أصول الخطابة الحسينية

أصول الخطابة الحسينية0%

أصول الخطابة الحسينية مؤلف:
الناشر: المؤلف
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 140

أصول الخطابة الحسينية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: ضياء الساري
الناشر: المؤلف
تصنيف: الصفحات: 140
المشاهدات: 75054
تحميل: 8777

توضيحات:

أصول الخطابة الحسينية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 140 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 75054 / تحميل: 8777
الحجم الحجم الحجم
أصول الخطابة الحسينية

أصول الخطابة الحسينية

مؤلف:
الناشر: المؤلف
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

توجيهات عامّة للخطيب

1 - لم يكن الدين الإسلامي نظريّة، أو شريعة عائمة في المثاليّة، بل أراد الله تعالى لدينه أن يكون حقيقة متجسّدة في الواقع من حيث الفكر والعمل، وتجسّد هذا الواقع في رسوله الكريم وأهل بيته الطاهرين، وأمرنا أن نقتدي بهم، وحذّر من مجانبتهم؛ لما في المجانبة من الزيغ عن طريق الحقّ، والولوج في الباطل والضلالة.

فعلى الخطيب أن يبيّن للناس معالم الدين الإسلامي، وأصوله ومفاهيمه بما ظهر في واقعه الحقيقي المتمثل بأهل البيتعليهم‌السلام ؛ فكلّ شيء في اُمور الحياة صغر أو كبر يجب أن يؤخذ منهم. لكن لا ينبغي انحصار المعرفة بهم باُمور ليست من الأهميّة بالمقارنة مع اُمور اُخرى، كما في الإسهاب في الحديث عن كُنى وألقاب الأئمّة أمام حاضرين تربّوا على الولاء لهم.

لا يقول أحدٌ إنّ ذلك ليس ضرورياً ومهمّاً؛ إنّما المطلوب مراعاة الأهميّة في اختيار موضوع الخطبة، وملاحظة المناسبة بينه وبين الحاضرين من حيث المعرفة به.

كما إنّ لهمعليهم‌السلام مقامات ومنازل عظيمة، فينبغي أن لا يتحدّث الخطيب عن ذلك أمام حاضرين لم تأنس عقولهم وأذهانهم بها فينكرونها، كما يلزم الأخذ بالصحيح والمحقّق فيما ورد عنهمعليهم‌السلام .

١٠١

ويجب على الخطيب أن لا يهمل مصائب أهل البيتعليهم‌السلام ويبقى مع اتّصال مع معطيات واقعة الطفّ، ويشدّ الناس إلى الاستفادة من دروسها، بتصوير مآسيها شعراً ونثراً؛ استمراراً على ما مضى عليه الأئمّةعليهم‌السلام في إحياء ذكرى سيّد الشهداء.

2 - يجب على الخطيب الاعتدال في التصرّف أمام الناس من حيث ملاحظة الحكم في سلوكه حتّى في الاُمور المباحة، فلا يحسن برجل الدين الانفلات والتحلل، وعدم المبالاة بأيّ تصرف بحجّة أنّه حلال، بل ينبغي له الاتّزان، ومراعاة الحشمة والوقار، وفرض احترامه على الآخرين باعتداله ومتانة تصرفاته، وتجنّب كلّ تصرّف ينافي ذلك؛ لأنّه في موقع المسؤولية، والمنتظر منه أن يكون قدوة في أقواله وأفعاله، ومربّياً للمجتمع الذي يعيش فيه(1) .

3 - الارتفاع بالمنبر عن كونه سلعة تحدّد خدماتها باُسلوب المساومة، ولو كان ذلك مشروعاً لا غبار عليه من الناحية الشرعيّة، ولكن فيه جفاف لا يلتقي مع شفافية الرسالة التي يؤديها المنبر، وأن لا يكون المنبر وسيلة لجمع الأموال(2) .

4 - أن لا نخلع ذاتنا على الموضوع عن طريق التحدّث عمّا يخصّنا، أو يخصّ تجاربنا الذاتية ممّا له صلة بالأنا؛ فإنّ ذلك

____________________

(1) رسالة أبوية / 65.

(2) تجاربي مع المنبر / 120.

١٠٢

ممّا يستثقله السامع فينبغي أن نحسب له ألف حساب(1) .

