توظيف التفسير المفاهيمي

توظيف التفسير المفاهيمي0%

توظيف التفسير المفاهيمي مؤلف:
تصنيف: دراسات
الصفحات: 105

توظيف التفسير المفاهيمي

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ عبد الهادي الطهمازي
تصنيف: الصفحات: 105
المشاهدات: 29676
تحميل: 5491

توضيحات:

توظيف التفسير المفاهيمي
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 105 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 29676 / تحميل: 5491
الحجم الحجم الحجم
توظيف التفسير المفاهيمي

توظيف التفسير المفاهيمي

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أساس العقيدة، كمحبّة المؤمن للمؤمن، أم على أساس العرق، كمحبّة الأهل والأقارب، أو غير ذلك من الروابط الدينية والاجتماعية والثقافية، بل قد يصل الأمر إلى مستوى الإيثار وتفضيل الآخرين على النفس.

( وَالّذِينَ تَبَوّءُوْا الدّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى‏ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) (١) .

كما للمحبّة دور في تسامي الإنسان، والتحلّي بالأخلاق الفاضلة، وتجنّب سفاسف الأخلاق، والغلظة والجفاء؛ لهذا اهتمّ الإسلام بهذا النوع من المشاعر الإنسانية، وأكّد على أهمّيتها، وحثّ على توجيهها إلى الوجهة السليمة الصحيحة؛ حتّى لا تذهب هذه الطاقة المحرّكة للكثير من السلوكيات والأفعال هدراً، أو لغير فائدةٍ، أو تستثمر في مواقع لا تستحق صرفاً من هذه الطاقات وتوجيهها إليها.

ومن هذا المنطلق ـ التسامي في الحبّ ـ شُجّع على محبّة الله تعالى، فقد روي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قوله:« أحبّوا الله من كلّ قلوبكم » (٢) .

وأكّد على محبّة النبي (صلّى الله عليه وآله):« لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبّ إليه من والده وولده والناس أجمعين » (٣) .

ومحبّة آل بيته (عليهم السّلام):( قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَى ) (٤) ، بل إنّ أساس الدين محبّة آل البيت (عليهم السّلام).

____________________

(١) سورة الحشر / ٩.

(٢) المحبّة في الكتاب والسنة ـ محمد الريشهري / ١٩٩.

(٣) المصدر نفسه / ١٣٥.

(٤) سورة الشورى / ٢٣.

٦١

روي عنه (صلّى الله عليه وآله):« لكلّ شيء أساس، وأساس الدين حبّنا أهل البيت » (١) .

وتعدّى ذلك إلى محبّة المؤمنين، فـ:« ودّ المؤمن للمؤمن في الله من أعظم شعب الإيمان » (٢) .

ودعا الإسلام أيضاً إلى محبّة قيم الخير والفضيلة، وخلال الحمد، بل والتعصّب لها. فعن أمير المؤمنين (عليه السّلام):« فتعصّبوا لخلال الحمد من الحفظ للجوار، والوفاء بالذمام، والطاعة للبرّ، والمعصية للكبر، والأخذ بالفضل، والكف عن البغي، والإعظام للقتل، والإنصاف للخلق، والكظم للغيظ، واجتناب الفساد في الأرض » (٣) .

وحذّر الإسلام من التسافل في الحبّ، كحبّ الدنيا والسّلطان، والرياسات الباطلة، أو الأشخاص الذين ليس لهم ارتباط بالدين.

( لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادّونَ مَنْ حَادّ اللّهَ وَرَسُولَهُ... ) الآية(٤) .

إنّ كلّ إنسان منّا يحمل مشاعر الحبّ في جوانحه، وهذه المشاعر إذا لم توجّه إلى قيم الخير والفضيلة فقد تُهدر في محبّة قيم هابطة، أو دنيا زائلة، أو أشخاص لا يستحقّون هذه المشاعر، بل وقد يتسافل الإنسان أكثر فأكثر في المحبّة، وتتشوه

____________________

(١) المحبة في الكتاب والسنة ـ محمد الريشهري / ١٣٧.

(٢) المصدر نفسه / ١٣٨.

(٣) نهج البلاغة ـ الخطبة ١٩٢.

(٤) سورة المجادلة / ٢٢.

