تلخيص التمهيد الجزء ٢

تلخيص التمهيد10%

تلخيص التمهيد مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: علوم القرآن
الصفحات: 579

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 579 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 103655 / تحميل: 10532
الحجم الحجم الحجم
تلخيص التمهيد

تلخيص التمهيد الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

تلخيص التمهيد

تأليف:

محمّد هادي معرفة

الجزء الثّاني

مؤسّسة النّشر الإسلامي

التّابعة لجماعة المدرّسين بقم المقدّسة

١

تلخيص التمهيد

(ج٢)

٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والسلام على عباده الذين المصطفى محمّد وآله الطاهرين.

وبعد، فإنّ مسألة (الإعجاز القرآني) كانت ولا تزال تُشكّل الأهمّ من مسائل أصول العقيدة التي بُنيت عليها رواسيها ودارت عليها رحى الإسلام، فكان جديراً بمَن حاول التحقيق من مباني الشريعة، والبحث عن أُسسها الأُولى القويمة، أن يدرس من جوانب المسألة ويُمعن النظر فيها إمعاناً، بعد أن لم تكن المسألة تقليدية ولا تُغني المتابعة العمياء من غير معرفة أو علم يقين.

أمّا عرب الجاهلية الأُولى فقد كانت تُدرك جانب هذا الإعجاز البيانيّ، بحسّها البدائيّ المرهف وذوقها الفطريّ السليم في سهولة ويسر؛ إذ كان القرآن نزل بلغتهم وعلى أساليب كلامهم، سِوى كونه في مرتبة عُليا وعلى درجة أرقى، كانوا يُدركونه فهماً ولا يكاد يبلغونه في مِثله أداءً وتعبيراً.

كان عصر نزول القرآن أزهى عصور البيان العربي، وقد بلغت العرب من العناية بلغتها والإشادة بمبانيها، مَبلغ الكمال بما لم تبلغه في أيّ عصر من العصور.

كانت لهم أندية وأسواق (١) يجتمع إليها فصحاؤهم، خطباءً وشعراءً، يعرضون

____________________

(١) كانت على مقربة الطائف سوق تجتمع إليها العرب في الأشهر الحرم - حيث الأمان المؤقّت - فينصبون خيامهم بين نخيله في مكان يُسمى (عكاظ) وكانت العرب تقصدها في طريقها إلى الحجّ، فيجتمعون منه في مكان يقال له (الابتداء) وقد اتخذتها العرق سوقاً بعد عام الفيل بخمس عشرة سنة، أي قبل مبعث النبي (صلّى الله عليه وآله) بخمس وعشرين عاماً (سنة ٥٤٠ =

٣

فيها أَنفس بضائعهم وأجود صنائعهم، أَلا وهي بضاعة الكلام وصناعة الشعر والبيان، كانوا يتبارون فيها، وينقدون ويتفاخرون، ويتنافسون فيها أشدّ التنافس.

حتى إذا ظهرت فيهم الدعوة ونزل القرآن فما أن تُليت عليهم آياته إلاّ والأسواق قد تعطّلت والأندية قد انفضّت، وقد خَلت الديار إلاّ من رنّة صوت القرآن، وقد زحفهم ببراعته وهزمهم بصولته، فلم يستطيعوا مباراته ولم يقدروا على مجاراته، ففضّلوا الفِرار على القَرار، واستغشوا على رؤوسهم ثوب العار، ذلك على أنّه لم يسدّ عليهم باب المعارضة، ولم يُمانعهم التنافس فيه، صارخاً ومتحدّياً لهم أفراداً وجماعات، لو يأتوا بحديث مِثله!

وقد عرض عليهم هذا التحدّي الصارخ في جُرأة خارقة وصراحة بالغة، مُكرّراً عليهم ومتهكّماً بهم، أنّهم أعجز من أن تقوم قائمتهم تجاه صوت القرآن المدوّي المدهش، وقد تنازل معهم إلى الأخفّ فالأخفّ؛ تبييناً لموقف عجزهم

____________________

= للميلاد) وكانت وفود العرب تتوافد إليها من كل صوب، وزادت قريش بواعث الاجتماع إليها أنّهم جعلوها مَسرحاً للأدب والشعر، تتسابق فيه القبائل لإظهار نوابغها من شعراء وخطباء، فيتناشدون ويتفاخرون وكانوا يعرضون فيها نُخَب قصائدهم على نَقَدة القريض والكلام، ويكون لذلك احتفال حاشد يشهده جماهير العرب، فتشيع قصائدهم ويترنّم بها الرُكبان في كلّ صقع. وبقيت سوق عكاظ بعد الإسلام مَعرضاً يتبادل فيه السلع، حتّى نهبها الخوارج الحروريّة حين خرجوا بمكّة مع المختار بن عوف سنة (١٢٩ هـ).

وكانت لهم أسواق أُخر تبلغ العشرة كانت تُقام في فواصل معيّنة من السنة في أمكنة متعدّدة، وكانت تحت خفارات مُنتظمة في حمايات معيّنة، ذَكر تفصيلها اليعقوبي في تاريخه: ج١، ص٢٣٩.

وكانت لهم أيضاً مجالس يجتمعون فيها لمناشدة الأشعار ومبادلة الأخبار والبحث عن بعض شؤونهم العامة، وكانوا يسمّون تلك المجالس بـ (الأندية) ومنها نادي قريش ودار الندوة بجوار الكعبة، وكان لكلّ بيت من بيوت الأشراف فِناء بين يديه للاجتماع، ولكلّ قوم مجتمع عامّ في المضارب، على أنّهم كانوا حيثما اجتمعوا تناشدوا وتفاخروا وتبادلوا سلع الكلام وصناعات القريض والبيان، (انظر تاريخ الآداب العربية: ج١، ص١٩٥، وتاريخ التمدّن الإسلامي: ج١، ص٣٧ كلاهما لجرجي زيدان، ودائرة المعارف لفريد وجدي: ج٦، ص٥٣٥.

٤

وضعف مقدرتهم:

أوّلاً: ( فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ ) (١) ، ثانياً ( فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ ) (٢) ، ثالثاً : ( فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ ) (٣) ، وأخيراً أَجهز عليهم بحُكمه الباتّ: ( فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ) (٤) فقد أَنذرهم بالنار وساوى بينهم وبين الأحجار.

هذا، ولم يكن العرب يومذاك أهل كَسل ومَلل في الكلام والخِصام، وقد تربّوا في أحضان الخصومة وكانوا أهل لَدَد وجَدل، كما وصفهم تعالى: ( وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً ) (٥) ، وقال: ( مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ) (٦) ، فلو كانت فيهم قدرة على المعارضة أو لسان لم يخرسه العجز والعيّ لَما صَمتوا على ذل العار أو سكتوا على شَنار الصَغار، وقد أصاب منهم موضع عزّهم ومحلّ فَخارهم، وهزمهم بذات سلاحهم، ولم تكن الهزيمة الشنعاء إلاّ؛ لأنّهم وجدوا من أنفسهم ضآلة وحقارة، تجاه عظمة القرآن وهيمنته وكبريائه، ( فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً ) (٧) (٨) .

هذا الوليد بن المغيرة المخزومي - كبير قريش ورائدهم وقائدهم - استأمروه

____________________

(١) الطور: ٣٤.

(٢) هود: ١٣.

(٣) يونس: ٣٨.

(٤) البقرة: ٢٤.

(٥) مريم: ٩٧.

(٦) الزخرف: ٥٨.

(٧) الكهف: ٩٧.

(٨) إنّهم حاولوا معارضته ومقابلة فصيح كلامه، غير أنّ الحظّ لم يساعدهم ولم يرافقهم التوفيق، فقد أعوزتهم الكفاءة وتقاعست عنه هِمَمهم لمّا رأوا شموخ طوده الرفيع، قال ابن رشيق في العمدة: ج١، ص٢١١، ولمّا أرادت قريش معارضة القرآن فصحاؤهم الذين تعاطوا ذلك، على لُباب البُرّ وسُلاف الخمر ولحوم الظأن والخلوة والى أن بلغوا مجهودهم، فلمّا سمعوا قول الله عزّ وجلّ: ( وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) هود: ٤٤، يئسوا ممّا طَمعوا فيه، وعَلموا أنّه ليس بكلام مخلوق، (وراجع مجمع البيان: ج٥، ص١٤٥).

٥

بشأن هذا الكلام الذي جاء به نبيّ الإسلام (صلّى الله عليه وآله)، فلم يستطع سِوى الاعتراف بأنّه فوق مقدور البشر: فوالله ما هو بشعر ولا بسحر ولا بهذي جنون، وإنّ قوله من كلام الله... (١) ، وهو القائل: ووالله إنّ لقوله الذي يقول لَحلاوة، وإنَّ عليه لطلاوة، وإنّه لمَثمر أعلاه، مُغدق أسفله، وإنّه ليعلو وما يُعلى (٢) ، وهذا إنذار من رأس الكفر بأنّ الغَلَب سوف يكون مع القرآن.

