تلخيص التمهيد الجزء ٢

تلخيص التمهيد6%

تلخيص التمهيد مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 579

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 107255 / تحميل: 10978
الحجم الحجم الحجم
تلخيص التمهيد

تلخيص التمهيد الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

والسحاب الممطر لا يَعدو النوعين، والعرب تُسمّي السحاب الممطر باسم (المُزن)؛ ولذلك فمِن الوجهة العلمية هناك المُزن الرُكامي والمُزن البساطي (الطبقي)، قال تعالى، ( أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ ) (١) .

السُحب الرُكامية:

والسُحب الرُكامية هي النوع الأهمّ مِن السحب؛ لأنّها قد تمتدّ عمودياً (رأسياً) عبر (١٥) أو (٢٠) كيلومتراً، فتصل إلى طبقات مِن الجوّ بارد جدّاً تنخفض فيها درجة الحرارة إلى (٦٠) أو (٧٠) درجة مئوية تحت الصفر.

وبذلك يتكون (البَرَد) في أعالي تلك السحب، والمعروف علمياً أنّ نموّ البَرَد في أعالي السحب الرُكامية يُعطي انفصال شحنات أو طاقات كهربائية سالبة، وأنّه عندما يتساقط داخل السحابة ويصل في قاعدتها إلى طبقات مرتفعة الحرارة فوق الصفر يذوب ذلك البرد أو يتميّع ويُعطي انفصال شحنات كهربائية موجبة، وعندما لا يقوى الهواء على عزل الشحنة السالبة العليا عن الشحنة الموجبة في أسفل يحدث التفريغ الكهربائي على هيئة برق، وينجم عن التسخين الشديد المفاجئ الذي يُحدثه البرق أن يتمدّد الهواء فجأةً ويتمزّق مُحدِثاً الرعد، وما جلجلة الرعد إلاّ عملية طبيعية بسبب سلسلة الانعكاسات التي تحدث مِن قواعد السحب لصوت الرعد الأصلي.

وقد يحدث في بعض العواصف أن يتكرّر حدوث البرق داخل السحابة ٤٠ مرّة في الدقيقة الواحدة، أمّا إذا حدث التفريغ الكهربائي بين السحابة وأيّ جسم مرتفع على سطح الأرض فإنّه يُسمّى (صاعقة).

وتحدث عواصف الرعد في كافّة أرجاء الأرض ما عدا المناطق القطبية،

____________________

(١) الواقعة: ٦٨ - ٦٩.

٥٠١

حيث ضآلة حجم الهواء بالنسبة إلى خطّ الاستواء.

وقد وُجد بالحساب أنّ عدد عواصف الرعد التي تحدث في جوّ الأرض في يوم واحد يبلغ أكثر من ٤٠ ألفاً، أي بمتوسط قدره ١٨٠٠ عاصفة في الساعة، وتستهلك العاصفة في المتوسط نحو (٢/٢) مليون كيلو وات ساعة (١) .

* * *

____________________

(١) الله والكون: ص١٤٦ - ١٦١.

٥٠٢

التبخّر والإشباع والتكاثف

( أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمّ يُؤَلّفُ بَيْنَهُ ثُمّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ ) (١)

عوامل ثلاث لنزول المطر: لحصول المطر عوامل ثلاث لا غيرها، إذا توفّرت لابدّ من نزول المطر، وإذا نقص عامل منها فلا إمكان لحصوله، وتلك العوامل هي:

١ - التبخّر ، وهو عملية تحوّل ذرّات الماء إلى البخار، ليؤدّي إلى تكوين سحاب.

٢ - وصول الهواء المتحمّل للبخار إلى درجة الإشباع المختلف حسب المناخ.

٣ - التكاثف ، وضدّ عملية التبخّر، ليتحوّل البخار إلى ذرّات الماء.

وهذا الترتيب على التعاقب ممّا لا محيص عنه لتكوين المطر ونزوله، وهو مِن بديهيّات العلم المقطوع به والمفروغ عنه بلا ريب، وإليك شرح هذه العوامل باختصار.

(أَوّلاً) التبخّر ، وهو عملية تحوّل ذرّات الماء إلى البخار، وانتقاله إلى الهواء،

____________________

(١) النور: ٤٣.

٥٠٣

وذلك بتأثير حرارة الشمس على السطوح المائية المتوسّعة، كالمحيطات والبحار والبحيرات والمستنقعات والأنهار، بل وحتّى السطوح الثلجية والجليدية، بل وحتّى على أوراق الأشجار والنباتات وخاصّة الغابات.

(ثانياً) الإشباع ، وهو استمرار التبخّر حتى يبلغ حدّاً معيّناً، ويُسمّى بدرجة التشبّع، وتختلف حسب اختلاف المناخ، فكلّما اختلفت درجة الحرارة اختلفت درجة التشبّع اللازمة لتكوين الأمطار، فالهواء الحارّ في درجة التشبّع يحوي مقداراً مِن البخار أعظم ممّا يمكن أن يحويه الهواء البارد، فكمّية الرطوبة التي تكفي للتشبّع في درجة ١٥ م مثلاً لا تكفي للتشبّع في درجة ٢٠ م، وإذا كان الهواء متشبّعا قيل: إنّ نسبة رطوبته ١٠٠%.

وبعبارة أوضح: إنّه حيثما وُجد الماء والهواء فإنّه يحدث تبادل بين جزئيات أحدهما مع الآخر، فتمرّ جزئيات الماء عن طريق التبخّر إلى الهواء، كما تمرّ جزيئات الهواء إلى الماء؛ ولذلك يوجد دائماً مقدار مِن بخار الماء في الهواء، كما يوجد مقدار مِن الهواء في الماء.

وإذا كان مقدار البخار الذي في الهواء قليلاً فإنّ الجزئيات البخارية التي تتصاعد من الماء تكون أكثر من جزيئات الهواء التي تمرّ إلى الماء، وعلى ذلك فإنّ عملية التبخّر تستمر ولكن إذا كان مقدار ما في الهواء من البخار كثيراً فإنّ تبادل الجزيئات بين الماء والهواء يكون متساوياً، وفي هذه الحالة يقال: إنّ الهواء متشبّع بالبخار المائي، أو إنّه في درجة الإشباع، أي لا يستطيع أن يحمل أكثر ممّا هو معلّق به مِن البخار.

فدرجة الإشباع تتوقّف على التساوي والتعادل في تبادل جزئيات الماء والهواء والتآلف بينهما.

ومن ناحية أُخرى - ذات أَهميّة كبرى - أنّ درجة التشبّع تتوقّف على ظاهرتين طبيعيتين أُخريينِ، لابدّ منهما في وصول الهواء إلى حالة الإشباع الكافي:

٥٠٤

الظاهرة الأُولى: هي التساوي في الضغط، فلبخار الماء المتصاعد ضغط كما لبخار الهواء المتشبّع ضغط، فإذا تساوى الضغطان فالتبخّر والتكاثف يتعادلان، وفي هذه الحالة يقال: إنّ الهواء مشبّع بالبخار الكافي، والمطر نتيجة لازمة لهذا التعادل.

والظاهرة الثانية: هي اتّحاد الكهربائيتين، فإنّ السحب ذوات تكهربٍ، وكل سحاب يحمل نوعاً من نوعي الكهرباء السالبة والموجبة، فإذا ما تقارنت السحب واختلف نوع الكهرباء فيها تجاذبت، وإلاّ تنافرت، شأن الكهرباء عموماً يتجاذب نوعان منه ويتنافران من النوع الواحد.

واجتماع السحب وتأليف بعضها مع بعض إنّما هو بفعل الرياح، تُثير السحب مِن مكان إلى مكان، فإذا جمعت الرياح بين نوعين من الكهربائية ذوات الموجبة وذوات السالبة فعند ذلك تتجاذب بعضها إلى بعض وتتقارب وتتآلف، وبذلك يحصل اللقاح الناتج للإمطار، ( وَأَرْسَلْنَا الرّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السّماءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ) (١) .

يا ترى مَن ذا كان يعرف هذه الظاهرة الطبيعية يومذاك؟! أن تقوم الرياح الباردة فتثير سحاباً، وهي تدفع السحب المُكهرَبة إلى لقاء بعضها مع بعض، وتُلقى بالسحابة السالبة التكهرب بين اذرع سحابة أُخرى موجبة التكهرب، وبذلك يحدث عملية اللقاح، الناتجة للبرق والرعد ونزول المطر الغزير، فيخصب الأرض ويمهّدها للإنبات، وهي عملية أُخرى للّقاح في التربة الصالحة، بين الماء والأرض (٢) .

____________________

(١) الحجر: ٢٢.

(٢) فيكون تلقيح مِن نوع ثالث هذه المرّة، تلقيح بالمعنى الحرفي للآية الكريمة.

فنحن أمام كلمة صادقة مجازاً كما حمله المفسّرون القدامى، وصادقة حرفياً كما أثبته العلم متأخّراً، وعلى أي صورة قلّبتها فهي تصدق معك، وهي بعدُ كلمة جديدة وغريبة، وصفة مبتكرة حينما تُوصف بها الرياح =

٥٠٥

(ثالثاً) التكاثف ، وهو عكس عملية التبخّر؛ ليتحول بخار الماء مِن الحالة الغازية إلى حالة السيلان، فتنقلب ذرّات البخار إلى قطرات مائية دقيقة... إذا كانت درجة الحرارة فوق الصفر المئوي، أو حالة جليدية برداً أو ثلجاً، إذا كانت درجة الحرارة تحت الصفر، الأمر الذي يعجز الهواء عن حمله، فتتساقط القطرات مطراً.

