الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية 0%

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 377

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد شعاع فاخر
تصنيف: الصفحات: 377
المشاهدات: 111546
تحميل: 12206

توضيحات:

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 377 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 111546 / تحميل: 12206
الحجم الحجم الحجم
الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

آه لبنت محمد

ماتت يقصتها أسيفه(1)

أجل اُصيب الحسين في يوم السقيفة.

معاوية في الحكم..

أثر التدبير العمري ثمرة مرة كانت للمسلمين والإسلام شجىً في الحلق وقذىً في العين وانجلت غمرة السياسة العمرية التي غطت طبقاتها عالم الإسلام كله شامه وعراقه وحجازه ومصره وهكذا انجلت عن حكم معاوية بعد احداث دامية مريعة صبغت وجه البلاد بالحمرة القاتمة.

وما تناول معاوية الحكم إلاّ بعد سياسات وحروب نقض بها ومن أعانه أحكام الإسلام نقضاً بل أبدلها بأحكام من لدنه يمكن اعتبارها مسوخاً للأحكام الصحيحة.

وأول مفاجئة استقبل بها الاُمة المشرأبة إلى حكمه والمتجمهرة حول منبره وفي أول جمعة صلاها بالنخيلة قوله: ما قاتلتكم لتصوموا ولا لتصلّوا ولا لتحجوا ولا لتزكّوا قد عرفت أنّكم تفعلون ذلك ولكن إنما قاتلتكم لأتأمر عليكم فقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون(2) .

واتبع هذه الكلمات ذات الدلالات الواسعة بمثلها في أول خطبة خطبها بالمدينة. لما قدم معاوية المدينة عام الجماعة تلفته رجال من وجوه قريش فقالوا: الحمد لله الذي اعز نصرك وأعلى أمرك فما ردّ عليهم جواباً حتى دخل المدينة، فقصد المسجد وعلا المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فأني والله ما وليت أمركم حين وليته إلا وأنا أعلم أنّكم لا تسرون بولايتي ولا تحبونها وأني لعالم بما في نفوسكم ولكني خالستكم بسيفي هذا مخالسة ولقد رمت نفسي على عمل ابن أبي قحافة فلم أجدها تقوم بذلك وأردتها على عمل ابن الخطاب فكانت عنه أشدّ نفوراً وحاولتها على مثل سنيّات عثمان فابت على ....(3) لقد أخبر الصادق الأمينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

____________________

(1) الاربلي، كشف الغمة، ج2 ترجمة الصديقة الطاهرة.

(2) مختصر تاريخ دمشق، ج25 ص43، سير أعلام النبلاء، ج3 ص147، البداية والنهاية، ج8 ص134.

(3) مختصر تاريخ دمشق، ج25 ص45، سير أعلام النبلاء، ج3 ص148، البداية والنهاية، ج8 ص135.

١٦١

امته أن معاوية سيلي أمرهم ويعتلي منابرهم وينزو على منبره هو والقردة من بني امية ثمّ طلب منهم قتله إذا رأوه على منبره.

.. عن أبي سعيد مرفوعاً إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه(1) وعن أبي سعيد أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إذا رأيتم معاوية على هذه الأعواد فاقتلوه فقام إليه رجل من الأنصار وهو يخطب بالسيف فقال أبو سعيد: ما تصنع؟ قال سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: إذا رأيتم معاوية يخطب على الأعواد فاقتلوه فقال له أبو سعيد: إنا قد سمعنا ما سمعت ولكنا نكره أن يسل السيف على عهد عمر حتى نستأمره فكتبوا إلى عمر في ذلك فجاء موته قبل أن يجيء جوابه(2) .

وعنه أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه(3) .

وهذا الحديث من أعلام النبوة وهو صحيح لا ريب في ذلك ولكنّ شيعة ابن آكلة الأكباد من قبيل ابن كثير والذهبي وابن عساكر وغيرهم ضعفوه بأقوال واهية كبيوت العنكوبت كقول ابن كثير:.. وهذا الحديث كذب بلا شك ولو كان صحيحاً لبادر الصحابة إلى فعل ذلك لأنهم كانوا لا تأخذهم في الله لومة لائم(4) .

وأقول لابن كثير إنّ الصحابة الذين عصوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جيش اسامة حتى لعنهم وخالفوه في كتاب يوم الخميس حتى غضب عليهم وطردهم شرّ طرده والذين خفوا للقافلة يوم الجمعة والنبي يخطبهم حتى ذكرهم الله في السورة وذكر انصرافهم إلى اللهو والتجارة.

فإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضّوا إليها وتركوك قائماً هم أنفسهم الذين خالفوه في قتل معاوية بل هم إلى المخالفة والعصيان بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقرب منهم إليها والنبي على قيد الحياة.

وخيالك يابن كثير في الصحابة فج وهو أقرب إلى خيال المرضى والمرهّقين.

وما قنع القوم برد الحديث حتى اختلقوا صحابياً لم يخلقه الله سبحانه ليكون

____________________

(1) الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج3 ص149.

(2) مختصر تاريخ دمشق، ج25 ص46.

(3) مختصر تاريخ دمشق، ج25 ص46.

(4) البداية والنهاية، ج8 ص133.

١٦٢

ستراً لمعاوية قال المسكين الذهبي: ويقال هو معاوية بن تابوه المنافق!!! وأنت أخي القارئ إذا لم يستبد بك الضحك الذي هو شر من البكاء وشر البلية ما يضحك فاعلم بأن معاوية بن تابوه هذا لم تر عيناه النور ولم يخلقه الله لحد الآن ولست أدري إن كان سيخلفه أو لا ولابد من أن يسبق خلقه والدٌ اسمه تابوه وأخيراً نقول لهم: هذا الحرير كثير على الرمة البالية.

ولم يكفهم هذا حتّى وضعوا حديثاً لتحريفه وتصحيفه كذبوا به على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونسبوه إلى جابر وقال عنه الذهبي اسناده مظلم.

عن جابر مرفوعاً: إذا رأيتم معاوية يخطب على منبري فاقبلوه فإنّه أمين مأمون(1) .

