تلخيص التمهيد الجزء ٢

تلخيص التمهيد0%

تلخيص التمهيد مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 579

تلخيص التمهيد

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد هادي معرفة
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: الصفحات: 579
المشاهدات: 99686
تحميل: 9926


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 99686 / تحميل: 9926
الحجم الحجم الحجم
تلخيص التمهيد

تلخيص التمهيد الجزء 2

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وعدّوا هذا النوع من الاستعارة (التكنية والتخييل) من أبدع أنواع الاستعارات روعةً وجمالاً؛ حيث موضع ذلك التصوّر النفسي البديع، وكلّما كان ما تصوّره الوهم أوفى بواقعية الأمر وأبلغ كانت الاستعارة أبهى وأجمل.

قال السكاكي: الاستعارة بالكناية أن تَذكر المشبّه وتضيف إليه شيئاً من لوازم المشبّه به على سبيل الاستعارة التخييلية. فتقول: مخالب المنيّة نَشبت بفلان، طاوياً لذكر المشبّه به، فقد شَبّهت المنيّة بالسبُع في اغتيال النفوس وانتزاع أرواحها بالقهر والغَلبة، من غير تفرقة بين نفّاعٍ وضرّارٍ، ولا رقّة لمرحوم ولا بُقيا على ذي فضيلة، تشبيهاً بليغاً حتى كأنّها سبُع من السباع، فيأخذ الوهم في تصويرها في صورة السبع واختراع ما يلازم صورته ويتمّ بها مشاكلته من أعضاء وجوارح، وعلى الخصوص ما يكون قوام اغتيال السبع للنفوس بها، وتمام افتراس الفرائس بها، من الأنياب والمخالب، ثمّ تُطلق على مخترعات و همك أسامي من المتحقق؛ لتفيض عليها تلك الصورة الوهمية.

وهكذا إذا شبّهت الحال في دلالتها على أمر بإنسان يتكلّم، فيعمل الوهم في الاختراع للحال ما يكون قِوام التكلّم به، وهو تصوير صورة اللسان، ثمّ تُطلق عليه اسم اللسان المتحقق وتضيفه إلى الحال، قائلاً: لسان الحال ناطق بكذا.

أو أن تُشبّه ولاية أمر صادفتها واقعة تحت مشيئة امرؤ، وتابعة لرأيه يتصرّف فيها كيف يشاء، بالناقة المنقادة التابعة لمستتبعها كيف أراد، فتُثبت لها في الوهم ما هو قِوام ظهور انقياد الناقة به، وهو صورة الزِمام، فتُطلق عليها اسم الزِمام المتحقق، قائلاً: زِمام الحُكم بيد فلان.

قال: وقد ظهر أنّ الاستعارة بالكناية لا تنفكّ عن الاستعارة التخييلية أبداً (1) .

____________________

(1) مفتاح العلوم: ص178 - 179.

٣٦١

6 - الاستعارة التمثيلية:

قال جلال الدين السيوطي: التشبيه من أعلى أنواع البلاغة وأشرفها، واتّفق البلغاء على أنّ الاستعارة أبلغ من التشبيه، فالاستعارة أعلى مراتب الفصاحة، وكذا الكناية أبلغ من التصريح، والاستعارة أبلغ من الكناية، فقد تصدّرت الاستعارة أعلى مراتب بلاغة البيان وأفصحها.

وأبلغ أنواع الاستعارة هي التمثيلية؛ لأنّها تنفث في التشبيه روح الحقيقة، وتُفضي عليها الحركة والحياة، فيتناسى التشبيه، وكأنّ الحقيقة بذاتها ظهرت وأبدت معالمها... (1) .

والاستعارة التمثيلية هي من المجاز المركّب، وحقيقتها: أن تُشبّه إحدى الصورتين المنتزعتين من متعدّد بالأُخرى، ثمّ تتخيّل أنّ الصورة المشبّه بها عين الصورة المشبّهة، فتُطلق تلك على هذه إطلاقاً بالاستعارة.

كما يقال لمَن يتردّد في أمر: أراك تُقدّم رِجلاً وتُؤخّر أُخرى، فقد شبّه صورة تردّده النفسي في الإقدام والإمساك بمَن قام ليذهب فتردّد في الذهاب، فتارةً يتقدّم وأُخرى ينصرف فيتأخر (2) .

فهذا أبلغ تشبيه في تصوير حالته النفسية المضطربة، لا يستطيع الجزم والبتّ فيما يريد.

وهذا النوع من الاستعارة بل التمثيل في القرآن كثير، وقد تقدّم كثير من أمثلتها في حقل التصوير الفنّي في القرآن.

* * *

____________________

(1) معترك الأقران: ج1 ص282.

(2) المطوّل: ص379.

٣٦٢

9 - لطيف كنايته وظريف تعريضه

الكناية بمعنى الستر، تقول: كنّيت الشيء إذا سترته، ومنه الكُنية، لستر اسمه تفخيماً لمقامه.

قال السكاكي: هي ترك التصريح بذكر الشيء إلى ذكر ما يلزمه لينتقل منه إلى ملزومه (1) .

قال ابن الأثير: الكناية إذا وردت تجاذبها حقيقة ومجاز، وجاز حملها على الجانبين معاً، أَلا ترى أنّ اللمس في قوله تعالى: ( أَوْ لاَمَسْتُمْ النِّسَاءَ ) (2) كناية عن الجماع، يجوز حمله على الحقيقة وعلى الجاز، وكل منهما يصحّ به المعنى ولا يختلّ؛ لأنّ اللمس خارجاً لازم الجماع لا محالة.

