تلخيص التمهيد الجزء ٢

تلخيص التمهيد10%

تلخيص التمهيد مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 579

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 103990 / تحميل: 10585
الحجم الحجم الحجم
تلخيص التمهيد

تلخيص التمهيد الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

وعدّوا هذا النوع من الاستعارة (التكنية والتخييل) من أبدع أنواع الاستعارات روعةً وجمالاً؛ حيث موضع ذلك التصوّر النفسي البديع، وكلّما كان ما تصوّره الوهم أوفى بواقعية الأمر وأبلغ كانت الاستعارة أبهى وأجمل.

قال السكاكي: الاستعارة بالكناية أن تَذكر المشبّه وتضيف إليه شيئاً من لوازم المشبّه به على سبيل الاستعارة التخييلية. فتقول: مخالب المنيّة نَشبت بفلان، طاوياً لذكر المشبّه به، فقد شَبّهت المنيّة بالسبُع في اغتيال النفوس وانتزاع أرواحها بالقهر والغَلبة، من غير تفرقة بين نفّاعٍ وضرّارٍ، ولا رقّة لمرحوم ولا بُقيا على ذي فضيلة، تشبيهاً بليغاً حتى كأنّها سبُع من السباع، فيأخذ الوهم في تصويرها في صورة السبع واختراع ما يلازم صورته ويتمّ بها مشاكلته من أعضاء وجوارح، وعلى الخصوص ما يكون قوام اغتيال السبع للنفوس بها، وتمام افتراس الفرائس بها، من الأنياب والمخالب، ثمّ تُطلق على مخترعات و همك أسامي من المتحقق؛ لتفيض عليها تلك الصورة الوهمية.

وهكذا إذا شبّهت الحال في دلالتها على أمر بإنسان يتكلّم، فيعمل الوهم في الاختراع للحال ما يكون قِوام التكلّم به، وهو تصوير صورة اللسان، ثمّ تُطلق عليه اسم اللسان المتحقق وتضيفه إلى الحال، قائلاً: لسان الحال ناطق بكذا.

أو أن تُشبّه ولاية أمر صادفتها واقعة تحت مشيئة امرؤ، وتابعة لرأيه يتصرّف فيها كيف يشاء، بالناقة المنقادة التابعة لمستتبعها كيف أراد، فتُثبت لها في الوهم ما هو قِوام ظهور انقياد الناقة به، وهو صورة الزِمام، فتُطلق عليها اسم الزِمام المتحقق، قائلاً: زِمام الحُكم بيد فلان.

قال: وقد ظهر أنّ الاستعارة بالكناية لا تنفكّ عن الاستعارة التخييلية أبداً (١) .

____________________

(١) مفتاح العلوم: ص١٧٨ - ١٧٩.

٣٦١

٦ - الاستعارة التمثيلية:

قال جلال الدين السيوطي: التشبيه من أعلى أنواع البلاغة وأشرفها، واتّفق البلغاء على أنّ الاستعارة أبلغ من التشبيه، فالاستعارة أعلى مراتب الفصاحة، وكذا الكناية أبلغ من التصريح، والاستعارة أبلغ من الكناية، فقد تصدّرت الاستعارة أعلى مراتب بلاغة البيان وأفصحها.

وأبلغ أنواع الاستعارة هي التمثيلية؛ لأنّها تنفث في التشبيه روح الحقيقة، وتُفضي عليها الحركة والحياة، فيتناسى التشبيه، وكأنّ الحقيقة بذاتها ظهرت وأبدت معالمها... (١) .

والاستعارة التمثيلية هي من المجاز المركّب، وحقيقتها: أن تُشبّه إحدى الصورتين المنتزعتين من متعدّد بالأُخرى، ثمّ تتخيّل أنّ الصورة المشبّه بها عين الصورة المشبّهة، فتُطلق تلك على هذه إطلاقاً بالاستعارة.

كما يقال لمَن يتردّد في أمر: أراك تُقدّم رِجلاً وتُؤخّر أُخرى، فقد شبّه صورة تردّده النفسي في الإقدام والإمساك بمَن قام ليذهب فتردّد في الذهاب، فتارةً يتقدّم وأُخرى ينصرف فيتأخر (٢) .

فهذا أبلغ تشبيه في تصوير حالته النفسية المضطربة، لا يستطيع الجزم والبتّ فيما يريد.

وهذا النوع من الاستعارة بل التمثيل في القرآن كثير، وقد تقدّم كثير من أمثلتها في حقل التصوير الفنّي في القرآن.

* * *

____________________

(١) معترك الأقران: ج١ ص٢٨٢.

(٢) المطوّل: ص٣٧٩.

٣٦٢

٩ - لطيف كنايته وظريف تعريضه

الكناية بمعنى الستر، تقول: كنّيت الشيء إذا سترته، ومنه الكُنية، لستر اسمه تفخيماً لمقامه.

قال السكاكي: هي ترك التصريح بذكر الشيء إلى ذكر ما يلزمه لينتقل منه إلى ملزومه (١) .

قال ابن الأثير: الكناية إذا وردت تجاذبها حقيقة ومجاز، وجاز حملها على الجانبين معاً، أَلا ترى أنّ اللمس في قوله تعالى: ( أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ ) (٢) كناية عن الجماع، يجوز حمله على الحقيقة وعلى الجاز، وكل منهما يصحّ به المعنى ولا يختلّ؛ لأنّ اللمس خارجاً لازم الجماع لا محالة.

والفرق بينها وبين التعريض: أنّ التعريض هو اللفظ الدالّ على الشيء من طريق المفهوم وإن لم يكن من لوازمه، كما إذا قلت لمَن تتوقع صلته: والله إنّي لَمحتاج، فإنّه تعريض بالطلب، وليس موضوعاً له لا حقيقةً ولا مجازاً، بخلاف دلالة اللمس على الجماع دلالة باللازم على الملزوم؛ ومِن ثَمّ كان التعريض أخفى من الكناية، وأبرع منها إذا وقع موقعه؛ لأنّ دلالة الكناية لفظية (دلالة الإشارة)

____________________

(١) مفتاح العلوم: ص١٨٩.

(٢) النساء: ٤٣، المائدة: ٦.

٣٦٣

ودلالة التعريض عقلية، يجب أن يتنبّه لها العقل، لا بالوضع الحقيقي ولا المجازي، وإنّما سُمّي تعريضاً؛ لأنّ المعنى منه يفهم من عرضه أي من جانبه، وعرض كل شيء جانبه (١) .

* * *

وللناس في الفَرق بين الكناية والتعريض عبارات متقاربة:

فقال الزمخشري: الكناية ذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له، والتعريض أن يذكر شيئاً يدلّ به على شيء لم يذكره.

وقال ابن الأثير: الكناية ما دلّ على معنى يجوز حمله على الحقيقة والمجاز بوصف جامع بينهما، والتعريض: اللفظ الدالّ على معنى لا من جهة الوضع الحقيقي أو المجازي، كقول من يتوقّع صلة: والله إنّي لمحتاج، فإنّه تعريض بالطلب، مع أنّه لم يُوضع له لا حقيقةً ولا مجازاً، وإنّما فُهم من عرض اللفظ، أي جانبه.

وقال السبكي في كتاب (الإغريض في الفرق بين الكناية والتعريض): الكناية لفظ استُعمل في معناه مراداً منه لازم المعنى، فهو بحسب استعمال اللفظ في المعنى حقيقة، والتجوّز في إرادة إفادة ما لم يُوضع له وقد لا يُراد منها المعنى، بل يُعبّر بالملزوم عن اللازم، وهي حينئذٍِ مجاز.

ومن أمثلته: ( قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً ) (٢) فانّه لم يُقصد إفادة ذلك؛ لأنّه معلومٌ، بل إفادة لازمه، وهو أنّهم يَرِدونها ويجدون حرّها إن لم يجاهدوا.

وأمّا التعريض فهو لفظ استُعمل في معناه للتلويح بغيره، نحو: ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ) (٣) نسب الفعل إلى كبير الأصنام المتّخذة آلهة، كأنّه غضب أن تُعبد الصِّغار معه، تلويحاً لعابيدها بأنّها لا تصلح أن تكون آلهة، لِما يعلمون - إذا نظروا بعقولهم - من عجز كبيرها عن ذلك الفعل، والإله لا يكون عاجزاً، فهو حقيقة أبداً.

____________________

(١) المَثَل السائر: ج٣ ص٥٢ و٥٦.

(٢) التوبة: ٨١.

(٣) الأنبياء: ٦٣.

٣٦٤

وقال السكاكي: التعريض ما سيق لأجل موصوف غير مذكور، ومنه أن يُخاطب واحد ويراد غيره، وسُمّي به؛ لأنّه أُميل الكلام إلى جانب مشاراً به إلى آخر، يقال: نظر إليه يعرض وجهه، أي جانبه (١) .

* * *

قال الطيّبي: وذاك يُفعل؛ إمّا لتنويه جانب الموصوف، ومنه: ( وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ) (٢) أي محمّد (صلّى الله عليه وآله) إعلاءً لقدره، أي أنّه العَلَم الذي لا يشتبه، وإمّا للتلطّف وبه واحترازاً عن المخاشنة، نحو: ( وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي ) (٣) أي ومالكم لا تعبدون، بدليل قوله: ( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ، وكذا قوله: ( أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ) (٤) ووجه حسنه إسماع مَن يقصد خطابه الحقّ على وجه يمنع غضبه؛ إذ لم يصرّح بنسبته للباطل، والإعانة على قبوله، إذ لم يرد له إلاّ ما أراد لنفسه.