وكما صارت الباغية الطالبة ولا أشبع الله بطنه فسره بعض المحبين قال: لا أشبع الله بطنه حتّى لا يكون ممن يجوع يوم القيامة لأن الخبر عنه أنّه قال: أطول الناس شبعاً في الدنيا أطولهم جوعاً يوم القيامة..(2)

أقول: كما غيّرت دار ضرب الحديث وتحريفه وتصحيفه هذه الأحاديث الشريفة من القدح إلى المدح فقد ضُربت مسكوكةٌ حديثية وفيها بدل اقتلوه اقبلوه ولكنها راجت في سوق المغفلين، أما نحن فنقول لهذه الدار وأربابها تبوءوا مقعدكم من النار.

ومن أجل هذا الحديث الذي أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه بقتل معاوية من رآه على منبره عادى معاوية منبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأراد انتزاعه ولكن الله صانه من عبث اليد الحائية وظل مرشداً إلى الروضة المباركة المتدفقة بالسناء والسنا بينه وبين القبر اجيالاً بعد أجيال وحقباً بعد أخرى وهكذا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وقد مرّ جانب من ذلك طيّ هذا البحث.

غرس ابن هند رجليه في الحكم وزالت عن وجهه العراقيل وتوطدت اركان دولته وابتدأ حكمه بشراء الذمم وأول ذمة اشتراها ذمة ام المؤمنين عائشة فقد

____________________

(1) الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج3 ص150.

(2) الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج3 ص123.

١٦٣

أرسل إليها ثمانية عشر ألف دينار(1) وقال عروة: بعث معاوية مرّة إلى عائشة بمئة ألف ....(2)

ولما استتب الأمر إليه أوعز إلى عماله على الأمصار والولايات أن يأخذوا الناس بالشدة ويرهبوهم بالعنف والقسوة ولا يتركوا لشخص حرمة مهما كانت مكانته في الإسلام الامن والاه وأهل بيته وأن يشددوا النكير على شيعة أهل البيت ولا تأخذهم فيهم هواده وأوصاهم بقتلهم وتشريدهم في البلاد وأقل ما يسلكه الوالي معهم هو حرمانهم من أدنى مستويات العيش وأبسط الحقوق.

وسار حكام اقاليمه وعماله وامراء ولاياته على النهج الذي اختطه لهم لا يخرمون منه حرفاً واحداً وزادوا عليه بما املته عليهم طبائعهم الإجرامية ونشروا الظلم في البلاد حتى ضرب كل حي بأعصاره بل طال حتى الأموات.

وكانت حصة العراق من هذا وذاك أوفر الحصص لانه بلد التشيع الأول وفيه أنصار أميرالمؤمنين عليه الصلاة والسلام.

وهو منطلق الفيالق الضاربة التي الحقت بمعاوية هزيمة فاضحة لو لا أن تداركهابحيلة رفع المصاحف يوم صفين. وتركّزت عدوانية معاوية وعماله على الكوفة خاصة فكانت تعيش في خلافة معاوية وتحت ظل الأمراء الموفدين إليها كالمغيرة بن شعبة وزياد أتعس أيامها وأقسى ظروف عيشها.

وحباها معاوية بزياد ابن ابية فولغ في الدم وخوّض فيه حتى الحزام ويمكن للباحث أن يتميز الحكم زمن معاوية في السمات التالية.

سماة حكم معاوية العامة

1 - المكايده..

بدء معاوية حكمه بالمكايده وجعلها السمة البارزة له.

قدم المدينة فدخل المسجد وسعد بن أبي وقاص جالس إلى ركن المنبر

____________________

(1) سير أعلام النبلاء، ج3 ص154.

(2) سير أعلام النبلاء، ج3 ص154.

١٦٤

فصعد معاوية المنبر فجلس في مجلس النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له سعد: يا معاوية اجهلت فنعلمك أم جننت فنداويك؟ فقال: يا أبا اسحاق إني قدمت على قوم على غير تأهب لهم وأنا باعث إليهم باعطياتهم إن شاء الله فسمع الناس كلام معاوية ولم يسمعوا كلام سعد وانصرف الناس وهم يقولون كلمه سعد في العطاء فأجابه إليه(1) .

في هذه الرواية أكثر من تسائل يحملنا على التوقف في قبولها وأوله إن كان سعد عاتبه على جلوسه في مجلس النبي فقد سبقه عثمان إليه اللهم إلاّ أن نقول بأن معاوية فعل على المنبر فعلاً مستهجناً أوجب عتاب سعد له وهذا أدنى إلى القناعة والرضا.

والكيد سمةٌ غالية على طباع معاوية في السلم والحرب كان حريث مولاه يلبس بزّة معاوية ويستلئم سلاحه ويركب فرسه ويحمل متشابهاً بمعاوية فإذا حمل قال الناس: هذا معاوية(2) .

وانتهج حياته كلها سياسة الكيد وكان نصب عينيه لبلوغ اغراضه لا يتحاشى من فعل يبلّغه مرامه وإن كان فيه منقصة عليه وكأنه يعمل بسياسة اليهود الغاية تبرر الواسطة وهذه مواقف له تعرب عن عظيم كيده والكيد شرخصال ابليس وقد انخذه معاوية دأباً وديدنا.

مكايدة ابن عمر

كتب إلى ابن عمر: أما بعد فإنه لم يكن أحد من قريش أحب إلي أن يجتمع الناس عليه منك بعد عثمان فذكرت خذلك اياه وطعنك على انصاره فتغيّرت لك وقد هوّن ذلك عليّ خلافك على علي وطعنك عليه وردّني إليك بعض ما كان منك فاعنا يرحمك الله على حق هذا الخليفة المظلوم فإني لست أريد الإمارة عليك ولكني اريدها لك فإن ابيت كانت شورى بين المسلمين.

فعلم عبدالله ابن عمر أنّها مكيدة من معاوية فكتب جوابه، أمّا بعد، فإن الرأي

____________________

(1) الأبي، نثر الدر، ج4 ص134.

(2) الدينوري، الأخبار الطوال، ص176.