والفرق بينها وبين التعريض: أنّ التعريض هو اللفظ الدالّ على الشيء من طريق المفهوم وإن لم يكن من لوازمه، كما إذا قلت لمَن تتوقع صلته: والله إنّي لَمحتاج، فإنّه تعريض بالطلب، وليس موضوعاً له لا حقيقةً ولا مجازاً، بخلاف دلالة اللمس على الجماع دلالة باللازم على الملزوم؛ ومِن ثَمّ كان التعريض أخفى من الكناية، وأبرع منها إذا وقع موقعه؛ لأنّ دلالة الكناية لفظية (دلالة الإشارة)

____________________

(1) مفتاح العلوم: ص189.

(2) النساء: 43، المائدة: 6.

٣٦٣

ودلالة التعريض عقلية، يجب أن يتنبّه لها العقل، لا بالوضع الحقيقي ولا المجازي، وإنّما سُمّي تعريضاً؛ لأنّ المعنى منه يفهم من عرضه أي من جانبه، وعرض كل شيء جانبه (1) .

* * *

وللناس في الفَرق بين الكناية والتعريض عبارات متقاربة:

فقال الزمخشري: الكناية ذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له، والتعريض أن يذكر شيئاً يدلّ به على شيء لم يذكره.

وقال ابن الأثير: الكناية ما دلّ على معنى يجوز حمله على الحقيقة والمجاز بوصف جامع بينهما، والتعريض: اللفظ الدالّ على معنى لا من جهة الوضع الحقيقي أو المجازي، كقول من يتوقّع صلة: والله إنّي لمحتاج، فإنّه تعريض بالطلب، مع أنّه لم يُوضع له لا حقيقةً ولا مجازاً، وإنّما فُهم من عرض اللفظ، أي جانبه.

وقال السبكي في كتاب (الإغريض في الفرق بين الكناية والتعريض): الكناية لفظ استُعمل في معناه مراداً منه لازم المعنى، فهو بحسب استعمال اللفظ في المعنى حقيقة، والتجوّز في إرادة إفادة ما لم يُوضع له وقد لا يُراد منها المعنى، بل يُعبّر بالملزوم عن اللازم، وهي حينئذٍِ مجاز.

ومن أمثلته: ( قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً ) (2) فانّه لم يُقصد إفادة ذلك؛ لأنّه معلومٌ، بل إفادة لازمه، وهو أنّهم يَرِدونها ويجدون حرّها إن لم يجاهدوا.

وأمّا التعريض فهو لفظ استُعمل في معناه للتلويح بغيره، نحو: ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ) (3) نسب الفعل إلى كبير الأصنام المتّخذة آلهة، كأنّه غضب أن تُعبد الصِّغار معه، تلويحاً لعابيدها بأنّها لا تصلح أن تكون آلهة، لِما يعلمون - إذا نظروا بعقولهم - من عجز كبيرها عن ذلك الفعل، والإله لا يكون عاجزاً، فهو حقيقة أبداً.

____________________

(1) المَثَل السائر: ج3 ص52 و56.

(2) التوبة: 81.

(3) الأنبياء: 63.

٣٦٤

وقال السكاكي: التعريض ما سيق لأجل موصوف غير مذكور، ومنه أن يُخاطب واحد ويراد غيره، وسُمّي به؛ لأنّه أُميل الكلام إلى جانب مشاراً به إلى آخر، يقال: نظر إليه يعرض وجهه، أي جانبه (1) .

* * *

قال الطيّبي: وذاك يُفعل؛ إمّا لتنويه جانب الموصوف، ومنه: ( وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ) (2) أي محمّد (صلّى الله عليه وآله) إعلاءً لقدره، أي أنّه العَلَم الذي لا يشتبه، وإمّا للتلطّف وبه واحترازاً عن المخاشنة، نحو: ( وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي ) (3) أي ومالكم لا تعبدون، بدليل قوله: ( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ، وكذا قوله: ( أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ) (4) ووجه حسنه إسماع مَن يقصد خطابه الحقّ على وجه يمنع غضبه؛ إذ لم يصرّح بنسبته للباطل، والإعانة على قبوله، إذ لم يرد له إلاّ ما أراد لنفسه.

وإمّا لاستدراج الخصم إلى الإذعان والتسليم، ومنه: ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) (5) خوطب النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وأُريد غيره؛ لاستحالة الشرك عليه شرعاً.

وإمّا للذمّ نحو: ( إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ ) (6) ، فإنّه تعريض بذمّ الكفّار، وإنّهم في حكم البهائم الذين لا يتذكّرون.

وإمّا للإهانة والتوبيخ، نحو: ( وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ) (7) ، فإنّ سؤالها لإهانة قاتلها وتوبيخه.

قال السبكي: التعريض قسمان:

قسم يُراد به معناه الحقيقي ، ويُشار به إلى المعنى الآخر المقصود كما تقدّم.

وقسم لا يُراد ، بل يُضرب مثلاً للمعنى الذي هو مقصود التعريض، كقول

____________________

(1) معترك الأقران: ج1 ص292.

(2) البقرة: 253.

(3) يس: 22.

(4) يس: 23.