٦٢

فطرته فيغدو متلذذاً بعذابات الآخرين، وتحرّكه الشهوة للقتل، وارتكاب أبشع الجرائم، لأتفه الأسباب، أو إرضاءً لثروة عابرة، أو إرضاء حقد مشتعل.

ولقد ذهب الإسلام شوطاً بعيداً أبعد ممّا صوّرناه قبل قليل، حينما اعتبرت بعض الروايات أنّ الدين هو الحبّ، وأمّا مذهب آل البيت (عليهم السّلام) فإنّهم أساس المحبّة.

آثار المحبّة

للمحبّة آثار وانعكاسات على سلوك الإنسان، ودوره ووظيفته في الحياة، وفي مستوى إيمانه، وغير ذلك ممّا يرتبط بهذه الجوانب، بل إنّ آثار الحبّ تظهر حتّى في الآخرة، وفي الآية التي صدرنا بها البحث شاهد صريح (يغفر ذنوبكم)، ولنأتي الآن إلى بعض الآثار.

أوّلاً: الحبّ أساس في تصنيف المجتمع في الدنيا والآخرة

الحبّ يقسّم الناس إلى فئتين؛ فئة في هذا الجانب تربطهم بعض الروابط، وأُخرى في جانب آخر إذا اجتمعوا على حبّ شيء آخر.

فالجماعات تصنّف على أساس الحبّ والبغض؛ لذا نرى الإسلام يريد من المؤمن أن يكون في فئة المؤمنين.

روى أنس بن مالك عن النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: جاء أعرابي إلى النبي (صلّى الله عليه وآله) فقال:

ـ يا رسول الله، متى تقوم الساعة؟

ـ فسكت النبي (صلّى الله عليه وآله) حتّى صلّى الظهر، ثمّ التفت فقال:« أين السائل عن الساعة؟ » .

ـ فقال الأعرابي: ها أنا يا رسول الله.

٦٣

ـ فقال النبي (صلّى الله عليه وآله):« ما أعددت لها؟ » .

ـ فقال الأعرابي: والله، ما أعددت لها كثيراً من صلاة أو صيام، إلاّ إنّي أحبّ الله ورسوله.

ـ فقال (صلّى الله عليه وآله):« المرء مع مَنْ أحبّ » (١) .

وروي عن أبي جعفر الباقر (عليه السّلام) أنّ قوماً أتوه من خراسان، فنظر إلى رجل منهم وقد تشقّقت رجلاه، فقال له:« ما هذا؟ » .

فقال: بُعد المسافة يابن رسول الله، والله ما جاء بي من حيث جئت إلاّ محبّتكم أهل البيت.

قال له أبو جعفر:« أبشر، فأنت والله معنا تُحشر » .

قال: معكم يابن رسول الله؟!

قال (عليه السّلام):« نعم، ما أحبّنا عبد إلاّ حشره الله معنا، وهل الدين إلاّ الحبّ » (٢) .

ثانياً: المحبّة عنصر تشريك في آثار العمل

وللحبّ أثر آخر في هذا السياق، فهو ليس عنصر جمع بين فئة من الناس وحسب، بل له أثر في تشريك الشخص في أعمال تلك الفئة. إذ مجرّد محبّة عمل قوم، أو الرضى به يشرك الإنسان في ثواب ذلك العمل إن كان صالحاً، وفي عقابه إن كان العمل سيئاً.

روى جابر بن عبد الله الأنصاري عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله):« مَنْ أحبّ قوماً حُشر معهم ـ وهذا هو الأثر الأوّل ـ، ومَنْ أحبّ عمل قوم أُشرك في عملهم » (٣) .

____________________

(١) أخلاق أهل البيت (عليهم السّلام) ـ السيد مهدي الصدر.

(٢) المحبّة في الكتاب والسنة ـ محمد الريشهري / ١٨٧.

(٣) مقتل الحسين (عليه السّلام) ـ الشيخ عبد الزهرة الكعبي / ١٤٩.

٦٤

ثالثاً: آثر الحبّ في الجانب الأخلاقي والتربوي

إنّ الإنسان يميل بطبعه إلى التقبّل من الأشخاص الذين يحبّهم؛ فالوعظ والإرشاد، وعملية التربية، وغير ذلك من وسائل التثقيف، لا تأخذ أثرها في نفس المتلقّي ما لم يكن مصدر هذه التعاليم والإرشادات محبوباً ومقبولاً لديه.