١٦٥

الذي اطمعك فيّ هو الذي صيّرك إلى ما صيّرك تركت علياً في المهاجرين والأنصار وتركت طلحة والزبير وعائشة واتبعك فيمن اتبعك وأمّا قولك إني طعنت على علي فلعمري ما أنا كعلي في الإسلام والهجرة ومكانه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن أحدث أمراً لم يكن الينا فيه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عهد ففزعت إلى الوقوف وقلت إن كان هذا فضلاً تركته وإن كان ضلالة فشر منه نجوت فأغن عني نفسك(1) .

أحسن ابن عمر في الرد إلى نفسه وأساء إلى الحق لأنّه إن كان التوقف في الاُمور المحدثة قد اتخذه منهجاً له فكان عليه أن يتوقّف في حروب الردة وفي بيعة ابيه وفي الشورى التي احدثها أبوه وهكذا حيث أنّها اُمور أحدثت بعد النبي ولم يكن إليهم فيها من رسول الله عهد.

والواقع إنّ الذي حمل ابن عمر على ترك البيعة هو الحلم الذهبي الذي راود أجفانه أن يزف على عروس الخلافة بعد عثمان كغيره من الحاملين فلما فتح عينيه على الخيبة وتبخرت أحلامه اسرحسواً في ارتغاء وأعلن ترك البيعة للإمامعليه‌السلام .

مكايدة ابن عباس

وكتب إلى إبن عباس كما كتب إلى ابن عمر كيداً منه أما بعد فإنّكم معشر بني هاشم لستم إلى أحد أسرع منكم بالمسائة إلى أنصار عثمان فإن يكُ ذلك لسلطان بني امية فقد ورثها عدي وتيم وقد وقع من الأمر ما قد ترى وأدالت هذه الحرب بعضنا من بعض حتى استوينا فيها فما اطمعنا فيكم وما ايأسكم منا أياسنا منكم وقد رجونا غير الذي كان وخشينا دون ما وقع ولستم ملاقينا اليوم بأحد من حدكم أمس وقد منعنا بما كان منا الشام وقد منعتم بما كان منكم العراق فاتقوا الله في قريش فما بقي من رجالها إلاّ ستة: رجلان بالشام ورجلان بالعراق ورجلان بالحجاز فأما اللذان بالحجاز فسعد وعبدالله بن عمر وأما اللذان بالشام فأنا وعمرو وأما اللذان بالعراق فعلي وأنت.

ومن الستة رجلان ناصبان لك وآخران واقفان عليك وأنت رأس هذا الجمع

____________________

(1) الإمامة والسياسة، ج1 ص89.

١٦٦

اليوم وغداً ولو بايع الناس لك بعد عثمان كنا اسرع إليك منا إلى علي.

قال وذكروا أنّه لما أتى كتاب معاوية إلى ابن عباس ضحك ثم قال: حتى متى يخطب إلي معاوية عقلي؟ وحتى متى اجمجم له عما في نفسي؟ فكتب إليه:

أما بعد فقد جائني كتابك فأما ما ذكرت من سرعتنا بالمساءة إلى أنصار عثمان. لسلطان بني امية فلعمري لقد أدركت في عثمان حاجتك لقد استنصرك فلم تنصره حتى صرت إلى ما صرت إليه وبيني وبينك في ذلك ابن عمك وأخو عثمان الوليد بن عقبة وأما قولك: إنّه لم يبق من رجال قريش غير ستة فما أكثر رجالها وأحسن بقيّتها وقد قاتلك من خيارها من قاتلك ولم يخذلنا إلاّ من خذلك وأما أغراءك إيّانا بعدي وتيم فأبوبكر وعمر كانا خيراً منك ومن عثمان كما أنّ علياً خير منك وأما قولك: إنّا لا نلقاك إلاّ بما لقيناك به فقد بقي لك منا يوم ينسيك ما قبله وتخاف له مابعده وأما قولك: إنّه لو بايعني الناس استقمت فقد بايعوا علياً وهو خير مني فلم تستقم له وإن الخلافة لا تصلح إلاّ لمن كان في الشورى فما أنت والخلافة؟ وأنت طليق الإسلام وابن رأس الأحزاب وابن آكلة الأكباد من قتلى بدر (كذا) ....(1) وحيث أنه جبل على الكيد والحيلة فقد كان يكايد في كل صغيرة وكبيرة.

وقد كان في حجج معاوية في اتخاذ المقصورة بعد ضرب البرك اياه بالسيف أنّه ابصر كلباً على منبره(2) .

مكايدة ابن العاص

وكايد عمراً بن العاص بعد ما أعطاه مصر طعمة فكتب إليه وهو على مصر: أما بعد فإن سؤال أهل الحجاز وزوار أهل العراق قد كثروا علي وليس عندي فضل من أعطيات الجنود فاعنّى بخراج مصر هذه السنة.

فكتب إليه عمرو:

معاويَ إن تدركك نفس شحيحة

فما ورّثتني مصر امي ولا أبي

____________________

(1) ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، ج1 ص100.

(2) الجاحظ، كتاب الحيوان، ج2 ص161.

١٦٧

وما نلته عفواً ولكن شرطتها

وقد دارت الحرب العوان على قطب

ولولا دفاعي الأشعري وصحبه

لألفيتها ترغو كراغية السقب

فلما رجع الجواب إلى معاوية تذمم فلم يعاوده في شيء من أمرها(1) .

ومن أجل هذا الطبع المكايد في معاوية ظل ابن العاص الذي لا يقصر عنه كيداً على حذر منه يعرّض به إذا اجتمعا وعلى رؤوس الأشهاد احياناً.

قال معاوية يوماً لجلسائه وعنده الضحاك بن قيس الفهري وسعيد بن العاص وعمرو بن العاص ويزيد ابنه: ما أعجب الأشياء؟ فقال الضحاك: إكداء العاقل وخفض الجاهل وقال سعيد: أعجب الأشياء ما لم يُر مثله وقال عمرو: أعجب الأشياء غلبة من لاحق له ذا الحق.

فقال معاوية: اعجب من ذلك أن تعطي من لاحق له ما ليس له بحق من غير غلبة.

قال يزيد: أعجب الأشياء هذا السحاب الراكد بين السماء والأرض لا يدعمه شيء(2) .