(5) الزمر: 65.

(6) الرعد: 19 والزمر: 9.

(7) التكوير: 8 و9.

٣٦٥

إبراهيم: ( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ) (1) (2) .

* * *

وقد جعل السكاكي التعريض قسماً من الكناية؛ إذ جعلها تعريضاً وتلويحاً ورمزاً وايماءً وإشارةً. قال: متى كانت الكناية عرضية، كقولك: المؤمن لا يؤذي أخاه المسلم، تعريضاً بمَن يتصدّى لإيذاء المؤمنين بأنّه ليس بمؤمن، فهذه كان إطلاق اسم التعريض عليها مناسباً.

وإذ لم تكن الكناية عرضية نظر، فإن كانت مسافةُ بينها وبين المكنّى عنه مسافةً متباعدةً لتوسّط لوازم كثير كما في (كثير الرماد) وأشباهه كان إطلاق اسم التلويح عليها مناسباً؛ لأنّ التلويح هو أن تُشير إلى غيرك عن بُعد.

وإن كانت ذات مسافة قريبة بقلّة اللوازم لكن مع نوع خفاء مثل قولهم (عريض القفا) و(عريض الوسادة) كان إطلاق اسم الرمز مناسباً؛ لأنّ الرمز هو أن تُشير إلى قريب منك على سبيل الخفية.

وإن كانت لا خفاء فيها كان إطلاق اسم الإيماء والإشارة عليها مناسباً (3) .

ومن لطيف الكناية وحسنها ما يأتي بلفظة (مثل) في قولك (مثلك لا يبخل) حيث نفيت عنه القبيح بأحسن وجه؛ لأنّه إذا نفاه عمّن يُماثله فقد نفاه عنه لا محالة، إذ هو بنفي ذلك عنه أجدر، وإلاّ لم يكونا متماثلين.

وعليه ورد قوله تعالى: ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (4) وإن كان الله سبحانه لا مِثل له، لكنّه كناية عن نفي مشابهته لشيء بأبلغ وجه؛ لأنّ مِثله تعالى - فَرَضاً - إذا لم يكن له مثيل فهو تعالى أولى بأن لا يكون له نظير.

* * *

ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: ( أَيُحِبُ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً

____________________

(1) الأنبياء: 63.

(2) معترك الأقران: ج1 ص293.

(3) مفتاح العلوم: ص190 و194.

(4) الشورى: 11.

٣٦٦

فَكَرِهْتُمُوهُ ) (1) ، فإنّه كنّى عن الغِيبة بأكل الإنسان لحم إنسانٍ آخر مِثله، ولم يقتصر على ذلك حتى جعله ميّتاً، ثمّ جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولاً بالمحبّة، قال ابن الأثير: فهذه أربع دلالات واقعة على ما قصدت له مطابقة للمعنى الذي وردت من أجله.

أمّا جعل الغِيبة كأكل لحوم الناس فهو شديد المناسبة جدّاً؛ لأنّها ذكر مثالب المغتاب والوقوع في عِرضه، بل والحطّ من كرامته بما يهدم شخصيّته وإيجاب النفرة منه، الأمر الذي يستدعي إبعاده عن الحياة العامّة، ولا سيّما الحياة العملية المبتنية على تبادل الثقة بين أفراد الجامعة، فلا يعتمده إنسان ولا يثق به غيره بعد حصول هذه النفرة بينه وبين سائر الناس؛ كل ذلك مغبّة فضحه بين الناس بسبب إبداء معايبه الخفية بالاغتياب، فكان كعضو أشلّ لهيكل الجامعة الإنسانية، وكان موته وشلله حينذاك سواء.

إذاً فالذي يفعله المغتاب يشبه تماماً بمَن قتل أخاه (العضو الفعّال الآخر للجامعة) واقتات على لحمه ميتاً، فما أشدّ كراهته؟ فهذا مثله.

فالغيبة إذا شاعت فإنّما هي قتل النفوس وتمزيق أعراضهم وهدم شخصيّاتهم، فما أبشعها وأدقّها تعبيراً ووفاءً بمقصود الكلام.

وكذلك قوله تعالى: ( وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لّمْ تَطَؤُوها ) (2) ، قال ابن الأثير: والأرض التي لم يطؤُوها كناية عن مناكح النساء، وهو من حسن الكناية ونادرها.

* * *

وقوله تعالى: ( أَنزَلَ مِنَ السّماءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةُ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السّيْلُ زَبَداً

____________________

(1) الحجرات: 12.

(2) الأحزاب: 27.

٣٦٧

رَابِياً وَمِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقّ وَالْبَاطِلَ فَأَمّا الزّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمّا مَا يَنفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ ) (1) .

قال الزمخشري: هذا مَثل ضَربه الله للحقّ وأهله والباطل وحزبه، فكنّى بالماء عن العِلم، وبالأدوية عن القلوب، وبالزَبد عن الضلال.

إنّ الماء لينزل من السماء فتسيل به الأودية، كلٌّ بقدرها، وهو بطبيعة جريه وسيلانه يلمّ في طريقه غثاء، فيطفو على وجهه صورة زَبد، هي الشكوك الحاصلة من تضارب الآراء وحجاج الخصوم، حتى ليحجب الماء أي الحقيقة في بعض الأحيان.

