الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية 0%

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 377

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد شعاع فاخر
تصنيف: الصفحات: 377
المشاهدات: 111530
تحميل: 12206

توضيحات:

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 377 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 111530 / تحميل: 12206
الحجم الحجم الحجم
الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وكان خالد ابن خال عمر فكسر خالد ساق عمر فعولجت وجبّرت وكان ذلك سبب العداوة بينهما(1) .

وإذا كان عمر لا ينسى ما جرى عليه من خالد وهو غلام وقد غيّر الإسلام في جزيرة العرب كل شيء وآتاه الله الدنيا بحذافيرها وملكه عروش كسرى وقيصر وهو ما زال يحقد على خالد من اجل مصارعة قضت بكسر ساقه فكيف ينسى تعريض عمير به على رؤوس الأشهاد ومن رعيته وسنطلعك إن شاء الله على اُمور محيّره للعقول.. من ثم عزله يقول ادريس الخولاني: لما عزل عمر بن الخطاب عميراً بن سعد عن الشام وولّى معاوية قال الناس: عزل عمر عميراً وولّى معاوية فقال عمر: لا تذكروا معاوية إلاّ بخير، فإني سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: اللهم إهد به(2) .

وهذه الرواية تدلّ على أنّ النقمة كانت عارمة على عمر لهذا اضطرته إلى الاعتذار وما كان عمر ليعتذر لأحد من الناس لولا ما شعر به من شدة الاعتراض هذا وإن المصيبة على عمرو على أهل الاسلام عظيمة في انتزاع صحابي زاهد نسيج وحده عن ولاية الشام وتوليه معاوية فرع الشجرة الملعونة المنافق. لذلك عمد الرواة والمؤخورون إلى صناعتهم المعروفة الوضع والدس والتبديل فزعموا أنّ عمر مات وعمير بن سعد على ولايته.

والزهري صاحب هذه المزعمة والذي يبد ولي من خلال هذا التضارب أنّ عزل عمير عن الشام أخذ مأخذه من سخط الناس ونقمتهم وقد مرّ تواً أنّ الناس لاموه فلم يعبأ بهم وبالغ في اطراء معاوية ومن المعقول جداً أن لا تنتهي هذه النقمة مادام معاوية على الشام يرتكب المحاذير ويفعل المنكرات ويخالف الشريعة الغراء.

من ثم انبرى أنصار عمر للدفاع عنه فعصبوا التهمة في جبين عثمان ليكون كبش فداء لعمر ومن قديم قال الحكيم: بجبهة العير يفدى حافر الفرس. ومن أولى من الزهري خصم بني هاشم ومبغضهم بعمر لذا راح يشيع بين الناس أن عثمان هو

____________________

(1) مختصر تاريخ دمشق، ج8 ص22.

(2) الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج3 ص126، وابن كثير البداية والنهاية، ج8 ص125

١٤١

الذي نزع عمير وجمع الشام لمعاوية(1). والزهري هو صاحب الزعم الثاني: أنّ معاوية لم ينفرد بالشام حتى استخلف عثمان(2) .

وهذا ينافي ما اثبته خليفة من أنّ عمر جمع الشام كلها لمعاوية واقره عثمان(3) ومثله قال اسماعيل بن اميه(4) .

ومن هذه الأمارة التي سوّدت وجه المأمور واتّهم بها الآمر استنبط الذهبي لمعاوية فضلاً وتقدماً فقال: وحسبك بمن يؤمره عمر ثم عثمان على اقليم هو ثغر فيضبطه ويقوم به اتم قيام ....(5) ونقل الذهبي في ترجمة عمير قول الزهري كانه من المسلمات فقال: فكان على الشام هو ومعاوية حتى قتل عمر(6) .

ولو ذهبنا نبحث عن السبب في ولاء الناس لعمير لوجدناه في نزاهته وامانته وفضله حتى قال ابن عمر لولده عبدالرحمن: ما كان من المسلمين رجل من أصحاب النبي افضل من أبيك(7) . واستمع إلى هذه الحكاية الغريبة التي تدلّ على نزاهة عمير وعلى تحين عمر الفرص لتخوينه تمهيداً لعزله عبدالملك بن هارون بن عنترة. حدثنا أبي عن جدي أن عميراً بن سعد بعثه عمر على حمص، فمكث حولاً لا يأتيه خبره فكتب إليه: أقبل بما جبيت من الفيء فأخذ جرابه وقصعته وعلق إداوته وأخذ عنزته - عصاه - واقبل راجلاً فدخل المدينة وقد شحب واغبرّ وطال شعره فقال:

السلام عليك يا اميرالمؤمنين فقال ما شأنك؟ قال: ألست صحيح البدن معي الدنيا فظن عمر أنّه جاء بمال فقال: جئت تمشي؟ قال: نعم قال: أما كان أحد يتبرع لك بدابة؟ قال: ما فعلوا ولا سألتهم قال: بئس المسلمون! قال: يا عمر إنّ الله قد نهاك عن الغيبة فقال: ما صنعتَ؟ قال: الذي جبيته وضعته مواضعه ولو نالك منه

____________________

(1) الذهبي سير أعلام النبلاء، ج3 ص135.

(2) الذهبي سير أعلام النبلاء، ج3 ص135.

(3) نفسه، ج3 ص32 وص33.

(4) نفسه، ج3 ص32 وص33.

(5) سير أعلام النبلاء، ج3 ص132.

(6) سير أعلام النبلاء، ج2 ص105.

(7) نفسه، ج2 ص559.

١٤٢

شيء لايتيتك به قال: جدّدوا لعمير عهداً قال: لا عملت لك ولا لأحد فلست لنصراني اخزاك الله وذهب إلى منزله على أميال من المدينة فقال عمر: أراه خائناً فبعث رجلاً بمئة دينار وقال: أنزل بعمير كأنك ضيف فإن رأيت حالاً شديدة فادفع إليه هذه المئة.

فانطلق فرآه يغلي قميصه فسلّم فقال له عمير: أنزل فنزل فساءله وقال: كيف أميرالمؤمنين؟ قال: ضرب ابناً له على فاحشة فمات.

فنزل به ثلاثاً، ليس الاقرص شعير يخصونه به وبطوون ثم قال: إنّك قد اجعتنا فأخرج الدنانير، فدفعها إليه، فصاح وقال: لا حاجة لي بها ردّها عليه قالت المرأة: إن احتجت إليها وإلاّ ضعها مواضعها فقال: مالى شيء اجعلها فيه فشقّت المرأة من درعها فاعطته خرقة فجعلها فيها، ثمّ خرج يقسمها بين ابناء الشهداء.