وإمّا لاستدراج الخصم إلى الإذعان والتسليم، ومنه: ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) (٥) خوطب النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وأُريد غيره؛ لاستحالة الشرك عليه شرعاً.

وإمّا للذمّ نحو: ( إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ ) (٦) ، فإنّه تعريض بذمّ الكفّار، وإنّهم في حكم البهائم الذين لا يتذكّرون.

وإمّا للإهانة والتوبيخ، نحو: ( وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ) (٧) ، فإنّ سؤالها لإهانة قاتلها وتوبيخه.

قال السبكي: التعريض قسمان:

قسم يُراد به معناه الحقيقي ، ويُشار به إلى المعنى الآخر المقصود كما تقدّم.

وقسم لا يُراد ، بل يُضرب مثلاً للمعنى الذي هو مقصود التعريض، كقول

____________________

(١) معترك الأقران: ج١ ص٢٩٢.

(٢) البقرة: ٢٥٣.

(٣) يس: ٢٢.

(٤) يس: ٢٣.

(٥) الزمر: ٦٥.

(٦) الرعد: ١٩ والزمر: ٩.

(٧) التكوير: ٨ و٩.

٣٦٥

إبراهيم: ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ) (١) (٢) .

* * *

وقد جعل السكاكي التعريض قسماً من الكناية؛ إذ جعلها تعريضاً وتلويحاً ورمزاً وايماءً وإشارةً. قال: متى كانت الكناية عرضية، كقولك: المؤمن لا يؤذي أخاه المسلم، تعريضاً بمَن يتصدّى لإيذاء المؤمنين بأنّه ليس بمؤمن، فهذه كان إطلاق اسم التعريض عليها مناسباً.

وإذ لم تكن الكناية عرضية نظر، فإن كانت مسافةُ بينها وبين المكنّى عنه مسافةً متباعدةً لتوسّط لوازم كثير كما في (كثير الرماد) وأشباهه كان إطلاق اسم التلويح عليها مناسباً؛ لأنّ التلويح هو أن تُشير إلى غيرك عن بُعد.

وإن كانت ذات مسافة قريبة بقلّة اللوازم لكن مع نوع خفاء مثل قولهم (عريض القفا) و(عريض الوسادة) كان إطلاق اسم الرمز مناسباً؛ لأنّ الرمز هو أن تُشير إلى قريب منك على سبيل الخفية.

وإن كانت لا خفاء فيها كان إطلاق اسم الإيماء والإشارة عليها مناسباً (٣) .

ومن لطيف الكناية وحسنها ما يأتي بلفظة (مثل) في قولك (مثلك لا يبخل) حيث نفيت عنه القبيح بأحسن وجه؛ لأنّه إذا نفاه عمّن يُماثله فقد نفاه عنه لا محالة، إذ هو بنفي ذلك عنه أجدر، وإلاّ لم يكونا متماثلين.

وعليه ورد قوله تعالى: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (٤) وإن كان الله سبحانه لا مِثل له، لكنّه كناية عن نفي مشابهته لشيء بأبلغ وجه؛ لأنّ مِثله تعالى - فَرَضاً - إذا لم يكن له مثيل فهو تعالى أولى بأن لا يكون له نظير.

* * *

ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: ( أَيُحِبُ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً

____________________

(١) الأنبياء: ٦٣.

(٢) معترك الأقران: ج١ ص٢٩٣.

(٣) مفتاح العلوم: ص١٩٠ و١٩٤.

(٤) الشورى: ١١.

٣٦٦

فَكَرِهْتُمُوهُ ) (١) ، فإنّه كنّى عن الغِيبة بأكل الإنسان لحم إنسانٍ آخر مِثله، ولم يقتصر على ذلك حتى جعله ميّتاً، ثمّ جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولاً بالمحبّة، قال ابن الأثير: فهذه أربع دلالات واقعة على ما قصدت له مطابقة للمعنى الذي وردت من أجله.

أمّا جعل الغِيبة كأكل لحوم الناس فهو شديد المناسبة جدّاً؛ لأنّها ذكر مثالب المغتاب والوقوع في عِرضه، بل والحطّ من كرامته بما يهدم شخصيّته وإيجاب النفرة منه، الأمر الذي يستدعي إبعاده عن الحياة العامّة، ولا سيّما الحياة العملية المبتنية على تبادل الثقة بين أفراد الجامعة، فلا يعتمده إنسان ولا يثق به غيره بعد حصول هذه النفرة بينه وبين سائر الناس؛ كل ذلك مغبّة فضحه بين الناس بسبب إبداء معايبه الخفية بالاغتياب، فكان كعضو أشلّ لهيكل الجامعة الإنسانية، وكان موته وشلله حينذاك سواء.

إذاً فالذي يفعله المغتاب يشبه تماماً بمَن قتل أخاه (العضو الفعّال الآخر للجامعة) واقتات على لحمه ميتاً، فما أشدّ كراهته؟ فهذا مثله.

فالغيبة إذا شاعت فإنّما هي قتل النفوس وتمزيق أعراضهم وهدم شخصيّاتهم، فما أبشعها وأدقّها تعبيراً ووفاءً بمقصود الكلام.

وكذلك قوله تعالى: ( وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لّمْ تَطَؤُوها ) (٢) ، قال ابن الأثير: والأرض التي لم يطؤُوها كناية عن مناكح النساء، وهو من حسن الكناية ونادرها.

* * *

وقوله تعالى: ( أَنزَلَ مِنَ السّماءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةُ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السّيْلُ زَبَداً

____________________

(١) الحجرات: ١٢.

(٢) الأحزاب: ٢٧.

٣٦٧

رَابِياً وَمِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقّ وَالْبَاطِلَ فَأَمّا الزّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمّا مَا يَنفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ ) (١) .

قال الزمخشري: هذا مَثل ضَربه الله للحقّ وأهله والباطل وحزبه، فكنّى بالماء عن العِلم، وبالأدوية عن القلوب، وبالزَبد عن الضلال.

إنّ الماء لينزل من السماء فتسيل به الأودية، كلٌّ بقدرها، وهو بطبيعة جريه وسيلانه يلمّ في طريقه غثاء، فيطفو على وجهه صورة زَبد، هي الشكوك الحاصلة من تضارب الآراء وحجاج الخصوم، حتى ليحجب الماء أي الحقيقة في بعض الأحيان.

وقد يكون هذا الزَبد نافشٌ رابٍ منتفخ، ليبدو فخيماً في شكله وظاهر صورته، ولكنّه في حقيقته غثاء، أمّا الماء من تحته فهو ساربٌ ساكنٌ هادئ، لكنّه الماء الحامل للخير والحياة، وسرعان ما تنصع حقيقته الصافية، وينقشع عن وجهه غبار الأوهام.

كذلك يُتصوّر في المعادن والفلزّات التي تُذاب لتصاغ منها الحُلي أو الأواني والآلات النافعة للحياة، فإنّها عند الذوبان يطفو عليها الخبث وقد يحجب وجه الفلزّ الأصيل، ولكنّه بعدُ خبثٌ يذهب جفاء، ويبقى الفلزّ نقيّاً خالصاً نافعاً في الحياة.

وذلك مثل الحقّ يُجلّله غبار الباطل أحياناً، لكنّه لا يلبث أن ينصدع فتتجلّى الحقيقة ناصعةً بيضاء لامعة. ( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ) ومِن ثَمّ عقّبه بقوله: ( وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ) (٢) تصف ألسنتكم الكذب من تشكيك وأوهام وخرافات (٣) .

حكمة الكناية وفوائدها

للكناية فوائد وحِكم ذكرها أرباب البيان، ولخّصها جلال الدين السيوطي في

____________________

(١) الرعد: ١٧.

(٢) الأنبياء: ١٨.

(٣) الكشّاف: ج٢ ص٥٢٣، المَثل السائر: ج٣ ص٦٣، في ظِلال القرآن: ج٥ ص٨٥.

٣٦٨

ستة وجوه:

أحدها: التنبيه على عِظَم القدرة، نحو ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) (١) كناية عن آدم (عليه السلام) فإنّ إخراج الذرّ الكثير من أصل واحد دليل على عظمة الصانع تعالى وقدرته الخارقة، فلو كان صرّح باسمه (عليه السلام) لكانت إشادة بشأنه بالذات.

ثانيها: ترك اللفظ إلى ما هو أجمل، نحو: ( إِنّ هذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ ) (٢) ، فكنّى بالنعجة عن المرأة كعادة العرب في ذلك؛ لأنّ ترك التصريح بذِكر المرأة أجمل منه، ولهذا لم تذكر في القرآن امرأة باسمها إلاّ مريم.

قال السهيلي: وإنّما ذكرت (مريم) باسمها على خلاف عادة الفصحاء؛ لنكتة، وهي أنّ الملوك والأشراف لا يذكرون حرائرهم في ملأ، ولا يبتذلون أسماءهنّ، بل يُكنّون عن الزوجة بالفَرس والعيال ونحو ذلك، فإذا ذكروا الإماء لم يكنّوا عنهنّ ولم يصونوا أسماءهنّ عن الذِكر، فلمّا قالت النصارى في مريم ما قالوا صرّح الله باسمها، ولو لم يكن تأكيداً للعبودية التي هي صفة لها و تأكيداً لأنّ عيسى لا أب له، وإلاّ لنسب إليه.

ثالثها: أن يكون في التصريح ممّا يستقبح ذكره، ككناية الله عن الجماع بالملامسة والمباشرة والإفضاء والرَفث والدخول والسرّ في قوله: ( وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً ) (٣) والغشيان في قوله: ( فَلَمَّا تَغَشَّاهَا ) (٤) .

أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس، قال: المباشرة الجماع، ولكن الله يكنّي، وأخرج عنه، قال: إنّ الله كريم يُكنّي ما شاء، وإنّ الرفث هو الجماع.

وكنّى عن طلبه بالمراودة في قوله: ( وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ ) (٥) ، وعنه أو عن المعانقة باللباس في قوله: ( هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ) (٦)

____________________

(١) الأعراف: ١٨٩.

(٢) ص: ٢٣.

(٣) البقرة: ٢٣٥.

(٤) الأعراف: ١٨٩.

(٥) يوسف: ٢٣.

(٦) البقرة: ١٨٧.

٣٦٩

وبالحرث في قوله: ( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ ) (١) .

وكنّى عن البول ونحوه بالغائط في قوله ( أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ ) (٢) ، وأصله المكان المطمئنّ من الأرض.

وكنّى عن قضاء الحاجة بأكل الطعام في قوله في مريم وابنها: ( كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ ) (٣) .

وكنّى عن الأستاه بالأدبار في قوله: ( يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ) (٤) ، أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في هذه الآية قال: يعني أستاههم، ولكنّ الله يُكنّي ما شاء.

* * *

وأورد على ذلك التصريح بالفرج في قوله: ( وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا ) (٥) .

وقوله: ( أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا ) (٦) .

وأُجيب بأنّ المراد به فرج القميص، والتعبير به من لطيف الكنايات وأحسنها، أي لم يعلّق بثوبها ريبة، فهي طاهرة الثوب، كما يقال: نقيّ الثوب، وعفيف الذيل كناية عن العفّة، ومنه: ( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ) (٧) ، وكيف يُظنّ أنّ نفخ جبريل وقع في فرجها، وإنّما نَفخ في جيب درعها. ونظيره أيضاً ( وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ ) (٨) .

قال الفرّاء: والفرج هاهنا: جيب درعها، وذُكر أنّ جبرائيل (عليه السلام) نفخ في جيبها. وكل ما كان في الدرع من خَرق أو غيره يقع عليه اسم الفرج، قال الله تعالى: ( وَمَا لَهَا

____________________

(١) البقرة: ٢٢٣.

(٢) المائدة: ٦.

(٣) المائدة: ٧٥.

(٤) الأنفال: ٥٠.

(٥) الأنبياء: ٩١.

(٦) التحريم: ١٢.

(٧) المدّثر: ٤.

(٨) الممتحنة: ١٣.

٣٧٠

مِنْ فُرُوجٍ ) (١) يعني السماء من فطور ولا صدوع (٢) .

وقال في موضع آخر: ذكر المفسّرون أنّه جيب درعها، ومنه نُفخ فيها (٣) ودرع المرأة قميصها، وهكذا قال السيد شبّر والطبرسي وغيرهما من أعلام المفسّرين (٤) .

قال الراغب: الفرج والفرجة: الشقّ بين الشيئين كفرجة الحائط، والفرج: ما بين الرجلين. وكنّى به عن السَوأَة، وكثُر استعماله حتى صار كالصريح فيه.

قلت: وإطلاق الفرج على الجيب باعتبار أنّه الشقّ الواقع بين جانبي الدرع، إطلاق على أصله، وكنّى به عن السَوأَة، سواء أكانت من الرجال أم من النساء، كما في قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ) (٥) ، (٦) ، ( وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ ) (٧) .

وحفظ الفرج كناية عن التحفّظ على طهارته وأن لا يتدنّس باقتراب قذارة أو يتلوّث بارتكاب حرام، كناية بليغة عن التعفّف واجتناب الفحشاء.

وعليه فحصانة الفرج كناية عن طهارة الذيل، الذي هو بدوره كناية عن التعفّف، ومِن ثَمّ فيه كناية عن كناية نظير المجاز عن المجاز، فتدبّر، فانّه لطيف.

* * *

رابعها: قصد المبالغة والبلاغة، نحو قوله تعالى: ( أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ) (٨) ، كنّى عن النساء بأنهنّ يَنشأنَ في الترفّه والتزيّن والشواغل عن النظر في الأُمور ودقيق المعاني، ولو أتى بلفظ النساء لم يُشعر بذلك، والمراد نفي ذلك عن الملائكة، وقوله: ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ) (٩) كناية عن

____________________

(١) ق: ٦.

(٢) معاني القرآن: ج٣ ص١٦٩.

(٣) معاني القرآن: ج٢ ص٢١٠.

(٤) مجمع البيان: ج٧ ص٦٢ وج١٠ ص٣١٩، تفسير شبّر: ص٣٢١ وص٥٢٤.

(٥) المؤمنون ٥، المعارج: ٢٩.

(٦) النور: ٣٠ و٣١.

(٧) الأحزاب: ٣٥.

(٨) الزخرف: ١٨.

(٩) المائدة: ٦٤.

٣٧١

سعة جوده وكرمه جدّاً.

خامسها : قصد الاختصار، كالكناية عن ألفاظ متعدّدة بلفظ (فعل)، نحو: ( لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) (١) ، ( فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا ) (٢) أي فإن لم تأتوا بسورة من مثله.

سادسها: التنبيه على مصيره، نحو قوله تعالى: ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ ) (٣) أي جهنّميّ مصيره إلى اللهب. وقوله: ( حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ ) أي نمّامة، مصيرها إلى أن تكون حطباً لجهنّم في جيدها غلّ.

* * *

قال بدر الدين ابن مالك في المصباح (٤) : إنّما يعدل عن الصريح إلى الكناية لنكتة، كالإيضاح أو بيان حال الموصوف، أو مقدار حاله، أو القصد إلى المدح أو الذم، أو الاختصار، أو الستر، أو الصيانة، أو التعمية، أو الألغاز، أو التعبير عن الصعب بالسهل، أو عن المعنى القبيح باللفظ الحسن.

* * *

واستنبط الزمخشري نوعاً من الكناية غريباً، وهو أن تعمد إلى جملة معناها على خلاف الظاهر، فتأخذ الخلاصة من غير اعتبار مفرداتها بالحقيقة والمجاز، فتُعبّر بها عن المقصود، كما تقول في نحو: ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) (٥) . إنّه كناية عن المُلك، فإنّ الاستواء على السرير لا يكون إلاّ مع المُلك، فجُعل كناية عنه، وكذا قوله: ( وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ

____________________

(١) المائدة: ٧٩.

(٢) البقرة: ٢٤.

(٣) المسد: ١.

(٤) المصباح في تلخيص المفتاح لمحمّد بن عبد الله بن مالك الملقّب بابن الناظم أحد أئمة النحو والمعاني والبديع، توفي سنة ٦٨٦ (طبقات الشافية: ٥ - ٤١).

(٥) طه: ٥.

٣٧٢

بِيَمِينِهِ ) (١) كناية عن عظمته وجلاله من غير ذهاب بالقبض واليمين إلى جهتي الحقيقة والمجاز (٢) .

قال - عند الكلام عن آية طه -: لمّا كان الاستواء على العرش - وهو سرير المُلك - ممّا يَردف المَلِك جعلوه كناية عن المُلك، فقالوا: استوى فلان على العرش، يريدون: مَلِك، وإن لم يقعد على السرير البتة، وقالوه أيضاً؛ لشهرته في ذلك المعنى ومساواته (مُلك) في مؤدّاه، وإن كان أشرح وأبسط وأدلّ على صورة الأمر.

قال: ونحوه قولك: يد فلان مبسوطة، ويد فلان مغلولة، بمعنى أنّه جواد أو بخيل، لا فرق بين العبارتين إلا فيما قلت، حتى أنّ مَن لم يبسط يده قطّ بالنوال أو لم تكن له يد رأساً قيل فيه: يده مبسوطة، لمساواته عندهم مع قولهم: هو جواد... ومنه قوله عزّ وجلّ: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ) (٣) أي هو بخيل، ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ) (٤) أي هو جواد... من غير تصوّر يد ولا غلّ ولا بسط.

قال: والتفسير بالنعمة، والتمحّل للتثنية، مِن ضيق العطن، والمسافرة عن علم البيان مسيرة أعوام (٥) .

وقال عن آية الزمر: والغرض من هذا الكلام - إذا أخذته كما هو بجملته ومجموعه - تصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله لا غير، من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو جهة مجاز.

قال: وزبدة الآية وخلاصتها هي الدلالة على القدرة الباهرة، وأنّ الأفعال العظام التي تتحيّر فيها الأفهام والأذهان ولا تكتَنهها الأوهام هيّنة عليه، هواناً لا يوصل السامع إلى الوقوف عليه، إلاّ إجراء العبارة في مثل هذه الطريقة من

____________________

(١) الزمر: ٦٧.

(٢) الإتقان: ج٣ ص١٤٥ - ١٤٦.

(٣) المائدة: ٦٤.

(٤) المائدة: ٦٤.

(٥) الكشّاف: ج٣ ص٥٢.

٣٧٣

التخييل.

قال: ولا ترى باباً في علم البيان أدقّ ولا أرقّ ولا ألطف من هذا الباب، ولا انفع وأعون على تعاطي تأويل المشتبهات من كلام الله تعالى في القرآن وسائر الكتب السماوية وكلام الأنبياء، فإنّ أكثره وعليّته (١) تخييلات، قد زلّت فيها الأقدام قديماً، وما أتى الزالّون إلاّ من قلة عنايتهم بالبحث والتنقير، حتى يعلموا أنّ في عداد العلوم الدقيقة علماً لو قدّروه حقّ قدره، لَما خفي عليهم أنّ العلوم كلها مفتقرة إليه وعيال عليه؛ إذ لا يحلّ عقدها المؤربة ولا يفكّ قيودها المكربة إلاّ هو. وكم آية من آيات التنزيل وحديث من أحاديث الرسول قد ضيم وسيم الخسف بِلا تأويلات الغثّة والوجوه الرثّة؛ لأنّ مَن تأوّل ليس مِن هذا العلم في عِير ولا نفير، ولا يعرف قبيلاً منه من دبير (٢) .