وقد حاولوا الممانعة دون صيته والحؤول دون شياعه، وقالوا: ( لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ) (٣) . وكانوا يستغشون ثيابهم ويضعون أصابعهم في آذانهم خشية سماعه، أو يَحشون مسامع الوفود بالخُرق والكراسف؛ لئلاّ يستمعوا الى حديثه، لماذا؟ إنّهم أدركوا هيمنته ولمسوا من واقعه الناصع، فهابوه وخافوا سطوته، فقد أعجزتهم مقابلته بالكلام وألجأتهم أخيراً إلى ركوب الصعب من مطايا الحتوف بمقارنة الأسنّة والسيوف، لكن ( وَيُحِقُّ اللّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ) (٤) .

والآية الأغرب، والمعجزة الأعجب، ذلك حُكمه الباتّ على أنهم لن يأتوا بمثله ( وَلَنْ تَفْعَلُوا ) أبداً، إنّه إعجاز في صراحة وجرأة يفوق سائر الإعجاز، وإخبار عن غيب محتّم، لا يصدر إلاّ عن علاّم الغيوب، ولا يجرأ على النُطق به أحد من البشر مهما أُوتي من علم وقدرة وهيمنة.

بل وحِكمة العامّ الشامل لكافّة طبقات الأُمم عِبر الخلود، لا يستطيعون جميعاً أن يأتوا بمثله ( وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) (٥) .

وهذا رَكب البشريّة - وفيهم الجُفاة والعتاة ممّن مارسوا لغة الضاد - قد اُخرِسوا جميعاً عن معارضته وإمكان مقابلته، وليس عن رحمة ولين عريكة،

____________________

(١) تفسير الطبري: ج٢٩، ص٩٨.

(٢) مستدرك الحاكم: ج٢، ص٥٠.

(٣) فصّلت: ٢٦.

(٤) يونس: ٨٢.

(٥) الإسراء: ٨٨.

٦

وإنّما هو عجز وعيّ وضَعف، صار دليلاً على إعجازه وبرهاناً عن خلوده.

وقد بحث العلماء قديماً وفي العصر القريب، عن سرّ هذا الإعجاز وعن سبب خلوده، وحاولوا قُصارى جهدهم لكشف النقاب عن وجهه ولمس أعتابه، فكانت أبحاثاً جَللاً وآراءً ونظرات قيّمة، سجّلتها صحائف التاريخ في سطور مضيئة وكلمات مشرقة، كان تراثنا الثمين في هذا المضمار ورصيدنا الوفير في هذا العرض، أحسن الله جزاءهم، ونحن إذ نسير على منهجهم لا نألو جُهداً في سَبر أغواره والتحقيق من مبانيه، جَرياً مع التطوّر في الأفكار والأنظار، عساه أن يكون خدمةً صالحةً لمباني الدين القويم والترويج من شريعة سيّد المرسلين، عليه وعلى آله الأطيبين صلوات ربّ العالمين.

قم

محمّد هادي معرفة

غرة ربيع الأغر ١٤٠٨هـ

٧

٨

المدخل

إلى دراسة الإعجاز القرآني

تمهيدات أصولية

قبل الورود على دلائل الإعجاز

- الإعجاز القرآني.

- سرّ الإعجاز.

- آراء ونظرات عن إعجاز القرآن.

الإعجاز في دراسات السابقين.

الإعجاز في دراسات اللاحقين.

- حقيقة القول بالصرفة.

- شهادات وإفادات.

- جذبات وجذوات.

- قرعات وقمعات.

- محاججات ومخاصمات.

- مفاخرات ومساجلات.

- سخافات وخرافات.

- محاكاة وتقاليد صبيانية.

- مصطنعات وتلفيقات هزيلة.

- مقارنة عابرة.

٩

١٠

الإعجاز القرآني

الإعجاز في مفهومه:

الإعجاز: مصدر مزيد فيه من (عجز) إذا لم يستطع أمراً، ضدّ (قدر) إذا تمكّن منه، يقال: أَعجزه الأمر، إذا حاول القيام به فلم تسعه قدرته، وأعجزتُ فلاناً: إذا وجدته عاجزاً أو جعلته عاجزاً.

والمُعجزة - في مصطلحهم - تُطلق على كلّ أمر خارق للعادة، إذا قُرن بالتحدّي وسلم عن المعارضة، يُظهره الله على يد أنبيائه؛ ليكون دليلاً على صدق رسالتهم (١) .

____________________

(١) الإعجاز ضرورة دفاعية قبل أن تكون ضرورة دعائية، إنّ رسالة الأنبياء على وضح من الحقّ الصريح، ولا حاجة إلى إقامة برهان ( لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ) ، ( وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ) ، ( ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ ) ، ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ ) ، ( وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ ) ، ( وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا ) ، نعم، ( وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ) ، ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ) ، ومِن ثَمّ وقفوا في سبيل الدعوة إمّا معارضةً بالوساوس والدسائس وعرقلة الطريق فدعت الضرورة إلى الدليل المعجز استيقاناً ودفعاً للشبهة، أو مكافحةً بالسيف فدعت الحاجة إلى القتال والجهاد.

١١

وهي تتنوّع حسب تنوّع الأُمَم المرسل إليهم في المواهب والمعطيات، فتتناسب مع مستوى رقيّهم في مدارج الكمال، فمِن غليظ شديد إلى رقيق مرهف، ومن قريب مشهود إلى دقيق بعيد الآفاق، وهكذا كلّما تقادمت الأُمم في الثقافة والحضارة فإنّ المعاجز المعروضة عليهم من قِبَل الأنبياء (عليهم السلام) ترقّ وتلطف، وكانت آخر المعاجز رقّةً ولطفاً هي أرقاها نمطاً وأعلاها أُسلوباً، أَلا وهي معجزة الإسلام الخالدة، عُرضت على البشرية جمعاء مع الأبد، مهما ارتقت وتصاعدت في آفاق الكمال، الأمر الذي يتناسب مع خلود شريعة الإسلام.

ولقد صَعُب على العرب - يومذاك وهم على البداوة الأُولى - تحمّل عبء القرآن الثقيل، فلم يطيقوه؛ ومِن ثَمّ تمنّوا لو يبدّل إلى قرآن غير هذا، ومعجزة أُخرى لا تكون من قبيل الكلام: ( قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ ) (١) ، إنّها لم تكن معجزةً للعرب فقط، وإنّما هي معجزة للبشرية عِبر الخلود، لكن أنّى لأُمّة جهلاء أن تلمس تلك الحقيقة وأن تُدرك تلك الواقعيّة سوى أنّها اقترحت عن سفه: أن يُفجّر لهم من الأرض ينبوعاً، أو تكون له جَنّة من نخيل وعنب ويُفجّر الأنهار خلالها تفجيراً، أو يسقط السماء عليهم كِسفاً، أو يأتي بالله والملائكة قبيلاً، أو يكون له بيت من زخرف، أو يرقى في السماء، ولا يؤمنوا لرقيّه حتى ينزل عليهم كتاباً يقرأونه.

وقد عجب النبيّ (صلّى الله عليه وآله) من مقترحهم ذلك التافه الساقط، ممّا يتناسب ومستواهم الجاهلي، ومِن ثَمّ رفض اقتراحهم ذاك ( قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً ) (٢) . أي ليس هذا من شأنكم وإنّما هي حكمة بالغة يعلمها الحكيم الخبير.

قال الراغب الأصفهاني: المعجزات التي أتى بها الأنبياء (عليهم السلام) ضربان: حسّي

____________________

(١) يونس: ١٥.

(٢) الإسراء: ٩٣.

١٢

وعقلي.

فالحسّي ما يُدرك بالبصر، كناقة صالح، وطوفان نوح، ونار إبراهيم، وعصا موسى (عليهم السلام).

والعقلي: ما يُدرك بالبصيرة، كالإخبار عن الغيب تعريضاً وتصريحاً، والإتيان بحقائق العلوم التي حصلت عن غير تعلّم.

فأمّا الحسّي: فيشترك في إدراكه العامّة والخاصة، وهو أَوقع عند طبقات العامّة، وآخذ بمجامع قلوبهم، وأسرع لإدراكهم، إلاّ أنّه لا يَكاد يُفرِّق بين ما يكون معجزة في الحقيقة، وبين ما يكون كَهانة أو شعبذة أو سحراً، أو سبباً اتفاقياً، أو مواطأة، أو احتيالاً هندسياً، أو تمويهاً وافتعالاً، إلاّ ذو سعة في العلوم التي يعرف بها هذه الأشياء.

وأَمّا العقلي: فيختص بإدراكه كَمَلَةُ الخواص من ذوي العقول الراجحة، والأفهام الثاقبة، والرويّة المتناهية، الذين يُغنيهم إدراك الحق.

وجعل تعالى أكثر معجزات بني إسرائيل حسّياً؛ لبَلادتهم وقلّة بصيرتهم، وأكثر معجزات هذه الأُمّة عقلياً؛ لذكائهم وكمال أفهامهم التي صاروا بها كالأنبياء، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (كادت أُمتي أن تكون أنبياء) (١) .

