تلخيص التمهيد الجزء ٢

تلخيص التمهيد10%

تلخيص التمهيد مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 579

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 103992 / تحميل: 10585
الحجم الحجم الحجم
تلخيص التمهيد

تلخيص التمهيد الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) .

فهنا شبه المعاندين والمغرورين كمن يسير في جادّة متعرّجة غير مستوية كثيرة المنعطفات وقد وقع على وجهه ، يحرّك يديه ورجليه للاهتداء إلى سبيله ، لأنّه لا يبصر طريقه جيّدا ، وليس بقادر على السيطرة على نفسه ، ولا بمطّلع على العقبات والموانع ، وليست لديه القوّة للسير سريعا ، وبذلك يتعثّر في سيره يمشي قليلا ثمّ يتوقّف حائرا.

كما شبّه المؤمنين برجال منتصبي القامات ، يسيرون في جادّة مستوية ومستقيمة ليس فيها تعرّجات واعوجاج ، ويمشون فيها بسرعة ووضوح وقدرة ووعي وعلم وراحة تامّة.

إنّه ـ حقّا ـ لتشبيه لطيف فذّ ، حيث إنّ آثار هذين السبيلين واضحة تماما ، وانعكاساتها جليّة في حياة هذين الفريقين ، وذلك ما نلاحظه بأمّ أعيننا.

ويرى البعض أنّ مصداق هاتين المجموعتين هما : (الرّسول الأكرم) و (أبو جهل) فهما مصاديق واضحة للآية الكريمة ، إلّا أنّ ذلك لا يحدّد عمومية الآية.

وذكرت احتمالات متعدّدة في تفسير (مكبّا على وجهه). إلّا أنّ أكثر الاحتمالات المنسجمة مع المفهوم اللغوي للآية هو ما ذكرناه أعلاه ، وهو أنّ الإنسان غير المؤمن يكون مكبّا على وجهه ويمشي زاحفا بيده ورجليه وصدره.

وقيل أنّ المقصود من (مكبّا) هو المشي الاعتيادي ولكنّه مطأطئ الرأس لا يشخّص مسيره بوضوح أبدا.

كما يرى آخرون أنّ المقصود بـ (مكبّا) هو الشخص الذي لا يستطيع أن يحفظ توازنه في السير ، فهو يخطو خطوات معدودة ثمّ ما يلبث أن يسقط على الأرض وينهض ليمشي ، ثمّ تتكرّر هذه الحالة.

ويستفاد ممّا ذكره الراغب في مفرداته أنّ المقصود بـ (مكبّا) هو الشخص الذي يدور حول محور الذات والأنانية ، معرضا عن الاهتمام بغيره.

٥٠١

إلّا أنّ المعنى الأوّل أنسب حسب الظاهر ، وذلك بقرينة المقابلة مع وضع المؤمنين والذين عبّرت عنهم الآية بـ (سويّا).

وعلى كلّ حال ، فهل أنّ هذه الحالة (مكبّا) و (سويّا) تمثّل وضع الكفّار والمؤمنين في الآخرة فقط؟ أم في العالمين (الدنيا والآخرة)؟ لا دليل على محدودية مفهوم الآية وانحصارها في الآخرة ، فهما في الدنيا كما هما في الآخرة.

إنّ هؤلاء الأنانيين المنشدّين إلى مصالحهم الماديّة والمنغمسين في شهواتهم ، السائرين في درب الضلال والهوى ، كمن يروم العبور من مكان مليء بالأحجار زاحفا على صدره ، بخلاف من تحرّر من قيد الهوى في ظلّ الإيمان حيث يكون مسيره واضحا ومستقيما ونظراته عميقة وثاقبة.

ثمّ يوجّه الله تعالى الخطاب إلى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الآية اللاحقة فيقول :( قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ ) .

إنّ الله تعالى جعل لكم وسيلة للمشاهدة والإبصار (العين) وكذلك وسيلة وقناة للاطّلاع على أفكار الآخرين ومعرفة وجهات نظرهم من خلال الاستماع (الإذن) ثمّ وسيلة اخرى للتفكّر والتدبّر في العلوم والمحسوسات واللامحسوسات (القلب).

وخلاصة الأمر إنّ الله تعالى قد وضع جميع الوسائل اللازمة لكم لتتعرّفوا على العلوم العقلية والنقلية ، إلّا أنّ القليل من الأشخاص من يدرك هذه النعم العظيمة ويشكر الله المنعم ، حيث أنّ شكر النعمة الحقيقي يتجسّد بتوجيه النعمة نحو الهدف الذي خلقت من أجله ، ترى من هو المستفيد من هذه الحواس (العين والاذن والعقل) بصورة صحيحة في هذا الطريق؟

ثمّ يخاطب الرّسول مرّة اخرى حيث يقول تعالى :( قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) .

وفي الحقيقة فإنّ الآية الاولى تعيّن (المسير) ، والثانية تتحدّث عن (وسائل

٥٠٢

العمل) أمّا الآية ـ مورد البحث ـ فإنّها تشخّص (الهدف والغاية) وذلك بالتأكيد على أنّ السير يجب أن يكون في الطريق المستقيم ، والصراط الواضح المتمثّل بالإسلام والإيمان ، وبذل الجهد للاستفادة من جميع وسائل المعرفة بهذا الاتّجاه ، والتحرّك نحو الحياة الخالدة.

والجدير بالملاحظة هنا أنّ التعبير في الآية السابقة ورد بـ (أنشأكم) وفي الآية مورد البحث بـ (ذرأكم) ، ولعلّ تفاوت هذين التعبيرين هو أنّه في الأولى إشارة إلى الإنشاء والإيجاد من العدم (أي إنّكم لم تكونوا شيئا وقد خلقكم الله تعالى) وفي الثانية إشارة إلى خلق الإنسان من مادّة التراب ، وذلك يعني أنّ الله خلق الإنسان من التراب.

ثمّ يستعرض سبحانه قول المشركين في هذا المجال والردّ عليهم ، فيقول تعالى :( وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) .

إنّ المشركين يطالبون بتعيين التاريخ بصورة دقيقة ليوم القيامة ، كما أنّهم يطالبون بحسم هذا الأمر الذي يتعلّق بمصير الجميع( مَتى هذَا الْوَعْدُ؟ ) .

وذكروا احتمالين في المقصود من (هذا الوعد) : الأوّل : هو وعد يوم القيامة ، والآخر : هو تنفيذ الوعد بالنسبة للعقوبات الدنيوية المختلفة ، كوقوع الزلازل والصواعق والطوفانات. إلّا أنّ المعنى الأوّل أكثر تناسبا حسب الظاهر ، وذلك بلحاظ ما ورد في الآية السابقة. كما أنّ بالإمكان الجمع بين المعنيين.

ويجيبهم الله سبحانه على تساؤلهم هذا بقوله تعالى :( قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) .

إنّ هذا التعبير يشبه تماما ما ورد في الآيات القرآنية العديدة التي من جملتها

٥٠٣

قوله تعالى :( قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي ) (١) .

ولا بدّ أن يكون الجواب بهذه الصورة ، حيث أنّ تحديد تأريخ يوم القيامة إن كان بعيدا فإنّ الناس سيغرقون بالغفلة ، وإن كان قريبا فإنّهم سيعيشون حالة الهلع والاضطراب. وعلى كلّ حال فإنّ الأهداف التربوية تتعطّل في الحالتين.

ويضيف في آخر آية من هذه الآيات بأنّ الكافرين حينما يرون العذاب والوعد الإلهي من قريب تسودّ وجوههم :( فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) فسيماهم طافحة بآثار الحزن والندم( وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ ) .

«تدعون» من مادّة (دعاء) يعني أنّكم كنتم تدعون وتطلبون دائما أن يجيء يوم القيامة ، وها هو قد حان موعده ، ولا سبيل للفرار منه(٢) .

وهذا المضمون يشبه ما جاء في قوله تعالى مخاطبا الكفّار في يوم القيامة :( هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ) (٣) .

وعلى كلّ حال ، فإنّ الآية الشريفة ناظرة إلى عذاب يوم القيامة كما ذهب إليه أغلب المفسّرين ، وهذا دليل على أنّ جملة( مَتى هذَا الْوَعْدُ ) إشارة إلى موعد يوم القيامة.

يقول الحاكم أبو القاسم الحسكاني : عند ما شاهد الكفّار شأن ومقام الإمام عليعليه‌السلام عند الله تعالى. اسودّت وجوههم (من شدّة الغضب)(٤) .

ونقل هذا المعنى أيضا في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّ هذه الآية نزلت

__________________

(١) الأعراف ، الآية ١٨٧.

