تلخيص التمهيد الجزء ٢

تلخيص التمهيد0%

تلخيص التمهيد مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 579

تلخيص التمهيد

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد هادي معرفة
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: الصفحات: 579
المشاهدات: 99714
تحميل: 9926


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 99714 / تحميل: 9926
الحجم الحجم الحجم
تلخيص التمهيد

تلخيص التمهيد الجزء 2

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

يختار سلوكه في الحياة من خير أو شر.

( ثُمّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ) أي جعله ذا قبر يُوارى فيه.

( ثُمّ إِذَا شَاءَ أَنشَرَهُ ) أي أحياء ليوم النشور.

( كلاّ ) ردع لهذا الإنسان الكفور، العاتي، العاصي لأمر ربّه الكريم.

( لَمّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ) أي لم يقضِ مع تطاول عهده بالتكليف، يعني أنّ إنساناً لم يخلُ من تقصير قطّ.

أَلا ترى إلى هذا الكلام الذي لو أردت أن تحذف منه كلمة واحدة لما قدرت على ذلك؛ لأنّك كنت ذهبت بجزءٍ من معناه، ولأخلَلت بأُسٍّ من أُسس المقصود فلله درّه من كلام وجيز بليغ.

قال ابن الأثير: والإيجاز هو أن لا يمكنك أن تسقط شيئاً من ألفاظه (1) .

* * *

والآيات الواردة من هذا الضرب كثيرة كقوله تعالى: ( فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ ) (2) .

ما أجمل هذا الكلام وأكمله وأوفاه، في حين وجازته البالغة.

فقوله: ( فَلَهُ ما سَلفَ ) من جوامع الكلم، ومعناه: أنّ خطاياه الماضية قد غُفرت له، وتاب الله عليه فيها، إلاّ أنّ قوله: ( فَلَهُ ما سلفَ ) أبلغ... أي أنّ السالف من ذنوبه لا يكون عليه إنّما هو له أي موهوب له.

وكذلك ورد قوله: ( مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ) (3) .

فقوله: ( فعليهِ كُفرُهُ ) كلمة جامعة، تُغني عن ذكر ضروب من العذاب؛ لأنّ مَن أحاط به كفره فقد أحاطت به كل خطيئته.

وعلى نحوٍ من هذا جاء قوله: ( إِنّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي

____________________

(1) المثل السائر: ج2 ص248.

(2) البقرة: 275.

(3) فاطر: 39.

٤٠١

الْقُرْبَى‏ وَيَنْهَى‏ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ ) (1) .

فهذه الآية من جوامع الآيات الواردة في القرآن الكريم، الباهرة البالغة أعلى درجات الإعجاز، المثيرة للإعجاب!

رُوي أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قرأها على الوليد بن المغيرة، فقال له: يا ابن أخي أعده، فأعاد النبي (صلّى الله عليه وآله) قراءتها عليه، فقال له: إنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر (2) .

* * *

ومن هذا النحو قوله تعالى: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقّي الْمُتَلَقّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ * وَقَالَ قَرِينُهُ هذَا مَا لَدَيّ عَتِيدٌ ) (3) .

هذه الآيات من قوارع القرآن العجيبة - التي دلّت على تخويفٍ وإرهاب - ترقّ له القلوب وتقشعرّ منه الجلود، وهي مشتملة على قصرها على حال الإنسان منذ خلقه إلى حين حشره وحشر غيره من الناس، وتصوير ذلك اليوم الرهيب والأمر الفظيع، في أسهل لفظ وأرقّ تعبير، وما مرّ عليه إنسان مكابد خطاياه إلاّ تيقّظ عنده تيقّظاً.

* * *

ومن هذا الضرب ورد عن النبي (صلّى الله عليه وآله) في دعائه لأبي سَلَمة (4) عند موته: (اللهمّ

____________________

(1) النحل: 90.

(2) المَثل السائر: ج2 ص335.

(3) ق: 16 - 23.

(4) هو زوج أُمّ سَلَمة رضي الله عنها واسمه عبد الله، وأُمّه برّة بنت عبد المطّلب، وكان ممَّن =

٤٠٢

ارفع درجته في المهتدين، واخلفه في عقبه في الغابرين، لنا وله يا ربّ العالمين) .

وهذا دعاء جامع بين الإيجاز وبين مناسبة الحال التي وقع فيها، فأَوّله مفتتح بالمهمّ الذي يفتقر إليه المدعوّ له في تلك الحال، وهو رفع درجته في الآخرة، وثانيه مردف بالمهمّ الذي يؤثره المدعو له من صلاح حال عقبه من بعده في الدنيا، وثالثه مختم بالجمع بين الداعي والمدعوّ له.

قال ابن الأثير: وهذا من الإيجاز البليغ الذي هو طباق ما تقصد له (1) .

* * *

ومن الإيجاز بالقصر ما لا يمكن التعبير عنه بمثل ألفاظه وفي عدّتها، لا بل يستحيل ذلك عادة، وهو أعلى طبقات الإيجاز وأشرفها وأعزّها شأناً، ولا يوجد مثله في كلام البلغاء إلاّ شاذّاً نادراً، قال ابن الأثير: والقرآن الكريم ملآن منه (2) .

قال تعالى: ( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ) (3) ، فقد جمعت الآية جميع مكارم الأخلاق والقصد في السلوك الذي هو الصراط المستقيم في الحياة.