ولأنّ هذه الشريعة لمّا كانت باقيةً على وجه الدهر غير معرّضة للنسخ وكانت العقليات باقية غير مُتبدّلة جعل أكثر معجزاتها مثلها باقية، وما أتى به النبي (صلّى الله عليه وآله) من معجزاته الحسّية، كتسبيح الحصا في يده، ومكالمة الذئب له، ومجيء الشجرة إليه، فقد حواها وأحصاها أصحاب الحديث.

وأمّا العقليات: فمَن تفكّر فيما أورده (عليه السلام) من الحِكم التي قَصُرت عن بعضها أفهام حكماء الأُمَم بأَوجز عبارة اطّلع على أشياء عجيبة.

____________________

(١) مسند أحمد: ج١، ص ٢٩٦.

١٣

وممّا خصه الله تعالى به من المعجزات (القرآن) وهو آية حسّية عقلية صامتة ناطقة باقية على الدهر مبثوثة في الأرض، ولذلك قال تعالى: ( وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ ) (١) ودعاهم ليلاً ونهاراً مع كونهم أُولي بَسطة في البيان إلى معارضته، بنحو قوله: ( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ ) (٢) وفي موضع آخر: ( وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) (٣) وقال: ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) (٤) .

فجعل عجزهم علماً للرسالة، فلو قدروا ما أقصروا، إذ قد بذلوا أرواحهم في إطفاء نوره وتوهين أمره، فلمّا رأيناهم تارةً يقولون: ( لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ ) (٥) وتارةً يقولون ( لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا ) (٦) ، وتارة يصفونه بأنّه ( أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ) (٧) وتارةً يقولون ( لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ) (٨) وتارةً يقولون: ( ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ ) (٩) كلّ ذلك عجزاً عن الإتيان بمثله، عَلِمنا قصورهم عنه، ومحال أن يُقال: إنه عورض فلم يُنقل، فالنفوس مهتزّة لنقل ما دقّ وجلّ، وقد رأينا كتباً كثيرة صُنّفت في الطعن على الإسلام قد نُقلت وتُدوِّلت (١٠) .

* * *

____________________

(١) العنكبوت: ٥٠ و٥١.

(٢) البقرة: ٢٣.

(٣) يونس: ٣٨.

(٤) الإسراء: ٨٨.

(٥) فصّلت: ٢٦.

(٦) الأنفال: ٣١.

(٧) النحل: ٢٤.

(٨) الفرقان: ٣٢.

(٩) يونس: ١٥.

(١٠) عن مقدّمته على التفسير: ص١٠٢ - ١٠٤.

١٤

ويمتاز القرآن على سائر المعاجز بأنّه يضمّ - إلى جانب كونه معجزاً - جانب كونه كتاب تشريع، فقد قُرن بإعجاز ووُحدّ بينهما، فكانت دعوة يرافقها شهادة من ذاتها، دلّ على ذاته بذاته.

قال العلاّمة ابن خلدون: اعلم أنّ أعظم المعجزات وأشرفها وأوضحها دلالةً القرآن الكريم المُنزل على نبيّنا محمّد (صلّى الله عليه وآله)، فإنّ الخوارق في الغالب تقع مغايرة للوحي الذي يتلقّاه النبيّ ويأتي بالمعجزة شاهدةً بصدقه، والقرآن هو بنفسه الوحي المدّعي، وهو الخارق المعجز، فشاهده في عينه ولا يفتقر إلى دليل مغاير له كسائر المعجزات مع الوحي، فهو أوضح دلالة؛ لاتّحاد الدليل والمدلول فيه.

قال: وهذا معنى قوله (صلّى الله عليه وآله): (ما مَن نبيّ من الأنبياء إلاّ وأُوتي من الآيات ما مِثله آمن عليه البشر، وإنّما كان الذي أُوتيته وحياً أُوحي إليّ، فأنا أرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة) يُشير إلى أن المعجزة متى كانت بهذه المثابة في الوضوح وقوّة الدلالة - وهو كونها نفس الوحي - كان الصدق لها أكثر لوضوحها، فكثر المصدّق المؤمن وهو التابع والأُمّة (١) .

التحدّي في خطوات:

لقد تحدّى القرآن عامّة العرب، مذ نشأ بين ظهرانيهم، وهم لمسوه بأناملهم فوجدوه صعباً على سهولته وممتنعاً على يُسره، فحاولوا معارضته ولكن لا بالكلام لعجزهم عنه، بل بمقارنة السيوف وبذل الأموال والنفوس، دليلاً على فشلهم عن مقابلته بالبيان.

وربّما كانوا بادئ ذي بدء استقلّوا مِن شأنه، حيث قالوا: ( لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ) (٢) . وقالوا: ( إِنْ هَذَا إِلاّ قَوْلُ الْبَشَرِ ) (٣) . وقالوا:

____________________

(١) المقدّمة السادسة: ص٩٥.

(٢) الأنفال: ٣١.

(٣) المدّثر: ٢٥.

١٥

( إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ) (١) ، وقالوا: ( مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ) (٢) ، إلى أمثالها من تعابير تنم عن سخف أوهامهم.

لكن سُرعان ما تراجعت العرب على أعقابها، فانقلبوا صاغرين، وقد ملكتهم روعة هذا الكلام وطغت عليهم سطوته، متهكّماً بموقفهم هذا الفاشل، ومتحدّياً في مواضع: ( أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ ) (٣) ، وحدّد لهم لو يأتوا بعشر سور مثله مفتريات فيما كانوا يزعمون ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ ) (٤) .

وتصاغراً من شأنهم تنازل أن لو استطاعوا أن يأتوا بسورة واحدة من مثله: ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ) (٥) .

وأخيراً حكم عليهم حكمه الباتّ ( فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ ) (٦) أن ليس باستطاعتهم ذلك مهما حاولوه وأعدّوا له من حولٍ وقوّةٍ؛ لأنّه كلام يفوق كلام البشر كافّة.

والآن وقد حان إعلان التحّدي بصورته العامّة، متوجّهاً به إلى البشرية جمعاء، تحديّاً مستمرّاً عِبر الأجيال: ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) (٧) .

* * *

____________________

(١) النّحل: ١٠٣.

(٢) الأنعام: ٩١.

(٣) الطور: ٣٣ و٣٤.

(٤) هود: ١٣ و١٤.

(٥) يونس: ٣٨ و٣٩.

(٦) البقرة: ٢٤.

(٧) الإسراء: ٨٨.

١٦

وهل وقع التحدّي بجميع وجوه الإعجاز، أم كان يخصّ جانب فصاحته وبلاغته وبديع نَظمه وعجيب أُسلوبه فحسب؟

ولعلّه يختلف حسب اختلاف الخطاب، فحيث كان التحدّي متوجّهاً إلى العرب خاصّة، ولا سيّما ذلك العهد الذي كان مهنة العرب فيه خاصّة بجانب البيان وطلاقة اللسان، فلا جَرم كان التحدّي حينذاك أيضاً خاصّاً بهذا الجانب في ظاهر الخطاب.

أمّا وبعد أن توجّه النداء العامّ إلى كافة البشرية على الإطلاق فإنّه لابدّ أن يقع التحدّي بمجموعة وجوه الإعجاز من حيث المجموع، حيث اختلاف الاستعدادات والقابليّات، والقرآن معجزة الإسلام لجميع الأدوار وعامّة الأجيال ولمختلف طبقات الناس، في الفنون والمعارف، والعلوم والثقافات.

التحدّي في شموله:

وهذا التحدّي في عمومه يشمل كلّ الأُمم وكلّ أدوار التاريخ، سواء العرب وغيرهم، وسواء مَن كان في عهد الرسالة أم في عهود متأخّرة حتى الأبد، اللفظ عامّ والخطاب شامل (١) ؛ ولأنّ التحدّي لم يكن في تعبيره اللفظي فقط ليخصّ لغة العرب، وإنّما هو بمجموعه من كيفيّة الأداء والبيان والمحتوي جميعاً، كما أنّه لم يخصّ جانب فصاحته فحسب، ليكون مقصوراً على العهد الأَوّل، حيث العرب في ازدهار الفصاحة والأدب، على أنّ الفصاحة والبلاغة لم تختصّ بلغة دون أُخرى ولا بأُمّة دون غيرها.

لكن هناك من حاول اختصاص التحدّي بالعهد الأَوّل وإن كان الإعجاز باقياً

____________________

(١) وبتعبير اصطلاحي أصولي أنّ هذا الخطاب يضمّ إلى جانب عمومه الأفرادي إطلاقاً أحوالياً وإطلاقاً زمانياً معاً، إذاً فللخطاب شمول من النواحي الثلاث: الأفراد الموجودين والأقوام الذين يأتون من بعد وأيّاً كانت حالتهم وعلى أيّ صفةٍ كانوا.

١٧

مع الخلود زعماً بأنّ عجز ذلك الدور يكفي دليلاً على كونه مُعجزاً أبداً، هكذا زعمت الكاتبة بنت الشاطئ قالت: مناط التحدّي هو عجز بُلغاء العرب في عصر المبعث، وأمّا حجّة إعجازه فلا تخصّ عصراً دون عصر، وتعمّ العرب والعجم، وكان عجز البُلغاء من العصر الأَوّل، وهم أصل الفصاحة برهاناً فاصلاً في قضية التحدّي... (١) .