وأتى الرجل عمر، فقال: ما فعل بالذهب؟ قال: قال: لا أدري فكتب إليه عمر يطلبه فجاء فقال: ما صنعت الدنانير؟ قال: وما سؤالك؟ قدمتها لنفسي فأمر له بطعام وثوبين فقال لا حاجة لي في الطعام وأما الثوبان فإن ام فلان عارية فأخذها ورجع فلم يلبث أن مات .....(1)

ولو امتدبه العمر لذاق الأمرّين من أبي حفص وهذه الحكاية تدلّ على أنّ العلاقة بينهما بلغت حد القطيعة ولهذا اغلظ له عمير قائلاً: اخزاك الله وما كان وهو الزاهد التقي يدعو عليه بالخزي عبثاً لو لم يبلغ سكين عمر عظمه.

ولست أدري ما علة هذه الرقابة الشديدة على عمير مع ما عرف عنه من الزهد إلأنه لابليس الحرير؟ ولا يرابي ولا يشرب الخمر كما كان يفعل معاوية أم أنّ وراء الأكمه ما ورائها أجل إنّ عمر يترصد هذا الصحابي النزيه لعله يقع منه على هفوة ليعزله ويغرس صنيعته معاوية في أرض الشام والحكاية التالية تثبت ما ذهبنا إليه.

بعثه مرّه على جيش من قبل الشام، فوفد فقال: يا أميرالمؤمنين إنّ بيننا وبين عدونا مدينة يقال لها: عربسوس تطلع عدونا على عوراتنا ويفعلون ويفعلون فقال

____________________

(1) سير أعلام النبلاء، ج2 ص563.

١٤٣

عمر: خيّرهم بين أن ينتقلوا من مدينتهم ونعطيهم مكان كل شاة شاتين ومكان كل بقرة بقرتين ومكان كل شيء شيئين فإن فعلوا فاعطهم ذلك وإن أبوا فانبذ إليهم على سواء ثم أجّلهم سنة.

فقال: اُكتب لي يا أميرالمؤمنين عهدك بذلك فعرض عمير عليهم فأبوا فأجلّهم سنة ثمّ نابذهم فقيل لعمر: أنّ عميراً قد خرّب عربسوس وفعل فتغيّظ عليه فلما قدم علاه بالدره وقال: خرّبت عرب السوس وهو ساكت فلما دخل عمر بيته، استأذن عليه فدخل، وأقرأه عهده، فقال عمر، غفر الله لك(1) .

أترى نسي عمر عهده أم هو اختلاق الأسباب لأزاحة هذا الزاهد النزيه عن درب الحكم والأتيان بالفرع الملعون لتتم الحبكة الخبيثة ضد ابناء هاشم وليت عمر واجه معاوية ببعض هذه الغلظة أو حاسبه ولو مرّة في عمره لكان معاوية نزع أوتاب عن كثير مما كان يمارس من آثام وجرائم ولكنّ عمر أحاط معاوية بعناية خاصة فلم يحاسبه ولم يعزله بل لم يعاتبه ولم يكتب إليه بكلمة نقد أو عتاب طيلة المدة التي ولاه بها على الشام وكان عمر لا يبقى عاملاً أكثر من سنة.

عمر والعمال ..!!

اتخذ عمر مع عمال الولايات والأقاليم سباسة صارمه في العزل والمحاسبة فكان لا يبقى العامل أكثر من سنة فإذا عزله حاسبه حساباً عسيراً وقاسمه ماله.

حتى بعد وفاته فقد كتب في وصيته أن لا يقر له عامل أكثر من سنة إلاّ أبا موسى أربع سنين(2) .

وكان يعزل العامل بأتفه الأسباب فقد استعمل النعمان بن عدي بن نضلة على ميسان وكان يقول الشعر فقال:

ألا هل أتى الخنساء إن خليلها

بميسان يسقى في زجاج وحنتم

إذا شئت غنتني دهاقين قرية

ورقاصة تحبو على كل منسم

____________________

(1) الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج2 ص560.

(2) ابن الجوزي، تاريخ عمر، ص202، البداية والنهاية، ج8 ص62، المنتظم ج5 ص252.

١٤٤

فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني

ولا تسقني بالأصغر المتثلم

لعل اميرالمؤمنين يسوئه

تناد منا بالجوسق المتهدم

فلما بلغ عمر بن الخطاب قوله قال: نعم والله إنّه يسوئني من لقيه فليخبره أني عزلته فقدم عليه رجل من قومه فأخبره بعزله فقدم على عمر فقال: والله ما صنعت شيئاً مما قلت ولكن كنت امرأً شاعراً وجدت فضلاً من قول فقلت فيه الشعر. فقال عمر: أيم الله لا تعمل لي على عمل ما بقيت وقد قلت ما قلت(1) .

وليته إذ عزل هذا المسكين على هوس الخيال ووسوسة الشعر عزل معاوية على حقيقة الشرب بالكأس الأكبر وبالروايا تنقل إليه على البغال وعمر يعلم ذلك فلا يحرك ساكناً حتى شفتيه بكلمة أمر بمعروف أو نهي عن منكر أن أمره مع معاوية لمريب وستطلع على كل غريب إن شاء الله. بل كان عمر يعزل الوالي بعد اختباره والرضاعنه باضغاث الأحلام.

عن محارب بن دثار عن عمر بن الخطاب أنّه قال لرجل قاض من أنت قال: أنا قاضي أهل دمشق، قال: فكيف تقضي قال: أقضي بكتاب الله قال: فإذا جاءك ما ليس في كتاب الله قال: اقضي بسنة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: فإذا جاءك ما ليس في سنة رسول الله قال: اجتهد رأيي وأوامر جلسائي قال عمر: احسنت وقال له: إذا جلست فقل: (اللهم إني أسألك أن أفتى بعلم، اقضي بحكم، وأسألك العدل في الغضب والرضا) قال: فسار الرجل ما شاء الله أن يسير ثم رجع إلى عمر فقال: ما ارجعك قال: رأيت الشمس والقمر تقتتلان ومع كل واحد منهما جنود من الكواكب فقال: مع أيّهما كنت قال: كنت مع القمر قال: يقول عزوجل:( وَجَعَلْنَا اللّيْلَ وَالنّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النّهَارِ مُبْصـِرَةً ) لا تلي لي عملاً ابداً ...(2)

وأقول: لو كان عمر مع القمر أكان يعزل نفسه؟! ثمّ ما باله لم يستنبط مساواة القمر بالشمس من قوله تعالى: والشمس والقمر بحسبان.. فيقر المسكين على عمله. وما هذه الأبدية التي نفى بها الرجل عن كل عمل أبداً.

