تلخيص التمهيد الجزء ٢

تلخيص التمهيد3%

تلخيص التمهيد مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 579

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 105093 / تحميل: 10696
الحجم الحجم الحجم
تلخيص التمهيد

تلخيص التمهيد الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

فلعلّ المقصود: هو مجرّد الانتقال من أسلوب إلى أسلوب، ليكون نفس هذا هو المطلوب لا الانتقال إلى الأحسن، الأمر الذي ليس يذهب على مثل الزمخشري العارف بفنون الفصاحة والبلاغة.

قال: والوجه عندي أنّ الانتقال لا يكون إلاّ لفائدة اقتضته، وتلك الفائدة أمرٌ وراء الانتقال، وهي لا تُحدّ بحدّ، ولا تُضبط بضابط، لكن يُشار إلى مواضع منها، ليُقاس عليها غيرها، فإنّا قد رأينا الانتقال من الغَيبة إلى الخطاب قد استعمل لتعظيم شأن المخاطب، ثمّ رأينا ذلك بعينه - وهو ضدّ الأَوّل - قد استعمل في الانتقال من الخطاب إلى الغيبة، فعلمنا أنّ الغرض الموجب لاستعمال هذا النوع من الكلام لا يجري على وتيرة واحدة، وإنّما هو مقصور على العناية بالمعنى المقصود، وذلك المعنى يتشعّب شُعباً كثيرةً لا تنحصر، وإنّما يُؤتى بها على حسب الموضع الذي ترد فيه (١) .

ثمّ جعل يوضّح حقيقة ما في هذا الباب بضرب الأمثلة التالية:

* * *

فأمّا الرجوع من الغيبة إلى الخطاب فكقوله تعالى - في سورة الفاتحة -: ( اَلْحَمْدُ للّهِ‏ِ رَبّ الْعالَمِينَ * الرّحْمنِ الرّحِيمِ * مالِكِ يَوْمِ الدّينِ * إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضّآلّينَ ) .

هذا رجوع من الغيبة إلى الخطاب، وممّا يختصّ به هذا الكلام من الفوائد قوله: ( إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ ) بعد قوله: ( اَلْحَمْدُ للّهِ‏ِ رَبّ الْعالَمِينَ ) ، فإنّه إنّما عدل فيه من الغيبة إلى الخطاب لأنّ الحمد دون العبادة، ألا تراك تحمد نظيرك ولا تعبده! فلمّا كانت الحال كذلك استعمل لفظ الحمد لتوسّطه مع الغيبة في الخبر، فقال: ( اَلْحَمْدُ للّهِ‏ِ ) ، ولم يقل: الحمد لك، ولمّا صار إلى العبادة - التي هي أقصى

____________________

(١) المَثل السائر: ج ٢ ص ١٧٣.

٣٨١

الطاعات - قال: ( إِيّاكَ نَعْبُدُ ) فخاطب بالعبادة إصراحاً بها، وتقرّباً منه عزّ اسمه بالانتهاء إلى محدود منها.

وعلى نحو من ذلك جاء آخر السورة، فقال: ( صِرَاطَ الّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) فأصرح موضع التقرّب من الله بذكر نِعمه، فلما صار إلى ذكر الغضب جاء باللفظ منحرفاً عن ذكر الغاضب، فأسند النعمة إليه لفظاً، وزوى عنه لفظ الغضب تحنّناً ولطفاً.

فانظر إلى هذا الموضع وتناسب هذه المعاني الشريفة التي الأقدام لا تكاد تطأها، والأفهام مع قُربها صافحة عنها.

وهذه السورة قد انتقل في أَوّلها من الغيبة إلى الخطاب لتعظيم شأن المخاطب.

ثمّ انتقل في آخرها من الخطاب إلى الغيبة لتلك العلّة بعينها، وهي تعظيم شأن المخاطب أيضاً؛ لأنّ مخاطبة المولى تبارك وتعالى بإسناد النعمة إليه تعظيمٌ لخطابه، وكذلك ترك مخاطبته بإسناد الغضب إليه تعظيمٌ لخطابه.

فينبغي أن يكون صاحب هذا الفنّ من الفصاحة والبلاغة عالماً بوضع أنواعه في مواضعها على اشتباهها.

ومن هذا الضرب قوله تعالى: ( وَقَالُوا اتّخَذَ الرّحْمنُ وَلَداً * لّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً ) (١) .

وإنّما قيل: ( لّقَدْ جِئْتُمْ ) وهو خطاب للحاضر، بعد قوله: ( وَقَالُوا... ) وهو خطاب للغائب، لفائدة لطيفة، وهي زيادة التسجيل عليهم بالجرأة على الله سبحانه، والتعرّض لسخطه، وتنبيه لهم على عظم ما قالوه، كأنّه يُخاطب قوماً حاضرين بين يديه صاغرين منكراً عليهم وموبخاً لهم.

* * *

ومن هذا الباب قوله تعالى: ( أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِن قَرْنٍ مَكّنّاهُمْ

____________________

(١) مريم: ٨٨ و٨٩. والإدّ: الأَمر المنكر المثير للجلبة، من قولهم: أدّت الناقة إذا رجّعت حنينها ترجيعاً شديداً، والأديد: الجَلبة.

٣٨٢

فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكّن لَكُمْ ) (١) ، فبدأ بالغيبة ( أَلَمْ يَرَوْا... ) وختم بالخطاب ( نُمَكّن لَكُمْ ) ، قيل: لنكتة هي: حثّ السامع وبعثه على الاستماع، حيث أقبل المتكلّم عليه، وأعطاه فضل عناية وتخصيص بالمواجهة.