وهذا شأن جُلّ آيات الذكر الحكيم، وإن كان قد يرتقي شأن البلاغة في بعضها أوجهاً فوق أطباق السماء، وقد يتنزّل بعضها إلى آفاق قريبة من متفاهم الأعراف، ( وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النّاسِ عَلَى‏ مُكْثٍ وَنَزّلْنَاهُ تَنْزِيلاً ) (4) ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) (5) ، ومِن ثَمّ قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (مَن شاء يرتع رياضَ الأنائق فعليه بآل حم) .

ومنه قوله تعالى: ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ) (6) ؛ إذ لا يمكن التعبير عنه إلاّ

____________________

= هاجر الهجرتين، وجُرح يوم أحد، فمات منه سنة ثلاث من الهجرة.

(1) المَثل السائر: ج2 ص337.

(2) المَثل السائر: ج2 ص333 و348 و352.

(3) الأعراف: 199.

(4) الإسراء: 106.

(5) الزخرف: 3.

(6) البقرة: 179.

٤٠٣

بألفاظ كثيرة - على ما عرفت في كلام مسبق -.

قال ابن الأثير: ولا يُلتفت إلى ما ورد عن العرب: (القتل أنفى للقتل)، فإنّ مَن لا يعلم يظنّ أن هذا على وزن الآية، وليس كذلك، بل بينهما فرق من ثلاثة أوجه:

الأوّل: أنّ (القصاص حياة) لفظتان، و(القتل أنفى للقتل) ثلاثة ألفاظ.

الثاني: أنّ في قولهم تكريراً، ليس في الآية.

الثالث: أنّه ليس كل قتل نافياً للقتل، إلاّ إذا كان على حكم القصاص.

وقد صاغ أبو تمّام هذا المعنى الوارد عن العرب في بعض بيت من شعره:

وأَخافَكُم كي تُغمِدوا أسيافَكم

إنّ الدمَ المُعترَّ يحرسُهُ الدمُ

فإنّ قوله: (إنّ الدمَ المعترّ يحرسُهُ الدم) أحسن ممّا ورد عن العرب (1) ، والدم المعترّ: النَفْس المهدّدة المضطربة تخاف هدرها.

* * *

وقد ورد في الأخبار النبوية من هذا الضرب (من الإيجاز البليغ) شيء كثر، وإليك نماذج منه:

فمِن ذلك قوله (صلّى الله عليه وآله): (حلالٌ بيّن، وحرامٌ بيّن، وبينهما شبهات) (2) .

وهذا من أجمع الأحاديث للمعاني الكثيرة؛ وذلك أنّه يشتمل على جُلّ الأحكام الشرعية، فإنّ الحلال والحرام إمّا أن يكون الحكم فيهما بيّناً لا خلاف فيه بين العلماء، وإمّا أن يكون خافياً يتجاذبه وجوه التأويلات، فكل منهم يذهب فيه مذهباً.

وكذلك جاء قوله (صلّى الله عليه وآله): (الأعمال بالنيّات، وإنّما لكلّ امرئٍ ما نوى) (3) هو من جوامع الكَلم ومن غرر الكلام.

قال ابن الأثير: وممّا أطربني من ذلك حديث الحديبية، وهو أنّه جاء بديل ابن

____________________

(1) المَثل السائر: ج2 ص352 - 353.

(2) عوالي اللآلي: ج1 ص89.

(3) عوالي اللآلي: ج1 ص81 و380.

٤٠٤

ورقاء إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) فقال: إنّي تركت كعب بن لؤي، معهم العوذ المطافيل (1) وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت.

فقال له النبي (صلّى الله عليه وآله): (إنّ قريشاً قد نهكتهم الحرب، فإن شاءوا ماددناهم مدّة، ويدعوا بيني وبين الناس، فإن أَظهَر عليهم وأحبّوا أن يدخلوا فيما دخل الناس، وإلاّ كانوا قد جمّوا، وإن أبوا، فو الذي نفسي بيده لأُقاتلنّهم على أمري هذا، حتى تنفرد سالفتي هذه، ولينفذنّ الله أمره) .

هذا الحديث من جوامع الكلم وهو من الفصاحة والبلاغة على غاية لا ينتهي إليها وصف الواصفين (2) .

وذكر الشريف الرضي في نهج البلاغة عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) كلامه التالي: (الحجر الغصيب في الدار رهن على خرابها) (3) .

ثمّ قال: ويُروى هذا الكلام عن النبي (صلّى الله عليه وآله)، ولا عجب أن يشتبه الكلامان؛ لأنّ مستقاهما من قليب ومفرغهما من ذَنوب.

فلنذكر من جلائل كلامه (عليه السلام) نتفاً:

قال (عليه السلام): (لنا حقّ فإنّ أعطيناه وإلاّ ركبنا أعجاز الإبل وإن طال السُرى) (4) . فما أجمله من استعارة لطيفة وأوفاها بهدف المقصود.

قال الشريف الرضي: وهذا من لطيف الكلام وفصيحه.

ومعناه: إنّا إذا لم نُعطَ حقّنا لم نكن ممَّن يتنكّب الطريق ويعتزل عن جماعة المسلمين، بل نشقّ طريقنا إلى الأمام مع ركب الجماعة، وإن كنّا في حالة حرجة وركوب مشقّة؛ لأنّ ركوب مؤخّرات الإبل ممّا يشقّ احتماله والصبر عليه، وإلى هذا يشير في خطبته الشقشقية: (فصبرت وفي الحلق شجى وفي العين قذى... أرى

____________________

(1) العوذ: الحديثات النِتاج من الظباء وكل أُنثى. والمطافيل: جمع مطفل بمعنى مَن يصحب معه طفله.

