لكنّهما بظاهر المشاهدة الحسّية يدوران حول الأرض عند رؤية العين المجرّدة، كأنَهما يتلاحقان، كما أنّ الليل والنهار يتسابقان على سطح الأرض، هذا من طرف وهذا من جانب، لكن (1) كأنّ عَرْصة الفضاء ساحة المسابقة، والسبّاق هم: الشمس والقمر والليل والنهار، فساحة الكون كلّه عَرْصة السباق، والفضاء جميعه تسابق وتنافس وحركة وحياة... ( صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ) (2) .

* * *

* وأعجب من ذلك أنّه يُصوّر من حالة الغضب - وهي صفة نفسانية - إنساناً صاحب شعور وإدراك رقيق، قد يثور ويفور غيظه ثمّ يهدأ ويسكن غضبه، وقد جاء في التعبير القرآني عن هذا الثَوَران بإلقاء الوساوس والإغراء بالأخطار، وعن ذاك الهدوء بالسكوت والإمساك عن الكلام.

قال الزمخشري - عند تفسير قوله تعالى: ( وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ ) (3) -: كأنّ الغضب كان يُغريه على فعل ما فعل، ويقول له: قل لقومك كذا، وألقِ بالألواح، وجرّ برأس أخيك إليك، هكذا كان يهمس في أُذُنه ويُلقي في روعه، فكأنّ موسى يفعل ما يفعل بإغرائه وتحريضه، حتّى إذا ما سكت الغضب عن الكلام وأمسك بلسانه ترك موسى وشأنه وقطع الإغراء.

قال: ولم يَستحسن هذه الكلمة ولم يَستفصحها كلّ ذي طبع سليم وذوق صحيح إلاّ لذلك؛ ولأنّه من قبيل شُعب البلاغة، وإلاّ فما لقراءة معاوية بن قرة:

____________________

(1) يس: 40.

(2) النمل: 88.

(3) الأعراف: 154.

٣٣١

( وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ ) لا تجد النفس عندها شيئاً من تلك الهزّة وطرفاً من تلك الروعة (1) .

التصوير الفنّي في القرآن

التصوير - وهو تجسيد المعاني - هي الأداة المفضّلة في أُسلوب القرآن، فهو يُعبّر بالصورة المتمثلة عن معنىً ذهني أو حالة نفسية، أو عن حوادث غابرة أو مشاهد آتية، أو عن نموذج إنساني وغرائزه وتصرّفاته في هذه الحياة، فكأنّما هي صورة شاخصة، وهيئة مشهودة، ثمّ يرتقي بالصورة التي يرسمها فيمنحها الحياة ويفيض عليها الحركة، فإذا ما أضاف إليها الحوار فقد استوت لها كل عناصر التجسيد، فما يكاد يبدأ العرض حتى يُحيل المستمعين نُظارة، وحتى ينقلهم نقلاً إلى مسرح الحوادث فيُشرفهم عليها، حيث تتوالى المناظر وتتجدّد الحركات... وحتى ينسى المستمع أنّ هذا كلامٌ يُتلى أو مثلٌ يُضرب، وإنّما يتخيّل أنّه حاضر المشهد بمرأى منه ومسمع، ومِن ثَمّ ترتسم في نفسه سِمات الانفعال بشتّى الوجدانات المنبعثة من مُشاهدة المنظر، المتساوقة مع الحوادث.

نعم إنّها الحياة هنا، وليست حكاية حياة، فإذا كانت الألفاظ - وهي كلمات جامدة وتعابير هامدة، وليست بألوان تصوير وأرياش تحبير - هي التي تُصوّر من المعنى الذهني نموذجاً إنسانيّاً، ومن الحادث المرويّ أو الحالة النفسية لوحةً مشهودةً أو منظراً مشهوداً، أدركنا بعض أسرار الإعجاز في تعبير القرآن (2) .

قال السيد رشيد رضا: وهذا النوع من التشبيه - وهو إبراز المعاني في صورة التمثيل - نادر فذّ بديع، ويقلّ في كلام البلغاء، لكنّه كثير وافر في القرآن العزيز (3) .