ومنه أيضاً قوله تعالى: ( وَسَقَاهُمْ رَبّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً * إِنّ هذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً ) (٢) ، فهو تشريفٌ لمقامهم بالحضور لديه، وتفخيمٌ لشأنهم.

ومنه: ( إِنْ أَرَادَ النّبِيّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ) (٣) .

وهذا الالتفات هنا كان لأجل تخصيص الحكم بشخصه (صلّى الله عليه وآله)، فلا يعمّ المسلمين، فيما لو توهّم متوهّم أنّ ذكره كان للتمثيل لا للتخصيص.

وهذا نظير ما قالوه بشأن آية الإسراء (٤) من أنّ الوجه في العدول من الغيبة إلى خطاب النفس كان؛ لتخصيص القدرة، وأنّه غير مستطاع لغيره تعالى، وهكذا هنا، إرادة لتخصيص هذا الحكم بالنبي (صلّى الله عليه وآله) دون غيره.

* * *

وممّا جاء من الالتفات مراراً على قصر متنه وتقارب طرفيه قوله تعالى: ( سُبْحَانَ الّذِي أَسْرَى‏ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى‏ الْمَسْجِدِ الأَقْصَى‏ الّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنّهُ هُوَ السّمِيعُ الْبَصِيرُ ) .

فقال أولاً: ( سُبْحَانَ الّذِي أَسْرَى‏ ) بلفظ الواحد، ثمّ قال: ( الّذِي بَارَكْنَا ) بلفظ الجمع، ثمّ قال: ( إِنّهُ هُوَ السّمِيعُ الْبَصِيرُ ) وهو خطاب غائب، ولو جاء الكلام على مساق الأَوّل لكان: سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بارك حوله ليريه من آياته إنه هو السميع البصير، وهذا جميعه يكون

____________________

(١) الأنعام: ٦.

(٢) الإنسان: ٢١ و٢٢.

(٣) الأحزاب: ٥٠.

(٤) قوله: ( سُبْحَانَ الّذِي أَسْرَى‏ بِعَبْدِهِ - إلى قوله - لِنُرِيَهُ... ) انتقالاً من الغيبة إلى التكلّم عن النفس.

٣٨٣

معطوفاً على (أسرى)، فلمّا خولف بين المعطوف والمعطوف عليه في الانتقال من صيغة إلى صيغة كان ذلك اتّساعاً وتفنّناً في أساليب الكلام، ولمقصد آخر معنوي هو أعلى وأبلغ.

وقد أسهب أبن الأثير الكلام هنا وأبدع وأجاد، فالنتتبّع مقاله:

قال: وسأذكر ما سنح لي في هذه الآية الكريمة:

لمّا بدأ الكلام بـ (سبحان) ردفه بقوله: (الذي أسرى)؛ إذ لا يجوز أن يقال: الذي أسرينا. فلمّا جاء بلفظ الواحد - والله تعالى أعظم العظماء، وهو أَولى بخطاب العظيم في نفسه الذي هو بلفظ الجمع - استدرك الأَول بالثاني، فقال: (باركنا) ، ثمّ قال: (إنّه هو) عطفاً على (أسرى) ، وذلك موضع متوسّط الصفة؛ لأنّ السمع والبصر صفتان يشاركه فيهما غيره، وتلك حال متوسطة، فخرج بهما عن خطاب العظيم في نفس إلى خطاب غائب.

فانظر إلى هذه الالتفاتات المترادفة في هذه الآية الواحدة، التي جاءت لمعانٍ اختصّت بها، يعرفها ممَن يعرفها، ويجهلها مَن يجهلها (١) .

* * *

وممّا ينخرط في هذا السلك، الرجوع من خطاب الغيبة إلى خطاب النفس، كقوله تعالى: ( ثُمّ اسْتَوَى‏ إِلَى السّماءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى‏ فِي كُلّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيّنّا السّماءَ الدّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) (٢) .

والفائدة في هذا العدول: أنّ طائفة من الناس غير المتشرعين كانوا يعتقدون أنّ النجوم ليست في سماء الدنيا، وأنّها ليست حفظاً ورجوماً، فلمّا صار الكلام إلى هنا عدل إلى خطاب النفس؛ لأنّه مهمّ من المهمّات، فناسبه التعزيز بالاستناد إلى

____________________

(١) المَثل السائر: ج٢ ص١٧٦.

(٢) فصّلت: ١١ و١٢.

٣٨٤

النفس - وهو القادر الحكيم - ومِن ثَمّ عاد إلى الوصف بالعزّة والعلم توكيداً.

وأيضاً ممّا ينخرط في هذا السلك العدول من خطاب النفس إلى خطاب الجماعة، كقوله تعالى: ( وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (١) .

وإنّما صرف الكلام عن خطاب نفسه إلى خطابهم؛ لأنّه أبرز الكلام لهم في معرض المناصحة وهو يريد مناصحتهم ليتلطّف بهم ويداريهم؛ لأنّ ذلك أدخل في إمحاض النصح، حيث لا يريد لهم إلاّ ما يريد لنفسه، فقد وضع ( وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ... ) مكان: وما لكم لا تعبدون الذي فطركم. بدليل ( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ، ولولا ذلك لقال: وإليه أرجع، وقد ساق الكلام ذلك المساق البديع إلى أن قال: ( إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ ) (٢) .

فانظر أيّها المتأمّل إلى هذه النكت الدقيقة التي تمرّ عليها في آيات الذكر الحكيم، وأنت تظنّ أنّك فهمت فحواها، واستنبطت مغزاها.