____________________

(1) الطبقات، ج4 ص140.

(2) ابن الجوزي، عمر بن الخطاب، ص111 وهذا الرجل يدعى حابس بن سعد الطائي الحمصى شهد صفين مع معاوية على الرجالة وقتل يومئذ، انظر جامع المسانيد والسنن، ج3 ص175.

١٤٥

والواقع أنّ عمر يمثل الدكتاتورية المطلقة في ذلك العهد وليته استدرك بعض ما لهذا الحالم من مزايا ومنها مزية علمه بالفضاء الذي امتحنه عليه عمر فاعجبه واستعمله ولم يعزله هذا العزل المهين والرد الشين وطالما استدرك عمر على نفسه فلم يعاقب بعد أن يقضي بالعقاب.

عن محمد بن عبدالغفار قال: استعمل عمر بن الخطاب رجلاً من قريش على عمله فبلغه أنّه قال:

اسقني شربة ألذّ عليها

واسق بالله مثلها ابن هشام

فأشخصه إليه وذكر أنّه إنما اشخصه من أجل البيت فضم إليه آخر فلما قدم عليه قال ألست القائل:

اسقني شربة ألذ عليها

واسق بالله مثلها ابن هشام

فقال نعم يا اميرالمؤمنين:

عسلاً بارداً بماء سحاب

اننى ما أحب شرب المدام

فقال: الله قال: الله قال: ارجع إلى عملك ...(1) وكان بامكان النعمان بن عدي أن يقسم لعمر أنّه لم يشرب الخمر وأنّه قول نفث على لسانه لو أنّ عمر أراد منه ذلك خلا أنّه لم يرده لماذا؟ لأنه لم يكن من قريش كصاحب ابن هشام ولعلّ هذا القرشي من الشجرة الملعونة التي يجد عمر لزاماً عليه غرسها في ضلوع الإسلام هذا كله يظهره عمر ويضرب ولده الحد وهو وقيذ بيده حتى الموت على شرب مزعوم ويترك لمعاوية وبني امية الحبل على الغارب بل يغريه في الشهوات حين يرضخ له ولأمه وأبيه وأهله الرضائخ من بيت المال.. لشد ما اختلف موقفاه وتباينت حالتاه.

مالان عمر مع عامل مالان مع معاوية فهذا خالد بن الوليد وهو من هو في شجاعته وجهوده العظيمة في تدعيم سرير الخلافة لعمرو من كان قبله فجرعه الأمرين ومرّغ انفه بالرغام وكانت عباراته إليه تحمل الحقد والضغينة والهزء كلما كتب إليه في شيء وكتب إليه بالسباب المقذع حين بلغه خبر دخوله الحمام وتدليكه فيه. مما استنفر الرأي العام ضده وعلم الناس أن عمر ينطوي على بغض متأصل

____________________

(1) تاريخ عمر، ص10 وص109.

١٤٦

لخالد ولم تقنعهم الذرائع التي نمسك بها عمر في ثلمه حتى اضطر ذات يوم إلى الإعتذار فقال: وإني اعتذر اليكم من خالد بن الوليد اني أمرته أن يحبس هذا المال على ضعفة المهاجرين فاعطاه ذا البأس وذا الشرف وذا اللسان فنزعته وأمّرت ابا عبيدة بن الجراح(1) .

ومن المعلوم أنّ الأسائة إلى خالد بلغت حداً من نفوس الناس أوجبت على عمر الاعتذار إليهم وما كان عمر يبالي بأحد فيما يقول أو يفعل لكي يعتذر إلاّ أنّ الموقف من خالد يختلف فقد أثار سخط الناس بخاصة أوليائه ومن يمت إليه بصلة فقد قام إليه حفص بن المغيرة وعمر آخذ بالاعتذار مما فعله بخالد وقال: والله اعتذرت يا عمر لقد نزعت عاملاً استعمله رسول الله واغمدت سيفاً سلّه رسول الله ووضعت لواءاً نصبه رسول الله وقطعت الرحم وحسدت ابن العم فقال عمر: إنّك قريب القرابة حديث السن مغضب في ابن عمك(2) .

ولنا أن نتسائل ما بال موقفه مع معاوية اختلف عن موقفه مع خالد مع مابين الرجلين من البون الشامع والفرق البعيد. ومن أعجب عجائبه وأغرب غرايبه وأدق مصائبه أنّه عزل عاملاً لأنه قد تعجب من تقبيل عمر بعض ولده فقال: والله ما قبلت ولداً لي قط فقال عمر فأنت والله بالناس أقل رحمة لا تعمل لي عملاً فردّ عهده(3) وكان لعمر عامل بمصر يسلك سلوك معاوية فانظر بماذا عامله عمر.

عن عاصم بن بهدله قال: كان عمر بن الخطاب جالساً مع أصحابه فمرّ به رجل فقال له: ويلاً لك يا عمر من النار فقال رجل: يا عمر ألا ضربته فقال له رجل أظنه عليًّرضي‌الله‌عنه ألا سألته فقال: عليّ بالرجل فقال له: ولم؟ قال: تستعمل العامل وتشترط عليه شروطاً فلا تنظر في شروطه قال: وما ذاك؟ قال: عاملك على مصر اشترطت عليه شروطاً فترك ما أمرته به وانتهك ما نهيته عنه.

وكان عمر إذا استعمل عاملاً اشترط عليه أن لا يركب دابة ولا يلبس رقيقاً ولا يأكل نقياً ولا يغلق بابه عن حوائج الناس وما يصلحهم قال: فأرسل إليه رجلين،

____________________

(1) تاريخ عمر، ص101.

(2) تاريخ عمر، ص142.

(3) تاريخ عمر، ص113.

١٤٧

فقال: سلا عنه فإن كان كذب عليه فاعلماني وإن كان صدق فلا تملكا من أمره شيئاً حتى تأتياني به فسألا عنه فوجداه قد صدق عليه فاستأذنا ببابه فقال: إنّه ليس عليه إذن فقالا ليخرجن إلينا أو لنحرقنّ بابه وجاء أحدهما بشعلة من نار فلما رأى ذلك آذنه اخبره فخرج اليهما فقالا: أنا رسولا عمر لتأتيه، فقال: إنّ لنا حاجة نتزود قالا ما أنت بالذي تأتي أهلك فاحتملاه فأتيا به عمر فسلّم عليه فقال: من أنت ويلك؟ قال: عاملك على مصر وكان رجلاً بدوياً فلما أصاب من ريف مصر ابيضّ وسمن.