ولم تطب العلاقة بين الرجلين لتكافىء الخبث في نفسيهما فكان كل واحد منهما يريد الغلبة على صاحبه ويعلم ما عنده فيخشاه لذلك قال معاوية لعمرو بن العاس: هل غششتني منذ وتصحتني؟ قال: لا قال: بلى يوم اشرت علي بمبارزة علي وأنت تعلم من هو! فقال عمرو: دعاك رجل عظيم الخطر إلى المبارزة فكنت من مبارزته على احدى الحسنيين إما أن قتلته فقد قتلت قتّال الأقران وازددت شرفاً إلى شرفك وخلوت بملكك، وأما إن قتلك فتتعجل مرافقة الشهداء والصديقين والصالحين قال معاوية:.. لهذه اشدّ علي من الأولى فقال عمرو: أفكنت من جهادك في شك فتكون منه الساعة قال: دعني منك الآن(3) .

____________________

(1) الأخبار الطوال، ص222.

(2) أبو حيان التوحيدي، البصائر الذخائر، ج1 ص33.

(3) السيد المرتضى، الأمالي، ج1 ص291.

١٦٨

مكايدته مروان بن الحكم..

وذكروا أنّ معاوية دعى مروان فقال: يا مروان إنّ الأشتر قد غمني فأخرج بهذه الخيل فقاتله بها غداً فقال مروان: ادع لها عمراً فإنّه شعارك دون دثارك قال معاوية: وأنت نفسي دون وزيري قال مروان: لو كنت كذلك الحقتني به في العطاء والحقته بي في الحرمان ولكنك اعطيته ما في يدك ومنيّتني ما في يد غيرك فإن غلبت طاب المقام وإن غُلبت خف عليك الهرب قال معاوية يعني الله عنك قال: أما اليوم فلا ....(1)

علم مروان بنية معاوية فامتنع لأن معاوية أراد أن يتخلص منه بالقائه بين فكي الأسد وكان مروان شديد المعارضة له مدلاً عليه بقربه من عثمان.

ولما طلب معاوية مبايعة عمرو له أجابه عمرو لا والله لا اعطيك من ديني حتى آخذ من دنياك قال معاوية: صدقت، سل تُعطه قال عمرو: مصر طعمة فغضب مروان بن الحكم وقال: مالي لا اشترى، فقال معاوية: اسكت يا ابن عم فانما يشترى لك الرجال فكتب معاوية لعمرو: مصر طعمة..(2)

ولم تفارق معاوية الموجدة على مروان فقد حج بالناس مروان سنة ثمان واربعين وهو يتوقع العزل لموجدة كانت من معاوية عليه وارتجع معاوية منه فدك وكان وهبها له(3) ، فما هذه الموجدة؟

لا استبعد أن تكون على أثر إبائة البيعة ليزيد فقد كان مروان عامله على المدينة فكتب إليه يذكر الذي قضى الله به على لسانه من بيعة يزيد ويأمره أن يجمع من قبله من قريش وغيرهم من أهل المدينة ثم يبايعوا ليزيد.

فلما قرأ مروان كتاب معاوية أبى من ذلك، وأبته قريش فكتب لمعاوية: إنّ قومك قد أبوا اجابتك إلى بيعة ابنك فارأ رأيك فلما بلغ معاوية كتاب مروان عرف أنّ ذلك من قبله فكتب إليه يأمره أن يعتزل عمله ويخبره أن قد ولّى المدينة سعيد بن

____________________

(1) الإمامة والسياسة، ج1 ص99.

(2) الإمامة والسياسة، ج1 ص88.

(3) ابن الأثير، الكامل، ج 3 ص227.

١٦٩

العاص فلما بلغ مروان كتاب معاوية أقبل مغاضباً في أهل بيته وناس كثير من قومه حتى نزل بأخواله بني كنانة فشكا إليهم وأخبرهم بالذي كان من رأيه في أمر معاوية وفي عزله واستخلافة يزيد ابنه من غبر مشوره مبادرة له فقالوا: نحن نبلك في يدك وسيفك في قرابك فمن رميته بنا اصبناه ومن ضربته بنا قطعناه الرأي رأيك ونحن طوع يمينك ثمّ اقبل مروان في وفد منهم كثير ممن كان معه من قومه وأهل بيته حتى نزل دمشق فخرج فيهم حتى أتى سدّة معاوية وقد اذن للناس فلما نظر الحاجب إلى كثرة من معه من قومه وأهل بيته منعه من الدخول فوثبوا إليه فضربوا وجهه حتى خلّى عن الباب ثم دخل مروان ودخلو معه(1) ودار بينه وبين معاوية كلام اغضب معاوية فنافقه وقال له في آخر كلامه:

فأنت نظير أميرالمؤمنين بعده وفي كل شدّة عضده وإليك عهد عهده فقد ولينك قومك واعظمنا في الخراج سهمك وأنا مجيز وفدك ومحسن رفدك وعلى أميرالمؤمنين غناك والنزول عند رضاك فكان أول ما رزق الف دينار في كل هلال وفرض له في أهل بيته مئة منه ...(2) .

وكان معاوية ينافق مروان احياناً لعلمه بما تنطوي عليه دخيلته من الخبث والذي اطمع مروان بالخلافة هي معاريض معاوية فيه نفاقاً ودهاءاً عن قبيصه بن جابر قال: بعثني زياد في شغل إلى معاوية فلما فرغت من أموري قلت: يا اميرالمؤمنين لمن يكون الأمر بعدك؟ فسكت ساعة ثم قال: يكون بين جماعة أما كريم قريش سعيد ابن العاص واما فتى قريش حياءاً ودهاء وسخاءاً عبدالله بن عامر وأما الحسن بن علي فرجل كريم وأما القارئ لكتاب الله الفقيه في دين الله.. الشديد في حدود الله مروان بن الحكم وأما رجل فقيه عبدالله بن عمر وأما رجل يتردد الشريعة مع الدواهي السباع ويروغ روغان الثعلب فعبدالله بن الزبير(3) .

