الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية 0%

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 377

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد شعاع فاخر
تصنيف: الصفحات: 377
المشاهدات: 111549
تحميل: 12206

توضيحات:

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 377 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 111549 / تحميل: 12206
الحجم الحجم الحجم
الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

تأليف: محمد شعاع فاخر

١

٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة على محمد وآله الطاهرين.

المقدمة

وامتدت واقعة كربلاء هذا الزمن الطويل واستغرقت الحقب والآباد وشاخت الدهور ونضبت العصور وما زالت كما وقعت غضة جديدة.

بل زادت رنة اسىً وعبرة عينٍ وعِبْرة عقل على يوم وقوعها اضعافاً مضاعفة فما كانت في العام الواحد والستين تخرق الدنيا مواكبها ويكتض الفضاء على اتساعه بحناجر الهاتفين بحياة شهدائها ودمار أعدائهم.

وما كانت تكسو الدنيا بلون السواد وثياب الحداد إذا بدا هلال محرمها.. وما كانت عواصم العالم ومنها عواصم ما كانت موجودة ابان وقوعها تفتح ذراعيها لكتائب عزائها.

لقد كانت آنذاك عبارة عن أنّه مكلوم ودمعة أسير وآهة يتيم ورنة اسىً هنا وهناك. وصوت نادم على فوات الفرصة تتردد حسراته مابين جنبه والطباق أن لا يكون شارك وفاز فوزاً عظيماً معهم.

وكانت أيضاً قطعة شعر يقولها ثائر مستنهضاً الهمم ومستثيراً العزائم على بني امية.

تبيت النشاوى من امية نوماً
 

وفي الطف قتلى ماينام حميمها
 

وأمثال ذلك.

فما الذي فجّر العالم بها وشغل البشر عن كل شيء إلاّ عنها وتهافت الناس على أيامها يستعيدون ذكراها بمختلف الأساليب وهنا تستوقف الباحث هذه البؤرة التي تجتمع الحقائق عندها كاجتماع الأشعة في العدسة الزجاجيّة.

يقف متسائلاً وضارباً العلل والاسباب بعضها بالبعض الآخر ليستخرج السبب الحقيقي الذي تطمئن إليه النفس ويرتاح الضمير ويخلد العقل إلى بلوغ الحقيقة ولن يعرف السبب الواقعي إلاّ برد المسئلة إلى المشيئة الربانية.

٣

لأن الأسباب جميعها تعقم وتعلن الافلاس أمام هذا الامتداد الغريب ولا يصمد أمام البحث إلاّ السبب الرباني إن واقعة كربلاء مشيئة ربانيّة اقتضتها حكمة الله أن تكون بأزاء القرآن والشريعة فاعلة في الاُمة فعلهما باعثة الأمة من كبوتها حاملة لها على التنكر لواقعها المفروض عليها من القوى المتعالية ومراكز الانظمة المستبدة.

وما كانت هذه الواقعة حالاً تحول ولا قوة تزول إذ أنّها ارتبطت بديموميّة الكتاب وخلود الشريعة وبقاء الدين ممتداً على الزمن كله.

وما دامت هذه العناصر خالدة ومادام الإنسان بحاجة إليها ومادام النسخ لا يأتي عليها فالواقعة الكربلائية أو الثورة الحسينية باقية أبداً أو تزول العناصر المتقدّمة وفي عثورنا على السبب الواقعي نكون وقفنا على أصل الواقعة وحقيقتها الجوهرية ولم نقنع بالعوارض كبعض الباحثين الذي عرفوا شيئاً وغابت عنهم أشياء.

إنّ حقيقة هذه الثورة ليست الحرب وإن كانت شرسة غير متكافئة ففي طرف سبعون وفي الطرف الآخر سبعون ألفاً.

واحتضنت ساعات الحرب على أديم كربلاء كل خُلق فاضل ارتفع بالانسان إلي مصاف الملائكة ويعزى إلى طرف السبعين ونقيضه كل خلق سافل هبط بالانسان إلى حضيض البهيمية ويعزى إلى السبعين ألفاً.

فكانت بطرفيها المتجادلين جدال المادة والمعنى جدال النورانيّة والظلمانيّة جدال التراب والروح اختصاراً للحياة البشرية ماضيها وحاضرها ومستقبلها أجل كما ينجم عن تنازع الزوجيّة في الكون ولادة حياة جديدة ليستمر بها الوجود نجم عن تنازع التضاد بين الفاضل والسافل لهيب الشهادة الحسينية ليستمر فاعلاً في الثورات ممداً كل نهضة وكل حركة بزخمها الجهادي الفاعل وقوام بقائها وسر انتصارها.

خلا أن الغاية من هذه الواقعة الخالدة ليست في حربها التي جمعت اسرار حروب الارض على قصر مدتها ولا في حوارها التاريخي بين أطرافها ولا في مردودها النفسي من الأسى واللوعة عند الاُمة ولكن حقيقة هذه الثورة شهادة شهدائها فهي المطلوبة على التحقيق.

لقد تركبت العلل وامتزجت الأسباب واطّردت الاحداث وتعلقت حدثاً بعد حدث لتخرج للوجود شهادة الحسين وأهل بيته وأنصاره وإذا اردت عمق النظرة فإنّ

٤

الحسين شأنه شأن المقدسين من اسلافه الأنبياء والأئمة خلق لا ليقاتل بل ليقتل.

مطلوب من الحسينعليه‌السلام شهادته بالكيفيّة المعهودة والطريقة الممهدة في كربلاء ولو أنّه عمل على اقتطاف النصر وترك ميدان الشهادة كما اُشير عليه من قبل الأهل والغرباء لكان عاملاً بغير ما أعد له.