(٢) «تدعون» من باب (افتعال) ، ومن مادّة دعاء ، بمعنى الطلب والرجاء ، أو من مادّة (دعوا) بمعنى الطلب أو إنكار شيء معيّن.

(٣) الذاريات ، الآية ١٤.

(٤) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٣٠.

٥٠٤

بحقّ أمير المؤمنين عليعليه‌السلام وأصحابه(١) .

وهذا التّفسير نقل عن طرق الشيعة وأهل السنّة ، وهو نوع من التطبيق المصداقي ، وإلّا فإنّ هذه الآية تناولت موضوع (القيامة) ومثل هذه التطبيقات ليست قليلة في عالم الروايات.

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٨٥.

٥٠٥

الآيات

( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (٣٠) )

التّفسير

من الذي يأتيكم بالمياه الجارية؟

إنّ الآيات أعلاه ، التي هي آخر آيات سورة الملك ، تبدأ جميعها بكلمة (قل) مخاطبة الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث أنّها تمثّل استمرارا للأبحاث التي مرّت في الآيات السابقة حول الكفّار ، وتعكس هذه الآيات الكريمة جوانب اخرى من البحث.

يخاطب البارئعزوجل ـ في البداية ـ الأشخاص الذين يرتقبون وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه ، ويتصوّرون أنّ بوفاته سوف يمحى دين الإسلام وينتهي كلّ شيء. وهذا الشعور كثيرا ما ينتاب الأعداء المخذولين إزاء القيادات

٥٠٦

القويّة والمؤثّرة ، يقول تعالى مخاطبا إيّاهم :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ) .

ورد في بعض الروايات أنّ كفّار مكّة ، كانوا دائما يسبّون الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين ، وكانوا يتمنّون موته ظنّا منهم أنّ رحيله سينهي دعوته كذلك ، لذا جاءت الآية أعلاه ردّا عليهم.

كما جاء شبيه هذا المعنى في قوله تعالى :( أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ) (١) .

لقد كانوا غافلين عن وعد الله سبحانه لرسوله الأمين ، بأنّ اسمه سيكون مقترنا مع مبدأ الحقّ الذي لا يعتريه الفناء وإذا جاء أجله فإنّ ذكره لن يندرس ، نعم ، لقد وعده الله سبحانه بانتصار هذا المبدأ ، وأن ترفرف راية هذا الدين على كلّ الدنيا ، وحياة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو موته لن يغيّرا من هذه الحقيقة شيئا.

كما ذكر البعض تفسيرا آخر لهذه الآية وهو : إنّ خطاب الله لرسوله الكريم ـ الذي يشمل المؤمنين أيضا ـ مع ما عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الإيمان الراسخ ، كان يعكس الخوف والرجاء معا في آن واحد. فكيف بكم أنتم أيّها الكافرون؟ وما الذي تفكّرون به لأنفسكم؟

ولكن التّفسير الأوّل أنسب حسب الظاهر.

واستمرارا لهذا البحث ، يضيف تعالى :( قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

وهذا يعني أنّنا إذا آمنا بالله ، واتّخذناه وليّا ووكيلا لنا ، فإنّ ذلك دليل واضح على أنّه الربّ الرحمن ، شملت رحمته الواسعة كلّ شيء ، وغمر فيض ألطافه ونعمه الجميع (المؤمن والكافر) ، إنّ نظرة عابرة إلى عالم الوجود وصفحة الحياة تشهد

__________________

(١) الطور ، الآية ٣٠.

٥٠٧

على هذا المدّعى ، أمّا الذين تعبدونهم من دون الله فما ذا عملوا؟ وما ذا صنعوا؟

وبالرغم من أنّ ضلالكم واضح هنا في هذه الدنيا ، إلّا أنّه سيتّضح بصورة أكثر في الدار الآخرة. أو أنّ هذا الضلال وبطلان دعاواكم الفارغة ستظهر في هذه الدنيا عند ما ينتصر الإسلام بالإمدادات الإلهية على جيش الكفر بشكل إعجازي وخارق للعادة ، عندئذ ستتبيّن الحقيقة أكثر للجميع.

إنّ هذه الآية ـ في الحقيقة ـ نوع من المواساة للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين ، كي لا يظنّوا أو يتصوّروا أنّهم وحدهم في هذا الصراع الواسع بين الحقّ والباطل ، حيث أنّ الرحمن الرحيم خير معين لهم ونعم الناصر.

ويقول تعالى في آخر آية ، عارضا لمصداق من رحمته الواسعة ، والتي غفل عنها الكثير من الناس :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ ) .

إنّ للأرض في الحقيقة قشرتين متفاوتين : (قشرة قابلة للنفوذ) يدخل فيها الماء ، واخرى (غير قابلة للنفوذ) تحفظ بالماء ، وجميع العيون والآبار والقنوات تولّدت من بركات هذا التركيب الخاصّ للأرض ، إذ لو كانت القشرة القابلة للنفوذ لوحدها على سطح الكرة الأرضية جميعا ولأعماق بعيدة ، فإنّ جميع المياه التي تدخل جوف الأرض لا يقرّ لها قرار ، وعندئذ لا يمكن أن يحصل أحد على قليل من الماء. ولو كانت قشرة الأرض غير قابلة للنفوذ لتجمّعت المياه على سطحها وتحوّلت إلى مستنقع كبير ، أو أنّ المياه التي تكون على سطحها سرعان ما تصبّ في البحر ، وهكذا يتمّ فقدان جميع الذخائر التي هي تحت الأرض.

إنّ هذا نموذج صغير من رحمة الله الواسعة يتعلّق بموت الإنسان وحياته.

«معين» من مادّة (معن) ، على وزن (طعن) بمعنى جريان الماء.

وقال آخرون : إنّها مأخوذة من (عين) والميم زائدة. لذا فإنّ بعض المفسّرين ذهبوا إلى أنّ معنى (معين) تعني الماء الذي يشاهد بالعين بغضّ النظر عن جريانه.

إلّا أنّ الغالبية فسّروه بالماء الجاري.

٥٠٨

وبالرغم من أنّ الماء الصالح للشرب لا ينحصر بالماء الجاري ، إلّا أنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ الماء الجاري يمثّل أفضل أنواع ماء الشرب ، سواء كان من العيون أو الأنهار أو القنوات أو الآبار المتدفّقة

ونقل بعض المفسّرين أنّ أحد الكفّار عند ما سمع قوله تعالى :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ ) قال : (رجال شداد ومعاول حداد) وعند نومه ليلا نزل الماء الأسود في عينيه ، وفي هذه الأثناء سمع من يقول : أتي بالرجال الشداد والمعاول الحداد ليخرجوا الماء من عينيك.

ومن الواضح أنّه في حالة عدم وجود القشرة الصلبة وغير القابلة للنفوذ ، فإنّه لا يستطيع أي إنسان قوي ولا أي معول حادّ أن يستخرج شيئا من الماء(١) .

* * *

تعقيب

جاء في الروايات عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّ المراد من الآية الأخيرة من هذه السورة هو ظهور الإمام المهديعليه‌السلام وعدله الذي سيعمّ العالم.

فقد جاء في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «نزلت في الإمام القائمعليه‌السلام ، يقول : إن أصبح إمامكم غائبا عنكم ، لا تدرون أين هو؟ فمن يأتيكم بإمام ظاهر يأتيكم بأخبار السموات والأرض ، وحلال الله وحرامه؟ ثمّ قال : والله ما جاء تأويل هذه الآية ، ولا بدّ أن يجيء تأويلها»(٢) .

والروايات في هذا المجال كثيرة ، وممّا يجدر الانتباه له أنّ هذه الروايات هي من باب (التطبيق).

وبعبارة اخرى فإنّ ظاهر الآية مرتبط بالماء الجاري ، والذي هو علّة حياة

__________________

(١) أبو الفتوح الرازي ، ج ١١ ، ص ٢١٩.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٨٧.

٥٠٩

الموجودات الحيّة. أمّا باطن الآية فإنّه يرتبط بوجود الإمامعليه‌السلام وعلمه وعدالته التي تشمل العالم ، والتي هي الاخرى تكون سببا لحياة وسعادة المجتمع الإنساني.

ولقد ذكرنا مرّات عدّة أنّ للآيات القرآنية معاني متعدّدة ، حيث لها معنى باطن وظاهر ، إلّا أنّ فهم باطن الآيات غير ممكن إلّا للرسول والإمام المعصوم ، ولا يحقّ لأي أحد أن يطرح تفسيرا ما لباطن الآيات. وما نستعرضه هنا مرتبط بظاهر الآيات ، أمّا ما يرتبط بباطن الآيات فعلينا أن نأخذه من المعصومينعليهم‌السلام فقط.