وعلى هذا الأُسلوب يجري الحكم في الرجوع من خطاب النفس إلى خطاب الواحد كقوله تعالى: ( حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنّا كُنّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِنْ عِندِنَا إِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِن رَبّكَ إِنّهُ هُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (٣) .

وفائدة العدول في قوله ( رَحْمَةً مِن رَبّكَ ) هو تخصيص النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بالذكر، وأنّه المقصود بالذات من هذا النزول.

قال (٤) : وإذا تأمّلت مطاوي القرآن الكريم وجدت فيه مِن هذا وأمثاله الشيء الكثير، وإنّما اقتصرنا على هذه الأمثلة المختصرة ليقاس عليها ما يجري على أُسلوبها، فيتدبّر المتدبّرون.

* * *

____________________

(١) يس: ٢٢.

(٢) يس: ٢٥.

(٣) الدخان: ١ - ٦.

(٤) ابن الأثير في المثل السائر: ج٢ ص١٧٨.

٣٨٥

وأمّا الرجوع من الخطاب إلى الغيبة، فكقوله تعالى: ( هُوَ الّذِي يُسَيّرُكُمْ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ حَتّى‏ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلّ مَكَانٍ وَظَنّوا أَنّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنّ مِنَ الشّاكِرِينَ * فَلَمّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ يَا أَيّهَا النّاسُ إِنّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى‏ أَنفُسِكُم مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا ثُمّ إِلَيْنَا مَرجِعُكُمْ فَنُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُم تَعْمَلُونَ ) (١) .

انظر إلى هذا الكرّ والفرّ، والاستطراد والرجوع، والمداورة العجيبة في الكلام، فقد بدأ الحديث بخطاب الجمع، وعاد إلى الغيبة في فصل طويل، ورجع أخيراً إلى ما بدأ به أَولاً، ولكن في صورة أعمّ وأشمل، فكأنّما الناس جميعاً هم الحضور المخاطبون بهذا الكلام العام.

قال ابن الأثير: إنّما صرف الكلام هاهنا من الخطاب إلى الغيبة بهذا الشكل البديع لفائدة كبرى، هي: أنّه ذكر لغيرهم حالهم؛ ليعجّبهم منها كالمخبر لهم، ويستدعي منهم الإنكار عليهم، ولو قال: حتى إذا كنتم في الفلك وجَرين بكم... الخ، وساق الخطاب معهم إلى آخر الآية لذهبت تلك الفائدة التي أنتجها خطاب الغيبة، وليس ذلك بخافٍ على نَقَدة الكلام (٢) .

وممّا ينحو هذا النحو قوله تعالى: ( إِنّ هذِهِ أُمّتُكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبّكُمْ فَاعْبُدُونِ * وَتَقَطّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ كُلّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ ) ويستمرّ الحديث عنهم بخطاب الغيبة، وينتهي إلى قوله: ( إِنّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دوُنِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ) (٣) .

الأصل في (تقطّعوا) تقطّعتم، إلاّ أنّه صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة على طريقة الالتفات، كأنّه ينعى عليهم ما أفسدوه إلى قوم آخرين، ويقبّح عنهم ما

____________________

(١) يونس: ٢٢ و٢٣.

(٢) المَثل السائر: ج٢ ص١٨١.

(٣) الأنبياء: ٩٢ - ٩٨.

٣٨٦

فعلوه، ويقول لهم: أَلا تَرون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله، فجعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعاً! وذلك تمثيل لحالة اختلافهم في الدين، وتباينهم في معرفة الصلاح من الفساد، ثمّ توعّدهم أخيراً بأنّ المرجع إليه، وسوف يجازيهم على أعمالهم، وهو شديد العقاب.

وممّا يجري هذا المجرى قوله تعالى: ( يَا أَيّهَا النّاسُ إِنّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الّذِي لَهُ مُلْكُ السّماوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلهَ إِلاّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النّبِيّ الأُمّيّ الّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتّبِعُوهُ لَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ ) (١) .

فإنّه إنّما قال: ( فَآمِنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ... ) ولم يقل: فآمنوا بالله و بي... لكي يمكن إجراء الصفات عليه؛ تنبيهاً على أنّ الذي يجب اتّباعه هو هذا الإنسان المتّصف بهكذا صفات تؤهّله للإمامة وحمل رسالة الله إلى الناس... إظهاراً للنَّصفة، وبُعداً من تهمة التعصّب للنفس... فقرّر أولاً في صدر الآية أنّه رسول الله إلى الناس.

ثمّ أخرج كلامه من الخطاب إلى معرض الغيبة لغرضين، الأول: إمكان إجراء تلك الصفات عليه.

الثاني: الخروج من تهمة حبّ الذات؛ لئلاّ يكون ممَّن يجرّ النار إلى قرصه، وهذا من لطيف البيان في المداراة مع العامّة.

* * *

ونوع آخر من الالتفات، ما يكون الانتقال فيه من الفعل المستقبل أو الماضي إلى فعل الأمر، وهذا يدخل في الحدّ الذي ذكره السكاكي: كل تعبير وقع على خلاف مقتضى السياق إذا كان لنكتة بيانية.

قال ابن الأثير: وهذا القسم كالذي قبله في أنّه ليس العدول فيه من صيغة إلى أُخرى طلباً للتوسّع ولمجرّد التفنّن في أساليب الكلام فقط، بل لأمرٍ وراء ذلك، وسرٍّ كامنٍ خلفه، فقد يقصد ذلك تعظيماً لشأن مَن أجرى عليه الفعل المستقبل

____________________

(١) الأعراف: ١٥٨.

٣٨٧

وتفخيماً لأمره، وبالضدّ من ذلك في أجرى عليه فعل الأمر.