5 - التورّع عن نسبة الأقوال والأفعال إلى المعصومينعليهم‌السلام وغيرهم كذباً؛ فإنّ الكذب على المعصومين من أعظم الكبائر، والكذب على غيرهم كبيرة؛ سواء على الأشخاص التاريخيِّين، أو على مؤلّفي المصادر، أو على أيّ مؤمن ومؤمنة.

وأوضح اُسلوب يتّخذه في هذا الصدد أن يقول: (قيل)، أو (روى)، أو (يُقال) ونحو ذلك، حتّى إنّه لا ينبغي له ذكر أحد من أسماء المؤلفين ما لم يحرز باليقين وجوده في كتابه، وصحة انتساب الكتاب إليه باليقين، أو بدليل معتبر(2) .

6 - أن يتورّع من نسبة الأقوال والأفعال إلى المعصومينعليهم‌السلام وغيرهم باعتبار لسان الحال؛ شعراً كان ما يقوله الخطيب، أم نثراً فصيحاً كان الكلام أم درجاً ما لم يعلم، أو يطمئن بأنّ لسان حالهم هو كذلك فعلاً(3) .

7 - أن يتورّع الخطيب عن ذكر الاُمور النظريّة والتاريخيّة أو غيرها ممّا تثير شبهات حول الاُمور الاعتقاديّة في أذهان السامعين، ويكون هو قاصراً أو عاجزاً عن ردّها ومناقشتها، أو غافلاً عن ذلك؛ بل يجب أن يختار ما يقوله بدقة وإحكام، وإلاّ فسوف يكون هو المسؤول عن عمله فيقع في الحرام من حيث يعلم أو لا يعلم.

____________________

(1) المصدر نفسه / 125.

(2) أضواء على الثورة الحسينيّة - الشهيد محمد صادق الصدر / 108.

(3) المصدر نفسه / 108.

١٠٣

وينبغي أن يلتفت إلى أنّ هذا ممّا لا يفرّق فيه بين أن يكون مرتبطاً بحوادث الإمام الحسينعليه‌السلام أو غير مرتبط، أو كان مسلّم الصحة في اعتقادهم أو غير مسلّم(1) .

8 - أن يدع الخطيب التشكيك فيما تسالم العامّة عليه، أعني جمهور الناس على صحته، فضلاً عن إنكاره بصراحة؛ فإنّه ينبغي أن يستهدف هدايتهم وتوجيههم نحو الطاعة والعقيدة، ومن الواضح أنّهم إذا وجدوا مثل هذا التشكيك في كلامه سوف يفقدونه ويسقط من أنظارهم، فيسبب ذلك عدم سماعهم لمواعظه وإرشاده، أو بعده عنهم أو مقاطعتهم له عمليّاً(2) .

9 - أن يدع ما أمكن من التفلسف فيه من الحوادث، أعني التعرّض إلى الحكم والأسباب التي اقتضتها، ما لم يحرز في نفسه الإصابة لذلك، وإلاّ فليدع ذلك إلى أهله، وهو خير له في الدنيا والآخرة من أن يكلّف نفسه ما لا يطيق، أو أن يكلّف السامعين بالردّ فيتورّط بالحرام من حيث لا يعلم، وذلك لا يفرق أيضاً فيما يخصّ كربلاء وحركة الإمام عليعليه‌السلام ، أو اُمور الشريعة الأخرى.

10 - أن لا يروي الخطيب اُموراً مستحيلة بحسب القانون الطبيعي حتّى وإن ثبت لديه بطريق معتبر؛ لأنّها على أيّ حال ستكون صعبة التحمّل على السامعين، ولعلّ أوضح مثال ذلك ما يذكره بعض

____________________

(1) المصدر نفسه / 108.

(2) المصدر نفسه / 111.

١٠٤

الخطباء عن علي بن الحسين الأكبر (سلام الله عليه) أنّه حين ضرب على رأسه بعمود تناثر مخّه، وفي بعض المصادر سال مخّه على كتفيه، ثمّ يقول الخطباء: إنّه في آخر رمق من حياته دعا أباه الحسينعليه‌السلام فبادر بالذهاب إليه، فأخبره قائلاً: هذا جدّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قد سقاني بكأسه الأوفى شربة لا أضمأ بعدها أبداً.