وهذا التكاثف إنّما يحدث إذا ما تصاعد الهواء المتشبّع ببخار الماء في طبقات جوّية ذات الضغط الأعظم، فبأثر الضغط العالي يتمدّد الهواء ويفقد جزءً كبيراً مِن حرارته، وبذلك يبرد وتنخفض درجة حرارته، درجةً واحدةً مئويةً كلّما ارتفع ١٧٠ متراً.

غير أنّ هذه النسبة تَطَّرد حتّى ارتفاع ٥ كيلومترات عن سطح البحر، وبعده تتغيّر هذه النسبة فتأخذ بالنقص باعتبار درجة واحدة مئوية لكل ١٠٠ متراً ارتفاعاً، وتستمرّ هذه النسبة إلى ارتفاع ١٢ كيلو متراً حيث توجد طبقة هوائية ثابتة الحرارة، تبلغ درجة حرارتها ٥٥ درجة مئوية تحت الصفر.

والسحب تنعقد على ارتفاعات لا تزيد على ٦ أو ٧ كيلومترات عن سطح البحر في الأغلب.

وعملية التبريد هذه بالتمدّد هي إحدى العوامل الفعّالة في إحداث التكاثف.

وكذلك يبرد الهواء بشعّ حرارته كلّما لامسَ جسماً بارداً في الجوّ أو على سطح الأرض مثل الثلج والجليد، أو إذا تقابل مع هواء أبرد، والشعّ ذو أثر فعّال في تبريد الهواء وتكاثفه، وخاصّة إذا هبّت الرياح من جهة حارّة إلى جهة باردة.

وفي الحقيقة ليس الهواء هو الذي يبرد بهذه الطريقة، ولكنّه (الهباء) الكثير

____________________

= وهي بعدُ من الناحية الجمالية الإيقاعية ذروة، وفي النطق بها عذبة: ( وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ) تنطقها وتلوكها في فمك، فتستوقف السمع وتُطرب الأُذن.

.. وكل هذا العلم التفصيلي في تكهرب السحاب وانتقال حبوب اللقاح لم يكن معلوماً أيام نزول الآية، فتدبّر.

٥٠٦

المنتشر في الهواء، فيتّخذ البخار لنفسه مراكز من هذا الهباء، يلتفّ حولها، ويتكوّن حول كلّ مركز قطرة، فإذا اشتدّت برودة الجوّ الملبّد بالسحب استمرّ التكاثف، فتنضمّ قطرات السحب المائية إلى بعضها، فيعجز الهواء عن حملها، فتتساقط أمطاراً على سطح الأرض بفعل جاذبيّتها.

* * *

فقد تبيّن أنّ المطر لا يحصل إلا إذا توفّرت الشرائط الثلاثة متعاقبة: التبخّر فالتشبّع فالتكاثف.

وهذا هو الذي دلّت عليه الآية الكريمة المنوّه عنها في صدر المقال، فقد جاءت بوصف موجز مدهش، ومحيّر للعقول.

عبّرت أولاً بقوله تعالى: ( يُزْجِي سَحَاباً ) (١) إشارة إلى عملية التبخير وتكوين السحب والإزجاء هو عملية إثارة السحب وانتشالها بصورة أبخرة من البخار.

( اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً... ) (٢) لأنّ الرياح بهبوبها على سطح البحار هي التي تُسبّب التبخير والتدافع بها لتتصاعد وتتكاثف وتتكوّن سحباً.

* ثمّ عبّرت عن عملية التشبّع بقوله تعالى: ( ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ) (٣) لانّ درجة الإشباع الكافي إنّما تتوقّف على حصول التعادل وتساوي تبادل الجزئيات بين الماء والهواء.

وما هذا إلاّ التآلف والتعاضد بين تلك الجزئيات.

ومن ناحية أُخرى، لا يحصل التشبّع إلاّ بالتعادل والتآلف بين ضغطي بخار الماء وبخار الهواء، أو الاتّحاد بين نوعي الكهربائية كما سبق بيانه.

وعليه فإنّ أصدق تعبير عن هذه الظاهرة هو وصف التأليف، الذي جاء وصفه في العلم بالتشبّع.

____________________

(١) النور: ٤٣.

(٢) الروم: ٤٨.

(٣) النور: ٤٣.

٥٠٧

* ثم جاءت بقوله تعالى: ( ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً ) (٢) ، وهذا ابلغ تعبير عن عملية التكاثف الذي حقّقه العلم.. إذ لا تفسير للركام سوى التكاثف وتراكم بعض الشيء على البعض مع ضغطٍ يقال: تراكم الشيء أي اجتمع بعضه مع بعض بكثرة وازدحام، والركام: المتراكم بعضه فوق بعض بضغط.

وبعد، فإذا ما تحقّقت الشرائط الثلاثة فعند ذلك: ( فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ ) (٣) الودق: المطر.

* وقد فَصل تعالى بين العمليّات الثلاث بـ (ثمّ)؛ لأنّ كلّ عملية إنّما تحصل بتعاقبٍ مع فترة، أمّا النتيجة - وهو الإمطار - فجاءت بالفاء: تعاقبٌ بلا تأخير، وهو الفور في حصول نتيجة عملية الإمطار.

فيا له من دقيق تعبير، وسبحانه من عليم خبير.

* * *

٥٠٨

الماء الأُجاج

( لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً ) (١)

هل في سنن الكون أن يتحولّ ماء المطر - الذي هو أنقى المياه وأعذبها - إلى ماء أُجاج لا يُستساغ شربه ولا يطيب طعمه؟

الآية قبلها تنصّ على أنّ الماء الذي يشربه الناس والدوابّ - وحتّى الذي يُسقى به الزرع والنبات - هو الماء النازل من السماء: ( أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ (٢) أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ ) (٣) .

* * *

إنّك تعرف أنّ الأرض رُبعها يابس وثلاثة أرباعها ماء، هذا الماء كلّه مالحٌ أُجاج، لكنّ الله تعالى بفضله ورحمته يقطر للإنسان والحيوان النبات من هذا الماء الأُجاج ماءً عذباً فراتاً سائغاً للشاربين، أمّا جهاز التقطير فليس كمثله جهاز، البحار كلّها في ذلك دَست (٤) لا يسخن من تحت، كما يفعل الإنسان في تقطيراته

____________________

(١) الواقعة: ٧٠.

(٢) المزن: السحاب المشبّع بالماء.

(٣) الواقعة: ٧٠.

(٤) أي القدر، وهو كلّ ما يغلى فيه الماء.

٥٠٩

التافهة.. ولكن يسخن من فوق بنار تفوق حجم الأرض بآلاف المرّات، فإذا ما تبخّر الماء بحرارة الشمس تكثّف في مكثف ناهيك من مكثف الجوّ المحيط كله والجبال، والرياح مستمرّة دائبة في حمل هذا البخار المتكاثف ونقلها إلى حيث يشاء الله، فإذا أمطرت السماء وسالت الأودية وفاضت الأنهار وحملت الخصب والنماء إلى الأقطار تبخّر بعض الماء وامتصّت الأرض منه بعضاً وصار باقيه إلى البحر الذي كان منه مصعده، لكن ليس شيء من الماء بضائع! فما تمتصّه الأرض تتفجّر به بعدُ عيوناً، ويتبخّر من الماء العذب أو يصير إلى البحر، فهو في حرز حريز من الضياع؛ إذ مآله أن يصير مرّة أُخرى ماء يحيى به الناس والأنعام، وتحيى به الأرض بعد موتها، فالماء بين البحر والجوّ واليابسة في دورة متّصلة، لا انقطاع فيها ولا تنتهي أبداً، إلا أن يشاء الله، هو ربّ كل شيء.

هكذا يتحوّل الماء من أصلٍ مالحٍ أُجاج إلى مقطّرٍ عذبٍ فرات، في جهاز تقطير كهذا الجهاز العظيم في جوّ السماء.

* * *

وبعد، فهل هناك ما يحول دون هذا التحوّل في الماء؟ فينزل من السماء أُجاجاً لا يُستساغ شربه ولا يطيب طعمه.

أجاب العلماء: نعم، إنّ في الجو من العوامل ما يمكنها الحؤول دون هذا التحوّل والانقلاب، لولا رحمته تعالى بالعباد، وقد جعل حواجز دون هذا الحؤول.

جاء في كتاب (سنن الله الكونية) للعلاّمة محمّد أحمد الغمراوي (١) .

إنّ عذوبة الماء الذي يسقيهم الله إيّاه من السحاب هي بمحض رحمته تعالى، إنّ الماء طبعاً عذب بطبيعته، وماء المطر معروف أنّه أنقى المياه، لكن طبيعة تكوّنه من السحاب تُعرضه لأن ينقلب أُجاجاً لا ينتفع به الإنسان.

____________________

(١) نقلاً عن كتاب بصائر جغرافية: ص٢٢٠.

٥١٠

وذلك لأنّ الهواء خليط عن عناصر عدّة تختلف نسبة وجودها مع البعض، وأهمّ تلك العناصر هو النتروجين (الآزوت)، ونسبة وجوده في الهواء تعادل (٢١/٧٨) بالمئة. ثمّ الأوكسجين، ونسبة وجوده (٩٦/٢٠). والارجون (٧٩%)، وثاني اوكسيد الكاربون (٤%).

