توظيف التفسير المفاهيمي

توظيف التفسير المفاهيمي33%

توظيف التفسير المفاهيمي مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 105

توظيف التفسير المفاهيمي
  • البداية
  • السابق
  • 105 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 33454 / تحميل: 6620
الحجم الحجم الحجم
توظيف التفسير المفاهيمي

توظيف التفسير المفاهيمي

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

توظيف التفسير المفاهيمي

في إعداد المحاضرة الدينية

( نماذج تطبيقيّة )

تأليف: الشيخ عبد الهادي الطهمازي

١

٢

الإهداء

إلى كلّ الذين ساهموا بخدمة المنبر الحسيني الشريف، وأسهموا في تعزيز دوره وأثره في حياة الأمة

أهدي هذا الجهد

٣

مقدّمة

تحتاج الخطابة كأيّ فنّ من الفنون، أو علم من العلوم كي تستمر في عطائها، وتحقيق المرجو منها إلى تطوير وتنمية مستمرة، وباتجاهات مختلفة، أبرزها:

١ ـ تنمية وتطوير قدرات القائمين عليها، وهم هنا الخطباء، وذلك بتدريبهم على استخدام أنجع وسائل وأساليب التأثير، والإقناع للمخاطبين من خلال إيقافهم عن مجموعة على القواعد والاُصول التي تسهم حال مراعاتها بتحقيق ذلك الغرض، وتزويده بأدوات البحث والتحقيق، وتنقيح المعلومات والأفكار، واستخدام أفضل الطرق للوصول إلى النتائج العلمية السليمة؛ لضمان صحة المعلومات والأفكار التي يلقيها للسامعين، وتنويره بالمفاهيم العلمية والثقافية والأدبية الإسلامية منها وغيرها؛ ليتسنى له مواكبة التقدّم العلمي والثقافي الذي يشهده عالمنا المعاصر.

ومن المفروض أن يقع ذلك على عاتق معاهد الخطابة.

٢ ـ تطوير مضامين الخطب لإنعاشها بالجديد والمفيد، وبما يتناسب أيضاً مع العصر الراهن، وما طرأ عليه من تطوّرات فكريّة وثقافيّة وعلميّة بسبب

٤

الانتشار الهائل للمعلومات التي ما انفكّت وسائل الاتصال الحديثة ترفد بها عقول وقلوب متابعيها، وبأساليب جذّابة ومتنوّعة. حيث تقدّم للمتلقّي المعلومة والفكرة بأيسر الطرق وأسهلها، وبأبخس الأثمان، وتتفنن في ترسيخ الفكرة في ذهن المتلقّي. فراح هذا يتشرّب ما تبثّه من أفكار، وما تنشر من ثقافات ومبادئ وقيم خيراً كانت أو شرّاً.

وإزاء هذا المدّ المعلوماتي الضخم لا ينبغي أن تقف مادّتنا الخطابية عند الموروث القديم، أو الحديث الذي أضحى في عصرنا هذا قديماً.

إنّ نمطيّة الشكل والمضمون تعدّ أحد أهم أسباب تراجع الخطابة، وإضعاف تأثيرها في الجماهير، ويمكن أن نلحظ ذلك في خطابتنا الحالية في انحسار الحضور الجماهيري المكثّف الذي كان يحتشّد في المساجد والحسينيات، ولا أقول أنّ هذا هو السبب الرئيس، أو الأهم في هذه الظاهرة، لكنّه بلا ريب أحد هذه الأسباب.

كما يلاحظ عليها ضعف التأثير الروحي؛ إذ لم تَعُدْ تلك الكلمات التي تُلقى على مسامع الناس ذات تأثير يُذكر في تغير سلوكهم واتجاهاتهم، ولم تَعُدْ تُتَرْجَم إلى سلوكٍ عملي يتحراه الناس في تصحيح مسار حياتهم.

كما يذكر المتخصصون سبباً آخر غير ما ذكرناه؛ لضعف الخطابة الدينية بالخصوص، وفقدانها للتأثير، وهو كثرة موضوعاتها، وتشتتها إلى درجةٍ لا يخرج السامع بحصيلةٍ ما عن الموضوع، أو القضية التي يبحثها الخطيب، وخطابتنا بصورتها الحالية مشتملة عليه.

٥

ومن هذين السببين، وأسباب أخرى تُسهم في إضعاف تأثير الخطابة الدينية، وتفقدها جدواها على المستوى القريب والبعيد، أضحت الخطابة الدينية بعامّة، والخطابة الحسينيّة بخاصّة بحاجة إلى تغيير في نمط البحث وفهرسته، وفي تركيز الموضوع الذي يتناوله الخطيب في خطبته.

فلقد مرّ ـ مثلاً ـ على التطوّر الذي أوجده المرحوم الشيخ أحمد الوائلي (طاب ثراه) في شكل ومضمون المحاضرة أكثر من نصف قرن حين أدخل (رحمه الله) مادة التفسير، وبلونه التجزيئي في مضمون الخطبة الحسينيّة، وكان هذا يُعَدّ بحقٍّ إنجازاً رائعاً، وتطوّراً هائلاً في عالم الخطابة الحسينيّة.

وعاش الخطباء ردحاً من الزمن على خُطى مدرسته، ولا زال بريق ولمعان هذا اللون من المحاضرات يسود بتأثيره، ويسحر بعض روّاد المنبر، وربما يكافح بعض الخطباء جاهداً للوصول بأدائه ومضمون خطبته إلى المستوى المذكور.

ولكن من غير الصحيح أيضاً أن تقف عجلة التطوّر عند عتبة بابٍ دون أن تتخطّاها؛ لتفتح أُفقاً آخر أوسع وأرحب، بل ولعلّ هذه الخطوة قد أصبحت ضرورية، وللأسباب التي ذكرنا بعضها قبل قليل.

ولقد تنبّه بعض كبار الخطباء إلى هذه الظاهرة، فأخذوا بتجديد مضمون خطبهم بشكل فعلي، وبالكيفية التي سنشير إليها بعد قليل، أو تقترب منها.

إنّ طريقة التفسير التجزيئي الشائعة الآن بين خطباء المنبر الحسيني لم تَعُدْ تفي بالغرض المطلوب، وللأسباب التالية:

٦

١ ـ إنّ هذه الطريقة أدخلها كما مرّ الشيخ الوائلي (شكر الله مساعيه) قبل نصف قرن من الزمن، وبأدنى تأمّل يمكن أن نلاحظ الفارق الكبير، والفجوة الواسعة بين زماننا وذاك الزمان.

٢ ـ إنّ تجزئة الآية إلى ثلاث أو أربع مقاطع، ثمّ الإتيان برأيٍ أو رأيين على كلّ مقطع منها، وشرح ذلك الرأي وتوضيحه بالشواهد الحديثة أو التاريخية، أو القصصية أو العلمية.... إلخ يجعل الخطبة مزيجاً من موضوعات عدّة.

صحيح إنّما ترضي الجمهور إذ يأخذ كلّ مستمعٍ منها ما يتّسع له وعاؤه ومستواه الثقافي، إلاّ أنّه بالوقت ذاته لا يخرج بحصيلة تامّةٍ، أو شبه تامّةٍ عن الموضوع.

وقد أشرنا قبل قليل أنّ من أسباب ضعف الخطابة عدم التركيز في الموضوعات التي تطرحها.