مع العلم واليقين أنّ مَنْ تناثر مخّه فهو ميت لا محالة، ولا يستطيع الكلام ولا بكلمة واحدة، فضلاً عن الانتظار مدّة إلى أن يصل إليه أبوه؛ فإنّ تلف المخّ طبيّاً يعني الوفاة، وعدم إمكان استمرار الحياة بكلّ تأكيد؛ فيكون ما يقوله الخطباء من كلام بعد ذلك ممتنعاً بحسب القانون الطبيعي، إلاّ أن يقول أنّ مخّه لم يتناثر عندئذ تكون له قدرة الكلام(1) .

أذكر ما سمعته من أحد الخطباء أنّ طالباً للعلوم الدينية في النجف الأشرف انقطع عن أهله الذين هم خارج العراق، وضاقت به أوضاعه الماديّة فعاش أيّاماً في حيرة ودهشة؛ بين أن يمدّ يده إلى العلماء والتجّار، أو أن يكون عزيزاً كريماً ويتحمّل مشاقّ الوضع الماديّ.

بينما هو على هذه الحال ذهب إلى ضريح الإمام عليعليه‌السلام في وقت صلاة الظهر والناس مجتمعة للزيارة والصلاة، وفيهم عالم عظيم الشأن إمام الجماعة، فجلس عند الضريح الطاهر متوسّلاً لله بصاحب القبر، بينما هو يدعو ويتوسّل وإذا (قنديل) مطليّ بالذهب معلّق في السقف تنقطع السلسلة المعلّق بها شيئاً فشيئاً وينزل في

____________________

(1) المصدر نفسه / 109.

١٠٥

حجره، ففزعت الناس إليه وتناهبوه، وأخذوه لينالوا البركة منه.

فعاد في الحال إلى الضريح قائلاً: سيّدي، عطيتك أخذوها منّي! فهبّت رياح قويّة من خارج المرقد ودخلت إلى الضريح، فأخذت هذا (القنديل) من أيدي الناس وأرجعته إلى هذا الطالب.

فلمّا رأى إمام الجماعة هذه الكرامة جاء قرب هذا الطالب مخاطباً الناس بترك هذا (القنديل) له؛ فإنّه من عطاء الإمام إليه، ثمّ التفت إلى الطالب بالمدح والثناء بأنّه أفضل من العلماء، وأفضل منه خاصّة؛ لأنّهم في حجب عن الله تعالى، بحيث لم تكن لهم كرامة مثلما كانت لهذا الطالب.

إنَّ حكاية مثل هذه الاُمور استخفاف بعقول الجالسين، وفيه دلالة على عدم نقاهة فهم الخطيب منها.

11 - إنّ مسؤوليّة الخطيب عظيمة، ودوره كبير في إدامة تعاليم الإسلام، فهو الحلقة الموصلة بين الفقهاء والمراجع وبين الناس، فعليه أن يقوّي صلة الناس بمراجع وعلماء وحماة الدين المخلصين الذين هم روح لدوام التشيّع، لكن من غير أن تكون دعوة لخصوص شخصيّة منهم، وإنّما دعوة عامّة من غير تشخيص مصداق خاص.

أمّا إذا وجدت بعض المفارقات غير المتعمدة فإنّه لا يعني سلب الثقة من الكلّ والإعراض عن الكلّ، كما إنّه ينبغي أن لا يذكر الخطيب ذلك إلى الناس بأيّ نحو وصورة كانت.

12 - أن لا يكون المنبر وسيلة للتبليغ إلى فئة خاصّة أو مجموعة خاصّة، بل حصر المنبر في حدود اختصاصه، وعدم الخروج به عن

١٠٦

وظيفته الإسلاميّة التي هي التبليغ للإسلام عن طريق اتّباع مذهب أهل البيتعليهم‌السلام .

13 - إقامة مجالس العزاء لا تنحصر في أيّام محرّم ورمضان، وإنّما تقام في مناسبات عديدة ومتنوّعة. فعلى الخطيب أن يراعي في موضوع الخطبة المجانسة مع مناسبة إقامة المجلس، فقد يعدّ الخروج عن تلك المطابقة مذموماً عند الحاضرين والمقيمين للمجلس.