* * *

ومن أنواع البديع التي تشبه الكناية: الأرادف، وهو أن يريد المتكلّم معنى فلا يُعبّر عنه بلفظه الموضوع له، ولا بدلالة الإشارة، بل بلفظ يُرادفه، كقوله تعالى: ( وَقُضِيَ الأَمْرُ ) (٣) . والأصل: وهلك مَن قضى اللهُ هلاكه، ونجا مَن قضى الله نجاته، وعدل عن لفظ ذلك إلى الأرداف؛ لِما فيه من الإيجاز والتنبيه على أنّ هلاك الهالك ونجاة الناجي كان بأمر آمر مطاع، وقضاء مَن لا يُردّ قضاؤه يدلّ على قدرة الآمر به وقهره، وأن الخوف من عقابه ورجاء ثوابه يَحضّان على طاعة الآمر، ولا يحصل ذلك كله من اللفظ الخاص.

وكذا قوله: ( اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ) (٤) ، حقيقة ذلك: جلست، فعدل عن اللفظ الخاص بالمعنى إلى مرادفه؛ لِما في الاستواء من الإشعار بجلوس متمكّن لا زيغ فيه ولا ميل، وهذا لا يحصل من لفظ الجلوس.

____________________

(١) أي معظمه.

(٢) الكشّاف: ج٤ ص١٤٢ - ١٤٣.

(٣) البقرة: ٢١٠.

(٤) هود: ٤٤.

٣٧٤

وكذا قوله: ( فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ ) (١) ، أي عفيفات، وعدل عنه للدلالة على أنّهنّ مع العفّة لا تطمح أعينهنّ إلى غير أزواجهنّ، ولا يشتهينّ غيرهم، ولا يُؤخذ ذلك من لفظ العفّة.

قال بعضهم: والفرق بين الكناية والأرداف أنّ الكناية انتقال من لازم إلى ملزوم، والأرداف من مذكور إلى متروك.

ومن أمثلته أيضاً: ( لِيَجْزِيَ الّذِينَ أَسَاءوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ) (٢) عدل في الجملة الأُولى عن قوله (بالسُّوأى) مع أنّ فيه مطابقة كالجملة الثانية إلى ( بِمَا عَمِلُوا ) تأدّباً أن يُضاف السوء إلى الله تعالى (٣) .

* * *

____________________

(١) الرحمن: ٥٦.

(٢) النجم: ٣١.

(٣) معترك الأقران: ج١ ص٢٨٧ - ٢٩١.

٣٧٥

١٠ - طرائف وظرائف

من روائع بدائع كلام الله المجيد:

هناك الكثير من لطائف البدائع، ترفع من شأن الكلام وتُعظم من قدره، وليست مجرّد تحسين لفظ أو تحبير عبارة، بل هي من عمود البلاغة وأُسّ الفصاحة ومن براعة البيان، وقد مُلئ القرآن من باقات زهورها وطاقات بدورها، وهي إلى الازدياد كلّما أُمعن النظر ودُقّق الفكر، أقرب منها إلى الانتهاء، وكان ينبغي التنبّه لطرائفها والتطلّع على ظرائفها، تتميماً لفوائد سبقت وتكميلاً لفرائد سلفت،كانت لا يُحصى عددها ولا ينتهي أمدها، فلله درّه من عظيم كلام وفخيم بيان، وإليك منها نماذج:

الالتفات أو التفنّن في أُسلوب الخطاب

أم هو

كرّ وفرّ وتجوال، ومداورة بعنان الكلام

بل هي

فروسة العربية وشجاعة البيان

قال ابن الأثير: هو خلاصة علم البيان التي حولها يُدَندَنُ، وإليها تستند البلاغة، وعنها يُعَنعَنُ، وحقيقته مأخوذة من التفات الإنسان يمنةً ويسرةً، فهو يُقبل بوجهه إلى جهة تارة، وإلى جهة أُخرى تارةً أُخرى، ويُسمّى أيضاً (شجاعة

٣٧٦

العربية)؛ لأنّ الشجاعة هي الإقدام، وذاك أنّ الرجل الشجاع يَركب ما لا يستطيعه غيره، ويتورّد ما لا يتورّده غيره، وكذلك الالتفات في الكلام، فإنّ اللّغة العربية - على وفرة تفانينها وسعة مفاهيمها - تحتمل هذا التجوال ما لا تحتمله غيرها من سائر اللغات (١) .

قال السكاكي: والعرب يستكثرون من الالتفات، ويرون الكلام إن انتقل من أُسلوب إلى أُسلوب كان أدخل في القبول عند السامع، وأحسن تطرية لنشاطه، وأملأ باستدرار إصغائه، قال: وأجدر بهم في هذا الصنيع، أَفتراهم يُحسنون قِرى الأضياف بتلوين الطعام، وهم أبدان وأشباح، ولا يُحسنون قِرى النفوس والأرواح بتنويع الكلام؟! والكلام كلّما ازداد طراوةً كان أشهى غذاءً للروح وأطيب قِرىً للقلوب.

قال: وهذا الوجه - وهو تطرية نشاط السامع - هو فائدة العامّة، وقد يختصّ مواقعه بلطائف معانٍ، قلّما تتّضح إلاّ لأفراد بلغائهم أو للحُذّاق في هذا الفنّ والعلماء النحارير، ومتى اختصّ موقعه بشيء من اللطائف والظرائف كساه فضلَ بهاءً ورونق ورواء، وأورث السامع زيادة هزّة ونشاط، ووجد عنده من القبول أرفع منزلة ومحل، إن كان ممّن يسمع ويعقل، وقليل مّا هم، أم تحسب أنّ أكثرهم يسمعون أو يعقلون؟!

قال: ولأمر مّا وقع التباين الخارج عن الحدّ بين مفسّرٍ لكلام ربّ العزّة ومفسّر، وبين غوّاص في بحر فوائده وغوّاص.

وكل التفات وارد في القرآن الكريم، متى صِرت مِن سامعيه، عرّفك ما موقعه، وإذا أحببت أن تصير من سامعيه فأصخ ثمّ، ليُتلى عليك:

قوله تعالى: ( إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ ) .

أليس إذا أخذت في تعديد نِعَم المولى - جلّت آلاؤه - مستحضراً لتفاصيلها

____________________

(١) المَثل السائر: ج ٢ ص ١٧٠.

٣٧٧

أحسست من نفسك بحالة كأنّها تُطالبك بالإقبال على مُنعمِك، وتُزيّن لك ذلك، ولا تزال تتزايد ما دمت في تعديد نِعمه، حتى تَحملك من حيث لا تدري على أن تجدك وأنت معه في الكلام تُثني عليه وتدعو له وتقول: بأيّ لسان أشكر صنائعك الروائع، وبأيّة عبارة أحصر عوارفك الذوارف (١) ، وما جرى هذا المجرى...

وإذا وعيت ما قصصته عليك وتأمّلت الالتفات في ( إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ ) - بعد تلاوتك لما قبله ( اَلْحَمْدُ للّهِ‏ِ رَبّ الْعالَمِينَ * الرّحْمنِ الرّحِيمِ * مالِكِ يَوْمِ الدّينِ ) - على الوجه الذي يجب، وهو التأمّل القلبي، علمت ما موقعه، وكيف أصاب المَحزّ (٢) وطبّق مفصل البلاغة؛ لكونه منبّهاً على أنّ العبد المنعم عليه بتلك النِعم العظام إذا قدّر أنّه ماثل بين يدي مولاه، مِن حقّه إذا أخذ في القراءة أن تكون قراءته على وجه يجد معها من نفسه شبه محرّك إلى الإقبال على مَن يحمده، صائر في أثناء القراءة إلى حالة شبيهة بإيجاب ذلك عند ختم الصفات، مستدعية انطباقها على المُنزّل على ما هو عليه، وإلاّ لم يكن قارئاً.

والوجه: هو إذا افتتح التحميد أن يكون افتتاحه عن قلب حاضر ونفس ذاكرة، يعقل فيم هو؟ وعند مَن هو؟ فإذا انتقل من التحميد إلى الصفات، أن يكون انتقاله محذوّاً به حذوَ الافتتاح، فإنّه متى افتتح على الوجه الذي عرفت، مُجرياً على لسانه (الحمد لله) ، أَفلا يجد مُحرّكاً للإقبال على مَن يحمد، مِن معبود عظيم الشأن، حقيق بالثناء والشكر، مستحقّ للعبادة؟

ثمّ إذا انتقل على نحو الافتتاح إلى قوله: (ربّ العالمين) واصفاً له بكونه ربّاً مالكاً للخلق، لا يخرج شيء من ملكوته وربوبيّته، أَفترى ذلك المحرّك لا يقوى؟

ثمّ إذا قال: (الرّحمن الرّحيم) فوصفه بما يُنبئ عن كونه مُنعماً على الخلق بأنواع النعم، جلائلها ودقائقها، مصيباً إيّاهم بكل معروف، أفلا تتضاعف قوّة ذلك

____________________

(١) العوارف: جمع العارفة بمعنى المعروف. والذوارف: جمع الذارفة، من الذرف بمعنى الانصباب.