٣ ـ كما قد تتضمّن الآية التي يختارها الخطيب محوراً لبحثه بعض البحوث والمعلومات التي ليس لها أهمّية عملية في حياة الإنسان المؤمن، ولا يمكن للخطيب تجنّبها أو القفز عليها؛ لأنّها ستخلّ بمنهجه في البحث، إذ عليه وفق هذه المنهجية أن يشرح فقرات الآية، فقرة تلو أُخرى، ولا يمكنه بحالٍ من الأحوال تجنّب بعض الفقرات، وحينئذٍ سيتضمّن البحث كثيراً من الترف الفكري الذي لا يستفيد منه المؤمن كثيراً في حياته العملية.

٤ ـ كما تواجه الخطيب نفسه بهذه الطريقة عدّة مشاكل منها:

٧

أ ـ تضعف قدرة الخطيب على اختيار التخلّص المناسب، وربط موضوع البحث بقضية الحسين (عليه السّلام)، فالخطيب مُجبر بحكم تسلسل البحث أن يربط آخر مقطعٍ من الآية بواقعة الطفّ، وقد لا يُتاح ذلك له، أو لا يتأتّ بسهولةٍ، أو بانسيابية، أو يتخلّص بتخلّص ضعيف؛ لضعف الملازمة بين مضمون المقطع الأخير ومضمون فقرة التخلّص، ممّا ينعكس ذلك على ضعف التأثير في عواطف الجمهور، وتشتّت انتباهم بسبب التخلّص الضعيف.

ب ـ ضياع بعض مقوّمات الأسلوب الخطابي والتي قد تكون مهمّة؛ لأنّ الوقت قد لا يسع الخطيب بتوكيد فكرته لتستقر في أذهان السامعين، كما لو أراد التكرار مثلاً. أو كان في الآية جانب ترغيب مثلاً وليس فيها جانب ترهيب؛ فإنّه لو استدعاه لربما طال به الوقت، وأثّر سلباً على الفقرات الأُخرى.

٨

المنهج المقترح

والمنهج المقترح هو أن يختار مفهوماً أو موضوعاً من آية قرآنية، أو حديثٍ شريف، أو واقعةٍ تاريخية، أو قصّةٍ... إلخ كما فعلنا في هذه المجموعة من المحاضرات التي بين يديك، ويركّز الحديث حول ذلك المفهوم وحده بحيث يبحثة من كلّ الجوانب أو البعض المهمّ منها.

ويمكنه الاستعانة في تحقيق ذلك بآيات قرآنية أُخرى، ونصوص حديثة، وشواهد تاريخية، ونظريات علمية بحسب ما تقتضيه طبيعة البحث في ذلك المفهوم، وما يستوفي وقت المحاضرة.

وهذا كما هو ملاحظ نحوٍ من التفسير الموضوعي، إلاّ إنّ الباحث غير ملزمٍ بكلّ الآليات المنهجية المتّبعة في التفسير الموضوعي.

ويمكن إطلاق تسمية (التفسير المفاهيمي) عليه.

وهذا المنهج المقترح يمنح الخطيب عدداً من نقاط القوّة منها:

أوّلاً: إشباع ذلك المفهوم بحثاً، وخصوصاً في جوانبه الرئيسية والهامّة، وبذلك يوفّر الخطيب للسامع مادّة علميّةً وثقافيّةً متكاملة، أو شبه متكاملة حول الموضوع ـ المفهوم ـ، وأقلّ ما يخرج به السامع هو الاقتناع بما ذكره الخطيب فيه، ويصبح لديه تصوّر واضح عنه.

٩

ثانياً: تُتيح للخطيب فرصة اختيار التخلّص المناسب، وذلك لتمكّنه من التقديم والتأخير في طرح الأفكار الفرعية المرتبطة بالموضوع، فيختار ما هو أشدّ تأثيراً في النفوس، وأظهر في الملازمة بين موضوع بحثه وبين مفردات واقعة الطفّ.

فمثلاً: إذا أراد أن يتحدّث عن أسباب قسوة القلوب، وعوامل ترقيقها انطلاقاً من قوله تعالى:( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ... ) (١) .

فله أن يُقدّم الأسباب ويؤخّر عوامل الترقيق، أو يفعل العكس، كما يمكنه أن يُقدّم ويؤخّر في الفقرات الفرعية من ذلك العنوان الرئيسي، فإذا ذكر العوامل التي تؤدّي إلى ترقيق القلب، رتّبها بهذا الشكل: قراءة القرآن، مجالسة العلماء والصالحين، التصدّق على الفقراء والمساكين ومعاشرتهم، حضور مجالس عزاء الحسين (عليه السّلام)، المسح على رؤوس اليتامى، أو يُقدّم هذه ويؤخّر فقرة حضور المجالس، وهكذا.

ثالثاً: لا يكون الخطيب مقيّداً بشرح كلّ ما في الآية ـ مورد بحثه من فقرات ـ، فله الاقتصار على ما يرتبط بموضوعه منها، ولا يخلّ ذلك بوحدة الموضوع، ويمكنة أيضاً أن يختصر البحث في بعض جوانبها بعد أن يذكر منهجه لسامعيه.

رابعاً: تمنح الخطيب قدرةً وعمقاً علميّاً وثقافيّاً في فهم واستيعاب الآيات القرآنية الأُخرى المرتبطة بالموضوع؛ لأنّ القرآن يُفسّر بعضه بعضاً.

ومع التوفّر على الآيات المرتبطة بذاك المفهوم، والأحاديث الواردة فيه، والبحوث

____________________

(١) سورة البقرة / ٧٤.

١٠

التي تدور حوله في كتب التفسير أو غيرها يخرج الخطيب، أو الباحث بحصيلةٍ ممتازةٍ ورؤية واضحة، ممّا يُغني ذلك ثقافته، وتمنحة فرصة انتقاء المعلومات والأفكار التي يضخّها للسامع، وترك ما لا يرى ضرورةً فيه، وسينعكس هذا الوضوح في الرؤية على جمهوره حتماً، بخلاف ما لو كان الموضوع غامضاً لديه، ولم يُحط بجميع جوانبه.

وفي طريقة التفسير التجزيئي لو أراد الإحاطة بكلّ ما تطرحة الآية من أفكار ومعلومات لاستغرق ذلك منه وقتاً طويلاً، وجهداً كبيراً.

وإليك عزيزي القارئ بعض المحاضرات التي كتبت بهذه المنهجية المقترحة.

ملتمساً من إخواني أصحاب الفضيلة والخطباء الأعزّاء توقيفي على بعض الهفوات والأخطاء التي فاتني معالجتها سهواً أو غفلةً، كما ألتمسهم الدعاء إلى الله (عزّ وجلّ) أن يوفّقنا جميعاً لخدمه دينه الحنيف والمنبر الحسيني الشريف.

والحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمّدٍ وآله الطاهرين.

١ / ج ٢ / ١٤٢٦ هـ

١١

المحاضرة الأولى: نفي الرؤية والجسمية

بسم الله الرحمن الرحيم

( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (١) .

تنقسم صفات الباري (عزّ وجلّ) إلى قسمين: صفات ثبوتية، وصفات سلبية؛ والصّفات الثبوتية: هي تلك الصّفات التي تُنسب إلى الله تعالى وهي موجودة فيه، وهي نوعان:

الأوّل: الصّفات الذاتية: وهي مفاهيم منتزعة من الذّات الإلهية، بمعنى أنّ الله تعالى واجد لها، أو حائز لها؛ كالعلم والقدرة، والسمع والبصر، وغيرها من أنواع الكمالات.

