الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية 0%

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 377

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد شعاع فاخر
تصنيف: الصفحات: 377
المشاهدات: 111588
تحميل: 12206

توضيحات:

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 377 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 111588 / تحميل: 12206
الحجم الحجم الحجم
الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

حتّى فرعون سمى بفعله عن دنائة معاوية، وظهر من هذا أنّ عائشة لم تصب له نعتاً يساوي حقيقته غير فرعون وإن جلّ عنه ونأى بترفّعه عن ظلم بن هند. عن الأسود بن يزيد قال: قلت لعائشة(1) : ألا تعجبين لرجل من الطلقاء ينازع أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الخلافة؟ فقالت: وما تعجب من ذلك؟ هو سلطان الله يؤتيه البرّ والفاجر، وقد ملك فرعون أهل مصر أربعمائة سنة وكذلك غيره من الكفّار.

واستنبط صاحب النصائح الكافية ثلاثة اُمور من كلام عائشة: الأوّل: دلالة مفهوم الصفة مخالفة إنّ معاوية ليس من أصحاب محمّد. الثاني: الإشارة بالمثال إلى فجور معاوية. الثالث: تشبيهها معاوية بفرعون الذي بيّن الله حاله بقوله تعالى:( وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ * يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ * وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرّفْدُ الْمَرْفُودُ ) (2) .

والحقيقة إنّ استنباط سيّدنا ابن عقيل جميل، ولكن لم تعرف ذلك عائشة ومن ثمّ لم تقله قصداً ولو علمت لما قالت.. وما كانت اُمّ المؤمنين لتفرط في عدوّ عدوّها، وقد أنسى الناس جملها بصفينه وكان دائماً عند حسن ظنّها.

روي أنّ عائشة بعثت إلى معاوية وهو بالمدينة تذكر حاجة من آل أبي بكر.. فأرسل إليها بثلاثين ألف درهم صلة لها وبمثلها لآل أبي بكر، وبعث إلى اُم حبيبة اُخته عشرين ألف درهم، فقالت: أتفضّل عليّ وأنا اُختك وحقّي ما تعلم؟ فقال: إنّي آثرت هوى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واقتديت به فيكما. فقالت: فإن كنت صادقاً فاعتزل ما أنت فيه وخلّ بينه وبين من أدخلك في الإسلام، فوالله لهوى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه كان فوق هواه فيك. فقال معاوية: لله درّ الحق ما اقمعه(3) .

لقد ملأ معاوية دنيا الإسلام جرائم ومنكرات، قال الحسن البصري: أربع خصال في معاوية لو لم تكن فيه إلاّ واحدة منها لكانت موبقة: انتزائه على هذه الاُمّه بالسيف حتّى أخذ الأمر من غير مشورة وفيهم بقايا الصحابة وذووا الفضيلة، واستخلافه من بعده سكّيراً خمّيراً يلبس الحرير ويضرب بالطنابير، وادّعائه زياداً

____________________

(1) البداية والنهاية، ج8 ص134، والنصائح الكافية، ص28 نقلاً عن الدرّ المنثور.

(2) الهود 97 - 99

(3) التذكرة الحمدونية، ج7 ص169 و170.

٢٦١

وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الولد للفراش وللعاهر الحجر، وقتله حجراً وأصحاب حجر ويا ويلاً له من حجر وأصحاب حجر(1) .

يقول هذا الحسن البصري ويقول غيره مراعاةً للسلطان وسكوتاً عن المنكر وأهله. قال الأوزاعي: سأل رجل الحسن البصري عن علي وعثمان فقال: كانت لهذا سابقة ولهذا سابقة ولهذا قرابة وابتلي هذا وعوفي هذا. فسأله عن علي ومعاوية، فقال: كان لهذا قرابة ولهذا قرابة ولهذا سابقة وليس لهذا سابقة وابتليا جميعاً(2) .

وأقول لهذا الضالّ المرائي: أقرابةُ عثمان كقرابة علي وسابقته كسابقته، وابتلاء المحق كابتلاء المبطل، فما لكم كيف تحكمون، وقول الحسن شعبة من قول عمر بن عبدالعزيز. قال ميمون بن مهران: كنت اُفضّل عليّاً على عثمان رحمة الله عليهما فقال لي عمر بن عبدالعزيز: أيّهما أحبّ إليك؟ رجل أسرع في كذا أو رجل أسرع في المال؟ قال: فرجعت وقلت: لا أعود(3) .

ولا أرتاب أنّ الاُموي الحاقد ميمون بن مهران كذب على عمر بن عبدالعزيز فيما قال، والرجل على خلاف ما نقل عنه وقد ثبت ولائه لأميرالمؤمنين عندي وتفضيله على كلّ أحد بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأعلم بأنّ تصحيفاً وستراً جريا على الخبر نفاقاً من أنصار بني اُميّة ولست أدري من أيّ منافق منهم كان ذلك أمن أبي زرعة وثبت نفاقه ببغضه الإمامعليه‌السلام أم من غيره، فقد صحّف لفظ أسرف إلى أسرع وأبهم لفظ الدماء بلفظ كذا، وتكون العبارة الصحيحة هكذا: رجل أسرف في الدماء ويعني بذلك أميرالمؤمنين، أو رجل أسرف في المال يعني عثمان.

وأقول: أوّلاً: لا أملك لهؤلاء المنافقين إلاّ أن أردّد مع الإمام أميرالمؤمنين قول النبي له: لا يحبّني منافق ولا يبغضني مؤمن. وأقول ثانياً: اللهمّ أوقر ظهري وعنقي من هذه الدماء التي سفكها عليعليه‌السلام واجعلني ووالديّ ومن أحبّ شركاء في سفكها. اللهمّ فإن رأيتني لا أستحقّ هذا الثواب العظيم فاجعل في صحيفتي ولو قطرة منها. آمين.

____________________

(1) النصائح الكافية، ص35 نقلاً عن الكامل، وانظر أبا الفداء، ج1 ص259.

(2) سير أعلام النبلاء، ج3 ص142.

(3) أبو زرعة، تاريخ أبي زرعة، ص145.

٢٦٢

وقول ميمون بن مهران هذا عن الإمام وأنّه أسرع في كذا جزء من كل، فإنّ شيعة ابن هند المنافقين يرونه محقّاً في حربه بصفّين لعليعليه‌السلام . يقول ابن تيميّة: ولم يكن معاوية ممّن يختار الحرب ابتداءاً بل كان من أشدّ الناس حرصاً على أن لا يكون قتال، وكان غيره أحرص على القتال منه(1) . ويعني (بغيره) الإمام أميرالمؤمنين، فانظر كيف أضلّه الله على علم ...