لقد بدأت سورة الملك بحاكمية الله ومالكيته تعالى ، وانتهت برحمانيته ، والتي هي الاخرى فرع من حاكميته ومالكيته سبحانه ، وبهذا فإنّ بدايتها ونهايتها منسجمتان تماما.

اللهمّ ، أدخلنا في رحمتك العامّة والخاصّة ، وأرو ظمآنا من كوثر ولاية أولياءك.

ربّنا ، عجّل لنا ظهور عين ماء الحياة الإمام المهدي ، واطفئ عطشنا بنور جماله

ربّنا ، ارزقنا اذنا صاغية وعينا بصيرة وعقلا كاملا ، فأقشع عن قلوبنا حجب الأنانية والغرور لنرى الحقائق كما هي ، ونسلك إليك على الصراط المستقيم بخطوات محكمة وقامة منتصبة

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة الملك

* * *

٥١٠
٥١١

سورة

القلم

مكيّة

وعدد آياتها اثنتان وخمسون آية

٥١٢

«سورة القلم»

محتوى السورة :

بالرغم من أنّ بعض المفسّرين شكّك في كون السورة بأجمعها نزلت في مكّة ، إلّا أنّ نسق السورة ومحتوى آياتها ينسجم تماما مع السور المكيّة ، لأنّ المحور الأساسي فيها يدور حول مسألة نبوّة رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومواجهة الأعداء الذين كانوا ينعتونه بالجنون وغيره ، والتأكيد على الصبر والاستقامة وتحدّي الصعاب ، وإنذار وتهديد المخالفين لهذه الدعوة المباركة بالعذاب الأليم.

وبشكل عامّ يمكن تلخيص مباحث هذه السورة بسبعة أقسام :

١ ـ في البداية تستعرض السورة بعض الصفات الخاصّة لرسول الإنسانية محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخصوصا أخلاقه البارّة السامية الرفيعة ، ولتأكيد هذا الأمر يقسم البارئعزوجل في هذا الصدد.

٢ ـ ثمّ تتعرّض بعض الآيات الواردة في هذه السورة إلى قسم من الصفات السيّئة والأخلاق الذميمة لأعدائه.

٣ ـ كما يبيّن قسم آخر من الآيات الشريفة قصّة (أصحاب الجنّة) والتي هي بمثابة توجيه إنذار وتهديد للسالكين طريق العناد من المشركين.

٤ ـ وفي قسم آخر من السورة ذكرت عدّة امور حول القيامة والعذاب الأليم للكفّار في ذلك اليوم.

٥ ـ كما جاء في آيات اخرى جملة إنذارات وتهديدات للمشركين.

٥١٣

٦ ـ ونلاحظ في آيات اخرى من السورة الأمر الإلهي للرسول العظيم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يواجه الأعداء بصبر واستقامة وقوّة وصلابة.

٧ ـ وأخيرا تختتم السورة موضوعاتها بحديث حول عظمة القرآن الكريم ، وطبيعة المؤامرات التي كان يحوكها الأعداء ضدّ الرّسول محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

انتخاب (القلم) اسما لهذه السورة المباركة ، كان بلحاظ ما ورد في أوّل آية منها ، وذكر البعض الآخر أنّ اسمها (ن).

ويستفاد من بعض الروايات التي وردت في فضيلة هذه السورة أنّ اسمها «ن والقلم».

فضيلة تلاوة سورة القلم :

نقل عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فضيلة تلاوة هذه السورة أنّه قال : «من قرأ (ن والقلم) أعطاه الله ثواب الذين حسن أخلاقهم»(١) .

كما نقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «من قرأ سورة (ن والقلم) في فريضة أو نافلة ، آمنه الله أن يصيبه في حياته فقر أبدا ، وأعاذه إذا مات من ضمّة القبر ، إن شاء الله»(٢) .

وهذا الأجر والجزاء يتناسب تناسبا خاصّا مع محتوى السورة ، والهدف من التأكيد على هذا النوع من الأجر من تلاوة السورة هو أن تكون التلاوة مقرونة بالوعي والمعرفة ومن ثمّ العمل بمحتواها.

* * *

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٨٧.

(٢) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٣٠.

٥١٤

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧) )

التّفسير

عجبا لأخلاقك السامية :

هذه السورة هي السورة الوحيدة التي تبدأ بحرف (ن) حيث يقول تعالى :( ن ) .

وقد تحدّثنا مرّات عديدة حول الحروف المقطّعة ، خصوصا في بداية سورة (البقرة) و (آل عمران) و (الأعراف) والشيء الذي يجدر إضافته هنا هو ما اعتبره البعض من أنّ (ن) هنا تخفيف لكلمة (الرحمن) فهي إشارة لذلك. كما أنّ البعض الآخر فسّرها بمعنى (اللوح) أو (الدواة) أو (نهر في الجنّة) إلّا أنّ كلّ تلك الأقوال ليس لها دليل واضح.

٥١٥

وبناء على هذا فإنّ الحرف المقطّع هنا لا يختلف عن تفسير بقيّة الحروف المقطّعة والتي أشرنا إليها سابقا.

ثمّ يقسم تعالى بموضوعين يعتبران من أهمّ المسائل في حياة الإنسان ، فيقول تعالى :( وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ ) .

كم هو قسم عجيب؟ وقد يتصوّر أنّ القسم هنا يتعلّق ظاهرا بمواضيع صغيرة ، أي قطعة من القصب ـ أو شيء يشبه ذلك ـ وبقليل من مادّة سوداء ، ثمّ السطور التي تكتب وتخطّ على صفحة صغيرة من الورق.

إلّا أنّنا حينما نتأمّل قليلا فيه نجده مصدرا لجميع الحضارات الإنسانية في العالم أجمع ، إنّ تطور وتكامل العلوم والوعي والأفكار وتطور المدارس الدينية والفكرية ، وبلورة الكثير من المفاهيم الحياتية كان بفضل ما كتب من العلوم والمعارف الإنسانية في الحقول المختلفة ، ممّا كان له الأثر الكبير في يقظة الأمم وهداية الإنسان وكان ذلك بواسطة (القلم).

لقد قسّمت حياة الإنسان إلى عصرين : (عصر التأريخ) و (عصر ما قبل التأريخ) وعصر تأريخ البشر يبدأ منذ أن اخترع الإنسان الخطّ واستطاع أن يدوّن قصّة حياته وأحداثها على الصفحات ، وبتعبير آخر ، يبدأ عند ما أخذ الإنسان القلم بيده ، ودوّن للآخرين ما توصّل إليه (وما يسطرون) تخليدا لماضيه.

وتتّضح عظمة هذا القسم بصورة أكثر عند ما نلاحظ أنّ هذه الآيات المباركة حينما نزلت لم يكن هنالك كتاب ولا أصحاب قلم ، وإذا كان هنالك أشخاص يعرفون القراءة والكتابة ، فإنّ عددهم في كلّ مكّة ـ التي تمثّل المركز العبادي والسياسي والاقتصادي لأرض الحجاز ـ لم يتجاوز ال (٢٠) شخصا. ولذا فإنّ القسم بـ (القلم) في مثل ذلك المحيط له عظمة خاصّة.

والرائع هنا أنّ الآيات الاولى التي نزلت على قلب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في (جبل النور) أو (غار حراء) قد أشير فيها أيضا إلى المنزلة العليا للقلم ، حديث يقول تعالى :

٥١٦

( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ ) (١) .

والأروع من ذلك كلّه أنّ هذه الكلمات كانت تنطلق من فمّ شخص لم يكن يقرأ أو يكتب ، ولم يذهب للمكاتب من أجل التعليم قطّ ، وهذا دليل أيضا على أنّ ما ينطق به لم يكن غير الوحي السماوي.

وذكر بعض المفسّرين أنّ كلمة (القلم) هنا يقصد بها : (القلم الذي تخطّ به ملائكة الله العظام الوحي السماوي) ، (أو الذي تكتب به صفحة أعمال البشر) ، ولكن من الواضح أنّ للآية مفهوما واسعا ، وهذه الآراء تبيّن مصاديقها.

كما أنّ لجملة( ما يَسْطُرُونَ ) مفهوما واسعا أيضا ، إذ تشمل جميع ما يكتب في طريق الهداية والتكامل الفكري والأخلاقي والعلمي للبشر ، ولا ينحصر بالوحي السماوي أو صحائف أعمال البشر(٢) .

ثمّ يتطرّق سبحانه لذكر الأمر الذي أقسم من أجله فيقول تعالى :( ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ) .