فممّا جاء منه قوله تعالى: ( قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِن نَقُولُ إِلاّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنّي أُشْهِدُ اللّهَ وَاشْهَدُوا أَنّي بَرِي‏ءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ ) (١) .

لم يقل: اشهد الله وأُشهدكم، وإنّما عدل إلى صيغة الأمر؛ تهاوناً بهم، فلا يتوازنوا مع الله في شهادة صدق على البراءة.

ومنه العدول عن الماضي إلى الاستقبال أو العكس، كقوله تعالى: ( وَاللّهُ الّذِي أَرْسَلَ الرّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى‏ بَلَدٍ مّيّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ ) (٢) ، فقوله: (تثير) مسبوق وملحوق بالفعل الماضي؛ اهتماماً بشأنه، إرادة لاستحضار تلك الصورة البديعة الدالّة على القدرة الباهرة، وهي حكاية الحال التي يقع فيها إثارة الرياح للسحب، وهكذا يفعل بكلّ أمر فيه ميزة واختصاص، كحال تُستَغرب أو تُهِمّ المخاطب أو غير ذلك.

قال ابن الأثير: العدول عن صيغة إلى أُخرى لا يكون إلاّ لنوع خصوصية اقتضت ذلك، ولا يتوخّاه إلاّ العارف برموز الفصاحة وأسرار البلاغة، وليس يوجد ذلك في كل كلام، فإنّه من أشكل ضروب علم البيان وأدقّها فهماً وأغمضها طريقاً (٣) .

ونظير الآية قوله: ( فَكَأَنّمَا خَرّ مِنَ السّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرّيحُ فِي مَكَانٍ سَحيقٍ ) (٤) فهو لاستحضار صورة خطف الطير إيّاه أو هويّ الريح به، وللآية تصوير فنّيّ رائع تكلّمنا عنه.

* * *

____________________

(١) الأعراف: ١٥٨.

(٢) فاطر: ٩.

(٣) المَثل السائر: ج٢ ص١٨٤.

(٤) الحج: ٣١.

٣٨٨

وقوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) (١) لم يقل: وصدّوا...؛ لأنّ كفرهم كان سابقاً، وإنّما المتجدّد هو الصدّ عن سبيل الله، ولا يزال مستمراً.

ومثلها قوله: ( أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً ) (٢) ؛ لأنّ نزول المطر ينقطع أمّا الاخضرار فيبقى مدّة.

وقد عكس ذلك في قوله: ( وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السّماوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ ) (٣) فالعدول إلى الماضي للدلالة على التحقّق وأنّه كائن لا محالة، ومثلها قوله: ( وَيَوْمَ نُسَيّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ) (٤) .

وبجري هذا المجرى الإخبار عن المستقبل باسم المفعول، كما في قوله تعالى: ( إِنّ فِي ذلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ) (٥) .

لأنّ اسم المفعول يتضمّن معنى الفعل الماضي الدالّ على التحقّق والوقوع لا محالة، فإنّه إنّما آثر اسم المفعول الذي هو (مجموعٌ) على الفعل المستقبل الذي هو (يجمع)؛ لِما فيه من الدلالة على ثبات معنى الجمع لليوم، وأنّه الموصوف بهذه الصفة، قال ابن الأثير: وان شئت فوازِنْ بينه وبين قوله تعالى: ( يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ) (٦) فإنّك تعثر على صحّة ما قلت (٧) .

* * *

ونوع آخر من الالتفات، هو أشبه بباب (الاستطراد) بان يشرع المتكلّم في نوع من الكلام ويستمرّ عليه، ثمّ يخرج إلى غيره، وأخيراً يعود إلى ما كان عليه.

____________________

(١) الحج: ٢٥.

(٢) الحج: ٦٣.

(٣) النمل: ٨٧.

(٤) الكهف: ٤٧.

(٥) هود: ١٠٣.

(٦) التغابن: ٩.

(٧) المَثل السائر: ج٢ ص١٩١.

٣٨٩

فلنسمّيه (مداورة الكلام)، وهو من لطيف التفنّن في التعبير، كمَن يطارد صيداً فيعنّ له آخر فيطرده، ثمّ يرجع إلى الأسبق وهكذا، وقد ذكره بعضهم باسم (الاعتراض) و(الاستدراك). وعلى أيّة حال فإنّه من تداخل الفنون الجميلة ومجمع أنحاء الجمال.

ومثّلوا له بقوله تعالى: ( فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ ) (١) .

فقوله: ( وَلَنْ تَفْعَلُوا ) استدراكٌ جميل، وتيئيسٌ لطيف، وتبكيتٌ قاطع، فلله درّه من التفات بديع.

قال قدامة بن جعفر الكاتب (٢) : أراد تعالى أن يُضمّن آية التحدّي ضرباً آخر من الإعجاز بأخباره عن عجز مطبق عن إمكان معارضته مع الأبد، ليكون جريان هذا الخبر الصادق على لسانه نبيّه، حتى إذا وقع كان عَلَماً على صدقه، فردّ المكذّبين، وثبّت المؤمنين، فقال: ( وَلَنْ تَفْعَلُوا ) قبل أن يتمّ الكلام الأَوّل. وكان يمكنه تأخير هذه الجملة... لكن لهذا التقديم تأثير بليغ في النظم، يجعل له في القلوب من الجلالة والتفخيم والرونق ما لا يعبّر عنه، ولا يُعرف لذلك سبب ظاهر إلاّ وقوع تجنيس الازدواج بقوله: ( فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا ) نظير قوله: ( فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ ) (٣) ، لكنّه في المعنى كان لهذا التقديم سبب أقوى، هي زيادة عَلَم من أعلام النبوّة، كانت مراعاة على الموعظة بقوله: ( فَاتَّقُوا النَّارَ ) (٤) .