ولست أهتدي إلى السرّ الذي يحملهم على تعديل معاوية مع تواتر هذه الجرائم والمنكرات عنه اللهمّ إلاّ سرّاً واحداً هو النفاق الذي يشعرون به، ثمّ هو بعد صنيعة عمر بن الخطّاب فلابدّ من تعديله حرصاً على صانعه. يقول أبوبكر بن العربي: وأمّا معاوية فعمر ولاّه وجمع له الشامات كلّها وأقرّه عثمان عليها، بل إنّما ولاّه أبوبكر الصدّيق رضى عنه (كذا) لأنّه ولّى أخاه يزيد واستخلفه يزيد فأقرّه عمر لتعلّقه بولاية أبي بكر لأجل استخلاف واليه له فتعلّق عثمان بعمر وأقرّه فانظروا إلى هذه السلسلة ما أوثق عراها، ولن يأتي أحد مثلها أبداً بعدها(2) .

لقد صدق إنّ حلقات هذه السلسلة آخذ بعضها برقاب بعض، وهم جميعاً من معدن واحد ولن يخالجني شك أنّ معدن معاوية وعثمان من معدن صاحبيهما. ولن يضارع أحدٌ من يدافع عن معاوية ويطري سيرته بالعدل والخير في الصلف قط. فهذا ابن تيمية في منهاج السنّة يقول: وكانت سيرة معاوية مع رعيّته من خيار سير الولاة وكان رعيّته يحبّونه وقد ثبت في الصحيحين عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال: خيار أيمّتكم الذين تحبّونهم ويحبّونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وشرار أيمّتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم ...(3)

وقد رسمنا لك صورةً واضحةً مدعومة بالشواهد من سيرة معاوية، فقل عنها ما تشاء، واعلم بأنّنا لا نلوم المنافقين في دفاعهم عن ابن هند، ولكن ينبغي على أصحاب الضمائر أن يتحرّروا من هذه التركات الثقيلة وينظروا بعين الحقّ والواقع، ليعرفوا موقع ابن هند من الإسلام. يقول الخطيب وهو منافق عصري: بل إنّ معاوية

____________________

(1) العواصم من القواصم، ص171، انظر حاشية الخطيب عليه.

(2) العواصم من القواصم، ص81، ط بيروت، مكتبة اسامة بن زيد، 1399 هجري.

(3) العواصم من القواصم، ص83، هامش الخطيب عليه.

٢٦٣

نفسه حاول السير على طريقة عمر كما نقل ذلك الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية: عن محمّد بن سعد قال: حدّثنا عارم حدّثنا حمّاد بن زيد عن معمر عن الزهري: إنّ معاوية عمل سنتين على عمل عمر ما يخرم فيه ثمّ إنّه بعد عن ذلك(1) .

وقوله هذا سند إدانة لعمر قبل أن يكون برائة لمعاوية، ثمّ من يكون عمر هذا حتّى تكون سيرته مثالاً يحتذى وهل هو إلاّ حاكم كسائر الحكّام، اقتضت الفترة التي قضاها في أوج إنتصارات الإسلام وبين خيار الصحابة أن يكون أكثر التزاماً من غيره وهذه سيرته تنطق بما وضع من البدع والإضافات في الدين وما حذف منه، ولو رحنا نحذف ونأوّل ونُكذِّب ونبطل ما دلّ على ذلك منها، فهل باستطاعتنا أن نردّ تأييده وتوليته لمعاوية؟! فهو إحدى صنايع ابن الخطّاب وهذا الذي حمل القوم على إنكار المسلّمات بل الضرورات التاريخية دفاعاً عن ابن آكلة الأكباد، حتّى عدّوا جرائمه وموبقاته التي جلّت عن الحصر (هنات).

يقول الذهبي: ومعاوية من خيار الملوك الذين غلب عدلهم على ظلمهم وما هو ببريء من الهنات، والله يعفو عنه(2) . إن كان الذهبي وابن تيميّة من قبله وابن كثير من بعده ظلموا الحقّ ولم ينصفوا وغضّوا الطرف عن موبقات ابن هند الكبار المخزية وسمّوها (هنات) مبالغة في تقليلها وتصغيرها، فمن العلماء من نصر الحق وعرف حقيقة معاوية وشيعته وأنصاره والحمد لله، فهذا الشافعي كان لا يقبل شهادة أربعة من الصحابة وهم معاوية وعمرو بن العاص والمغيرة وزياد(3) ، ولم يكن هؤلاء في زمن الشافعي حتّى لا يقبل شهادتهم ولكنّه كان يفسّقهم، فكبر على شيعتهم ذلك، فقالوا: لا يقبل شهادتهم.

من جهة اُخرى كيف يطلق لفظ صحابي على زياد وقد جزم ابن عساكر: بأنّه أدرك النبي ولم يره. قال ذلك ابن حجر. وقال شيعة زياد ابوبكر بن العربي المالكي: والذي ندريه حقّاً ونقطع عليه علماً أنّ زياداً من الصحابة بالمولد والرؤية لا بالتفقه والمعرفة ...(4)

____________________

(1) العواصم من القواصم، ص77، حاشية الخطيب عليه.

(2) سير أعلام النبلاء، ج3 ص159، والبداية والنهاية، ج8 ص123.

(3) أبوالفداء، المختصر في أخبار البشر، ج1 ص259.

(4) العواصم من القواصم، ص238، وانظر حاشية الخطيب عليه نفس الصفحة.

٢٦٤

وأعجب ما رأيت من خداع العقل الذكي الذي قارب أن يكون بلهاً ما وصف به العقّاد معاوية بالغيرة الدينيّة، وكنت أحسبها لأوّل وهلة غيرة على ما كان يعبد أبو سفيان وهند الهنود حتّى رأيته شفعها بأحكام المروئة والعرف المتّبع في الأخلاق وأكّد ذلك ببرهان مضحك حين جعل اِسلامه على يد النبي وصحبته إيّاه وعمله على أيدي الجلّة من صحابته باعثاً على عدم الغفلة عن هذه الغيرة المدّعاة وأحكام الفرائض وواجبات المروئة في عرف زمنه(1) .

وأظنّ الرجل لم يقرء تاريخ معاوية ليعرف أنّه لم يؤمن بهذا الدين لكي يغار عليه وإنّما تقلّب في النفاق عمره كلّه وجناياته وأقواله وأفعاله شاهد على ذلك، فمتى تدخل الغيرة قلباً لم يدخل الإيمان فيه طرفة عين. وأصدق كلمة نقولها فيه وفي أمثاله قول أميرالمؤمنينعليه‌السلام : دخلت في الإسلام كرهاً وخرجت منه طوعاً. ونقل ابن الأثير عن الإمام عليعليه‌السلام من كلام له: لم يرعني إلاّ انشقاق رجلين قد بايعاني وخلاف معاوية الذي لم يجعل له سابقة في الدين ولا سلف صدق في الإسلام الطليق بن الطليق حزب من الأحزاب لم يزل حرباً لله ولرسوله هو وأبوه حتّى دخلا في الإسلام كارهين.