إنّ الذين نسبوا إليك هذه النسبة القبيحة هم عمي القلوب والأبصار ، وإلّا فأين هم من كلّ تلك النعم الإلهية التي وهبها الله لك؟ نعمة العقل والعلم الذي تفوّقت بها على جميع الناس ونعمة الأمانة والصدق والنبوّة ومقام العصمة إنّ الذين يتّهمون صاحب هذا العقل الجبّار بالجنون هم المجانين في الحقيقة ، إنّ ابتعادهم عن دليل الهداية وموجّه البشرية لهو الحمق بعينه.

ثمّ يضيف تعالى بعد ذلك :( وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ ) أي غير منقطع ، ولم لا

__________________

(١) العلق ، الآية ١ ـ ٥.

(٢) اعتبر البعض أنّ (ما) في (ما يسطرون) مصدرية ، واعتبرها بعض آخر بأنّها (موصولة) والمعنى الثاني أنسب ، والتقدير هكذا : (ما يسطرونه) ، كما اعتبرها البعض أيضا بمعنى (اللوح) أو (القرطاس) الذي يكتب عليه ، وفي التقدير (ما يسطرون فيه) كما اعتبر البعض (ما) هنا إشارة لذوي العقول والأشخاص الذين يكتبون هذه السطور ، إلّا أنّ المعنى الذي ذكرناه في المتن أنسب من الجميع حسب الظاهر.

٥١٧

يكون لك مثل هذا الأجر ، في الوقت الذي وقفت صامدا أمام تلك التّهم والافتراءات اللئيمة ، وأنت تسعى لهدايتهم ونجاتهم من الضلال وواصلت جهدك في هذا السبيل دون تعب أو ملل؟

«ممنون» من مادّة (منّ) بمعنى (القطع) ويعني الأجر والجزاء المستمرّ الذي لا ينقطع أبدا ، وهو متواصل إلى الأبد ، يقول البعض : إنّ أصل هذا المعنى مأخوذ من «المنّة» ، بلحاظ أنّ المنّة توجب قطع النعمة.

وقال البعض أيضا : إنّ المقصود من( غَيْرَ مَمْنُونٍ ) هو أنّ الله تعالى لم تكن لديه منّة مقابل هذا الأجر العظيم. إلّا أنّ التّفسير الأوّل أنسب.

وتعرض الآية اللاحقة وصفا آخر لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك بقوله تعالى :( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) .

تلك الأخلاق التي لا نظير لها ، ويحار العقل في سموّها وعظمتها من صفاء لا يوصف ، ولطف منقطع النظير ، وصبر واستقامة وتحمّل لا مثيل لها ، وتجسيد لمبادئ الخير حيث يبدأ بنفسه أوّلا فيما يدعو إليه ، ثمّ يطلب من الناس العمل بما دعا إليه والالتزام به.

عند ما دعوت ـ يا رسول الله ـ الناس ـ لعبادة الله ، فقد كنت أعبد الناس جميعا ، وإذ نهيتهم عن سوء أو منكر فإنّك الممتنع عنه قبل الجميع ، تقابل الأذى بالنصح ، والإساءة بالصفح ، والتضرّع إلى الله بهدايتهم ، وهم يؤلمون بدنك الطاهر رميا بالحجارة ، واستهزاء بالرسالة ، وتقابل وضعهم للرماد الحارّ على رأسك الشريف بدعائك لهم بالرشد.

نعم لقد كنت مركزا للحبّ ومنبعا للعطف ومنهلا للرحمة ، فما أعظم أخلاقك؟

«خلق» من مادّة (الخلقة) بمعنى الصفات التي لا تنفكّ عن الإنسان ، وهي ملازمة له ، كخلقة الإنسان.

وفسّر البعض الخلق العظيم للنبي بـ (الصبر في طريق الحقّ ، وكثرة البذل

٥١٨

والعطاء ، وتدبير الأمور ، والرفق والمداراة ، وتحمّل الصعاب في مسير الدعوة الإلهية ، والعفو عن المتجاوزين ، والجهاد في سبيل الله ، وترك الحسد والبغض والغلّ والحرص ، وبالرغم من أنّ جميع هذه الصفات كانت متجسّدة في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أنّ الخلق العظيم له لم ينحصر بهذه الأمور فحسب ، بل أشمل منها جميعا.

وفسّر الخلق العظيم أيضا بـ (القرآن الكريم) أو (مبدأ الإسلام) ومن الممكن أن تكون الموارد السابقة من مصاديق المفهوم الواسع للآية أعلاه.

وعلى كلّ حال فإنّ تأصّل هذا (الخلق العظيم) في شخصية الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو دليل واضح على رجاحة العقل وغزارة العلم له ونفي جميع التّهم التي تنسب من قبل الأعداء إليه.

ثمّ يضيف سبحانه بقوله :( فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ) .

( بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ ) أي من منكم هو المجنون(١) .

«مفتون» : اسم مفعول من (الفتنة) بمعنى الابتلاء ، وورد هنا بقصد الابتلاء بالجنون.

نعم ، إنّهم ينسبون هذه النسب القبيحة إليك ليبعدوا الناس عنك ، إلّا أنّ للناس عقلا وإدراكا ، يقيّمون به التعاليم التي يتلقّونها منك ، ثمّ يؤمنون بها ويتعلّمونها تدريجيّا ، وعندئذ تتّضح الحقائق أمامهم ، وهي أنّ هذه التعاليم العظيمة مصدرها البارئعزوجل ، أنزلها على قلبك الطاهر بالإضافة إلى ما منحك من نصيب عظيم في العقل والعلم.

كما أنّ مواقفك وتحرّكاتك المستقبلية المقرونة بالتقدّم السريع لانتشار الإسلام ، ستؤكّد بصورة أعمق أنّك منبع العلم والعقل الكبيرين ، وأنّ هؤلاء الأقزام

__________________

(١) (الباء) في (بأيّكم) زائدة و (أيّكم) مفعول للفعلين السابقين.

٥١٩

الخفافيش هم المجانين ، لأنّهم تصدّوا لمحاربة نور هذه الشمس العظيمة المتمثّلة بالحقّ الإلهي والرسالة المحمّدية.

ومن الطبيعي فإنّ هذه الحقائق ستتوضّح أمامهم يوم القيامة بصورة دامغة ، ويخسر هنالك المبطلون ، حيث تتبيّن الأمور وتظهر الحقيقة.

وللتأكيد على المفهوم المتقدّم يقول سبحانه مرّة اخرى :( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) .

وبلحاظ معرفة البارئعزوجل بسبيل الحقّ وبمن سلكه ومن جانبه وتخلّف أو انحرف عنه ، فإنّه يطمئن رسوله الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه والمؤمنون في طريق الهداية والرشد ، أمّا أعداؤه فهم في متاه الضلالة والغواية.

وجاء في حديث مسند أنّ قريشا حينما رأت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقدم الإمام عليعليه‌السلام على الآخرين ويجلّه ويعظّمه ، غمزه هؤلاء وقدحوا بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا : (لقد فتن محمّد به) هنا أنزل الله تعالى قرآنا وذلك قوله :( ن وَالْقَلَمِ ) وأقسم بذلك ، وإنّك يا محمّد غير مفتون ومجنون حتّى قوله تعالى :( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) حيث الله هو العالم بالأشخاص الذين ضلّوا وانحرفوا عن سواء السبيل ، وهي إشارة إلى قريش التي كانت تطلق هذه الاتّهامات ، كما أنّه تعالى أعرف بمن اهتدى ، وهي إشارة إلى الإمام عليعليه‌السلام (١) .

* * *

بحثان

١ ـ دور القلم في حياة الإنسان

إنّ من أهمّ معالم التطور في الحياة البشرية ـ كما أشرنا سابقا ـ هو ظهور

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٣٤ ، (نقل الطبرسي هذا الحديث بسنده عن أهل السنّة).

٥٢٠

٢ - وهكذا حالت صلابة القشرة وضخامة سمكها - وهي صخور جبلية - دون زلزالها واهتزاز قشرتها، على أثر توهّج باطنها، لو كانت القشرة هزيلة أو ذات لين.

والى ذلك أشار الإمام (عليه السلام) بقوله: (من أن تميد بأهلها).

٣ - كما أنّ لتطويق الأرض بالسلاسل الجبلية والصخور الصلبة المحيطة بأكناف الأرض عاملاً في تماسك أشلائها وحافظاً عن تشقّقها أو تعاقب الانخسافات عليها.

وإليه أشار (عليه السلام) بقوله: (أو تسيخ بحملها).

(فسبحان مَن أمسكها بعد موجان).!