وممّا ذكر في هذا المقام: توفي بالسكتة القلبية أحد التّجار المؤمنين، وكان سيّداً محترماً، ورعاً تقيّاً نقيّاً، أقام له ذووه مجلس الفاتحة، حضره عدد كبير من علماء الدين والتّجار والكسبة والمؤمنين.

ودعي لإلقاء كلمة هذا المجلس أحد الوعّاظ وكان مسنّاً محترماً، قد حزَّ في نفسه انتشار الفساد والآثام والخطايا في المجتمع، ولا يترك فرصة تمرّ إلاّ وتطرق إلى شيوع الفحشاء والأعراض الناتجة عن ذلك.

ارتقى هذا الخطيب المنبر وفي نيّته الحديث عن موت الفجأة؛ ليلائم بحثه مقتضى الحال، فبدأ كلامه بالرواية التالية:

عن الإمام أبي جعفر الباقرعليه‌السلام قال: «وجدنا في كتاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا ظهر الزنا من بعدي كثُر موت الفجأة».

لقد وقع هذا الواعظ المحترم وبشكل لا شعوري تحت تأثير إحساسه الانتقادي، وجعل من ظهور الزنا الذي جاء ذكره في الحديث محوراً

١٠٧

أساسياً لبحثه، وتحدّث عنه بإسهاب، فتأثّر من حديثه المعاكس للبلاغة، المخالف لشأن المجلس هذا ذوو المتوفى والحاضرون؛ حيث تكلّم طيلة الفترة تقريباً عن شيوع الزنا وموت الفجأة بوصفه عقاباً على انتشار الخطايا(1) .

فأسباب إقامة المجالس كثيرة ومتنوّعة، كما إنّ المؤسّسين لها دوافعهم في إقامة تلك المجالس مختلفة، فالخطيب عليه أن يعرف خصوصيات الغرض من إقامة المجالس قبل أن يرتقي المنبر؛ ليتطابق مقاله مع الحال.

14 - إنّ كلَّ عملٍ يُراد به وجه الله يقعد الشيطان في طريقه لإفساده، أو قطع صاحبه عنه، وفي الخطابة يسعى الشيطان إلى إفساد نيّة الخطيب، أو يدفعه إلى الغرور والتعالي؛ بأن يغلق قلبه وأذنيه عن كلّ نصيحة تسدى له، أو توجيه يهدى إليه؛ لأنّه يرى نفسه صار خطيباً بمقام أعلى وأسمى من أن يقدّم له ذلك، ويعدّ النصيحة والتوجيه حسداً من الآخرين لمقامه، أو يتّهم الآخرين بعدم معرفة أساليب النقد.

ولا شك أنّ هذا مرض من أمراض القلب؛ فعلى الخطيب أن يقوّي علاقته بربّه، ويتوكّل عليه، ويتعوّذ به من الشيطان؛ ليحميه من جميع الأمراض التي تفسد إخلاصه.

فإذا وفّقك الله تعالى وصرت خطيباً حسينيّاً فلا تعجبك نفسك؛ فإنّ ذلك من فرص الشيطان.

____________________

(1) البيان وفن الخطابة / 128.

١٠٨

الباب السابع

تجارب الخطباء

1 - الخطيب الشيخ محمد سعيد المنصوري

2 - الخطيب السيد جاسم الطويرجاوي

3 - الخطيب الشيخ أحمد الوائلي

١٠٩

تجارب الخطباء

دلّت الأبحاث النفسيّة الحديثة أنّه لا يرجى كثير نفع من وراء تعلّم القواعد، أو تعلّم الإرشاد والوعظ من دون ذكر الأمثال، ولاشك أنَّ ذلك له أثر، لكنه ضئيل وضعيف في تكوين شخصيّة الإنسان؛ فالقاعدة الأولى في خصوص ما نحن فيه من الخطباء يجب على الخطيب أن يتعرّف على الشخصيّات المتميّزة في الخطابة، فيبذل الجهد على التخلّق بطريقتهم، ويخلق بينه وبين منهجهم صلّة وثيقة.

فالجواب هنا: التعرّف على كيفية بلوغ الخطباء المتميّزين إلى مرحلة النضج الخطابي والانتفاع بتجاربهم؛ فإنّ معرفة ذلك من التوفيق، كما ورد في الحديث: «مِنَ التوفيق حفظ التجربة». التجربة التي تكون عند الشخص نفسه، والتجارب التي تكون عند الآخرين.