(2) المَثل السائر: ج2 ص342.

(3) الكلمة رقم 237.

(4) الكلمة رقم 21.

٤٠٥

تراثي نهبا).

وقال (عليه السلام): (لسانُ العاقلِ وراءَ قلبهِ وقلبُ الأحمقِ وراءَ لسانهِ) (1) .

قال الشريف: وهذا من المعاني العجيبة الشريفة. والمراد: أنّ العاقل لا يُطلق لسانه إلاّ بعد مشاورة الرويّة ومؤامرة الفكرة، والأحمق تسبق حذفاتُ لسانه وفلتاتُ كلامه مراجعة فكره ومماخضة رأيه، فكأنّ لسان العاقل تابع لقلبه، وكأنّ قلب الأحمق تابع للسانه.

وقال (عليه السلام): (قيمةُ كل امرىءٍ ما يُحسنه) (2) .

قال الشريف: وهذه الكلمة، التي لا تُصاب لها قيمة، ولا توزن بها حكمة، ولا تُقرن إليها كلمة...

* * *

____________________

(1) الكلمة رقم 40.

(2) الكلمة رقم 80.

٤٠٦

التخلّص والاقتضاب وفصلُ الخطاب

من بديع البيان وظريفه حسن التخلّص، وهو قدرة كلامية قلّ مَن توفّق لها في ظرافةٍ وبراعةٍ كظرافة القرآن وبراعته (1) .

وهو: أن يأخذ المتكلّم في معنى من المعاني: فبينا هو فيه إذ أخذ في معنى آخر غيره، بلطفٍ ورِفق، وكأنّما الأوّل مدرج إليه أو سبب من الأسباب المؤاتية له، وبذلك يكون الكلام كلّه آخذاً بعضه برقاب بعض، وكأنّما أُفرغ إفراغةً واحدة، الأمر الذي يدلّ على حذق المتكلّم وقوّة تصرّفه في مجاري الألفاظ والمعاني، فتراه ينتقل من موضوع إلى موضوع آخر من غير أن يقطع كلامه أو يستأنف كلاماً جديداً، على عكس (الاقتضاب) الذي هو القطع والاستئناف، وقد كان مذهب العرب الأوائل ومَن يليهم مِن المخضرمين، فخالفهم القرآن وأتى بطريقة جديدة

____________________

(1) هذا البحتري، فإنّ مكانه من الشعر لا يُجهل، وشعره هو السهل الممتنع الذي تراه كالشمس قريباً ضوؤها بعيداً مكانها، وهو على الحقيقة قَينة الشعراء في الإطراب، وعنقاؤهم في الإغراب، ومع هذا فإنّه لم يُوفّق في التخلّص من الغزل إلى المديح، بل اقتضبه اقتضاباً، قال ابن الأثير: ولقد حفظتُ شعره فلم أجد له من ذلك شيئاً مرضياً إلاّ اليسير. (المثل السائر: ج3 ص126).

٤٠٧

في الانتقال من غير قطع ولا استئناف.

وهي طريقة بديعة تأخذ بمشاعر السامع في شتّى المذاهب من غير أن يشعر بالتصرّف والانتقال، في رفق ولين وسحر بيان.

قال ابن معصوم: وهو الركن الثاني من الأركان الأربعة للبلاغة الفائقة، والتي نبّه مشايخ البديع على وجوب التأنق فيها.

وهو عبارة عن أن ينتقل المتكلّم ممّا ابتدأ به من فنون الكلام إلى ذات المقصود على وجه سهل، براطبة ملائمة، وجهة جامعة مقبولة، يختلس به نحو المطلوب اختلاساً رشيقاً، بحيث لا يتفطّن السامع السامع من المعنى الأَوّل إلاّ وقد رسخت ألفاظ المعنى الثاني في سمعه، وقرّ معناه في قلبه؛ لشدّة الالتئام والوئام بينهما (1) .

وقال ابن أبي الإصبع: وهي في الكتاب العزيز معرفة الوصل من الفصل، وقد ذهب بعض المتكلّمين إلى أنّها أحد وجوه الإعجاز، وهو دقيق يكاد يخفى في غير الشعر إلاّ على الحاذق من ذوي النقد وهو مبثوث في الكتاب العزيز إذا تُتبّع وُجد، كابتداء آيات قد يجدها البادي في النظر غير متناسبة لِما قبلها من فواصل وآيات، لكن لا يكاد يَعرف التناسب بينها إلا مَن كانت له دربة بهذه الصناعة، وبُعد إمعان نظر وتدقيق فكر (2) .

* * *

ومن عجيب الرأي ما زعمه أبو العلاء محمّد بن غانم (3) ، قال: إنّ كتاب الله خالٍ من التخلّص؛ لِما فيه من التكلّف (4) .

قال ابن الأثير: وهذا القول فاسد؛ لأنّ حقيقة التخلّص إنّما هي الخروج من

____________________

(1) أنوار الربيع: ج3 ص240.

(2) بديع القرآن: ص167 - 168.

(3) المعروف بالغانمي، كان من الشعراء الفضلاء، وهو مِن شعراء نظام المُلك.

(4) حسبما نقله عنه الزركشي في البرهان: ج1 ص43.