فقال: استعملتك وشرطت عليك شروطاً فتركت ما أمرت به وانتهكت ما نهيتك عنه أما والله لأعاقبنّك عقوبة ابلغ إليك فيها إأتوني بدرّاعه من كساء وعصا وثلثمائة شاة من شياه الصدقة فقال: أليس هذه الدراعة فقد رأيت أباك وهذه خير من درّاعته وهذه خير من عصاه إذهب بهذه الشاة فارعها في مكان كذا وكذا وذلك في يوم صائف ولا تمنع السابلة من البانها شيئاً واعلم أنّ آل عمر لم تصب من شياه الصدقة ومن البانها ولحومها شيئاً فلما أمعن ردّه فقال: افهمت ما قلت لك؟ وردد عليه الكلام ثلاثاً فلما كان في الثالثة ضرب بنفسه الأرض بين يديه وقال: ما استطيع ذلك فإن شئت فاضرب عنقي قال: فإن رددتك فأيّ رجل تكون قال: لا ترى إلاّ ما تحب فكان خير عامل(1) .

أكان من حق هذا أن يرد؟ بعد أن ثبتت خيانته؟ أو كان من حقه أن ينقل من دار الأمارة إلى المرعى مع الشياه؟

ويترك لمعاوية الشام يفعل فيه ما يشاء وقد مرّ عليك أنّ عمر شاهد نعيم معاوية وغضاضة جلده وبضاضة جسمه بام عينيه فما زاد على أن بخ بخ له وقال نحن إذن خير الناس إن جمعت لنا الدنيا والآخرة فما هو السر في معاوية الذي على اساس منه اُعفي من كل تكليف واُبيح له كل محظور. وعزل عمر زياداً لا لذنب جناه بل لكبر عقله ودهائه.

روي في الحديث أنّ زياداً بن ابي سفيان كان كاتباً لأبي موسى الأشعري فعزله عمر عن ذلك فقال له زياد: أعن عجز عزلتني يا اميرالمؤمنين أم عن خيانة؟ فقال: لا

____________________

(1) تاريخ عمر، ص112 وص113.

١٤٨

عن ذاك ولا عن هذا ولكني كرهت أن أحمل على العامة فضل عقلك(1).

هذا ولو قيس عقل زياد إلى عقل معاوية وخبث هذا إلى خبث ذاك لكان لا شيء مقيساً إلى شيء. واحياناً تكون محاسبة عمر لعماله من النوادر المضحكة.

عن يزيد بن حبيب: أنّ كاتب عمرو بن العاص كتب إلى عمر: فكتب بسم الله ولم يكتب فيها سيناً فكتب عمر إلى عمرو: أن أضربه سوطاً فقيل له في أي شيء ضربك قال: في سيناً (كذا) ......(2)

وكان الشيخ يأخذ عماله باجتناب امور حضرها الشرع على المسلم ويشدد في ذلك عليهم وتأتيه الانباء عن معاوية أنّه يفعلها بحرية تامة وعلى مسمع ومشهد من أصحاب رسول الله فلا يلقي سمعاً لذلك ويغضي عنه عامداً فما هو السر؟

عن أبي عثمان الهدي عن عمر بن الخطاب أنّه قال: إترزوا وارتدوا وانتعلوا والقوا الخفاف والسراويلات والقوا الركب وانزو نزواً وعليكم بالمعدية والزموا الأغراض وذروا التنعم وزي العجم واياكم والحرير فإن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عنه ولا تلبسوا من الحرير إلاّ ما كان هكذا وأشار رسول الله باصبعيه.

ويقول لعتبة بن فرقد: اياكم والتنعم وزيّ أهل الشرك ولبوس الحرير فإنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهانها عن لبوس الحرير إلاّ هكذا ورفع لنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصبعيه(3) .

وكان يشدد على نفسه فلا يأخذ من بيت المال إلاّ حلتين حلة في الشتاء وحلة في القيظ وما احج عليه واعتمر من الظهر وقوتي وقوت أهلي كقوت رجل من قريش ليس باغناهم ولا بافقرهم(4) كما أنّه منع قوت بعض أهله حتى كاد يهلكهم من الجوع والمخمصة.

قال الحسن: بينا عمر يمشي في سكة المدينة إذا هو بصبية تطيش على وجه الأرض تقوم مرة وتقع اُخرى فقال عمر يا ويحها يا بؤسها من يعرف هذه منكم فقال عبدالله بن عمر أو ما تعرفها يا اميرالمؤمنين قال: لا ومن هي قال: هذه احدى بناتك

____________________

(1) ابن قتيبة، عيون الأخبار، ج1 ص329.

(2) تاريخ عمر بن الخطاب، ص121.

(3) تاريخ عمر بن الخطاب، ص119 وص120.

(4) نفسه، ص96.

١٤٩

قال: وأيّ بناتي قال: هذه فلانة ابنة عبدالله بن عمر قال: ويحك ما صيّرها إلى ما أرى؟! قال: منعك ما عندك قال: ومنعي ما عندي منعك أن تطلب لبناتك ما تكسب الأقوياء لبناتهم أنّه والله مالك عندي غبر سهمك في المسلمين وسعك أو عجز عنك هذا كتاب الله بيني وبينك(1) .

هذه الحكاية إن سلمت من خيال الرواة ولا أراها تسلم لأن عمر وتاريخه مسرح لخيال الرواة عظيم فالمقصود منها التبائس دلّ على ذلك حركاتها التمثيلية وإلاّ فان نصيب عبدالله ليس نزراً إلى الدرجة التي يتهاوى عياله جوعاً وخواءاً على الثرى في المشهد العام.

اضف إلى ذلك لو كانت في بيته مجاعة لأصابت عبدالله قبل أن تصيب ابنته فلما رأيناها اجنازته علمنا أنّها إلى التمثيل اقرب. وافرض معي صحتها جدلاً وهي محمدة من محامد عمر وإنما سجلها ابن الجوزي في تاريخه للتمدح في زهده وورعه!! أجل

لكن اجدني مضطراً لنفي ذلك عنه لا لعداء شخصي او عقيدي مع الفاروق ولكن للأمانة العلمية أن الباحث أي باحث يتسائل وهو يجوب هذه الدهاليز المعتمة ما بال شدّة عمر في ذات الحكم وذات العدل طالت حتى نفسه وأهله وأسباطه وأحفاده وقصّرت عن ابن هند ما باله يحرم نفسه وأهله من الحلال الطيب، ويمد معاوية وبني امية بالشام بالقوة والسلطان ليملأوا الكروش من كل خبث وحرام؟!!