وقالعليه‌السلام وهو يحرّض أصحابه على الجهاد: سيروا إلى قتلة المهاجرين والأنصار قد طالما سعوا في إطفاء نور الله وحرّضوا على قتل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن معه، ألا إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرني بقتال القاسطين وهم هؤلاء الذين سرنا إليهم والناكثين وهم هؤلاء الذين فرغنا منهم والمارقين ولم نلقهم بعد ...(2) هذه حقيقة معاوية نجدها واضحةً من غير أصباغ ومساحيق في أقوال أيمّة الدين وخيار المسلمين. ولم يحملهم على كشف حقيقته عداء شخصي له، بل لكونهم عرفوا الدين حلاله وحرامه فعرفوا من ثمّ أتباعه، من التزم بضوابطه وقيوده ومن اتّخذه هزواً ولعباً.

أمّا ابن تيميّة وابن كثير وابن العربي والذهبي وفي زماننا محبّ الدين الخطيب

____________________

(1) العقاد، معاوية بن أبي سفيان، ص210، ط دارالكتاب اللبناني، بيروت.

(2) النصائح الكافية، ص46.

٢٦٥

الذين تحتوا الأعذار لمعاوية وأوّلوا مخالفاته الشرع، وسخّروا الدين لتعديله بل سخروا منه لأجله، فأولئك لم يُقرّوا بالإسلام الموحى به إلى سيّد الرسل، بل الإسلام المصنّع الذي ابتدعته مخيلة الحكام وأنصارهم، وهؤلاء أشدّ خسراً وأعظم هلكاً من زياد وسمرة بن جندب وبسر بن أرطاة ومعاوية بن خديج والضحّاك بن قيس والحجّاج، فهؤلاء خسروا دينهم وربحوا دنياهم وأولئك خسروا الدين والدنيا ولو أدركوا زمن معاوية لكانوا شرّاً ممّن ذكرنا.

ونختم هذا الفصل بواقعة جرت بين مولانا سيّد الشهداء أبي عبدالله الحسينعليه‌السلام وابن هند: مرّ بنا في أثناء هذا الفصل أنّ الخبيث حبس عن الإمام الحسينعليه‌السلام عطائه حتّى شاطره عبيدالله بن العباس ماله. ذكر الرواة أنّ مالاً حمل من اليمن إلى معاوية فلمّا مرّ بالمدينة وثب عليه الحسين بن عليعليه‌السلام فأخذه وقسّمه في أهل بيته ومواليه وكتب إلى معاوية:

من الحسين بن علي إلى معاوية بن أبي سفيان. أمّا بعد، فإنّ عيراً مرّت بنا من اليمن تحمل مالاً وحللاً وعنبراً وطيباً إليك لتودعها خزائن دمشق وتُعلُّ بها بعد النهل بني أبيك وإنّي احتجت إليها فأخذته والسلام(1) .

الإمام لم يبدأ كلامه بالسلام على معاوية لأنّه لا يستحقّ ذلك، وأمّا الختام فقد أطلقه الإمام ولم يخصّ به أحداً.

مالي اُسالم قوماً عندهم ترقي

لا سالمتني يد الأيّام إن سلموا

وكيف يسلّم عليه وهو إن ينسى كلّ شيء فلن ينسى كبد الحسن في الطست ...

السمة العاشرة: إذلال الناس والإستهانة بهم

لم يكن حكم معاوية مرغوباً فيه من قبل الاُمّة بل فرض على الاُمّة بالبطش والإرهاب وقوّة السلاح وما تسنّم معاوية غارب الحكم إلاّ بخوض الغمرات وشنّ الحروب والقسوة المتناهية حتّى قال القائل في سلطانه: والله إنّ سلطاناً لا يشتدّ إلاّ

____________________

(1) جمهرة رسائل العرب، ج2 ص22، ط مصر، مصطفى البابي الحلبي، 1356 هجري.

٢٦٦

بقتل الصبيان ورفع الرحمة لسلطان سوء(1) .

وبعد أن استتب له الأمر وأطاعته الاُمّة مرغمة قرّب إليه أعوانه ومن يهابهم أو يخشاهم من وجوه الاُمّة وأقصى الكثرة الكاثرة إلى حيث أعدّ لهم من الجوع والبؤس والذلّ والحرمان، وبالغ في إذلال أعدائه القدامي من الأنصار والمهاجرين وأمعن في أقصائهم، وأعظم القول في بني هاشم. ومن سخريّته بالاُمّة أن رتّب لرفع الحوائج امرأة تدعى (منّة) وهي مولاته.

وقف عبدالله بن الزبير على باب منّة مولاة لمعاوية كانت ترفع حوائج الناس إليه فقيل له: يا أبابكر تقف على باب منّة؟! قال: نعم إذا أعيتك الاُمور من رؤوسها فأتها من أذنابها ...(2)

هل يا ترى قلّ مواليه ليحتاج إلى (منّة) وحجابئها أو قلّ المتزلفون إلى حكمه الطامعون في سحته؟ كلاّ ولكنّه يمعن في الإستهانة بالناس شأن المغمورين الأذلاّء المصابين بالعاهات الخلقية المولودين في البيوت السافلة الذين ربّتهم الدعارة في أحضانها، وهذه حقيقة نفسية لا محيد من الإعتراف بها بل لابدّ من تحليل شخصيّة معاوية على ضوئها وهي أنّ خلفيّات بيته الاُموي ورصيده النفسي من أبي سفيان وهند وولادته بين زانيين في وسط مشحون بالإباحية والتحرر من الإلتزامات الأدبيّه، هذا كلّه حكم على سلوكه في حكمه بالتعاظم في غير عظمة والتكابر دونما كبر.

كما أنّه وجّه تصرّفه مع الناس شطر الإستهانة بهم والحقد عليهم أعداءاً وأولياء، ولعلّ من أولى شواهد وضعه النفسي استلحاقه زياداً مع اعترافه على أبيه بالزنا حتّى قال له الشاعر:

أتغضب إذ يقال أبوك عف

وترضى إذ يقال أبوك زاني

وأقسم أن رحمك من زياد

كرحم الفيل من ولد الأتان

وما كانت ضرورة أخلاقية ولا ضرورة سياسية تدعو إلى استلحاقه، وما كان

____________________

(1) تاريخ اليعقوبي، ج2 ص199.

(2) التذكرة الحمدونية، ج1 ص461.

٢٦٧

زياد بحاجة إلى أب يعزى إليه، بل هو بحاجة إلى حكم يسند إليه وولاية توضع بين يديه، ولو فعل معاوية ذلك لما فقد من طاعة زياد شيئاً ولكنّها صفة معاوية الخلقيّة، وسقوط اُسرته في حمأة الصغار والقمائة وصغر نفسه سوّل له ذلك. ولقد كان ضرر استلحاق زياد على معاوية أكثر من نفعه، بان ذلك حين أراد معاوية البيعة ليزيد، فكان زياد من أشدّ المعارضين لهذه البيعة حتّى أثار حفيظة معاوية وهدّده بردّه إلى وضعه البيتي القديم.