والآن نستعرض مجموعة من تجارب الخطباء؛ لغرض الانتفاع بها.

١١٠

سماحة الخطيب الشيخ محمد سعيد المنصوري

س: كيف وفقتم لاختيار نهج الخطابة الحسينيّة؟

ذلك ما يرجع به الفضل للوالد (رحمه الله تعالى)، حيث هو الذي اختار لي هذا السبيل، كما اختار لي اُستاذاً كبيراً في علمه وفنّه، وهو المرحوم الخطيب السيّد محمد سعيد الغريفي العرفاني، وقام (رحمه الله) بتوفير جميع ما أحتاجه من مستلزمات الحياة والخطابة، وأنا كنت في سنٍّ لا اُميّز فيه بين هذا العمل الشريف وغيره من المهن المتعدّدة، وكان أيضاً يمتحنني بين فترة وأخرى بالشعر والنثر، وكيفية الأداء؛ إذ كان من ذوي الثقافات العالية، فأصبحتُ من هذا وذلك ممّن لا بأس بهم.

أمّا نِعْمَ الخطيب أو جيد لا عيب فيه، فتلك درجة لم ينلها غيري حتّى أدّعي بها، ومَنْ ادّعى ذلك كذّبته شواهد الامتحان، والقاعدة الكلّية؛ لما ذكرنا في الحكمة المشهورة: (جلَّ مَنْ لا عيب فيه)، والكمال المطلق لله سبحانه.

س: ما هي الصعوبات التي واجهتكم في التجارب الأولى، وكيف تغلبتم عليها؟

الصعوبات في التجارب الأولية كثيرة، وأهمّها الحفظ حسب الصورة الصحيحة، والإحكام والإتقان لجميع النواحي المطلوبة، فمثلاً التأكّد من صحة وزن الشعر، وانسجام المعنى خصوصاً عند الاصطفاء والانتخاب من القصيدة ما يتلائم والوقت، ثمّ حسن الأداء كلّ حسب ما يقتضيه معنى الشعر، ثمّ التمكّن تماماً من السيطرة على

١١١

المجلس، فإذا فقد كلّ ذلك سيطر على الخطيب الخجل، وكان نصيبه الفشل.

فعليه، التغلّب على ما ذكرتم لا يمكن إلاّ بضبط ما بينّاه، وكثرة الممارسة هي التي تجعل الصعب سهلاً، والشديد من الاُمور هيّناً، ومَنْ تردّد في شيء أعطي حكمته.

س: ما هي المعاناة النفسيّة عند مواجهة الجمهور في التجربة الأولى؟ وكيف يمكن التغلب عليها؟

المعاناة النفسيّة دائماً يكون سببها إصابة المرء بالخجل، الذي من بعضه ما يسببه عدم الثقة بالنفس، ومتى فقد الإنسان الثقة بنفسه فقد ركناً مهمّاً من أركان النجاح في الخطابة، وغيرها ممّا يزاوله من الأعمال.

وعلاج ذلك: أن يحاول إرجاع خجله إلى الحياء؛ لأنّ الفرق بين الحياء والخجل كالفرق بين الغبطة والحسد. الخجل يذهب بكلّ القدرات بعد علمنا بأنّه وليد عدم الثقة بالنفس، أمّا الحياء فهو صفة عالية، وحالة محبوبة سامية.

إنّ الله يحبّ من عباده المؤمن الحيي، لماذا؟ لأنّه كلّما بالغ في الشكر في العبادة؛ في الحمد، في الذكر، يرى نفسه مقصّراً، يحاول أن يقوم بعبادة أشدّ، ويشكر أكثر، ويحمد أوفر.

فإذاً الحياء يأخذ بيد الإنسان في الأكمل من الأعمال والأجمل، والخجل يخرس لسان الإنسان حتّى فيما هو أعلم وأدرى به من غيره.

فإن استطاع الخطيب الخلاص من هذه الحالة واستبدالها بما ذكرنا، فليس هناك أيّ شك لدينا من أنّه بعد برهة قليلة سيصبح من الخطباء اللامعين والناجحين، وإلاّ فالترك خير له من المحاولة؛ لأنّ المحاولات مع الخجل لا تجدي نفعاً.