مهما حاول ومهما فعل فإن أمانة الله عنده هي شهادته ومطلوب منه تأديتها على أديم كربلاء وحيئنذ لا يبقى وجه لقول القائل لم فعل ولم لم يفعل لقد فعل ما أراد الله منه وترك ما أراده الناس اراد منه الناس أن يبايع أن يسالم كأخيه أن يبقى في البلد الحرام أن يذهب إلى اليمن أن يلتحق بالثغور أن.. أن.. أن.. إلى غير ذلك وأراد الله منه أن يستشهد فعمل بإرادة الله وترك إرادة الناس وهذا العمل جزء من برنامج امامته ولولاه لبطلت وكان كغيره من سائر الناس.

وكان قول من قال: خرج ليعيد دولتهم وخلافتهم ويستل حقهم من ايدي الاُمويين كالهبائة في عصف الريح إنّ هذا الرأي تكبيل للثورة الحسينية وتحديد لانطلاقتها الانسانية الكبرى وقصر لها على المفهوم المذهبي ثمّ هو بعد مطمح يتدنّى إلى مستويات العباقرة العاديين والزعماء ذوي الاطماع المحدودة.

على أن هذا الرأي لا يسيء إلى الثورة بقدر ما يحدد عوالمها وربما ذهب إليه الأولياء أيضاً بحكم أن استرداد الحق أمر مرغوب فيه شرعاً وأدباً وخلقاً وعرفاً بل السكوت عنه مع القدرة على التغيير بوجه من الوجوه مخلٌ بالشخصية ناسب إليها الوهن والإهتزاز.

ومهما كانت الحال فإن قصر الثورة الحسينية على هذا الهدف بمنزلة وضع الشمس في لسان شمعة كلا لم يثر أبو الاحرار لأهداف في النفس محدودة وغايات شخصيّة صغيرة.. أنّه ثار من أجل الإنسانيّة لكي يحميها من الظلم والأثرة والاستبداد وانانيات الحكام وتعسفهم واسائتهم إلى الجنس البشري بأحالة وطنه عليه إلى حضائر كالمواشي والدواجن.

الحسينعليه‌السلام ثار لئلاّ يكون الإنسان داجناً وليظل طليقاً في عالم انسانيّته يستلهم من ملكانة وقابليّاته مقومات حضارته.

وأخيراً ثار الحسين لتغيير نظام الأخلاق الدولية الأخلاق التي صنعتها له

٥

الدولة بسلوكيّات الحكم وطرائق الحكام لا بالقصد لذلك.

الإنسان في الثورة الحسينية بمنزلة القالب الذي تتقولب فيه ظروف حياته فلابدّ من تحسين هذه الظروف لتحسين وضعه النفسي وضميره الأدبي ومن ثم بسري الحسن والكمال إلى ساير أجزاء حياته.

وفي مسير الإسلام منذ والبدء إلى اعلان الثورة الحسينية عايش الإنسان المسلم فترات صعبة احدثت فيه انقلابات داخلية ففي فترة الإسلام بلغ الغاية من سموا الأخلاق حتى ضارع المخلوقات النورانيّة وفي فترة الخلافة تدنّى مستواه الأخلاقي حتّى تجاوز خطوط الجاهليّة الاُولى والمشكلة في الإنسان المسلم أنّه ليس لنفسه فحسب بل هو لغيره أيضاً (خير أمة أخرجت للناس) فإذا تدنّى مستواه الأدبي تدنّى مستوى الدعوة كذلك.

والإنسان المسلم هو التربة المخصّبة الذي ينمو به غراس الإسلام فإذا لم يكن خصباً أو سائت ظروفه أو تغيّرت أحكام المناخ عنده لم يؤتِ غراسه المأمول منه ولم ينتج ثمرته المطلوبة وكان الإنسان المسلم في ظل الحكم غير الصالح مصادراً بكل معنى الكلمة يشعر بالتبعية للحكم حتّى فيما يعود إليه من سلوكيّات يفعلها مختاراً أو الإفعال التي خلّى له الحكم الحريّة في ممارستها وفي حالة استيلاء هذا الشعور عليه ينسى ذاته وما أعد له ويسرح في دوّامة التبعية ويلغي الكلفة عن نفسه ليرمي بها في عاتق الدولة وحجّته أن ما يجوز فعله للدولة وضرره عام كيف يحضر عليه وضرره خاص به وعملية التغيير هذه جرت داخلياً للإنسان المسلم بعد وفاة النبي وعبر القران عنها بالإنقلاب على الأعقاب وأول صدمة تغيير ناء بها الإنسان المسلم هي حروب الردة فقد تجاوزت اعراف الحروف وخرجت على قوانين الأحكام العرفية قاطبة فلم يعط الإنسان المسلم مجال التفكير فيها فقد حدثت بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعشرة أيام وهي مدّة لا يمكن تمييز الارتداد فيها عن الاستقامة وارتكبت فيها مجازر رهيبة إلى حد الأحراق في الأخاديد.

وفي هذه الحرب بدأت عملية الانفصال بين المسلم وبين القيم الإسلامية واستمر التدهور إلاّ أنّه بصورة بطيئة لا تكاد تلحظ إلاّ بشيء من الأمعان والتدقيق حتى آل الأمر بفعل السابقين وتمهيدهم إلى أن يستولي معاوية على الحكم.