قلت: ولعلّها في ذهابها هذا المذهب خَشيت أن لو قلنا بأنّ التحدّي قائم ولا يزال، أن سوف ينبري نائرة الكفر والإلحاد، مِمَّن لا يقلّ عددهم في الناطقين بالضاد، فيأتي بحديث مِثله، وبذلك ينقض أكبر دعامة من دعائم الإسلام!

لكنّها فلتطمئن أنّ هذا لن يقع ولن يكون؛ لأنّ القرآن وُضع على أُسلوب لا يدانيه كلام بشر البتة، ولن يتمكن أحد أن يجاريه لا تعبيراً وأداءً ولا سبكاً وأُسلوباً، مادام الإعجاز قائماً بمجموعة اللفظ والمعنى، رِفعةً وشموخاً في المحتوى، وجمالاً وبهاءً في اللفظ والتعبير، فأيّ متكلم أو ناطق يمكنه الإتيان بهكذا مطالب رفيعة، لم تسبق لها سابقة في البشرية وفي هكذا قالب جميل! اللّهمّ إلاّ أن يفضح نفسه.

وفي التاريخ عِبَرٌ تؤثر عن أُناس حاولوا معارضة القرآن، لكنّهم أَتوا بكلام لا يشبه القرآن ولا يشبه كلام أنفسهم، بل نزلوا إلى ضَربٍ من السخف والتفاهة، بادٍ عاره، باقٍ وشناره، فمَن حدّثته نفسه أن يعيد هذه التجربة فلينظر في تلك العبر، ومَن لم يستحِ فليصنع ما شاء.

وتلك شهادات من أهل صناعة الأدب، اعترفوا - عِبر العصور - بأنّ القرآن فذّ في أُسلوبه لا يمكن لأحد من الناس أن يقاربه فضلاً عن أن يماثله.

قال الدكتور عبد الله دراز: مَن كانت عنده شبهة، زاعماً أنّ في الناس مَن يقدر

____________________

(١) الإعجاز البياني: ص٦٥ - ٦٨.

١٨

على الإتيان بمِثله، فليرجع إلى أُدباء عصره، وليسألهم: هل يقدر أحد منهم على أن يأتي بمِثله؟ فإن قالوا: نعم، لو نشاء لقلنا مثل هذا، فليقل لهم: هاتوا برهانكم. وإن قالوا: لا طاقة لنا به، فليقل لهم: أيّ شيء أكبر شهادة على الإعجاز من الشهادة على العجز، ثُمّ ليرجع إلى التاريخ فليسأله ما بال القرون الأُولى؟ يُنبئك؟ التاريخ أنّ أحداً لم يرفع رأسه أمام القرآن الكريم، وأنّ بضعة النفر الذين انغضوا رؤوسهم إليه باؤوا بالخزي والهوان، وسحب الدهر على آثارهم ذيل النسيان (١) .

التحدّي بفضيلة الكلام:

قد يقول قائل: إنّ صناعة البيان ليست في الناس بدرجة واحدة وهي تختلف حسب اختلاف القرائح والمعطيات، ولكلّ إنسان مواهبه ومعطياته، وكلّ متكلّم أو كاتب إنّما يضع في بيانه قطعة من عقله ومواهبه، ومِن ثَمّ يختلف الناس في طرق التعبير والأداء، ولا يمكن أن يَتشابه اثنان في منطقهما وفي تعبيرهما، اللّهمّ إلاّ إذا كان عن تقليد باهت.

إذاً فكيف جاز تحدّي الناس لو يأتوا بحديث في مثل القرآن، وهم عاجزون أنْ يأتوا بمِثل كلام بعضهم؟!

لكن غير خفي أنّ لشرف الكلام وضِعته مقاييس، بها يُعرف ارتفاع شأن الكلام وانحطاطه وقد فصّلها علماء البيان، وبها تتفاوت درجات الكلام ويقع بها التفاضل بين أنحائه من رفيع أو وضيع، نعم، وإن كانت القرائح والمعطيات هي المادّة الأُولى لهذا التفاوت، ولا نماري أن يكون كلام كلّ متكلّم هي وليدة فطرته وحصيلة مواهبه ومعطياته، بحيث لا يمكن مشاركة أيّ أحد فيما تُمليه عليه ذهنيّته الخاصّة، لكن ذلك لا يُوهن حجّتنا في التحدّي بالقرآن، لأنّا لا نطالبهم أن يأتوا بمِثل صورته الكلامية، كلاّ، وإنّما نطلب كلاماً - أيّاً كان نمطه وأُسلوبه -

____________________

(١) النبأ العظيم: ص٧٥.

١٩

بحيث إذا قيس مع القرآن بمقياس الفضيلة البيانيّة حاذاه أو قاربه، على شاكلة ما يُقاس كلمات البلغاء مع بعض، وهذا هو القدر الذي تنافس فيه الأُدباء، ويتماثلون أو يتقاربون، لا شيء سواه.

وقد أشار السكّاكي إلى طرف من تلك المقاييس التي هي المعيار لارتفاع شأن الكلام وانحطاطه، قال - بعد أن ذكر أنّ مقامات الكلام متفاوتة، ولكلّ كلمة مع صاحبتها مقام، ولكلّ حدّ ينتهي إليه كلام مقام -: وارتفاع شأن الكلام في باب الحسن والقبول وانحطاطه في ذلك بحسب مصادفة الكلام لما يليق به.

قال: فحُسن الكلام تحلّيه بشيءٍ من هذه المناسبات والاعتبارات بحسب المقتضى، ضعفاً وقوّةً على وجه من الوجوه (التي يفصّلها في فنّي المعاني والبيان).

ويقول بعد ذلك: وإذ قد تقرّر أنّ مدار حسن الكلام وقبحه على انطباق تركيبه على مقتضى الحال والاعتبار المناسب وعلى لا انطباقه وجب عليك - أيّها الحريص على ازدياد فضلك، المنتصب لاقتداح زناد عقلك، المتفحّص عن تفاصيل المزايا التي بها يقع التفاضل، وينعقد بين البلغاء في شأنها التسابق والتناضل - أن ترجع إلى فكرك الصائب، وذهنك الثاقب، وخاطرك اليقظان، وانتباهك العجيب الشأن، ناظراً بنور عقلك، وعين بصيرتك، في التصفّح لمقتضيات الأحوال، في إيراد المسند إليه على كيفيات مختلفة، وصور متنافية، حتى يتأتّى بروزه عندك لكلّ منزلة في معرضها، فهو الرِهان الذي يُجرّب به الجياد، والنضال الذي يُعرف به الأيدي الشداد، فتعرف أيّما حال يقتضي كذا... وأيّما حال يقتضي خلافه... إلخ (١) .

وعليه فتزداد قوّة الكلام وصلابته وكذا روعة البيان وصولته كلّما ازدادت العناية بجوانبه اللفظية والمعنوية من الاعتبارات المناسبة، ورعاية مقتضيات الأحوال والأوضاع، وملاحظة مستدعيات المقامات المتفاوتة، على ما فصّله القوم، وقلّ مَن يتوفّق لذلك بالنحو الأَتمّ أو الأفضل، بل الأكثر، مادام الإنسان

____________________

(١) مفتاح العلوم: ص٨٠ - ٨١ و٨٤.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ ) (١) .

وعبارة (يوفي) مشتقّة من (وفى) وتعني إعطاؤه حقّه تاما كاملا. وعبارة (بغير حساب) تبيّن أن للصابرين أفضل الأجر والثواب عند الله ، ولا يوجد عمل آخر يبلغ ثوابه حجم ثواب الصبر والاستقامة.

والشاهد على هذا القول ما جاء في الحديث المعروف الذي رواه الإمام الصادقعليه‌السلام عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والذي جاء فيه : «إذا نشرت الدواوين ونصبت الموازين لم ينصب لأهل البلاء ميزان ، ولم ينشر لهم ديوان ، ثمّ تلا هذه الآية :( إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ ) (٢) .

والبعض يعتقد أنّ هذه الآية تخصّ الهجرة الأولى للمسلمين ، أي هجرة مجموعة كبيرة من المسلمين إلى أرض الحبشة تحت قيادة جعفر بن أبي طالبعليه‌السلام ، وكما قلنا مرارا رغم أنّ أسباب النّزول توضيح مفهوم الآية ، إلّا أنّها لا تحددها.

أمّا المنهج الخامس فقد ورد فيه أمر الإخلاص والتوحيد الخالي من شوائب الشرك ، وهنا تتغير لهجة الكلام بعض الشيء ، ويتحدث الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن وظائفة ومسئولياته ، إذ يقول :( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ) .

ثم يضيف :( وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ) . وهذا هو المنهج السادس الذي يعترف بأنّ النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو أول الناس إسلاما وتسليما لأوامر البارئعزوجل .