ولقد كان زياد يطمع بولاية العهد لنفسه بعد معاوية. المدائني عن مسلمة قال: وفد زياد على معاوية فحدا به الحادي:

قد علمته الضمر الجياد

أنّ الأمير بعده زياد

فبلغ ذلك معاوية فغضب ولم يذكر لزياد شيئاً، فقال يوماً لحضين بن المنذر الرقاشي بحضرة زياد: يا أبا ساسان إنّ لك رأياً وعقلاً فما فرّق أمر هذه الاُمّة حتّى سفكت دمائها واختلف ملأها وسفهت أحلامها؟ فقال: قتل أميرالمؤمنين عثمان. فقال: صدقت والخلافة لا تصلح لمنافق ولا ذي دعابة يعرض بعلي، وإنّ زياداً كان من أعوانه ففطن زياد فقال: راجز رجز بشيء لم يكن عن أمري ولقد زجرته ونهرته فقبل ذلك معاوية(1) .

ولابدّ لي قبل المرور إلى صلب الموضوع من وقفة فاحصة لتعريض معاوية بالإمام عليعليه‌السلام في الدعابة. فاعلم أنّها كلمة خبيثة قالها اُستاذه الأوّل ابن الخطّاب في حقّ الإمام للحطّ من شخصيّته الزعاميّة، وأنّه بمثابة (بطّال) وحاشاه ذلك لا يصلح للزعامة، فقد قال له في قصّة الشورى: لله أنت لولا دعابة فيك! أما والله لئن ولّيتهم لتحملنّهم على الحقّ الواضح والمحجّة البيضاء ...(2) وشرقت هذه الكلمة وغربت حتّى استلمها ابن النابغة. يقول الإمامعليه‌السلام : عجباً لابن النابغة يزعم لأهل الشام أنّ فيّ دعابة وأنّي امرىء تلعابة إل آخر كلامه في النهج، والعجب من ابن النابغة أوّل من قالها أكثر ...

____________________

(1) أنساب الأشراف، ج5 ص34.

(2) شرح ابن أبي الحديد، ج1 ص186.

٢٦٨

وبقيت الكلمة تتموج في الزمن حتّى قالها محمّد بن عيسى الأعشى حين أراده الأمير الحكم على القضاء لمّا مات القاضي محمّد بن بشير. ذكر الأمير الحكم القضاء ومن يصلح أن يولّيه، فقال: ما أرى غير فقيه البلد: محمّد بن عيسى الأعشى، وما يغمّني منه غير إفراط الدعابة التي فيه وعزم على ذلك من أمره. فقال له بعض الوزراء: لو أمتحنت أمره قبل المشافهة كان ذلك رأياً حسناً. فأرسل إليه بعض وزرائه فنزل عليه وذاكره الأمر وأعلمه بما عابه به الأمير من افراط دعابته، فقال: أمّا القضاء، فإنّي والله لا أقبله ألبتة ولو فعل بي وفعل فلا يحتاج الأمير أبقاه الله أن يكشف إليّ وجهه في ذلك، وأمّا الدعابة فعلي بن أبي طالبرضي‌الله‌عنه لم يدعها للخلافة أأدعها للقضاء(1) .

وأقول لهم وكلّي ألم وحسرة كما قال الله تعالى:( جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِيّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى‏ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ) (2) .

بهذه النفسية الوضيعة حكم معاوية اُمّة حديثة ناهضة رائده فسلك سبلاً مروعة في إدخال الذلّ عليها. قال ابن الأثير: قيل: وكان الناس يقولون: أوّل ذلّ دخل الكوفة موت الحسن بن علي وقتل حجر ودعوة زياد ...(3) ولا داعي لتخصيص الكوفة بالذل دون سائر البلاد، إلاّ لكونها متمحّضة للتشيّع.

وكان سبب موت الربيع بن زياد أنّه سخط قتل حجر بن عدي حتّى أنّه قال: لا تزال العرب تقتل صبراً بعده ولو نفرت عند قتله لم يقتل رجل منهم صبراً ولكنّها أقرّت فذلّت(4) .

وربّما عبّر بعض شرائح المجتمع البائس المصاب بالذلّ من حكم معاوية بالعبارات ذات الدلالات العميقة. وفدت سودة بنت عمارة الهمدانية على معاوية فقال لها: ما حاجتك؟ قالت: إنّك أصبحت للناس سيّداً ولأمورهم متقلّداً والله مسائلك عن أمرنا وما افترض عليك من حقّنا ولا يزال يقدم علينا من ينوء بعزّك

____________________

(1) الخشني القروي، قضاة قرطبة، ص29، دارالكتابين المصري واللبناني، ط ثانية، 1410 هجري.

(2) سورة الإنعام الآية 112.

(3) ابن الأثير، الكامل، ج3 ص242.

(4) نفسه، ج3 ص245.

٢٦٩

ويبطش بسلطانك فيحصدنا حصد السنبل، ويدوسنا دوس البقر، ويسومنا الخسيسة، ويسلبنا الجليلة، وهذا بسر بن أرطاة قدم علينا من قبلك فقتل رجالي، يقول لي فوهي بما استعصم الله تعالى منه وألجأ إليه منه، ولولا الطاعة لكان فينا عزّ ومنعه، فإمّا عزلته عنّا فشكرناك وإمّا لا فعرفناك.

فقال معاوية: أتهدّديني بقومك؟ لقد هممت أن أحملك على قتب أشرس فأردك إليه ينفذ فيك حكمه، فأطرقت تبكي ثمّ أنشأت تقول:

صلّى الإله على جسم تضمّنه

قبر فأصبح فيه العدل مدفونا

قد حالف الحق لا يبغي به بدلاً

فصار بالحق والإيمان مقرونا

فقال لها: ومن ذاك؟ قالت: علي بن أبي طالب رضوان الله عليه. قال: وما صنع بك حتّى صار عندك كذا؟ قالت: قدمت عليه في مُصدِّق قدم علينا من قبله والله ما كان بيني وبينه إلاّ ما بين الغث والسمين، فأتيت علياً لأشكو إليه ما صنع بنا فوجدته قائماً يصلّي، فلمّا نظر إليّ انفتل من صلاته ثمّ قال لي برأفة وتعطّف: ألك حاجة؟! فأخبرته فبكى ثمّ قال: اللهمّ أنت الشاهد عليّ وعليهم أنّي لم آمرهم بظلم خلقك ولا بترك حقّك، ثمّ أخرج من جيبه قطعة جلد كهيئة طرف الحراب فكتب فيها:( بسم الله الرحمن الرحيم * أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُوا النّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيّتُ اللّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ... ) (1) إذا قرأت كتابي هذا فاحتفظ بما في يديك من عملنا حتّى يقدم عليك من يقبضه منك والسلام، فأخذته منه والله ما ختمه بطين، ولا حزمه بحزام، فقرأته.

فقال لها معاوية: لقد لـمّظكم ابن أبي طالب الجرأة على السلطان، فبطيئاً ما تفطمون، ثمّ قال: اكتبوا لها بردّ مالها والعدل عليها. قالت: ألي خاصة أم لقومي عامّة؟! قال: ما أنت وقومك؟ قالت: هي إذن والله الفحشاء واللؤم، إن كان عدلاً شاملاً وإلاّ أنا كسائر قومي قال: اكتبوا لها ولقومها(2) .