وما هذا العدل الغريب الذي ضاق عن رغيف خبز وقطعة شحم تعطى لابنة ولده عبدالله لكي لا تطيش على وجه الأرض واتسع لعشرة آلاف دينار(2) تدفع لمعاوية لتستحيل بعد زمان قصير إلى حرير وروايا خمر تحمل على البغال له لست أدري؟!!!

إنّ هذا الموقف المتناقض حملني كباحث على الحياد وآلافاً مثلي على الشك في صحة رويته وسلامه نيّته ونبل مقصده!!

____________________

(1) تاريخ عمر بن الخطاب، ص99.

(2) ابن عبدالبر، الاستيعاب، ج3 ص475.

١٥٠

 كتبه إلى معاوية ..

اعفى عمر معاوية من كل مسئولية لذلك لم تبق حاجة تدعو إلى الكتابة إليه وقد مرّ في اثناء هذا البحث كتابه المجمل بل المبهم والموجز ايجازاً متناهياً وفيه يقول: أما بعد فالزم الحق ينزلك الحق منازل أهل الحق يوم لا يقضى إلاّ بالحق والسلام(1) .

كتاب لا يتجاوز الأربعة عشر كلمة اشدّ الكتب بعداً عن المطابقة لمقتضى الحال لأن الدواعي في الكتابة المسهبة إلى معاوية متوفره لعله ينزع أو يتوب والاختصار مضر بحال المرسل والمرسل إليه كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري:

أما بعد فإنّ للناس نفرة عن سلطانهم فاعوذ بالله أن تدركني واياك عمياء مجهولة وضفائن محمولة اقم الحدود ولو ساعة من نهار وإذا عرض لك أمران: أحدهما لله والآخر للدنيا فآثر نصيبك من الله فإن الدنيا تنفد والآخرة تبقى واخيفوا الفساق واجعلوهم يداً يداً ورجلاً رجلاً وعدّ مرضى المسلمين واشهد جنائزهم وافتح لهم بابك وباشر امورهم بنفسك فانما أنت رجل منهم غير أن الله جعلك أثقلهم حملاً وقد بلغني أنّه قد فشا لك ولأهل بيتك هيئة في لباسك ومطعمك ومركبك ليس للمسلمين مثلها فأياك يا عبدالله أن تكون بمنزلة البهيمة مرّت بواد خصيب فلم يكن لها هم إلاّ السمن وإنما حتفها في السمن واعلم أنّ العامل إذا أزاغ زاغت رعيته واشقى الناس من شقي الناس به، والسلام(2) .

ليت هذا الكتاب أو بعضه كتبه عمر إلى معاوية لعله يصادف من ضميره ساعة صحو فيعود إلى حضيرة الحق ولكن لم يقرء ولم يسمع معاوية من عمر إلاّ لتناء والأطراء بل والأغراء في البقاء على ما هو عليه ليزداد قوة إلى قوته ترقباً لليوم الموعود.

لقد كان بعض الأشرار في خلافة الأمام اميرالمؤمنينعليه‌السلام ينالون ولاية أو

____________________

(1) تاريخ عمر، ص123.

(2) ابن قيبة، عيون الأخبار، ج1 ص11.

١٥١

منصباً ادارياً أمثال زياد بن ابيه إلاّ أنّه أبعد ما يكونون عن الظلم وهم في أوج أمارتهم وعز سلطانهم لماذا؟

لأن عين الأمام أميرالمؤمنين ترقبهم من عل وترصد من أفعالهم كل صغيرة وكبيرة فإذا بدرت منهم بادرة تسئ إلى الرعية اسرع الأمام إلى ردعم ومنعهم بالكتابة إليهم واعظاً أو منتزعاً أياهم من عملهم فقد كتب إلى زياد هذه الموعظة العجيبة: فدع الأسراف مقتصداً واذكر في اليوم غداً وأمسك من المال بقدر ضرورتك وقدّم الفضل ليوم حاجتك أتزجو أن يعطيك الله أجر المتواضعين وأنت عنده من المتكبّرين وتطمع وأنت متمرغ في النعيم تمنعه الضعيف والارملة أن يوجب لك ثواب المتصدقين وإنما المرء يجزي بما اسلف وقادم على ما قدّم والسلام(1) . والوعظ لا يردع زياداً ولا ينقي خبثه فكان لابد من التهديد والوعيد، وإنّي أقسم بالله قسماً صادقاً لئن بلغني أنّك خنت من فيء المسلمين شيئاً صغيراً أو كبيراً لأشدّنّ عليك شدّة تدعك قليل الوفر ثقيل الظهر.

هكذا ينبغي أن يسلك ولي الأمر مع الوالي إذا كانت نزعاته خبيثة فهل كتب خليفة المسلمين إلى معاوية وهو أشد خبثاً من زياد شيئاً من هذا.

وإنما نقلت إليك هذه النماذج من الكتب لتزداد بصيرة في الأمر وتعرف هوادة عمر مع معاوية وسيرته الهوينى معه.

لا يقال لعل بعد المسافة بين الشام والمدينة حجبت أخبار معاوية عن عمر فما كان يعلم بها والقلم مرفوع عن الجاهل والجواب أنّ كلمة المؤرخين عن عمر واحدة بأن علمه بمن نأى كعلمه بمن بات معه على وسادة واحدة واقتفى معاوية أثره وكذلك زياد(2) بعد الذي مر بك ليكن في علمك أن الكتب التي توجّهت من عمر نادرة جداً وأكثرها لا تتجاوز بضع كلمات وجل ما فيها مواعظ كلية تصلح لكل انسان حتى السوقة وما يخص معاوية منها لا يتعدّى الأوامر الخاصة التي تعالج وضعاً من أوضاع الخلافة أو الولاية.

____________________

(1) الشيخ مغنيةرحمه‌الله ، في ظلال نهج البلاغة، ج3 ص433 وص435.

(2) ابن حمدون، التذكرة الحمدونية، ج1 ص315.

١٥٢

ولما كان معاوية بمعزل عن هذا وذاك طالت يده بالظلم والغشم وقد قيل في المثل من آمن العقوبة اسأ الأدب.