الثاني: الصفات الفعلية: وهي مفاهيم منتزعة من علاقة الله بمخلوقاته.

مثل: الخالقية والرازقية والرحمانية، وغيرها من الصّفات الموجودة فيه تعالى، ولكن باعتبار علاقته تعالى بمخلوقاته(٢) .

____________________

(١) سورة الأنعام / ١٠٣.

(٢) راجع دروس في العقيدة الإسلاميّة ـ للشيخ مصباح اليزدي / ٨٢.

١٢

أمّا الصّفات السّلبية فهي تلك الصّفات التي يُنزّه الله عنها. وتُسلب منه، مثل: الوالدية، أو الزوجية، أو أنّه تعالى جسم، أو أنّه يُرى. تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.

فهذه الصّفات يُنزّه الله تعالى عنها؛ فتُسمّى صفات سلبية.

إلاّ أنّ بعض المسلمين جعل من بعض الصّفات السّلبية صفاتاً ثبوتية.

فأثبتوا الجسمية له تعالى، واعتقدوا بلوازم الجسمية أيضاً، فقالوا بإمكان رؤيتة تعالى، وأنّه يتحرّك، و... و... إلى غير ذلك من اللوازم.

نريد أن نُناقش في هذه المحاضرة دليلهم على ذلك، ثمّ نُبيّن الأثر الخطير المترتّب على مثل هذا الاعتقاد، ومَنْ الذين أدخلوا هذه العقيدة في كتب بعض المسلمين، وما غرضهم من ذلك.

يتمسّك بعض المذاهب الإسلاميّة بالقول بجسمية الله تعالى، والاعتقاد بلوازم ذلك، كالرؤية مثلاً، اعتماداً على ظاهر بعض الآيات المباركة، وبعض الأحاديث الضعيفة التي دسّها البعض في كتب المسلمين عن عمد، وزعم أنّها مروية عن النبي (صلّى الله عليه وآله).

ولكن قبل أن نذكر بعض الآيات التي يستدلّون بها على الجسمية والرؤية، حريّ بي أن أُبيّن المراد من ظاهر الآيات.

هناك تقسيمات عديدة لآيات القرآن، مثل: المكي والمدني، والمحكم والمتشابه، وأحد هذه التقسيمات هو تقسيم الآيات إلى نصّ وظاهر.

١٣

والنص: ما دلّت عليه الآية دلالة قطعية لا تحتمل غيره(١) . مثل قوله تعالى:( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ ) (٢) ، فالآية نصّ على أنّ نصيب الذكر من الميراث نصيب بنتين.

والظاهر: ما احتمل أكثر من معنى، ولكنّ أحد الاحتمالات أظهر من غيره(٣) .

ولكن يتعين أحياناً الأخذ بأحد الاحتمالات، وطرح الآخر لوجود مانع من الأخذ به.

ولنذكر بعض الأمثلة ليتّضح المقصود.

قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً ) (٤) .

فظاهر هذه الآية أنّ أموال اليتيم إذا اعتدى عليها أحد وأخذها تتحوّل يوم القيامة إلى قطع من نار يأكلها أولئك الظلمة.

وهذا معنى مَنْ يقول بتجسيم الأعمال، أي تحوّل العمل إلى جسم يسعد صاحبه إن كان صالحاً، ويشقيه إن كان سيِّئاً كما في المثال.

بينما هناك آيات لا يمكن التمسّك بظاهرها؛ لوجود مانع سنذكره، مثل قوله تعالى:

____________________

(١) مفتاح الوصول إلى علم الاُصول ـ الشيخ أحمد البهادلي ٢ / ٢٣.

(٢) سورة النساء / ١١.

(٣) مفتاح الوصول ٢ / ٤.

(٤) سورة النساء / ١٠.

١٤

( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) (١) ، ومثل قوله تعالى:( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ ) (٢) .

فهذه الآيات يظهر منها أنّ لله تعالى يداً ورجل (ساق)، ولكن لا يمكن الأخذ بهذا الظهور؛ لوجود موانع.

منها آيات صريحة تنفي كونه تعالى جسماً، أو أنّه يمكن رؤيته، كقوله تعالى:( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (٣) ، وقوله تعالى:( وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) (٤) ، وقوله تعالى:( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ... ) (٥) .

ومن الموانع: الأحاديث الكثيرة المرويّة عن آل البيت (عليهم السّلام)، وعن غيرهم، والتي تنفي أن يكون الله تبارك وتعالى جسماً، أو أنّه يمكن رؤيته، بل تنفي وتنهى عن مجرّد تصوّر ذلك.

يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام):« فمَنْ وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومَنْ قرنه فقد ثنّاه، ومَنْ ثنّاه فقد جزّأه، ومَنْ جزّأه فقد جهله، ومَنْ جهله فقد أشار إليه، ومَنْ أشار إليه فقد حدّه، ومَنْ حدّه فقد عدّه » (٦) .

ويمدح (عليه السّلام) الملائكة بقوله:

____________________

(١) سورة الفتح / ١٠.

(٢) سورة القلم / ٤٢.

(٣) سورة الشورى / ٩.

(٤) سورة طه / ١١٠.

(٥) سورة الأنعام / ١٠٣.

(٦) نهج البلاغة ـ الخطبة ١.

١٥

«ولا يتوهّمون ربّهم بالتصوير » (١) . أي أنّهم لا يتخيّلون الله تعالى، أو يتوهّمون أنّه يشبه شيئاً من مخلوقاته.

وهناك ما يُقارب اثنين وثلاثين حديثاً في اُصول الكافي عن الأئمّة (عليهم السّلام) تنفي كونه تعالى جسماً، أو أنّه يمكن أن يراه أحد، بل يسأل أحد الرواة، واسمه أبو قرّة، الإمام الرضا (عليه السّلام):

فتكذب بالروايات، يعني يقول للإمام: إنّ هناك روايات تقول بأنّ الله جسم، وأنّه يرى، فهل تكذّبها؟

فأجاب الإمام (عليه السّلام):« إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذّبتها، وما أجمع المسلمون عليه أنّه لا يُحاط به علماً، ولا تدركه الأبصار، وليس كمثله شيء » (٢) .

وغير روايات آل البيت (عليهم السّلام) يروي الترمذي عن مسروق، عن السيّدة عائشة، قال: كنت مُتّكئاً عند عائشة، فقالت: يا أبا عائشة، ثلاث مَنْ تكلّم فيهنّ أعظم الفرية على الله؛ مَنْ زعم أنّ محمّداً (صلّى الله عليه وآله) قد رأى ربّه فقد أعظم الفرية على الله؛ والله يقول:( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (٣) ،( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ) (٤) .

وكنت مُتّكئاً، فجلست، فقلت: يا أُمّ المؤمنين، انظريني ولا تعجليني، أليس الله تعالى يقول:( وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى ) (٥) ،( وَلَقَدْ رَآَهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ ) (٦) ؟

____________________

(١) نهج البلاغة ـ الخطبة ١.

(٢) اُصول الكافي ح ٢٥٦.

(٣) سورة الأنعام / ١٠٣.

(٤) سورة الشورى / ٥١.

(٥) سورة النجم / ١٣.

(٦) سورة التكوير / ٢٣.

١٦

قالت: أنا والله أوّل مَنْ سأل رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، قال:« إنّما ذلك جبريل... » الحديث(١) .