روي أنّ عروة بن مسعود الثقفي جاء إلى النبي (صلّى الله عليه وآله)، وهو نازل في الحُديبية، فلمّا دخل عليه ورأى ما يصنع معه أصحابه، لا يتوضأ إلاّ ابتدروا وضوءه، ولا يبصق بصقاً إلاّ ابتدروه، ولا يسقط من شعره شيء إلاّ أخذوه، فرجع إلى قريش فقال: يا معشر قريش، إنّي قد جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وإنّي والله ما رأيت ملكاً في قوم قطّ مثل محمد في أصحابه(١) .

فهذا الحبّ لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) هو الذي كان يجعل أصحابه (رضي الله عنهم) يتقبّلون منه ويفدونه بأرواحهم.

رابعاً: الدور التغيري للحبّ في حياة الإنسان

يعدّ الحبّ أيضاً من أكبر الحوافز، والدوافع على تغيير الإنسان لأوضاعه واتجاهاته، فيتحوّل الإنسان بسبب الحبّ من حال إلى حال، من الجبن مثلاً إلى الشجاعة، والمحرّك الأساس في ذلك هو الحبّ.

تلاحظون أنّ الدجاجة مخلوق ضعيف وجبان، ولكن بمجرّد شعورها بالحبّ، وتجري خلفها أفراخها تتحوّل إلى حيوان شرس تدافع عنهم بكلّ حزم وشجاعة.

____________________

(١) سيرة ابن هشام ٣ / ٣٢٨.

٦٥

بل قد ينسى المحبّ نفسه ليذوب في المحبوب، ويترك الدنيا وما فيها معرّضاً نفسه للقتل في سبيل المحبوب.

انظر إلى المؤمنين من الموالين لآل البيت (عليهم السّلام) ينفقون الأموال الطائلة في سبيل إحياء ذكرى الحسين (عليه السّلام)، وآخرين يذهبون إلى زيارة الحسين (عليه السّلام) رغم المخاطر التي تحدق بهم، وآخرين يقطعون آلاف الكيلومترات للتشرّف بزيارة الإمام الرضا (عليه السّلام).

مَنْ الذي دفع أصحاب الحسين (عليه السّلام) للتضحية بدمائهم الزكية؟! أليس هو الحبّ؟

جاء عابس بن شييب الشاكري (رحمه الله) يطلب الإذن من الحسين (عليه السّلام) ليخرج للقتال، فوقف أمام الحسين (عليه السّلام) قائلاً: ما أمسى على ظهر الأرض قريب ولا بعيد أعزَّ عليّ منك، ولو قدرت أن أدفع الضيم عنك بشيء أعزّ من نفسي لفعلت. السّلام عليك، أشهد أنّي على هداك وهدى أبيك(١) .

ثمّ مشى إلى القوم، وانهزموا بين يديه، وإنّه ليطرد أكثر من مئتين.

فهذه الطاقة التي يحملها عابس للدفاع عن الحسين (عليه السّلام) لم يفجّرها إلاّ الحبّ.

خامساً: ومن آثار الحبّ: ترسيخ العقيدة في قلوب الناس

أي دين، أو معتقد لا يمكن أن يستمر ويترسّخ في قلوب، وعقول الأجيال ما لم يتوفّر فيه عنصران؛

____________________

(١) مقتل الحسين (عليه السّلام) ـ السيد المقرّم / ٣٠٥.

٦٦

العنصر العلمي والفكري، بمعنى أن يكون مبنيّاً على أُسسٍ فكريّة وعقليّة سليمة، ولكنّ القضايا الفكريّة لا تترسّخ، ولا يمكن التفاعل معها ما لم يتفاعل معها الإنسان عاطفيّاً.

( وَلكِنّ اللّهَ حَبّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ) (١) .

فالقضايا العقلية لا تدخل القلب، ولا يمكن تبنّيها ما لم تمتزج بالعاطفة ويحبّها الإنسان.

وأهمّ ما يدخل الفكرة إلى القلب لتأخذ تأثيرها في أمران:

الأوّل: المشاركة الوجدانية، كالفرح والحزن والبكاء؛ ولهذا أكّد أئمّة أهل البيت (عليهم السّلام) على مشاركة شيعتهم لهم في أفراحهم وأحزانهم، والأحاديث في هذا الشأن كثيرة جدّاً.