٤٠٨

كلام إلى كلام آخر غيره بلطيفة تُلائم بين الكلام الذي خرج منه والكلام الذي خرج إليه، وفي القرآن مواضع كثيرة، كالخروج من الوعظ والتذكير والإنذار والتبشير إلى أمر ونهي ووعد ووعيد، ومِن محكم إلى متشابه، ومِن صفة لنبيّ مرسل ومَلك منزل إلى ذمّ شيطان مريد وجبّار عنيد، بلطائف دقيقة ومعانٍ آخذ بعضها برقاب بعض.

فممّا جاء من التخلّص في القرآن الكريم قوله تعالى:

( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آباءَنَا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ * قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنّهُمْ عَدُوّ لِي إِلاّ رَبّ الْعَالَمِينَ * الّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالّذِي يُمِيتُنِي ثُمّ يُحْيِينِ * وَالّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدّينِ * رَبّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ * وَاجْعَل لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنّةِ النّعِيمِ * وَاغْفِرْ لأَبِي إِنّهُ كَانَ مِنَ الضّالّينَ * وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاّ مَنْ أَتَى اللّهَ بِقَلْبٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنّةُ لِلْمُتّقِينَ * وَبُرّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ * وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ * فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ * قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللّهِ إِن كُنّا لَفِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ * إِذْ نُسَوّيكُم بِرَبّ الْعَالَمِينَ * وَمَا أَضَلّنَا إِلاّ الْمُجْرِمُونَ * فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ * فَلَوْ أَنّ لَنَا كَرّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (1) .

قال ابن الأثير: هذا كلام يُسكر العقول، ويسحر الألباب، وفيه كفاية لطالب

____________________

(1) الشعراء: 69 - 102.

٤٠٩

البلاغة، فإنّه متى أنعم فيه نظره، وتدبّر أثناءه ومطاوي حكمته، عَلم أنّ في ذلك غنىً عن تصفح الكتب المؤلّفة في هذا الفن، أَلا ترى ما أحسن ما رتّب إبراهيم (عليه السلام) كلامه مع المشركين، حين سألهم أَوّلاً عمّا يعبدون، سؤال مقرّر لا سؤال مستفهم، ثمّ أنحى على آلهتهم فأبطل أمرها بأنّها لا تضرّ ولا تنفع، ولا تُبصر ولا تسمع، وعلى تقاليد آبائهم الأقدمين فكسّره، وأخرجه من أن يكون شبهة، فضلاً عن أن يكون حجّة، ثمّ أراد الخروج من ذلك إلى ذِكر الإله الذي لا تجب العبادة إلاّ له، ولا ينبغي الرجوع والإنابة إلاّ إليه، فصَوّر المسألة في نفسه دونهم بقوله: ( فإنّهم عدوٌّ لي ) على أنّي فكرت في أمري فرأيت عبادتي لها عبادة لعدوّ وهو الشيطان فاجتنبتها، وآثرت عبادة مَن الخير كلّه في يده، وأراهم بذلك أنّها نصيحة ينصح بها نفسه، لينظروا فيقولوا: ما نصحنا إبراهيم إلاّ بما نصح به نفسه، فيكون ذلك أدعى لهم إلى القبول لقوله، وأبعث على الاستماع منه، ولو قال: فإنّهم عدوٌّ لكم، لم يكن بتلك المثابة، فتخلّص عند تصويره المسألة في نفسه إلى ذكر الله تعالى، فأجرى عليه تلك الصفات العظام، من تفخيم شأنه وتعديد نِعمه، مِن لدن خلقه وأنشأه، إلى حين وفاته، مع ما يُرجّى في الآخرة من رحمته؛ ليُعلم مِن ذلك أنّ مَن هذه صفاته حقيق بالعبادة، واجب على الخلق الخضوع له والاستكانة لعظمته.

ثمّ خرج من ذلك إلى ما يلائمه ويناسبه، فدعا الله بدعوات المخلصين، وابتهل إليه ابتهال الأوّابين؛ لأنّ الطالب من مولاه إذا قَدّم - قبل سؤاله وتضرّعه - الاعتراف بالنعمة كان ذلك أسرع للإجابة، وأنجح لحصول الطلبة.

ثمّ أدرج في ضمن دعائه ذِكر البعث ويوم القيامة، ومجازاة الله تعالى مَن آمن به واتّقاه بالجنة، ومَن ضلّ من عبادة النار، فجمع بين الترغيب في طاعته والترهيب من معصيته.

ثمّ سأل المشركين عمّا كانوا يعبدون سؤالاً ثانياً عند معاينة الجزاء، وهو

٤١٠

سؤال موبّخ لهم مستهزئ بهم، وذكر ما يدفعون إليه عند ذلك من الندم والحسرة على ما كانوا فيه من الضلال، وتمنّي العودة ليؤمنوا.

فانظر أيّها المتأمّل إلى هذا الكلام الشريف الآخذ بعضه برقاب بعض، مع احتوائه على ضروب المعاني، فيخلص من كل واحد منها إلى الآخر بلطيفة ملائمة، حتى كأنّه أُفرغ في قالب واحد، فخرج من ذكر الأصنام وتنفير أبيه وقومه من عبادتهم إيّاها - مع ما هي فيه من التعرّي عن صفات الإلوهية، حيث لا تضرّ ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع - إلى ذكر الله تعالى، فوصفه بصفات الإلوهية، فعظّم شأنه، وعدّد نعمه؛ ليعلم بذلك أنّ العبادة لا تصحّ إلاّ له.