ونظيره قوله تعالى: ( يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التّقْوَى‏ ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ ) (٥) .

____________________

(١) البقرة: ٢٤.

(٢) تُوفي سنة ٣٣٧ كان يُضرب به المثل في البلاغة.

(٣) البقرة: ١٩٤.

(٤) بديع القرآن: ص٤٣.

(٥) الأعراف: ٢٦.

٣٩٠

فقوله: ( وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ) جملة معترضة أفادت تذكيراً بملازمة التقوى التي هي خير لباس الصلاح، ثمّ يعود الكلام إلى ما قبله.

قال قدامة بن جعفر: لمّا امتنّ سبحانه على البشر بما أنزل عليهم من اللباس وسهّل عليهم أمره - في سياق قصة أبيهم آدم (عليه السلام) - أراد تذكيرهم بملازمة لباس التقوى، وكان يمكنه التأخير، لكن ليحصل نوع من محاسن البديع، كما في قول الشاعر:

قالوا اقترح شيئاً نَجدْ لكَ طبخَه

قلتُ اطبخوا لي جُبّةً وقميصا

ففيه (المشاكلة) و(التجنيس) بكلا قسميه (جناس المزاوجة) و(جناس المناسبة) على ما شرحه القوم (١) .

* * *

قال ابن أبي الإصبع: وجاء في الكتاب العزيز من الالتفات قسم غريب جداً - لم أظفر في سائر الكلام له بمثال، هداني الله إلى العثور عليه - وهو: أن يُقدّم المتكلم في كلامه حديثاً عن أمرين يتعاقبان، ثمّ يُخبر عن الأَوّل منهما بشيء، وينصرف عنه إلى الإخبار عن الثاني، ثمّ يعود إلى الإخبار عن الأوّل، كقوله تعالى: ( إِنَّ الإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ ) . انصرف عن الإخبار عن الإنسان إلى الإخبار عن ربّه تعالى، ثمّ انصرف عنه وأخبر عن الإنسان ثانياً ( َإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ) (٢) قال: وهذا يَحسن أن يُسمّى (التفات الضمائر) (٣) .

قلت: هذا من مداورة الكلام وردّ العجز على الصدر أيضاً، الأمر الذي يحصل به بين أطراف الكلام ملاءمة وتلاحم وائتلاف، وهو من لطيف الكلام.

والآية إنّما تصلح مثالاً لذلك، بناءً على عود الضمير في ( إِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ )

____________________

(١) بديع القرآن: ص٣٧ و٤٤. وراجع المطوّل للتفتازاني: ص٤٢٢.

(٢) العاديات: ٦ - ٨.

(٣) بديع القرآن: ص٤٥. مع تصرف وصحّحناه على معترك الأقران: ج١ ص٣٨٣.

٣٩١

على ( ربّه ) وهو أحد القولين (١) .

* * *

ذكر التنوخي (٢) وغيره: أنّ من الالتفات نقل الخطاب من الواحد إلى الاثنين أو الجمع والعكس، كقوله تعالى: ( قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آباءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ ) (٣) ، ولا شكّ أنّ الخطاب كان مع موسى (عليه السلام) ولكن هارون كان عضده ووزيره فكان المتّهم في الاستحواذ على سلطة البلاد - في نظرهم - هما معاً.

وقوله: ( فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ) (٤) ، وقد مرّ أنّ العدول إلى الإفراد كان لأجل؛ مراعاة الفاصلة أَوّلاً، وثانياً لأنّ الذي يقع في المشقّة من الزوجين هو الزوج بالذات.

وقوله: ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى‏ مُوسَى‏ وَأَخِيهِ أَن تَبَوّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً ) (٥) كان المخاطب والمسؤول الأَوّل بهذا التكليف هو موسى وهارون (عليهما السلام) غير أنّ الذي يجب عليه استقبال البيوت في الصلاة هم بنو إسرائيل كافة ومِن ثَمّ هذا العدول.

وأمثال هذه الدقائق - في كتاب الله العزيز الحميد - كثير، وإنّما يبلغها العرّافون من أهل النظر والتحقيق، وقليلٌ مّا هم.

* * *

____________________

(١) راجع الكشّاف: ج٤ ص٧٨٨.

(٢) هو القاضي أبو القاسم علي بن محمّد الأنطاكي (٢٧٨ - ٣٤٢) كان من أعيان فضلاء عصره عظيماً واسع الأدب حسن الفصاحة، وكانوا يعدّونه ريحانة الندماء وتاريخ الظرفاء.

(٣) يونس: ٧٨.

(٤) طه: ١١٧.

(٥) يونس: ٨٧.

٣٩٢

إيجاز وإيفاء أم براعة في بلاغة البيان؟

الإيجاز: هو حذف فضول الألفاظ مع الإيفاء المقصود، وهو نوع من الكلام شريف، لا يتعلّق به إلاّ فرسان البلاغة، وسُبّاق ميادين الفصاحة، ممَّن سبق إلى غايتها وما صلّى، وضرب في أعلى درجاتها بالقِدح المعلّى، وذلك؛ لعلوّ شأنه ورفيع مقامه، بل ولتعذّر إمكانه على غير أهله.

والبليغ كل البليغ من أوجز في كلامه فأوفى، واختصر في مقاله فأفاد، الأمر الذي يصعب على غير النبلاء من أرباب الفصاحة والبيان، وقد كان للقرآن منه الحظّ الأوفر والقسط الأكبر بما أثار الإعجاب وأطار بعقول ذوي الألباب.