ثانياً: الأدب، كالشعر والقصّة؛ فإنّ لهما أثراً كبيراً في تفعيل الفكرة وترسيخها في القلب، وهذا أيضاً أكّده أئمّتنا (عليهم السّلام)، وشجّعوا على إنشاد الشعر في الحسين (عليه السّلام).

إنّ الشعر يدخل الفكرة إلى القلب، ويطوي مقدّمات كثيرة في أبيات قليلة؛ لذا تراه يقول:« ومَنْ قال في جدّي الحسين بيتاً من الشعر فبكى، أو أبكى كُتبت له في الجنة » (٢) .

ويروي أبو هارون المكفوف أنّ الإمام الصادق (عليه السّلام) قال له:« أنشدني في جدّي الحسين (عليه السّلام) » .

____________________

(١) سورة الحجرات / ٧.

(٢) ثورة الإمام الحسين في الوجدان الشعبي ـ الشيخ محمد مهدي شمس الدين / ١٣٧.

٦٧

قال: فأنشدته فبكى، ثمّ قال:« أنشدني كما تنشدون » . أي بالرقّة، بصورة تثير العواطف.

فأنشدته:

اُمرر على جدثِ الحسيـ ـنِ فقل لأعظمه الزكيّه

يا أعظماً لا زلتِ من وطفاء ساكبة رويّه

ما لذّ عيشٌ بعدَ رضّـ ـكِ بالجياد الأعوجيّه

قال: فبكى، وسمعت بكاء نسائه من خلف الستر(١) .

____________________

(١) المصدر نفسه.

٦٨

المحاضرة السابعة: التغيير الاجتماعي

بسم الله الرحمن الرحيم

( قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هذَا أَتَنْهَانَا أَن نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنّنَا لَفِي شَكّ مِمّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ) (١) .

يقول علماء الاجتماع: إنّ تغيير عادات وتقاليد المجتمعات من الأمور الصعبة العسيرة جدّاً، بل يعدُّ الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام) هذا الأمر بأنّه معجزة. يقول (عليه السّلام):« رياضة الجاهل وردُّ المعتاد عنه عادته كالمعجزة » (٢) .

لا شك أنّ ما يتعلّق بحياة الناس من عادات وتقاليد، أو غيرها من القيم الثقافية والاجتماعية على قسمين: عادات ماديّة، وعادات معنويّة.

والعادات الماديّة: يمكن تغييرها بسهولة كبيرة، كأن ينتقل شخص من سكن حيّ إلى حيّ آخر، أو بلد إلى بلد، صحيح فيه صعوبة لكن ليست بالغة. أو يركب سيارة ذات موديل قديم ثمّ يستبدلها بأُخرى ذات موديل حديث، أو يرتدي نوعاً معيناً من الثياب ثمّ يستبدلها بنوعٍ آخر.

____________________

(١) سورة هود / ٦٢.

(٢) التفسير المعين / ١٧٦.

٦٩

والأمثلة تختلف تبعاً لمزاج الشخص وطبيعته، فقد يسهل التغيير على شخص ويصعب على شخص آخر، لكنّ الطابع العام إمكانية تغيير مثل هذه العادات بسهولة.

فقبل نصف قرن كانت الناس تسكن الأكواخ في القرى مثلاً، والآن بُنيت القصور العالية.

إمّا العادات المعنوية: كالتقاليد والأعراف، وبعض المعتقدات الراسخة في أذهان الناس، فهذه من الصعب جدّاً تغييرها واستبدالها بعادات وتقاليد أُخرى مغايرة.

وهذا هو السبب الذي يجعل الأنبياء والمصلحين يلاقون الأمرَّين على أيدي العتاة من أبناء مجتمعاتهم، ويتعرّضون إلى الأذى والازدراء والمضايقة، بل ربما يغرر بهم الجهلة والسفهاء للاعتداء عليهم.

وكمثال على ذلك ما تعرّض له النبي (صلّى الله عليه وآله)، حتّى قال (صلّى الله عليه وآله) فيما روي عنه:« ما اُوذي نبي قطّ كما اُوذيت » .