وعناصر الهواء موجودة فيه بصورة اختلاط ميكانيكي، وليست ممزوجة امتزاجاً كيماوياً، ومعنى ذلك أنّها لا تتفاعل مع بعضها، وأنّ كلاً منها محتفظ بكيانه مستقلاً كأن لا وجود للعناصر الأُخرى.

وفي هذا من الحكمة البالغة والنعمة السابغة مالا يكاد يخفى... إذ لولا ذلك لاكتسب الهواء مميّزات وخواصّاً كيماوية أُخرى تختلف عن مميّزاته الحالية، فلم تكن تصلح للحياة بشكلها المعروف، وتنوّعاتها التي نشاهدها على سطح الكرة.

خذ مثلاً أنّ غاز الآزوت لا يتّحد مع غيره اتّحاداً كيماوياً إلاّ بصعوبة وبشرائط ملائمة خاصّة، فيتّحد في مثل هذه الظروف مع غاز الأوكسجين مكوّناً ما يُسمّونه بحامض الآزوتيك أو النتريك، وهو ما يُعرف عند القدماء بماء الفضّة، وهو أقوى الحوامض وأضرّها على حياة الإنسان بالذات فلو كان الغازان يمتزجان مع بعضهما امتزاجاً كيماوياً بسهولة ويسر وبلا واسطة أعمال كيماوية، لانقلب الجوّ جهنّم سعيراً؛ لأنّه بذلك كان الغازان يستحيلان في الجوّ حامضاً فتّاكاً، ولأمطرت السماء ماء الفضة بدلاً من الماء العذب الفرات، وما هو إلاّ شواظ من نار ولهيب جهنّم لا يُبقي ولا يذر، فسبحانه وتعالى من رءوف رحيم.

( قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ) (١) .

* * *

وإذ قد عرفت أنّ أربعة أخماس الهواء هو الآزوت (النتروجين) وهذا الغاز لا

____________________

(١) يونس: ٥٨.

٥١١

يكاد يتّحد في العادة بشيء ولا بالأوكسجين الذي يكاد يتّحد بكلّ شيء لكنّ الكيماويين وجدوا أنّهم يستطيعون بالكهربائية أن يُحوّلوا الآزوت غير الفعّال إلى آزوت فعّال يتّحد بأشياء كثيرة في درجة الحرارة العادية، كما وجدوا أنّهم يستطيعون أن يحملوا الآزوت على الاتّحاد بالأكسجين بإمرار الشرر الكهربائي في مخلوط منهما، ومن هذا الاتّحاد ينشأ بعض أكاسيد للآزوت، قابل للذوبان في الماء، وإذا ذاب فيه اتّحد به وكوّن حمضين آزوتيين، أحدهما: حمض الآزوتيك (أو ماء النار) كما كان يُسمّيه القدماء، وإليه يصير الحمض الثاني، وقليلٌ من حمض الآزوتيك في الماء كافٍ لإفساد طعمه.

وأظنّك الآن بدأت تُدرك الطريق الذي يمكن أن ينقلب به ماء المطر ماءً أُجاجاً من غير خرق لنواميس الطبيعة ولا تبديل لسنّة الله التي جرت في الخلق، فهو نفس الطريق الكهربائي الذي يتكوّن به المطر، وكلّ الذي يلزم أن يتعدّل التفريغ الكهربائي أو يتكرّر في الهواء تكراراً يتكوّن به مقدار كافٍ من الأكاسيد الآزوتية يذوب في ماء السحاب ويُحوّله حمضياً لا يستسيغه الناس.

وهذا هو موضعٌ مَنَّ الله على الناس، إنّه يُكيّف التفريغ بالصورة التي يُنزل بها المطر، ولا يَؤجّ بها الماء.

إنّ شيئاً من ذينك الحمضين لابدّ أن ينزل في ماء العواصف، وهذا ضروريّ لحياة النبات، لكنّ الله برحمته وحكمته قدّر تكوينه بحيث لا يتأذّى به إنسان ولا حيوان، ولو شاء الله لكثّره في ماء المطر فأفسده على الناس.

وسواء شكر الناس هذه النعمة أم كفروها فإنّ قوله تعالى: ( لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً ) إشارة إلى تلك العوامل الكهربائية التي يتكوّن بها المطر، يفهمها مَن يفقه تلك الحقائق السابقة، ومَن يعرف أنّ الطريق الكهربائي هو أحد الطرق العلمية التي يمكن بها تحويل الآزوت الجوّي إلى حمضي، فسبحان الذي أتقن صُنع كلّ شيء وأحكمه إحكاماً.

* * *

٥١٢

( وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً ) (١)

( وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِم ) (٢)

عبّر القرآن الكريم عن الجبال بالأوتاد، وأبان عن وجه الحكمة فيها هي محافظة الأرض دون أن تضطرب بأهلها، فكيف هذا الإيتاد؟ وكيف ذاك الميدان الذي حال دونه وجود الجبال؟

ولفهم هذا الجانب من السؤال لابدّ من النظر في تعابير القرآن أوّلاً، ثمّ ما تعرضه معطيات العلم الحديث.

جاء التعبير بالرواسي عن الجبال في تسع آيات (٣) ، وكانت العاشرة قوله تعالى: ( وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ) (٤) .

والوَتد: المِسمار وكلّ ما رُزّ في الحائط أو الأرض من خشب ونحوه ليُمسك به الشيء كالخباء وشبهه.

قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (وأرزّها فيها أوتاداً) (٥) أي أثبت الجبال في الأرض

____________________

(١) النبأ: ٧.

(٢) الأنبياء: ٣١.

(٣) الرعد: ٣، والنمل: ٦١، والحجر: ١٩، وق: ٧، والنحل: ١٥، ولقمان: ١٠، والأنبياء: ٣١، وفصّلت: ١٠، والمرسلات: ٢٧.

(٤) النازعات: ٣٢.

(٥) نهج البلاغة (صبحي الصالح): الخطبة رقم ١٨٦ ص٢٧٥.

٥١٣

ثبوت الأوتاد رسوخاً وإحكاماً.

قال (عليه السلام): (ووتّد بالصخور ميدانَ أرضه) (١) أي ثبّتها فيها لتحول دون اضطرابها، والميد والميدان: الحركة والاضطراب ضدّ السكون والهدوء.

وفي خطبة أُخرى أوضح هذا المعنى بتفصيل أكثر، قال:

(وجبلَ جلاميدها، ونشوز متونها وأطوادها، فأرساها في مراسيها، وألزمها قراراتها، فمضت رؤوسها في الهواء، ورست قواعدها في الماء، فأنهد جبالَها عن سهولها، وأساخ قواعدَها في متون أقطارها، ومواضعَ أنصابها، فأشهق قِلالَها، وأطال أنشازها، وجعلها للأرض عماداً، وأرزّها فيها أوتاداً، فسكنت على حركتها من أن تميد بأهلها، أو تسيخ بحملها، أو تزول عن مواضعها، فسبحان مَن أمسكها بعد موجان...) (٢) .

واليك شرح الغريب من ألفاظ الخطبة:

جلاميد: جمع جلمود، وهو الصخر الصلب. وجَبل الشيء بمعنى خَلقه وفطره، ومنه الجِبلّة بمعنى الفطرة وأصل الخِلقة.

وأنهد الشيء: رفع به وعظّمه. ومنه النهد بمعنى الثدي. يقال: نهد الثدي أي كَعب وانتَبَر وأشرف.

والأنصاب: جمع نصب هي مواضع نصب الجبال.

وساخ في الشيء: غاص فيه ورسب. وساخ بالشيء: انخسف به. والموجان: الهياج.

* * *

وأمّا ما يُستفاد من هذا الكلام الذهبي فشيء كثير، نُشير إلى ما يخصّ المقام من دلائل جلائل:

____________________

(١) نهج البلاغة (صبحي الصالح): الخطب الأُولى ص٣٩.

(٢) المصدر السابق: الخطبة رقم ٢١١ ص٣٢٨.

٥١٤

قوله (عليه السلام): (ورست قواعدها) أي رسخت أُصول الجبال في أعماق الأرض حيث المياه الجوفية، ولعله إشارة إلى جذور الجبال متّصلةً بعضها ببعض، المُعبّر عنها بسلاسل جبلية محيطة بالأرض.

قوله: (فأنهد جبالَها عن سهولها) كأنّه إشارة إلى مبدأ حدوث الجبال على سطح الأرض، بعد أن كان مستوياً، فتجعّد على أثر برودة القشرة، فكانت نتؤات وانخفاضات؛ وبذلك انقسم وجه الأرض إلى مرتفعات شامخات وهضبات، والى وديان وسهول.

وقوله: (وأساخ قواعدها في متون أقطارها ومواضع أنصابها) أصرح في الدلائل على السلاسل الجبلية المكتنفة بالأرض من جميع أقطارها.

قوله: (وجعلها للأرض عماداً، وأرزّها فيها أوتاداً)؛ لأنّها هي التي حالت دون تفتّتها، ودون اضطراب قشرتها، ودون خروجها عن مداراتها..

تلك ثلاث خِلال، جاءت في وصف الإمام (عليه السلام)، لبيان حكمة نتوء الجبال وتسلسلها الماسكة بأكناف الأرض، وإليك شرح هذا الجانب:

قال (عليه السلام): (فسكنت على حركتها مِن أن تميد بأهلها، أو تسيخ بحملها، أو تزول عن مواضعها..) تلك ثلاث فوائد وحِكم جاءت في كلامه:

(أَوّلاً) هدأت - رغم حركتها الانتظامية - من الميدان والاضطراب، فهي تتحرك بهدوء واتّزان، لا ترتعش ولا تميد ولا تضطرب.