قال عبدالله بن الزبير يوماً لمعاوية بشأن مروان: يا معاوية، لا تدع مروان يرمي الجماهير بمشاقصة ويضرب صفاتهم بمعوله لو لا مكانك لكان أخف على رقابنا من

____________________

(1) الإمامة والسياسة، ج1 ص152 وص151.

(2) الإمامة والسياسة، ج1 ص151 وص152.

(3) البداية والنهاية، ج8 ص88.

١٧٠

فراشه وأقل على أنفسنا من خشاشة وأيم الله لئن ملك أعنّة الخيل تنقاد له ليركبنّ منك طبقاً تخافه.

فقال معاوية: إن يطلب هذا الأمر فقذ طمع فيه من هو دونه وإن يتركه يتركه لمن فوقه(1) .

ولقد صدق ابن الزبير فإن مروان يضمر لمعاوية الشر، ويخافه معاوية، فهو يدار به ويراوغه ويطمعه بالأمر بعده بالمعاريض التي لا تجدي فتيلاً ومروان معها كالقابض على الماء.

أما الفقه الذي نعت به معاوية مروان فلا أحد يعرفه اللهم إلاّ ما أخرجه بن قتيبة عن أبي بكر بن حفص بن عمر قال: كان مروان بن الحكم امير المدينة فقضى في رجل فزّع رجلاً فضرط بأربعين درهماً(2) . ولا أدري لمن قضى بالدراهم له أو للمفزّع.

مكايدة الزبير ..

أظهر معاوية بالشام أنّ الزبير بن العوام قادم عليهم وأنه يبايع له فلما بلغه خروج الزبير وطلحة إلى الجمل أمسك عن ذكره فلما بلغه قتل الزبير قال: يرحم الله أبا عبدالله أما أنه لو قدم علينا لبايعنا له وكان أهلاً أن نقدّمه لها(3) .

مكايدة أهل الشام

ما آمن معاوية برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طرفة عين كان الحقد عليه والحسد له ولأهل بيته يمزقان احشائه صباح مساء وطالما اطلق عليه الكنية التي كانت تطلقها امه (ابن ابي كبشة)(4) ولكنه أمام أهل الشام يقوم لرجل منهم وكان شيخاً مسناً قد بلغ التسعين

____________________

(1) الأبي، نثر الدرر، ج3 ص177.

(2) ابن قتيبة، عيون الأخبار، ج1 ص73.

(3) مختصر تاريخ دمشق، ج25 ص21.

(4) انظر شرح ابن ابي الحديد، ج5 ص130.

١٧١

فقيل له: اتقوم لهذا؟ فقال: إنّ فيه شبهاً من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا أقوم للنبي(1) .

وكان يظهر في أسواق دمشق على بغلة خلفه وصيف قد اردفه عليه قميص مرفوع الجيب(2) يظهر للناس بمظهر الزاهد المنقشف.

مكايدة شرجيل بن السمط الكندي

وشرجيل هذا من رجال اليمن شجاعة ونجدة وهو ذو تأثير واضح على رجال كنده وهم رجال الحرب في الشام ولما أراد معاوية أن يحمله على الطلب بدم عثمان معه أرسل إليه ليأتيه. ثمّ وطّن له الرجال على طريقه كله يخبرونه بأن علياً قتل عثمان وكانوا من أهل الرضا عنده.

مثل يزيد بن اسد وبسر بن ارطاه وسفيان بن عمرو وخارق بن الحارث وحمزة بن مالك وحابس بن سعد وغير هؤلاء من أهل الرضا عند شرجيل بن السمط فوطّنهم له على طريقه فكان يلقى الرجل بعد الرجل من هؤلاء في طريقه فيخبرونه أنّ علياً ما لأعلى قتل عثمان ثم اشربوا قلبه ذلك فلما دنى من دمشق أمر معاوية أشراف الشام باستقباله فاستقبلوه وأظهروا تعظيمه فكان كلما خلا برجل منهم ألقى إليه هذه الكلمة فأقبل على معاوية مغضباً فقال:

أبى الناس إلاّ أن ابن ابي طالب قتل عثمان والله لئن بايعته لنخرجنك من الشام. فقال معاوية: ما كنت لأخالف أمركم وإنما أنا واحد منكم ....(3) ( وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) .

مكايدة قتل عمار ..

تواتر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله لعمار بن ياسر (تقتلك الفئة الباغية) وآخر شربه تشربها ضباع من لبن وقد كان ذوالكلاع سمع ذلك من عمرو بن العاص فكان ذوالكلاع يقول لعمرو: ويحك! ما هذا يا عمرو؟! فيقول له عمرو: إنه سيرجع إلينا

____________________

(1) ابو حيان التوحيدي، البصائر والذخائر، ج3 ص147.

(2) سير أعلام النبلاء، ج3 ص152، مختصر تاريخ دمشق، ج25 ص53.

(3) الأخبار الطوال، ص159 بتصرف.

١٧٢

قال: فلما اُصيب عمار بعد ذي الكلاع قال عمرو لمعاوية: ما أدري بقتل أيهما أنا. أشدّ فرحاً بقتل عمار أو ذي الكلاع والله لو بقي ذوالكلاع بعد قتل عمار لمال بعامة أهل الشام ولأفسد علينا جندنا عن يعقوب بن راهط قال: اختصم رجلان في سلب عمار وفي قتله فأتيا عبدالله بن عمرو بن العاص ليتحاكما إليه فقال لهما: ويحكما أخرجا عني فإن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ولعت قريش بعمار مالهم ولعمار؟ عمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار قاتله وسالبه في النار قال: فبلغني أنّ معاوية قال: إنما قتله من أخرجه يخدع بذلك أهل الشام(1) ويظهر من هذا أنّ أهل الشام على جانب عظيم من البلة فهلاّ قالوا له إذا صحّت دعواك هذه فإن دماء أهل الشام في عنقك لأنك أنت الذي اخرجتهم.

والحديث الشريف متواتر ما في ذلك ريب ولكنّ بعض أولياء معاوية انكروا تواتره واعترفوا باستفاضته وشهرته وهو من أعلى أنواع الصحيح عندهم وما أكثر من رواه من العدو والصديق.