قال ابن الأثير: والنظر في هذا الباب إلى المعاني بالذات لا إلى الألفاظ، ولستُ أعني بذلك أن تُهمل الألفاظ، بحيث تُعرّى عن أوصافها الحسنة، بل أعني أنّ مدار النظر في هذا النوع إنّما يختصّ بالمعاني، فربّ لفظ قليل يدلّ على معنىً كثير، وربّ لفظ كثير يدلّ على معنىً قليل.

ومثال هذا كالجوهرة الواحدة إلى الدراهم الكثيرة، فمَن ينظر إلى طول الألفاظ يُؤثر الدراهم لكثرتها، ومَن ينظر إلى شرف المعاني يُؤثر الجوهرة

٣٩٣

لنفاستها؛ ولهذا سمّى النبيّ (صلّى الله عليه وآله) سورة الفاتحة (أُمّ الكتاب)، وإذا نظرنا إلى مجموعها وجدناه يسيراً، لا يتناسب أن تكون (أُمّاً) لمثل سورة (البقرة) أو (آل عمران) من السور الطوال، فعلمنا أنّ ذلك لأمرٍ يرجع إلى معانيها.

وبهذه المناسبة أفاد بيان أقسام معاني القرآن بما يشتمل عليه سوره وآياته من أنحاء ستة، ثلاثة منها أُصول، وثلاثة فروع موفّرة أكثرها في الفاتحة.

أمّا الأُصول، فأحدها: التعريف بالمدعوّ إليه بما اشتمل على ذكر صفاته ونعوته.

وثانيها: التعريف بالصراط المستقيم الذي يجب سلوكه إلى الله تعالى.

وثالثاً: تعريف بعد اللقاء في نهاية المطاف.

وأمّا الفروع، فأحدها: التعريف بأحوال كل من المجيبين للدعوة والعاصين، وصُنع الله بهم من النصرة أو التدمير.

وثانيها: ذكر مجادلات الخصوم.

وثالثها: أخذ الزاد والأُهبة للاستعداد.

فهذه أنحاء ستة تدور عليها معاني القرآن الكريم، فإذا نظرنا إلى سورة الفاتحة وجدناها حاوية على أربعة من هذه الأنحاء؛ ولذلك سمّاها النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أُمّ الكتاب.

كما أنّه (صلّى الله عليه وآله) قال: (سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن)؛ لأنّها تحوي على اثنين من هذه الستة... ولذلك كانت آية الكرسي سيّدة آي القرآن، ويروى أنّه (صلّى الله عليه وآله) سأل أُبيّ بن كعب، فقال: (أيّ آية معك في كتاب الله أعظم؟ فقال: ( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ... ) فضرب (صلّى الله عليه وآله) في صدره وقال: لِيَهْنك العلمُ، أبا المُنذر) وكانت كنية أُبيّ بن كعب.

قال: وكل هذا يرجع إلى المعاني، لا إلى الألفاظ، فاعرف ذلك وبيّنه لرموزه وأسراره (١) .

____________________

(١) المثل السائر: ج٢ ص٢٦٥ - ٢٦٨.

٣٩٤

قسما الإيجاز

والإيجاز إمّا بظاهر الحذف، في حرف أو كلمة أو جملة... ممّا يتَنبّه له اللبيب من غير كبير كلفة؛ لدلالة فحوى الكلام عليه، أو غير محذوف الظاهر، سوى أنّه من قليل اللفظ كثير المعنى. ويُسمّى إيجاز القصر.

قال ابن الأثير: والتنبّه لمواضع القصر فيه عسر جدّاً، يحتاج إلى فضل تأمّل وطور تدبّر؛ لخفاء ما يستدلّ عليه، ولا يستنبطه إلاّ مَن رست قدمه في ممارسة هذا العلم (البيان) وصار له خليقة ومَلَكة (١) .

إيجاز حذف:

قال ابن الأثر: أمّا الإيجاز بالحذف فإنّه عجيب الأمر شبيه بالسحر؛ وذاك أنّك ترى فيه ترك الذِكر أفصح من الذِكر، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتمّ ما تكون مبيّناً إذا لم تبيّن، وهذه جملة تُنكرها حتى تَخبُر، وتدفعُها حتى تَنظُر (٢) .

ومن شرط حسنه، بل من لزوم حكم البلاغة فيه، أنّه متى أُظهر صار الكلام إلى شيء غثّ، لا يناسب ما كان عليه أَوّلاً من الطلاوة والجمال.

وقد أكثر القرآن منه وأجاد فيه بما أثار الإعجاب، وأبان سرّاً من أسرار الإعجاز، القرآن لا يقف عند حدّ اجتناب الحشو والفضول من الكلام، وانتقاء الألفاظ والكلمات التامة الانطباق بالمعنى المراد، بل إنّه كثيراً ما يسلك في الإيجاز سبيلاً أعزّ وأعجب تراه يعمد - بعد حذف فضول الكلام وزوائده - إلى حذف شيء من أُصوله وأركانه التي لا يتمّ الكلام في العادة إلاّ به، ولا يستقيم

____________________

(١) المثل السائر: ج٢ ص٢٧٥ - ٢٧٦.

(٢) المصدر: ص٢٧٩.

٣٩٥

المعنى بدونه، وفي نفس الوقت يستثمر من تلك البقية الباقية ما يؤدّي المعنى كاملاً، في وضوح وطلاوة وعذوبة، حتى يُخيَّل إليك من سهولة المسلك أنّ لفظة أوسع من المعنى قليلاً.