٦

وبدأ الإنقلاب الحقيقي وتمت غيبوبة الإسلام في نفس الفرد المسلم تحت ذلك الحكم، حتّى عدّ ضمن المسوخ الذين جرّدوا من خصائص الإنسانيّة، ولم يكن تغيير هذا الوضع المستبد والحالة العامة الراهنة إلاّ بعودة الإسلام ونبيه وعودة أعوانه في رجعة كاملة لا تدع من فصول الملحمة الاُولى فصلاً إلاّ رجع سيرته الاُولى. ثمّ يبدأ الحذر من تسرب الحكم الأناني الجاهل إلى عالم الإسلام وتفويت الفرصة عليه. وهذا مستحيل طبعاً وعادة.

أو الاُخرى وهي تصدي شخصية كبرى من شخصيّات الوحي لأحداث هزّة ضمير عنيفة كالزلزال ليستيقض الإنسان المسلم من غفوته الاصطناعية ثم صنع مشاعر فاضلة له من خلال عملية جهاد مختومة بشهادة فاجعة ذات وجهين الأول: تحمل الشهيد اقسى الآلام التي يستطيع أن يتفاداها بميل بسيط مع السلطان كالبيعة مثلاً.

الثاني عدوانيّة السلطة وجنودها وتناهيهم في خسة الطباع وروح العار والضعة والقسوة والدنانة.

وكان لابدّ من هذا الزلزال كبديل عما أحال الطبع والعادة جريانه.

واختار الحسين ذلك البديل بأمر الله وبطلب وأعداد منه سبحانه فكانت شهادته بالكيفيّة التي رسمتها خارطة كربلاء.

وهذا الكتاب يتناول المعنى المتقدم باسهاب ويجلو كثيراً من الغوامض ويحيط بالثورة الحسينية من أطرافها كافة ويصطحب الاحداث بدءاً من عملية الإنقلاب على الاعقاب ومروراً بالحكم الأموي المتعسف وختاماً بالمنشور الأخلاقي الحسيني لصنع الثورات المستقبلية.

واحسبني وفقت في اختيار منهج الكتاب وسيطلع عليه القارئ خلال مطالعته إن شاء الله.

لولا أني لم اقتصر على موضع الشاهد في الرواية أو الحكاية أو الخبر والحادثة التاريخية والنكتة الادبية وإنما تجاوزت ذلك بسردها كاملة. والسبب يعود أولاً إلى أني اعددت الكتاب لأخواني الخطباء والخطيب بحاجة إلى إثراء موضوعه بكل شهي ممتع تام ثم هو يعد يوفر للقارئ متعة المطالعة ويعطيه فسحة في الوقت حيث

٧

يوفر عليه عناء الرجوع إلى المصادر.

ولا أراني بحاجة إلى تذكير القارئ العزيز بالعفو عما يصادف في الكتاب من أقوال تدعو إلى تركها من قبيل نماذج السياق أو قول أبي حمزة الشاري عن يزيد ومثله قول عبدالملك عنه وما تبع ذلك من أقوال تكشف عن المستوى الأخلاقي الضحل للأمويين أقول: إن ذلك لابدّ منه لأننا بصدد رسم صورة حقيقية لمجتمع ذلك العصر الذي كانت ثورة الحسينعليه‌السلام عليه.

وبصدد وضع خطوط مائزة بين ما حدث من مجانبة للخلق الإسلامي القويم وبعد عن تعاليمه الكريمة وما ينبغي أن يكون عليه المسلم من التحلي بآداب الإسلام وأخلاقه ولا يتم ذلك إلاّ برفع الستار عن الواقع وهذا ما جرى منا.

بقيت مسئلة أخرى مهمة أشار إليها غير واحد من اخوتنا أهل الولاء وفيها لوم كثير عليّ بأني اعرض عن المصادر الشيعية مع توفرها وتوسعها في ميادين المعرفة بمختلف آفاقها وأكثر الاستدلال بغيرها من مصادر الخصوم. وأقول لهم شاكراً حسن إرشادهم وعظيم توجههم وعنايتهم بالمراجع الخاصة بنا: إني في مقام الإحتجاج للشيعة على غيرهم ولا موضع هنا لذكر مصادرهم إذ الحجّة لا تكون بها على الخصم إنما نذكرها فيما يتعلق بها من المواضيع الخاصة لنكون بمنأىً عن اتهام ابن حزم لقومه بقوله: إننافي مقام الإحتجاج على الشيعة نحتج بكتبنا وهذا مجانب للإنصاف(1) .

اجل نحن لا نجانب الانصاف في احتجاجنا عليهم بمراجعنا بل نحتج بمراجعهم وكتبهم الموثقة عندهم فما قولهم بعد ذلك وما تقوّلهم علينا؟! وتبقى لكتبنا ومراجعنا مكانتها الخاصة وقيمتها العلمية وهي باستثناء الإخراج الفني أتم وأفضل من كتب الخصم وما تركناها إلاّ لأتمام الحجة وأخيراً لا آخراً أقول:

إنّ كتابي هذا إمتداد لسابقة الحسين مأتم الإسلام الذي هو بمثابة المقدّمة له ولما يأتي بعده إن شاء الله تعالى. ولكنّه إمتداد مستقلّ وآثرت الإسم: (الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية) لأن الإسم تبع للموضوع وهذا الإسم أكثر

____________________

(1) يقول ابن حزم في الفصل: لا معنى لاحتجاجنا عليهم برواياتنا (الفصل ج4 ص159).