* * *

٥٢١

مسيرة الأرض والجبال

( وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرّ مَرّ السّحَابِ صُنْعَ اللّهِ الّذِي اتْقَنَ كُلّ شَيْ‏ءٍ ) (١)

الجمود: نقيض السيلان، ويقال للثلج: جمد، بهذا الاعتبار. ويقال: جمُدت العين إذا هدأت ولم يجرِ دمعها. ويقال للأرض وللسَنة: جماد، إذا أصابهما جدب، لا كلاء ولا خصب ولا مطر.

قال الفيروز آبادي: يقال: ناقة جماد إذا كانت بطيئة في سيرها شبه الواقفة.

ومن ذلك كلّه يُعرف أنّ هذه اللفظة تُستعمل في موارد، كان من طبعها السير والحركة فوقفت وقوف عارض، وصحّ إطلاق الجماد على الجبال باعتبار همودها في رأي العين؛ ومِن ثَمّ قال المفسّرون: جامدة أي واقفة لا حراك فيها، ويؤيّده التقابل بمرور السحاب أي حركتها في جوّ السماء.

فقوله تعالى: ( وَهِيَ تَمُرّ مَرّ السّحَابِ ) أي تسير في مسيرتها الحيثيثة كمسيرة السحب في الفضاء، روي ذلك عن ابن عبّاس (٢) .

وليست حركة الجبال في مسير الفضاء سوى حركة الأرض الانتقالية في

____________________

(١) النمل: ٨٨.

(٢) مجمع البيان: ج٧ ص٢٣٦.

٥٢٢

دورتها السنوية حول الشمس، أو حركتها الوضعية حول نفسها، وعلى كلا المعنيين فيدلّ على حركة الأرض دون وقوفها وهدوئها، وهذا بالرغم من الرأي السائد ذلك الحين القائل بسكون الأرض وكونها في مركز الأفلاك الدائرة حولها.

وجاءت دلالة الآية على حركة الأرض دلالة تبعيّة، من قبل نسبتها إلى مجموعة الجبال، فجبال بمجموعتها تسير سيرها الحثيث، الأمر الذي لا يكون إلاّ بحركة كتلة الأرض كلّها.

* * *

أمّا وما هذه الحركة وما هذه المسيرة الأرضية؟

١ - قال أكثر المفسّرين : إنّها تسيير الجبال نحو الفناء، إحدى علائم قيام الساعة نظير قوله تعالى: ( وَيَوْمَ نُسَيّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ) (١) وقوله: ( يَوْمَ تَمُورُ السّماءُ مَوْراً * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً ) (٢) . وقوله: ( وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً ) (٣) ، إلى غيرهنّ من آيات كثيرة بنفس المضمون (٤) .

قال الإمام الرازي: اعلم أنّ هذا هو العلامة الثالثة لقيام القيامة، وهي تسيير الجبال (٥) .

وقال سيّدنا الطباطبائي (قدس سرّه): بما أنّ الآية واقعة في سياق آيات القيامة، ومحفوفة بها فهي تصف بعض مشاهد ذلك اليوم الرهيب، ومن جملتها تسيير الجبال. وقوله: ( وَتَرَى الْجِبَالَ ) تمثيل لتلك الواقعة، نظير قوله: ( وَتَرَى النَّاسَ

____________________

(١) الكهف: ٤٧.

(٢) الطور: ٩ و١٠.

(٣) النبأ: ٢٠.

(٤) مريم: ٩٠، الواقعة: ٥، الحاقّة: ١٤، المعارج: ٩، المزّمّل: ١٤، المرسلات: ١٠.

(٥) التفسير الكبير: ج٢٤ ص٢٢٠.

٥٢٣

سُكَارَى ) (١) أي تلك حالتها المشهودة في ذلك اليوم العصيب لو كنت شاهدها (٢) .

لكن لحن الآية ذاتها تأبى هذا الحمل، ولا سيّما مع تذييلها بقوله: ( صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ) ، الأمر الذي يدلّ على أنّها بصدد بيان مظهر من مظاهر قدرته تعالى ولطيف صنعه، وقضية السياق موهونة - بعد ملاحظة ما قدّمنا في الجزء الأَوّل - من أنّ ترتيب الثبت الحاضر لا يدلّ على نزولها تباعاً بلا فترة زمان.

٢ - وقال بعضهم : إنّها الحركة الجوهرية، وإنّ ما في الوجود يسير قُدماً نحو الكمال المطلق، سواء أكان إنساناً ( يَا أَيّهَا الإِنسَانُ إِنّكَ كَادِحٌ إِلَى‏ رَبّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ ) (٣) أم حيواناً أم نباتاً أم جماداً ( كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ ) (٤) .

قال سيّدنا الطباطبائي: قد تُحمل الآية على الحركة الجوهرية، وأنّ الأشياء كلّها، ومنها الجبال، تتحرّك بجوهرها إلى غاية وجودها، وهي حشرها ورجوعها إلى الله سبحانه، قال: وهذا المعنى يناسبه التعبير بقوله: ( تَحْسَبُهَا جَامِدَةً ) ؛ لأنّ الجمود هو السكون المحض، في حين أنّها في تحوّل وتنقّل، هادفةً ساحة قدسه تعالى! قال: وهذا المعنى أنسب من المعنى الأوّل بإرادة قيام الساعة.

٣ - وقال آخرون: إنّها الحركة الطبيعية الكامنة في ذوات الأشياء؛ إذ كلّ موجود هو في تحوّل وتغيير دائب مستمرّ، وما من ذرّة في عالم الوجود إلاّ وهي تتبدّل إلى غيرها وتتجدّد حسب الآنات والأحوال، وكلّ شيء هو في كلّ آنٍ خَلقٌ جديد، ( إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) (٥) ، ( يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) (٦) ، ما هذا السؤال المستمرّ؟ إنّها مسألة الإفاضة، إفاضة الوجود من ربّ العالمين، ومِن ثَمّ فهو تعالى في كلّ لحظةٍ من لحظات حياتنا في خلق جديد.

قال الأُستاذ محمّد تقي الجعفري: إنّ مَن في السماء والأرض من عالم

____________________

(١) الحجّ: ٢.

(٢) الميزان: ج١٥ ص٤٤٠.

(٣) الانشقاق: ٦.

(٤) الأنبياء: ٩٣.

(٥) سبأ: ٧.

(٦) الرحمن: ٢٩.

٥٢٤

الوجود، إنّما يسأله تعالى الاستمرار بالإفاضة عليه من قوى واستعداداتٍ وإبقاءٍ لوجوده خلقاً بعد خلق (١) .

٤ - إنّها حركة الأرض الوضعية والانتقالية ، ومسألة حركة الأرض أَمرٌ تنبّه له كثير من العلماء الأقدمين كـ (فيثاغورث الحكيم) عاش قبل الميلاد بخمسة قرون، وتبعه على ذلك (فلوطرخوس) و(أرخميدس)، وأيّده الحكيم (ارستر خوس) الذي جاء بعده بقرنين، وبعده (كليانثوس) الذي أثبت للأرض حركتين، يومية وسنوية.

لكن في هذا الأوان جاء الحكيم (بطلميوس) فأنكر حركة الأرض واعتقد سكونها وكونها مركز سائر الأفلاك، وساد هذا النظام الفلكي البطلميوسي - بفضل دعمه بالرأي العام - حتى القرن السادس عشر للمياد، حيث نبغ الفلكي الشهير (كوبرنيك) المتوفّى سنة ١٥٤٤م ليأخذ برأي (فيثاغورث)، وهكذا توالى بعده العلماء مؤيّدينَ لهذا الرأي، بفضل المخترعات الفَلكية الحديثة (المجاهر والنظّارات المكبّرة).

وللسيّد هبة الدين الشهرستاني كلام طويل حول استظهار هذا الرأي من الآية الكريمة نذكر ملخّصه:

قال: أَوّل مَن تفطّن إلى هذا الاستنباط من الآية الشريفة هو الفاضل علي قلي ابن فتح علي شاه القاجار، وجاء تأييده في (النخبة الأزهرية) ترجيحاً على تفسير القدماء للآية.

قال السيّد: وفي الآية دلائل على هذا الاستظهار:

أولاً: التعبير بالجمود ( تَحسَبُها جَامِدة ) ، ولا تهويل إذا كانت الجبال تُرى يوم القيامة في ظاهرها هامدة وساكنة في مستقرّاتها.

ثانياً: التعبير بالمرور مرّ السحاب، وهو يدلّ على نعومةٍ في السير، وليس ممّا

____________________

(١) راجع الحركة والتحوّل من النظرة القرآنية: ص٤٩ فما بعد.

٥٢٥

يهول.