أمّا المنهج السابع والأخير فيتناول مسألة الخوف من عقاب البارئعزوجل يوم القيامة ، قال تعالى :( قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ

__________________

(١) «بغير حساب» من الممكن أن تكون متعلقة بـ (يوفى) ، أو أنها (حال) لـ (أجرهم) لكن الاحتمال الأول أنسب.

(٢) تفسير مجمع البيان ذيل آيات البحث ، ونفس المعنى مع اختلاف بسيط ورد في تفسير القرطبي نقلا عن الإمام الحسين بن عليعليهما‌السلام عن جده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٤١

عَظِيمٍ ) .

التأمل في هذه الآيات يكشف بوضوح عن أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو عبد من عباد الله ، وهو مكلف أيضا بعبادة الله بإخلاص ، لأنّه ـ هو أيضا ـ يخاف العذاب الإلهي ، وهو مكلّف بإطاعة الأوامر الإلهية ، كما أنّه مكلّف بتكاليف وواجبات أثقل وأعظم من تكاليف الآخرين ، ولذا يجب أن يكون أفضل وأسمى من الآخرين.

إنّه لم يدّع الألوهية أبدأ ، ولم يخط خطوة واحدة خارج مسير العبودية ، بل إنّه يفتخر ويتباهى بهذا المقام ، ولهذا السبب كان قدوة وأسوة ، وهو (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يفضّل نفسه على الآخرين ، وهذا دليل على عظمته وأحقّيته ، فهو ليس كالمدّعين الكذّابين الذين كانوا يدعون الناس إلى عبادتهم ، ويعتبرون أنفسهم أرقى من البشر ، وأنّهم من معدن ثمين أفضل من الناس ، وأحيانا يدعون أتباعهم إلى التبرع سنويا بالذهب والجواهر بقدر وزنهم.

إنّه يقول : إنّي لست مثل السلاطين المتجبرين على رقاب الناس الذين يكلفون الناس ببعض التكاليف ويعتبرون أنفسهم «فوق تلك التكاليف» وهذا في الواقع إشارة إلى موضوع تربوي هامّ ، وهو أنّ كلّ إنسان ـ مربيا كان أم قائدا ـ عليه أن يكون السباق في تنفيذ من أجلها ما يمليه عليه نهجه ، فيجب أن يكون أوّل مؤمن بشريعته أو سنته وأكثر الساعين والمضحين كي يؤمن الناس بصدقه ، ويتخذونه أسوة وقدوة لهم في كلّ الأمور. ومن هنا يتضح أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن أوّل مسلم من حيث الزمان وحسب ، وإنّما كان أوّل إسلاما من كلّ النواحي ، من ناحية الإيمان والإخلاص ، والعمل ، والتضحية ، والجهاد ، والصمود ، والمقاومة ، وتأريخ حياة الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤيد هذه الحقيقة بصورة جيدة.

بعد استعراض المناهج السبعة المذكورة في الآيات أعلاه (التقوى ، الإحسان ، الهجرة ، الصبر ، الإخلاص ، التسليم ، الخوف).

ولكون مسألة الإخلاص لها ميزات خاصة في مقابل العلل المختلفة للشرك ،

٤٢

تعود الآيات لتؤكّد عليها مرّة أخرى ، إذ تقول وبنفس اللهجة السابقة :( قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي ) (١) .

أما أنتم فاعبدوا ما شئتم من دون الله :( فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ ) .

ثمّ تضيف :( قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) .

أي إنّهم لم يستثمروا طاقاتهم وعمرهم ، ولا من عوائلهم وأولادهم لإنقاذهم ، ولا لإعادة ماء الوجه المراق إليهم ، وهذا هو الخسران العظيم :( أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ ) .

الآية الأخيرة في بحثنا هذا تصف إحدى صور الخسران المبين ، إذ تقول :( لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ) .

وبهذا الشكل فإنّ أعمدة النيران تحيط بهم من كلّ جانب ، فهل هناك أعظم من هذا؟ وهل هناك عذاب أشدّ من هذا؟

«ظلل» جمع (ظلّة) على وزن «سنّة» وتعني الستر الذي ينصب في الجهة العليا. وطبقا لهذا فإنّ إطلاق هذه الكلمة على ما يفرش تحت اهل النّار اطلاق مجازي ومن باب التوسع في معنى الكلمة.

بعض المفسّرين قالوا : بما أنّ أصحاب النّار يتقلبون بين طبقات جهنم ، فإنّ ستائر النّار محيط بهم من فوق رؤوسهم ومن تحت أرجلهم. والآية (٥٥) من سورة العنكبوت تشبه هذه الآية :( يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

هذا في الحقيقة تجسيد لأحوالهم وأوضاعهم في هذه الدنيا ، إذ أن الجهل والكفر والظلم محيط بكلّ وجودهم ، ومستحوذ عليهم من كلّ جانب ، ثمّ تضيف الآية مؤكّدة وواعظة إياهم :( ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ ) .

إضافة كلمة (العباد) إلى لفظ الجلالة في هذه الآية ، ولعدّة مرّات اشارة إلى أنّ

__________________

(١) تقديم (اسم الجلالة) والذي هو مفعول (اعبد) يفيد الحصر هنا ، وقوله (مخلصا له ديني) التي هي حال يؤكّد معنى الحصر.

٤٣

تهديد البارئعزوجل لعباده بالعذاب إنّما هو لطف ورحمة منه ، وذلك كي لا يبتلى عباده بمثل هذا المصير المشؤوم ، ومن هنا يتضح أنّه لا حاجة لتفسير كلمة (العباد) هنا على أنّها تخصّ المؤمنين ، فهي تشمل الجميع ، كي لا يأمن أحد من العذاب الإلهي.

* * *

ملاحظات

١ ـ حقيقة الخسران!

يرى الراغب في مفرداته أنّ الخسران يعني ذهاب رأس المال كلّه أو بعضه ، وأحيانا تنسب إلى الإنسان ، عند ما يقال : (الشخص الفلاني خسر) وأحيانا تنسب إلى العمل عند ما يقولون : (خسرت تجارته).

وتستخدم كلمة (خسران) أحيانا في حالة فقدان الثروة الظاهرية ، كالمال والجاه ، الدنيوي ، وأحيانا أخرى تستخدم في حالة فقدان ثروة معنوية كالصحة والسلامة والعقل والإيمان والثواب ، وهذا هو الشيء الذي سمّاه البارئعزوجل (الخسران المبين) فكلّ خسران ذكره البارئعزوجل في القرآن الكريم إنّما يشير إلى المعنى الثّاني وليس إلى الخسران الخاص بثروات الدنيا وتجارتها(١) .

وقد شبّه القرآن الإنسان بتجارة الأثرياء الذين يدخلون أسواق التجارة العالمية برؤوس أموال كبيرة ، فالبعض منهم يجني أرباحا كبيرة ، والبعض الآخر يخسر خسارة فادحة.

آيات كثيرة في القرآن المجيد تطرقت إلى مثل هذا التعبير والتشبيه ، حيث توضح الحقيقة التالية : إنّ النجاة من العذاب الإلهي لا تتحقق بالجلوس وانتظار

__________________

(١) مفردات الراغب مادة (خسر).

٤٤

هذا وذاك ، وإن السبيل الوحيد للنجاة هو الاستفادة من الثروة ، وبذل الجهود والمساعي في هذه التجارة الكبيرة ، لأنّ كلّ شيء يعطى بثمن ، ولا يعطى بالمعاذير!

وقد يتساءل البعض : ما هي أسباب وصف خسارة المشركين والمذنبين بالخسران المبين؟

الجواب هو :

أوّلا : لأنّهم باعوا أفضل ثروة لديهم ـ أي العمر والعقل والإدراك والعواطف الانسانية ـ بدون مقابل.

ثانيا : لو أنّهم باعوا تلك الثروة من دون أن يشتروا العذاب والعقاب لكان أمرا هينا بعض الشيء ، لكنّ الأمر لم يكن كذلك إذ أنّهم بخسرانهم لتلك الثروة العظيمة هيأوا لأنفسهم عذابا أليما وعظيما.

ثالثا : إنّ هذه الخسارة التي لا يمكن أن تعوّض بأيّ ثمن ، وهذه هي (الخسران المبين).

٢ ـ ما هو المراد من الآية :( فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ )

عبارة( فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ ) جاءت بصيغة أمر تهديدي ، وهذا الأسلوب يستعمل عند ما لا تؤثر النصيحة والموعظة بالشخص المجرم والمذنب ، إذ أنّ آخر ما يقال له : (افعل ما تشاء ، ولكن انتظر العقاب أيضا) ويعني أنّك وصلت إلى درجة لا تستحقّ معها النصيحة والموعظة ، وأنّ مصيرك وعلاجك هو العذاب الأليم.

٣ ـ من هم الأهل؟

الآيات المذكورة أعلاه تقول : إنّ أولئك الخاسرين لم يخسروا ثروة وجودهم فحسب ، وإنّما خسروا أهليهم أيضا.

٤٥

بعض المفسّرين قال : إنّ المراد من (أهل) هم أتباع الإنسان والسائرون على نهجه.