إنّ أيّ عملية تغيير، أو إصلاح، أو تصحيح؛ سواء كانت في عادات الناس، أو ما درجوا عليه، أو في تقاليدهم ومعتقداتهم يتصدى لها مصلحٌ، تجابه بحملة شديدة من الاعتراضات، ولدواع مختلفة ـ سنذكر بعضها ـ من قبل أغلب الناس.

وتختلف كثرة المعترضين صحيحة لا حاجة لتغيرها بقدر مساس هذه العادة، أو التقليد في حياتهم، وشعورهم بدرجة قدسيتها، وتبعاً للمستويات العلمية والثقافية؛ فإنّ تغيير عادة جماعة متعلّمة أيسر بكثير من تغيير عادات أو تقاليد مجتمع جاهل مثلاً.

٧٠

وهؤلاء الذين يواجهون عمليات التغيير فيهم نفع وفيهم ضرر، ولكنّ ضررهم أكثر من نفعهم.

أمّا وجهة منفعتهم، فلكونهم يشكّلون سوراً لحماية المجتمع من دخول عادات وتقاليد أجنبية وغريبة عليه، قد يكون فيها ضرر اجتماعي مستقبلاً، كما يحصل في بعض المجتمعات الإسلاميّة، حيث تدخل التقاليد الغريبة كالثياب وطريقة تناول الطعام مثلاً، أو تبرّج النساء ولبسهنّ للبنطلون تقليداً لنساء الغرب، فهؤلاء عندما يقفون في وجه مثل هكذا تغيير فإنّهم ينفعون المجتمع.

لأنّ المجتمع ليس إلاّ مجموعة من الأعراف والعادات والتقاليد، فإذا صار المجتمع يتقبّل كلّ عادة دخيلة، وأيّ شيء جديد تفككت عراه، وانهار ذلك المجتمع، وذهبت قيمته وعاداته وتقاليده، ولم تعد لذلك المجتمع هويته الثقافية الخاصة به.

ولقد أصبحت هذه المسألة بالذّات من الخطورة بمكانٍ، بسبب ما تسعى إليه العولمة الثقافية من سحق الهوية الثقافية للشعوب، واستبدالها بنمط الحياة الأمريكية. فيجب أن نكون واعين لخطورة هذه المسألة، وهنا تكمن أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

أمّا وجه ضررهم، فهؤلاء عادة لا يميّزون بين الجديد النافع والجديد الضار؛ لذلك يشكّلون في غالب الأحيان حجر عثرة في طريق تطوّر المجتمع ونموّه وازدهاره. وللأسف، فإنّ هذا النمط من الناس في مجتمعاتنا يعترضون على ما فيه مصلحة للإسلام والمسلمين أكثر من اعتراضهم على ما فيه ضرر للإسلام والمسلمين.

٧١

فلو ضربت بطرفك لرأيت الكثير من العادات والتقاليد المادية والمعنوية أخذت تتفشّى في أوساط المجتمع، ولا من رادعٍٍ أو منكرٍ، وإذا كانت هذه العادات من المنكرات فيجب الردع من باب النهي عن المنكر على أقل تقدير. إلاّ أنّ ذلك للأسف لا يحصل، ويحصل ما هو عكسه؛ حيث تسمع الكثير من الاحتجاجات عن بعض القضايا التي فيها نفع للإسلام.

ذكر الشيخ الوائلي (رحمه الله) أنّه عندما أسس الشيخ المظفر (رحمه الله) مدرسة للخطابة، أُشيعت حولها الكثير من الدعايات، وتعرّضت لحملة دعائية، وحرب إعلامية لا هوادة فيها؛ ممّا غرّر ذلك بالبعض بالهجوم على المدرسة، وتكسير وتدمير ما فيها من مستلزمات، وهرب القائمون عليها نجاة بأنفسهم.

وهكذا تعرّض السيد محسن الأميني (رحمه الله) إلى التشهير والإساءة عندما دعا إلى تطوّر الشعائر الحسينيّة، والكفّ عن ضرب الزنجيل والقامة. فالآن ترى الطريحات، وصاحبات النور، ومَنْ دخل فيهنّ العباس يكثرن يوماً بعد يوم، وينتشر سوقهنّ وتروّج بضاعتهنّ؛ إلاّ إنّنا لا نجد أحداً يرفض مثل هذه الخزعبلات إلاّ القليل النادر.