____________________

(1) الكشّاف: ج2 ص163.

(2) سيد قطب في تصويره الفني: ص29.

(3) هامش أسرار البلاغة: ص92.

٣٣٢

وقلّما يوجد في سائر الكلام تشبيه غير معيب، وقد عقد ابن الأثير باباً ذكر فيه معايب التشبيه الواقع في كلام البلغاء؛ لقصورهم عن الإحاطة بجوانب فنّ التصوير، هذا أبو تمّام - الشاعر المفلّق - يُريد أن يصف السخاء فيجسّده في صورة ذي حياة، فيجعل له رَوثاً وفَرثاً ممّا تأباه طبيعة السخاء المترفّع عن الأدناس، قال في قصيدة يمدح بها أبا سعيد كرمه وجوده:

وتقاسمَ الناسُ السخاءَ مجزّأً

وذهبتَ أنتَ برأسهِ وسَنامِهِ

وتركتَ للناسِ الإهابَ وما بقي

مِن فَرثِه وعروقِه وعظامِه

قال ابن الأثير: والقبح الفاحش في البيت الثاني، وكل هذا التعسّف في التشبيه البعيد دندندة (1) حول معنى ليس بطائل، فإنّ غرضه أن يقول: ذهب بالأعلى وترك للناس الأدنى، أو أذهبت بالجيّد وتركت للناس الرديّ (2) .

نعم إنّه صَوّر من السخاء حيواناً له رأس وسنام، وهذا لا عيب فيه، إنّما العيب في جعل الإهاب والفرث - وهو السرجين داخل الكرش - له، الأمر الذي تتجافاه سجية السخاء التي هي مكرمة خالصة.

فوائد التمثيل:

والتجسيد الفنّي يُسمّى عندهم بالتمثيل، وكان من أروع أنواع التشبيه، ذو فوائد وحِكم شتّى ذكرها أرباب البيان:

قال الشيخ عبد القاهر الجرجاني: اتّفق العقلاء على أنّ التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني أو برزت هي باختصار في معرضه، ونُقلت عن صورها الأصلية إلى صورة التمثيل، كساها أُبّهة، وكسبها منقبةً، ورفع من أقدارها، وشبّ من نارها، وضاعف قُواها في تحريك النفوس لها، ودعا القلب إليها، واستنار لها من أقاصي

____________________

(1) الدندنة: طنين الذباب.

(2) المَثل السائر: ج2 ص154.

٣٣٣

الأفئدة صبابة وكلفاً، وقَسَر الطباع على أن تعطيها محبةً وشغفاً.

ثمّ جعل يُعدّد فوائده في أنواع الكلام، مدحاً أو ذمّاً، حجاباً أو فَخاراً أو اعتذاراً، أو وعظاً وإرشاداً، ونحو ذلك، قال:

فإن كان مدحاً كان أبهى وأفخم، وأنبل في النفوس وأعظم، وأهزّ للعطف، وأسرع للأُلف، وأجلب للفرح، وأغلب على الممتدح، وأوجب شفاعة للمادح، وأقضى له بغُرّ المواهب والمنائح، وأَسير على الألسن وأذكر، وأولى بأن تعلّقه القلوب وأجدر.

* ومثاله في القرآن قوله تعالى - في وصف المؤمنين الذين ثبتوا على الإيمان والجهاد في سبيله صفّاً كأنّهم بنيانٌ مرصوص -: ( مُحَمّدٌ رّسُولُ اللّهِ وَالّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكّعاً سُجّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللّهِ وَرِضْوَاناً سِيَماهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِنْ أَثَرِ السّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى‏ عَلَى‏ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزّرّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفّارَ ) (1) .

فقد شبّه صلابة الإيمان بزرع نَما فقوى، فخرج فرخه من قوته وخصوبته، فاشتدّ واستغلظ الزرع، وضخُمت ساقه وامتلأت، فاستوى وازدهر، الأمر الذي يبعث على الابتهاج والإعجاب من جهة، وإغاظة الكفّار من جهة أُخرى.