٨

إنطباقاً على موضوع الكتاب من ذاك وسواء غيرنا الإسم أو لا فاته لا يعدو حبة الرمل على المحيط الحسيني الزاخر بالخير والمعرفة وهو كمؤلفه يمديد الضراعة لله أن يتقبله بأحسن القبول ويبلغه مولانا سيد الشهداء ولي النعم لعلّه يكون سبباً اكيداً لتأصيل العلقة المنبرية بسيّد الشهداء وتقدمة بين يدي المؤلف لحصول الشفاعة لنا منهعليه‌السلام وأود قبل الختام أن انوه بجهود أخي الناشر أبي زينب صاحب الرحلة الطويلة الموفقة مع التأليف والمؤلفين شاكراً له جزيل الشكر وفقه الله وسدده. والحمد لله أولاً وآخراً.

محمد شعاع فاخر

٩

الامام الحسينعليه‌السلام وقلب نظام الأخلاق

تميزت واقعة كربلاء بظاهرة فريدة من نوعها ليس لها مثيل في حوادث الزمان الاخرى من قبل ومن بعد.

ذلك أنّها اصبحت بعد حدوثها مضماراً للعقول، تتسابق فيه. مستنبطة لها العلل والاسباب.

فمن سابق بلغ الحق او كاد ومن مصلّ جاء على الأثر ومن كاب في شوطه فاتته الغاية. ومن متكهن آثر الظنون والاوهام على الحقائق الناصعة.

ويبقى الحق في الحادثة حيث هو متلألأً في رائعة العقول تلالأ الشمس في رائعة الضحى والبشرية باجمعها امس واليوم. تحوم حول الواقعة العظمى بحثاً عن الحق المنشود..

وقل من وفق لنيله من ابنائها ...

لأن هناك حجباً كثيفة تحول بين الحق وطالبه. فما لم يتمّ تجاوزها لن تكحل مقلة برؤيته ابداً.

وحديث هذه الحجب شجون.

فمنها حجب تعود إلى الوراثات العقائديّة أو الوراثات الجنسية. أو الأخوى المتلبسة بلباس العلم.

ورب باحث يضطرب في اغلال هذه الوراثات ويتقلب في شراكها. ويحسب نفسه طليقاً يجوس خلال ديار الحق بحريّة موهومة.

ومن هذا المنطلق تباينت آراء العلماء والباحثين في الحادثة تبايناً كبيراً.

ولن يستطيع باحث مهما أُوتي من قوّة العلم التوفيق بين هذه الآراء المتباينة.

 ... ومن الثابت عند العلماء، أنّ تباين الآراء في البشر أمر طبيعي تمليه الجبلة عليهم. وخلق فطري مركوز في طباعهم.

١٠

وما كان بهذا المستوى من طبايع البشر. يستحيل علاجه وان خفّف التحضر من غلوائه.

ما اتّفق اثنان من البشر اتفاقاً كلّياً حقيقياً حذو النعل بالنعل. في يوم من الأيام. وما يشاهد من الاتفاق عند هؤلاء أو اولئك. فليس اتفاقاً على نحو الحقيقة بل لابدّ من حمل أحد طرفيه التسليم والخضوع للطرف الآخر.

ويعود ذلك لأسباب تفرضه فرضاً لا يدع للأختيار مجالاً.

وقد يكون من هذه الأسباب ما يعود للقوة المسيطرة أو العقيدة الموروثة أو غيرهما. ويكون الرأي في مثل هذا المناخ منسوباً إلى طرف والاتباع والتسليم إلى الطرف الآخر. على أنّ الحق في مثل هذه الحالات من نصيب قوم تجرّدوا من القيود الموروثة واستطالوا على الحدود المصطنعة وانعتقوا من الحجب المفتعلة. فبلغوا شطئانه بثقة واطمئنان وفازوا فوزاً عظيماً بالراحة الكبرى والنعيم المقيم. أعنى بلوغ الحق والركون البه.

وبقي اولئك المحجوبون يتلدّدون في المسالك المظلمة والدروب الضالّة.. يرون اتّفاقهم على رأي ما هو الحق المبين ولو لا انحياز الحق إلى جماعتهم لما تمّ لهم هذا الاتفاق ولما حصل الاجماع بينهم..!!؟ هكذا يُخيّل لهم.

ونحن تحملنا قضيّة تباين الآراء على الارتياب بما نرى من شبه الاتفاق الذي تعلنه بعض الطوائف والجماعات حول بعض القضايا ...

وينبغي على من أراد اكتشاف ما وراء الاتفاق المدّعى أن لا يقنع بالظاهر المعلن حتّى يستجلى الحقيقة بسبر جميع الآراء والأسباب التي أوجدتها وسوف يعثر على آراء مضادّة لهذا الاتّفاق حتماً وإنما بقيت طيّ الكتمان ولم يعلن عنها لوجود قوّة قاهرة ظلّت إلى جانب الاتّفاق المعلن ترعاه وتقيم أوده. ونقول عوداً على بدء إنّ الاتفاق الحقيقي مستحيل بين البشر قاطبة.

فإذا ثبت لنا ذلك، عرفنا السبب في تفرق الآراء عند المؤرخين والرواة والعلماء حول النهضة الحسينية المباركة.

فقد توزّعت الآراء على مساحة كبيرة من الزمن واختلفت من العدو والصديق.

والغريب حقاً أن نعثر على أقوال تافهة من الأولياء باعثها الجهل أو الحكم

١١

المتسرع ممّا يحز في النفس ويبعث على الأسى والدهشة ومن هذه الآراء رأي فج ردّده أمس واليوم كثيرمن الناس وجرت به الأقلام وتلوّثت الطروس. وهو الرأي القائل: ان غرض الحسين من نهضته وباعثه على ثورته. هو استعادة حقّه المغتصب وليس في ذلك غضاضة عليه وان ادّى إلى قتله واستباحة حرمه لأن سكوت المرىء عن حقّه لا تقرّه شريعة من الشرايع. بُلة شريعة الإسلام وإن جرّ ذلك إلى تلف النفس وحرب المال.