وإذا ما طلبت سرّ ذلك رأيته قد أودع معنى تلك الكلمات المحذوفة أو الجمل المطويّة، في كلمة هنا و حرف هناك، ثمّ أدار الأُسلوب إدارة عجيبة، وأمرّ عليها جَندَرة البيان (١) بيد صنّاعة، فأحكم بها خلقه وسوّاه، ثمّ نفخ فيه من روحه، فإذا هو مصقول أملس، وإذا هو نيّر مشرق، لا تشعر النفس بما كان فيه من حذف أو طيّ، ولا بما صار إليه من استغناء واكتفاء، إلاّ بعد تأمّل وفحص دقيق.

انظر إلى قوله تعالى: ( وَلَوْ يُعَجّلُ اللّهُ لِلنّاسِ الشّرّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) (٢) .

وردت الآية بشأن أولئك المجرمين، ممَّن كان يتجاسر بموقف الرسول ويتهكّم به، قائلاً متمسخراً: ( اللّهُمّ إِن كَانَ هذَا هُوَ الْحَقّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السّماءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (٣) .

وقد قال تعالى بشأنهم: ( وَإِمّا نُرِيَنّكَ بَعْضَ الّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفّيَنّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى‏ مَا يَفْعَلُونَ ) (٤) .

وقال: ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ * أَثُمّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنتُم بِهِ أَلآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَستَعْجِلُونَ ) (٥) .

إلى غيرها من آيات تنم عن سفه أحلام المجرمين، وقد ألحدوا في آياته.

فقد جاء قوله تعالى - في الآية - ردّاً على سفههم في استعجال العذاب: ماذا يستعجل هؤلاء؟ أيستعجلون الشرّ؟ وهل ذاك في صالحهم لو يُعجّل الله لهم

____________________

(١) يقال: جَندرَ الكتاب بمعنى أمرّ القلم على ما درس منه (النبأ العظيم: ص١٣١).

(٢) يونس: ١١.

(٣) الأنفال: ٣٢.

(٤) يونس: ٤٦.

(٥) يونس: ٥٠ و٥١.

٣٩٦

بالشرّ؟... فكانت الآية في نظمها الطبيعي مسوقة في ثلاثة مقاطع:

أولاً: لو كانت سنّة الله أن يعجّل للناس الشرّ إذا استعجلوه كاستعجالهم بالخير لعجّل لهم بالشرّ كما يُعجّل لهم بالخير.

ثانياً: لكن سنّته تعالى جرت بإمهال الظالمين حتى يحين حينهم.

ثالثاً: فعلى وِفق هذا النظام الرتيب يترك الظالمون وشأنهم في هذه الحياة حتى يومهم الموعود.

تلك جمل ثلاث كان الكلام في وضعه العادي مؤتلفاً منها، اثنتان مقدّمتان، والثالثة هي النتيجة، على شكل برهان، لكن القرآن اقتصر على الجملة الأُولى والأخيرة، طاوياً ذكر الثانية الوسطى، والتي كانت جملة استدراكية حسب الترتيب المنطقي المألوف.

وبعد، أَفهل يُحسّ بنقص في الكلام، أو بخلل في نظمه وتأليفه؟ أم هو كلام واحد منسجم تمام الانسجام ووافٍ الغرض من الكلام تمام الإيفاء؟

ولعلّك عرفت البديل من المحذوف المطويّ، هي دلالة (لو) الامتناعية في صدر الكلام و(فاء) النتيجة في ذيله، وهذا البديل أغنى عن ذكر المحذوف، ولعلّه أنساه من طيّ الكلام بالمرّة، ولو ذُكر لكان حشواً.

ومِن ثَمّ عيب على بيت الحماسي قوله:

ولو طارَ ذو حافرٍ قَبلَها

لطارتْ ولكنّه لم يَطرِ

إذ لا حاجة إلى ذكر الاستثناء بعد وضوح ودلالة الكلام عليه.

* * *

وأبرع الإيجاز ما كان بحذف الجمل التامّة، هي أسئلة مقدّرة أو تعاليل وأسباب ومسبّبات أو غير ذلك ممّا فصّله علماء البيان (١) .

من ذلك قوله تعالى: ( قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتّم فَذَرُوهُ فِي

____________________

(١) راجع المَثل السائر: ج٢ ص٢٨١.

٣٩٧

سُنْبُلِهِ إِلاّ قَلِيلاً مِمّا تَأْكُلُونَ * ثُمّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدّمْتُمْ لَهُنّ إِلاّ قَلِيلاً مِمّا تُحْصِنُونَ * ثُمّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ * وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ) (١) .

فكان قوله: ( وَقَالَ الْمَلِكُ... ) واقعاً بعد تقدير جُمل، كأنّه قال: فرجع الرسول إليهم، فأخبرهم بمقالة يوسف، فعجبوا لها، وقال الملك...

قال ابن الأثير: والمحذوف إذا كان كذلك دلّ عليه الكلام دلالة ظاهرة؛ لأنّه إذا ثبتت حاشيتا الكلام وحُذف وسطه ظهر المحذوف ظهوراً تامّاً.

وهكذا ورد قوله تعالى: ( فَلَمّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى‏ وَجهِهِ فَارْتَدّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُل لّكُمْ إِنّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنّا كُنّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبّي إِنّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرّحِيمُ * فَلَمّا دَخَلُوا عَلَى‏ يُوسُفَ آوَي إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللّهُ آمِنِينَ ) (٢) .

فقد حذف من هذا الكلام جملة، تقديرها: ثمّ إنّهم تجهّزوا وساروا إلى مصر، فلمّا دخلوا على يوسف...