وقد يكون هذا الزَبد نافشٌ رابٍ منتفخ، ليبدو فخيماً في شكله وظاهر صورته، ولكنّه في حقيقته غثاء، أمّا الماء من تحته فهو ساربٌ ساكنٌ هادئ، لكنّه الماء الحامل للخير والحياة، وسرعان ما تنصع حقيقته الصافية، وينقشع عن وجهه غبار الأوهام.

كذلك يُتصوّر في المعادن والفلزّات التي تُذاب لتصاغ منها الحُلي أو الأواني والآلات النافعة للحياة، فإنّها عند الذوبان يطفو عليها الخبث وقد يحجب وجه الفلزّ الأصيل، ولكنّه بعدُ خبثٌ يذهب جفاء، ويبقى الفلزّ نقيّاً خالصاً نافعاً في الحياة.

وذلك مثل الحقّ يُجلّله غبار الباطل أحياناً، لكنّه لا يلبث أن ينصدع فتتجلّى الحقيقة ناصعةً بيضاء لامعة. ( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ) ومِن ثَمّ عقّبه بقوله: ( وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ) (2) تصف ألسنتكم الكذب من تشكيك وأوهام وخرافات (3) .

حكمة الكناية وفوائدها

للكناية فوائد وحِكم ذكرها أرباب البيان، ولخّصها جلال الدين السيوطي في

____________________

(1) الرعد: 17.

(2) الأنبياء: 18.

(3) الكشّاف: ج2 ص523، المَثل السائر: ج3 ص63، في ظِلال القرآن: ج5 ص85.

٣٦٨

ستة وجوه:

أحدها: التنبيه على عِظَم القدرة، نحو ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) (1) كناية عن آدم (عليه السلام) فإنّ إخراج الذرّ الكثير من أصل واحد دليل على عظمة الصانع تعالى وقدرته الخارقة، فلو كان صرّح باسمه (عليه السلام) لكانت إشادة بشأنه بالذات.

ثانيها: ترك اللفظ إلى ما هو أجمل، نحو: ( إِنّ هذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ ) (2) ، فكنّى بالنعجة عن المرأة كعادة العرب في ذلك؛ لأنّ ترك التصريح بذِكر المرأة أجمل منه، ولهذا لم تذكر في القرآن امرأة باسمها إلاّ مريم.

قال السهيلي: وإنّما ذكرت (مريم) باسمها على خلاف عادة الفصحاء؛ لنكتة، وهي أنّ الملوك والأشراف لا يذكرون حرائرهم في ملأ، ولا يبتذلون أسماءهنّ، بل يُكنّون عن الزوجة بالفَرس والعيال ونحو ذلك، فإذا ذكروا الإماء لم يكنّوا عنهنّ ولم يصونوا أسماءهنّ عن الذِكر، فلمّا قالت النصارى في مريم ما قالوا صرّح الله باسمها، ولو لم يكن تأكيداً للعبودية التي هي صفة لها و تأكيداً لأنّ عيسى لا أب له، وإلاّ لنسب إليه.

ثالثها: أن يكون في التصريح ممّا يستقبح ذكره، ككناية الله عن الجماع بالملامسة والمباشرة والإفضاء والرَفث والدخول والسرّ في قوله: ( وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً ) (3) والغشيان في قوله: ( فَلَمَّا تَغَشَّاهَا ) (4) .

أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس، قال: المباشرة الجماع، ولكن الله يكنّي، وأخرج عنه، قال: إنّ الله كريم يُكنّي ما شاء، وإنّ الرفث هو الجماع.

وكنّى عن طلبه بالمراودة في قوله: ( وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ ) (5) ، وعنه أو عن المعانقة باللباس في قوله: ( هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ) (6)

____________________

(1) الأعراف: 189.

(2) ص: 23.

(3) البقرة: 235.

(4) الأعراف: 189.

(5) يوسف: 23.

(6) البقرة: 187.

٣٦٩

وبالحرث في قوله: ( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ ) (1) .

وكنّى عن البول ونحوه بالغائط في قوله ( أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ ) (2) ، وأصله المكان المطمئنّ من الأرض.

وكنّى عن قضاء الحاجة بأكل الطعام في قوله في مريم وابنها: ( كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ ) (3) .

وكنّى عن الأستاه بالأدبار في قوله: ( يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ) (4) ، أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في هذه الآية قال: يعني أستاههم، ولكنّ الله يُكنّي ما شاء.

* * *

وأورد على ذلك التصريح بالفرج في قوله: ( وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا ) (5) .

وقوله: ( أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا ) (6) .

وأُجيب بأنّ المراد به فرج القميص، والتعبير به من لطيف الكنايات وأحسنها، أي لم يعلّق بثوبها ريبة، فهي طاهرة الثوب، كما يقال: نقيّ الثوب، وعفيف الذيل كناية عن العفّة، ومنه: ( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ) (7) ، وكيف يُظنّ أنّ نفخ جبريل وقع في فرجها، وإنّما نَفخ في جيب درعها. ونظيره أيضاً ( وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ ) (8) .

قال الفرّاء: والفرج هاهنا: جيب درعها، وذُكر أنّ جبرائيل (عليه السلام) نفخ في جيبها. وكل ما كان في الدرع من خَرق أو غيره يقع عليه اسم الفرج، قال الله تعالى: ( وَمَا لَهَا

____________________

(1) البقرة: 223.

(2) المائدة: 6.

(3) المائدة: 75.

(4) الأنفال: 50.