(ثانياً) هدأت واطمأنت واستحكمت قشترها وصَلُبت، فلا تسيخ ولا تنخسف ولا تتشقق قشرتها، وإلاّ لأصبحت قشرة الأرض كلّها براكين وفوهات ونافورات بالموادّ المنصهرة والجلاميد المذابة.

(ثالثاً) هدأت وانتظمت في حركاتها الوضعية والانتقالية على أنحائها وأنواعها، والتي بها انتهجت الحياة عليها منهجها الرتيب، فلا تميل عن مواضعها في دوائرها الدائرة فيها بانتظام.

٥١٥

هذه ثلاث حِكم بينّها الإمام (عليه السلام) أثراً لوجود سلاسل الجبال في الأرض، الأمر الذي يدعمه العلم باكتشافاته وبحوثه وتجاربه.

وتوضيحاً لهذا الجانب نقول: إنّ الأثر العظيم للجبال - في إمكان الحياة على وجه الأرض - إنّما يُعلّله جانب صخرية السلسلة الجبلية المنبثّة في القشرة الأرضية الصلبة، والمتشابكة بعضها مع بعض كأطواق محيطة بأكناف الأرض.

ومِن ثَمّ فالذي يلفت إليه كلام الإمام (عليه السلام) في أُولى خطب نهج البلاغة هو تبديل التعبير بالجبال إلى التعبير بالصخور، قال: (ووتدّ بالصخور ميدان أرضه)، تفسيراً لقوله تعالى: ( وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ ) (١) وهو جانب ذو أهمّية كبيرة؛ حيث الأمر مرتبط بصخرية السلاسل الجبلية دون سائر جوانبها، الأمر الذي يستلفت الأنظار.

وإليك بعض الكلام عن السلسلة الصخور الجبلية، ودورها في توازن الأرض وانتظام حركتها.

إنّ لسلسلة الصخور الجبلية - رافعة وخافضة - دورها الخطير في توازن الأرض وتماسك أجزائها، وهكذا ثبات قشرتها وصلابتها دون تلوّيها واضطرابها، رغم توهّج باطنها والتهاب لظاها.

ومَن درس علوم الطبيعة يعلم أنّ الأرض مطوّقة بأطواق من السلاسل الجبلية التي جعلت الأرض أشد تماسكاً، وقد يعرف حكمة وجهة امتدادها وكيفية اتّصالها مع بعضها، بحيث تكوّنت منها أطواقٌ جبلية طوّقت الأرض تطويقاً على نظام بديع متقن ممّا يستلفت الأنظار، فإذا نظرنا إلى خارطة عالمية طبيعية فيها التضاريس الأرضية ظاهرة ظهوراً جلياً نرى السلاسل الجبلية تمتدّ في كلّ قارّة على طولها بصورة عمومية لا على عرضها، فتكون بمثابة عمود فقري لكلّ منها،

____________________

(١) الأنبياء: ٣١.

٥١٦

وحتى إذا لاحظنا أشباه الجزائر في كلّ قارة فلابدّ أن نرى السلاسل ممتدّة على أطول قسم منها، وكذلك الجزائر الجبلية، مهما كانت صغيرة أو كبيرة، امتّدت فيها السلاسل على طولها أيضاً.

وقد ثبت بصورة قطعية، وذلك عن طريق سبر قاعات البحار والمحيطات، إنّ الغالب من الجزائر ومرتفعاتها ما هي إلاّ امتداداً للسلاسل الجبلية وجزءً منها، حيث انغمر قسمٌ بماء البحر وبقي القسم الآخر كجزائر ظاهرةً على سطح الماء.

فالقارّات كلّها تتّصل بعضها ببعض بسلاسل جبلية عن طريق البر أو البحر.

وممّا يستلفت الأنظار أيضاً وجود طوق من السلاسل تحت البحر قليلاً قرب الساحل الشمالي للقارّات الثلاث الشمالية، يُطوّق المحيط المتجمّد القطبي الشمالي تطويقاً، وقد ظهرت منه كثير من الجزر التي تحفّ بهذا الساحل.

ويقابل ذلك من الجهة من الأرض طوق آخر من السلاسل يُطوّق القارّة القطبية المنجمّدة الجنوبية، وترتبط بالطوقين المذكورين ارتباطاً وثيقاً أطواقٌ أُخر لسلاسل جبلية ممتّدة في القارّات وفي المحيطات من الشمال إلى الجنوب، كأنّها إطارات تشابكت بعضها ببعض، فاستمسكت بعُرى الأرض دون التفتّت والانبثاث وتفرّق ذرّاتها هباءً في الفضاء (١) .

* * *

ومن جانب آخر كانت الأرض ذات لهب في باطنها، إنّها نارٌ موقدة ذات تغيّض وزفير، تكاد تميّز من الغيظ، وتحاول تحطيم القشرة المحيطة بها لولا صلابتها وسمكها الثخين، وما هذه الزلازل ونافورات البراكين إلاّ جانباً ضئيلاً من تلك الثورة والفورة النارية والمتوهّجة في باطن الأرض.

إنّ صلابة القشرة الأرضية العليا - التي بردت منذ أحقاب من الزمان - هي التي كفحت من جِماح باطنها المتوقّد، ولولا صلابتها وضخامة سمكها لتلوّت

____________________

(١) بصائر جغرافية: ص١٠٠ - ١٠٤.

٥١٧

واضطربت اضطراب الأَرشية، ولكانت الزلازل والهزّات الأرضية مستمرة على أشدّها، ولعمّت وجه الأرض كلّها، هذا إلى جانب أخطار خسف الأرض بأهلها وتشقّق أكنافها، لولا أنّ الله تعالى أمسكها بفضله وأسكنها برحمته، ( إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا ) (١) .

هكذا قال سيّدنا الأُستاذ الطباطبائي (قدس سرّه) عند قوله تعالى: ( وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ ) -: فيه دلالة على أنّ للجبال ارتباطاً بالزلازل، ولولاها لاضطربت الأرض بقشرتها (٢) .

قال سيّد قطب: الآية تُقرّر أنّ هذه الجبال الرواسي تحفظ توازن الأرض، فلا تميد بهم ولا تضطرب وحفظ التوازن يتحقّق في صور شتّى، فقد يكون توازناً بين الضغط الخارجي على الأرض والضغط الداخلي في جوفها، وهو يختلف من بقعة إلى بقعة، وقد يكون بروز الجبال في موضعٍ معادلاً لانخفاض الأرض في موضع آخر... وعلى أيّة حال فهذا النصّ يُثبت للجبال علاقة بتوازن الأرض واستقرارها، فلنترك للبحوث العلمية كشف الطريقة التي يتمّ بها هذا التوازن، فذلك مجالها الأصيل (٣) .

* * *

وقال الأُستاذ الطنطاوي: مرّت على الأرض أدوار ستة مُقسّمة إلى ٢٦ طبقة، والدور الأَوّل منها كان عبارة عن الزمن الذي كُوّن فيه على الكرة الأرضية النارية قشرةٌ صوانية (٤) صُلبة، ومعلوم أنّ الأرض كانت ناراً ملتهبة فبردت قشرتها وصارت صوانية، وهي الغلاف الحقيقي لتلك الكرة النارية، ولا تزال الأرض

____________________

(١) فاطر: ٤١.

(٢) الميزان: ج١٤ ص٣٠٥.

(٣) في ظِلال القرآن: ج٥ ص٥٣١.

(٤) ضَرب من الحجارة فيه صلابة يتطاير منه الشرر عند قدحه بالزند، استعمله الإنسان في عصر ما قبل التاريخ في صناعة أدواته البسيطة وفي آلات الصيد، وهو حجر صلد من المَرو يوجد في شكل عروق بطبقات الحجر الجيري من الأرض.

٥١٨

تُخرج لنا من أنفاسها المتضايقة ونارها المتّقدة في جوفها كل وقت ناراً بالبراكين.

فهذه البراكين أشبه بأفواه تتنفّس بها الأرض لتَخرج بعض النار من باطنها ثمّ يخرب ذلك البركان وينفتح بركان آخر. وهذه البراكين تُخرج ناراً ومواداً ذائبة تدلّنا على أصل أرضنا، وما كانت عليه قبل الدهر.

فهذه القشرة الصلبة (١) لولاها لتفجّرت ينابيع النار من سائر أطرافها كما كانت بعدما انفصلت من الشمس كثيرة الثورات والفوران، وهذه القشرة الصوانية البعيدة المغلّفة للكرة النارية هي التي نبتت منها هذه الجبال التي نراها فوق أرضنا، كما يقوله علماء طبقات الأرض.

فمن هنا ظهر أنّ هذه الجبال جُعلت لحفظها من أن تميل؛ لأنّ الطبقة الصوانية هي الحافظة لكرة النار التي تحتها، والكرة الصوانية هذه نبتت لها أسنان طالت وامتدّت حتى ارتفعت فوق الأرض، فلو زالت هذه الجبال لبقى ما تحتها مفتوحاً، وإذ ذاك تثور البراكين آلافاً مؤلّفة وتضطرب الأرض اضطراباً عظيماً وتتزلزل زلزالاً شديداً؛ لأنّ البراكين وثوراتها زلزلة.