١١٢

س: هل استفدتم من مناهج الخطباء في بدء الممارسة العلميّة؟

نعم، كلّ ما عندنا منهم (رحمهم الله)، إلاّ ما خرج بالدليل؛ استفدنا منهم ومن حكاياتهم وأساليبهم وطرقهم، هذا وإن كانت الدروس منتشرة ومبعثرة لكن بإمكان الطالب الذكي أن يأخذها من الأشجار والبراري، والبحار والقفار، والطيور والوحوش، والجامدات والناطقات.

فذا الكون جامعة الجامعات، وذا الدهر أستاذها الأكبر، وأمّا البليد فلو واكب الدروس ليلاً ونهاراً، واختلف على تعلميه الأساتذة الماهرون لما نال من ذلك إلاّ السقوط، ولما زاده إلاّ الهبوط والعياذ بالله.

س: ما هو النهج الذي تميزتم به في الخطابة المنبريّة؟

هوأولاً: الالتزام بعدم الإسهاب في كلّ حاجة من حوائج المنبر، لا سيّما الشعر والنثر مطبقاً بذلك قولهمعليهم‌السلام :خير الاُمور الوسط حيث التناهي غلط.

ثانياً: هو نفس نهج الخطباء مع شيء من التغيير، عندما أذكر قصّة، أو حكاية، أو أيّ موضوع، عدا ما لأهل البيتعليهم‌السلام من أقوال وروايات، أأتي بمضمونه لا بنصه.

ثالثاً: أمتلك في هذا الجانب شيئاً من القدرة في إنشاء الشعر والحمد لله، فأستطيع أن أطيل في الخبر القصير، وأختصر في الخبر الطويل مع حسن البيان، وطلاقة اللسان، مع الاحتفاظ بأصل المعنى.

س: بعد هذا العمر المبارك في الخطابة هل يمكن أن تذكروا لنا المراحل التي مررتم بها حتّى بلغتم النضج في المنهج الخطابي لكم؟

١١٣

المراحل التي مررنا بها من أشدّها دراسة اللغة، وحفظ قواعدها، وما نمتحن به منها، وحفظ الأشعار والأخبار، والتطبيق والأداء.

وإنّي اعتبر المرحلة الأولى في الخطابة من أشدّ المراحل التي مرّت بي ومررت بها، ولكن كلّما انتقلت من مرحلة إلى المراحل التالية تخفّ الوطأة، ويهون الأمر حتّى أصبحت خطيباً قدر الإمكان.

س: ما هي نصيحتكم للخطيب المبتدئ؟

النصيحة للخطيب المبتدئ أن يكتب خير ما يسمع، ويحفظ خير ما يكتب، ويتكلّم بخير ما يحفظه، وأن لا يعجب بنفسه ولا بزيّه، ولا بصوته؛ فإنّ العجب آفة التوفيق، وأن لا يترك المزاولة والممارسة لعلمه؛ فإنّ الترك آلة النسيان، وأن يتأثّر بالشيء الذي يذكره حتّى يؤثر في غيره؛ فإنّ ما يخرج من القلب يقع في القلب.

١١٤

فضيلة الخطيب السيّد جاسم الطويرجاوي

طلبت الملائكة بما فيهم جبرائيلعليه‌السلام الخدمة للإمام الحسينعليه‌السلام ، وقد أدرك هذا المعنى الشاعر أبو نؤاس لمّا سُئل عن سبب تركه مدح الإمام الرضاعليه‌السلام ...

فعلامَ تركت مدح ابن موسى

والخصال التي تجمعنَ فيهِ

قلت لا أستطيع مدح إمامٍ

كان جبريلُ خادماً لأبيه

فالخطيب خادم الحسينعليه‌السلام ، فالإنسان الذي يتصدّى لهذه الخدمة يجب أن يتحلّى باُمور:

1 - الصبر على المكاره

2 - يحبّ لغيره ما يحبّ لنفسه

3 - صادق اللهجة

4 - أن يعبّر عن أهل البيتعليهم‌السلام بأفعاله وأقواله

5 - حاول أيّها الخطيب أن تستقطب المجتمع وتجعله مرتبطاً بك، مشدوداً إليك، ولا يكون العكس، بمعنى لا تركض وراء عطاء الآخرين، لا تعمل لإرضاء الآخرين؛ اجعل الناس تتشرّف بقراءتك، تتشرّف بصوتك، وأن تكون لك الهيمنة، ولا تترك للآخرين أن يفرضوا عليك شيئاً؛ اقرأ هكذا ولا تقرأ هكذا.