(٢) الحزّ: القطع. والمَحزّ: موضع الذبح.

٣٧٨

المحرّك عند هذا؟

ثمّ إذا آل الأمر إلى خاتمة هذه الصفات، وهي (مالك يوم الدين) المنادية على كونه مالكاً للأمر كله في العاقبة يوم الحشر للثواب والعقاب، فما ظنّك بذلك المحرّك، أيسع ذهنك أن لا يصير إلى حدّ يوجب عليك الإقبال على مولى، شأن نفسك معه منذ افتتحت التحميد ما تصوّرت، فتستطيع أن لا تقول: (إيّاك، يا من هذه صفاته، نعبد ونستعين، لا غيرك) فلا ينطبق على المُنزل على ما هو عليه؟

وأخيراً قال: واعلم أنّ لطائف الاعتبارات المرفوعة لك في هذا الفن، من تلك المطامح النازحة من مقامك لا تثبتها حقّ إثباتها، ما لم تمترِ بصيرتك في الاستشراف لِما هنالك أطياء المجهود، ولم تختلف في السعي للبحث عنها وراءك كل حدّ معهود... وعلماء هذه الطبقة الناظرة بأنواع البصائر، المخصوصون بالعناية الإلهية المدلّلُون بما أُوتوا مِن الحكمة وفصل الخطاب.

على أنّ كلام ربّ العزّة - وهو قرآنه الكريم وفرقانه العظيم - لم يكتسِ تلك الطلاوة، ولا استودع تلك الحلاوة، وما أغدقت أسافله، ولا أثمرت أعاليه، وما كان بحيث يعلو ولا يُعلى، إلاّ لانصبابه في تلك القواليب، ولوروده على تلك الأساليب (١) .

وقيل - زيادة على ما مرّ -: إنّ من لطائفه التنبيه على أنّ مبتدأ الخلق الغيبة عنه سبحانه، وقصورهم عن محاضرته ومخاطبته، وقيام حجاب العظمة عليهم، فإذا عرفوه بما هو أهله وتوسّلوا للقرب بالثناء عليه، وأقرّوا له بالمحامد، وتعبّدوا له بما يليق بهم، تقرّباً إلى ساحة قدسه الكريم، فعند ذلك تأهّلوا لمخاطبته ومناجاته عن حضور، فقالوا: إيّاك نعبد، وإيّاك نستعين (٢) .

____________________

(١) مفتاح العلوم (آخر الفن الثاني من علم المعاني) ص ٩٥ - ٩٨.

(٢) معترك الأقران: ج ١ ص ٣٨٢.

٣٧٩

حدّ الالتفات وفائدته:

هو عند الجمهور: التعبير عنه بطريق من الطرق الثلاثة (التكلّم والخطاب والغيبة) بعد التعبير عنه بطريق آخر منها، وعمّمه السكاكي إلى كل تعبير وقع فيما حقّه التعبير بغيره، حسب ظاهر السياق، كالتعبير بالماضي في موضع كان حقّه الاستقبال أو الحال، أو وضع المضمر موضع المظهر أو العكس، ونحو ذلك ممّا يتحوّل وجه الكلام فجأةً على خلاف السياق (١) .

وفائدته العامّة هي تطرية نشاط السامع وصيانته عن المَلل والسآمة؛ لِما جُبلت النفوس على حبّ الانتقال وتصريف الأحوال، فتملّ من الاستمرار على منوال واحد من وجه الكلام... هذه هي فائدته العامّة السارية في جميع موارده، وتختصّ مواضعه، كلّ بنكتة وظريفة زائدة، يحلو بها البيان وتهشّ إليها النفوس وتستلذّها.

قال الزمخشري: وذلك على عادة افتنان العرب في كلامهم وتصرّفهم فيه؛ ولأنّ الكلام إذا نُقل من أسلوب إلى أسلوب كان ذلك أحسن تطرية لنشاط السامع، وإيقاظاً للإصغاء إليه، من إجرائه على أسلوب واحد، وقد تختصّ مواقعه بفوائد (٢) .

وتنظّر ابن الأثير في هذا التبرير، قال: لأنّ الانتقال في الكلام إذا كان لأجل تطرية نشاط السامع فإنّ ذلك يدلّ على أنّه يملّ من أسلوبه فيضطرّ إلى الانتقال إلى غيره ليجد نشاطاً للاستماع. وهذا قدح في الكلام لا وصف له؛ إذ لو كان حسناً لَما مُلّ، على أن هذا لو سُلّم لكان في مطنب مطولّ، لا في مثل الالتفاتات الواقعة في تعابير موجزة وآيات قصيرة من الذكر الحكيم.

____________________

(١) أنوار الربيع: ج ١ ص ٣٦٢، والمثل السائر لابن الأثير ج ٢ ص ١٧١.

(٢) تفسير الكشّاف: ج ١ ص ١٤.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) .

فهنا شبه المعاندين والمغرورين كمن يسير في جادّة متعرّجة غير مستوية كثيرة المنعطفات وقد وقع على وجهه ، يحرّك يديه ورجليه للاهتداء إلى سبيله ، لأنّه لا يبصر طريقه جيّدا ، وليس بقادر على السيطرة على نفسه ، ولا بمطّلع على العقبات والموانع ، وليست لديه القوّة للسير سريعا ، وبذلك يتعثّر في سيره يمشي قليلا ثمّ يتوقّف حائرا.

كما شبّه المؤمنين برجال منتصبي القامات ، يسيرون في جادّة مستوية ومستقيمة ليس فيها تعرّجات واعوجاج ، ويمشون فيها بسرعة ووضوح وقدرة ووعي وعلم وراحة تامّة.

إنّه ـ حقّا ـ لتشبيه لطيف فذّ ، حيث إنّ آثار هذين السبيلين واضحة تماما ، وانعكاساتها جليّة في حياة هذين الفريقين ، وذلك ما نلاحظه بأمّ أعيننا.

ويرى البعض أنّ مصداق هاتين المجموعتين هما : (الرّسول الأكرم) و (أبو جهل) فهما مصاديق واضحة للآية الكريمة ، إلّا أنّ ذلك لا يحدّد عمومية الآية.

وذكرت احتمالات متعدّدة في تفسير (مكبّا على وجهه). إلّا أنّ أكثر الاحتمالات المنسجمة مع المفهوم اللغوي للآية هو ما ذكرناه أعلاه ، وهو أنّ الإنسان غير المؤمن يكون مكبّا على وجهه ويمشي زاحفا بيده ورجليه وصدره.

وقيل أنّ المقصود من (مكبّا) هو المشي الاعتيادي ولكنّه مطأطئ الرأس لا يشخّص مسيره بوضوح أبدا.

كما يرى آخرون أنّ المقصود بـ (مكبّا) هو الشخص الذي لا يستطيع أن يحفظ توازنه في السير ، فهو يخطو خطوات معدودة ثمّ ما يلبث أن يسقط على الأرض وينهض ليمشي ، ثمّ تتكرّر هذه الحالة.

ويستفاد ممّا ذكره الراغب في مفرداته أنّ المقصود بـ (مكبّا) هو الشخص الذي يدور حول محور الذات والأنانية ، معرضا عن الاهتمام بغيره.

٥٠١

إلّا أنّ المعنى الأوّل أنسب حسب الظاهر ، وذلك بقرينة المقابلة مع وضع المؤمنين والذين عبّرت عنهم الآية بـ (سويّا).

وعلى كلّ حال ، فهل أنّ هذه الحالة (مكبّا) و (سويّا) تمثّل وضع الكفّار والمؤمنين في الآخرة فقط؟ أم في العالمين (الدنيا والآخرة)؟ لا دليل على محدودية مفهوم الآية وانحصارها في الآخرة ، فهما في الدنيا كما هما في الآخرة.

إنّ هؤلاء الأنانيين المنشدّين إلى مصالحهم الماديّة والمنغمسين في شهواتهم ، السائرين في درب الضلال والهوى ، كمن يروم العبور من مكان مليء بالأحجار زاحفا على صدره ، بخلاف من تحرّر من قيد الهوى في ظلّ الإيمان حيث يكون مسيره واضحا ومستقيما ونظراته عميقة وثاقبة.

ثمّ يوجّه الله تعالى الخطاب إلى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الآية اللاحقة فيقول :( قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ ) .

إنّ الله تعالى جعل لكم وسيلة للمشاهدة والإبصار (العين) وكذلك وسيلة وقناة للاطّلاع على أفكار الآخرين ومعرفة وجهات نظرهم من خلال الاستماع (الإذن) ثمّ وسيلة اخرى للتفكّر والتدبّر في العلوم والمحسوسات واللامحسوسات (القلب).

وخلاصة الأمر إنّ الله تعالى قد وضع جميع الوسائل اللازمة لكم لتتعرّفوا على العلوم العقلية والنقلية ، إلّا أنّ القليل من الأشخاص من يدرك هذه النعم العظيمة ويشكر الله المنعم ، حيث أنّ شكر النعمة الحقيقي يتجسّد بتوجيه النعمة نحو الهدف الذي خلقت من أجله ، ترى من هو المستفيد من هذه الحواس (العين والاذن والعقل) بصورة صحيحة في هذا الطريق؟

ثمّ يخاطب الرّسول مرّة اخرى حيث يقول تعالى :( قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) .