ومن الموانع عن الأخذ بظاهر هذه الآيات، أنّها تُنافي العقل؛ إذ لو كان الله تعالى جسماً لكان معنى ذلك أنّه مركّب من أجزاء، وطبيعي أنّ كلّ مركّب محتاج لأجزائه، وواجب الوجود هو الغني، وغير محتاج لشيء.

فلو كان جسماً (تعالى الله عن ذلك) لكان محتاجاً إلى أجزاءه، وهذا غير معقول بحقّ الباري (عزّ وجلّ).

والخلاصة: إنّه لا يمكن التمسّك بظواهر هذه الآيات وإثبات الأجزاء لله تعالى؛ لوجود موانع، منها الآيات الصريحة التي ذكرناها، ومنها الأحاديث الكثيرة، ومنها عدم معقولية كونه تعالى جسماً.

الأثر الخطير في مثل هذه العقيدة

إنّ القول والاعتقاد بأنّ للحقّ تبارك وتعالى يداً ورجلاً وجسماً... إلخ له أثر خطير على فساد عقيدة الناس، وربما يدفع بالبعض إلى الإلحاد وإنكار وجود الله تعالى، أو قياسه على خلقه، وغير ذلك من الآثار الخطيرة التي تؤدّي إلى الانحراف عن جادّة الصواب.

____________________

(١) نقلاً عن الوهابية والتوحيد ـ الشيخ علي الكوراني / ١١.

١٧

وهذه الفكرة، أي كونه تعالى جسماً، تجدها أكثر ما تجدها في كتب العهدين عند اليهود والنصارى؛ التوراة والإنجيل المحرفان، وهؤلاء يتعمدون على بثّ هذه الفكرة في عقول الناس؛ لتحريفهم عن عقيدتهم، ومنهم دخلت في كتب المسلمين، كما ستسمع بعد قليل.

لنقرأ نموذجاً من التوراة المحرّفة في هذا الشأن:

جاء في الإصحاح الثاني والثالث من سفر التكوين: (حيث ذكرت أنّ الله أجاز لآدم أن يأكل من جميع الأثمار إلاّ ثمرة معرفة الخير والشرّ، وقال: إنّك يوم تأكل منها موتاً تموت، ثمّ خلق آدم وزوجته، وكانا عاريين في الجنة؛ لأنّهما لا يُدركان الخير والشرّ، وجاءت الحيّة وحرّضتهما على الأكل من الثمرة، ودلّتهما عليها. فلمّا أكلا منها انفتحت أعينهما، وعرفا أنّهما عاريان، فصنعا لأنفسهما مئزراً، فرآهما الربّ وهو يتمشّى في الجنّة فاختبأ آدم وحواء منه.

فنادى الله: يا آدم أين أنت؟

فقال آدم: سمعت صوتك واختبأت لأنّي عُريان.

فقال الله: ومَنْ أعلمك بأنّك عُريان، هل أكلت من الشجرة؟

ثمّ إنّ الله لمّا ظهر له أنّ آدم أكل من الشجرة قال: هو ذا آدم صار كواحد منّا)(١) .

____________________

(١) نقلاً عن البيان في تفسير القرآن / ٥٠.

١٨

فانظر واعجب؛ فإنّ الله تعالى يتمشّى في الجنّة ولا يدري أين يختبئ آدم... إلى آخر هذه الخزعبلات التي لا يمكن لعاقل تصديقها.

وللأسف فإنّ هؤلاء اليهود والنصارى نقلوها إلى المسلمين، وتسرّبت أحاديث الرؤية والتجسيم إلى كتب المسلمين، وقد قبلها بعض الأوائل على بساطتهم، وسجيتهم السليمة التي لا تعرف المغزى الخطير منها، وسأكتفي بشاهد واحد على ذلك.

روي في البحار عن ابن عباس أنّه حضر مجلس عمر بن خطاب يوماً وعنده كعب الأحبار، إذ قال عمر: يا كعب، أحافظ للتوراة أنت؟

قال كعب: إنّي أحفظ منها الكثير.

فقال رجل من جنب المجلس: يا أمير المؤمنين، سله أين كان الله (جلّ شأنه) قبل أن يخلق عرشه، وممّ خلق الماء الذي جعل عليه عرشه؟

فقال عمر: يا كعب، هل عندك من هذا علم؟

فقال كعب: نعم يا أمير المؤمنين؛ إنّا نجد في الأصل الحكيم أنّ الله تبارك وتعالى كان قديماً قبل خلق العرش، وكان على صخرة بيت المقدس في الهواء، فلمّا أراد أن يخلق عرشه تفل تفله كانت منها البحار الغامرة واللجج الدائرة، فهناك خلق عرشه من بعض الصخرة التي كانت تحته، وأخّر ما بقي منها لمسجد قدسه.

١٩

قال ابن عباس: وكان علي بن أبي طالب (عليه السّلام) حاضراً، فعظّم علي ربّه، وقام على قدميه، ونفض ثيابه، فأقسم عليه عمر لما عاد إلى مجلسه، ففعله.

فقال عمر: غص عليها يا غوّاص، ما تقول يا أبا الحسن، فما عرفتك إلاّ مفرّجاً للغمّ.

فالتفت علي إلى كعب فقال:«غلط أصحابك، وفتحوا الفرية على الله ـ لاحظ أنّه يعبّر بالفرية كما صنعت عائشة ـ. يا كعب، ويحك! إنّ الصخرة التي زعمت لا تحوي جلاله، ولا تسع لعظمته، والهواء الذي ذكرت لا يجوز أقطاره... إلى أن يقول (عليه السّلام): يا كعب، ويحك! إنّ مَنْ كانت البحار تفلته على قولك كان أعظم أن تحويه صخرة بيت المقدس، أو الهواء الذي أشرت أنّه حل فيه » .

فضحك عمر وقال: هذا هو الأمر، وهكذا يكون العلم لا كعلمك يا كعب، لا عشت لزمان لا أرى فيه أبا الحسن(١) .

إذاً هذه العقيدة الزائفة دخلت إلى عقول المسلمين عن طريق كعب الأحبار، ووهب بن منبه وأمثالهم، ولقد حاربها الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) بقوّة، وكشف الزيف فيها كما قرأت قبل قليل.

____________________

(١) بحار الأنوار ٣٦ / ١٩٤.

٢٠

ولكنّ المهم هنا أن نعرف الأثر الخطير في إفساد عقيدة الناس عند القول بالتجسيم والرؤية.

هذا ما سأتركه لعلماء الغرب أنفسهم للإجابة على هذا السؤال، يقول وولتر أو سكار لندربرج، عالم الفسيولوجيا، والكيمياء الحيوية: أنّ أحد أسباب الإلحاد، وعدم الإيمان بخالق الكون، هو القول بجسمية الله.

يقول: عندما تتحرّر عقول الناس من الخوف، فليس من السهل أن تتحرّر من التعصّب والأهواء؛ ففي المنظّمات الدينية المسيحية تبذل محاولات لجعل الناس يعتقدون منذ طفولتهم في إله هو على صورة إنسان، بدلاً من الاعتقاد بأنّ الإنسان خُلِقَ خليفة لله على الأرض.

وعندما تنموا العقول بعد ذلك، وتتدرب على استخدام الطريقة العلمية، فإنّ تلك الصورة التي تعلّموها منذ الصغر لا يمكن أن تنسجم مع أسلوبهم في التفكير، أو مع أيّ منطق مقبول.

وأخيراً تفشل جميع المحاولات في التوفيق بين تلك الأفكار الدينية القديمة، وبين مقتضيات منطق التفكير العلمي، نجد هؤلاء المفكّرين يتخلّصون من الصراع بنبذ فكرة الله كليةً.