أقول: أن تكون لك الهيمنة، ولكن من غير غطرسة وتكبر ورياء، وإنّما هيمنة مع التواضع، والحبّ للناس من الأعماق.

١١٥

وممّا يوصى به: أن تقرأ عند الغني والفقير، لا تفرّق بين هذا وذاك، اقرأ في كلّ مكان تُدعى له، اقرأ في الشاعر، في السوق، على ظهر البعير، لكن بحسب المناسب ما لم يكن فيه سخرية واستهزاء.

6 - وممّا أذكره إنّي تشرّفت في زيارة الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام ، وكانت أوّل زيارة لي، واقترنت هذه الزيارة مع شهادة الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام ، وهناك جمع غفير من الزائرين مستعد لسماع مجلس عزاء الشيخ (كاظم نوح).

دخلت وطلبت منه الرخصة لأرتقي المنبر بدلاً عنه. التفتْ إلى أخلاق الشيخ، لم يمانع ولم يبادرني بأيّ سؤال، وإنّما شجّعني على ذلك. هكذا يجب أن تكون أخلاق الخطيب الحسيني.

7 - وممّا أذكره إنّ أحد الخطباء قرأ في مجلس وأبكى القلوب والعيون بمصاب أبي عبد اللهعليه‌السلام ، ولمّا انتهى المجلس بادره شخص من الحاضرين ينتقده على ما قرأ، ووصف المجلس بعديم الفائدة، وقدحه بكلمة عاميّة نابية. استقبل الخطيب هذا الكلام بقلب رحب، وتغافل عنه، وأوعده أن يوفّق في المرّة القادمة.

التفتْ إنَّ الخطيب خادم الحسينعليه‌السلام لا يغيظه أمر شخص.

8 - اخلص لمَنْ تخدمه، فالمخدوم أخلص لك بدمه.

9 - أن لا تتعامل مع قضية الحسينعليه‌السلام بالمال؛ ليكن شعارك الحسين.

١١٦

10 - نافس الخطباء الآخرين، واجتهد أن تكون بمنزلتهم ومقامهم العالي، ولكن لا تنافسهم حسداً(1) .

تجارب الدكتور الشيخ أحمد الوائلي

كتاب الشيخ (تجاربي مع المنبر) غني بالتجارب والنصائح والتوجيهات، وينبغي لكلّ خطيب الاستفادة منها، ونذكر هنا ما نراه مناسباً لهذا المقام ممّا ندم على عدم فعله.

1- هو إنّي لم أكمل الدورات الدراسيّة المتعلّقة بالعلوم الإسلاميّة: الفقه واُصول الفقه والفلسفة، وكلّ مشتقّات العربية إلخ؛ فقد كان ينبغي عدم الاكتفاء بدورات عاديّة غير مكثّفة، بل لا بدّ من إحاطة تامّة بتلك العلوم التي تعتبر أساساً ضروريّاً للمنبر، خصوصاً وأنا في يومها في دور الصبا، ومعه تسهل الصعاب، ويستوعب الذهن، وترتفع الهمّة، وليس هناك شواغل ممّا جدّ بعد ذلك.

لقد برهنت لي تجاربي أنّ الخطيب ينبغي أن يكون على دراية تامّة بالعقائد والأحكام، وما هو لصق بأفق المعرفة الإسلاميّة؛ وبدون ذلك سيبقى الشعور بالنقص، بل سيكون عرضة لتبكيت بعض مَنْ يُحسبون على أهل العلم لسبب وآخر.

وفي الوقت نفسه لا بدّ من الأخذ بنصيب وافر من العلوم الحديثة، والإلمام بلغتين رئيسيتين على الأقل؛ لشدّة الحاجة لذلك في

____________________

(1) في حديث له في معهد الحسنين للخطابة بتاريخ 17 / جمادى الثاني / 1419ﻫ.