محاسبة العمال

من سياسة عمر الثابتة محاسبة العمال ومقاسمتهم مالهم فقد حاسب عماله قاطبة بدءاً من أبي هريرة ومروراً بعمرو بن العاص وختاماً بسعد بن أبي وقاص يقول ابن الجوزي: وقد قاسم عمر غير واحد ماله إذ عزله منهم سعد بن أبي وقاص وأبوهريرة(1)

وكانت محاسبته أبا هريرة شديدةً قاسية لما قدم أبو هريرة من البحرين قال له عمر: يا عدو الله وعدو كتابه أسرقت مال الله؟ قال ابو هريرة لست بعدو الله ولا عدو كتابه ولكني عدو من عاداهما ولم اسرق مال الله. قال: فمن اين اجتمعت لك عشرة آلاف درهم؟ قال: خيلي تناسلت وعطائي تلاحق وسهامي تتابعت فقبضتها منه قال أبو هريرة: فلما صليت الصبح استغفرت لأمير المؤمنين ....(2)

وابن قتيبة حذف كلمات جمة من الرواية وفيها كلمات نابية كما أنّ الدرة هبطت على رأس أبي هريرة ومتنيه وانتزع منه المال انتزاعاً. وعذر أبي هريرة مضحك عن جمع المال لأنّه لم يبق على البحرين الاسنة أو أقل من ذلك فمتى تتابعت عطاياه وتناتجت افراسه؟!؟!

لما عزل عمر خالداً وأمرّ على الجيوش أبا عبيده كتب إليه أن أنزع عمامته عن رأسه(3) وقاسمه ماله نصفين فلما قال ابو عبيدة ذلك لخالد قال له خالد: امهلني حتى استشير اُختي فذهب إلى أخته فاطمة وكانت تحت الحارث بن هشام فاستشارها في ذلك فقالت له إنّ عمر لا يحبك أبداً وأنّه سيعزلك وإن كذبت نفسك فقال لها: صدقت والله فقاسمه أبو عبيدة حتى اخذ أحدى نعليه وترك له الآخرة

____________________

(1) تاريخ عمر، ص58.

(2) ابن قتيبة، عيون الأخبار، ج1 ص54.

(3) كان عمر و من بعده من الولاة إذا أخذوا العصاة نزعوا عمائمهم وأقاموهم للناس. شرح النهج الحديدي، ج12 ص45.

١٥٣

وخالد يقول سمعاً وطاعة لأميرالمؤمنين(1) .

هذا وحديثه مع ابن العاص حين قاسمه طريف فقد لعن عمرو زمناً صارفيه والياً لابن الخطاب قال ابن ابي الحديد: كتب عمر إلى عمرو بن العاص بعد مراجعة بينهما قد وجهت اليك محمداً بن مسلمه ليشاطرك على ما في يديك والسلام.

فلما قدم إليه محمد اتخذ له طعاماً وقدّمه إليه فأبى أن يأكل فقال: مالك لا تأكل طعامنا؟ قال: إنّك عملت لي طعاماً هو تقدمة للشر، ولو كنت عملت لي طعام الضيف لأكلته فابعد عني طعامك واحضر لي مالك.

فلما كان الغد وأحضر ماله جعل محمد يأخذ شطراً ويعطي عمرو شطراً فلما رأى عمرو وما حاز محمد من المال قال: يا محمد أقول: قال: قل ما تشاء قال: لعن الله يوماً كنت فيه والياً لابن الخطاب والله لقد رأيته ورأيت أباه وإنّ على كل واحد منهما.

عباءة قطوانية مؤتزراً بها ما تبلغ مأبض ركبتيه وعلى عنق كل واحد منهما حزمة من الحطب وإن العاص ابن وائل لفي مزررات الديباج(2) .

ولعل ابن العاص حمل لعمر بين دفتيه لاعج الضغينة من يومئذ فقد قدم عليه وكان والياً عى مصر فقال له: في كم سرت؟ قال: في عشرين قال عمر: لقد سرت سير عاشق! فقال عمرو: إني والله ما تأبطتني الأماء، ولا حملتني في غُبّرات المآلي فقال عمر والله ما هذا بجواب الكلام الذي سألتك عنه! وإن الدجاجة لتفحص في الرماد فتضع لغير الفحل، وإنما تنسب البيضة إلى طرقها فقام عمرو مربّد الوجه يقول ابن ابي الحديد: وسألت النقيب أبا جعفر عن هذا الحديث في عمر فقال: إنّ عمراً فخر على عمر لأن ام الخطاب زنجيّة وتعرف بباطحلي. تسمّى صهاك فقلت له وام عمرو النابغة امة من سبايا العرب فقال: امه عربية من عنزة سبيت في بعض الغارات فليس يلحقها من النقص عندهم ما يلحق الأماء الزنجيات ....(3)

وصادر الحارث بن وهب أحد بني ليث بن بكر بن كنانة وقال له: ما قلاص

____________________

(1) البداية والنهاية، ج7 ص18.

(2) ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج12 ص44.

(3) شرح نهج البلاغة، ج12 ص39.

١٥٤

واعبد بعتها بمائة دينار؟ قال: خرجت بنفقة لي فاتجرت فيها، قال: وأنا والله بعثناك للتجارة ادّها قال: أما والله لا أعمل لك بعدها قال: أنا والله لا استعملك بعدها ...(1) قاسم هؤلاء جميعاً الفاروق وترك واحداً لم يقاسمه(2) ذلك هو معاوية لأن بين الرجلين قاسماً مشتركاً هو الخصومة الحادة والعداوة الشديدة لعلي وأهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس هذا فحسب بل كان يرضخ له ولأمه وأبيه من بيت المال الرضائخ الكبيرة فقد رسم له عشرة آلاف دينار في كل شهر.

وقامت إليه هند بنت عتبة بن ربيعة فسألته أن يقرضها من بيت المال أربعة آلاف درهم تتجر فيها وتضمنها فخرجت بها إلى بلاد كلب، فباعت واشترت وبلغها أن أبا سفيان قد أتى معاوية..... يستميحه ومعه ابنه عمر بن ابي سفيان فعدلت إليه من بلاد كلب وكان ابو سفيان قد طلقها فقال معاوية: ما أقدمك يا اماه؟ قالت: النظر إليك يابني إنه عمر وإنما يعمل لله وقد أتاك أبوك فخشيت أن تخرج إليه من كل شيء وأهل ذلك هو! ولكن لا يعلم عمر من أين اعطيته فيؤنبوك ويؤنبك ولا تستقيلها ابداً فبعث معاوية إلى أبيه وأخيه مأة دينار وكساهما وحمّلهما فسخطها عمر، فقال أبو سفيان: لا تسخطها فإنّه عطاء لم تغب عنه هند ورجع هو وابنه إلى المدينة.

فساله عمر: بكم أجازك معاوية؟ فقال: بمائة دينار فسكت عمر(3) . أما لو كان الحارث بن وهب لأوجعه ضرباً بالدرة وأخذ منه المائة. وقد عرفت قيمة مائة الدينار هذه فقد جمعها الحارث هذا من بيع فلائص واعبد!!!

ترك معاوية من دون محاسبة ولا مقاسمه فاتخذ معاوية ذلك ذريعة إلى الدعوة لنفسه وأوحى للناس أن عمر لم يتركه إلاّ لفضله على غيره. من ثم قاسم هو نفسه وأوصى بنصف ماله أن يرد إلى بيت المال.