والحسينعليه‌السلام عمل بالمشروع المباح وهذا الرأي وإن كانت له نسبة بالحق إلاّ أنّه صغير جدّاً يضيق مداه عن استيعاب حقيقة النهضة الحسينية وهو سطحي أيضاً يدلّ على جهل ذوبة بالاهداف الحسينية عند معاصريه أو من جاء بعدهم والواقع إن إستعادة الحق السليب امرٌ مرغوب فيه خلا إنّ ثورة الحسينعليه‌السلام لم تكن من أجله إطلاقاً ونحن بعون الله سوف نحاول في البحوث القادمة الألمام بالهدف الأكبر الذي ثار من أجله الحسينعليه‌السلام .

الحقيقة ورأي الناس

في أول حركة وضع فيها الأمام قدمه خارج دائرة الوضع العام أخذ الناس يتكهنون بما يضمر الإمامعليه‌السلام من أهداف ولم تتعدّ نظرتهم ساعئذ نطاق (المطالبة بالحق السليب) واسترجاع الخلافة المغصبة وأنّ هذه الحركة التي بدأت بالهجرة من المدينة ليومين بقيا من رجب(1) إن هي الاثورة معلنة على الملك الأموي لاسترجاع الحق العلوي ومن منطلق هذا التخرص راح الناهوون يحاورونه من أمثال عبدالله بن عمرو عبدالله بن مطيع العدوي والفرزدق الشاعر وغيرهم.

وربما بدى جانب من هذا على لسان عبدالله ابن عباس واخيه محمد أيضاً وهما يحاورانه في وجوب الانصراف عن عزمه على هذا السفر وممّا يؤكّد هذا الجانب فقرات الكتاب الذي ارسله يزيد إلى ابن عباس وفيه اتهام للحسين باعداد العدّة لقلب نظام الملك الأموي (يمنونه الخلافة ويمنيهم الأمره).

____________________

(1) محمد السماوي، تواريخ المعصومين، ط مطبعة الزمان بغداد 1366، ص43.

١٢

ولم ينف ابن عباسرضي‌الله‌عنه هذا الاتهام ممّا يدلّ على قبوله وتصديقه به وانظر الكتاب وجواب ابن عباس عليه.

 كتاب يزيد إلى ابن عباس

(ولما نزل الحسينعليه‌السلام مكة كتب يزيد إلى ابن عباس:.. أمّا بعد فإن ابن عمّك حسيناً وعدو الله بن الزبير التويا ببيعتي ولحقا بمكّة مرصدين للفتنة معرّضين انفسهما للهلكة فأمّا ابن الزبير فإنّه صريع الفنا وقتيل السيف غداً وأما الحسين فقد أحببت الاعذار إليكم أهل البيت مما كان منه وقد بلغني أنّ رجالاً من شيعته من أهل العراق يكاتبونه ويكاتبهم ويمنونه الخلافة ويمنّيهم الأمرة وقد تعلمون ما بيني وبينكم من الوصلة وعظيم الحرمة ونتايج الأرحام وقد قطع ذلك الحسين وبتّه وأنت زعيم أهل بيتك، وسيد أهل بلادك، فالقه فاردده عن السعي في الفرقة وردّ هذه الأمة الى الفتنة فإن قبل منك، وأناب إليك، فله عندي الأمان والكرامة الواسعة وأجرى عليه ما كان أبي يجريه على أخيه وإن طلب الزيادة اضمن له ما أراد الله انفذ ضمانك، وأقوم له بذلك وله عليّ الايمان المغلظة والمواثيق المؤكّدة بما تطمئن به نفسه ويعتمد في كل الاُمور عليه عجّل بجواب كتابي وبكل حاجة لك إلي وقبلي والسلام.

 جواب بن عباس له

فكتب ابن عباس له: أما بعد فقد ورد كتابك تذكر فيه لحاق الحسين وابن الزبير بمكّة فأمّا ابن الزبير فرجل منقطع عنا برأيه وهواه يكاتمنا مع ذلك اضغاناً يسرّها في صدره يوري علينا وري الزناد لا فكّ الله اسيرها فرَ في أمره ما أنت راء.

وأمّا الحسين فأنّه لما نزل مكة وترك حرم جدّه ومنازل آبائه سئلته عن مقدمه فأخبرني أن عمالك بالمدينة أسائوا إليه وعجلوا بالكلام الفاحش فأقبل إلى حرم الله مستجيراً به.

وسألقاه فيما أشرت إليه ولن ادع النصيحة فيما يجمع الله به الكلمة ويطفى به

١٣

النائرة ويخمد به الفتنة ويحقن به دماء الأمة فاتق الله في السر والعلانية ولا تبيتن ليلة وأنت تريد لمسلم غائلة ولا ترصده بمظلمة ولا تحفر له مهواة فكم من حافر لغيره حفراً وقع فيه وكم من مؤمل أملاً لم يؤت امله وخذ حظك من تلاوة القرآن ونشر السنّة وعليك بالصيام ولا تشغلك عنهما ملاهي الدنيا وأباطيلها فإن كل ما اشتغلت به عن الله يضرّ ويفنى وكلّ ما اشتغلت به من اسباب الآخرة ينفع ويبقى والسلام ...(1)

ولابن عمر موقف لا يختلف جوهراً عما حواه كتاب يزيد لعنه الله وتكرر ذلك منه فقد نهاه عن الخروج إلى مكّة يقول صاحب كتاب تذكرة خواص الاُمة.