وفي الحقيقة فإنّ الآية الاولى تعيّن (المسير) ، والثانية تتحدّث عن (وسائل

٥٠٢

العمل) أمّا الآية ـ مورد البحث ـ فإنّها تشخّص (الهدف والغاية) وذلك بالتأكيد على أنّ السير يجب أن يكون في الطريق المستقيم ، والصراط الواضح المتمثّل بالإسلام والإيمان ، وبذل الجهد للاستفادة من جميع وسائل المعرفة بهذا الاتّجاه ، والتحرّك نحو الحياة الخالدة.

والجدير بالملاحظة هنا أنّ التعبير في الآية السابقة ورد بـ (أنشأكم) وفي الآية مورد البحث بـ (ذرأكم) ، ولعلّ تفاوت هذين التعبيرين هو أنّه في الأولى إشارة إلى الإنشاء والإيجاد من العدم (أي إنّكم لم تكونوا شيئا وقد خلقكم الله تعالى) وفي الثانية إشارة إلى خلق الإنسان من مادّة التراب ، وذلك يعني أنّ الله خلق الإنسان من التراب.

ثمّ يستعرض سبحانه قول المشركين في هذا المجال والردّ عليهم ، فيقول تعالى :( وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) .

إنّ المشركين يطالبون بتعيين التاريخ بصورة دقيقة ليوم القيامة ، كما أنّهم يطالبون بحسم هذا الأمر الذي يتعلّق بمصير الجميع( مَتى هذَا الْوَعْدُ؟ ) .

وذكروا احتمالين في المقصود من (هذا الوعد) : الأوّل : هو وعد يوم القيامة ، والآخر : هو تنفيذ الوعد بالنسبة للعقوبات الدنيوية المختلفة ، كوقوع الزلازل والصواعق والطوفانات. إلّا أنّ المعنى الأوّل أكثر تناسبا حسب الظاهر ، وذلك بلحاظ ما ورد في الآية السابقة. كما أنّ بالإمكان الجمع بين المعنيين.

ويجيبهم الله سبحانه على تساؤلهم هذا بقوله تعالى :( قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) .

إنّ هذا التعبير يشبه تماما ما ورد في الآيات القرآنية العديدة التي من جملتها

٥٠٣

قوله تعالى :( قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي ) (١) .

ولا بدّ أن يكون الجواب بهذه الصورة ، حيث أنّ تحديد تأريخ يوم القيامة إن كان بعيدا فإنّ الناس سيغرقون بالغفلة ، وإن كان قريبا فإنّهم سيعيشون حالة الهلع والاضطراب. وعلى كلّ حال فإنّ الأهداف التربوية تتعطّل في الحالتين.

ويضيف في آخر آية من هذه الآيات بأنّ الكافرين حينما يرون العذاب والوعد الإلهي من قريب تسودّ وجوههم :( فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) فسيماهم طافحة بآثار الحزن والندم( وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ ) .

«تدعون» من مادّة (دعاء) يعني أنّكم كنتم تدعون وتطلبون دائما أن يجيء يوم القيامة ، وها هو قد حان موعده ، ولا سبيل للفرار منه(٢) .

وهذا المضمون يشبه ما جاء في قوله تعالى مخاطبا الكفّار في يوم القيامة :( هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ) (٣) .

وعلى كلّ حال ، فإنّ الآية الشريفة ناظرة إلى عذاب يوم القيامة كما ذهب إليه أغلب المفسّرين ، وهذا دليل على أنّ جملة( مَتى هذَا الْوَعْدُ ) إشارة إلى موعد يوم القيامة.

يقول الحاكم أبو القاسم الحسكاني : عند ما شاهد الكفّار شأن ومقام الإمام عليعليه‌السلام عند الله تعالى. اسودّت وجوههم (من شدّة الغضب)(٤) .

ونقل هذا المعنى أيضا في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّ هذه الآية نزلت

__________________

(١) الأعراف ، الآية ١٨٧.

(٢) «تدعون» من باب (افتعال) ، ومن مادّة دعاء ، بمعنى الطلب والرجاء ، أو من مادّة (دعوا) بمعنى الطلب أو إنكار شيء معيّن.

(٣) الذاريات ، الآية ١٤.

(٤) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٣٠.

٥٠٤

بحقّ أمير المؤمنين عليعليه‌السلام وأصحابه(١) .

وهذا التّفسير نقل عن طرق الشيعة وأهل السنّة ، وهو نوع من التطبيق المصداقي ، وإلّا فإنّ هذه الآية تناولت موضوع (القيامة) ومثل هذه التطبيقات ليست قليلة في عالم الروايات.

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٨٥.

٥٠٥

الآيات

( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (٣٠) )

التّفسير

من الذي يأتيكم بالمياه الجارية؟

إنّ الآيات أعلاه ، التي هي آخر آيات سورة الملك ، تبدأ جميعها بكلمة (قل) مخاطبة الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث أنّها تمثّل استمرارا للأبحاث التي مرّت في الآيات السابقة حول الكفّار ، وتعكس هذه الآيات الكريمة جوانب اخرى من البحث.

يخاطب البارئعزوجل ـ في البداية ـ الأشخاص الذين يرتقبون وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه ، ويتصوّرون أنّ بوفاته سوف يمحى دين الإسلام وينتهي كلّ شيء. وهذا الشعور كثيرا ما ينتاب الأعداء المخذولين إزاء القيادات

٥٠٦

القويّة والمؤثّرة ، يقول تعالى مخاطبا إيّاهم :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ) .

ورد في بعض الروايات أنّ كفّار مكّة ، كانوا دائما يسبّون الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين ، وكانوا يتمنّون موته ظنّا منهم أنّ رحيله سينهي دعوته كذلك ، لذا جاءت الآية أعلاه ردّا عليهم.

كما جاء شبيه هذا المعنى في قوله تعالى :( أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ) (١) .

لقد كانوا غافلين عن وعد الله سبحانه لرسوله الأمين ، بأنّ اسمه سيكون مقترنا مع مبدأ الحقّ الذي لا يعتريه الفناء وإذا جاء أجله فإنّ ذكره لن يندرس ، نعم ، لقد وعده الله سبحانه بانتصار هذا المبدأ ، وأن ترفرف راية هذا الدين على كلّ الدنيا ، وحياة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو موته لن يغيّرا من هذه الحقيقة شيئا.

كما ذكر البعض تفسيرا آخر لهذه الآية وهو : إنّ خطاب الله لرسوله الكريم ـ الذي يشمل المؤمنين أيضا ـ مع ما عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الإيمان الراسخ ، كان يعكس الخوف والرجاء معا في آن واحد. فكيف بكم أنتم أيّها الكافرون؟ وما الذي تفكّرون به لأنفسكم؟

ولكن التّفسير الأوّل أنسب حسب الظاهر.

واستمرارا لهذا البحث ، يضيف تعالى :( قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

وهذا يعني أنّنا إذا آمنا بالله ، واتّخذناه وليّا ووكيلا لنا ، فإنّ ذلك دليل واضح على أنّه الربّ الرحمن ، شملت رحمته الواسعة كلّ شيء ، وغمر فيض ألطافه ونعمه الجميع (المؤمن والكافر) ، إنّ نظرة عابرة إلى عالم الوجود وصفحة الحياة تشهد

__________________

(١) الطور ، الآية ٣٠.

٥٠٧

على هذا المدّعى ، أمّا الذين تعبدونهم من دون الله فما ذا عملوا؟ وما ذا صنعوا؟

وبالرغم من أنّ ضلالكم واضح هنا في هذه الدنيا ، إلّا أنّه سيتّضح بصورة أكثر في الدار الآخرة. أو أنّ هذا الضلال وبطلان دعاواكم الفارغة ستظهر في هذه الدنيا عند ما ينتصر الإسلام بالإمدادات الإلهية على جيش الكفر بشكل إعجازي وخارق للعادة ، عندئذ ستتبيّن الحقيقة أكثر للجميع.

إنّ هذه الآية ـ في الحقيقة ـ نوع من المواساة للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين ، كي لا يظنّوا أو يتصوّروا أنّهم وحدهم في هذا الصراع الواسع بين الحقّ والباطل ، حيث أنّ الرحمن الرحيم خير معين لهم ونعم الناصر.

ويقول تعالى في آخر آية ، عارضا لمصداق من رحمته الواسعة ، والتي غفل عنها الكثير من الناس :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ ) .

إنّ للأرض في الحقيقة قشرتين متفاوتين : (قشرة قابلة للنفوذ) يدخل فيها الماء ، واخرى (غير قابلة للنفوذ) تحفظ بالماء ، وجميع العيون والآبار والقنوات تولّدت من بركات هذا التركيب الخاصّ للأرض ، إذ لو كانت القشرة القابلة للنفوذ لوحدها على سطح الكرة الأرضية جميعا ولأعماق بعيدة ، فإنّ جميع المياه التي تدخل جوف الأرض لا يقرّ لها قرار ، وعندئذ لا يمكن أن يحصل أحد على قليل من الماء. ولو كانت قشرة الأرض غير قابلة للنفوذ لتجمّعت المياه على سطحها وتحوّلت إلى مستنقع كبير ، أو أنّ المياه التي تكون على سطحها سرعان ما تصبّ في البحر ، وهكذا يتمّ فقدان جميع الذخائر التي هي تحت الأرض.

إنّ هذا نموذج صغير من رحمة الله الواسعة يتعلّق بموت الإنسان وحياته.

«معين» من مادّة (معن) ، على وزن (طعن) بمعنى جريان الماء.

وقال آخرون : إنّها مأخوذة من (عين) والميم زائدة. لذا فإنّ بعض المفسّرين ذهبوا إلى أنّ معنى (معين) تعني الماء الذي يشاهد بالعين بغضّ النظر عن جريانه.