أمّا إذا دعا عالمٌ ـ مثلاً ـ إلى ترك عادةٍ سيئةٍ، أو اعتقاد من الاعتقادات الخاطئة، فإنّه يُرمى بألف تهمة، بل ربما يُضرب في الشارع.

٧٢

أسباب الإصرار على بعض العادات والتقاليد

يرجع سبب الالتزام بالعادات والتقاليد، والتعصّب لها، وعدم قبول تغييرها، أو تصحيحها إلى أمرين:

الأوّل: اعتقاد الناس بأنّ كلّ شيء قديم هو شيء أصيل وصحيح، وأنّ كلّ جديد فهو فاسد، وكلّ دعوة جديدة فهي كاذبة، ولا تمتّ إلى الواقع بصلة، وأنّ أهدافاً ما وراءها.

الثاني: الاعتياد والتطبّع على هذه العادات والتقاليد حقّق نوعاً من التآلف والانسجام معها، بحيث إن ترك هذه العادات يوهم بفقدان السعادة وضياعها، كترك التدخين مثلاً.

القرآن والسنة الشريفة يحذّران الناس من ممارسة العادات، والتمسّك بالتقاليد من دون معرفة مصدرها، واكتشاف وجه الصحة والصواب فيها.

فالقرآن الكريم يوبّخ في ستّ آيات هذا الإصرار على الالتزام بما تعوّد عليه الناس، وألفوه من عادات وتقاليد.

قال تعالى:( قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ) (١) .

وقال:( فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلاّ سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الأَوَّلِينَ ) (٢) .

____________________

(١) سورة الأعراف / ٧٠.

(٢) سورة القصص / ٣٦.

٧٣

وهناك ثلاث آيات أُخرى إضافة للآية التي صدّرنا بها البحث، وهي: الآية (٧٨) من سورة يونس، والآية (٧٤) من سورة الشعراء، والآية (٢٣) من سورة الزخرف.

وأمّا ما جاء عن آل البيت (عليهم السّلام) في الذّم على التعوّد على العادات السيئة فكثير:

روي عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) مجموعة من الأحاديث في هذا الشأن.

منها:« للعادة على كلّ إنسان سلطان » (١) .

وعنه:« أفضل العبادة ترك العادة » (٢) .

وعنه:« غيّروا العادات تسهل عليكم الطاعات » (٣) .

أقول: خصوصاً عادة متابعة التلفزيون حتّى ساعة متأخرة من الليل، ولا أدري كيف يستيقظ المسلم بعدها صباحاً لأداء الصلاة.

ويأمر (عليه السّلام) بالتعوّد على الأخلاق الحسنة، وترك قبائح الأفعال.

« لا تسرعنّ بالغضب فيتسلّط عليك بالعادة » (٤) .

«عوّد نفسك فعل المكارم، وتحمّل أعباء المغارم؛ تشرف نفسك، وتعمر آخرتك، ويكثر حامدوك » (٥) .

____________________

(١) التفسير المعين / ١٥٩.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) المصدر نفسه.

(٥) المصدر نفسه.

٧٤

الماجينة

الماجينة نموذج من نماذج العادات والتقاليد، وهي سيرة متّبعة منذ زمن النبي (صلّى الله عليه وآله) بمناسبة مولود سبطه الإمام الحسن (عليه السّلام). والغرض منها إدخال السرور على قلوب الصبية بإهدائهم بعض الحلويات والنقود، كتعبير عن المشاركة بالفرحة لآل الرسول (صلّى الله عليه وآله).

وهي عادة متّبعة، وتقليد شائع عند جميع فرق المسلمين ما عدا النواصب، وهذه العادة الحسنة أصابها للأسف بعض التشوّهات، والمطلوب منّا جميعاً المساهمة في تنقيتها.

فيجب أوّلاً: منع الأطفال من حمل الطبول وقرعها، وللأسف فإنّ هذه الظاهرة تنتشر في بعض مدننا، ومن الليالي الأولى من الشهر المبارك، وليس المقصود قطعاً الحرمة هنا؛ لأنّ هؤلاء الصبية ليس عليهم تكليف، ولكن لكي لا يتعوّدوا على ممارسة القرع بالطبول والاستئناس بهذا العمل.