.. ولما بلغ عبدالله بن عمر ما عزم عليه الحسين دخل عليه بنفر فلامه ووبّخه ونهاه عن المسير وقال له يا أبا عبدالله سمعت جدّك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: مالي وللدنيا وما للدنيا ومالي وأنت بضعة منه وذكر له نحواً مما ذكر بن عباس فلمّا رآه مصرّاً على المسير قبّل مابين عينيه وبكى وقال:

... استودعك الله من قتبل..(2)

وكذلك اعترض طريقه وهو يؤم العراق خارجاً من مكّة وذلك حين بلغه وهو بماء له أن الحسين بن علي توجّه إلى العراق فلحقه على مسيرة يومين أو ثلاثة فقال له: إلى أين فقال له:

هذه كتب أهل العراق وبيعتهم فقال له: لا تفعل فأبى فقال له ابن عمر أنّ جبرئيل أتى النبي فخيّره بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة ولم يختر الدنيا وإنّكم بضعة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذلك يريد منكم. فأبى فاعتنقه، وقال: استودعك الله والسلام(3) .

ما كان يدور بخلد ابن عمر سوى الدنيا.

إنّه يعتقد بخروج الحسينعليه‌السلام من أجل الدنيا وحدها وكأنّه لا يرى بام عينيه ما ينزل بنو اميّة بالأمة من الويل والدمار.

____________________

(1) راجع حول الكتابين، تذكرة خواص الامة، ص137.

(2) تذكرة خواص الأمة، ص137.

(3) تذكرة خواص الأمة، ص150، وأنساب الأشراف، ج3 ص375.

١٤

والمعروف عن المؤرخين تصنيفه في صفوف المعارضين لحكم يزيد ولكن الواقع يحكي لنا خلاف ذلك، فقد استطاع معاوية تذليل صعبه وأخذ بيعته برضيخة من المال قليلة لا تعدل ثمن جارية من مغنيات يزيد.

يقول صاحب الكامل: فلما مات زياد عزم معاوية على البيعة لابنه يزيد فأرسل إلى عبدالله بن عمر مائة الف درهم فقبلها فلما ذكر البيعة ليزيد قال ابن عمر: هذا ما أراد إنّ ديني عندي اُذن لرخيص، وامتنع.

أبهم المؤرخ فلم يُشر إلى وجه امتناعه هل امتنع من البيعة أو أخذ المال؟!

واحسب أن الإيهام جاء لغرض في نفس المؤرخ أو الراوي إذا نزهنا ابن الأثير من التصرّف بالنص ليحمل القارئ أو السامع على فهم الامتناع عنهما معاً ولا استبعد أن تكون كلمة ( امتنع ) اضيفت إلى النص بآخرة بخاصة إذا عرفنا أن النصوص الأخرى تخلو منها فهذا ابن سعد لم يذكرها في روايته بل اقتصر على قول ابن عمر: أرى ذاك اراد إن ديني عندي اُذن لرخيص..(1) .

والواقع إنّ ابن عمر فعل الاثنين أي أخذ المال وبايع وليس هذا أول مال يأخذه من معاويه بل تتابعت الرضائخ الماليّة والبدر السمينة من معاوية له ولغيره.

وذكر ابن الأثير أن ابن عمر بايع ليزيد سراً ولكنّه نسبه إلى القيل. قال: وقيل: إن ابن عمر قال لمعاوية: ابايعك على أني ادخل فيما يجتمع عليه الأمة فوالله لو اجتمعت على عبد حبشيّ لدخلت معها ثمّ عاد إلى منزله فاغلق بابه ولم يأذن لأحد(2) .

وهذا الموقف يقتضينا مسائلة ابن عمر عن مدلول الأمة عنده فهل هم أهل الشام وحدهم؟ أو أنّها تنطبق على الجميع من دون استثناء فإن كان الثاني، فما باله وقف في الطرف المضاد لأهل المدينة حين خلعوا يزيد في وقعة الحرة.. قال ابن سعد: إن ابن عمر لما ابتز أهل المدينة يزيد ابن معاوية وخلعوه دعا عبدالله بن عمر

____________________

(1) ابن سعد، الطبقات، ج4 ص182.

(2) ابن الأثير، الكامل، ج3 ص152.

١٥

بنيه وجمعهم فقال:

.. إنا بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله وإني سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول:

إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة فيقول: هذه غدرة فلان وإن من أعظم الغدر ألا أن يكون الشرك بالله أن يبايع رجل رجلاً على بيع الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ ينكث بيعته، فلا يخلعنّ أحد منكم يزيد ولا يُسرعنّ أحد منكم في هذا الأمر فتكون الصيلم بينني وبينه..(1) .

لم يخذل ابن عمر الثائرين على يزيد فحسب بل نسبهم إلى الغدر وحمّلهم بعض ألويته يوم القيامة والأنكى من ذلك حقاً أنّه اعتبر الثورة على يزيد من اعظم الغدر وهو ثاني الشرك بالله سبحانه عنده وهذا الموقف يعتبر اعظم مساندة حظى بها يزيد من رجل كابن عمر.

وممّا يدعوا الباحث إلى الحيرة ان ابن عمر كان يعد نفسه رجلاً من أهل المدينة يورد إذا أوردوا ويصدر إذا أصدروا فما باله انفرد اليوم عنهم بهذا الموقف الغريب؟!