١١٧

ميادين مختلفة(1) .

2 - ومن الاُمور التي ندمت عليها، وأعتقد أنّها جنت على منهج كان ينبغي أن يكون سائداً، تلك قضية تعدد المجالس باليوم الواحد، ممّا يكون على حساب الأصالة ومكانة الخطيب، وتحويل المأتم إلى ممّارسة خالية من الفائدة؛ ذلك إنّ اقتصار الخطيب على مجلس يعطيه الفرصة للإجادة، والاستيعاب للموضوع، ويصعد به إلى مستوى المحاضر المحترم الذي يقصد ويستفاد منه، وفي الوقت نفسه يجعل المجلس مدرسة تربّي وتبني.

وسيقول البعض - وهو على حقّ - إنّ المجلس الواحد ليس له ذلك المردود المادي الذي يسدّ حاجة الخطيب ويكفل معاشه، والمفروض أنّه حبس نفسه على هذه المهنة، ولا طريق له للتعيّش بسواها، وهذا هو سرّ المشكلة؛ فإنّه يعدّد ليحصل على أكبر قدر من المال يسدّ حاجته.

ومع إيماني بصحة ذلك، فإنّي أقول: إنَّ هذا منهج لو دأب الخطباء على تبنّيه لربّما أصبح سائداً، وارتفع معه أجر الخطيب، وترتّبت عليه باقي الإيجابيّات، ولا بدّ من تضحية بادئ الأمر(2) .

تجربة اُخرى للشيخ

3 - كانت في مدرسة المحروم آية الله الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء، وكان عنده مجلس يعقد في كل يوم جمعة، ويسميه النجفيّون (عادة)، وكنت يومئذ صبيّاً أرتدي الكوفيّة، ولم ألبس

____________________

(1) تجاربي مع المنبر - الشيخ الوائلي / 115.

(2)المصدر نفسه / 116.

١١٨

العِمة بعد، فحضرت في يوم الجمعة، فجلس الشيخ، واتّفق أن تأخّر الخطيب ذلك اليوم، وهو المرحوم الشيخ حسن ابن الشيخ كاظم السبق، فأشار بعض الحضور إليّ، ونبّه الشيخ بأنّي ممّنْ يقرؤون التعزية، فقال لي الشيخ: تفضّل واقرأ لنا. ففرحت بهذا الطلب، وشعرت باعتزاز بأنّي اقرأ في مجلس كاشف الغطاء، فشرعت بالقراءة.

وأذكر أنّي صدّرت مجلسي بالحديث القدسي: «لولا شيوخ ركّع، وأطفال رضّع، وبهائهم رتع، لصببت عليكم البلاء صبّاً». وشرحت الفقرات الثلاث، وجعلت فقرة الأطفال آخر فقرة؛ لأتخلَّص منها للرضيع، ثمّ ذكرت أنّ الحسينعليه‌السلام في آخر رجعة طلب رضيعه فناولته إيّاه زينب، وهي في حالة حزن شديد، فسلاّها الحسينعليه‌السلام بقوله: «تعزّي بعزاء الله، ولا يذهبنَّ بحلمك الشيطان، واعلمي أنّ أهل السماءيموتون، وأهل الأرضلا يبقون. ..» إلخ.

هكذا قرأت الرواية، وكان الشيخ (رحمه الله) بكّاءً وجهوري الصوت، فلّما فرغت مسح دموعه، وقال: ادنُ يا بُني، إنّي أرجو لك أن تكون شيئاً، وبارك الله فيك، ولكن يا بُني إنّ الأثر الذي ذكرته ليس كما ذكرت، بل اعكس تُصب؛ إنّ الحسينعليه‌السلام لا يقول: اعلمي أنّ أهل السماء يموتون؛ لأنّ أهل السماء ليسوا من جنس مَنْ يموت، إنّهم من المجرّدات، وأخذ الشيخ (تغمّده الله برحمته) يشرح وينصب كالسيل،

١١٩

وكان درساً من أروع الدروس نبّهني أن أضبط النصوص الواردة عن أهل بيت العصمةعليهم‌السلام (1) .

____________________

(1) تجاربي مع المنبر - الشيخ أحمد الوائلي / 107.

١٢٠