ثمّ خرج من هذا إلى دعائه إيّاه وخضوعه له، ثمّ خرج منه إلى ذِكر يوم القيامة وثواب الله وعقابه، فتدبّر هذه التخلّصات اللطيفة المودعة في أثناء هذا الكلام.

* * *

وفي القرآن مواضع الكثيرة من التخلّصات، كالذي ورد في سورة الأعراف، فإنّه ذكر فيها قصص الأنبياء والأُمم الخالية، من آدم إلى نوح (عليهما السلام) وكذلك إلى قصّة موسى (عليه السلام) حتّى انتهى إلى آخرها الذي هو: ( وَاخْتَارَ مُوسَى‏ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمّا أَخَذَتْهُمُ الرّجْفَةُ قَالَ رَبّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِن قَبْلُ وَإِيّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السّفَهَاءُ مِنّا إِنْ هِيَ إِلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هذِهِ الدّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلّ شَيْ‏ءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلّذِينَ يَتّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَالّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الّذِينَ يَتّبِعُونَ الرّسُولَ النّبِيّ الأُمّيّ الّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التّورَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلّ لَهُمُ الطّيّبَاتِ وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالّذِينَ

٤١١

آمَنُوا بِهِ وَعَزّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتّبَعُوا النّورَ الّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُوْلئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (1) .

هذا تخلّص من التخلّصات الحِسان، فإنّ الله تعالى ذكر الأنبياء والقرون الماضية إلى عهد موسى (عليه السلام)، فلمّا أراد ذكر نبيّنا (صلّى الله عليه وآله) ذكره بتخلّص انتظم به بعض الكلام ببعض.

أَلا ترى أنّه قال: قال موسى: واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة، فأُجيب بقوله تعالى: قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كلّ شيء فسأكتبها للّذين حالهم كذا وكذا، وصفتهم كيت وكيت، وهم الذين يتبعون الرسول النبيّ الأُمّي. ثمّ وصفه (صلّى الله عليه وآله) بصفاته... إلى آخر الكلام.

قال ابن الأثير: ويا لله العجب كيف يزعم الغانمي أنّ القرآن خالٍ من التخلّص؟! أَلم يكفِه سورة يوسف (عليه السلام) فإنّها قصّة برأسها، وهي مضمّنة شرح حاله مع إخوته من أوّل أمره إلى آخره، وفيها عدّة تخلّصات في الخروج من معنىً إلى معنى، وكذلك إلى آخرها.

ولو أخذت في ذكر ما في القرآن الكريم من هذا النوع لأطلت، ومَن أَنعم نظره فيه وَجد من ذلك أشياء كثيرة (2) .

قال بدري الدين الزركشي - ردّاً على مزعومة الغانمي -:

ومَِن أحسن أمثلته قوله تعالى: ( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... الآية ) (3) فإنّ فيها خمس تخلّصات، وذلك أنّه جاء بصفة النور وتمثيله، ثمّ تخلّص منه الزجاجة وصفائها، ثمّ رجع إلى ذِكر النور والزيت يستمدّ منه، ثمّ تخلّص منه إلى ذِكر الشجرة، ثمّ تخلّص مِن ذكرها إلى صفة الزيت، ثمّ تخلّص من صفة الزيت إلى صفة النور وتضاعفه، ثمّ تخلّص منه إلى نِعم الله بالهدى على مَن يشاء.

____________________

(1) الأعراف: 155 - 157.

(2) المَثل السائر: ج3 ص128 - 132.

(3) النور: 35.

٤١٢

ومنه قوله: ( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ... الآية) (1) فإنّه سبحانه ذكر أَوّلاً عذاب الكفّار وأن لا دافع له من الله، ثمّ تخلّص إلى قوله: ( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ... ) بوصف (ذي المعارج)!

ومنه قوله: ( إِنّي وَجَدتّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَيْ‏ءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدتّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشّمْسِ مِن دُونِ اللّهِ وَزَيّنَ لَهُمُ الشّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدّهُمْ عَنِ السّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ * أَلاّ يَسْجُدُوا للّهِ‏ِ الّذِي يُخْرِجُ الْخَبْ‏ءَ فِي السّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللّهُ لاَ إِلهَ إِلاّ هُوَ رَبّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) (2) .

وقوله: ( أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ) (3) ، وهذا من بديع التخلّص، فإنّه سبحانه خلص مِن وصف المخلصين وما أعدّ لهم إلى وصف الظالمين وما أعدّ لهم.

قال: وأعلم أنّه حيث قُصد التخلّص فلا بدّ من التوطئة له.

ومن بديعه قوله تعالى: ( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ) (4) يُشير إلى قصّة يوسف (عليه السلام) فوطّأ بهذه الجملة إلى ذكر القصّة، يُشير إليها بهذه النكتة من باب الوحي والرمز.

وكقوله سبحانه مُوطّئاً للتخلّص إلى ذِكر مبتدأ خلق المسيح (عليه السلام): ( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً... الآية ) (5) (6) .

قال ابن أبي الإصبع: ومِن براعة التخلّص في الكتاب العزيز قوله تعالى: ( إِنّ اللّهَ اصْطَفَى‏ آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) (7) فإنّه سبحانه وطّأ بها إلى سياقة خبر ميلاد المسيح (عليه السلام)، فذكر اصطفاء آدم (عليه السلام) توطئةً؛ ليتخلّص

____________________

(1) المعارج: 1 - 4.

(2) النمل: 23 - 26.

(3) الصافّات: 62.