بعث الإمام اميرالمؤمنينعليه‌السلام كميلاً النخعي إلى عبدالله بن عمر فجاء به فقال انهض معي فقال: انا مع أهل المدينة إنما أنا رجل منهم وقد دخلوا في هذا الأمر فدخلت معهم لا افارقهم فإن يخرجوا اخرج وان يقعدوا أقعد(2)

هذا أمس حين كان الداعي علياً اما اليوم فقد تغيّرت الحال حين انصبّت عليه البدر والرضائخ فلم يعد من أهل المدينة وراح يهدد من يخرج على يزيد بالصيلم وهي الداهية أو السيف.

وإذا كان ابن عمر بهذه المثابة أزاء حكم يزيد فكيف يحمل على المعارضة له ويعتبر احد رجالها والصحيح أن الرجل معارض للثائرين على يزيد وهو من الراضين بحكمه على كل حال أليس هو صاحب الشعار المعروف:

____________________

(1) ابن سعد، الطبقات، ج4 ص183، ابن كثير، البداية والنهاية، ج8 ص218.

(2) محمد رضا، الإمام علي بن أبي طالب، ص87.

١٦

إن كان خيراً رضينا وإن كان بلاء صبرنا(1) .

وعلى هذا الأساس جاءت معارضته للحسينعليه‌السلام وتكررت في مواقف كثيرة ومنها الموقف الحاسم الذي ذكره الخوارزمي فقال:

اقبل ابن عمر على الحسين وقال له: مهلاً ابا عبدالله عما ازمعت عليه وارجع معنا إلى المدينة وادخل في صلح القوم ولا تغب عن وطنك وحرم جدك ولا تجعل لهؤلاء القوم الذين لا خلاق لهم على نفسك حجة وسبيلا وإن احببت أن لا تبايع فإنك متروك حتى ترى رأيك فإن يزيد بن معاوية عسى أن لا يعيش إلاّ قليلاً فيكفيك الله أمره.

فقال الحسين: اُف لهذا الكلام ابداً ما دامت السموات والارض أسألك بالله يا أبا عبدالرحمن اعندك أني على خطأ من أمري هذا فإن كنت على خطأ فردّني عنه فإنّي ارجع واسمع وأطيع فقال ابن عمر: اللهم لا ولم يكن الله تبارك وتعالى ليجعل ابن بنت رسوله على خطأ وليس مثلك في طهارته وموضعه من الرسول أن يسلّم على يزيد بن معاوية باسم الخلافة ولكن اخشى أن يضرب وجهك هذا الحسن الجميل بالسيوف وترى من هذه الاُمّة ما لا تحب فارجع معنا إلى المدينة وإن شئت أن لا تبايع فلا تبايع أبداً واقعد في منزلك فقال له الحسين:

هيهات يابن عمران القوم لا يتركوني إن أصابوني وإن لم يصيبوني فانّهم يطلبوني أبداً حتّى ابايع وانا كاره أو يقتلوني(2) .

وكل من اظهر النصح للإمامعليه‌السلام بالعدول عن عزمه على الهجرة كان يضمر في نفسه ما اضمره ابن عمر.

فهذا عبدالله بن مطيع العدوي يقول للحسين: جعلت فداك يابن رسول الله لا تخرج إلى العراق فإن حرمتك من الله حرمة وقرابتك من رسول الله قرابة وقد قتل ابن عمك بالكوفة وإن بني امية إن قتلوك لم يرتدعوا عن حرمة الله أن ينتهكوها ولم يهابوا أحداً بعدك أن يقتلوه فالله الله أن تفجعنا بنفسك فلم يلتفت الحسينعليه‌السلام إلى

____________________

(1) ابن سعد، الطبقات، ج4 ص182.

(2) مقتل الخوارزمي، ص192.

١٧

كلامه(1) . حتى أقرب الناس إليه ما كان يبتعد بظنه عن هاجس بن عمرو ابن مطيع.

فقد ساوى سيدنا محمد بن الحنفية ابن عمر وصاحبه في ظنه بنهضة الحسين وإنها لتغيير الحكم دلّ على ذلك كلامه الذي خاطب به الإمام اُبان رحيله من المدينة فقد قال له:

يا أخي أنت أحبّ الناس إلي وأعزُّهم علي ولست ادخر النصيحة لأحد من الخلق إلاّ لك أنت أحق بها تنح ببيعتك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت، ثمّ ابعث رسلك إلى الناس فادعهم إلى نفسك فإن تابعك الناس وبايعوا لك حمدت الله على ذلك وإن اجتمع الناس على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك ولا يذهب به مروّتك ولا فضلك إني أخاف عليك أن تدخل مصراً من هذه الأمصارفيختلف الناس بينهم فطائفة منهم معك واُخرى عليك فيقتتلون فتكون لأول الأسنة غرضاً فإذا خير هذه الاُمة كلها نفساً وأباً واُماً اضيعها دماً وأذلها أهلاً فقال له الحسينعليه‌السلام :

فأين أذهب يا أخي؟ قال: أنزل مكة فإن اطمأنّت بك الدار بها فسبيل ذلك وفي رواية أخرى وإن تكن الاُخرى خرجت إلى بلد اليمن فإنّهم أنصار أبيك وجدّك وهم أرأف الناس وارقهم قلوباً وأوسع بلاداً وإن نبت بك لحقت بالرمال وشعف الجبال وخرجت من بلد إلى بلد حتى تنظر إلى ما يصير أمر الناس إليه وتعرف عند ذلك الرأي فإنّك أصوب ما تكون رأياً حين تستقبل الأمر استقبالاً ولا تكون الاُمور عليك أبداً اشكل منها حين تستدبرها استدباراً.