____________________

(1) سورة هود الآيات 85 - 86.

(2) التذكرة الحمدونية، ج2 ص20.

٢٧٠

فقولها واصفةً حال قومها تحت وطأة بسر: (يدوسنا دوس البقر ويسومنا الخسيسة) غنيٌ عن التعليق لدلالته الواضحة على نصيب الذلّ الذي ساقه معاوية لهم على يد بسر بن أرطاة، وأحياناً يستيقظ الضمير عند بعض عمّال معاوية فيعترف بشدّته على الاُمّة كما فعل أخوه عتبة. رقي عتبة في مرض موته فقال: يا أهل مصر قد تقدّمت لي فيكم عقوبات كنت يومئذ أرجو الأجر فيها، وأنا اليوم أخاف الوزر عليّ منها، فليتني لم أكن اخترت دنياي على معادي، ولم أصلحكم بفسادي، وأنا أستغفر الله منكم وأتوب إليه فيكم، ولقد هلك من شقي بين عفو الله ورحمته ...(1)

وتوبة الذئب هذا على وزن( حَتّى‏ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنّي تُبْتُ الآنَ ... ) لأنّه عاد بعد أن عوفي إلى أشدّ ممّا كان عليه من ذي قبل. وهذه الصفحة المعتمة من سياسة معاوية للاُمّة هي التي أوقفت حركة الجهاد والفتح، وتركت الاُمّة منشغلة بنفسها عمّا أعدّت له من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

أجل، هناك فتح بسيط جدّاً جرى على يد معاوية وهو فتح قبرص والواقع أنّ قبرص هانت على الروم بعد ضياع سوريا من أيديهم فتركوها من غير حامية وانحازوا عنها إلى مواقع أكثر استراتيجية منها من ثمّ كانت لمعاوية لقمة سائغة فانقضّ عليها واستولى على أراضيها دونما أدنى مقاومة. وأمّا ما قيل من غزوة عاصمة الروم الشرقيّة فإنّها كانت مناورة منه لشغل ولي عهده المرتقب (يزيد) عمّا انغمس فيه من اللعب والقصف والفساد، وليظهر للاُمّة قدراته الحربية، فكان بحمد الله غير موفّق، ولم يكن من رأيه ذلك، ولكن أشار عليه زياد به ليخفي يزيد في أعماق الثغور عن عيون منتقديه.

وكان بعض الفتوح قام به جملة من عمّاله على الحدود الشرقيّة من البلاد، ولم تكن فتحاً بالمعنى المألوف للفتح، بل هي في الواقع دفاعات لابدّ منها لصدّ حملات المغيرين من أهل البلاد المفتوحة أو ثورات أبنائها التي نائت بثقل ما حملت من حكم معاوية. وهذا كلّه حاك عن ضعف الاُمّة، حيث أنّ الاُمّة الذليلة المرهقة والخانعة لحكّامها والخائفة من قسوتهم وإرهابهم ليست من الجهاد ولا الجهاد منها.

____________________

(1) التذكرة الحمدونية، ج4 ص125.

٢٧١

السمة الحادية عشرة: تأصيل العقد بين الناس

جاء في عهد الإمام أميرالمؤمنينعليه‌السلام لمالك الأشتررضي‌الله‌عنه : اطلق عن الناس عقدة كلّ حقد، واقطع عنهم سبب كلّ وتر ...(1)

من البديهي لنجاح الحكم أن يترفع الحاكم فيه عن صفات العامة والسوقة بخاصة بعد انتصاره في معارك الحكم. أمّا معاوية فجهاز آخر من الناس فما كاد يضع رجله في ركاب الحكم حتّى أغرق الناس في لجّة عارمة من الحقد والثار والعقد. وصارت قضايا وقعت في الجاهليّة تستحضر في ملكه ويُعامل أطرافها على أساس أخذ الثأر. وأقلّ ما كان يفعله مع هؤلاء تذكيرهم بمواقفهم ثمّ حرمانهم من حقوقهم المشروعة وعزلهم عن فئات الشعب لأنّهم ثأره ومرتع حقده وموبىء عقده.

كتب معاوية إلى زياد: اعزل حريث بن جابر فإنّي ما أذكر فتنة صفّين إلاّ كانت حزازة في صدري. فكتب إليه: خفّض عليك يا أميرالمؤمنين فقد بسق حريث بسوقاً لا يرفعه عمل ولا يضرّه عزل(2) . وهو إن وجد لحرب صفّين حزازة في صدره فما أيّامها ببعيدة عنه ولا عارها ممّا ينسىء ولكن ما بال ثأر الجاهلية لا زال يعاوده ويلحّ عليه.

المدائني عن محمّد بن علي بن الحكم قال: حضر ناجذ بن شمرة ووائلة بن الأسقع الكناني باب معاوية فقال معاوية لآذنه وهو أبو أيّوب يزيد مولاه: ايذن لناجذ فأذن له فمنعه وائلة ووائلة أحد بني ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وناجذ أحد بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة. فدخل الآذن فأعلم معاوية فأمره أن يدخلهما معاً، فقال وائلة: يا أميرالمؤمنين لم أذنت لهذا قبلي ولي صحبة برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولي سنّ عليه؟ قال معاوية: إنّي وجدت برد أسنانك بين ثديي ووجدت كفّ هذا تدفع ذلك البرد يعني يوم الفجار الذي كان بسبب البرّاض وهو يوم نخلة. فقال: يا معاوية أبثأر الجاهلية تطالبني؟! أفلا أخذت الذي قال:

____________________

(1) مغنيه، في ظلال نهج البلاغة، ج4 ص53.

(2) التذكرة الحمدونية، ج2 ص26.

٢٧٢

أغرّك أن كانت لبطنك عكنة

وإنّك مكفي بمكة طاعم

فقال معاوية:

إذا جاءك البكري يحمل قُصبة

فقل قُصب كلب صاده وهو نائم

فقال وائلة:

فما منع العير الضروط ذماره

ولا منعت مخزاة والدها هند

فقال معاوية: سوءة أجهلتنا وأجهلناك وأسأنا إليك ولنا المقدرة عليك. ارفع إلينا حوائجك فقضاها ووصله(1) .

وما فتىء يحمل لرجالات الاُمّة وأعيانها قلباً مشيحاً ونفساً مريضة جرّاء مواقف كانت منهم تجاه معاوية لم يرضها في حرب أو سلم، ولكنّه إذا خلى إليهم نافقهم وأظهر رضاه عنهم وأعجابه بهم.

كتب إلى زياد: انظر رجلاً يصلح لثغر الهند نولّهِ. فكتب إليه زياد: إنّ قبلي رجلين يصلحان لذلك الأحنف بن قيس وسنان بن سلمة، فكتب معاوية بأيّ يومي الأحنف نكافئه: ألخذلان اُمّ المؤمنين أم بسعيه علينا يوم صفّين؟ فوجّه سناناً فكتب إليه زياد: إنّ الأحنف قد بلغ من الشرف والسؤدد ما لا ترفعه الولاية ولا بضعه الغرل(2) .