(4) يوسف: 3.

(5) آل عمران: 33.

(6) البرهان: ج1 ص45.

(7) آل عمران: 33.

٤١٣

بها إلى ذكر وَلَده نوح (عليه السلام)، وذكر اصطفاء نوح يتخلّص إلى ذكر وَلَده إبراهيم (عليه السلام)، وذكر اصطفاء آل إبراهيم بعد ذكر آل نوح توطئةً؛ ليتخلّص بذكرهم إلى آل عمران مِن وُلد إبراهيم، وتخلّص بذكر آل عمران إلى ذِكر امرأة عمران؛ ليسوق قصّة حملها بمريم (عليهما السلام) وكفالة زكريا (عليه السلام) لها، وذكر ولده يحيى (عليه السلام) وقصّة حمل مريم بالمسيح (عليهما السلام) وما كان في ذلك من الآيات الباهرات، وما آتاه الله تعالى من المعجزات.

قال: فوقع في هذه الآية من التخلّصات البارعة التي أتت على أحسن ترتيب، وأَبين تهذيب، مالا يقع في شيء من الكلام؛ حيث ذكر سبحانه الآباء من الأعلى إلى الأدنى، فابتدأ بذكر آدم الأب الأعلى، وتلاه بذكر نوح الأب الثاني، الذي انتشرت الأُمم مِن عقبه، وأتت كافّة البشر من ذرّيته، ثمّ ذكر بعده إبراهيم أبا الأنبياء والمرسلين، وخصّ مِن وُلده بالذِكر آل عمران، ليتخلّص إلى ذكر المسيح... فسبحان المتكلّم بهذا الكلام!! (1) .

الاقتضاب:

وأمّا الاقتضاب فهو قطع الكلام واستئناف كلام آخر غيره بلا علاقة بينه وبينه.

لكن منه ما يقرب مِن التخلّص، ويُسمّى (فصل الخطاب).

والذي أجمع عليه المحقّقون مِن علماء البيان هو قوله (أمّا بعد) كما هو المتعارف، يفتتح الكلام في كل أمر ذي بال بذكر الله وتحميده والصلاة على نبيّه وآله، فإذا أراد الخروج إلى الغرض المسوق له الكلام فصله بقوله: (أمّا بعد).

ومن الفصل الذي هو أحسن من الوصل لفظة (هذا) تُجعل خاتمة الكلام السابق وفاتحة الكلام اللاحق، وهي العلاقة الوكيدة بين الكلامين، وقد استعملها

____________________

(1) بديع القرآن: ص170 - 171.

٤١٤

القرآن على ألطف وجه، كقوله تعالى:

( وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبصَارِ * إِنّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدّارِ * وَإِنّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ * وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلّ مِنَ الأَخْيَارِ * هذَا ذِكْرٌ وَإِنّ لِلْمُتّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ * جَنّاتِ عَدْنٍ مُفَتّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ * مُتّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ * وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطّرْفِ أَتْرَابٌ * هذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ * إِنّ هذَا لَرِزْقُنَا مَالَهُ مِن نّفَادٍ * هذَا وَإِنّ لِلطّاغِينَ لَشَرّ مَآبٍ ) (1) .

أَلا ترى إلى ما ذُكر قبل (هذا)؟ ذُكر مَن ذُكر مِن الأنبياء (عليهم السلام) وأراد أن يذكر على عقبه باباً آخر غيره، وهو ذكر الجنّة وأهلها، فقال: ( هذَا ذِكْرٌ ) ، ثمّ قال: ( وَإِنّ لِلْمُتّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ) ، ثمّ لمّا أتمّ ذِكر أهل الجنّة وأراد أن يعقّبه بذكر أهل النار قال: ( هذَا وَإِنّ لِلطّاغِينَ لَشَرّ مَآبٍ ) ، وذلك مِن (فصل الخطاب) الذي هو ألطف موقعاً من التخلّص (2) .

التتميم

وهو من ظرف البديع وكماله وبلاغه، قال ابن رشيق: هو أن يُحاول الشاعر أو المتكلّم معنىً، فلا يدع شيئاً يتمّ به حسنه إلاّ أورده وأتى به، إمّا مبالغةً وإمّا احتياطاً واحتراساً من التقصير (3) ، وفسّره بعضهم بأن يكون المتكلّم آخذاً في معنى، فيعترضه شكّ في إيفاء كلامه، أو احتمال رادّ سوف يردّ عليه، أو إثارة سؤال يُحاول الإجابة عليه فرضاً وتقديراً في الكلام، فيلتفت قبل فراغه من التعبير عن ذلك المعنى، فيبادر إلى إزالة كل شبهة محتملة، وحلّ كل مشكلة معترضة، والإجابة على أيّ سؤال سوف يثيره الكلام (4) ؛ ليكون كلامه وافياً شافياً ومؤدّياً تمام الغرض وكمال المراد، وهذا من ظرف البديع وكمال البلاغة في الكلام.

وقد جاء في القرآن على أحسنه وأفضله، منها قوله تعالى: ( سُبْحَانَ الَّذِي

____________________

(1) ص: 45 - 55.

(2) المَثل السائر: ج3 ص139 - 140.

(3) العمدة: ج2 ص50.

(4) وهذا بمعنى الاستدراك أشبه.

٤١٥

أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً ) (1) ، فإنّ السري لا يكون إلاّ بالليل، فذكره يغني عن قوله: (ليلاً) لولا إرادة تتميم الفائدة للدلالة على تقليل المدة، بمعنى أنّ السري وقع في بعض الليل، يدلّ عليه التنكير.