فقال يا أخي: قد نصحت وأشفقت وأرجوا أن يكون رايك سديداً(2) .

ولا أرى لوصيّة محمد كبير فائدة تعود على الحسينعليه‌السلام لو أنّه عمل بها.

فما أشار عليه إلاّ بالضياع في الأقاليم النائية هنا وهناك وما باعثه على ذلك إلاّ صيانة النفس من العطب وعليه أن ينأى عن الواقع المرهق الذي تعيشه الاُمّة من بطش بني اُميّة وجورهم لئلاّ تطاله يد يزيد أو يقع تحت جبروت سلطانه أن هذا

____________________

(1) السيد عبدالرزاق المقرّم، مقتل المقرّم، ص217.

(2) قمقام زخار، ص265.

١٨

الرأي الفائل يُجلّ سمع الحسين عنه كما أجل أبا القاسم أن يتفوه به في حضرةالإمام مع علمه بالمسئوليّة الكبرى التي تحمّلها الحسين بصفته الإمام بعد أبيه وأخيه.

وكيف يشير محمد على الحسين بهذا الرأي وهو الذي وعى ما قاله أبوه على منبر الكوفة راسماً لأولى الأمر ما يجب عليهم اتّخاذه مع وجود الناصر: أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو لا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذه الله على العلماء أن لا يقارو على كظة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها من كأس أولها ولا لفيتم ديناكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز ...

أيبقى بعد هذا الكلام عذر لمعتذر إذا آثر الدعة والسكينة على حياة الجهاد؟! خشية أن يُساء إليه أو يتعرّض لطائلة السلطان الجائر.

وهل كان محمدرحمه‌الله جادّاً وهو يصور للحسينعليه‌السلام أنّ اجتماع الاُمّة على يزيد أو غيره لا ينقص بذلك دينه ولا يذهب به مروئته ولا فضله.

صحيح أنّ ذلك لا يضير الحسينعليه‌السلام فى شيء ولكنّ الصحيح أيضاً أنّه يضير الاُمّة وينقص بذلك دينها ومروئتها والإمامعليه‌السلام مسئول عنها.

فلابدّ من القيام بتضحية تصحو على صداها الاُمّة فتبصر واقعها السيّئ فتهب بثورة عارمة للتغيير وتحسين هذا الواقع.

ولقد اطلق الإمام على هذه التضحية اسم الفتح وكتب إلى محمد وسائر بني هاشم وهو يعيش حياة الجهاد الدامية.

بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي بن أبي طالب إلى بني هاشم أما بعد فإنّه من لحق بي منكم استشهد ومن تخلّف لم يبلغ الفتح والسلام(1) .

وما كان موقف عمر بن الإمام أميرالمؤمنين يختلف عن المواقف السابقة. فقد دخل على الحسينعليه‌السلام ذات يوم حين عزم على الخروج من المدينة فوجده وحده فقال له:

____________________

(1) قمقام زخار، ص267.

١٩

يا أبا عبدالله فداءك روحي روى المجتبى عن أبينا المرتضى حديثاً ثمّ اختنق عمر بعبرته فضمه الحسينعليه‌السلام إلى صدره وقال: حدثك على أني مقتول! قلت: نعم حماك الله من القتل قال،: بحق رسول الله هل أخبرك أني استشهد قلت نعم واسئلك بالله أن تبايع يزيد بن معاوية فقالعليه‌السلام :

اعلم يا أخي إنّ أبي حدثني عن جدي وإننا نقتل ويكون قبري قريباً من قبره أثطن إني أجهل ما تعلم؟ قسماً بالله إني لا أمد يداً بالبيعة ولا أرضى بالذل.(1) .

وكان للفرزدق موقف مشابه لمواقف القوم من ثورة الحسينعليه‌السلام ففد ذكر المؤرخون إنّ الحسينعليه‌السلام لما وصل إلى بستان بني عامر لقي الفرزدق الشاعر وكان يوم التروية فقال له: يابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما أعجلك عن الموسم قال له: لو لم أعجل لأخذت أخذاً فأخبرني يا فرزدق عما وراءك فقال:

تركت الناس بالعراق قلوبهم معك وسيوفهم مع بني اميّة، فاتّق الله في نفسك وارجع فقال له:

يا فرزدق إنّ هؤلاء قوم لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن واظهروا الفساد في الأرض وابطلوا الحدود وشربوا الخمور واستأثروا في أموال الفقراء والمساكين وأنا أولى من قام بنصرة دين لله واعزاز شرعه والجهاد في سبيله لتكون كلمة الله هي العليا فاعرض عنه الفرزدق وسار(2) .

اختلف جوابه للفرزدق عن جوابه لابن عمرو اضرابه لأنه يتأول الحرام فيحله أو الحلال فيحرمه وهذا شأن المتعالم الذي يريد الحياة على كل حال وإن افضت به إلى الذل والعبودية.

ولابدّ من الأشارة إلى أنّ من الناهين للحسين عن الهجرة من كان باعثه الأشفاق لا الأعتراض كاُم سلمة رضوان الله عليها وغيرها من عقائل بني هاشم وقالت ام سلمة: لا تحزني بخروجك إلى العراق فإني سمعت جدك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: يقتل ولدي الحسين بأرض العراق في أرض يقال لها كربلا وعندي تربتك في

____________________

(1) قمقام زخار، ص268.

(2) تذكرة خواص الأمة، ص138.

٢٠