وثالثاً: التشبيه بالسحب، ولا هول في مشاهدة مسيرة السحاب (١) .

فصحّ أنّ الآية لا تتناسب وكونها من أشراط الساعة أو إشارة إلى أهوال يوم القيامة.

وقال سيّدنا الطباطبائي: حمل الآية على إرادة حركة الأرض الانتقالية معنى جيّد لولا منافاته للسياق (٢) .

وقد قدّمنا أنّ سياق الآية ذاتها - بقرينة الإشارة إلى إحكام الصنع - ترجّح إرادة التفسير الأَوّل المتقدّم.

( وَالأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحَاهَا ) (٣) :

الدحو: الدحرجة. يقال: دحا الشيء بمعنى دحرجه، كما يُدحرج الصبيان المداحي، وهي أحجار صغار أمثال القرصة، يحفرون حفيرة فيدحون بها إليها، وتُسمّى المسادي والمراصيع، والدحو: رمي الملاعب بالجوز وشبهه (٤) .

فمعنى دحو الأرض: دحرجتها وزحلقتها على بسيط الفضاء لتأخذ شكلها الكريّ في التدوير (٥) .

____________________

(١) الهيئة والإسلام: ص٩٧ - ٩٩.

(٢) الميزان: ج١٥ ص٤٤٢.

(٣) النازعات: ٣٠.

(٤) الفائق للزمخشري: ج١ ص٤١٨.

وقال الفيروز آبادي: مرصاع - كمحراب -: دوّامة الصبيان، وكل خشبة يُدحى بها، والدوّامة لعبة من خشب يلفّ الصبي عليها خيطاً ثمّ ينقضه بسرعة فتدوم أي تدور على الأرض، (انظر الشكل في المنجد)، وعندنا في العراق كانت تُسمّى (المُرصَع) كمُلجَم. وهي تشبه وفي قطبها السافل حديدة محدّدة بها تدور على الأرض، ولعلّ تسمية البيضة دحية في الديار المصرية كانت من جهة هذا التشابه، قال مصطفى محمود في كتابه (محاولة لفهم عصريّ للقرآن): ص٢٥٥: الدحية: البيضة.

(٥) قال الأُستاذ محمّد مصطفى الشاطر: ترجمة الدحو بمعنى البسط ضياع للمعنى الذي يُؤخذ =

٥٢٦

فدحو الأرض إذاً ليس مجرّد بسطها، كما زعمه أُناس، وإنّما هو بسط مع تكوير، يشبه الدوّامة في جسمها الكريّ يتداحى بها الصبيان في ألاعيبهم.

وهي اللفظة العربية الوحيدة التي تفيد معنى البسط والتكوير في ذات الوقت، وتكون من أدلّ الألفاظ على شكل الأرض المنبسطة في ظاهرها، المتكوّرة في الحقيقة، الأمر الذي يوافقه أحدث الآراء الفَلكية عن شكل الأرض: إنّها مفرطحة من جانبي قطبيها، ومنبعجة على خطّ الاستواء، فيزيد قطرها الاستوائي عن قطرها القطبي بمقدار (٦/٤٢) كيلو متراً (١) .

وهذا منتهى الإحكام والدقة في اختيار اللفظ المناسب للتعبير.

* * *

____________________

= من الدحو وهو التكوير غير التامّ - كتكوير البيضة - مع الدوران، ولا يزال أهل الصعيد و - أكثرهم من أصل عربي - يعبّرون عن البيض بالدحو أو الدحي أو الدح. (القول السديد: ص ٢١ - ٢٢).

(١) قطر الأرض الاستوائي: ٨ / ١٢٧٥٤. وقطرها القطبي: ٢ / ١٢٧١٢. راجع بصائر جغرافية لرشيد رشدي البغدادي: ص١٥٧.

٥٢٧

مدّ الظلّ وقبضه

( أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً ) (١)

إنّ الظلّ الوريف اللطيف الذي يُوحي إلى النفس المجهودة المكدودة بالراحة والنداوة والسكن والأمان هو الظلّ الذي يبدأ بروحه ونسيمه فور تحوّل الشمس هبوطاً من قبّة السماء (دائرة نصف النهار)، تكاد تمتدّ وتنبسط نفحتها كلّما أخذت الشمس تقترب من أُفق مغربها، وإذا هي تبزغ أشعّتها عند الصباح، وإذا بالأضلّة تبدو على أطولها، ثمّ تأخذ في التناقص كلّما ارتفعت الشمس وسط السماء.

فهذا الظلّ يتحرّك مع حركة الأرض في مواجهة الشمس، فتتغيّر أوضاعه وامتداداته وأشكاله، والشمس يدلّ عليه بضوئها وحرارتها وتميّز مساحته وامتداده وارتداده.

وهذا المدّ والقبض إنّما هي بفعل حركة الأرض حول محورها تجاه عين الشمس الوهّاجة، وهي تحصل في كلّ ٢٤ ساعة يوماً كاملاً.

____________________

(١) الفرقان: ٤٥ و٤٦.

٥٢٨

وشيء آخر: أنّ محور الأرض - في دورتها حول نفسها - ينحرف قليلاً عن مستوى فَلكها (أي مدارها السنوي) ويكون انحرافه بزاوية قدرها ٥/٢٣ درجة، الأمر الذي يُسبّب تعاقب الفصول الأربعة، وكلّما ابتعدت الشمس عن خطّ الاستواء شمالاً أو جنوباً فإنّ الظِلال تختلف امتداداً وتقلّصاً، فلا يستوي الظلّ في الشتاء مع الظّل في الصيف أو الخريف أو الربيع، سواء في مناطق الاعتدال أو غيرها.

وعلى أيّ تقدير، فإنّ مدّ الظلّ وقبضه قبضاً يسيراً ممّا يُنبئك عن حركةٍ للأرض، إمّا محورية أو مدارية (وضعية أو انتقالية) أو كلتيهما جميعاً.

وكيف كان فهو ظلّ النهار، يزداد وينقص، حسب الأيّام والشهور.

أمّا الليل، فهي نعمة أُخرى جاء ذكرها في الآية التالية لما سبق: ( وَهُوَ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الليلَ لِبَاساً وَالنّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النّهَارَ نُشُوراً ) (١) .

وهي رحمة إلهية كبرى، إذ جعل الأرض تدور حول محورها يومياً، طول سنتها التي هي ٣٦٥ يوماً، وبذلك أمكنت الحياة على وجه الأرض من كلّ جوانبها على سواء.

أمّا كرة عطارد فإنّها تدور حول محورها بنفس دورتها حول الشمس، في ٨٨ يوماً، كما حقّقه الفَلكي (شياپرلي) (٢) . ومعنى ذلك أنّ طول يومها يساوي سنتها أي دورتها حول الشمس، ونتيجةً على ذلك فإنّ وجهاً واحداً منه يتّجه نحو الشمس بصورة دائمية، ولا يتجه النصف الآخر نحوها مطلقاً.

وللسبب نفسه يكون أحد وجهيه ساخناً جدّاً، إذ تبلغ درجة الحرارة عليه نحو ٢٦٠ درجة مئوية، كما يكون الوجه المعاكس بارداً جدّاً، وتبلغ درجة البرودة فيه نحو ٨٠ درجة تحت الصفر المئوي، فهناك نهار سرمد، وليل سرمد، ولذا لا يتوقّع

____________________

(١) الفرقان: ٤٧.

(٢) راجع مبادئ العلوم: ص٣٧، وهامش الهيئة والإسلام: ص٦١.

٥٢٩

وجود حياة على سطح هذا الكوكب السيّار (١) .

ونظير عطارد (القمر) في دورته حول الأرض؛ إذ تكمل دورته حول الأرض في مدّة تساوي حول نفسه في ٢٨ يوماً، ويصبح نصف سطح القمر مواجهاً للأرض أبداً، ونصفه الآخر مختفياً عن الأرض أبداً (٢) .

فليس من ناموس الطبيعة أن تختلف دورة كلّ كرة دائرة حول كرة أُخرى عن دورتها حول نفسها، وإنّما هو شيء يتبع مصلحة يراها الصانع تعالى فيما يراه في الخلق والتدبير.

فانظر إلى آثار رحمة الله كيف جعل الظلّ في الكوكب الأرضي متحرّكاً غير ساكن، ولم يجعله سرمداً كما جعله في كوكب عطارد، ذي الليل والنهار السرمدين.

( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ اللّيْلَ سَرْمَداً إِلَى‏ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللّهُ عَلَيْكُمُ النّهَارَ سَرْمَداً إِلَى‏ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ * وَمِن رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللّيْلَ وَالنّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (٣) .

الحمد لله الّذي جعل لنا الأرض مهداً وسلك لنا فيها سبلاً.