عن حنظلة بن خويلد قال: بينا هو عند معاوية إذ جاءه رجلان يختصمان في قتل عمار فقال لهما عبدالله بن عمرو: ليطب كل واحد منكما نفساً لصاحبه بقتل عمار فأني سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: تقتله الفئة الباغية فقال معاوية لعمرو:

ألا تنهى عنا مجنونك هذا؟ ثم أقبل معاوية على عبدالله فقال له: فلم تقاتل معنا؟ فقال: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرني بطاعة والدي ما كان حياً وأنا معكم ولست أقاتل(2) .

لقد بث معاوية الكيد والمكر والحيلة في شيعته فهاهم ينسجون على منواله ويسخرون بالأمة بتلاعبهم بالعبارات وتصحيفهم الكلمات ليعفوّا على عقولها اسناداً لمعاوية وتعذيراً له. وأول من فتح لهم هذا الباب إمامهم ابن آكلة الأكباد فقال لما سمع الحديث عن الفئة الباغية: إنما نحن الفئة الباغية! التي تبغي دم عثمان(3) .

____________________

(1) البداية والنهاية، ج7 ص279.

(2) البداية والنهاية، ج7 ص280.

(3) الإمامة والسياسة، ج1 ص110.

١٧٣

وجاء بعده المغفلون ينزهّون القاتل ويزعمون أنّه صحابي بدري(1) ليحظى برفع التكليف ويذهب دم عمار هدراً ويأبى الله إلاّ أن يدخل قاتله ومن أعانه ورضي بقتله في نار جهنم وبئس المصير.

ولابد من كلمة أخيرة نقولها للصحابي المتنطع عبدالله بن عمرو الذي الجئه على حضور القتال طاعة أبيه لو صدق الرجل والله يعلم أنّه الكاذب الطامع بالسحت الذي يصيبه من ابن هند أقول لوكان صادقاً فلم لم يطع أباه حين دعاه إلى الأكل في أيام متى قال:

إني صائم ثم الثانية فكذلك ثم الثالثة فقال: لا إلا أن تكون سمعته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: فأني سمعته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (2) .

ايطيع أباه في قتال المسلمين وقتل عمار ولا يطيعه في افطار يوم حرام صومه لأنه من أيام التشريق؟!!

مكايدة عبيدالله بن عمر قاتل الهرمزان ..

خاف عبيدالله بن عمر من القصاص في خلافة الإمامعليه‌السلام لأنه قاتل الهرمزان وهو أمرئ مسلم وكان الإمامعليه‌السلام قد تهدده بالقصاص ففرّ إلى معاوية.

فكان معاوية يتمنّى قتله لخوفه من التفات أهل الشام عليه لأنه ابن عمر من هنا أعمل الحيلة في هلاكه فدعاه ذات يوم فقال: إنّ علياً كما ترى في بكر بن وائل قد حامت عليه فهل لك أن تسير في الشهباء؟ قال: نعم.

فرجع عبيدالله إلى خبائه فليس سلاحه ثم أنّه فكّر وخاف أن يقتل مع معاوية على حاله فقال له مولىً له: فداك أبي! إنّ معاوية إنّما يقدّمك للموت إن كان لك الظفر فهو يلي وإن قتلت استراح منك ومن ذكرك فاطعني واعتل قال: ويحك قد عرفت ما قلت فقالت له امرأته بحريه بنت هانئ مالي أراك مشمراً؟ قال: أمرني اميري أن اسير في الشهباء قالت: هو والله مثل التابوت لم يحمله أحد قط إلاّ قتل

____________________

(1) البداية والنهاية، ج6 ص220.

(2) ابن سعد، الطبقات، ج4 ص264.

١٧٤

أنت تقتل وهو الذي يريد معاوية قال:

اسكتي والله لأكثرنّ القتل في قومك اليوم فقالت: لا يقتل هذا خدعك معاوية وغرك من نفسك وثقل عليه مكانك قد ابرم هذا الأمر هو وعمرو ابن العاص قبل اليوم فيك لو كنت مع علي أو جلست في بيتك كان خيراً لك قد فعل ذلك أخوك وهو خير منك قال اسكتي وهو يتبسم ضاحكاً لترينّ الأسارى من قومك حول خباءك هذا قالت: والله لكأني راكبة دابتي إلى قومي اطلب جسدك أواريه إنك مخدوع إنما تمارس قوماً غلب الرقاب فيهم الحرون ينظرونه نظر القوم إلى الهلاك.

لو أمرهم بترك الطعام والشراب ما ذاقوه قال: اقصري من العذل فليس لك عندنا طاعة.

فرجع عبيدالله إلى معاوية فضم إليه الشهباء وهم إثنا عشر الفاً وضمّ إليه ثمانية آلاف من أهل الشام فيهم ذوالكلاع في حمير.

فقصدوا يؤمون علياً فلما رأتهم ربيعة جثوا على الركب وشرعوا الرماح حتى إذا غشوهم ثاروا إليهم واقتتلوا اشد القتال ليس فيهم إلاّ الأسل والسيوف وقتل عبيدالله وقتل ذوالكلاع والذي قتل عبيدالله زياد بن خصفة التيمي وقال معاوية لأمرأة عبيدالله: لو أتيت قومك فكلمتهم في جسد عبيدالله بن عمر فركبت اليهم ومعها من يجيرها فأتتهم فانتسبت فقالوا: قد عرفناك مرحباً بك فما حاجتك؟ قالت: هذا الجسد الذي قتلتموه فأذنوا لي في حمله فوثب شباب من بكبر بن وائل فوضعوه على بغل وشدّوه واقبلت امرأته إلى عسكر معاوية فتلقّاها معاوية بسرير فحمله عليه وحفر له وصلّى عليه ودفنه ثمّ جعل يبكي ويقول: قتل ابن الفاروق في طاعة خليفتكم حيّاً وميّتاً فترحموا عليه وإن كان الله قد رحمه ووفقه للخير قال: تقول بحريه وهي تبكي عليه وبلغها ما يقول معاوية فقالت: أما أنت فقد عجلت له يتم ولده وذهاب نفسه ثم الخوف عليه لما بعد اعظم....(1)

____________________

(1) الطبقات، ج5 ص17 وص18.

١٧٥

 مكايدة الجوهره ..