(5) الأنبياء: 91.

(6) التحريم: 12.

(7) المدّثر: 4.

(8) الممتحنة: 13.

٣٧٠

مِنْ فُرُوجٍ ) (1) يعني السماء من فطور ولا صدوع (2) .

وقال في موضع آخر: ذكر المفسّرون أنّه جيب درعها، ومنه نُفخ فيها (3) ودرع المرأة قميصها، وهكذا قال السيد شبّر والطبرسي وغيرهما من أعلام المفسّرين (4) .

قال الراغب: الفرج والفرجة: الشقّ بين الشيئين كفرجة الحائط، والفرج: ما بين الرجلين. وكنّى به عن السَوأَة، وكثُر استعماله حتى صار كالصريح فيه.

قلت: وإطلاق الفرج على الجيب باعتبار أنّه الشقّ الواقع بين جانبي الدرع، إطلاق على أصله، وكنّى به عن السَوأَة، سواء أكانت من الرجال أم من النساء، كما في قوله تعالى: ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ) (5) ، (6) ، ( وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ ) (7) .

وحفظ الفرج كناية عن التحفّظ على طهارته وأن لا يتدنّس باقتراب قذارة أو يتلوّث بارتكاب حرام، كناية بليغة عن التعفّف واجتناب الفحشاء.

وعليه فحصانة الفرج كناية عن طهارة الذيل، الذي هو بدوره كناية عن التعفّف، ومِن ثَمّ فيه كناية عن كناية نظير المجاز عن المجاز، فتدبّر، فانّه لطيف.

* * *

رابعها: قصد المبالغة والبلاغة، نحو قوله تعالى: ( أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ) (8) ، كنّى عن النساء بأنهنّ يَنشأنَ في الترفّه والتزيّن والشواغل عن النظر في الأُمور ودقيق المعاني، ولو أتى بلفظ النساء لم يُشعر بذلك، والمراد نفي ذلك عن الملائكة، وقوله: ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ) (9) كناية عن

____________________

(1) ق: 6.

(2) معاني القرآن: ج3 ص169.

(3) معاني القرآن: ج2 ص210.

(4) مجمع البيان: ج7 ص62 وج10 ص319، تفسير شبّر: ص321 وص524.

(5) المؤمنون 5، المعارج: 29.

(6) النور: 30 و31.

(7) الأحزاب: 35.

(8) الزخرف: 18.

(9) المائدة: 64.

٣٧١

سعة جوده وكرمه جدّاً.

خامسها : قصد الاختصار، كالكناية عن ألفاظ متعدّدة بلفظ (فعل)، نحو: ( لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) (1) ، ( فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا ) (2) أي فإن لم تأتوا بسورة من مثله.

سادسها: التنبيه على مصيره، نحو قوله تعالى: ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ ) (3) أي جهنّميّ مصيره إلى اللهب. وقوله: ( حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ ) أي نمّامة، مصيرها إلى أن تكون حطباً لجهنّم في جيدها غلّ.

* * *

قال بدر الدين ابن مالك في المصباح (4) : إنّما يعدل عن الصريح إلى الكناية لنكتة، كالإيضاح أو بيان حال الموصوف، أو مقدار حاله، أو القصد إلى المدح أو الذم، أو الاختصار، أو الستر، أو الصيانة، أو التعمية، أو الألغاز، أو التعبير عن الصعب بالسهل، أو عن المعنى القبيح باللفظ الحسن.

* * *

واستنبط الزمخشري نوعاً من الكناية غريباً، وهو أن تعمد إلى جملة معناها على خلاف الظاهر، فتأخذ الخلاصة من غير اعتبار مفرداتها بالحقيقة والمجاز، فتُعبّر بها عن المقصود، كما تقول في نحو: ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) (5) . إنّه كناية عن المُلك، فإنّ الاستواء على السرير لا يكون إلاّ مع المُلك، فجُعل كناية عنه، وكذا قوله: ( وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ

____________________

(1) المائدة: 79.

(2) البقرة: 24.

(3) المسد: 1.

(4) المصباح في تلخيص المفتاح لمحمّد بن عبد الله بن مالك الملقّب بابن الناظم أحد أئمة النحو والمعاني والبديع، توفي سنة 686 (طبقات الشافية: 5 - 41).

(5) طه: 5.

٣٧٢

بِيَمِينِهِ ) (1) كناية عن عظمته وجلاله من غير ذهاب بالقبض واليمين إلى جهتي الحقيقة والمجاز (2) .

قال - عند الكلام عن آية طه -: لمّا كان الاستواء على العرش - وهو سرير المُلك - ممّا يَردف المَلِك جعلوه كناية عن المُلك، فقالوا: استوى فلان على العرش، يريدون: مَلِك، وإن لم يقعد على السرير البتة، وقالوه أيضاً؛ لشهرته في ذلك المعنى ومساواته (مُلك) في مؤدّاه، وإن كان أشرح وأبسط وأدلّ على صورة الأمر.

قال: ونحوه قولك: يد فلان مبسوطة، ويد فلان مغلولة، بمعنى أنّه جواد أو بخيل، لا فرق بين العبارتين إلا فيما قلت، حتى أنّ مَن لم يبسط يده قطّ بالنوال أو لم تكن له يد رأساً قيل فيه: يده مبسوطة، لمساواته عندهم مع قولهم: هو جواد... ومنه قوله عزّ وجلّ: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ) (3) أي هو بخيل، ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ) (4) أي هو جواد... من غير تصوّر يد ولا غلّ ولا بسط.