* وقوله تعالى: ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ) (2) .

قال الزمخشري: يجوز أن يكون تمثيلاً، لاستظهاره به ووثوقه بحمايته، بامتساك المتدلّي من مكان مرتفع بحبل وثيق يُأمن انقطاعه.

فقد شُبّهت عُرى الدين بوشائج وثيقة تربط الأُمّة بعضها ببعض، فكأنّ الشريعة المقدّسة حبل ممدود على طرف مهواة سحيقة، والأُمّة المتماسكة مستوثقون

____________________

(1) الفتح: 29.

(2) آل عمران: 103.

٣٣٤

بعراها استيثاقاً يأمن جانبهم من أخطار السقوط، ويُنجيهم من مهاوي الضلال.

* وقوله تعالى: ( اللّهُ وَلِيّ الّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ ) (1) شبّه الهدى بالنور، والضلال بالظلمات، والاهتداء بحالة الخروج من الظلمات إلى النور.

* وقوله تعالى: ( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذّلّ مِنَ الرّحْمَةِ ) (2) شَبّه الأولاد بأفراخ الطير تستذلّ لدى والديها تستطعمهما وتسترحمهما، ودليلاً على ذلك تبسط أجنحتها على الأرض خفضاً وذلاً، وهي من المبالغة في التشبيه وتصوير حالة الذلّ في موضع ينبغي الذلّ فيه بمكان.

* وقوله تعالى: ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ) (3) لو اعتبرنا التشبيه في جملة (فاصدع) فقد شُبّهت شوكة المشركين وهيبتهم بصرح زجاجي، وشُبّهت الدعوة بمصادمة هذا الصرح، وشُبّه التأثير البليغ بالصدع، وهو الأثر البيّن في الزجاجة المصدومة.

وهذا من تشبيه عدّة أشياء بأشياء مع إفاضة الحركة والفعل والانفعال، فقد شبّه النبي (صلّى الله عليه وآله) في إبلاغ دعوته للمشركين بمَن يرمي بقذائفه إلى قلاع مبنية من زجاجات سريعة التكسّر والانهيار.

* * *

قال: وإن كان ذمّاً كان مسّه أوجع وميسمه ألذع، ووقعه أشدّ وحدّه أحدّ، كما جاء في قوله تعالى - في تصوير حالة من أُوتي الهداية لغيّه وانسلخ منها -: ( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ) (4) إنّه من التمثيل الرائع وفي نفس الوقت لاذع، إنّه يمثّل مشهد إنسان يُؤتيه الله آياته ويخلع عليه من فضله ويُعطيه الفرصة للاكتمال والارتفاع... ولكن، ها هو ذا ينسلخ من هذا كله انسلاخاً، كمَن ينسلخ عن أديم جلده بجهد ومشقّة، ويتجرّد من الغطاء الواقي

____________________

(1) البقرة: 257.

(2) الإسراء: 24.

(3) الحجر: 94.

(4) الأعراف: 176.

٣٣٥

والدرع الحامي، ويهبط من الأُفق العالي إلى سافل الأرض، فيُصبح غرضاً للشيطان، لا وقاية ولا حِمى، وإذا هو أُلعوبة أو كرة قدم تتقاذفه الأقدار، لا إرادة له ولا اختيار، فمثله كمثل كلب هِراش لا صاحب له، ويلهث (1) من غير هدف، ويتضرّع من غير أن يجد مَن يشفق عليه.

وهكذا جاء تصويره لمَن حُمّل ثقل الحقّ ولا يهتدي به بالحمار يحمل أسفاراً، هي أفضل ودائع الإنسان، يَئنّ بثقلها ولا يعي شرف محتواها: ( مَثَلُ الّذِينَ حُمّلُوا التّوْرَاةَ ثُمّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً ) (2) .