بعث زياد إلى معاوية بهدايا مع عبيدالله أخي الأشتر النخعي وفي الهدايا سفط فيه جوهرة لم يُر مثلها فقدم عبيدالله بالهدايا ثم قال: يا أميرالمؤمنين إنّ زياداً بعث معي بسفط ما أدري ما فيه وأمرني أن أدفعه إليك في خلاء فقال: أحضره فلما فتحه قال: ما أظن رجلاً آثر هذا على نفسه إلاّ سيؤثره الله تعالى بالجنة ارجع به إليه فإن من قبله من المسلمين أحق بهذا من معاوية ثم كتب إلى زياد: إنك رفعت عليّ راية الاشتر حين وضعها الله بعثت مع أخيه بسفط يشهد به علىّ عند أهل العراق فاردده إلي مع رجل لا يفقه عني ولا أفقه عنه فردّه إليه زياد مع غلام من غلمانه(1) .

 مكايدة رفع المصاحف ..

يقال إنها مكيده عمرو والواقع أنها ليست عفو الساعة منهم بل هي مكيدة دبّرت من أول القتال وبقيت طيّ الكتمان حتى آن أوانها بعد أن لاحت إرهاصات الهزيمة في جند الشام قال الطبري:

فلما رأى عمرو بن العاص أن أمر أهل العراق قد اشتد وخاف في ذلك الهلاك قال لمعاوية: هل لك في امر اعرضه عليك لا يزيدنا إلاّ اجتماعاً ولا يزيدهم إلاّ فرقة؟ قال: نعم قال: نرفع المصاحف ثم نقول ما فيها حكم بيننا وبينكم فإن أبى بعضهم أن يقبلها وجدت فيهم من يقول: بلى ينبغي أن نقبل فتكون فرقة تقع بينهم وإن قالوا: بلى نقبل ما فيها رفعنا هذا القتال عنا وهذه الحرب إلى أجل أوالي حين فرفعوا المصاحف بالرماح وقالوا: هذا كتاب الله عزوجل بيننا وبينكم من لثغور اهل الشام من بعد أهل الشام ومن لثغور أهل العراق من بعد أهل العراق! فلما رأى الناس المصاحف قد رفعت قالوا نجيب إلى كتاب الله عزوجل وننيب إليه(2) .

وللقضية تفصيل مهم ولطالب المزيد الرجوع إلى المسعودي في تاريخه وابن

____________________

(1) التذكرة الحمدونية، ج1 ص416.

(2) الطبري، تاريخ الرسل والملوك، ج5 ص48.

١٧٦

الأعثم في فتوحه وابن الأثير في كامله وابن خلدون في العبر واليعقوبي والبدء والتاريخ والبداية والنهاية وغيرها من كتب التاريخ واستطاع ابن هند أن يخدع المغفلين بهذا الكيد ولكنّ الإمامعليه‌السلام كشف كيده للناس وقال:

عباد الله امضوا إلى حقكم وصدقكم وقتال عدوكم فإن معاوية وعمراً ابن العاص وابن ابي معيط وحبيب بن مسلمة وابن أبي سرح والضحاك بن قيس ليسوا باصحاب دين ولا قرآن أنا أعرف بهم منكم صحبتهم أطفالاً وصحبتهم رجالاً فكانوا شر اطفال وشر رجال ويحكم والله إنهم ما رفعوها إنهم يقرأونها ولا يعملون بما فيها وما رفعوها إلاّ خديعة ودهاءاً ومكيده ....(1)

مكايدة أهل مكة في بيعة يزيد

حشد معاوية كل مخزون كيدي في ذاته. موصولاً بالغدر والكذب وشراء الذمم وكان لا يبخل على ذمة يريد شراءها في البيعة ليزيد بشيء وسل التاريخ ما هي حكاية الطوق الذي ارسله معاوية إلى عائشة يقول عطاء: قدمت عائشة مكة، فأرسل إليها معاوية بطوق قيمته مئة ألف فقبلته..(2)

إنّ هذا الطوق شفيع مشفّع عند ام المؤمنين لكن ألا يحق للمرء أن يسأل من لا يجيب لماذا هذا الطوق؟ ولست واجداً مجيباً بسهولة اللهم إلاّ إذا امعنت نفشاً في التاريخ وفليت مفاوزه واحدة أثر أخرى فستعثر على السبب المباشر لهذا الطوق في بيعة يزيد إنّ ابن هند يريد من يضمن له رضا عائشة بهذه البيعة أو سكوتها على أقل تقدير عنها فماوجد أصحّ ضماناً من الذهب الأبريز بخاصة إذا كان طوقاً على الاعناق.

وخطب معاوية بالمدينة فذكر يزيد فمدحه وقال: من أحق منه بالخلافة في فضله وعقله وموضعه وما أظن قوماً بمنتهين حتى تصيبهم بوائق تجتث أصولهم وقد أنذرت إن أغنت النذر ثم أنشد متمثلاً:

____________________

(1) ابن كثير، البداية والنهاية، ج7 ص284.

(2) مختصر تاريخ دمشق، ج25 ص64.

١٧٧

قد كنت حذرتك آل المصطلق

وقلت يا عمرو اطعني وانطلق

إنك قد كلفتني ما لم اطق

ساءك ما سرّك مني من خلق

دونك ما استسقيته فاحس وذق

ثم دخل على عائشة وقد بلغها أنه ذكر الحسين وأصحابه فقال: لأقتلنهم إن لم يبايعوا فشكاهم إليها فوعظته وقالت: بلغني إنك تتهددهم بالقتل فقال: يا أم المؤمنين هم أعز من ذلك ولكني بايعت ليزيد وبايعه غيرهم افترين أن أنقض بيعة قد تمت؟! قالت فارفق بهم فإنّهم يصيرون إلى ما تحب إن شاء الله، قال: افعل(1) .

ولا تفوتنك الدلالة في قولها يصيرون إلى ما تحب!! يعني بيعة يزيد. فهي من الراضين بها وتعد معاوية برضا اشد الناس إنكاراً ونقمة عليه وترشده إلى سياسة الهوينى واللين ليصل إلى الغاية من البيعة وهذا كله بشفاعة الطوق طبعاً.