ثمّ إنّ هذه الجبال قطعة من القشرة، غاية الأمر أنّها ارتفعت، فما هي إذاً إلاّ حافظة للكرة النارية التي لو تُركت لشأنها لاضطربت في أقرب من لمح البصر، فأهلكت الحرث والنسل.

هذه هي المعجزة الأُخرى للقرآن العظيم؛ لأنّ السابقين كانوا يؤمنون به فقط، فظهور ذلك اليوم من المعجزات القرآنية.

ولقد أجمع العلماء قديماً وحديثاً أنّ الجبال على الأرض لا قيمة لها بالنسبة للكرة الأرضية (٢) ، فلو فرضنا أنّ الكرة الأرضية كرة قطرها ذراع لم يكن أرفع

____________________

(١) وقُدّر سمك القشرة الصلبة الأرضية العليا بمئات الأميال (مبادئ العلوم: ص٤٣).

(٢) يبلغ أعلا قُلل جبال الأرض هملايا ٨٧٠٠ متراً. بينما قطر الأرض يبلغ ١٢٧٥٠ كيلومتراً =

٥١٩

الجبال فوقها إلاّ كنحو نصف سبع شعيرة فوقها (١) ، ولو أنّ الأرض كرة قطرها مترٌ واحدٌ لم تزد الجبال عليها مليمتراً واحداً ونصفه (٢) فقط، فما هذا الجزء اليسير بالنسبة لتلك الكرة العظيمة حتّى يمنع ميلها وسقوطها!

نعم، كان الناس يؤمنون بظاهره، وقد ظهرت هذه النبوّة فعلاً في العلم الحديث، ولم تظهر إلاّ على يد مَن كفر بدين الإسلام، والمسلمون لا يعلمون إلاّ من الفرنجة، ونحن نكتب ذلك عنهم، فمنهم وإليهم (٣) .

فصدق الله وجاءت المعجزات العلمية في القرآن تترى كلّما تقدم العلم وازدهرت حقائق العلوم وتجلّت أسرار هذا الكون، ولم يُعرف تفسير القرآن على وجه علميّ برهانيّ إلاّ في هذا العصر، وستنكشف حقائق أُخر في مستقبل الأيّام، فلله درّه من معجزة خالدة خلود الزمان.

* * *

وتمخّض البحث بالنتائج الثلاث التالية:

١ - إنّ للجبال (أي الصخور الجبلية المكتنفة بالأرض) أثراً مباشراً في توازن الأرض دون أن تضطرب، فتحيد عن مداراتها المنتظمة المؤثرة في تنظيم الحياة عليها..

وقد أشار إليه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلامه الآنف: (أو تزول عن مواضعها).

____________________

= والنسبة بينهما تعادل ١/١٤٥٠ تقريباً، وهي نسبة ضئيلة جدّاً، (راجع مباني جغرافياى انسانى لجواد صفى نژاد: ص١٧).

(١) الذي ذكره شارح الجغمينية أنّه نسبة سبع عرض شعيرة إلى كرة قطرها ذراع وهو أربعة وعشرون إصبعاً، والإصبع ستة شعيرات قال: ويلزم أن يكون كنسبة الواحد إلى ألف وثمانية (شرح جغميني: ص١٢ - ١٣).

(٢) ولعلّ هنا سهواً، والصحيح أنّ النسبة مليمتر واحد على كرة قطرها متر ونصف تقريباً.

(٣) تفسير الجواهر ج١٠ ص١٩٨ - ١٩٩.

٥٢٠

2 - وهكذا حالت صلابة القشرة وضخامة سمكها - وهي صخور جبلية - دون زلزالها واهتزاز قشرتها، على أثر توهّج باطنها، لو كانت القشرة هزيلة أو ذات لين.

والى ذلك أشار الإمام (عليه السلام) بقوله: (من أن تميد بأهلها).

3 - كما أنّ لتطويق الأرض بالسلاسل الجبلية والصخور الصلبة المحيطة بأكناف الأرض عاملاً في تماسك أشلائها وحافظاً عن تشقّقها أو تعاقب الانخسافات عليها.

وإليه أشار (عليه السلام) بقوله: (أو تسيخ بحملها).

(فسبحان مَن أمسكها بعد موجان).!

* * *

٥٢١

مسيرة الأرض والجبال

( وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرّ مَرّ السّحَابِ صُنْعَ اللّهِ الّذِي اتْقَنَ كُلّ شَيْ‏ءٍ ) (1)

الجمود: نقيض السيلان، ويقال للثلج: جمد، بهذا الاعتبار. ويقال: جمُدت العين إذا هدأت ولم يجرِ دمعها. ويقال للأرض وللسَنة: جماد، إذا أصابهما جدب، لا كلاء ولا خصب ولا مطر.

قال الفيروز آبادي: يقال: ناقة جماد إذا كانت بطيئة في سيرها شبه الواقفة.

ومن ذلك كلّه يُعرف أنّ هذه اللفظة تُستعمل في موارد، كان من طبعها السير والحركة فوقفت وقوف عارض، وصحّ إطلاق الجماد على الجبال باعتبار همودها في رأي العين؛ ومِن ثَمّ قال المفسّرون: جامدة أي واقفة لا حراك فيها، ويؤيّده التقابل بمرور السحاب أي حركتها في جوّ السماء.

فقوله تعالى: ( وَهِيَ تَمُرّ مَرّ السّحَابِ ) أي تسير في مسيرتها الحيثيثة كمسيرة السحب في الفضاء، روي ذلك عن ابن عبّاس (2) .

وليست حركة الجبال في مسير الفضاء سوى حركة الأرض الانتقالية في

____________________

(1) النمل: 88.

(2) مجمع البيان: ج7 ص236.

٥٢٢

دورتها السنوية حول الشمس، أو حركتها الوضعية حول نفسها، وعلى كلا المعنيين فيدلّ على حركة الأرض دون وقوفها وهدوئها، وهذا بالرغم من الرأي السائد ذلك الحين القائل بسكون الأرض وكونها في مركز الأفلاك الدائرة حولها.

وجاءت دلالة الآية على حركة الأرض دلالة تبعيّة، من قبل نسبتها إلى مجموعة الجبال، فجبال بمجموعتها تسير سيرها الحثيث، الأمر الذي لا يكون إلاّ بحركة كتلة الأرض كلّها.

* * *

أمّا وما هذه الحركة وما هذه المسيرة الأرضية؟

1 - قال أكثر المفسّرين : إنّها تسيير الجبال نحو الفناء، إحدى علائم قيام الساعة نظير قوله تعالى: ( وَيَوْمَ نُسَيّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ) (1) وقوله: ( يَوْمَ تَمُورُ السّماءُ مَوْراً * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً ) (2) . وقوله: ( وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً ) (3) ، إلى غيرهنّ من آيات كثيرة بنفس المضمون (4) .

قال الإمام الرازي: اعلم أنّ هذا هو العلامة الثالثة لقيام القيامة، وهي تسيير الجبال (5) .

وقال سيّدنا الطباطبائي (قدس سرّه): بما أنّ الآية واقعة في سياق آيات القيامة، ومحفوفة بها فهي تصف بعض مشاهد ذلك اليوم الرهيب، ومن جملتها تسيير الجبال. وقوله: ( وَتَرَى الْجِبَالَ ) تمثيل لتلك الواقعة، نظير قوله: ( وَتَرَى النَّاسَ

____________________

(1) الكهف: 47.

(2) الطور: 9 و10.

(3) النبأ: 20.

(4) مريم: 90، الواقعة: 5، الحاقّة: 14، المعارج: 9، المزّمّل: 14، المرسلات: 10.

(5) التفسير الكبير: ج24 ص220.

٥٢٣

سُكَارَى ) (1) أي تلك حالتها المشهودة في ذلك اليوم العصيب لو كنت شاهدها (2) .

لكن لحن الآية ذاتها تأبى هذا الحمل، ولا سيّما مع تذييلها بقوله: ( صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ) ، الأمر الذي يدلّ على أنّها بصدد بيان مظهر من مظاهر قدرته تعالى ولطيف صنعه، وقضية السياق موهونة - بعد ملاحظة ما قدّمنا في الجزء الأَوّل - من أنّ ترتيب الثبت الحاضر لا يدلّ على نزولها تباعاً بلا فترة زمان.

2 - وقال بعضهم : إنّها الحركة الجوهرية، وإنّ ما في الوجود يسير قُدماً نحو الكمال المطلق، سواء أكان إنساناً ( يَا أَيّهَا الإِنسَانُ إِنّكَ كَادِحٌ إِلَى‏ رَبّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ ) (3) أم حيواناً أم نباتاً أم جماداً ( كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ ) (4) .

قال سيّدنا الطباطبائي: قد تُحمل الآية على الحركة الجوهرية، وأنّ الأشياء كلّها، ومنها الجبال، تتحرّك بجوهرها إلى غاية وجودها، وهي حشرها ورجوعها إلى الله سبحانه، قال: وهذا المعنى يناسبه التعبير بقوله: ( تَحْسَبُهَا جَامِدَةً ) ؛ لأنّ الجمود هو السكون المحض، في حين أنّها في تحوّل وتنقّل، هادفةً ساحة قدسه تعالى! قال: وهذا المعنى أنسب من المعنى الأوّل بإرادة قيام الساعة.