فقد كُلّفوا حمل أمانة الله في الأرض، لكن القلوب الحيّة الواعية هي التي تطيق عبء هذه الأمانة، وقد افتقدها هؤلاء فلم يصلحوا لحملها ومرافقتها.

* * *

وإن كان حجاباً كان برهانه أنور، وسلطانه أقهر، وبيان أبهر، قال تعالى: ( مَثَلُ الّذِينَ اتّخَذُوا مِن دُونِ اللّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ ) (3) .

وقال تعالى: ( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنّ وَالأَذَى‏ كَالّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَ يَقْدِرُونَ عَلَى‏ شَيْ‏ءٍ مِمّا كَسَبُوا وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) (4) .

قال ابن معصوم - في قوله تعالى: ( أَيُحِبُ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ ) (5) -: إنّه من التمثيل اللطيف، مُثّل الاغتياب بأكل الإنسان لحم إنسان آخر مثله، ثمّ لم يقتصر عليه حتى جعله لحم الأخ وجعله ميّتاً، وجعل ما هو في

____________________

(1) اللهث: دَلع اللسان عطشاً أو تعباً.

(2) الجمعة: 5.

(3) العنكبوت: 41.

(4) البقرة: 264.

(5) الحجرات: 12.

٣٣٦

غاية الكراهة موصولاً بأخيه، ففيه أربع دلالات واقعة على ما قصدت له مطابقة المعنى الذي وردت لأجله:

أمّا تمثيل الاغتياب بأكل لحم المغتاب فشديد المناسبة جدّاً؛ لأنّه ذكر مثالب الناس وتمزيق أعراضهم.

وأمّا قوله (لحم أخيه) ؛ فلِما في الاغتياب من الكراهة، وقد اتّفق العقل والشرع على استكراهه.

وأمّا قوله (ميتاً)؛ فلأجل أنّ المغتاب لا يشعر بغيبته ولا يحسّ بها (1) .

* * *

قال: وان كان افتخاراً كان شأوه أبعد، وشرفه أجدّ، ولسانه ألذّ، قال تعالى: ( وَمَا قَدَرُوا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْسّمَاوَاتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى‏ عَمّا يُشْرِكُونَ ) (2) .

وإن كان اعتذاراً كان إلى القبول أقرب، وللقلوب أخلب، وللسخائم أسلّ، ولغرب الغضب أفلّ، وفي عقد العقود أنفث، وعلى حسن الرجوع أبعث (3) .

وإن كان وعظاً كان أشفى للصدر، وأدعى إلى الفكر، وأبلغ في التنبيه والزجر، وأجدر بأن يجلي الغياية (4) ويبصر الغاية، ويبرئ العليل ويشفي الغليل.

قال تعالى - في وصف نعيم الدنيا وزوالها -: ( اعْلَمُوا أَنّمَا الْحَيَاةُ الدّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفّارَ نَبَاتُهُ ثُمّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَراً ثُمّ يَكُونُ حُطَاماً ) (5) .

____________________

(1) أنوار الربيع: ج3 ص179.

(2) الزمر: 67.

(3) يقال: خَلَبه أي أصاب خِلبه أي قلبه وسلبه إيّاه وفتنه، والسخائم: الضغائن، وسلّها: نزعها، وغرب السيف: حدّه، وفلّه: ثلمه، والنفث: النفخ مع التفل.

(4) الغياية - بياءين -: كل ما يغطّي الإنسان من فوق رأسه.

(5) الحديد: 20.

٣٣٧

وقال تعالى: ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السّماءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَالَهَا مِن قَرَارٍ * يُثَبّتُ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلّ اللّهُ الظّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ ) (1) .

وقال تعالى: ( أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ أَنزَلَ مِنَ السّماءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنّ فِي ذلِكَ لَذِكْرَى‏ لأُوْلِي الأَلْبَابِ ) (2) .

قال الجرجاني: وهكذا في سائر فنون الكلام وضروبه ومختلف أبوابه وشعوبه (3) .

* * *

____________________

(1) إبراهيم: 24 - 27.