والبعض الآخر فسّرها بأنّها تعني الزوجات القاصرات الطرف في الجنّة ، اللواتي خسرهن المشركون والمجرمون.

والبعض الآخر يقول : إنّها تعني العائلة والأرقاب في الدنيا.

والمعنى الأخير ـ مع الالتفات إلى أنّه المعنى الأصلي لهذه الكلمة ـ يعد أنسب من الجميع ، لأن الكافر يخسر أهله يوم القيامة ، إذ ينفصلون عنه وإن كانوا مؤمنين ، وأما إذا كانوا مشركين فمضافا إلى أنّهم لا ينفعونهم ، سيكونون سببا في زيادة العذاب الأليم.

* * *

٤٦

الآيات

( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ (٢٠) )

التّفسير

عباد الله الحقيقيون :

استخدم القرآن الكريم مرّة اخرى أسلوب المقارنة في هذه الآيات ، إذ قارن بين عباد الله الحقيقيين والمشركين المعاندين الذين لا مصير لهم سوى نار جهنّم ، قال تعالى :( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى ) .

ولكون كلمة (البشرى) جاءت هنا بصورة مطلقة وغير محدودة ، فتشمل كافة

٤٧

أنواع البشرى بالنعم الإلهية المادية والمعنوية ، وهذه البشرى بمعناها الواسع تختص فقط بالذين اجتنبوا عبادة الطاغوت وعمدوا إلى عبادة الله وحده من خلال إيمانهم به وعملهم الصالح.

وكلمة «طاغوت» من مادة (الطغيان) تعني الاعتداء وتجاوز الحدود ، ولذا فإنّها تطلق على كلّ متعدّ ، وعلى كلّ معبود من دون الله ، كالشيطان والحكام المتجبرين (وتستعمل هذه الكلمة للمفرد والجمع)(١) .

فعبارة( اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ ) بمعناها الواسع تعني الابتعاد عن كلّ أشكال الشرك وعبادة الأصنام وهو النفس والشيطان ، وتجنب الانصياع والاستسلام للحكام المتجبرين الطغاة.

أمّا عبارة( أَنابُوا إِلَى اللهِ ) فإنّها تجمع روح التقوى والزهد والإيمان ، وأمثال هؤلاء يستحقون البشرى.

ويجب الالتفات إلى أنّ عبادة الطاغوت لا تعني فقط الركوع والسجود له ، وإنّما تشمل كلّ طاعة له ، كما ورد في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام «من أطاع جبارا فقد عبده»(٢) .

ثم تعرج الآية على تعريف العباد الخاصّين فتقول :( فَبَشِّرْ عِبادِ (٣) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ ) .

الآيتان المذكورتان بمثابة شعار إسلامي ، وقد بيّنتان حرية الفكر عند المسلمين ، وحرية الإختيار في مختلف الأمور.

__________________

(١) بعض المفسّرين ، ومنهم الزمخشري صاحب الكشّاف يعتقدون أنّ أصل كلمة (طاغوت) هو (طغوت) على وزن (فعلوت) (كملكوت) ، ثمّ تقدمت لام الفعل على عين الفعل وأصبحت (طغوت) ، وبعد إبدال الواو بالألف أصبحت (طاغوت) ويستدل صاحب الكشّاف على هذا الكلام من عدّة مصادر (تفسير الكشاف ج ٤ ص ١٢٠).

(٢) مجمع البيان ، الجزء السابع ، الصفحة ٤٩٣ ، ذيل آية البحث.

(٣) (عباد) كانت في الأصل (عبادي) وقد حذفت الياء وعوض عنها بالكسرة.

٤٨

ففي البداية تقول (بشر عباد) ثمّ تعرّج على تعريف أولئك العباد المقربين بأنّهم أولئك الذين لا يستمعون لقول هذا وذاك ما لم يعرفوا خصائص وميزات المتكلم ، والذين ينتخبون أفضل الكلام من خلال قوّة العقل والإدراك ، إذ لا تعصب ولا لجاجة في أعمالهم ، ولا تحديد وجمود في فكرهم وتفكيرهم ، إنّهم يبحثون عن الحقيقة وهم متعطشون لها ، فأينما وجدوها استقبلوها بصدور رحبة ، ليشربوا من نبعها الصافي من دون أيّ حتى يرتووا.

إنّهم ليسوا طالبين للحق ومتعطشين للكلام الحسن وحسب ، بل هم يختارون الأجود والأحسن من بين (الجيد) و (الأجود) و (الحسن) و (الأحسن) ، وخلاصة الأمر فإنّهم يطمحون لنيل الأفضل والأرفع ، وهذه هي علامات المسلم الحقيقي المؤمن الساعي وراء الحق.

أمّا ما المقصود من كلمة (القول) في عبارة( يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ ) فإنّ المفسّرين أعطوا عدّة آراء لتفسيرها ، منها :

البعض فسّره بأنّه يعني (القرآن) الذي يحتوي على الطاعات والمباحات ، واقتفاء الأحسن يعني اقتفاء الطاعات.

والبعض الآخر فسّرها بأنّها تعني مطلق الأوامر الإلهية المذكورة في القرآن وغير المذكورة فيه.

ولكن لم يتوفّر أيّ دليل على هذين التّفسيرين ، بل أن ظاهر الآية يشتمل كلّ قول وحديث ، فالمؤمنون هؤلاء يختارون من جميع الكلمات والأحاديث ما هو (أحسن) ، ليترجموه في أعمالهم.

والطريف في الأمر أنّ القرآن الكريم حصر في الآية المذكورة أعلاه الذين هداهم الله بأولئك القوم الذين يستمعون القول ويتبعون أحسنه ، كما أنّه اعتبر العقلاء ضمن هذه المجموعة ، وهذه إشارة إلى أنّ أفراد هذه المجموعة مشمولون بالهداية الإلهية الظاهرية ، والباطنية ، الهداية الظاهرية عن طريق العقل والإدراك ،

٤٩

والهداية الباطنية عن طريق النور الإلهي والإمداد الغيبي ، وهاتان مفخرتان كبيرتان للباحثين وراء الحقيقة ذوي التفكير الحرّ.

ولكون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يرغب ـ بشدّة ـ في هداية المشركين والضالين ، وكان يتألّم كثيرا لانحراف أولئك الذين لم يعطوا آذانا صاغبة للحقائق ، فأنّ الآية التالية عمدت الى مواساته بعد أن وضحت له حقيقة أنّ عالمنا هذا هو عالم الحرية والامتحان ، ومجموعة من الناس ـ في نهاية الأمر ـ يجب أن تدخل جهنم ، إذ قالت :( أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ ) (١) .

عبارة( حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ ) إشارة إلى آيات مشابهة ، كالآية (٨٥) من سورة ص التي تقول بشأن الشياطين وأتباعهم :( لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ) .

ومن البديهي أنّ حتمية تعذيب هذه المجموعة لا تحمل أيّ طابع إجباري ، بل إنّهم يعذبون بسبب الأعمال التي ارتكبوها ، ونتيجة إصرارهم على ارتكاب الظلم والذنب والفساد ، بشكل يوضح أنّ روح الإيمان والتعقل كانت ميّتة في أعماقهم ، وأنّ وجودهم كان قطعة من جهنم لا أكثر.

من هنا يتبيّن أنّ قوله تعالى :( أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ ) هو إشارة إلى حقيقة أنّ كونهم من أصحاب النّار يعد أمرا مسلما به وكأنّهم الآن هم في قلب جهنم ، حتّى أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي هو (رحمة للعالمين) لا يستطيع إنقاذهم من العذاب ، لأنّهم قطعوا كافّة طرق الاتصال بالله سبحانه وتعالى ولم يبقوا أيّ سبيل لنجاتهم.

ولبعث السرور في قلب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولزيادة الأمل في قلوب المؤمنين ،

__________________

(١) في الحقيقة ، إنّ الآية تحوي جملة محذوفة تدل عليها الجملة التي تلتها ، وتقديرها (أفأنت تخلصه) إذ يصبح تقدير الجملة كالتالي (أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تخلصه (بقرينة الجملة التالية) أفأنت تنقذ من في النّار) وقال البعض الآخر : إن تقدير الآية هو كالتالي (أفمن حقت عليه كلمة العذاب ينجو منه).

٥٠

جاء في آخر الآية :( لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ ) .

فإن كان أهل جهنم مستقرين في ظلل من النّار ، كما ورد في الآية السابقة :( لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ) فإنّ لأهل الجنّة غرفا من فوقها غرف اخرى ، وقصور فوقها قصور اخرى ، لأنّ منظر الورود والماء والأنهار والبساتين من فوق الغرف يبعث على اللذة والبهجة بشكل أكثر.

«غرف» جمع «غرفة» من مادة «غرف» وعلى وزن حرف ـ بمعنى تناول الشيء ولذا يطلق على من يتناول الماء بكفه ليشربه «غرفة» ثمّ أطلقت على الطبقات العليا من المنازل.

وكشفت الآية أيضا عن أن غرف أهل الجنّة الجميلة قد زينت بأنهار تجري من تحتها( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) نعم ، هذا وعد الله( وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ ) (١) .