* * *

____________________

(١) مبادئ العلوم: ص٣٦.

وهكذا قيل عن الزهرة، فدورتها حول محورها تساوي دورتها حول الشمس في ٢٢٤ يوماً من أيّام الأرض (بصائر جغرافية: ص٢٦١).

(٢) ولمّا كان للقمر دورة ثالثة مع الأرض حول الشمس وفي هذه الدورة تدور حول محورها في ٢٨ يوما يكون نهاره ١٤ يوماً من أيّام الأرض وليله ١٤ يوماً، ومِن ثَمّ فالليل منه قارس البرودة، والنهار منه شديد الحرّ، وعندما تصل الشمس عمودية تبلغ الحرارة فيه إلى درجة الغليان. بصائر جغرافية: ص٢٦٠.

(٣) القصص: ٧١ - ٧٣.

٥٣٠

تسوية البنان

( أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى‏ قَادِرِينَ عَلَى‏ أَن نّسَوّيَ بَنَانَهُ ) (١)

هذا كلام صدر في مقام التحدّي، مشيراً بأنّ هناك معجزة كبرى في تسويته للبَنان وبعثه على صورته الأُولى يكون أكبر من إحياء العظام البالية، الأمر الذي لم يُكشف سرّه إلاّ بعد نزول الآية بأكثر من ألف سنة، حينما عُرف أنّ لكلّ إنسان بصمة خاصّة رُسمت على بنانه، لا يتّفق اثنان في بصمة واحدة، منذ أن خلق الله آدم حتّى التوائم. وهذا سرٌّ غريب في الخليقة أَوّلاً، وفي إشارة القرآن إليه ثانياً، سبحانه وتعالى من عظيم القدرة وعجيب البيان!.

ولكن لماذا خصصّ الله البَنان دون سائر أجزاء البدن؟ وهل البَنان أشدّ تعقيداً من العظام؟

لقد توصّل العلم إلى سرّ البصمة في القرن التاسع عشر، وبيّن أنّ البصمة تتكوّن من خطوط بارزة في بشرة الجلد تجاورها منخفضات وتعلو الخطوط البارزة فتحات المسام العَرَقية، تتمادى هذه الخطوط وتتلوّى، وتتفرّع عنها تغصّنات

____________________

(١) القيامة: ٣ و٤.

٥٣١

وفروع، لتأخذ في النهاية وفي كلّ شخص شكلاً مميّزاً، وقد ثبت أنّه لا يمكن للبصمة أن تتطابق وتتماثل في شخصين في العالم، حتّى في التوائم المتماثلة التي أصلها من بويضة واحدة.

يتمّ تكوّن البَنان في الجنين في الشهر الرابع، وتظلّ ثابتة ومميّزة له طول حياته، ويمكن أن تتقارب بصمتان في الشكل تقارباً، ولكنّهما لا تتطابقان البتة؛ ولذلك فإنّ البصمة تعدّ قاطعاً ومميّزاً لشخصية الإنسان، معمولاً به في كلّ بلاد العالم، ويعتمد عليه القائمون على تحقيق القضايا الجنائية لكشف المجرمين واللصوص (١) .

( وَمِن كُلّ شَيْ‏ءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ) (٢) :

لم يقل من الأحياء، بل من كلّ شيء... فالكهرباء فيها الشحنة السالبة والموجبة. والمغنطيسية فيها الاستقطاب إلى قطبين. وفي الذرّة الإليكترون والبوزيترون، والبروتون والنيوترون، وفي الكيمياء العضوية: الجُزيء اليساري والجُزيء اليميني، ونعرف الآن المادّة والمادّة المضادّة، والثنائية والازدواجية في تركيب الأحياء والجمادات، يكشف لنا العلم أسرارها كلّ يوم (٣) .

ولعلّ اللقاح والتزاوج في النبات أصبح مشهوداً بعد ضرورة اللقاح والتزاوج في الأحياء (الإنسان والحيوان)، قال تعالى: ( وَمِن كُلّ الثّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) (٤) ، والآيات بشأن أزواج النبات كثيرة (٥) .

وظاهرة التزواج واللقاح مفروضة على كلّ موجود، نباتاً كان أم إنساناً، أم ممّا لا يعلمون ( الّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلّهَا مِمّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمّا لاَ

____________________

(١) مع الطب: ص٢٣.

(٢) الذاريات: ٤٩.

(٣) محاولة لفهم عصريّ للقرآن: ص٧٣.

(٤) الرعد: ٣.

(٥) الحجّ: ٥، الشعراء: ٧، لقمان: ١٠، ق: ٧، الرحمن: ٥٢، طه: ٥٣.

٥٣٢

يَعْلَمُونَ ) (١) .

قال سيّد قطب: وهذه حقيقة عجيبة تكشف عن قاعدة الخَلق في هذه الأرض - وربّما في هذا الكون؛ إذ أنّ التعبير لا يُخصّص الأرض - قاعدة الزوجية في الخَلق، وهي ظاهرة في الأحياء. ولكن كلمة (شيء) تشمل غير الأحياء أيضاً.والتعبير يُقرّر أنّ الأشياء كالأحياء مخلوقة على أساس الزوجية.

وحين نتذكّر أنّ هذا النصّ عرفه البشر (المسلمون) منذ أربعة عشر قرناً، وأنّ فكرة عموم الزوجية - حتى في الأحياء ولا سيّما النبات - لم تكن معروفة حينذاك، فضلاً عن عموم الزوجية في كلّ شيء... حين نتذكّر هذا نجد أنّا أمام أمر عجيب عظيم.. وهو يُطلعنا على الحقائق الكونية في هذه الصورة العجيبة المبكّرة كلّ التبكير:

كما أنّ هذا النصّ (القرآني المعجز) يجعلنا نرجّح أنّ البحوث العلمية الحديثة سائرة في طريق الوصول إلى الحقيقة، وهي تكاد تُقرّر أنّ بناء الكون كلّه يرجع إلى الذرّة، وأنّ الذرّة مؤلّفة من زوج من الكهرباء: موجب وسالب! فقد تكون تلك البحوث إذاً على طريق الحقيقة في ضوء هذا النصّ العجيب (٢) .

* * *

وعن أكثر القدامى تفسير الزوجين هنا بالجنسين المتقابلين، كالأرض والسماء، والبرّ والبحر، والليل والنهار، والسهل والجبل، والشمس والقمر، والجنّ والإنس، والنور والظلمة... وما إلى ذلك... وهكذا المعنويّات كالسعادة والشقاء، والخير والشرّ، والهدى والضلال... ونحو ذلك.

سوى ابن زيد، فإنّه فسّره بالذكر والأُنثى، وهو عجيب (٣) .

____________________

(١) يس: ٣٦.

(٢) في ظِلال القرآن: ج٢٧ مجلّد ٧ ص٥٨٧ - ٥٨٨.

(٣) راجع مجمع البيان للطبرسي: ج٩ ص١٦٠.

٥٣٣

قال الرازي - توجيهاً لِما قاله الأقدمون -: والزوجان: إمّا الضدان فإنّ الذكر والأُنثى كالضدّين والزوجان منهما كذلك، وإمّا المتشاكلان فإنّ كلّ شيء له شبيه ونظير وضدّ وندّ، قال المنطقيون: المراد بالشيء الجنس، وأقلّ ما يكون تحت الجنس نوعان، فمن كلّ جنس خلق نوعين من الجوهر، مثلاً المادّي والمجرد، المادّي النامي والجامد، ومن النامي المُدرِك والنبات، ومن المُدرِك الناطق والصامت (١) .

* * *

____________________

(١) التفسير الكبير: ج٢٨ ص٢٢٧.

٥٣٤

العسل

( فِيهِ شِفَاءٌ لِلنّاسِ )

قال تعالى: ( وَأَوْحَى‏ رَبّكَ إِلَى النّحْلِ أَنِ اتّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشّجَرِ وَمِمّا يَعْرِشُونَ * ثُمّ كُلِي مِن كُلّ الثّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنّاسِ ) (١) .

قال الدكتور نزار الدقر: النصوص القرآنية التي وردت في العسل هي أوضح وأرسخ النصوص القديمة على الإطلاق، كما أنّها تُعتبر من أوائل النصوص التي جزمت بالفائدة المطلقة، وبالخصوص العلاجية الثابتة لهذه المادّة القديمة (٢) .

ولأصحاب النظر في الطبّ والعلاج - قديماً وحديثاً - مقالات ضافية بشأن أهمّية العسل وفوائده الكثيرة وأنّه النافع غير الضارّ على الإطلاق؛ نقطف منها ما يلي:

____________________

(١) النحل: ٦٨.