وكان قد ذكر الأحنف ذات يوم مقامه بصفّين فأغلظ له الأحنف فقال: والله إنّ القلوب التي أبغضناك بها لبين جوانحنا وإنّ السيوف التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا، ولئن مددت بشبر من غدر لنحدّن بباع من محتد ولئن شئت لتستصفينَّ كدر قلوبنا بصفو حلمك قال: فأنّي أفعل(3) .

ولكنّه لم يفعل بل ظلّ يحمل بين جوانحه حقداً أسود ما برح يعتاده كلّما تذكّر موقفاً من مواقفهم يوم صفّين أو غيره ولم تصفو نفسه الجاهليّة على أحد وما إصراره على لعن الإمامعليه‌السلام إلاّ جزء من هذا التأصيل الذي حاول معاوية أن يجعله سائداً في زمانه وما بعده وهو بهذا يهدف إلى غايتين: الأولى حمل الاُمّة على

____________________

(1) أنساب الأشراف، ج5 ص82 - 83.

(2) التذكرة الحمدونية، ج2 ص27.

(3) الآبي، نثر الدر، ج5 ص64.

٢٧٣

التنكر لقيمها الفاضلة المجسّدة في أهل الفضل من رجالها لتتمَّ له السيطرة عليها وذلك حين تضعف عندها حاسة التمييز بين الخير والشر ومن ثمّ تختلط الصور في ذهنها فتضع كلّ واحدة من هاتين القيمتين مكان الاُخرى.

الثانية: التشفّي وإدراك الثأر الذي تنزع إليه نفسة تأثراً برواسب جاهليته الاُولى من أعدائه القدامى الذين قتلوا أسلافه، وهزموه في معارك أدّت إلى قلع جذور جاهليّته وخضد شجرته الملعونة، فهو وإن اكتفأ الإناء وحده واحتاش الثمرة لنفسه إلاّ أنّ لاعج الضغينة لا يهدأ من روحه الخبيثة حتّى يستأصل عدوّه وجوداً ويمحو ذكره الحسن الذي تستلزمه المثل العليا الدائرة في المجتمع المسلم آنذاك. ويمكن أن تشكّل هذه الغاية جزء العلّة الأكبر في إصراره الجنوني على لعن الإمام أميرالمؤمنين وأنصاره وخلّص أصحابه وأولاده.

جلس معاوية يوماً وعنده وجوه الناس وفيهم الأحنف إذ دخل رجل من أهل الشام فقام خطيباً وكان آخر كلامه أن لعن عليّاًعليه‌السلام ، فأطرق الناس وتكلّم الأحنف فقال: يا أميرالمؤمنين إنّ هذا القائل آنفاً ما قال لو علم أنّ رضاك في لعن المرسلين للعنهم فاتّق الله ودع عليّاً، فلقد لقي الله وأفرد في حفرته وخلا بعمله وكان والله ما علمنا المبرّز بسيفه، الطاهر في خلقه، الميمون النقيبة، العظيم المصيبة.

فقال معاوية: يا أحنف لقد أغضيت العين على القذى، وقلت بغير ما ترى، وأيم الله لتصعدنّ المنبر فتلعننّه طائعاً أو كارهاً. قال الأحنف: إن تُعفني فهو خير، وإن تجبرني على ذلك فوالله لا تجري به شفتاي. قال: قم فاصعد. قال: أما والله لأنصفنّك في القول والفعل. قال معاوية: وما أنت قائل إن أنصفتني؟ قال: أصعد فأحمد الله بما هو أهله واُصلّي على نبيّه ثمّ أقول:

أيها الناس، إنّ معاوية أمرني أن ألعن عليّاً ألا وإنّ عليّاً ومعاوية اختلفا واقتتلا وادّعى كلّ واحد منهما أنّه مبغي عليه وعلى فئته فإذا دعوت فأمّنوا يرحمكم الله، ثمّ أقول: اللهمّ العن أنت وملائكتك وأنبياءك ورسلك وجميع خلقك الباغي منهما على صاحبه والعن الفئة الباغية على الفئة المبغي عليها آمين ربّ العالمين. فقال

٢٧٤

معاوية: إذن نعفيك يا أبا بحر(1).

وطبع معاوية أخبث طبع عرف لحدّ الآن وما كان الله سبحانه ليجعل عدوّ الحق والخير على شيء من الصفات الحسنة. ولا يمكن أن يكون صاحب هذا الطبع إلاّ حسوداً حقوداً.. وما نسب إليه من خلّة الحلم لا تعدو أن تكون تصنّعاً، أو كظمأ لحالة التفريغ بناءاً على ظرف خاص زامن تلكم الحالة وسوف نتحدّث بشيء من التفصيل عن هذا الحلم الموهوم المنسوب إليه وهو أبعد خلائق الله عنه.

وفد ابن أبي محجن على معاوية فقام خطيباً فأحسن فحسده فأراد أن يكسره فقال: أأنت الذي أوصاك أبوك بقوله:

إذا متُّ فادفنّي إلى أصل كرمة

تروّي عظامي بعد موتي عروقها

ولا تدفننّي في الفلاة فإنّني

أخاف إذا ما متُّ أن لا أذوقها

فقال: بل أنا الذي يقول أبي:

لا تسأل الناس ما مالي وكثرته

وسائل الناس ما جودي وما خلقي

أعطي الحسام غداة الروع حصّته

وعامل الرمح أرويه من العلق

ويعلم الناس أنّي من سراتهم

إذا سما بصر الرعديدة الفرق

وأطعن الطعنة النجلاء عن عُرُص

وأكتم السرّ فيه ضربة العنق(2)

وكان يناصب الأحنف ابن قيس العداء في السرّ وإنّ تملّقه في العلانية. كتب عبيدالله بن زياد إلى معاوية يستشيره في تولية الأحنف بن قيس السند، فأجابه معاوية: بأيّ أيّامه يستحقّ ذلك؟ أبخذلانه أميرالمؤمنين يوم الجمل - كذا هي والصحيح اُمّ المؤمنين -؟ أم بقتاله يوم صفّين؟ أم بمشورته على علي يوم صفين بأمر الحكمين؟ اضرب عنه(3) .

وكان يوصي ابن زياد والأحنف حاضر به وسعى لإصلاح ما فسد بينه وبين ابن زياد وهذا نفاق رخيص كان معاوية يجيده، وما ضمّه واحد أعدائه القدامى

____________________

(1) الآبي، نثر الدر، ج5 ص55.

(2) التذكرة الحمدونية، ج2 ص468.

(3) البصائر والذخائر، ج1 ص235.

٢٧٥

مجلس إلاّ وأثار في وجهه دفائن الماضي.