إلّا أنّ الغالبية فسّروه بالماء الجاري.

٥٠٨

وبالرغم من أنّ الماء الصالح للشرب لا ينحصر بالماء الجاري ، إلّا أنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ الماء الجاري يمثّل أفضل أنواع ماء الشرب ، سواء كان من العيون أو الأنهار أو القنوات أو الآبار المتدفّقة

ونقل بعض المفسّرين أنّ أحد الكفّار عند ما سمع قوله تعالى :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ ) قال : (رجال شداد ومعاول حداد) وعند نومه ليلا نزل الماء الأسود في عينيه ، وفي هذه الأثناء سمع من يقول : أتي بالرجال الشداد والمعاول الحداد ليخرجوا الماء من عينيك.

ومن الواضح أنّه في حالة عدم وجود القشرة الصلبة وغير القابلة للنفوذ ، فإنّه لا يستطيع أي إنسان قوي ولا أي معول حادّ أن يستخرج شيئا من الماء(١) .

* * *

تعقيب

جاء في الروايات عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّ المراد من الآية الأخيرة من هذه السورة هو ظهور الإمام المهديعليه‌السلام وعدله الذي سيعمّ العالم.

فقد جاء في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «نزلت في الإمام القائمعليه‌السلام ، يقول : إن أصبح إمامكم غائبا عنكم ، لا تدرون أين هو؟ فمن يأتيكم بإمام ظاهر يأتيكم بأخبار السموات والأرض ، وحلال الله وحرامه؟ ثمّ قال : والله ما جاء تأويل هذه الآية ، ولا بدّ أن يجيء تأويلها»(٢) .

والروايات في هذا المجال كثيرة ، وممّا يجدر الانتباه له أنّ هذه الروايات هي من باب (التطبيق).

وبعبارة اخرى فإنّ ظاهر الآية مرتبط بالماء الجاري ، والذي هو علّة حياة

__________________

(١) أبو الفتوح الرازي ، ج ١١ ، ص ٢١٩.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٨٧.

٥٠٩

الموجودات الحيّة. أمّا باطن الآية فإنّه يرتبط بوجود الإمامعليه‌السلام وعلمه وعدالته التي تشمل العالم ، والتي هي الاخرى تكون سببا لحياة وسعادة المجتمع الإنساني.

ولقد ذكرنا مرّات عدّة أنّ للآيات القرآنية معاني متعدّدة ، حيث لها معنى باطن وظاهر ، إلّا أنّ فهم باطن الآيات غير ممكن إلّا للرسول والإمام المعصوم ، ولا يحقّ لأي أحد أن يطرح تفسيرا ما لباطن الآيات. وما نستعرضه هنا مرتبط بظاهر الآيات ، أمّا ما يرتبط بباطن الآيات فعلينا أن نأخذه من المعصومينعليهم‌السلام فقط.

لقد بدأت سورة الملك بحاكمية الله ومالكيته تعالى ، وانتهت برحمانيته ، والتي هي الاخرى فرع من حاكميته ومالكيته سبحانه ، وبهذا فإنّ بدايتها ونهايتها منسجمتان تماما.

اللهمّ ، أدخلنا في رحمتك العامّة والخاصّة ، وأرو ظمآنا من كوثر ولاية أولياءك.

ربّنا ، عجّل لنا ظهور عين ماء الحياة الإمام المهدي ، واطفئ عطشنا بنور جماله

ربّنا ، ارزقنا اذنا صاغية وعينا بصيرة وعقلا كاملا ، فأقشع عن قلوبنا حجب الأنانية والغرور لنرى الحقائق كما هي ، ونسلك إليك على الصراط المستقيم بخطوات محكمة وقامة منتصبة

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة الملك

* * *

٥١٠
٥١١

سورة

القلم

مكيّة

وعدد آياتها اثنتان وخمسون آية

٥١٢

«سورة القلم»

محتوى السورة :

بالرغم من أنّ بعض المفسّرين شكّك في كون السورة بأجمعها نزلت في مكّة ، إلّا أنّ نسق السورة ومحتوى آياتها ينسجم تماما مع السور المكيّة ، لأنّ المحور الأساسي فيها يدور حول مسألة نبوّة رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومواجهة الأعداء الذين كانوا ينعتونه بالجنون وغيره ، والتأكيد على الصبر والاستقامة وتحدّي الصعاب ، وإنذار وتهديد المخالفين لهذه الدعوة المباركة بالعذاب الأليم.

وبشكل عامّ يمكن تلخيص مباحث هذه السورة بسبعة أقسام :

١ ـ في البداية تستعرض السورة بعض الصفات الخاصّة لرسول الإنسانية محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخصوصا أخلاقه البارّة السامية الرفيعة ، ولتأكيد هذا الأمر يقسم البارئعزوجل في هذا الصدد.

٢ ـ ثمّ تتعرّض بعض الآيات الواردة في هذه السورة إلى قسم من الصفات السيّئة والأخلاق الذميمة لأعدائه.

٣ ـ كما يبيّن قسم آخر من الآيات الشريفة قصّة (أصحاب الجنّة) والتي هي بمثابة توجيه إنذار وتهديد للسالكين طريق العناد من المشركين.

٤ ـ وفي قسم آخر من السورة ذكرت عدّة امور حول القيامة والعذاب الأليم للكفّار في ذلك اليوم.

٥ ـ كما جاء في آيات اخرى جملة إنذارات وتهديدات للمشركين.

٥١٣

٦ ـ ونلاحظ في آيات اخرى من السورة الأمر الإلهي للرسول العظيم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يواجه الأعداء بصبر واستقامة وقوّة وصلابة.

٧ ـ وأخيرا تختتم السورة موضوعاتها بحديث حول عظمة القرآن الكريم ، وطبيعة المؤامرات التي كان يحوكها الأعداء ضدّ الرّسول محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

انتخاب (القلم) اسما لهذه السورة المباركة ، كان بلحاظ ما ورد في أوّل آية منها ، وذكر البعض الآخر أنّ اسمها (ن).

ويستفاد من بعض الروايات التي وردت في فضيلة هذه السورة أنّ اسمها «ن والقلم».

فضيلة تلاوة سورة القلم :

نقل عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فضيلة تلاوة هذه السورة أنّه قال : «من قرأ (ن والقلم) أعطاه الله ثواب الذين حسن أخلاقهم»(١) .

كما نقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «من قرأ سورة (ن والقلم) في فريضة أو نافلة ، آمنه الله أن يصيبه في حياته فقر أبدا ، وأعاذه إذا مات من ضمّة القبر ، إن شاء الله»(٢) .

وهذا الأجر والجزاء يتناسب تناسبا خاصّا مع محتوى السورة ، والهدف من التأكيد على هذا النوع من الأجر من تلاوة السورة هو أن تكون التلاوة مقرونة بالوعي والمعرفة ومن ثمّ العمل بمحتواها.

* * *

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٨٧.

(٢) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٣٠.

٥١٤

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧) )

التّفسير

عجبا لأخلاقك السامية :

هذه السورة هي السورة الوحيدة التي تبدأ بحرف (ن) حيث يقول تعالى :( ن ) .

وقد تحدّثنا مرّات عديدة حول الحروف المقطّعة ، خصوصا في بداية سورة (البقرة) و (آل عمران) و (الأعراف) والشيء الذي يجدر إضافته هنا هو ما اعتبره البعض من أنّ (ن) هنا تخفيف لكلمة (الرحمن) فهي إشارة لذلك. كما أنّ البعض الآخر فسّرها بمعنى (اللوح) أو (الدواة) أو (نهر في الجنّة) إلّا أنّ كلّ تلك الأقوال ليس لها دليل واضح.

٥١٥

وبناء على هذا فإنّ الحرف المقطّع هنا لا يختلف عن تفسير بقيّة الحروف المقطّعة والتي أشرنا إليها سابقا.

ثمّ يقسم تعالى بموضوعين يعتبران من أهمّ المسائل في حياة الإنسان ، فيقول تعالى :( وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ ) .

كم هو قسم عجيب؟ وقد يتصوّر أنّ القسم هنا يتعلّق ظاهرا بمواضيع صغيرة ، أي قطعة من القصب ـ أو شيء يشبه ذلك ـ وبقليل من مادّة سوداء ، ثمّ السطور التي تكتب وتخطّ على صفحة صغيرة من الورق.

إلّا أنّنا حينما نتأمّل قليلا فيه نجده مصدرا لجميع الحضارات الإنسانية في العالم أجمع ، إنّ تطور وتكامل العلوم والوعي والأفكار وتطور المدارس الدينية والفكرية ، وبلورة الكثير من المفاهيم الحياتية كان بفضل ما كتب من العلوم والمعارف الإنسانية في الحقول المختلفة ، ممّا كان له الأثر الكبير في يقظة الأمم وهداية الإنسان وكان ذلك بواسطة (القلم).

لقد قسّمت حياة الإنسان إلى عصرين : (عصر التأريخ) و (عصر ما قبل التأريخ) وعصر تأريخ البشر يبدأ منذ أن اخترع الإنسان الخطّ واستطاع أن يدوّن قصّة حياته وأحداثها على الصفحات ، وبتعبير آخر ، يبدأ عند ما أخذ الإنسان القلم بيده ، ودوّن للآخرين ما توصّل إليه (وما يسطرون) تخليدا لماضيه.