قال: وقد ورد من هذا الضرب (الإيجاز بحذف الجمل) في القرآن الكريم كثيراً، كقوله تعالى: ( وَحَرّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلّكُمْ عَلَى‏ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى‏ أُمّهِ كَيْ تَقَرّ عَيْنُهَا ) (٣) ؛ لأنّها لمّا قالت: (هل أدلّكم...) قالوا: نعم، فدلّتهم على امرأة فجيء بها، وهي أُمّه، ولم يعلموا بها، فأرضعته، فكان قوله: (فرددناه...) تعقيباً على ذلك المحذوف ودليلاً عليه.

وممّا يجري على هذا المنهج قوله تعالى في قصّة سليمان (عليه السلام) مع الهدهد في إرساله بالكتاب إلى بلقيس: ( قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * اذْهَب بِكِتَابِي هذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمّ تَوَلّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ * قَالَتْ يَا أَيّهَا الْمَلأُ إِنِّي

____________________

(١) يوسف: ٤٧ - ٥٠.

(٢) يوسف: ٩٦ - ٩٩.

(٣) القصص: ١٢ و١٣.

٣٩٨

أُلْقِيَ إِلَيّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ) (١) .

تقديره: فأخذ الكتاب، وذهب به، فلمّا ألقاه إلى المرأة وقرأته قالت...

قال: ومن الإيجاز بحذف الجمل ما يعسر تقدير المحذوف منه، بخلاف ما جاء في القرآن الكريم، أَلا ترى أنّ الآيات المذكورة كلها إذا تأمّلتها وجدت معانيها متّصلة من غير تقدير للمحذوفات التي قدّرنا الحذف فيها؛ انتظاماً لظاهر نظم الكلام، على أنّ تقدير تلك المحذوفات سهر ببديهة النظر (٢) .

فوائد الحذف:

منها: مجرّد الاختصار والاحتراس عن العبث لظهوره.

ومنها: التنبيه على أنّ الزمان يتقاصر عن الإتيان بالمحذوف، وأنّ الاشتغال بذكره يفضي إلى تفويت الأهم - كما في بابي التحذير والإغراء - وقد اجتمعا معاً في قوله تعالى: ( نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا ) (٣) فـ (ناقة الله) تحذير، بتقدير: ذروا، و(سقياها) إغراء، بتقدير: ألزموا.

ومنها: التفخيم والإعظام، لِما فيه من الإيهام، فقد يُحذف الشيء وتترك النفس تجول لتعثر عليه بباعث حبّ الاستطلاع، فيدعو ذلك إلى الاهتمام به، ولهذا القصد يُؤثر الحذف في مواضع يُراد فيها التعجّب والتهويل على النفوس.

ومنه قوله تعالى - في وصف أهل الجنّة - ( حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا... ) (٤) فحُذف الجواب لدلالة فحوى الكلام على عظم الكرامة التي يلقونها حينذاك، فقد ضاق الكلام عن الإحاطة بذِكر تلك الأوصاف.

وكذا قوله - بشأن أهل النار -: ( وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ ) (٥) ، أي لرأيت

____________________

(١) النمل: ٢٧ - ٢٩.

(٢) المَثل السائر: ج٢ ص٢٩١.

(٣) الشمس: ١٣.

(٤) الزمر: ٧٣.

(٥) الأنعام: ٣٧.

٣٩٩

أمراً فظيعاً لا تكاد تحيط به العبارة.

ومنها: التخفيف، لكثرة دورانها على الألسن، كما في حذف حرف النداء في قوله تعالى: ( يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا ) (١) .

ومنها غير ذلك حسبما فصّله علماء البيان، فراجع (٢) .

إيجاز قصر:

وهو ما لا حذف فيه، ولا تقدير، سوى أنّه من قليل اللفظ كثير المعنى، ويكون نضد الكلمات بحيث لا يوجد بينها لفظ زائد، حتى لو أُزيل لفظ من موضعه أو رُفعت كلمة أو أُبدلت إلى غيرها لاختلّ المعنى وأفاد غير المقصود، وهذا من البلاغة بمكان، وقد يبلغ حدّ الإعجاز كما في القرآن.

فممّا جاء منه قوله تعالى: ( قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيّ شَي‏ءٍ خَلَقَهُ * مِن نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدّرَهُ * ثُمّ السّبِيلَ يَسّرَهُ * ثُمّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمّ إِذَا شَاءَ أَنشَرَهُ * كَلاّ لَمّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ) (٣)

فقوله: (قتل الإنسان...) دعاءٌ عليه، وقوله: (ما أكفره...) تعجّب من إفراطه في كفران نِعم الله عليه.

قال ابن الأثير: ولا نرى أُسلوباً أغلظ من هذا الدعاء والتعجّب، ولا أخشن مسّاً، ولا أدلّ على سخط، مع تقارب طرفيه، ولا أجمع للأئمّة، على قصر متنه.

ثمّ إنّه أخذ في صفة حاله من ابتداء حدوثه إلى منتهى أجله ومآل أمره، فقال: ( مِنْ أَيّ شَي‏ءٍ خَلَقَهُ ) .

ثمّ بيّنَ الشيء الذي خُلق منه: ( مِن نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدّرَهُ ) أي هيّأه لِما يصلح له.

( ثُمّ السّبِيلَ يَسّرَهُ ) أي سهّل سبيله، وهو مخرجه من بطن أُمّه، أو السبيل الذي

____________________

(١) يوسف: ٢٩.

(٢) معترك الأقران: ج١ ص٣٠٥ - ٣٠٨.

(٣) عبس: ١٧ - ٢٣.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579