قال: والتفسير بالنعمة، والتمحّل للتثنية، مِن ضيق العطن، والمسافرة عن علم البيان مسيرة أعوام (5) .

وقال عن آية الزمر: والغرض من هذا الكلام - إذا أخذته كما هو بجملته ومجموعه - تصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله لا غير، من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو جهة مجاز.

قال: وزبدة الآية وخلاصتها هي الدلالة على القدرة الباهرة، وأنّ الأفعال العظام التي تتحيّر فيها الأفهام والأذهان ولا تكتَنهها الأوهام هيّنة عليه، هواناً لا يوصل السامع إلى الوقوف عليه، إلاّ إجراء العبارة في مثل هذه الطريقة من

____________________

(1) الزمر: 67.

(2) الإتقان: ج3 ص145 - 146.

(3) المائدة: 64.

(4) المائدة: 64.

(5) الكشّاف: ج3 ص52.

٣٧٣

التخييل.

قال: ولا ترى باباً في علم البيان أدقّ ولا أرقّ ولا ألطف من هذا الباب، ولا انفع وأعون على تعاطي تأويل المشتبهات من كلام الله تعالى في القرآن وسائر الكتب السماوية وكلام الأنبياء، فإنّ أكثره وعليّته (1) تخييلات، قد زلّت فيها الأقدام قديماً، وما أتى الزالّون إلاّ من قلة عنايتهم بالبحث والتنقير، حتى يعلموا أنّ في عداد العلوم الدقيقة علماً لو قدّروه حقّ قدره، لَما خفي عليهم أنّ العلوم كلها مفتقرة إليه وعيال عليه؛ إذ لا يحلّ عقدها المؤربة ولا يفكّ قيودها المكربة إلاّ هو. وكم آية من آيات التنزيل وحديث من أحاديث الرسول قد ضيم وسيم الخسف بِلا تأويلات الغثّة والوجوه الرثّة؛ لأنّ مَن تأوّل ليس مِن هذا العلم في عِير ولا نفير، ولا يعرف قبيلاً منه من دبير (2) .

* * *

ومن أنواع البديع التي تشبه الكناية: الأرادف، وهو أن يريد المتكلّم معنى فلا يُعبّر عنه بلفظه الموضوع له، ولا بدلالة الإشارة، بل بلفظ يُرادفه، كقوله تعالى: ( وَقُضِيَ الأَمْرُ ) (3) . والأصل: وهلك مَن قضى اللهُ هلاكه، ونجا مَن قضى الله نجاته، وعدل عن لفظ ذلك إلى الأرداف؛ لِما فيه من الإيجاز والتنبيه على أنّ هلاك الهالك ونجاة الناجي كان بأمر آمر مطاع، وقضاء مَن لا يُردّ قضاؤه يدلّ على قدرة الآمر به وقهره، وأن الخوف من عقابه ورجاء ثوابه يَحضّان على طاعة الآمر، ولا يحصل ذلك كله من اللفظ الخاص.

وكذا قوله: ( اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ ) (4) ، حقيقة ذلك: جلست، فعدل عن اللفظ الخاص بالمعنى إلى مرادفه؛ لِما في الاستواء من الإشعار بجلوس متمكّن لا زيغ فيه ولا ميل، وهذا لا يحصل من لفظ الجلوس.

____________________

(1) أي معظمه.

(2) الكشّاف: ج4 ص142 - 143.

(3) البقرة: 210.

(4) هود: 44.

٣٧٤

وكذا قوله: ( فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ ) (1) ، أي عفيفات، وعدل عنه للدلالة على أنّهنّ مع العفّة لا تطمح أعينهنّ إلى غير أزواجهنّ، ولا يشتهينّ غيرهم، ولا يُؤخذ ذلك من لفظ العفّة.

قال بعضهم: والفرق بين الكناية والأرداف أنّ الكناية انتقال من لازم إلى ملزوم، والأرداف من مذكور إلى متروك.

ومن أمثلته أيضاً: ( لِيَجْزِيَ الّذِينَ أَسَاءوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ) (2) عدل في الجملة الأُولى عن قوله (بالسُّوأى) مع أنّ فيه مطابقة كالجملة الثانية إلى ( بِمَا عَمِلُوا ) تأدّباً أن يُضاف السوء إلى الله تعالى (3) .

* * *

____________________

(1) الرحمن: 56.

(2) النجم: 31.

(3) معترك الأقران: ج1 ص287 - 291.