ثانياً: تدخل بعض النساء هؤلاء الصبية إلى المنازل وهنّ كاشفات الشعور، وبالملابس المنزلية، ولا يخفى أنّ الصبية على قسمين:

١ ـ غير مميّز، وهؤلاء لا يشكّلون مشكلة.

٢ ـ الصبية المميّزون، وقد عرّفهم بعض العلماء: بأنّه مَنْ يتمكّن من وصف الأشياء والأشخاص.

وحينئذ قد يتحدّث لأحد عن شكل المرأة وأوصافها ومفاتنها وغير ذلك، وهذا في حدّ ذاته محذور، وتزداد المسألة خطورة بمَْن تجاوز عمرة الحادية عشرة فأكثر.

٧٥

ثالثاً: الأهازيج والأناشيد التي يرددونها لا تمت إلى المناسبة بصلة. فالمناسبة هي مولد الإمام الحسن (عليه السّلام). والكلمات التي يرددونها غريبة لا ادري ما الفائدة منها وأي ثقافة تثقف الطفل المسلم؟

طيارة طارت فوق بيها بجامه وقعت على الدكتور كسرت لها جامه

فاسمع واعجب، أفي هذه المناسبة الشريفة العظيمة نربّي أفلاذ أكبادنا على هذه الثقافة السوقية الهابطة؟!

واستثمر هذه الفرصة بدعوة الشعراء الشعبيين بكتابة بعض الأبيات الشعرية، ذات البحور السريعة في الإلقاء، والتي تمجّد آل البيت (عليهم السّلام)، وتبرز معالم هذه المناسبة المباركة، ومن ثمّ تحفيظ الأطفال إيّاها لينشدونها في الماجينة.

ومن الأمور التي نتمنّى أن يتعوّد عليها المجتمع هي إقامة المواليد في مناسبات ولادة الأئمّة (عليهم السّلام). ولكن يلاحظ في هذه أيضاً جملة من الخروقات المخالفة لتعليمات الشرع الحنيف.

منها: أنّ هذه الجلسات لا تُفتتح بذكر الله تعالى، كالبسملة مثلاً، أو قراءة شيء من القرآن؛ ليكون كتاب الله (عزّ وجلّ) حاضراً في مناسباتنا.

كما إنّها تخلو من الفائدة الثقافية غالباً؛ حيث لا يتمّ التعريف بالإمام، أو الشخصية المحتفى بها، وبيان مكانتها ومنزلتها الدينية والاجتماعية والأخلاقية...

٧٦

فيبدأ المجلس بالتصفيق، وينتهي بالتصفيق، من دون استغلال لهذه المناسبة لزرع قيم الخير والفضيلة في نفوس الحضور، واستلهام الدروس والعبر من سيرة المحتفى به.

ومنها: أنّ بعض المنشدين يلقي قصيدته في غالب الأحيان بأطوار وألحان أهل الفسق، وعلى أوزان بعض الأغاني، وهذا على أقل تقدير مخالف للاحتياط الوجوبي، فينبغي تنزيه مجالسنا من شبهة المعاصي.

ومنها: قيام بعض الشباب بالتصفيق الحادّ، المعبّر عنه بالتكسير، وهذا بحدّ ذاته يخرج المناسبة عن طور قدسيتها، والمشاركة الوجدانية للآل البيت (عليهم السّلام)، ويتحوّل إلى إشباع لغرائزنا.

٧٧

المحاضرة الثامنة: استبدال الأفضل بالأدنى

بسم الله الرحمن الرحيم

( قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الّذِي هُوَ أَدْنَى‏ بِالّذِى هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ ذلِكَ بِأَنّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النّبِيّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ ذلِكَ بِمَا عَصَوا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ) (١) .

لا يمكن أن نستوضح مداليل هذه الآية المباركة وبعض تطبيقاتها في حياتنا اليومية ما لم نعرف أوّلاً سبب نزولها. وقد أوضحت الآيات التي سبقتها بعضاً من جوانبها الغامضة، فيمكن القارئ مراجعتها من الآية التاسعة والأربعين إلى الآية الحادية والستين من سورة البقرة.