دخل أبوالطفيل عامر بن وائلة الكناني على معاوية فقال له: أنت من قتلة عثمان؟ قال: لا ولكنّي ممن حضره فلم ينصره. قال: وما منعك من نصره؟ قال: لم ينصره المهاجرون والأنصار. قال معاوية: لقد كان حقّه واجباً، وكان يجب عليهم أن ينصروه. قال: فما منعك من نصرته يا أميرالمؤمنين ومعك أهل الشام؟ قال: أو ما طلبي بدمه نصرة له؟ فضحك عامر فقال: أنت والله وعثمان كقوله:

لا أعرفنّك بعد الموت تندبني

وفي حياتي ما زوّدتني زادي

فقال معاوية: دع هذا عنك وقل لي: ما بقّاه الدهر من ثكلك على علي بن أبي طالب؟ فقال: ثكل العجوز المقلاة والشيخ الرقوب. قال: فكيف حبّك له؟ فقال: حبّ اُمّ موسى لموسى وإلى الله أشكو التقصير.

ولما أخذ أهل الكوفة بالبيعة لم يرضها منهم إلاّ بإضافة بند جديد وهو البرائة من الإمامعليه‌السلام لعلمه بهوى أهل الكوفة فيه. ذكر الآبي أنّ معاوية جلس بالكوفة يبايع على البرائة من عليعليه‌السلام ، فجاء رجل من بني تميم فأراده على ذلك، فقال: يا أميرالمؤمنين نطيع أحياءكم ولا نتبرّء من موتاكم، فالتفت إلى المغيرة فقال: إنّ هذا رجل فاستوص به خيراً(1) .

وتدنى حقده على الناس والأشراف منهم خاصة حتّى بلغ حدّ الدنائة فبينما هو يحرق الأرم حقداً على مخاطبه إذ سرعان ما هان واستكان وما عهد هذا الخلق الوضيع عن أحد ممّن آتاهم الله الملك إذ كانوا بين موقفين: العفو والصفح، أو الأخذ بالذنب وإنزال العقاب.

قال عبدالرزاق عن ابن عيينة: قال: قدم قيس بن سعد على معاوية فقال له معاوية: وأنت يا قيس تلجم عليّ مع من ألجم؟ أما والله لقد كنت أحبّ أن لا تأتيني هذا اليوم إلاّ وقد ظفر بك ظفر من أظافري موجع فقال له قيس: وأنا والله قد كنت كارهاً أن أقوم في هذا المقام فأحيبك بهذه التحية. فقال له معاوية: ولم؟ وهل أنت الأحبر من أحبار اليهود؟ فقال له قيس: وأنت يا معاوية كنت صنماً من أصنام

____________________

(1) الآبي، نثر الدر، ج5 ص205.

٢٧٦

الجاهليّة دخلت في الإسلام كارهاً وخرجت منه طائعاً. فقال معاوية: اللهمّ غفراً مدّ يدك، فقال له قيس: إن شئت زدت وزدت(1) .

وكان حقده يحرق القريب والبعيد، حتّى سعيد بن العاص وهو اموي من أرومته وجذمه ولكن تميّزت في شخصه صفات الأداري القدير المطاع فعاداه معاوية. دخل المسور على معاوية فقال له: كيف تركت سعيداً؟ فقال: عليلاً. قال: لليدين وللفم به لا بظبي بالصريمة اعفرا. قال: وعمرو بن سعيد صبيٌ يسمع قوله من ورائه فقال: إذن والله لايسد حفرتك ولا يزيد في رزقك ولا يدفع حتفاً عليك بل يفت في عضدك ويهيض ظهرك وينشر أمرك، فتدعو فلا تجاب وتتوعّد فلا تهاب.

فقال معاوية: أبا اُميّة أراك هاهنا إنّ أباك جارانا إلى غاية الشرف فلم نعلق بآثاره ولم نقم لمحضاره ولم نلحق بمضماره ولم ندن من غباره، هذا مع قوّة إمكان وعزّة سلطان وإنّ أثقل قومنا علينا من سبقنا إلى غاية شرف ...(2)

ومن عجيب أمره أنّه كان يتفوّه بكلمات تنطبق عليه أضدادها ويدّعي مقامات أثبتت سيرته نقائضها، من قبيل قوله لابنه وقد رآه ضرب غلاماً له: إيّاك يا بني والتشفّي ممّن لا يمتنع منك فوالله لقد حالت القدرة بين أبيك وبين ذوي تراثه ولهذا قيل: القدرة تذهب الحفيظة(3) .

وإن صحّ شيء من هذا القول في معاوية فهو قوله: حالت القدرة إلى آخره والواقع أنّها قدرتهم لا قدرته فما كان يسلم الضعيف من شرّه ونكاله حتّى ربّات الحجال اللواتي يأنف ذوو الهمم الشماء أن يتعرّضوا لهنّ بالإسائة وإن بدرت منهن بوادر مؤذيه أو حالات مؤسية، ولكن ابن هند انحى على من اشتركت في صفّين منهنّ باللائمه وقطع لهامن ذات نفسه تهديداً ووعيداً بخاصة الثابتة منهنّ على الولاء والمحبّة.

وأوفد معاوية الزرقاء بنت عدي بن غالب فقال لها: ألست راكبة الجمل الأحمر يوم صفين بين صفّين توقدين الحرب وتحضّين على القتال؟ فما حملك

____________________

(1) ابن كثير، البداية والنهاية، ج8 ص103.

(2) التذكرة الحمدونية، ج2 ص42 و138.

(3) التذكرة الحمدونية، ج2 ص42 و138.

٢٧٧

على ذلك؟ قالت: يا أميرالمؤمنين إنّه قد مات الرأس وبقي الذنب والدهر ذو غير ومن تفكّر أبصر والأمر يحدث بعده الأمر.

قال: صدقت فهل تحفظين كلامك يوم صفّين؟ قالت: ما أحفظه. قال: ولكنّي والله أحفظه لله أبوك سمعتك تقولين: أيها الناس، إنّكم في فتنة غشتكم جلابيب الظلم وجارت بكم عن قصد المحجة فيا لها من فتنة صمّاء، لا يسمع لقائلها ولا ينقاد لسائها. أيها الناس، إنّ المصباح لا يضيء في الشمس، وإنّ الكواكب لا تَقِدُ في القمر، وإنّ البغل لا يسبق الفرس، وإنّ الزفّ - صفير الريش - لا يوازن الهجر ولا يقطع الحديد إلاّ الحديد، ألا من استرشدنا أرشدناه، ومن استخبر أخبرناه، إنّ الحقّ كان يطلب ضالّته فصبراً يا معشر المهاجرين والأنصار، فكأنّ قد اندمل شعب الشتات والتأمت كلمة العدل وغلب الحقّ باطله فلا يعجلنّ أحد فيقول كيف وأنّى وليقض الله أمراً كان مفعولا. ألا إنّ خضاب النساء الحناء وخضاب الرجال الدماء، والصبر خير في الأمور عواقباً، إلى الحرب قدماً غير ناكصين فهذا يوم له ما بعده.

ثمّ قال معاوية: والله يا زرقاء لقد شركت علياً في كلّ دم سفكه. فقالت: أحسن الله بشارتك يا أميرالمؤمنين وأدام سلامتك مثلك من بشّر بخير وسرّ جليسه. قال لها: وقد سرّك ذاك؟ قالت: نعم والله، لقد سرّني قولك، فأنّى بتصديق الفعل؟ فقال معاوية: والله لوفاءكم له بعد موته أحبّ إليّ من حبّكم له في حياته(1) .