* * *

بحوث

١ ـ منطق حرية التفكير في الإسلام

الكثير من المذاهب الوضعية تنصح أتباعها بعدم مطالعة ومناقشة مواضيع وآراء بقية المذاهب ، إذ أنّهم يخافون من أن تكون حجّة الآخرين أقوى من حجّتهم. الضعيفة وبالتالي فقدان اتباعهم.

إلّا أنّ الإسلام ـ كما شاهدنا في الآيات المذكورة أعلاه ـ ينتهج سياسة الأبواب المفتوحة في هذا المجال ، إذ يعتبر المحققين هم عباد الله الحقيقيين الذين لا يرهبون سماع آراء الآخرين ، ولا يستسلمون لشيء من دون أي قيد أو شرط ،

__________________

(١) يقول «الزمخشري» في الكشاف :( وَعْدَ اللهِ ) منصوب لكونه مفعولا مطلقا للتأكيد ، ولأنّ عبارة( لَهُمْ غُرَفٌ ) تعني وعدهم الله غرفا.

٥١

ولا يتقبلون كلّ وسواس.

الإسلام الحنيف يبشّر الذين يستمعون القول ويتبعون أحسنه ، الذين لا يكتفون بترجيح الجيد على السيء ، وإنّما ينتخبون الأحسن ثمّ الأحسن من كلّ قول ورأي.

ويوبّخ ـ بشدّة ـ الجهلة الذين يضعون أصابعهم في آذانهم ويستغشون ثيابهم كلما سمعوا صوت الحق ، كما ورد في قول نوحصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما شكى قومه للبارئعزوجل :( وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً ) (١) .

وأساسا فإنّ المذهب القوي الذي يملك منطقا قويا لا يرهب أقوال الآخرين ، ولا يخاف من طرح آراء تلك المذاهب ، لأنّه أقوى منها وهي التي ينبغي أن تخافه.

هذه الآية وضعت ـ في نفس الوقت الذين يتبعون أيّ قول يقال لهم من دون أيّ تفكير في مدي صدقه ، وحتى أنّهم لا يحققون ولا يبحثون فيه بقدر ما تبحث الأغنام عن الغذاء الجيد في المراعي ، وضعتهم خارج صف (أولوا الألباب) والذين (هداهم الله). فهاتان الصفتان تختصّان بالذين لم يبتلوا الاستسلام المفرط من دون أيّ قيد أو شرط ، والذين لم يفرطوا في تعصبهم الجاهلي الأعمى.

٢ ـ الردّ على بعض الأسئلة

من الممكن أن تطرح على ضوء البحث السابق عدّة أسئلة ، منها :

١ ـ لماذا يمنع الإسلام بيع وشراء كتب الضلال.

٢ ـ لماذا يحرم إعطاء القرآن الكريم بيد الكفار.

٣ ـ كيف يمكن لإنسان ليس له إلمام بموضوع ما أن ينتخب ويميز الجيد من

__________________

(١) سورة نوح ، الآية ٧.

٥٢

السيء ، ألا يستلزم هذا المعنى الدور؟

الجواب على السؤال الأوّل واضح ، لأنّ البحث المتعلّق بالآيات المذكورة أعلاه يتناول أقوالا يؤمل منها الهداية ، ففي أي وقت يتضح بعد البحث والتحقيق أن الكتاب الفلاني هو مضل فإنّه يخرج من هذا الأمر ، فالإسلام لا يسمح بأن يسلك الناس في طريق ثبت انحرافه. وبالطبع فإنّه ما دام الأمر لم يثبت لأحد ، أي ما زال الشخص في حالة التحقيق عن المذاهب الأخرى لقبول الدين الصحيح ، لا بأس بمطالعة كلّ تلك الكتب ، ولكن بعد ثبوت ذلك الأمر يجب اعتبارها مادّة سامّة ، ويجب إبعادها عن متناول الجميع.

أمّا بالنسبة إلى السؤال الثّاني ، فإنّه لا يجوز إعطاء القرآن لغير المسلم إن كان ذلك الشخص يهدف إهانة وهتك القرآن ، ولكن إن حصل علم بأن ذلك الكافر يفكر حقّا بالتحقيق في الإسلام من خلال القرآن للوصول إلى هذا الهدف ، فإن إعطاء القرآن هنا لا يعدّ أمرا ممنوعا ، بل يعدّ واجبا ، والعلماء الذين حرّموا ذلك لا يقصدون هذا المعنى.

ولهذا فإنّ الجمعيات الإسلامية الكبيرة تصرّ بشدّة على ترجمة القرآن إلى بقية اللغات الحية في العالم ، ليوضع تحت تصرف المتعطشين لمعرفة الحقيقة.

وأمّا بشأن السؤال الثّالث ، فيجب الالتفات إلى أنّه في كثير من الأحيان لا يستطيع شخص ما إنجاز عمل ما ، ولكن عند ما ينجزه الآخرون يتمكن هو من تشخيص الجيد من الرديء في ذلك العمل.

وعلى سبيل المثال ، من الممكن أن يوجد شخص لا إطلاق له بفنّ الإعمار والبناء حتى أنّه لا يستطيع وضع لبنتين فوق بعضهما البعض بصورة صحيحة ، ولكنّه يستطيع تمييز البناء الجيد ذي الكيفية العالية من البناء السيء غير المتناسق ، كما أنّ هناك أشخاصا كثيرين ليسوا بشعراء ، إلّا أنّهم يتمكون من تقييم أشعار شعراء كبار وتميزها عن الأشعار الفارغة التي ينظمها بعض ناظمي الشعر. هناك

٥٣

أشخاص ليسوا برياضيين ولكنّهم يتمكنون من التحكيم بين الرياضيين ، وانتخاب الجيد منهم.

٣ ـ نماذج من الروايات الإسلامية التي تؤكد على حرية التفكير

وردت بعض الأحاديث الإسلامية في تفسير الآيات المذكورة أعلاه ، كما وردت أحاديث مستقلة تؤكّد على هذا الموضوع ، ومنها ما ورد عن الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام ، خاطب فيه أحد أصحابه وهو هشام بن الحكم قائلا : «يا هشام ، إن الله تبارك وتعالى بشر أهل العقل والفهم في كتابه ، فقال( فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) »(١) .

وورد حديث آخر عن الأمام الصادقعليه‌السلام في تفسير الآية المذكورة أعلاه ، قال فيه: «هو الرجل يسمع الحديث فيحدث به كما سمعه ، لا يزيد فيه ولا ينقص»(٢) .

وبالطبع ، فإنّ تفسير( فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) هو المقصود في هذا الحديث ، لأن إحدى علامات اتباع القول الحسن ، هو أن لا يضيف الإنسان من عنده أي شيء على القول ، وينقله ذاته للآخرين.

ونقرأ في البلاغة في حقل الكلمات القصار لأمير المؤمنينعليه‌السلام : (الحكمة ضالة المؤمن ، فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق»(٣) .

٤ ـ سبب النّزول

ذكر المفسّرون أسبابا لنزول هذه الآيات ، ومنها ، أنّ الآية :( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا

__________________

(١) الكافي ، المجلد الأول ، كتاب العقل الحديث (١٢).

(٢) نور الثقلين ، المجلد ٤ ، الصفحة ٤٨٦ ، الحديث ٣٤.

(٣) نهج البلاغة ، قصار الكلمات ، الخطبة (٨٠).

٥٤

الطَّاغُوتَ ) والآية التي تلتها نزلنا بحق ثلاثة أشخاص (لم يستسلموا في عهد الجاهلية لغوغاء المشركين في مكّة) كانوا يقولون لا إله إلا الله ، والثلاثة هم (سلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري وزيد بن عمرو)(١) .

وقد ورد اسم (سعيد بن زيد) بدلا (زيد بن عمرو) في بعض الرّوايات(٢) .

والبعض الآخر قال : إنّ الآية :( أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ ) نزلت بشأن (أبي جهل) وأمثاله(٣) .

وغير مستبعد أن تكون هذه الرّوايات من قبيل تطبيق الآية على المصاديق الواضحة وليس أسبابا للنزول.

* * *

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ومجمع البيان ذيل آيات البحث.

(٢) الدر المنثور نقلا عن تفسير الميزان ، المجلد ١٧ ، صفحة ٢٦٧.

(٣) القول هذا أورده صاحب تفسير روح المعاني نقلا عن آخرين.

٥٥

الآيتان

( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١) أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢) )

التّفسير

الذين هم على مركب من نور!!

في هذه الآيات يستعرض القرآن الكريم مرّة اخرى دلائل التوحيد والمعاد ، ليكمل البحوث التي تناولت مسألة الكفر والإيمان الواردة في الآيات السابقة. إذ تشرح أحد آثار عظمة وربوبية البارئعزوجل في نظام عالم الكون ، وذلك عند ما تشير إلى مسألة (نزول المطر) من السماء ، ثمّ إلى نمو آلاف الأنواع من الزرع بمختلف الألوان بعد أن تسقى من ماء عديم اللون ، وإلى مراحل نموها حتى وصولها إلى المرحلة النهائية وتقول موجهة الخطاب الى النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باعتباره القدوة لجميع المؤمنين( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي

٥٦

الْأَرْضِ ) (١) .