3 - وقال آخرون: إنّها الحركة الطبيعية الكامنة في ذوات الأشياء؛ إذ كلّ موجود هو في تحوّل وتغيير دائب مستمرّ، وما من ذرّة في عالم الوجود إلاّ وهي تتبدّل إلى غيرها وتتجدّد حسب الآنات والأحوال، وكلّ شيء هو في كلّ آنٍ خَلقٌ جديد، ( إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) (5) ، ( يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) (6) ، ما هذا السؤال المستمرّ؟ إنّها مسألة الإفاضة، إفاضة الوجود من ربّ العالمين، ومِن ثَمّ فهو تعالى في كلّ لحظةٍ من لحظات حياتنا في خلق جديد.

قال الأُستاذ محمّد تقي الجعفري: إنّ مَن في السماء والأرض من عالم

____________________

(1) الحجّ: 2.

(2) الميزان: ج15 ص440.

(3) الانشقاق: 6.

(4) الأنبياء: 93.

(5) سبأ: 7.

(6) الرحمن: 29.

٥٢٤

الوجود، إنّما يسأله تعالى الاستمرار بالإفاضة عليه من قوى واستعداداتٍ وإبقاءٍ لوجوده خلقاً بعد خلق (1) .

4 - إنّها حركة الأرض الوضعية والانتقالية ، ومسألة حركة الأرض أَمرٌ تنبّه له كثير من العلماء الأقدمين كـ (فيثاغورث الحكيم) عاش قبل الميلاد بخمسة قرون، وتبعه على ذلك (فلوطرخوس) و(أرخميدس)، وأيّده الحكيم (ارستر خوس) الذي جاء بعده بقرنين، وبعده (كليانثوس) الذي أثبت للأرض حركتين، يومية وسنوية.

لكن في هذا الأوان جاء الحكيم (بطلميوس) فأنكر حركة الأرض واعتقد سكونها وكونها مركز سائر الأفلاك، وساد هذا النظام الفلكي البطلميوسي - بفضل دعمه بالرأي العام - حتى القرن السادس عشر للمياد، حيث نبغ الفلكي الشهير (كوبرنيك) المتوفّى سنة 1544م ليأخذ برأي (فيثاغورث)، وهكذا توالى بعده العلماء مؤيّدينَ لهذا الرأي، بفضل المخترعات الفَلكية الحديثة (المجاهر والنظّارات المكبّرة).

وللسيّد هبة الدين الشهرستاني كلام طويل حول استظهار هذا الرأي من الآية الكريمة نذكر ملخّصه:

قال: أَوّل مَن تفطّن إلى هذا الاستنباط من الآية الشريفة هو الفاضل علي قلي ابن فتح علي شاه القاجار، وجاء تأييده في (النخبة الأزهرية) ترجيحاً على تفسير القدماء للآية.

قال السيّد: وفي الآية دلائل على هذا الاستظهار:

أولاً: التعبير بالجمود ( تَحسَبُها جَامِدة ) ، ولا تهويل إذا كانت الجبال تُرى يوم القيامة في ظاهرها هامدة وساكنة في مستقرّاتها.

ثانياً: التعبير بالمرور مرّ السحاب، وهو يدلّ على نعومةٍ في السير، وليس ممّا

____________________

(1) راجع الحركة والتحوّل من النظرة القرآنية: ص49 فما بعد.

٥٢٥

يهول.

وثالثاً: التشبيه بالسحب، ولا هول في مشاهدة مسيرة السحاب (1) .

فصحّ أنّ الآية لا تتناسب وكونها من أشراط الساعة أو إشارة إلى أهوال يوم القيامة.

وقال سيّدنا الطباطبائي: حمل الآية على إرادة حركة الأرض الانتقالية معنى جيّد لولا منافاته للسياق (2) .

وقد قدّمنا أنّ سياق الآية ذاتها - بقرينة الإشارة إلى إحكام الصنع - ترجّح إرادة التفسير الأَوّل المتقدّم.

( وَالأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحَاهَا ) (3) :

الدحو: الدحرجة. يقال: دحا الشيء بمعنى دحرجه، كما يُدحرج الصبيان المداحي، وهي أحجار صغار أمثال القرصة، يحفرون حفيرة فيدحون بها إليها، وتُسمّى المسادي والمراصيع، والدحو: رمي الملاعب بالجوز وشبهه (4) .

فمعنى دحو الأرض: دحرجتها وزحلقتها على بسيط الفضاء لتأخذ شكلها الكريّ في التدوير (5) .

____________________

(1) الهيئة والإسلام: ص97 - 99.

(2) الميزان: ج15 ص442.

(3) النازعات: 30.

(4) الفائق للزمخشري: ج1 ص418.

وقال الفيروز آبادي: مرصاع - كمحراب -: دوّامة الصبيان، وكل خشبة يُدحى بها، والدوّامة لعبة من خشب يلفّ الصبي عليها خيطاً ثمّ ينقضه بسرعة فتدوم أي تدور على الأرض، (انظر الشكل في المنجد)، وعندنا في العراق كانت تُسمّى (المُرصَع) كمُلجَم. وهي تشبه وفي قطبها السافل حديدة محدّدة بها تدور على الأرض، ولعلّ تسمية البيضة دحية في الديار المصرية كانت من جهة هذا التشابه، قال مصطفى محمود في كتابه (محاولة لفهم عصريّ للقرآن): ص255: الدحية: البيضة.

(5) قال الأُستاذ محمّد مصطفى الشاطر: ترجمة الدحو بمعنى البسط ضياع للمعنى الذي يُؤخذ =

٥٢٦

فدحو الأرض إذاً ليس مجرّد بسطها، كما زعمه أُناس، وإنّما هو بسط مع تكوير، يشبه الدوّامة في جسمها الكريّ يتداحى بها الصبيان في ألاعيبهم.

وهي اللفظة العربية الوحيدة التي تفيد معنى البسط والتكوير في ذات الوقت، وتكون من أدلّ الألفاظ على شكل الأرض المنبسطة في ظاهرها، المتكوّرة في الحقيقة، الأمر الذي يوافقه أحدث الآراء الفَلكية عن شكل الأرض: إنّها مفرطحة من جانبي قطبيها، ومنبعجة على خطّ الاستواء، فيزيد قطرها الاستوائي عن قطرها القطبي بمقدار (6/42) كيلو متراً (1) .

وهذا منتهى الإحكام والدقة في اختيار اللفظ المناسب للتعبير.

* * *

____________________

= من الدحو وهو التكوير غير التامّ - كتكوير البيضة - مع الدوران، ولا يزال أهل الصعيد و - أكثرهم من أصل عربي - يعبّرون عن البيض بالدحو أو الدحي أو الدح. (القول السديد: ص 21 - 22).

(1) قطر الأرض الاستوائي: 8 / 12754. وقطرها القطبي: 2 / 12712. راجع بصائر جغرافية لرشيد رشدي البغدادي: ص157.

٥٢٧

مدّ الظلّ وقبضه

( أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً ) (1)

إنّ الظلّ الوريف اللطيف الذي يُوحي إلى النفس المجهودة المكدودة بالراحة والنداوة والسكن والأمان هو الظلّ الذي يبدأ بروحه ونسيمه فور تحوّل الشمس هبوطاً من قبّة السماء (دائرة نصف النهار)، تكاد تمتدّ وتنبسط نفحتها كلّما أخذت الشمس تقترب من أُفق مغربها، وإذا هي تبزغ أشعّتها عند الصباح، وإذا بالأضلّة تبدو على أطولها، ثمّ تأخذ في التناقص كلّما ارتفعت الشمس وسط السماء.

فهذا الظلّ يتحرّك مع حركة الأرض في مواجهة الشمس، فتتغيّر أوضاعه وامتداداته وأشكاله، والشمس يدلّ عليه بضوئها وحرارتها وتميّز مساحته وامتداده وارتداده.

وهذا المدّ والقبض إنّما هي بفعل حركة الأرض حول محورها تجاه عين الشمس الوهّاجة، وهي تحصل في كلّ 24 ساعة يوماً كاملاً.

____________________

(1) الفرقان: 45 و46.

٥٢٨

وشيء آخر: أنّ محور الأرض - في دورتها حول نفسها - ينحرف قليلاً عن مستوى فَلكها (أي مدارها السنوي) ويكون انحرافه بزاوية قدرها 5/23 درجة، الأمر الذي يُسبّب تعاقب الفصول الأربعة، وكلّما ابتعدت الشمس عن خطّ الاستواء شمالاً أو جنوباً فإنّ الظِلال تختلف امتداداً وتقلّصاً، فلا يستوي الظلّ في الشتاء مع الظّل في الصيف أو الخريف أو الربيع، سواء في مناطق الاعتدال أو غيرها.

وعلى أيّ تقدير، فإنّ مدّ الظلّ وقبضه قبضاً يسيراً ممّا يُنبئك عن حركةٍ للأرض، إمّا محورية أو مدارية (وضعية أو انتقالية) أو كلتيهما جميعاً.

وكيف كان فهو ظلّ النهار، يزداد وينقص، حسب الأيّام والشهور.

أمّا الليل، فهي نعمة أُخرى جاء ذكرها في الآية التالية لما سبق: ( وَهُوَ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الليلَ لِبَاساً وَالنّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النّهَارَ نُشُوراً ) (1) .

وهي رحمة إلهية كبرى، إذ جعل الأرض تدور حول محورها يومياً، طول سنتها التي هي 365 يوماً، وبذلك أمكنت الحياة على وجه الأرض من كلّ جوانبها على سواء.