٣٧٥

10 - طرائف وظرائف

من روائع بدائع كلام الله المجيد:

هناك الكثير من لطائف البدائع، ترفع من شأن الكلام وتُعظم من قدره، وليست مجرّد تحسين لفظ أو تحبير عبارة، بل هي من عمود البلاغة وأُسّ الفصاحة ومن براعة البيان، وقد مُلئ القرآن من باقات زهورها وطاقات بدورها، وهي إلى الازدياد كلّما أُمعن النظر ودُقّق الفكر، أقرب منها إلى الانتهاء، وكان ينبغي التنبّه لطرائفها والتطلّع على ظرائفها، تتميماً لفوائد سبقت وتكميلاً لفرائد سلفت،كانت لا يُحصى عددها ولا ينتهي أمدها، فلله درّه من عظيم كلام وفخيم بيان، وإليك منها نماذج:

الالتفات أو التفنّن في أُسلوب الخطاب

أم هو

كرّ وفرّ وتجوال، ومداورة بعنان الكلام

بل هي

فروسة العربية وشجاعة البيان

قال ابن الأثير: هو خلاصة علم البيان التي حولها يُدَندَنُ، وإليها تستند البلاغة، وعنها يُعَنعَنُ، وحقيقته مأخوذة من التفات الإنسان يمنةً ويسرةً، فهو يُقبل بوجهه إلى جهة تارة، وإلى جهة أُخرى تارةً أُخرى، ويُسمّى أيضاً (شجاعة

٣٧٦

العربية)؛ لأنّ الشجاعة هي الإقدام، وذاك أنّ الرجل الشجاع يَركب ما لا يستطيعه غيره، ويتورّد ما لا يتورّده غيره، وكذلك الالتفات في الكلام، فإنّ اللّغة العربية - على وفرة تفانينها وسعة مفاهيمها - تحتمل هذا التجوال ما لا تحتمله غيرها من سائر اللغات (1) .

قال السكاكي: والعرب يستكثرون من الالتفات، ويرون الكلام إن انتقل من أُسلوب إلى أُسلوب كان أدخل في القبول عند السامع، وأحسن تطرية لنشاطه، وأملأ باستدرار إصغائه، قال: وأجدر بهم في هذا الصنيع، أَفتراهم يُحسنون قِرى الأضياف بتلوين الطعام، وهم أبدان وأشباح، ولا يُحسنون قِرى النفوس والأرواح بتنويع الكلام؟! والكلام كلّما ازداد طراوةً كان أشهى غذاءً للروح وأطيب قِرىً للقلوب.

قال: وهذا الوجه - وهو تطرية نشاط السامع - هو فائدة العامّة، وقد يختصّ مواقعه بلطائف معانٍ، قلّما تتّضح إلاّ لأفراد بلغائهم أو للحُذّاق في هذا الفنّ والعلماء النحارير، ومتى اختصّ موقعه بشيء من اللطائف والظرائف كساه فضلَ بهاءً ورونق ورواء، وأورث السامع زيادة هزّة ونشاط، ووجد عنده من القبول أرفع منزلة ومحل، إن كان ممّن يسمع ويعقل، وقليل مّا هم، أم تحسب أنّ أكثرهم يسمعون أو يعقلون؟!

قال: ولأمر مّا وقع التباين الخارج عن الحدّ بين مفسّرٍ لكلام ربّ العزّة ومفسّر، وبين غوّاص في بحر فوائده وغوّاص.

وكل التفات وارد في القرآن الكريم، متى صِرت مِن سامعيه، عرّفك ما موقعه، وإذا أحببت أن تصير من سامعيه فأصخ ثمّ، ليُتلى عليك:

قوله تعالى: ( إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ ) .

أليس إذا أخذت في تعديد نِعَم المولى - جلّت آلاؤه - مستحضراً لتفاصيلها

____________________

(1) المَثل السائر: ج 2 ص 170.

٣٧٧

أحسست من نفسك بحالة كأنّها تُطالبك بالإقبال على مُنعمِك، وتُزيّن لك ذلك، ولا تزال تتزايد ما دمت في تعديد نِعمه، حتى تَحملك من حيث لا تدري على أن تجدك وأنت معه في الكلام تُثني عليه وتدعو له وتقول: بأيّ لسان أشكر صنائعك الروائع، وبأيّة عبارة أحصر عوارفك الذوارف (1) ، وما جرى هذا المجرى...

وإذا وعيت ما قصصته عليك وتأمّلت الالتفات في ( إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ ) - بعد تلاوتك لما قبله ( اَلْحَمْدُ للّهِ‏ِ رَبّ الْعالَمِينَ * الرّحْمنِ الرّحِيمِ * مالِكِ يَوْمِ الدّينِ ) - على الوجه الذي يجب، وهو التأمّل القلبي، علمت ما موقعه، وكيف أصاب المَحزّ (2) وطبّق مفصل البلاغة؛ لكونه منبّهاً على أنّ العبد المنعم عليه بتلك النِعم العظام إذا قدّر أنّه ماثل بين يدي مولاه، مِن حقّه إذا أخذ في القراءة أن تكون قراءته على وجه يجد معها من نفسه شبه محرّك إلى الإقبال على مَن يحمده، صائر في أثناء القراءة إلى حالة شبيهة بإيجاب ذلك عند ختم الصفات، مستدعية انطباقها على المُنزّل على ما هو عليه، وإلاّ لم يكن قارئاً.

والوجه: هو إذا افتتح التحميد أن يكون افتتاحه عن قلب حاضر ونفس ذاكرة، يعقل فيم هو؟ وعند مَن هو؟ فإذا انتقل من التحميد إلى الصفات، أن يكون انتقاله محذوّاً به حذوَ الافتتاح، فإنّه متى افتتح على الوجه الذي عرفت، مُجرياً على لسانه (الحمد لله) ، أَفلا يجد مُحرّكاً للإقبال على مَن يحمد، مِن معبود عظيم الشأن، حقيق بالثناء والشكر، مستحقّ للعبادة؟

ثمّ إذا انتقل على نحو الافتتاح إلى قوله: (ربّ العالمين) واصفاً له بكونه ربّاً مالكاً للخلق، لا يخرج شيء من ملكوته وربوبيّته، أَفترى ذلك المحرّك لا يقوى؟

ثمّ إذا قال: (الرّحمن الرّحيم) فوصفه بما يُنبئ عن كونه مُنعماً على الخلق بأنواع النعم، جلائلها ودقائقها، مصيباً إيّاهم بكل معروف، أفلا تتضاعف قوّة ذلك

____________________

(1) العوارف: جمع العارفة بمعنى المعروف. والذوارف: جمع الذارفة، من الذرف بمعنى الانصباب.