نقل ابن كثير في كتابه (البداية والنهاية) أنّ معاوية لما احتضر أوصى بنصف ماله أن يردّ إلى بيت المال كأنه أراد أن يطيب له لأن عمر بن الخطاب قاسم

____________________

(1) نفسه، ج12 ص42.

(2) نفسه، ج12 ص42.

(3) شرح النهج الحديدي، ج12 ص98.

١٥٥

عماله ...(1) واتفقت كلمة المؤرخين على أنّه فعل ذلك لأنّ عمر قاسم عماله واستدعت هذه العبارة عبارة أخرى لم يحررها المؤرخون وهي (ولم يقاسم معاوية) لماذا؟ لأنّ لمعاوية وضعاً خاصاً لابد من معاوية للسياسة المستقبلية.. ولن يقف في وجه المد العلوي عند ما يكتسح هذه النفايات في طريق الخير غير معاوية. فهو العدو المعول عليه ويشارك عمر بجامع العداء لعلي من هنا عمل عمر على تثبيت جذوره الخائرة في أرض الإسلام واتخذ عدة مقدمات تؤدي حتماً إلى نتيجة واحدة هي مجيء معاوية إلى ملك الإسلام ومن أولى هذه المقدمات استخلاف عثمان أولاً ومن الأدلة التاريخية الثابتة على أن عمر يعد العدة لاستخلاف عثمان ومن بعده معاوية هذه الرواية التي رواها صاحب الطبقات.. ذكر ابن سعد أن سعيد بن العاص أتى عمر يستزيده في داره التي بالبلاط وخطط أعمامه مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال عمر: صلّ معي الغداة وغبش ثم اذكرني حاجتك قال: ففعلت حتى إذا هو انصرف قلت يا اميرالمؤمنين حاجتي التي امرتني أن اذكرها لك قال فوثب معي ثمّ قال:.. امض نحو دارك حتى انتهيت اليها فزادني وخط لي برجله فقلت: يا أميرالمؤمنين زدني فإنّه نبتت لي نابتة من ولد واهل فقال حسبك واختبئ عندك أن سيلي الأمر بعدي من يصل رحمك ويقضي حاجتك قال فمكثت خلافة عمر حتى استخلف عثمان واخذها عن شورى ورضى فوصلني وأحسن وقضى حاجتي واشركني في امانته(2) .

وقول عمر سيلي الأمر بعدي تصريح باستخلاف عثمان وفي كتب الرواية والتاريخ والسير قرائن كثيرة تدلّ على تدبير عمر لخلافة عثمان من بعده وأوصاه باستعمال معاوية(3) .

ولو لم يكن عمر جازماً بمصير الأمر إلى عثمان لما أوصاه باستعمال معاوية

____________________

(1) البداية والنهاية، ج8 ص14، مختصر تاريخ دمشق، ج25 ص18، ابن الأثير، الكامل، ج3 ص260، الطبري، ج5 ص327.

(2) ابن سعد، الطبقات، ج5 ص31. وفي كتابي «جهاد كربلاء والإنسان» عرضت عدداً من الشواهد على ذلك.

(3) ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، ج1 ص113.

١٥٦

بل أن سيرة عمر تدلّ على أنّه كان يمهد لعثمان في السفر والحضر عن حارثه قال: حججت مع عمر، فسمعت حادي عمر يحدو: أنّ الأمير بعده ابن عفان(1) .

وابتدء الغرس العمري تتأشب أغصانه، وتتكاثف فروعه ويؤتي أكله وما أكله إلاّ عثمان فهو البوابة التي تدلف منه الاموية إلى خلافة الإسلام.

وما من ريب أن خطة عمرية موضوعة في عهد أبي حفص عهد بها إلى عثمان لكي يجريها بعد حياته مضارعة لخطة الشوري. وهذه الخطة هي سبيل معاوية إلى الحكم والباحث في هذه الدهاليز المعتمة لا يزال يعثر على عبارة أو حكاية أو أثر تفصح عن نوايا القوم تجاه الحكم وحرمان أهل البيت منه كان أبن عوف وهو ورقة عثمان الرابحة موكل إليه الأيتان بعثمان إلى الحكم ثم يكون الحكم له بعد عثمان وهذا ما كشفه أميرالمؤمنين بعد البيعة حين خاطب عبدالرحمن قائلاً: نفعت الختونة ياابن عوف! ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا! فصبرجميل والله المستعان على ما تصفون والله ما ولّيت عثمان إلاّ ليرد الأمر إليك والله كل يوم هو في شأن.

وفي غير رواية الطبري أنّ عبدالرحمن قال له: لقد قلت ذلك لعمر، فقالعليه‌السلام : أو لم يكن ذلك كما قلت! وفي رواية أخرى إنّ عبدالرحمن قال له: بايع وإلاّ ضربت عنقك!(2) وفي أخرى أنّ الإمام قال لعبد الرحمن: والله ما رجوت منه إلاّ ما رحى صاحبك من صاحبه دق الله بينكما عطر منشم.

والخنونة التي عناها الإمامعليه‌السلام أن عبدالرحمن زوج ام كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وأمها أروى بنت كريز وأروى أم عثمان(3) .

وظن عبدالرحمن أنّه الفارس الرابع إذا خلّى السرج نعثل ولكن خاب تدبيره وطاش سهمه فقد استجيب للإمام فيه فدق بينه وبين عثمان عطر منشم وهي إمرأة عطاره في الجاهلية كان العرب إذا أرادوا الحرب تطيبوا من عطرها ولم يعلم أنّ السرج بعد عثمان معد للفارس المعلم (معاوية) ولم يتضح له ذلك إلاّ بعد فوات الأوان.

____________________

(1) البلاذري، أنساب الأشراف، ج3 ص15.

(2) شرح ابن أبي الحديد، ج12 ص265 وص263.

(3) شرح ابن الحديد، ج12 ص265 وص263.

١٥٧

روى اليعقوبي في تاريخه أنّ عثمان اعتل علة اشتدت به فدعا حمران بن أبان وكتب عهداً لمن بعده!! وترك موضع الأسم ثم كتب بيده عبدالرحمن بن عوف وربطه وبعث به إلى أم حبيبه بنت أبي سفيان فقرأه حمران في الطريق فأتى عبدالرحمن فأخبره فقال عبدالرحمن وغضب غضباً شديداً استعمله علانية ويستعملني سراً ونمى الخبر وانتشر بذلك في المدينة وغضب بنو امية فدعا عثمان بحمران مولاه فضربه مأة سوط وسيّره إلى البصرة فكان سبب العداوة بينه وبين عبدالرحمن بن عوف(1) .