وعندما يصلون إلى هذه المرحلة يظنّون أنّهم قد تخلّصوا من أوهام الدين، وما يترتّب عليها من نتائج نفسية، ولا يحبّون التفكير بهذه الموضوعات، بل يقاومون أيّة فكرة جديدة تتّصل بالموضوع، وتدور حول وجود الله(١) .

____________________

(١) الله يتجلّى في عصر العلم ـ مصطفى الدمرداش / ١٧.

٢١

ويقول اينشتاين، صاحب النظرية النسبية فيما يتعلّق باعتقاد اليهود: أنّ هؤلاء بيّنوا الحقيقة دون ما هي عليه بكثير؛ حيث صوّروا الله بشكل إنسان.

ويقول ترتيباً على ذلك: إنّك لا تعثر بين الناس بشكل واضح إلاّ على نفرٍ من أهل البدع، المتأثرين بأحاسيس هذا الدين(١) .

فالهدف من تشبيه الباري (عزّ وجلّ) بخلقه، هو تحريف الناس عن عقائدهم، ودفعهم إلى الإيمان بالبدع والخرافات.

ولا تعجب بعد ذلك أن سمعت أنّ صبيّاً في أحد البلدان الإسلاميّة سأله أستاذه: كيف تعرف ربّك؟

فأجابه هذا الصبي البريء: بساقه المحروقة(٢) .

لأنّه يزقّ منذ صغره بأنّ المؤمنين لا يعرفون ربّهم يوم القيامة إلاّ بعد أن يكشف عن ساقه، وأنّه يضع رجله في النار حتى تقول: قط قط(٣) .

وإن قلنا لكم: إنّ بني أُميّة لعبوا دوراً كبيراً في نشر هذه الإسرائيليات بين المسلمين فلا تعجبوا، ولا تقولوا: إنّكم تعلّقون كلّ ما حلّ بالإسلام على شمّاعة بني أُميّة، ولكنّها للأسف هي الحقيقة، وأنقلها هذه المرّة على لسان الإمام مالك بن أنس إمام المالكية.

قال الذهبي في سير أعلام النبلاء:

____________________

(١) التوحيد ـ الشيخ مرتضى مطهري / ٤٦.

(٢) الوهابيّة والتوحيد / ١٨.

(٣) البخاري ـ تفسير سورة ق ٣ / ١٢٧، مسلم ـ باب النار يدخلها الجبارون ٢ / ٢٨٢.

٢٢

قال ابن القاسم: سألت مالكاً عمّن حدّث بالحديث الذي قالوا: إنّ الله خلق آدم على صورته، والحديث الذي جاء أنّ الله يكشف عن ساقه... إلخ، فأنكر مالك ذلك إنكاراً شديداً، ونهى أن يحدّث بها أحد،فقيل له: إنّ أُناساً من أهل العلم يتحدّثون به.

فقال: مَنْ هو؟

قيل: ابن عجلان عن ابن أبي الزناد.

فقال: لم يكن ابن عجلان يعرف هذه الأشياء، ولم يكن عالماً.

وذكر ابن أبي زناد فقال: لم يزل عالماً لهؤلاء حتى مات(١) .

ويقصد أنّ راوي هذه الأحاديث (ابن أبي الزناد) كان عاملاً عند بني أُميّة، ينشر أفكارهم عن قصد وعمد، مستهدفين طمس الدين، وتغيير معالمه، ومحقه بالأحاديث المكذوبة عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

ولقد تربّى يزيد بن معاوية بالذّات في بيئة نصرانية عند أخواله بني كلاب في حران، وأخذ منهم عاداتهم ومعتقداتهم حتى آخر لحظات حياة أبيه. ولم يكن يزيد مجاوراً للمسلمين، فليت شعري إذا تربّى شخص حتى جاور الثلاثين بيئةٍ فهل يحمل غير أفكارها وأخلاقها؟!

____________________

(١) سير أعلام النبلاء ـ الذهبي ٨ / ١٠٣.

٢٣

المحاضرة الثانية: الشفاعة

بسم الله الرحمن الرحيم

( وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى‏ وَهُم مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ) (١) .

تُعَدّ الشفاعة من أهم المعارف الإسلاميّة، ولها ارتباط مباشر بمباحث العدل الإلهي، كما إنّ لها مغزى عميقاً وفلسفة عظيمة لما تتضمّنة الشفاعة من دلالات عميقة، نذكر منها على سبيل المثال:

أوّلاً: أنّ الشّفاعة باب من أبواب الرحمة الإلهية؛ حيث تنطوي على أمل ورجاء بالنسبة للعاصين في رحمة الله (عزّ وجل).

فهي من هذه الجهة تشبه التوبة؛ حيث تُعَدّ التوبة فرصة للعاصي ينبغي عليه اغتنامها، وكما أنّ التوبة باب من أبواب رحمة الله (عزّ وجلّ) كذلك الشّفاعة.

إذ قد تفوت العبد فرصة التوبة من الذنب، أو بعض الذنوب؛ ولكي لا يُحرم العبد الرحمة يفتح له المولى تبارك وتعالى باباً آخر من أبواب رحمته، تسمّيه الشّريعة الشّفاعة.

____________________

(١) سورة الأنبياء / ٢٨.

٢٤

ولكنّ باب الشّفاعة ليس اعتباطيّاً، بل على المسلم أن يسعى؛ لكي يكون مؤهّلاً للدخول في دائرة الشّفاعة.

ثانياً: تتضمّن الشّفاعة بياناً لمنزلة الشّافعين عند الله تعالى أمام الخلق أجمعين؛ ليعرف الناس منزلتهم، ودرجة قربهم من الله تعالى.

ثالثاً: وتتضمّن بيان أثر اتّباع الإنسان المسلم لتوجيهات هؤلاء الشّافعين والسير على هديهم.

فهي من هذا المنطلق بمثابة الجائزة لِمَنْ يسعى لأن يدخل في دائرة الشّفاعة.

ولكنّ الشّفاعة وقعت بين الإفراط والتفريط؛ فالبعض أخذ يعوِّل عليها كثيراً، جهلاً بحقيقة الشّفاعة، ممّا أدّى إلى انحرافهم عن أحكام الشّريعة. فلا يصلّي ولا يصوم، ويرتكب جميع المحرّمات معوّلاً على الشّفاعة.

وقد دفع هذا الفهم الخاطئ بآخرين إلى إنكار مبدأ الشّفاعة جملةً وتفصيلاً، فهم يقولون: إنّ الشّفاعة تجرّئ الناس على ارتكاب المعاصي. وهذا مرفوض قطعاً في الشّريعة الإسلاميّة. والحقّ: أنّ الشّفاعة ثابتة بنصّ القرآن الكريم، وطائفةً كبيرة من الأحاديث الشّريفة.

فبالإضافة إلى الآية التي صدرّنا بها البحث هناك آيات أُخرى تتحدّث عن الشّفاعة وثبوتها يوم القيامة. قال تعالى:

٢٥

( مَن ذَا الّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ ) (١) .

وقال عزّ من قائل:( يَوْمَئِذٍ لاّ تَنفَعُ الشّفَاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً ) (٢) .

وقال:( وَكَم مِن مَلَكٍ فِي السّماوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى ) (٣) .

فبمفهوم الاستثناء تثبت الشّفاعة لبعض الشّافعين، كما لاحظنا ذلك في الآيات الكريمة.