ولكن سنذكر هنا ملخّص القصّة على نحو الإجمال: لمّا عبر موسى (عليه السّلام) ببني إسرائيل البحر، وصاروا في الجهة الأُخرى، وأغرق الله تعالى فرعون وجنوده، وبعدها اتّخذوا العجل، وقولهم لموسى (عليه السّلام)( لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حتّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ) (٢) فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون، بعثهم الله تعالى مرّة أُخرى من بعد موتهم؛ تحنناً منه ورحمة.

____________________

(١) سورة البقرة / ٦١.

(٢) سورة البقرة / ٥٥.

٧٨

فقال عزّ من قائلٍ:( وَظَلّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنّ وَالسّلْوى‏ كُلُوا مِنْ طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ) (١) .

المَنْ: مادة صمغية حلوة كالعسل، كانت تسقط لهم من الشجر.

والسلوى: نوع من الطيور، كان يسترسل لأكل هذه المادة من على الأغصان، فيلتصق بها فيأتي بنو إسرائيل فيصطادونه بسهولة ويُسر. لكنّهم لم يصبروا على ذلك الطعام الذي عبّر عنه الله تعالى بأنّه من طيبات الرزق، فقالوا:( يَا مُوسَى‏ لَنْ نَصْبِرَ عَلَى‏ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ) (٢) .

عند ذلك قال لهم موسى (عليه السّلام) كما حكى القرآن عن لسانه:( أَتَسْتَبْدِلُونَ الّذِي هُوَ أَدْنَى‏ بِالّذِى هُوَ خَيْرٌ... ) .

هذا الاستفهام في الآية استفهام إنكاري، أي أنّ موسى (عليه السّلام) يستنكر عليهم هذا الطلب؛ حيث يطلبون أشياء لا قيمة لها، ويتركون ما هو خير وأفضل منها.

هذه الآية المباركة تصلح لأن تكون قاعدة عامّة في حياة بني الإنسان؛ فكلّ قوم يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ينالهم عقاب وضعي من الله تعالى، وهو أنّه تُضرب عليهم الذلّة والمسكنة، ويبوءون بغضب من الله تعالى.

والملاحظ أنّ هذه الظاهرة ظاهرة عامّة في حياة الناس والمجتمعات، وليست هي مشكلة خاصّة ببني إسرائيل.

____________________

(١) سورة البقرة / ٥٧.

(٢) سورة البقرة / ٦١.

٧٩

فالناس دائماً وغالباً يتركون الأشياء، والقضايا المفيدة في الدنيا والآخرة، ويسعون وراء التوافه للحصول عليها.

وبتعبير أوضح: إنّ أغلب المجتمعات تترك الأحسن والأفضل وتيمم وجهاً صوب الأسوأ، أو الأقل فائدة في كلّ شيء. ولهذه الظاهرة في حياة المجتمعات، ومنها مجتمعاتنا الإسلاميّة، آثار وضعية خطيرة على مستوى الدنيا قبل الآخرة.

وأمثلة هذه الظاهرة، أو هذا السلوك كثيرة حتّى في مجتمعاتنا الإسلاميّة مع الأسف، ومن أبرز هذه الأمثلة هي:

١ ـ تقديم المفضول على الفاضل.

ومعنى ذلك أن يقدّم مجتمع من المجتمعات شخصاً أقل كفاءة من الناحية العلمية، أو الأخلاقية، أو الخبرة الفنيّة... إلخ، بحسب ما تستوجبه طبيعة تلك الوظيفة التي يريد أن يشغلها على شخص آخر يتوفر على تلك الامتيازات، ويكون هذا التقديم لاعتبارات غير موضوعية كما حصل ذلك عند وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله)؛ حيث قدّم جمع من المسلمين الخليفة الأوّل على الإمام أمير المؤمنين (عليه السذلام) رغم ما يتميّز به الإمام من كفاءة عالية وعلى مختلف المستويات، بحيث تؤهله لقيادة الأُمّة، مع غض النظر عن النصّ الوارد فيه؛ فإنّ هذه المؤهلات تفترض أن يكون هو المقدّم على غيره.

وهذه الظاهرة ـ أي تقديم الأقل كفاءة، أو المفضول على الفاضل، باعتقادي القاصر ـ هي السبب في تخلّف ما يسمّى بدول العالم الثالث.

٨٠