قال الزمخشري: فإن قلت: الإسراء لا يكون إلاّ بالليل فما معنى ذكر الليل؟ قلت: أراد بقوله: (ليلا) بلفظ التنكير، تقليل مدة الإسراء، وإنّه أسرى به في بعض الليل من مكّة إلى الشام - مسيرة أربعين ليلة - وذلك أنّ التنكير فيه قد دلّ على معنى البعضية (2) .

وقوله تعالى: ( وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً ) (3) ، فقوله: (وهو مؤمن) تتميم في غاية الحسن، وأفاد الشرط الأَوّل في قبول الطاعات، فلو حُذفت هذه الجملة لاختلّ المعنى.

وقوله تعالى: ( وَيُطْعِمُونَ الطّعَامَ عَلَى‏ حُبّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً ) (4) ، والشاهد في قوله: (على حبّه) إن عاد الضمير على الطعام، فيزيد تأكيداً لمعنى الإيثار المقصود من الكلام، أي مع حاجتهم إليه آثروا غيرهم على أنفسهم، فهو تتميم أفاد المبالغة المقبولة، فلو طُرح لنقص المعنى واختلّ حسن التركيب.

وكذا لو عاد الضمير في (على حبّه على الله)، أي أطعموهم لرضائه تعالى، فهو آكد للدلالة على الإخلاص في هذا الإيثار، وعلى أيّ تقدير فلا يخلو موقع هذه الكلمة من الظرافة والحسن البديع (5) .

* * *

ومِن أروع أنحاء التتميم وأفخمه قدراً أن تجتمع أنواعه في كلام واحد، وهي كما أشرنا: تتميم نقص أحسّ به المتكلّم، أو مبالغة في إيفاء مراده، أو احتياط واحتراس عن الشكوك والاعتراضات الواردة.

____________________

(1) الإسراء: 1.

(2) الكشّاف: ج2 ص246.

(3) طه: 112.

(4) الإنسان: 8.

(5) أنوار الربيع: ج3 ص52.

٤١٦

وقد اجتمعت الثلاثة في قوله تعالى: ( أَيَوَدّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ مِن نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلّ الّثمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرّيّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ ) (1) .

هذه الآية فيها محاولة لإبراز حالة الأسف المرير لمَن فقد شيئاً كان ثمن حياته، في وقت لا يمكنه تداركه، ويخاف سوء المصير.

قال ابن أبي الإصبع: جاءت في هذه الآية ثمانية مواضع، في كل موضع منها تتميم، وأتت على جميع أقسام التتميم الثلاثة:

فأولها قوله - في تفسير الجنّة -: ( مِن نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ) لاحتمال أن تكون جنّة ذات أثل وخمط (2) ، فإنّ لفظ الجنّة يصدق على كل شجر ملتفّ يستر الأرض بظلّ أغصانه، كائناً ما كان، ومن الشجر ما له نفع عظيم عميم كالنخيل والأعناب، وما له نفع قليل كالأثل والخمط، ومع هذا فلو احترقت لاشتدّ أسف صاحبها، فكيف إذا كانت من نخيل وأعناب.

ثمّ إنّ الجنّة وإن كانت من نخيل وأعناب، فما لم تجرِ الأنهار من تحت أشجارها لم يكن لها نفع عظيم بسكنها، ولم تكن لها حياة ونضارة البتة، فتمّم هذا النقص بقوله: ( تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ) .

وإذا انضمّت إلى النخيل والأعناب كل الثمرات كان وصفها أتمّ ونفعها أعظم والأسف على فسادها أشد؛ ولذلك تمّم هذا النقص وبالغ فيه بقوله: ( لَهُ فِيهَا مِن كُلّ الّثمَرَاتِ ) .

ولمّا فرغ مِن وصف الجنّة شرع في وصف صاحبها، فوصفه بالكِبَر، وهي حالة يأس عن إمكان استئناف العمل لو ذهبت الأتعاب أدراج الرياح، فقال - محتاطاً -: ( وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ ) .

ثمّ لو كان عقيماً ولم يُخلّف ذراري ضعافاً كان الأمر هيّناً بعض الشيء، وسلاّه

____________________

(1) البقرة: 266.

(2) الأثل نوع من الطرفاء، والخمط نبت له مرارة، وكلاهما من الأشواك المرّة.

٤١٧

قرب الأجل، لكن إذا كان قد خَلّف ذرية ضعفاء فإنّ الأسف على ضياعها أمرّ وأشدّ؛ ولذلك تمّمه بقوله: ( وَلَهُ ذُرّيّةٌ ) . وأضاف وصفها بالضعف (ضعفاء)؛ لأنّ الإطلاق يحتمل كونهم أقوياء لا حاجة لهم إلى تركة أبيهم، فكان ذلك يخفض مِن شدّة أسفه، ويقلّ مِن وطأة غمّه.

وأخيراً أخذ في وصف الحادث المُهلك الذي أصاب الجنّة، فقال: ( فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ ) ، لكن لمّا كان الإعصار لا يُعجّل فساد الشجر والزرع ما لم يكن فيه نار تمّمه بقوله: ( فِيهِ نَارٌ ) تأكيداً على ذلك.