(2) الزمر: 21.

(3) أسرار البلاغة: ص 92 - 96.

٣٣٨

8 - جودة استعارته وروعة تخييله

قد أكثر القرآن من أنواع الاستعارة وأجاد في فنونها (1) وكان لابدّ منه وهو آخذ في توسّع المعاني توسّع الآفاق، في حين تضايق الألفاظ عن الإيفاء بمقاصد القرآن، لو قُيّدت بمعانيها الموضوعة لها المحدودة النطاق.

جاء القرآن بمعانٍ جديدة على العرب، لم تكن تعهدها، ولا وُضعت ألفاظها إلاّ لمعانٍ قريبة، حسب حاجاتها في الحياة البسيطة البدائية القصيرة المدى، أمّا التعرّض لشؤون الحياة العليا المترامية الأبعاد فكان غريباً على العرب الأوائل المتوغّلة في الجاهلية الأُولى.

ومِن ثَمّ لجأ القرآن في إفادة معانيه والإشادة بمبانيه إلى أحضان الاستعارة والكناية والمجاز، ذوات النطاق الواسع، حسب إبداع المتكلّم في تصرّفه بها، وقدرته على الإحاطة عليها في تصريف المباني والإفادة بما يرومه من المعاني، وقد أبدع القرآن في الاستفادة بها وتصريفها حيثما شاء من المقاصد والأهداف، ولم يُعهد له نظير في مثل هذه القدرة على مثل هذا التصرّف الواسع الأكناف، الأمر

____________________

(1) وقد كان الفصل السابق معرضاً خصباً لأنواع الاستعارة وفنونها، حيث الكلام عن فنون التشبيه وأنواعه، والاستعارة بأشكالها نوع من التشبيه ومتوقفة عليه.

٣٣٩

الذي أبهر وأعجب وأتى بالإعجاز.

وإليك إلمامة بجوانب من هذه الظاهرة القرآنية:

تعريف الاستعارة:

قال عبد القاهر: الاستعارة أن يكون لفظ الأصل في الوضع اللغوي معروفاً، وتدلّ الشواهد على اختصاصه به، فيكون استعماله في غيره نقلاً إليه نقلاً غير لازم، فيشبه أن تكون عارية (1) .

وقال السكاكي: هو أن تنوي التشبيه، ولا تُصرّح به، فتذكر أحد طرفي التشبيه وتريد به الآخر، مدّعياً دخول المشبّه في جنس المشبّه به، بدلالة ما تذكر له من خصائص المشبّه به، فلو قلت: في الدار أسد، وأنت تريد به إنساناً شجاعاً، كأنّك ادّعيت أنّه من جنس الأُسود فأثبتّ له خاصّية من خصائص الأسد وهي الشجاعة، وهذا فيما ذكر المشبّه به وأُريد المشبّه، وأمّا العكس فكقولك: أنشبت المنيّة أظفارها بفلان، وأنت تريد بالمنيّة السبع، فقد شبّهتها به وأفردتها بالذكر، وادّعيت لها السبُعية وإنكار أن تكون شيئاً غير السبع؛ ومِن ثَمّ أثبتّ لها الأظفار وهي من خصائص السبع (2) .

وعليه فالاستعارة - بأنواعها الكثيرة - مبتنية على التشبيه، لكنّه مضمر في النفس غير مصرّح به، سوى أنّك تذكر أحد طرفي التشبيه مقتصراً عليه، وإنّما تردفه بخصوصية من خصوصيات طرفه الآخر المطوي ذكره، دليلاً على التشبيه.

فالاستعارة نوع من المجاز كانت علاقتها المجوّزة هي المشابهة، وتفوق عليه بما فيها من المبالغة وكونها الحقيقة الادّعائية، على ما فرضه السكاكي، وكذلك يفوق التشبيه في جعل المشبّه من جنس المشبّه به، وذلك بترك التصريح بالتشبيه،

____________________

(1) أسرار البلاغة: ص22.

(2) مفتاح العلوم: ص174.

٣٤٠