قطرات المطر التي تبعث الحياة حينما تنزل من السماء تمتصها الطبقة الأولى من طبقات الأرض ، وعند ما تنفذ إلى داخل هذه الطبقة تقف عند طبقة اخرى في الأرض ولا تتمكن من النفوذ خلالها ، لتبعث مرّة اخرى إلى سطح الأرض بصورة عيون وقنوت وآبار.

كلمة (سكله) تعني (نفوذ مياه الأمطار في داخل قشرة الأرض) وهذه إشارة مختصرة لما ذكرناه آنفا.

«ينابيع» هي جمع (ينبوع) مشتقّة من (نبع) وتعني فوران الماء من داخل الأرض. ولو كانت للأرض قشرة واحدة لا تمتلك القابلية على الامتصاص ، فإنّ مياه الأمطار النازلة سوف تتجه بأكملها بعد هطولها إلى البحار لتصب فيها من دون أن تخزن داخل قشرة الأرض ، وفي هذه الحالة ينعدم وجود العيون والقنوات والآبار. وإذا كانت الأرض ذات قشرة واحدة نفوذية تماما ، فإنّ كلّ مياه الأمطار تتجه نحو أعمق مناطق باطن الأرض ، وفي تلك الحالة يستحيل الوصول إليها واستخراجها ، فتنظيم قشرة الأرض بحيث توجد طبقتان إحداها نفوذية والأخرى غير نفوذية ، وبدرجات معينة ، كلّ ذلك ثمّ وفق حسابات خاصة ، تبيّن قدرة البارئعزوجل .

والملفت للنظر أنّ قشرة الأرض تكون أحيانا ذات طبقات متعددة ، بعضها نفوذي والبعض الأخرى غير نفوذي ، ومرتبة الواحدة فوق الأخرى ويستفاد منها في عمليات حفر الآبار (السطحية) و (العميقة) و (نصف العميقة).

وتضيف الآية فيما بعد :( ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ) ذات الأشكال المختلفة.

__________________

(١) «ينابع» على ما هو المشهور يكون منصوبا بنزع الخافض ، وهو جمع ينبوع من نبع الماء (راجع تفسير روح المعاني ، ج ٢٣ ، ص ٢٥٦ ، روح البيان ، ج ٨ ، ص ٩٣.

٥٧

أي مختلف الأنواع كالحنطة والشعير والزر والذرة ، ذات الأشكال المختلفة والألوان الظاهرية المتعددة ، فمنها الأخضر الغامق ، والأخضر الفاتح ، وبعضها ذو أوراق عريضة وكبيرة ، والبعض الآخر ذو أوراق دقيقة وصغيرة.

وممّا يذكر أن كلمة (زرع) تطلق على النباتات ذات الساق الدقيق ، فيما تطلق كلمة (شجر) على الأشجار ذات السيقان القوية ، وكلمة (زرع) ذات معان كثيرة تشمل النباتات الطبيعية التي لا يمكن الاستفادة منها للغذاء ، وأنواع الورد ونباتات الزينة والأعشاب الطبيعة التي يؤخذ منها الدواء ، وأحيانا نرى في غصن واحد ، ولربّما في وردة واحدة عدّة ألوان جميلة جذابة ، تسبح وتوحد البارئعزوجل بلسان صامت.

ثمّ تنتقل الآية إلى مرحلة اخرى من مراحل حياة هذه النباتات ، إذ تقول :( ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ) (١) حيث تعصف به الرياح من كلّ جانب لتقلعه من مكانه بسبب ضعف سيقانه ويضيف تعالى :( ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً ) .

نعم ، إن في هذا لذكرى لأصحاب القول وأهل العلم( إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ ) .

هذا المشهد يذكّر الإنسان بالنظام الدقيق والعظيم الذي وضعه البارئعزوجل لعالم الوجود ، وإنّه تذكير بنهاية الحياة وانطفاء شعلتها ، ومن ثمّ بمسألة البعث وعودة الأموات إلى الحياة. فرغم أنّ هذا المشهد يتعلّق بعالم النبات ، إلّا أنّه ينبّه الإنسان إلى أن مثل هذا الأمر سوف يتكرر في حياته وعمره هو أيضا مع وجود بعض الاختلاف في مدّة الأعمار ، ولكن الأساس واحد إذ يبدأ بالولادة يتدرج إلى النشاط والشباب ، ومن ثمّ الذبول والكهولة ، وفي النهاية الموت.

وكتتمة لهذا الدرس الكبير في التوحيد والمعاد ، تنتقل الآيات إلى المقارنة

__________________

(١) «يهيج» من مادة (هيجان) ولها معنيان في اللغة ، الأوّل هو جاف النبات واصفراره ، والثّاني هو التحرك والانتفاض ، ومن الممكن أو يعود المعنيان إلى أصل واحد ، لأنّ النبات حينما يجفّ فإنه يستعد للانفصال والانتشار والتحرك والهيجان.

٥٨

بين المؤمنين والكافرين ، كي توضح حقيقة أنّ القرآن والوحي السماوي هما كقطرات المطر التي تهطل على الأرض ، وكما أنّ الأرض التي لها الاستعداد هي التي تستفيد من قطرات المطر ، فكذلك القلوب المستعدة لبناء ذاتها بالاستعانة بلطف الله ، هي ـ فقط ـ التي تستفيد من آيات الله ، وذلك طبقا لقوله تعالى :( أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ) (١) كمن هو قاسي القلب لا يهتدي بنور!!

أمّا القاسية قلوبهم ، فهم الذين لا تؤثر بهم المواعظ ولا الوعيد ولا البشرى ، ولا الآيات القرآنية المؤثرة ، ولا ينمي مطر الوحي الباعث للحياة عندهم ثمار التقوى والفضيلة ، وبصورة موجزة يمكن القول بأنّهم كالنباتات التي لا طراوة فيها ولا أوراق ولا ثمار ولا ظلّ.

نعم( أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

«القاسية» مشتقّة من (قسوة) وتعني الخشونة والصلابة والتحجر ، لذلك تطلق صفة (قاسية) على الأحجار الصلبة ، ويقال للقلوب التي لا تظهر أي استجابة لنور الحق والهداية ، ولا تلين ولا تستسلم لها ، ولا تسمح بنفوذ نور الحقّ والهداية إليها (قلوب قاسية).

على آية حال ، فإنّ هذه العبارة جاءت في مقابل (انشراح الصدر) وسعة الروح ، لأنّ الرحابة والاتساع كناية عن الاستعداد للاستقبال ، فالشارع والبيت الواسع يمكنهما أن يضمّا أناسا كثيرين ، وكذلك الصدر الواسع والروح المنشرحة ، فإنّها مستعدّة لتقبّل حقائق أكثر.

ونقرأ في إحدى الرّوايات أنّ ابن مسعود قال : سئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن تفسير هذه الآية :( أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ )

__________________

(١) هذه الآية تتضمّن جملة محذوفة تتضح من خلال الجملة التي تليها وعند تقديرها تصبح الآية (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربّه كمن هو قاسي القلب لا يهتدي بنور).

٥٩

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا دخل النور في القلب انشرح وانفتح».

ثم قلنا : يا رسول الله ما هي علامات انشراح الصدر؟ فقال : «الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزوله»(١) .

أمّا علي بن إبراهيم فيقول في تفسيره أن عبارة :( أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ) نزلت في حقّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام . وقد ورد في تفاسير اخرى أنّ عبارة :( فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ) نزلت بحقّ (أبي لهب وأبنائه)(٢) .

ومن الواضح أنّ أسباب النّزول هنا هي في الحقيقة من باب تطبيق المفهوم العام على المصاديق الواضحة.

إنّ ما يلفت النظر في عبارة :( فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ) أنّ النور والضياء جعل هنا بمثابه مركبة يركبها المؤمنون تفسير بهم بسرعة عجيبة ومسير واضح وقدرة على طواف العالم كلّه.

* * *

بحث

عوامل (شرح الصدر) و (قسوة القلب)

الناس ليسوا على وتيرة واحدة من حيث قبول الحق وإدراك الأمور ، فالبعض يتمكّن من إدراك الحقيقة بمجرّد إشارة واحدة أو جملة قصيرة ، وهذا يعني أنّ تذكيرا واحدا يكفي لإيقاظهم فورا ، وموعظة واحدة قادرة على إحداث صيحات في أرواحهم وفي حين أنّ البعض الآخر لا يتأثّر بأبلغ الكلمات وأوضح الأدلّة وأقوى العبارات ، وهذه المسألة ليست بالأمر السهل أو الهيّن.

__________________

(١) تفسير القرطبي ، المجلد الثامن ، الصفحة ٥٦٩١ (تفسير سورة الزمر ذيل آيات البحث) نقل هذا الحديث مع اختلاف جزئي عن (روضة الواعظين) للشيخ المفيد.

(٢) تفسير الصافي ذيل آيات البحث.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579