وفي وضع الكتاب عند ام حبيبه مع وجود غيرها من امهات المؤمنين على قيد الحياة كعائشة مثلاً قرينة قوية على إرادة معاوية خلفاً في الحكم لابن عمه وهي نزعة عمريه.

لأنّ عمر أوصى عثمان باستعماله(2) ليس عاملاً فحسب بل فارساً للخلافة أيضاً وفي نثر الدرر: ثمّ استعمله عثمان برأي عمر(3) وكان معاوية يتباهى بذلك عند أهل الشام فيقول: أيها الناس قد علمتم أني خليفة أميرالمؤمنين عمر بن الخطاب(4) .

وما قال هذه العبارة إلاّ ليقول شقيقتها فقد صعد المنبر فقال: يا أيها الناس ومن كان أحق بهذا الأمر مني؟ وهل بقي أحق بهذا الأمر مني؟(5) صدق الرجل فلن يكون أحد لا في بني هاشم ولا في قريش أحق من صنيعة عمر وخليفته. لقد كان عمر يصف معاوية بأوصاف تحببه إلى السامع يقول: احذروا آدم قريش وابن كريمها من لا ينام إلاّ على الرضا ويضحك في الغضب ويأخذ ما فوقه من تحته(6) ورواية ابن كثير هكذا: دعوا فتى قريش وابن سيدها أنّه لمن يضحك في الغضب ولا ينال منه إلاّ

____________________

(1) تاريخ اليعقوبي، ج2 ص169.

(2) الإمامة والسياسة، ج1 ص113.

(3) الإمامة والسياسة، ج1 ص421.

(4) مختصر تاريخ دمشق، ج25 ص30.

(5) مختصر تاريخ دمشق، ج25 ص42.

(6) ابن قتيبة، عيون الأخبار، ج1 ص9 والبلاذري، أنساب الأشراف، ج5 ص55.

١٥٨

على الرضا ومن لا يأخذ من فوق رأسه إلاّ من تحت قدميه(1) .

وفي رواية ابن كثير دلالة على أنّ الناس نقموا منه ولاية معاوية بعد عمير بن سعد لذلك قال لهم: دعوا فتى قريش. وحمل عمر أوصاف معاوية على كفؤ الخلافة المستحق لها بقوله: إنّ هذا الأمر لا يصلح له إلاّ اللين في غير ضعف والقوي في غير عنف(2) .

وهاتان الصفتان يرادفان صفتى معاوية يضحك في الغضب ولا ينال منه إلاّ على الرضا هذه القرائن تقنع الباحث بأن عمر يعمل تصريحاً وتلميحاً لوصول معاوية إلى عرش الخلافة بدافع الغيرة من بني هاشم والبغضاء لعلي فتاهم وسيدهم بعد رسول الله وقد ثبت بغض عمر ونصبه لعلي وهو غير خاف على أحد.

ورحم الله الشريف الرضي حين سأله معلمه ما علامة النصب في عمر قال: بغضه علي بن أبي طالبعليه‌السلام (3) .

ونقف من كلام عمر عن الإمامعليه‌السلام على أنّه بغض شديد فقد كان يتهمه بالعجب وهي صفة مذمومة لأنّها شعبة من شعب التكبر وهي لا تجامع صفة الإيمان في المؤمن يقول لابن عباس: إنّ صاحبكم إن ولي هذا الأمر أخشى عجبه بنفسه أن يذهب به ....(4)

وقال لابن عباس في حديث آخر: اتدري مامنع الناس منكم؟ قال - ابن عباس - لا يا أميرالمؤمنين قال: لكني أدري قال: ما هو؟ يا أميرالمؤمنين؟ قال: كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوة والخلافة فيجخفوا جخفاً..(5) وإنما كان يدري لأنّه منهم بل هو صاحب هذا المذهب دون من عداه وقال له ابن عباس ذات يوم واصفاً الإمام بعد حوار بينهما: أنّ صاحبنا ما قد علمت، أنّه ما غيّر ولا بدل ولا أسخط رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيام صحبته له.

____________________

(1) البداية والنهاية، ج8 ص127.

(2) عيون الأخبار، ج1 ص9.

(3) شرح ابن ابي الحديد، ج12 ص50.

(4) شرح ابن ابي الحديد، ج12 ص50.

(5) شرح ابن ابي الحديد، ج12 ص53.

١٥٩

فقال عمر: ولا في ابنة أبي جهل لما أراد أن يخطبها على فاطمة ....(1) ولعل ابن عباس كان يعني عمر بقوله غير وبدل واسخط الخ. من هنا نجد عمر غاص في الحوادث ماضيها وحاضرها فلم يجد غير ابنة أبي جهل وهي قضية وضعها العدو بعد أن ماتت سيدتنا الصديقة غاضبة على عمر ولا استبعد أن تكون بايعاز منه.

والمزاج العمري من الأمزجة التي لا تتخلى عن احقادها حتى تتخلى عنها الحياة وهو حاقد على أميرالمؤمنين بل على بني هاشم أن بعث الله رسوله منهم لذلك ابت نفسه أن يجمع هذا البيت النبوة والإمامة وأباها معه قرشيون كثيرون ومنهم البيت الأموي العدو التقليدي لبني هاشم، لذلك استنفر كل قواه العقلية وقدراته السياسية وطاقاته الخلاقة مشوبة هذه كلها بانحراف باطني قبلي عن بني هاشم حتى ادخل الأموية على الإسلام من بابه الواسع ومكّن لعثمان ليمكن لمعاوية وتتسلسل في بيته حتى نالها يزيد.. واعتقد أن شعر القاضي أبي بكر بن أبي فريعهرحمه‌الله يشير إلى هذا المعنى:

يا من يسائل دائباً

عن كل معضلة سخيفه

لا تكشفن مغطأً

فلربما كشفت جيفه

ولرب مستور بدا

كالطبل من تحت القطيعه

إن الجواب لحاضر

لكنني أخفيه خيفه

لو لا اعتداد رعية

الفى سياستها الخليفه

وسيوف أعداء بها

هاماتنا أبداً نقيفه

لنشرت من اسرار

آل محمد نكتاً طريفه

تغنيكم عما رواه

مالك وأبو حنيفه

وأريكم أن الحسين

اُصيب في يوم السقيفه

ولأي حال الحدت

بالليل فاطمة الشريفه

ولما حمت شيخيكم

عن وطئ حجرتها المنيفه

____________________

(1) شرح ابن ابي الحديد، ج12 ص51.

١٦٠