أمّا كرة عطارد فإنّها تدور حول محورها بنفس دورتها حول الشمس، في 88 يوماً، كما حقّقه الفَلكي (شياپرلي) (2) . ومعنى ذلك أنّ طول يومها يساوي سنتها أي دورتها حول الشمس، ونتيجةً على ذلك فإنّ وجهاً واحداً منه يتّجه نحو الشمس بصورة دائمية، ولا يتجه النصف الآخر نحوها مطلقاً.

وللسبب نفسه يكون أحد وجهيه ساخناً جدّاً، إذ تبلغ درجة الحرارة عليه نحو 260 درجة مئوية، كما يكون الوجه المعاكس بارداً جدّاً، وتبلغ درجة البرودة فيه نحو 80 درجة تحت الصفر المئوي، فهناك نهار سرمد، وليل سرمد، ولذا لا يتوقّع

____________________

(1) الفرقان: 47.

(2) راجع مبادئ العلوم: ص37، وهامش الهيئة والإسلام: ص61.

٥٢٩

وجود حياة على سطح هذا الكوكب السيّار (1) .

ونظير عطارد (القمر) في دورته حول الأرض؛ إذ تكمل دورته حول الأرض في مدّة تساوي حول نفسه في 28 يوماً، ويصبح نصف سطح القمر مواجهاً للأرض أبداً، ونصفه الآخر مختفياً عن الأرض أبداً (2) .

فليس من ناموس الطبيعة أن تختلف دورة كلّ كرة دائرة حول كرة أُخرى عن دورتها حول نفسها، وإنّما هو شيء يتبع مصلحة يراها الصانع تعالى فيما يراه في الخلق والتدبير.

فانظر إلى آثار رحمة الله كيف جعل الظلّ في الكوكب الأرضي متحرّكاً غير ساكن، ولم يجعله سرمداً كما جعله في كوكب عطارد، ذي الليل والنهار السرمدين.

( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ اللّيْلَ سَرْمَداً إِلَى‏ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ النّهَارَ سَرْمَداً إِلَى‏ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ * وَمِن رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللّيْلَ وَالنّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (3) .

الحمد لله الّذي جعل لنا الأرض مهداً وسلك لنا فيها سبلاً.

* * *

____________________

(1) مبادئ العلوم: ص36.

وهكذا قيل عن الزهرة، فدورتها حول محورها تساوي دورتها حول الشمس في 224 يوماً من أيّام الأرض (بصائر جغرافية: ص261).

(2) ولمّا كان للقمر دورة ثالثة مع الأرض حول الشمس وفي هذه الدورة تدور حول محورها في 28 يوما يكون نهاره 14 يوماً من أيّام الأرض وليله 14 يوماً، ومِن ثَمّ فالليل منه قارس البرودة، والنهار منه شديد الحرّ، وعندما تصل الشمس عمودية تبلغ الحرارة فيه إلى درجة الغليان. بصائر جغرافية: ص260.

(3) القصص: 71 - 73.

٥٣٠

تسوية البنان

( أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى‏ قَادِرِينَ عَلَى‏ أَن نّسَوّيَ بَنَانَهُ ) (1)

هذا كلام صدر في مقام التحدّي، مشيراً بأنّ هناك معجزة كبرى في تسويته للبَنان وبعثه على صورته الأُولى يكون أكبر من إحياء العظام البالية، الأمر الذي لم يُكشف سرّه إلاّ بعد نزول الآية بأكثر من ألف سنة، حينما عُرف أنّ لكلّ إنسان بصمة خاصّة رُسمت على بنانه، لا يتّفق اثنان في بصمة واحدة، منذ أن خلق الله آدم حتّى التوائم. وهذا سرٌّ غريب في الخليقة أَوّلاً، وفي إشارة القرآن إليه ثانياً، سبحانه وتعالى من عظيم القدرة وعجيب البيان!.

ولكن لماذا خصصّ الله البَنان دون سائر أجزاء البدن؟ وهل البَنان أشدّ تعقيداً من العظام؟

لقد توصّل العلم إلى سرّ البصمة في القرن التاسع عشر، وبيّن أنّ البصمة تتكوّن من خطوط بارزة في بشرة الجلد تجاورها منخفضات وتعلو الخطوط البارزة فتحات المسام العَرَقية، تتمادى هذه الخطوط وتتلوّى، وتتفرّع عنها تغصّنات

____________________

(1) القيامة: 3 و4.

٥٣١

وفروع، لتأخذ في النهاية وفي كلّ شخص شكلاً مميّزاً، وقد ثبت أنّه لا يمكن للبصمة أن تتطابق وتتماثل في شخصين في العالم، حتّى في التوائم المتماثلة التي أصلها من بويضة واحدة.

يتمّ تكوّن البَنان في الجنين في الشهر الرابع، وتظلّ ثابتة ومميّزة له طول حياته، ويمكن أن تتقارب بصمتان في الشكل تقارباً، ولكنّهما لا تتطابقان البتة؛ ولذلك فإنّ البصمة تعدّ قاطعاً ومميّزاً لشخصية الإنسان، معمولاً به في كلّ بلاد العالم، ويعتمد عليه القائمون على تحقيق القضايا الجنائية لكشف المجرمين واللصوص (1) .

( وَمِن كُلّ شَيْ‏ءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ) (2) :

لم يقل من الأحياء، بل من كلّ شيء... فالكهرباء فيها الشحنة السالبة والموجبة. والمغنطيسية فيها الاستقطاب إلى قطبين. وفي الذرّة الإليكترون والبوزيترون، والبروتون والنيوترون، وفي الكيمياء العضوية: الجُزيء اليساري والجُزيء اليميني، ونعرف الآن المادّة والمادّة المضادّة، والثنائية والازدواجية في تركيب الأحياء والجمادات، يكشف لنا العلم أسرارها كلّ يوم (3) .

ولعلّ اللقاح والتزاوج في النبات أصبح مشهوداً بعد ضرورة اللقاح والتزاوج في الأحياء (الإنسان والحيوان)، قال تعالى: ( وَمِن كُلّ الثّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) (4) ، والآيات بشأن أزواج النبات كثيرة (5) .

وظاهرة التزواج واللقاح مفروضة على كلّ موجود، نباتاً كان أم إنساناً، أم ممّا لا يعلمون ( الّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلّهَا مِمّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمّا لاَ

____________________

(1) مع الطب: ص23.

(2) الذاريات: 49.

(3) محاولة لفهم عصريّ للقرآن: ص73.

(4) الرعد: 3.

(5) الحجّ: 5، الشعراء: 7، لقمان: 10، ق: 7، الرحمن: 52، طه: 53.

٥٣٢

يَعْلَمُونَ ) (1) .

قال سيّد قطب: وهذه حقيقة عجيبة تكشف عن قاعدة الخَلق في هذه الأرض - وربّما في هذا الكون؛ إذ أنّ التعبير لا يُخصّص الأرض - قاعدة الزوجية في الخَلق، وهي ظاهرة في الأحياء. ولكن كلمة (شيء) تشمل غير الأحياء أيضاً.والتعبير يُقرّر أنّ الأشياء كالأحياء مخلوقة على أساس الزوجية.

وحين نتذكّر أنّ هذا النصّ عرفه البشر (المسلمون) منذ أربعة عشر قرناً، وأنّ فكرة عموم الزوجية - حتى في الأحياء ولا سيّما النبات - لم تكن معروفة حينذاك، فضلاً عن عموم الزوجية في كلّ شيء... حين نتذكّر هذا نجد أنّا أمام أمر عجيب عظيم.. وهو يُطلعنا على الحقائق الكونية في هذه الصورة العجيبة المبكّرة كلّ التبكير:

كما أنّ هذا النصّ (القرآني المعجز) يجعلنا نرجّح أنّ البحوث العلمية الحديثة سائرة في طريق الوصول إلى الحقيقة، وهي تكاد تُقرّر أنّ بناء الكون كلّه يرجع إلى الذرّة، وأنّ الذرّة مؤلّفة من زوج من الكهرباء: موجب وسالب! فقد تكون تلك البحوث إذاً على طريق الحقيقة في ضوء هذا النصّ العجيب (2) .

* * *

وعن أكثر القدامى تفسير الزوجين هنا بالجنسين المتقابلين، كالأرض والسماء، والبرّ والبحر، والليل والنهار، والسهل والجبل، والشمس والقمر، والجنّ والإنس، والنور والظلمة... وما إلى ذلك... وهكذا المعنويّات كالسعادة والشقاء، والخير والشرّ، والهدى والضلال... ونحو ذلك.

سوى ابن زيد، فإنّه فسّره بالذكر والأُنثى، وهو عجيب (3) .

____________________

(1) يس: 36.

(2) في ظِلال القرآن: ج27 مجلّد 7 ص587 - 588.

(3) راجع مجمع البيان للطبرسي: ج9 ص160.

٥٣٣

قال الرازي - توجيهاً لِما قاله الأقدمون -: والزوجان: إمّا الضدان فإنّ الذكر والأُنثى كالضدّين والزوجان منهما كذلك، وإمّا المتشاكلان فإنّ كلّ شيء له شبيه ونظير وضدّ وندّ، قال المنطقيون: المراد بالشيء الجنس، وأقلّ ما يكون تحت الجنس نوعان، فمن كلّ جنس خلق نوعين من الجوهر، مثلاً المادّي والمجرد، المادّي النامي والجامد، ومن النامي المُدرِك والنبات، ومن المُدرِك الناطق والصامت (1) .