والإعصار عبارة عن تقابل الرياح المثيرة للعجاج الكثيف الذي دوامه واستمراره يُعمي عيون الأنهار ويطمّ الآبار، ويُحرق بوهج سمومه الزروع والأشجار، وهذا معنى ( فِيهِ نَارٌ ) أدارها على الجنّة فاحترقت من شدّة لهبها ووهجها، كأنّها دوّامة نار تدور عليها في وسط ذلك الإعصار.

ولمّا كانت مظنّة سلامة الأشجار عن الاحتراق - لِما فيها من رطوبة وخضر - احتاط تلافيه بقوله: ( فَاحْتَرَقَتْ ) أي كانت شدّة الإعصار ووهجه النار بحيث أثّرت في يبسها واحتراقها في نهاية الأمر، ففي هذه التتميمات المتتالية المتنوّعة كمال إيفاء بالمقصود، ليس يوجد مثله في سائر الكلام، وهذا كما قال ابن معصوم: ولله درّ شأن القرآن ومدى اعتلاء بلاغته الخارقة!

قال ابن أبي الإصبع: فانظر ما تضمّنت الآية من تقاسيم هذا النوع من بديع الكلام، منضماً إلى ما فيه من ائتلاف اللفظ والمعنى والتهذيب وحسن النسق والتمثيل وحسن البيان والمساواة؛ لتعلم أنّ هذا الكتاب العزيز - بأمثال هذه الآية - عجّز الفصحاء وبلّد الأذكياء وأعيى على البلغاء (1) .

* * *

____________________

(1) بديع القرآن: ص46 - 48.

٤١٨

الاستخدام

أن يؤتى بلفظ يَحتمل معنيين أو معاني، فيراد به أحد معانيه، ثمّ يتعقّب بما يفهم منه إرادة معناه الآخر، مجازاً أو حقيقةً بالاشتراك، أعمّ منه أو أخصّ أو مباين.

وهي طريقة في البيان أشبه بالتورية، قلّ مَن يستطيع سلوكها بسلام وتجنّب لأخطارها، من الوقوع في الكذب أو التشويش على السامع، بإجمال أو إبهام في كلام.

لكنّه فنّ بديع وأُسلوب رقيق، إن دلّ فإنّما يدلّ على سلطة في البيان، ويكون آخذاً وثيقاً بأعنّة الكلام يوجّهه حيثما شاء، لا يخاف دركاً ولا يخشى، وقد استعمله القرآن بسهولة ويسر وسلامته عن الخلل والفساد، الأمر الذي لا يوجد نظيره في سائر الكلام.

من ذلك قوله تعالى: ( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى‏ حَتّى‏ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتّى‏ تَغْتَسِلُوا ) (1) .

فالصلاة مراد بها أَوّلاً معناها المعهود، لكنّه في قوله: ( وَلا جُنُباً إِلاّ عَابِرِي سَبِيلٍ ) أُريد موضعها وهو المسجد، حيث كانت المتعارف إيقاع الصلاة فيه ذلك العهد.

* * *

ومثّل له ابن أبي الإصبع بقوله تعالى: ( لِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُوا اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمّ الْكِتَابِ ) (2) .

فالكتاب في ( لِكُلّ أَجَلٍ كِتَابٌ ) يحتمل معنيين: الأمد المحدود لا يتغيّر ولا

____________________

(1) النساء: 43.

(2) الرعد: 38 و39.

٤١٩

يتبدّل، كقوله تعالى: ( حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ) (1) أي أمده المقرّر شرعاً وهو تمام العدّة، والمعنى الآخر: هو الكتاب بمعنى المكتوب المكنون، كقوله تعالى: ( فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ) (2) .

قال: وقد توسطت لفظة (كتاب) بين قوله: ( لكلِّ أَجل ) مراداً به الأمد المحدود، وبين قوله: ( يَمحُو... ويُثبت ) مراداً به الكتاب المكنون... فيكون تقدير الكلام: لكل حدّ مؤقت مكتوب يمحي ويثبت (3) .

وخلاصة المعنى: إنّ الآجال مقدّرة محدودة ومثبّتة في كتابٍ عند الله، وكل أُمّة إنّما تقضي أجلها، وهو لا يتغيّر ولا يتبدّل عمّا أثبته الله في الكتاب، نعم هذا لا يعني أنّ الأُمور خُتمت على ما ثبتت أَوّلاً، وإنّما أَزِمّة الأمور بيده تعالى، يمحو منها ما يشاء ويثبت حسب علمه تعالى بمصالح العباد.

* * *

ومنه قوله تعالى: ( وَالْمُطَلّقَاتُ يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ - إلى قوله - وَبُعُولَتُهُنّ أَحَقّ بِرَدّهِنّ فِي ذلِكَ ) (4) .

فالمراد بالمطلّقات أَوّلاً المدخول بهنّ مِن المتزوجات، سواء كان الطلاق خُلعياً بائناً ليس للزوج حقّ الرجوع، أم رجعياً له الحق؛ لأنّ الاعتداد واجبٌ على كلا التقديرين.

وأمّا الضمير في ( بعولتهنّ ) فيعود على الرجعيّات مِن المطلّقات، ليس العموم.

قال الطبرسي: وهذا يختصّ بالرجعيّات، وإن كان أَوّل الآية عاماً في جميع المطلّقات الرجعية والبائنة (5) .

* * *

وقوله تعالى: ( ثُمّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ

____________________

(1) البقرة: 235.

(2) الواقعة: 78.

(3) بديع القرآن: ص104.

(4) البقرة: 229.

(5) مجمع البيان: ج2 ص327.

٤٢٠