أمّا الأحاديث الواردة فيها فهي كثيرة، منها قوله (صلّى الله عليه وآله):« وأمّا شفاعتي ففي أصحاب الكبائر، ما خلا الشّرك والظلم » (٤) .

ومنها قوله المروي عنه (صلّى الله عليه وآله):« مَنْ لم يؤمن بشفاعتي لا أناله الله شفاعتي » (٥) .

____________________

(١) سورة البقرة / ٢٥٥.

(٢) سورة طه / ١٠٩.

(٣) سورة النجم / ٢٦.

(٤) التفسير المعين / ٤٩٥.

(٥) التفسير المعين / ٤٣١.

٢٦

حقيقة الشفاعة

يمكن تصوّر شفاعة الشّفيع لدى الحاكم على نحوين:

الأوّل: أن تكون الشّفاعة قبل صدور الحكم، بحيث يكون للشّفيع تأثير على الحاكم.

الثاني: أن تكون بعد صدور الحكم، فتكون حينئذٍ من قبل الحاكم وبإذن منه.

فأمّا النحو الأوّل التي قبل صدور الحكم، فهي باطلة قطعاً بحكم العقل، ونصّ القرآن.

قال تعالى:( وَاتّقُوا يَوْماً لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ ) (١) .

أمّا لماذا يكون هذا النحو من الشفاعة باطلاً؟

فذلك لأنه يستلزم أن تكون للشّفيع القدرة على التأثير في الحاكم بأحد وسائل ثلاث:

الأولى: ما نعبّر عنه بتعبيراتنا (الواسطة)، وعبّرت عنه الآية الأخيرة( لاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ) .

الثانية: الرشوة، وعبّرت عنة الآية بـ( لاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ) .

____________________

(١) سورة البقرة / ٤٨.

٢٧

الثالثة: القوّة والمحسوبية، وعبّرت عنه الآية بقوله تعالى:( وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ ) .

فالحاكم إذا عطّل الحكم ولم يحكم على الجاني بسبب إحدى هذة الوسائل الثلاث يعدّ العقلاء مثل هذا الحاكم جائراً، وتعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.

وأمّا النحو الثاني من الشّفاعة التي بعد صدور الحكم، فهي الشّفاعة الصّحيحة التي أثبتها القرآن الكريم كما سمعتم، وكذلك الروايات، وسيأتي المزيد منها، كما لا يمنع منها العقل؛ لأنّها لا تخالف العدل، ولا تخالف الحكمة.

تصوير الموضوع بمثال

ولنصوِّر هذا الموضوع بمثالٍ: إذا قام مدير مدرسة بإنجاح أحد الطلاب بدون امتحان؛ أمّا برشوة، أو واسطة، أو محسوبية، فهذا يعدّ ظلماً بنظر العقلاء، وذلك الرجل جائر، والشّفاعة من هذا النوع باطلة، وهي مستحيلة على الله تعالى.

ولكنّ إذا أمتحن ذاك المدير جميع طلاب مدرسته، فحالهم لا يخلو من ناجحين أو راسبين أو مكملين؛ أمّا الناجحون والفاشلون فلا كلام فيهم؛ لأنّه يأخذ كلّ منهم استحقاقه وجزاءه، وأمّا المكملون فقد تحصل للمدير رغبة في إنجاح بعضهم، فهل يقوم بذلك اعتباطاً ومن دون ضوابط؟

٢٨

الجواب: كلاّ، ولا بدّ أن يلجأ إلى تقنين قانون آخر، فيتوجّه إلى الأساتذة قائلاً لهم: أيّما تلميذ كان مجدّاً في دروسه، وطائعاً لكم ويحترمكم فقد أذنت لكم بإدراج اسمه في سجلّ الناجحين.

فأيّ مانع عقلي أو شرعي في مثل هذا إن كانت هذه هي رغبته، وأراد نسبة نجاح أكبر كما في المثال؟

وهذا يشبه حال يوم القيامة، فمن الناس مَنْ يدخلون الجنّة بأعمالهم« ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أُمّتي، وأمّا المحسنون فما عليهم من سبيل » (١) .

ومن الناس مَنْ يدخل جهنم وساءت مصيراً بسوء أعمالهم وكفرهم وطغيانهم، ومن الناس مَنْ لا يستحق الجنّة ولا النار( خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآَخَرَ سَيِّئاً ) (٢) ، وبسعة رحمة الله (عزّ وجلّ) رأفته بعباده يريد بمشيئته التخفيف عنهم، فيأمر تعالى أنبياءه وأولياءه وملائكته بالشّفاعة لِمَنْ يشاء ويرضى.

وهؤلاء يعبّر عنهم بالشّفعاء، وعلى رأسهم نبي الرحمة (صلّى الله عليه وآله) وآل بيته الأطهار (عليهم السّلام)، بل والملائكة والأنبياء، والقرآن فهو شافع مشفّع، وماحل ومصدّق، ومنهم الشّهداء والعلماء والمؤمنون والرحم أيضاً... إلخ.

المحرومون من الشفاعة

قلنا في أوّل الحديث أنّ على المسلم أن يسعى لأن يكون مؤهّلاً للدخول في دائرة الشّفاعة؛ فهنالك من الناس مَنْ لا تنالهم الشّفاعة نذكر بعض منهم:

____________________

(١) ميزان الحكمة.

(٢) سورة التوبة / ١٠٢.

٢٩

١ ـ التاركون للصّلاة والمستخفون بها.

روي عن الصادق (عليه السّلام) أنّه قال:« لا تنال شفاعتنا مستخفّاً بالصّلاة » (١) .

٢ ـ المفطرون عمداً في شهر رمضان.

روي عنهم (عليهم السّلام):« إنّ الملائكة تمرّ بالرجل إلى النار يوم القيامة فيصيح: يا رسول الله، اشفع لي. فيقول لهم (صلّى الله عليه وآله): أوقفوه. ما شأنه؟ فتقول الملائكة: إنّه أدرك شهر رمضان ولم يصمه. فيقول (صلّى الله عليه وآله): لم يؤذن لي بالشّفاعة فيمَنْ لم يصم شهر رمضان » .

٣ ـ الشّرك بالله تعالى.

وقد مرّ استثناؤه في الحديث النبوي« ما خلا الشّرك والظلم » .

٤ ـ طائفة أُخرى ذكرها القرآن الكريم، وهم: تاركوا الصّلاة كما مرّ، والمانعون للزكاة، والمكذّبون بيوم الدين، والخائضون بالباطل. قال تعالى:( قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضينَ * وَكُنّا نُكَذّبُ بِيَوْمِ الدّينِ * حَتّى‏ أَتَانَا الْيَقِينُ * فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشّافِعِينَ ) (٢) .

٥ ـ الظلم.

____________________

(١) التفسير المعين / ٤٣١.

(٢) سورة المدثر / ٤٢ ـ ٤٨.

٣٠

وقد مرّ استثناؤه أيضاً، وأفدح الظلم هو القتل بغير حقّ، وأفضع من ذلك قتل الأبرياء، وبالخصوص عترة محمد (صلّى الله عليه وآله).

لهذا كان زهير بن القين متنبّهاً إلى هذه القضية؛ لذا خاطب أهل الكوفة بقوله: عباد الله، لا يغرّنّكم عن دينكم هذا الجلف الجافي ـ أي شمر بن ذي الجوشن ـ وأشباهه، فو الله لا تنال شفاعة محمّد (صلّى الله عليه وآله) قوماً هرقوا دماء ذريته وأهل بيته، وقتلوا مَنْ نصرهم وذبّ عن حريمهم(١) .