* * *

____________________

(1) التفسير الكبير: ج28 ص227.

٥٣٤

العسل

( فِيهِ شِفَاءٌ لِلنّاسِ )

قال تعالى: ( وَأَوْحَى‏ رَبّكَ إِلَى النّحْلِ أَنِ اتّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشّجَرِ وَمِمّا يَعْرِشُونَ * ثُمّ كُلِي مِن كُلّ الثّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنّاسِ ) (1) .

قال الدكتور نزار الدقر: النصوص القرآنية التي وردت في العسل هي أوضح وأرسخ النصوص القديمة على الإطلاق، كما أنّها تُعتبر من أوائل النصوص التي جزمت بالفائدة المطلقة، وبالخصوص العلاجية الثابتة لهذه المادّة القديمة (2) .

ولأصحاب النظر في الطبّ والعلاج - قديماً وحديثاً - مقالات ضافية بشأن أهمّية العسل وفوائده الكثيرة وأنّه النافع غير الضارّ على الإطلاق؛ نقطف منها ما يلي:

____________________

(1) النحل: 68.

(2) مع الطبّ في القرآن الكريم: ص182 نقلاً عن كتاب (العسل فيه شفاء للناس) للدكتور نزار الدقر.

٥٣٥

مكوّنات العسل:

يحوي العسل أكثر من سبعين مادّة مختلفة، فهو:

1 - أهمّ منبع للموادّ السكّرية الطبيعية، حيث اكتُشفت فيه إلى الآن حوالي 15 نوعاً من السكاكر، أهمّها: سكّر الفواكه (فركتوز) بنسبة 40% وسكّر العنب (غلوكوز) بنسبة 30%، أمّا سكّر القصب فبنسبة 4%، وأنّ كيلو غراماً واحداً من العسل يُعطي طاقة تقدّر بـ (3250) حرارية.

2 - يقف في الصفّ الأَوّل بين الأغذية الكاملة، من حيث احتوائه على بعض الخمائر (الأنزيمات) التي تساعد في عمليات الاستقلاب والهضم، وأهّمها: خميرة الشعير التي تُحوّل النشاء إلى سكّر، والقلابين التي تقلب السكّر العادي إلى سكر عنب وسكر فواكه، والكاتازالا، والبيروكسيداز، والليباز.

3 - يحوي مجموعة من الفيتامينات، أهمها: فيتامين ب، وب 2، وب 3 (أو حمض البانتوثيني)، وب 5 (أو حمض النياسين)، وب 6 (أو البيرودكسين)، وفيتامين ث، وآثار من البيوتين، وفيتامين ك، وفيتامين ي، وفيتامين أ.

وهذه الفيتامينات توجد بمقادير غير مرتفعة، ولكنّها مفيدة؛ لأنّ العسل وسط ممتاز لحفظها، أمّا نسبة وجودها فمرتبط بنسبة غبار الطلع الذي تجمعه النحلة، كراتب غذائي لها.

4 - يحوي العسل أنواعاً من البروتينات والحموض الأمينية، والحموض العضوية، كحمض النحل، ومشتّقات الكلوروفيل: وعلى منشطات حيوية، وعلى روائح عطرية وغيرها.

5 - الأملاح المعدنية، وأهمّها: أملاح الكلس، والصوديوم، والبوتاسيوم، والمنغنيز، والحديد، والكلور، والفوسفور، والكبريت، واليود.

وتُشكّل هذه الأملاح اثنين بالألف من وزن العسل.

٥٣٦

6 - يؤكّد الكثير من الباحثين على وجود موادّ مضادّة لنموّ الجراثيم في العسل، كما يُعتقد بوجود هرمون نباتي ونوع من الهرمونات الجنسية (من مشتقّات الاستروجين).

إذاً فالعسل مادّة شديدة التعقيد، تتباين أنواعه قليلاً بتراكيبها باختلاف الزهور التي جُنيت منها.

ولعلّ السرّ في احتوائه على هذه المواد المختلفة - التي لم تُجمع في أيّ مادة غذائية أُخرى على الإطلاق - هو جني النحل رحيق كلّ الأزهار والثمرات، استجابة لنداء خالقها يوم أوحى لها: ( ثُمّ كُلِي مِن كُلّ الثّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ ) .

ميزات العسل:

1 - مقاومته دون تسرّب الفساد إليه إلى سنين عديدة، بل أحقاب متطاولة، بشرط ابتعاده عن فعل الرطوبة به.

2 - مضادّته للعفونة، وقد أكّد أكثر الباحثين أنّ الجراثيم المُمرضة للإنسان لا يمكن لها أن تعيش في العسل، وأنّ العسل فعلاً مبيدٌ لها.

وسبب ذلك احتواؤه على حمض النحل، وهو من الموادّ المضادّة للعفونة، ولارتفاع تركيز السكاكير التي تصل إلى 80% من تركيب العسل، رغم أنّ الأوساط ذات السكّريّ الخفيف تزيد نشاط الجراثيم، وهكذا التمر الذي يحوي نسبة عالية من السكاكر لا تنمو فيه الجراثيم.

3 - وقايته لنخر الأسنان، على عكس سائر السكاكر الصناعية التي هي قابلة للتخمّر بوجود العصيات اللبنية، أمّا العسل ففيه قدرة واضحة في الحثّ على نموّ العظام وبزوغ الأسنان وفي التكلّس العظمي والسنّي، وبالتالي يزيد نموّ الطفل ويبعده عن خطر الكساح.

٥٣٧

4 - يزيد خضاب الدم وعدد الكريات الحمر.

وتُشير الإحصائيات إلى ندرة إصابة النحّالين بداء السرطان بالنسبة إلى أصحاب المهن الأُخرى.

5 - يسرع التئام الجروح وينظّفها؛ لأنّه يزيد محتوى الجروح من مادة الفلوتاثيون التي تُسرع عملية التعمير، الالتئام النسيجي.

6 - إنّه علاج جيد لتقرّحات الجلد المزمنة، وخاصّة إذا طُبّق المزيج المؤلّف من 5/4 عسل + 5/1 فازلين.

7 - علاج جيّد للتقيّحات الجلدية.

8 - يؤدّي لشفاء سريع للجروح الواهنة.

9 - ضماد معقّم لعمليات تحتمل التلوّث بالجراثيم.

قال الدكتور بولمان - الجرّاح النسائي -: وعندي كلّ المعطيات الايجابيّة كي أُفكر بهذه المادّة البسيطة التي تجيب على كلّ الأسئلة حول مشاكل الجروح والقروح المتقيّحة.. فهي مادّة غير مخرّشة، وغير سامّة، وعقيمة بذاتها، مضادّة للجراثيم، مغذّية للجلد، رخيصة، سهلة التحضير، سهلة الاستعمال.. وفوق كلّ ذلك فهي مادة جداً فعّالة (1) .

فسبحانه عزّ من قائل: ( فِيهِ شفاءٌ للناس ) !!

10 - يساعد على الهضم بفعّالية الأنزيمات التي يحويها، ويُخفض الحموضة المعدية الزائدة، وفعّال في معالجة استطلاق البطن (الإسهال)، ويمنع حدوث الإمساك أيضاً، كما يُفيد في معظم أمراض الكبد والصفراء، وفي السلّ والسعال، والتهاب القصبات، ومعالجة الربو وذات الرئة، والتهاب حواف الأجفان، والقرنية، وحروق العين، والنزلات الشعبية في الأنف، والتهاب اللوزات والبلعوم المزمن.

____________________

(1) مع الطبّ في القرآن: 191.

٥٣٨

وفوق ذلك فإنّ العسل يزيد إرواء العضلة القلبية ويمدّها بالطاقة بشكل ممتاز، وغير ذلك كثير، يطول شرحها.

فسبحانه من عظيم، حيث وكلّ حشرة صغيرة لإعداد هكذا مركّب عجيب كثير الخاصّية كبير الفائدة خطير الشأن.

وتمضي الأبحاث بغزارة على العسل، والكلّ يشعر أنّه ما زال في هذا العجين الغريب، الكثير من الأسرار ( وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً ) (1) .

* * *

____________________

(1) الإسراء: 85.

٥٣٩

دقائق هي روائع في التعبير

جاء في القرآن كثير من دقائق تعبير قد لا يلمس القارئ أثناء تلاوته ما يلفت نظره إلاّ إذا تدبّرها بإمعان، وتوقّف لديها متسائلاً: هل وراءها نكتة خافية؟ أم هناك سر مستتر عميق؟

فإذا ما لجّ فيها وتعمّق النظر فيها وجدها ظرائف ولطائف تُشرف الباحث على خضم بحر متلاطم وفيض بحر موّاج.. وإليك طرفاً منها:

( وَازْدَادُوا تِسْعاً ) :

قال تعالى: ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاَثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً ) (1) هذا الذي نقرأُه عن رقدة أصحاب الكهف، كانت ثلاثمئة سنة كاملة حسب التقويم الشمسي، الذي كان العالم المتحضّر، من عدا الأُمّة العربية، حيث لم يكن لها علم بحركة الفَلك الشمسي، وكان تقويهما قائماً على دورة الفلك القمري، وهي تنقص عن دورة الشمس سنوياً بأحد عشر يوماً وربع يوم تقريباً (2) ، فكان لابدّ أن

____________________

(1) الكهف: 25.

(2) أيّام السنة القمرية تتراوح بين 353 و354 و355 يوماً. بينما أيّام السنة الشمسية هي: 365 =

٥٤٠

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579