(٢) مع الطبّ في القرآن الكريم: ص١٨٢ نقلاً عن كتاب (العسل فيه شفاء للناس) للدكتور نزار الدقر.

٥٣٥

مكوّنات العسل:

يحوي العسل أكثر من سبعين مادّة مختلفة، فهو:

١ - أهمّ منبع للموادّ السكّرية الطبيعية، حيث اكتُشفت فيه إلى الآن حوالي ١٥ نوعاً من السكاكر، أهمّها: سكّر الفواكه (فركتوز) بنسبة ٤٠% وسكّر العنب (غلوكوز) بنسبة ٣٠%، أمّا سكّر القصب فبنسبة ٤%، وأنّ كيلو غراماً واحداً من العسل يُعطي طاقة تقدّر بـ (٣٢٥٠) حرارية.

٢ - يقف في الصفّ الأَوّل بين الأغذية الكاملة، من حيث احتوائه على بعض الخمائر (الأنزيمات) التي تساعد في عمليات الاستقلاب والهضم، وأهّمها: خميرة الشعير التي تُحوّل النشاء إلى سكّر، والقلابين التي تقلب السكّر العادي إلى سكر عنب وسكر فواكه، والكاتازالا، والبيروكسيداز، والليباز.

٣ - يحوي مجموعة من الفيتامينات، أهمها: فيتامين ب، وب ٢، وب ٣ (أو حمض البانتوثيني)، وب ٥ (أو حمض النياسين)، وب ٦ (أو البيرودكسين)، وفيتامين ث، وآثار من البيوتين، وفيتامين ك، وفيتامين ي، وفيتامين أ.

وهذه الفيتامينات توجد بمقادير غير مرتفعة، ولكنّها مفيدة؛ لأنّ العسل وسط ممتاز لحفظها، أمّا نسبة وجودها فمرتبط بنسبة غبار الطلع الذي تجمعه النحلة، كراتب غذائي لها.

٤ - يحوي العسل أنواعاً من البروتينات والحموض الأمينية، والحموض العضوية، كحمض النحل، ومشتّقات الكلوروفيل: وعلى منشطات حيوية، وعلى روائح عطرية وغيرها.

٥ - الأملاح المعدنية، وأهمّها: أملاح الكلس، والصوديوم، والبوتاسيوم، والمنغنيز، والحديد، والكلور، والفوسفور، والكبريت، واليود.

وتُشكّل هذه الأملاح اثنين بالألف من وزن العسل.

٥٣٦

٦ - يؤكّد الكثير من الباحثين على وجود موادّ مضادّة لنموّ الجراثيم في العسل، كما يُعتقد بوجود هرمون نباتي ونوع من الهرمونات الجنسية (من مشتقّات الاستروجين).

إذاً فالعسل مادّة شديدة التعقيد، تتباين أنواعه قليلاً بتراكيبها باختلاف الزهور التي جُنيت منها.

ولعلّ السرّ في احتوائه على هذه المواد المختلفة - التي لم تُجمع في أيّ مادة غذائية أُخرى على الإطلاق - هو جني النحل رحيق كلّ الأزهار والثمرات، استجابة لنداء خالقها يوم أوحى لها: ( ثُمّ كُلِي مِن كُلّ الثّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ ) .

ميزات العسل:

١ - مقاومته دون تسرّب الفساد إليه إلى سنين عديدة، بل أحقاب متطاولة، بشرط ابتعاده عن فعل الرطوبة به.

٢ - مضادّته للعفونة، وقد أكّد أكثر الباحثين أنّ الجراثيم المُمرضة للإنسان لا يمكن لها أن تعيش في العسل، وأنّ العسل فعلاً مبيدٌ لها.

وسبب ذلك احتواؤه على حمض النحل، وهو من الموادّ المضادّة للعفونة، ولارتفاع تركيز السكاكير التي تصل إلى ٨٠% من تركيب العسل، رغم أنّ الأوساط ذات السكّريّ الخفيف تزيد نشاط الجراثيم، وهكذا التمر الذي يحوي نسبة عالية من السكاكر لا تنمو فيه الجراثيم.

٣ - وقايته لنخر الأسنان، على عكس سائر السكاكر الصناعية التي هي قابلة للتخمّر بوجود العصيات اللبنية، أمّا العسل ففيه قدرة واضحة في الحثّ على نموّ العظام وبزوغ الأسنان وفي التكلّس العظمي والسنّي، وبالتالي يزيد نموّ الطفل ويبعده عن خطر الكساح.

٥٣٧

٤ - يزيد خضاب الدم وعدد الكريات الحمر.

وتُشير الإحصائيات إلى ندرة إصابة النحّالين بداء السرطان بالنسبة إلى أصحاب المهن الأُخرى.

٥ - يسرع التئام الجروح وينظّفها؛ لأنّه يزيد محتوى الجروح من مادة الفلوتاثيون التي تُسرع عملية التعمير، الالتئام النسيجي.

٦ - إنّه علاج جيد لتقرّحات الجلد المزمنة، وخاصّة إذا طُبّق المزيج المؤلّف من ٥/٤ عسل + ٥/١ فازلين.

٧ - علاج جيّد للتقيّحات الجلدية.

٨ - يؤدّي لشفاء سريع للجروح الواهنة.

٩ - ضماد معقّم لعمليات تحتمل التلوّث بالجراثيم.

قال الدكتور بولمان - الجرّاح النسائي -: وعندي كلّ المعطيات الايجابيّة كي أُفكر بهذه المادّة البسيطة التي تجيب على كلّ الأسئلة حول مشاكل الجروح والقروح المتقيّحة.. فهي مادّة غير مخرّشة، وغير سامّة، وعقيمة بذاتها، مضادّة للجراثيم، مغذّية للجلد، رخيصة، سهلة التحضير، سهلة الاستعمال.. وفوق كلّ ذلك فهي مادة جداً فعّالة (١) .

فسبحانه عزّ من قائل: ( فِيهِ شفاءٌ للناس ) !!

١٠ - يساعد على الهضم بفعّالية الأنزيمات التي يحويها، ويُخفض الحموضة المعدية الزائدة، وفعّال في معالجة استطلاق البطن (الإسهال)، ويمنع حدوث الإمساك أيضاً، كما يُفيد في معظم أمراض الكبد والصفراء، وفي السلّ والسعال، والتهاب القصبات، ومعالجة الربو وذات الرئة، والتهاب حواف الأجفان، والقرنية، وحروق العين، والنزلات الشعبية في الأنف، والتهاب اللوزات والبلعوم المزمن.

____________________

(١) مع الطبّ في القرآن: ١٩١.

٥٣٨

وفوق ذلك فإنّ العسل يزيد إرواء العضلة القلبية ويمدّها بالطاقة بشكل ممتاز، وغير ذلك كثير، يطول شرحها.

فسبحانه من عظيم، حيث وكلّ حشرة صغيرة لإعداد هكذا مركّب عجيب كثير الخاصّية كبير الفائدة خطير الشأن.

وتمضي الأبحاث بغزارة على العسل، والكلّ يشعر أنّه ما زال في هذا العجين الغريب، الكثير من الأسرار ( وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً ) (١) .

* * *

____________________

(١) الإسراء: ٨٥.

٥٣٩

دقائق هي روائع في التعبير

جاء في القرآن كثير من دقائق تعبير قد لا يلمس القارئ أثناء تلاوته ما يلفت نظره إلاّ إذا تدبّرها بإمعان، وتوقّف لديها متسائلاً: هل وراءها نكتة خافية؟ أم هناك سر مستتر عميق؟

فإذا ما لجّ فيها وتعمّق النظر فيها وجدها ظرائف ولطائف تُشرف الباحث على خضم بحر متلاطم وفيض بحر موّاج.. وإليك طرفاً منها:

( وَازْدَادُوا تِسْعاً ) :

قال تعالى: ( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاَثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً ) (١) هذا الذي نقرأُه عن رقدة أصحاب الكهف، كانت ثلاثمئة سنة كاملة حسب التقويم الشمسي، الذي كان العالم المتحضّر، من عدا الأُمّة العربية، حيث لم يكن لها علم بحركة الفَلك الشمسي، وكان تقويهما قائماً على دورة الفلك القمري، وهي تنقص عن دورة الشمس سنوياً بأحد عشر يوماً وربع يوم تقريباً (٢) ، فكان لابدّ أن

____________________

(١) الكهف: ٢٥.

(٢) أيّام السنة القمرية تتراوح بين ٣٥٣ و٣٥٤ و٣٥٥ يوماً. بينما أيّام السنة الشمسية هي: ٣٦٥ =

٥٤٠

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579