____________________

(١) مقتل الحسين ـ السيد المقرّم / ٢٧٩.

٣١

المحاضرة الثالثة: الزيغ عن الحقّ ـ أسبابه وأهدافه

بسم الله الرحمن الرحيم

( فَأَمّا الّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاّ اللّهُ وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلّ مِنْ عِندِ رَبّنَا وَمَا يَذّكّرُ إِلاّ أُولُوا الأَلْبَابِ ) (١) .

الزيغ في اللغة: هو الميل والانحراف عن الاستقامة(٢) . ممّا يعني ذلك أنّ مفهوم الزيغ يُقابل مفهوم الاستقامة.

والملاحظ في الآية المباركة وآيات أُخرى أنّ الله تعالى قد نسب الزيغ إلى القلب ولم ينسبه إلى العقل، ممّا يكشف ذلك أنّ عنصر الهوى والأنانية، والتعاطف مع ذلك الشيء له دخل في زيغ القلب وانحرافه عن الاستقامة.

والناس إزاء القضايا التي تعترّض حياتهم يمكن تقسيمهم إلى عدّة أقسام، لكنّ الرئيسية منها أربعة:

____________________

(١) سورة آل عمران / ٧.

(٢) مفردات الراغب / مادة (زيغ).

٣٢

الأوّل: مَنْ يقدمون بتحليل القضايا بعقولهم أوّلاً، فإذا رأت عقولهم صحتها وصدقها وعقلانيتها أوعزوا للقلب للتعاطف مع تلك القضية، والتعلّق بها والدفاع عنها.

وهنا يكون دور العقل هو الأوّل، ثمّ يأتي دور القلب من بعده.

الثاني: بعض الناس يفتقدون إلى القدرة الجيدة على إدراك بعض القضايا والتأكد من صحتها عقلاً، ولكن بحسن فطرتهم وسلامة قلوبهم من الأمراض يأخذون من القسم الأوّل ما حسموه من القضايا، ويسلّموا لأولئك فيتبنّون ما يتبنّاه عقلاء قومهم أو علمائهم.

يقول أحد الأشخاص: إنّه تعترضني أحياناً بعض الشكوك حول العقيدة أو حول الإسلام، ولكنّي عندما أتذكّر أنّ هذا الدين هو دين علي بن أبي طالب (عليه السّلام) أقول لنفسي: أنا لست بأفضل من الشيخ المفيد والشيخ الطوسي وأعلام هذه الطائفة، أفهل أنا أفهم منهم؟! فإذا خالفت كشفت ذلك عن خطل رأيي خصوصاً إذا لم أكن عالماً مثلهم.

الثالث: اُولئك الذين في قلوبهم زيغ وانحراف إلى الهوى وعبادة الذات، فهؤلاء يتبنّون مواقف إزاء القضايا تنبع من قلوبهم؛ بسبب حبّهم لهذا الشيء أو ذاك، ثمّ يأمرون عقولهم بأن توحي لهم بمجموعة من الحجج والذرائع لتصحيح تلك المواقف.

٣٣

فهو إذن يتعاطف وينسجم مع الموضوع أوّلاً؛ لأنّه يحقّق رغبة نفسيّة له، ثمّ يأتي إلى عقله ويطالبه بدليل لتصحيح ما استقر عليه هواه.

الرابع: هم بعض الناس الذين ارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يتردّدون(١) ، فتراه متقلّباً إزاء القضايا والمواقف، يسمع شيئاً فيقبله ويتبنّاه، وبعد ساعة تجده عدل عن ذلك الرأي إلى رأي آخر وهكذا، يميل حيث تميل الرياح، وبتعبير الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام):« أتباع كلّ ناعق، يميلون مع كلّ ريح » (٢) .

والمهمّ في كلامنا هو القسم الثالث.

فهؤلاء قالت الآية المباركة أنّهم يتبعون المتشابهات، أي القضايا الملتبسة، والتي تحتمل عدّة معانٍ، أو مبهمةٍ غير واضحة فيتركون الواضحات والصراط المستقيم، ويجرون خلف المبهمات والمتلابسات؛ لأغراض وغايات ذكرتها الآية المباركة.

ولكن قبل ذكرها أرى أنّه من المفيد جدّاً أن نعرف ما هي أسباب زيغ القلب وانحرافه عن الاستقامة والصواب.

وممّا يكشف أهمية هذا الموضوع، أي استقامة القلب وعدم انحرافه، أنّ الله تعالى أردف هذه الآية بآية أُخرى علّم فيها عبادة المؤمنين الطلب منه (عزّ وجلّ) بثبات القلب واستقامته.

فقال (عزّ من قائل):( رَبّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَدُنْكَ رَحْمَةً ) (٣) ، فاستقامة القلب وترك الزيغ رحمة من الله تعالى.

____________________

(١) إشارة إلى الآية ٤٥ من سورة التوبة.

(٢) نهج البلاغة ـ الحكمة ١٤٧.

(٣) سورة آل عمران / ٨.

٣٤

أسباب زيغ القلب عن الحقّ

لعلّ أوّل أسباب الزيغ والانحراف عن الصّراط المستقيم هو إيذاء مَنْ يدعون إلى الحقّ وإلى الله سبحانه تعالى، فمعروف أنّ هناك مَنْ يستجيب، وهناك مَنْ لا يستجيب للدُّعاة إلى الحقّ ولكن لا يؤذيهم، وهناك مَنْ لا يستجيب ويعمد إلى إيذائهم، كما كانت تفعل عتاة قريش بالنبي (صلّى الله عليه وآله)، وما كانت تفعله حمّالة الحطب على سبيل المثال، حيث كانت تضع الشوك في طريق النبي (صلّى الله عليه وآله) إيغالاً في إيذائه.

قال تعالى:( وَإِذْ قَالَ مُوسَى‏ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَعْلَمُونَ أَنّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمّا زَاغُوا أَزَاغَ اللّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) (١) .

الثاني: عدم التسليم لإرادة الأنبياء والأولياء والدُّعاة إلى الله.

فهناك من الناس مَنْ يقبل دعوة الأنبياء، أو يكون تحت لواء ولي من الأولياء، ولكن مع ذلك يشاكسهم بعصيان أوامرهم، أو العمل ضدّ إرادتهم.

ومن الشواهد الواضحة على ذلك أهل الكوفة ومشاكستهم لأمير المؤمنين، وولده الإمام الحسن (عليهما السّلام).

يقول أمير المؤمنين في بعض خطبه:« مُنيت بمَنْ لا يطيع إذا أمرت، ولا يُجيب إذا دعوت... أقوم فيكم مستصرخاً، واُناديكم متغوّثاً فلا تسمعون قولاً، ولا تطيعون لي أمراً، حتّى تكشف الأمور عن عواقب المساءة » (٢) .

____________________

(١) سورة الصف / ٥.

(٢) نهج البلاغة ـ الخطبة ٣٩.

٣٥

ويقول في أُخرى:« أمّا بعد، فإنّ معصية الناصح الشفيق، العالم المجرّب، تورث الحسرة، وتعقب الندامة » (١) .