اكرم به اصفر راقت صفرته

جوّاب آفاق ترامت سفرته

مأثورة سمعته وشهرته

قد اودعت سرّ الغنى اسرته

وقارنت نحج المساعي خطرته

وحببت الى الأنام غُرته

كأنما من القلوب نقرته

به يصول من حوته صرته

.....................................

يا حبذ انصاره ونضرته

كم أمر به استنبت امرته

ومترف لولاه دامت حسرته

وجيش هم هزمته كرته

وبدرتم أنزلته بدرته

وكم اسير اسلمته اسرته

انفذه حتى صفت مسرته

وحق مولىً ابدعته فطرته

لولا التقى القلت جلّت قدرته(2)

بعد محاولات جرت من معاوية عمادها الترغيب والترهيب لم يصل من المعارضين إلى غايته فأعيته الحيلة وعرف أن لا سبيل إلى استقطابهم فعمد إلى تجاوزهم وأخذ البيعة من الناس ولكن بما أن للمعارضين وفيهم الإمام الحسينعليه‌السلام تأثيراً كبيراً على سواد الأمة الأعظم هُرع إلى الحيلة والكيد كما هي عادته.

____________________

(1) الكامل في التاريخ، ج3 ص251.

(2) مقامات الحريري، ص28.

١٧٨

بعد أن كلمهم وكلّموه وأشار عليه ابن الزبير بثلاث لكي يأخذ بأحدها فردّها جميعاً ثم قال: فأني قد أحببت أن اتقدم اليكم أنه قد أعذر من انذر إني كنت اخطب فيكم فيقوم اليّ القائم منكم. فيكذبني على رؤوس الناس فاحمل ذلك واصفح واني قائم بمقالة فاقسم بالله لئن رد علي أحدكم كلمة في مقامي هذا لا ترجع إليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف إلى رأسه فلا يبقين رجل إلاّ على نفسه ثمّ دعى صاحب حرسه بحضرتهم فقال:

اقم على رأس كل رجل من هؤلاء رجلين ومع كل واحد سيف فإن ذهب رجل منهم يرد على كلمة بتصديق أو تكذيب فلبضرباه بسيفهما ثمّ خرج وخرجوا معه حتى رقى المنبر فحمد الله واثنى عليه ثمّ قال:

إنّ هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم لا يُبتز أمر دونهم ولا يقضى إلاّ عن مشورتهم وانهم رضوا وبايعوا ليزيد فبايعوا على اسم الله فبايع الناس وكانوا يتربصون بيعة هؤلاء النفر ثم ركب رواحله وانصرف إلى المدينة فلقى الناس اولئك النفر فقالوا لهم زعمتم أنكم لا تبايعون فلم رضيتم واعطيتم وبايعتم؟ قالوا والله ما فعلنا فقالوا: ما منعكم أن تردّوا على الرجل؟ قالوا: كادنا وخفنا القتل(1) .

وهذه ليست بيعة بل هي داهية دهماء من دواهي الكيد بالإمامة ولنا أن نسئل عبدالله بن عمر وهو أحد المعارضين واحد من كادهم معاوية وسلط عليهم السيف في حرم الله.

أهذه البيعة التي سمّاها بيع الله ورسوله أم أن بينه وبين معاوية صفقة خاصة لا نعلمها ويذكر عنه أنّه دعا بنيه وجمعهم لما ابتز أهل المدينة يزيد وخلعوه فقال: إنا بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله وإني سمعت رسول الله يقول: إنّ الغادر ينصب له لواء يوم القيامة ...(2)

____________________

(1) ابن الأثير، الكامل، ج3 ص252 والقضية لشهرتها ذكرها جل المؤرخين.

(2) ابن سعد، الطبقات، ج4 ص183.

١٧٩

وكاد ربه في يزيد أيضاً

فقد كان يخطب ويقول في خطبته: أللهم إن كنت تعلم أني وليته - يزيد - لأنه فيما أراه أهل لذلك فأتمم له ما وليته وإن كنت وليته لأني أحبه فلا تتمم له ما وليته(1) .

وهذا كيد عظيم يفوق كيد ابليس إذ يخال السامع أنّ الرجل لحسن نيته ونقاء حقيقته وعظيم نصحه للمسلمين أو كل الأمر إلى الله، فإذا تمت البيعة ليزيد كان الله سبحانه هو الذي تولّى عقدها لعلمه بصلاحه وإن لم تتم فالله دفعها عنه لعدمه.

وهذا الذي ذكرناه غيض من فيض وقطرة من مياه معاوية الأسنة وهناك نماذج كثيرة أعرضنا عنها لاقتضائها منا جهوداً اضافية منها قصة أرينب بنت اسحاق ولو لا اني مرتاب بها لذكرتها وقد عبّرت عن رأيي فيها في كتابي (حجة الشيعة الكبرى) فالتمسها هناك.

بهذا الكيد الرخيص حكم معاوية الاُمة وعاشت تحت ظله فكانت تعبّ من هذه الأخلاق الردئية ما شائت وتتلون شخصيتها بهذه الألوان القاتمة المقيتة لأن الرعية على دين ملوكها ولقد عاش معاوية عمره كله على هذا النمط المسترذل.

يقول اليعقوبي: وكان أكثر فعله المكر والحيلة(2) .

السمة الثانية الغدر ..

اعتبر اولياء ابن هند سمة الغدر صفة فاضله فيه فقد تمدّحوا بها ونعتوه من أجلها بالدهاء وصيّروه أحد دهاة العرب الخمسة(3) . وأول من مدحه وسمّى غدره دهاءاً عمر بن الخطاب حيث يقول: تذكرون كسرى وقيصر ودهائهما وعندكم معاوية. وقد مرّ هذا القول في أثناء الكتاب وهذا الدهاء الذي أعجب الخليفة وباهى به كسرى وقيصر هو الغدر الذي قال عنه أميرالمؤمنينعليه‌السلام :

____________________

(1) البداية والنهاية، ج8 ص83.

(2) تاريخ اليعقوبي، ج2 ص238.

(3) ابن كثير، البداية والنهاية، ج8 ص105.

١٨٠