وأعتقد أنّ في العبارة تغييراً في قوله: أحبّ، فما كان معاوية ليحبّ شيئاً يعزى إلى أميرالمؤمنينعليه‌السلام وأغلب الظنّ أنّها أعجب.

وأوفد اُمّ الخير بنت الحريش البارقيّة ومعنى أوفد هنا أي استقدمها للإعتقال والمحاكمة، فما كان ليعف عن النساء بعد أن استئصل الرجال واُوتي الحكم لمشيئة ربّانية الله أعلم بالغاية منها، فقال لها: كيف كان كلامك يوم قتل عمّار بن ياسر؟ قالت: لم أكن والله روّيته قبل ولا دوّنته وإنّما كانت كلمات نفثهنّ لساني حينالصدمة فإن شئت أن أحدث لك مقالاً غير ذلك فعلت. قال: لا أشاء ذلك، ثمّ التفت إلى أصحابه فقال: أيّكم حفظ كلام اُمّ الخير؟ قال رجل من القوم: أنا أحفظه يا

____________________

(1) الآبي، نثر الدر، ج4 ص79 و80.

٢٧٨

أميرالمؤمنين كحفظي سورة الحمد. قال: هاته.

قال: نعم، كأنّي بها يا أميرالمؤمنين في ذلك اليوم وعليها برد زبيدي كثيف الحاشية وهي على جمل أرمك وقد اُحيط حولها وبيدها سوط منتشر الضفيرة وهي كالفحل يهدر في شقشقته تقول: يا أيها الناس اتّقوا ربّكم إنّ زلزلة الساعة شيء عظيم، إنّ الله قد أوضح الحقّ وأبان الدليل ونور السبيل ورفع العلم، فلم يَدَعْكم في عمياء مبهمة ولا سوداء مدلهمّة، فإلى أين تريدون رحمكم الله؟ أفراراً عن أميرالمؤمنين أم فراراً من الزحف أم رغبة عن الإسلام أم ارتداداً عن الحق؟ أما سمعتم الله عزّوجل يقول:( وَلَنَبْلُوَنّكُمْ حَتّى‏ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبَارَكُمْ ) (1) ؟ ثمّ رفعت رأسها إلى السماء وهي تقول: اللهمّ قد عيل الصبر وضعف اليقين وانتشرت الرعيّة وبيدك يا ربّ أزمّة القلوب فاجمع إليه كلمة التقوى وألّف القلوب على الهدى، وأردد الحقّ إلى أهله، هلمّوا رحمكم الله إلى الإمام العادل والوصي الوفي والصدّيق الأكبر، إنّها أحن بدريّة وأحقاد جاهليّة وضغائن أحديّة وثب بها معاوية حين الغفلة ليدرك بها ثارات بني عبد شمس.

ثمّ قالت:( فَقَاتِلُوا أَئِمّةَ الْكُفْرِ إِنّهُمْ لاَأَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلّهُمْ يَنتَهُونَ ) (2) صبراً معشر المهاجرين والأنصار، قاتلوا على بصيرة من ربّكم وثبات من دينكم، فكأنّي بكم غداً قد لقيتم أهل الشام كحمر مستنفرة فرّت من قسورة لا تدري أين يسلك بها من فجاج الأرض، باعوا الآخرة بالدنيا واشتروا الضلالة بالهدى وباعوا البصيرة بالعمى وعمّا قليل ليصبحنّ نادمين، تحلّ بهم الندامة فيطلبون الإقالة، إنّه والله من ضلّ عن الحقّ وقع في الباطل ومن لم يسكن الجنّة نزل النار.

أيها الناس، إنّ الأكياس استقصروا عمر الدنيا فرفضوها، واستبطئوا الآخرة فسعوا لها، والله أيّها الناس لولا أن تبطل الحقوق، وتعطّل الحدود، ويظهر الظالمون، وتقوى كلمة الشيطان، لما اخترنا ورد المنايا على خفض العيش وطيبه، فإلى أين تريدون رحمكم الله عن ابن عمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وزوج ابنته وأبي ابنيه؟

____________________

(1) سورة محمّد الآية 31.

(2) سورة التوبة الآية 12.

٢٧٩

خلق من طينته وتفرّع من نبعته وخصّه بسرّه وجعله باب مدينته وعلم المسلمين وأبان ببغضه المنافقين، فلم يزل كذلك يؤيّده الله عزّوجل بمعونته ويمضي على سنن استقامته لا يعرج لراحة الدار، ها هو مغلق الهام ومكسّر الأصنام إذ صلّى والناس مشركون وأطاع والناس مرتابون، فلم يزل كذلك حتّى قتل مبارزي بدر وأفنى أهل اُحد، وفرّق جمع هوازن فيا لها من وقايع زرعت في قلوب قوم نفاقاً وردّة وشقاقاً، قد اجتهدت في القول وبالغت في النصيحة وبالله التوفيق، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

فقال معاويه: يا اُمّ الخير ما أردت بهذا الكلام إلاّ قتلي ووالله لو قتلتك ما حرجت في ذلك. قالت: والله ما يسوءني يابن هند أن يجري الله ذلك على يدي من يسعدني بشقائه. قال: هيهات يا كثيرة الفضول.. ما تقولين في عثمان بن عفّان؟ وقالت:وما عسيت أن أقول فيه؟ استخلفه الناس وهم كارهون، وقتلوه وهم راضون. فقال معاوية: إيهاً يا اُمّ الخير، هذا والله أصلك الذي تبنين عليه. قالت:( لكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى‏ بِاللّهِ شَهِيداً ) (1) ما أردت لعثمان نقصاً، ولقد كان سبّاقاً إلى الخيرات وإنّه لرفيع الدرجات. قال: فما تقولين في طلحة بن عبيدالله؟ قالت: وما عسى أن أقول في طلحة؟ اُغتيل من مأمنه، وأُتي من حيث يحذر، وقد وعده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الجنّة.

قال: فما تقولين في الزبير؟ قالت: يا هذا، لا تدعني كرجيع الضبع، يُعرك في المركن. قال: لتقولين ذلك وقد عزمت عليك. قالت: وما عسيت أن أقول في الزبير ابن عمّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحواريه؟ وقد شهد له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالجنّة، ولقد كان سبّاقاً إلى كلّ مكرمة من الإسلام وإنّي أسألك بحقّ الله يا معاوية فإنّ قريشاً تحدث إنّك من أحلمها، فأنا أسألك بأن تسعني بفضلك وأن تعفيني من هذه المسائل وامض لما شئت من غيرها. قال: نعم وكرامة قد أعفيتك وردّها مكرمة إلى بلدها(2) .

بهذه السياسة الحاقدة والأساليب المرتكزة على عقد الضغائن حكم الاُمّة

____________________

(1) سورة النساء الآية 166.

(2) الآبي، نثر الدر، ج4 ص79 إلى آخره.

٢٨٠