ولقد صدق (صلوات الله عليه) فإنّكم تعلمون عاقبة ما وصل إليه العُصاة من أهل الكوفة وزيغهم عن الحقّ، حتى وصل الأمر بهم إلى قتل ريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

ويمكن أن يستشّف هذا السبب للزيغ، والابتعاد عن الحقّ من قوله تعالى:( لَقَد تَابَ اللّهُ عَلَى النّبِيّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الّذِينَ اتّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ) (٢) .

وساعة العسرة هذه الأيام التي كان يجمع النبي (صلّى الله عليه وآله) أصحابه لمقاتلة الروم في تبوك، وكانت أيام قحط وشدّة، وأزمة اقتصادية حادّة كما يُقال، فأراد بعضهم عصيان أمر النبي (صلّى الله عليه وآله) ومخالفته، فالقرآن يقول: لولا أنّهم رجعوا وسلّموا الأمر للنبي (صلّى الله عليه وآله) لأزاغ الله قلوبهم بسبب عدم طاعته وامتثال أمره (صلّى الله عليه وآله).

فيستشفّ من الآية المباركة أنّ عدم التسليم لأوامر الأنبياء والمعصومين (عليهم السّلام) وتوجيهاتهم تؤدّي بالعاصي إلى الزيغ والانحراف عن الاستقامة.

وباختصار:

____________________

(١) نهج البلاغة ـ الخطبة ٣٥.

(٢) سورة التوبة / ١١٧.

٣٦

لاحظنا أنّ القرآن الكريم ذكر سببين للزيغ هما: إيذاء الدعاة إلى الله، وعدم التسليم لما يصدر منهم من أوامر ونواه أو نصائح.

أسباب اتّباع المتشابه من الآيات

ذكرت الآية المباركة أنّ الذين في قلوبهم زيغ يتّبعون المتشابه من الآيات، ولهم في ذلك أهداف:

الأوّل: ابتغاء الفتنة.

أي طلب الفتنة والسعي في إيقادها. والمراد من الفتنة هنا: هو الإضلال؛ إذ للفتنة معانٍ كثيرةٍ استُعملت في القرآن، وأحد هذه المعاني هو الإضلال والتضليل.

قال تعالى:( وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ ) (١) .

الثاني: ابتغاء تأويله.

ذهب الكثير من مفسري الآية إلى القول: بأنّ تأويل الآية المتشابهة هو تفسيرها وبيان مدلولها(٢) . فعلى هذا التفسير لمعنى كلمة (تأويل) يكون لمرضى القلوب وذوي الزيغ هدفين في اتّباع المتشابه من الآيات المباركة.

الأوّل: هو ما ذكرناه من الفتنة وإضلال الآخرين.

والثاني: إظهار أنفسهم في مقام العلم والمعرفة، والقدرة على فهم معاني، ومداليل كتاب الله العزيز،

____________________

(١) سورة المائدة / ٤٩.

(٢) علوم القرآن ـ السيد محمد باقر الحكيم / ٢٢٩.

٣٧

وخصوصاً المتشابه منه؛ إذ لا يخفى أنّه مع ادّعاء العلم والفهم للكتاب العزيز من قبل هؤلاء يكون ذلك أدعى لقبول الآخرين بهم، وبالتالي تحقيق غايتهم الأساسية، وهي ابتغاء الفتنة، وفي ذلك إظهار لقدرتهم العلمية بحسب زعمهم.

ويمكن أن نفهم هذا المعنى من خلال المقارنة والمقابلة التي عقدتها الآية فيما بعد كردّ على هؤلاء، حيث قال تعالى:( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاّ اللّهُ وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) ، ولا نريد الدخول في تفاصيل الاختلاف في الوقف على لفظ الجلالة، أو الوصل بما بعده.

والرأي الثاني يقول: إنّ المراد من التأويل هو ما تؤول إليه معاني الآيات المتشابهة(١) ؛ لأنّ الأوّل معناه الرجوع إلى الأصل(٢) .

وفي خصوص القرآن الكريم حينما يكون المعنى عامّاً، ويريد العقل أن يحدّده ويجسّده في صورة معينة، وهذه الصورة المعينة هي التأويل. ووفقاً لهذه النظرة فإنّ الذين في قلوبهم زيغ يحاولون أن يحدّدوا صورة معينة لمفاهيم الآيات المتشابهة؛ إثارة للفتنة(٣) .

وعلى هذا الرأي يكون الهدف واحداً وهو الفتنة، ولكنّ الوسيلة المستخدمة فيه هي تأويل معاني الآيات المتشابهة. وهذا ما يعبّر عنه بالمصطلحات الحديثة بالتمويه الأيديولوجي. أي إنّ لمرضى القلوب غاية هي إضلال الناس وإشغال الفتنة، ولا يتمّ لهم ذلك إلاّ من خلال توظيف الدين، وتوظيف النصوص القرآنية المتشابهة؛ لكي

____________________

(١) علوم القرآن ـ السيد محمد باقر الحكيم / ٢٣٠.

(٢) المفردات ـ مادة (أوّل).

(٣) علوم القرآن / ٢٣٠ (بتصرف في العبارة).

٣٨

تنطلي اللعبة على أتباعهم، ومَنْ يسيرون في ركابهم، فيرجعون معاني هذه الآيات والمفاهيم إلى أغراض توافق أهوائهم، وتتسمّى وتستند إلى الدين والقرآن.

وهذه الظاهرة ثابتة في تاريخ المسلمين، وفي عصرنا الحالي أيضاً.

ولعلّ أشهر ممارسته للتمويه بالقرآن وبالمتشابه ما رفعه الخوارج شعاراً لهم (لا حكم إلاّ لله)، والتي قال الإمام أمير المؤمنين بأنّها:« كلمة حقّ يُراد بها باطل. نعم، إنّه لا حكم إلاّ لله، ولكنّ هؤلاء يقولون: لا إمرة إلاّ الله » (١) .

فلاحظ كيف أنّهم أرجعوا [مفهوم] قوله تعالى: (لا حكم إلاّ لله) إلى لا إمرة إلاّ لله كما أوضح ذلك الإمام (عليه السّلام)، وكشف هذا التمويه الذي استخدموه لغرّ أتباعهم باسم الدين وباسم القرآن.

____________________

(١) نهج البلاغة ـ الخطبة ٤٠.

٣٩

المحاضرة الرابعة: الأولاد قرة العين

بسم الله الرحمن الرحيم

( رَبّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرّيّاتِنَا قُرّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتّقِينَ إِمَاماً ) (١) .

يعاني مجتمعنا من ضعف خطير، وتدهور في العلاقات الاجتماعية، واستُبدلت المشاعر الحميمة، المليئة بالحبّ والمودّة والتفهّم والانسجام بمشاعر الكراهية والنفور، والوجد في غالب الأحيان.

واقتصر في البعض القليل منها على المجاملات الرسمية، ووصل هذا التراجع في العلاقات إلى داخل الأسرة الواحدة أيضاً، وبين الأبناء والآباء، والبنات والأمهات، والذي يُفترض ألا توجد علاقة أقرب من علاقة الأبوّة والبنوّة، فإن كانت هذه قد أصابها الضعف والفتور فما بالك بغيرها.

إذ لم يَعُد الأولاد والأزواج قرّة أعين عند الكثير، كما لم يَعُد الآباء مشاعل ترسم طريق الخير والفضيلة للأبناء. وبتعبير القرآن للمتقين إماماً.

ولا أقول أنّ هذه الظاهرة تعمّ كلّ أطياف المجتمع، أو جميع الأسر، فهذا غير صحيح قطعاً؛

____________________

(١) سورة الفرقان / ٧٤.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105