(2) الحزّ: القطع. والمَحزّ: موضع الذبح.

٣٧٨

المحرّك عند هذا؟

ثمّ إذا آل الأمر إلى خاتمة هذه الصفات، وهي (مالك يوم الدين) المنادية على كونه مالكاً للأمر كله في العاقبة يوم الحشر للثواب والعقاب، فما ظنّك بذلك المحرّك، أيسع ذهنك أن لا يصير إلى حدّ يوجب عليك الإقبال على مولى، شأن نفسك معه منذ افتتحت التحميد ما تصوّرت، فتستطيع أن لا تقول: (إيّاك، يا من هذه صفاته، نعبد ونستعين، لا غيرك) فلا ينطبق على المُنزل على ما هو عليه؟

وأخيراً قال: واعلم أنّ لطائف الاعتبارات المرفوعة لك في هذا الفن، من تلك المطامح النازحة من مقامك لا تثبتها حقّ إثباتها، ما لم تمترِ بصيرتك في الاستشراف لِما هنالك أطياء المجهود، ولم تختلف في السعي للبحث عنها وراءك كل حدّ معهود... وعلماء هذه الطبقة الناظرة بأنواع البصائر، المخصوصون بالعناية الإلهية المدلّلُون بما أُوتوا مِن الحكمة وفصل الخطاب.

على أنّ كلام ربّ العزّة - وهو قرآنه الكريم وفرقانه العظيم - لم يكتسِ تلك الطلاوة، ولا استودع تلك الحلاوة، وما أغدقت أسافله، ولا أثمرت أعاليه، وما كان بحيث يعلو ولا يُعلى، إلاّ لانصبابه في تلك القواليب، ولوروده على تلك الأساليب (1) .

وقيل - زيادة على ما مرّ -: إنّ من لطائفه التنبيه على أنّ مبتدأ الخلق الغيبة عنه سبحانه، وقصورهم عن محاضرته ومخاطبته، وقيام حجاب العظمة عليهم، فإذا عرفوه بما هو أهله وتوسّلوا للقرب بالثناء عليه، وأقرّوا له بالمحامد، وتعبّدوا له بما يليق بهم، تقرّباً إلى ساحة قدسه الكريم، فعند ذلك تأهّلوا لمخاطبته ومناجاته عن حضور، فقالوا: إيّاك نعبد، وإيّاك نستعين (2) .

____________________

(1) مفتاح العلوم (آخر الفن الثاني من علم المعاني) ص 95 - 98.

(2) معترك الأقران: ج 1 ص 382.

٣٧٩

حدّ الالتفات وفائدته:

هو عند الجمهور: التعبير عنه بطريق من الطرق الثلاثة (التكلّم والخطاب والغيبة) بعد التعبير عنه بطريق آخر منها، وعمّمه السكاكي إلى كل تعبير وقع فيما حقّه التعبير بغيره، حسب ظاهر السياق، كالتعبير بالماضي في موضع كان حقّه الاستقبال أو الحال، أو وضع المضمر موضع المظهر أو العكس، ونحو ذلك ممّا يتحوّل وجه الكلام فجأةً على خلاف السياق (1) .

وفائدته العامّة هي تطرية نشاط السامع وصيانته عن المَلل والسآمة؛ لِما جُبلت النفوس على حبّ الانتقال وتصريف الأحوال، فتملّ من الاستمرار على منوال واحد من وجه الكلام... هذه هي فائدته العامّة السارية في جميع موارده، وتختصّ مواضعه، كلّ بنكتة وظريفة زائدة، يحلو بها البيان وتهشّ إليها النفوس وتستلذّها.

قال الزمخشري: وذلك على عادة افتنان العرب في كلامهم وتصرّفهم فيه؛ ولأنّ الكلام إذا نُقل من أسلوب إلى أسلوب كان ذلك أحسن تطرية لنشاط السامع، وإيقاظاً للإصغاء إليه، من إجرائه على أسلوب واحد، وقد تختصّ مواقعه بفوائد (2) .

وتنظّر ابن الأثير في هذا التبرير، قال: لأنّ الانتقال في الكلام إذا كان لأجل تطرية نشاط السامع فإنّ ذلك يدلّ على أنّه يملّ من أسلوبه فيضطرّ إلى الانتقال إلى غيره ليجد نشاطاً للاستماع. وهذا قدح في الكلام لا وصف له؛ إذ لو كان حسناً لَما مُلّ، على أن هذا لو سُلّم لكان في مطنب مطولّ، لا في مثل الالتفاتات الواقعة في تعابير موجزة وآيات قصيرة من الذكر الحكيم.

____________________

(1) أنوار الربيع: ج 1 ص 362، والمثل السائر لابن الأثير ج 2 ص 171.

(2) تفسير الكشّاف: ج 1 ص 14.

٣٨٠