وتتّضح عظمة هذا القسم بصورة أكثر عند ما نلاحظ أنّ هذه الآيات المباركة حينما نزلت لم يكن هنالك كتاب ولا أصحاب قلم ، وإذا كان هنالك أشخاص يعرفون القراءة والكتابة ، فإنّ عددهم في كلّ مكّة ـ التي تمثّل المركز العبادي والسياسي والاقتصادي لأرض الحجاز ـ لم يتجاوز ال (٢٠) شخصا. ولذا فإنّ القسم بـ (القلم) في مثل ذلك المحيط له عظمة خاصّة.

والرائع هنا أنّ الآيات الاولى التي نزلت على قلب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في (جبل النور) أو (غار حراء) قد أشير فيها أيضا إلى المنزلة العليا للقلم ، حديث يقول تعالى :

٥١٦

( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ ) (١) .

والأروع من ذلك كلّه أنّ هذه الكلمات كانت تنطلق من فمّ شخص لم يكن يقرأ أو يكتب ، ولم يذهب للمكاتب من أجل التعليم قطّ ، وهذا دليل أيضا على أنّ ما ينطق به لم يكن غير الوحي السماوي.

وذكر بعض المفسّرين أنّ كلمة (القلم) هنا يقصد بها : (القلم الذي تخطّ به ملائكة الله العظام الوحي السماوي) ، (أو الذي تكتب به صفحة أعمال البشر) ، ولكن من الواضح أنّ للآية مفهوما واسعا ، وهذه الآراء تبيّن مصاديقها.

كما أنّ لجملة( ما يَسْطُرُونَ ) مفهوما واسعا أيضا ، إذ تشمل جميع ما يكتب في طريق الهداية والتكامل الفكري والأخلاقي والعلمي للبشر ، ولا ينحصر بالوحي السماوي أو صحائف أعمال البشر(٢) .

ثمّ يتطرّق سبحانه لذكر الأمر الذي أقسم من أجله فيقول تعالى :( ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ) .

إنّ الذين نسبوا إليك هذه النسبة القبيحة هم عمي القلوب والأبصار ، وإلّا فأين هم من كلّ تلك النعم الإلهية التي وهبها الله لك؟ نعمة العقل والعلم الذي تفوّقت بها على جميع الناس ونعمة الأمانة والصدق والنبوّة ومقام العصمة إنّ الذين يتّهمون صاحب هذا العقل الجبّار بالجنون هم المجانين في الحقيقة ، إنّ ابتعادهم عن دليل الهداية وموجّه البشرية لهو الحمق بعينه.

ثمّ يضيف تعالى بعد ذلك :( وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ ) أي غير منقطع ، ولم لا

__________________

(١) العلق ، الآية ١ ـ ٥.

(٢) اعتبر البعض أنّ (ما) في (ما يسطرون) مصدرية ، واعتبرها بعض آخر بأنّها (موصولة) والمعنى الثاني أنسب ، والتقدير هكذا : (ما يسطرونه) ، كما اعتبرها البعض أيضا بمعنى (اللوح) أو (القرطاس) الذي يكتب عليه ، وفي التقدير (ما يسطرون فيه) كما اعتبر البعض (ما) هنا إشارة لذوي العقول والأشخاص الذين يكتبون هذه السطور ، إلّا أنّ المعنى الذي ذكرناه في المتن أنسب من الجميع حسب الظاهر.

٥١٧

يكون لك مثل هذا الأجر ، في الوقت الذي وقفت صامدا أمام تلك التّهم والافتراءات اللئيمة ، وأنت تسعى لهدايتهم ونجاتهم من الضلال وواصلت جهدك في هذا السبيل دون تعب أو ملل؟

«ممنون» من مادّة (منّ) بمعنى (القطع) ويعني الأجر والجزاء المستمرّ الذي لا ينقطع أبدا ، وهو متواصل إلى الأبد ، يقول البعض : إنّ أصل هذا المعنى مأخوذ من «المنّة» ، بلحاظ أنّ المنّة توجب قطع النعمة.

وقال البعض أيضا : إنّ المقصود من( غَيْرَ مَمْنُونٍ ) هو أنّ الله تعالى لم تكن لديه منّة مقابل هذا الأجر العظيم. إلّا أنّ التّفسير الأوّل أنسب.

وتعرض الآية اللاحقة وصفا آخر لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك بقوله تعالى :( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) .

تلك الأخلاق التي لا نظير لها ، ويحار العقل في سموّها وعظمتها من صفاء لا يوصف ، ولطف منقطع النظير ، وصبر واستقامة وتحمّل لا مثيل لها ، وتجسيد لمبادئ الخير حيث يبدأ بنفسه أوّلا فيما يدعو إليه ، ثمّ يطلب من الناس العمل بما دعا إليه والالتزام به.

عند ما دعوت ـ يا رسول الله ـ الناس ـ لعبادة الله ، فقد كنت أعبد الناس جميعا ، وإذ نهيتهم عن سوء أو منكر فإنّك الممتنع عنه قبل الجميع ، تقابل الأذى بالنصح ، والإساءة بالصفح ، والتضرّع إلى الله بهدايتهم ، وهم يؤلمون بدنك الطاهر رميا بالحجارة ، واستهزاء بالرسالة ، وتقابل وضعهم للرماد الحارّ على رأسك الشريف بدعائك لهم بالرشد.

نعم لقد كنت مركزا للحبّ ومنبعا للعطف ومنهلا للرحمة ، فما أعظم أخلاقك؟

«خلق» من مادّة (الخلقة) بمعنى الصفات التي لا تنفكّ عن الإنسان ، وهي ملازمة له ، كخلقة الإنسان.

وفسّر البعض الخلق العظيم للنبي بـ (الصبر في طريق الحقّ ، وكثرة البذل

٥١٨

والعطاء ، وتدبير الأمور ، والرفق والمداراة ، وتحمّل الصعاب في مسير الدعوة الإلهية ، والعفو عن المتجاوزين ، والجهاد في سبيل الله ، وترك الحسد والبغض والغلّ والحرص ، وبالرغم من أنّ جميع هذه الصفات كانت متجسّدة في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أنّ الخلق العظيم له لم ينحصر بهذه الأمور فحسب ، بل أشمل منها جميعا.

وفسّر الخلق العظيم أيضا بـ (القرآن الكريم) أو (مبدأ الإسلام) ومن الممكن أن تكون الموارد السابقة من مصاديق المفهوم الواسع للآية أعلاه.

وعلى كلّ حال فإنّ تأصّل هذا (الخلق العظيم) في شخصية الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو دليل واضح على رجاحة العقل وغزارة العلم له ونفي جميع التّهم التي تنسب من قبل الأعداء إليه.

ثمّ يضيف سبحانه بقوله :( فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ) .

( بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ ) أي من منكم هو المجنون(١) .

«مفتون» : اسم مفعول من (الفتنة) بمعنى الابتلاء ، وورد هنا بقصد الابتلاء بالجنون.

نعم ، إنّهم ينسبون هذه النسب القبيحة إليك ليبعدوا الناس عنك ، إلّا أنّ للناس عقلا وإدراكا ، يقيّمون به التعاليم التي يتلقّونها منك ، ثمّ يؤمنون بها ويتعلّمونها تدريجيّا ، وعندئذ تتّضح الحقائق أمامهم ، وهي أنّ هذه التعاليم العظيمة مصدرها البارئعزوجل ، أنزلها على قلبك الطاهر بالإضافة إلى ما منحك من نصيب عظيم في العقل والعلم.

كما أنّ مواقفك وتحرّكاتك المستقبلية المقرونة بالتقدّم السريع لانتشار الإسلام ، ستؤكّد بصورة أعمق أنّك منبع العلم والعقل الكبيرين ، وأنّ هؤلاء الأقزام

__________________

(١) (الباء) في (بأيّكم) زائدة و (أيّكم) مفعول للفعلين السابقين.

٥١٩

الخفافيش هم المجانين ، لأنّهم تصدّوا لمحاربة نور هذه الشمس العظيمة المتمثّلة بالحقّ الإلهي والرسالة المحمّدية.

ومن الطبيعي فإنّ هذه الحقائق ستتوضّح أمامهم يوم القيامة بصورة دامغة ، ويخسر هنالك المبطلون ، حيث تتبيّن الأمور وتظهر الحقيقة.

وللتأكيد على المفهوم المتقدّم يقول سبحانه مرّة اخرى :( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) .

وبلحاظ معرفة البارئعزوجل بسبيل الحقّ وبمن سلكه ومن جانبه وتخلّف أو انحرف عنه ، فإنّه يطمئن رسوله الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه والمؤمنون في طريق الهداية والرشد ، أمّا أعداؤه فهم في متاه الضلالة والغواية.

وجاء في حديث مسند أنّ قريشا حينما رأت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقدم الإمام عليعليه‌السلام على الآخرين ويجلّه ويعظّمه ، غمزه هؤلاء وقدحوا بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا : (لقد فتن محمّد به) هنا أنزل الله تعالى قرآنا وذلك قوله :( ن وَالْقَلَمِ ) وأقسم بذلك ، وإنّك يا محمّد غير مفتون ومجنون حتّى قوله تعالى :( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) حيث الله هو العالم بالأشخاص الذين ضلّوا وانحرفوا عن سواء السبيل ، وهي إشارة إلى قريش التي كانت تطلق هذه الاتّهامات ، كما أنّه تعالى أعرف بمن اهتدى ، وهي إشارة إلى الإمام عليعليه‌السلام (١) .

* * *

بحثان

١ ـ دور القلم في حياة الإنسان

إنّ من أهمّ معالم التطور في الحياة البشرية ـ كما أشرنا سابقا ـ هو ظهور

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٣٤ ، (نقل الطبرسي هذا الحديث بسنده عن أهل السنّة).

٥٢٠

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579