الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية 0%

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 377

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمد شعاع فاخر
تصنيف: الصفحات: 377
المشاهدات: 111598
تحميل: 12206

توضيحات:

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 377 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 111598 / تحميل: 12206
الحجم الحجم الحجم
الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

الحكم والأخلاق في منطق الثورة الحسينية

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أكلها على يد عثمان إلى أن أضفت عليها سياسة نعثل ووزيريه مروان والوليد وغيرهم من الشجرة الملعونة بشاعة السحنة الأموية.

الحكم الأموي

اعتبر مجيء عثمان إلى الحكم فرصة طيبة لأعداء الإسلام القدامى الذين سعروا الجزيرة العربية حرباً عليه وصيّروها سجالا إلى أن نصره الله عليهم ورد كيدهم في نحورهم على أن عثمان ليس بأفضل ممن جاء بعده لو لا ما كان يحذره من وجود المهاجرين والانصار ممن لا يرضيهم التغيير في سلوك الحكم المفاجئ.

لذلك نراه عمد إلى التغيير الحذر أي أنّه وبني أبيه راحوا يُغيّرون في سياستهم ببطئ فظلوا قرابة ست سنوات يتهادون في أحضان الشهوات والفساد وفي كل خطوة يخطوها حكمهم إلى الوراء يتم نقض جانب من معالم البناء الخلقي للمجتمع الإسلامي.

وأوشك البناء أن ينهار من القاعدة ولكن الثورة الشعبية على عثمان تداركته وخلصت الاُمة من عثمان وحزبه.

خلا أن هذا الخلاص، لم يتمّ بالشكل المطلوب جماهيريّاً لوجود مواقع في بلاد الإسلام لم تنق من بُؤر الفساد الذين أعانوا عثمان ورتعوا معه. مما حُتم على الإمام أميرالمؤمنينعليه‌السلام أن يخوض حروب الناكثين والقاسطين والمارقين وكانت من أشد الحروف ضراوة.

بخاصة تلك التي خاضها الإمام ضد الحثالة الاُموية ولم يتسنّ للإمام على إثر هذه الحرب الشاغلة أن يطهر الإسلام مما علق به من أوضار الحكم العثماني الاُموي.

فرحل شهيداً وما تزال القوى المعادية للإسلام تعيث فساداً في بلاد الله وعباده.

وبدأت الحقبة الأموية التي استمدت شرعيتها من خلافة الثلاثة وهي امتداد طبيعي لتلك الفترة بخاصة فترة الحكم العثماني.

اعرب عن ذلك معاوية في كتابه إلى محمد بن أبي بكررضي‌الله‌عنه جواباً على كتابه

٨١

إليه فقد كتب إليه محمد عليه الرحمه يؤنبه ويقرعه تقريعاً شديداً ويقول له: بعد ذكره لفضل الإمام وسابقته ووجوب حقه على الاُمة أول من أجاب وأناب وآمن وصدق واسلم وسلم أخوه وابن عمه علي بن أبي طالب صدّقه بالغيب المكتوم وآثره على كل حميم ووقاة بنفسه كل هول وحارب حربه وسالم سلمه فلم يبرح مبتذلاً لنفسه في ساعات الليل والنهار والخوف والجوع والخضوع حتى برز سابقاً لا نظير له في فعله وقد رأيتك تساميه وأنت أنت وهو هو. اصدق الناس نية وأفضل الناس ذرية وخير الناس زوجة وافضل الناس ابن عم أخوه الشاري بنفسه يوم مؤته وعمه سيد الشهداء يوم أحد وأبوه الذاب عن رسول الله وعن حوزته وأنت اللعين ابن اللعين لم نزل أنت وأبوك تبغيان لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الغوائل وتجهدان في اطفاء نور الله تجمعان في ذلك الجموع وتبذلان فيه المال وتؤلبان عليه القبائل وعلى ذلك مات أبوك وعليه خلفنه......(1)

فأجابه معاوية بكتاب طويل وفيه: فقد كنا وأبوك فينا نعرف فضل أبي طالب وحقه لازماً لنا مبروراً علينا فلما اختار الله لنبيّه عليه الصلاة والسلام ما عنده وأتم له ما وعده وأظهر دعوته وابلج حجته وقبضه الله إليه صلوات الله عليه فكان أبوك وفاروقه أول من ابتزه حقه وخالفه على أمره على ذلك اتفقا واتسقا ثمّ إنهما دعواه إلى بيعتهما فابطأ عنهما وتلكأ عليهما فهما به الهموم وأرادا به العظيم(2) ثم إنّه بايع لهما وسلّم لهما وأقاما لا يشركانه في أمرهما ولا يطلعانه على سرّهما حتى قبضهما.. الله إلى أن يقول: فإن يكُ ما نحن فيه صواباً فأبوك استبدّ به ونحن شركائه ولو لا ما فعل أبوك من قبل ما خالفنا ابن أبي طالب ولسلمنا إليه ولكنا رأينا أباك فعل ذلك به من قبلنا فاخذنا بمثله فعب أباك بما بدالك أودع .....(3) أجل كان معاوية فيما قاله عن أبي بكر وفاروقه محقاً فهما اللذان فتحا باب الشر على أهل البيت فاقتدى بهما من اقتدى.

اسس السابقون شر اساس

وبنى اللاحقون شر بناء

____________________

(1) المسعودي، مروج الذهب، ج3 ص11.

(2) وهذا يدلّ على أنّهما اضمرا لعليعليه‌السلام الاغتيال كفعلهما بسعد بن عبادةرحمه‌الله .

(3) المسعودي، مروج الذهب، ج3 ص12 وص13.

٨٢

فلا أرى لقول السيد ابن عقيل وجهاً مقبولاً حين قال تعقيباً على كتاب محمد لمعاويه: فما كان جواب معاوية إلاّ أن ادّعى أن الشيخين أبابكر وعمر سبقاه إلى ما اقترف وأنه متاس بهما وحاشاهما ممّا ادّعى فقد كذب عليهما ولعنة الله على الكاذبين(1) .

ولا أظن السيدرحمه‌الله ينكر ما جره القوم على علي وأهل بيته يوم السقيفة وليس بالإمكان إنكار ذلك ولا نلوم السيد على حسن ظنه بهما فله رأيه الخاص.

واستطاع معاوية أن يركز على هذا الجانب تركيزاً دعائياً ضخماً إلى أن أوجد له مباءة بين القوم فاضحى وكأنّه امتداد لخلافتهم ومن هذه القاعدة التي بناها لنفسه اندفع بكل ثقلة وورائه قريش والأموية لتغيير القيم الأخلاقية للجماعة الإسلامية وهي القيم التي نادى بها الإسلام وأقرّها كجزء لا ينفصل من رسالة الإسلام الكبرى وبما أن الرعية على دين ملوكها والناس بأمرائهم اشبه منهم بآبائهم فقد صار المجتمع بمثابة المرآة التي تعكس أخلاق وسلوكيّات الحكم والآن نحن على موعد للتعرف على طبيعة الحكم الأموي من خلال رمزيهِ معاوية ويزيد.

الحكم الاموي معاوية ويزيد وتدهور الأخلاق على أيديهما

طمع معاوية بالحكم بعد مجيء عثمان إليه واعتبره تمهيداً لحكمه القادم مع الأيام وكان يبوح احياناً ببعض ما دار بخلده حول هذا لمعنى فقد روى أبوبكر ابن أبي شيبة بسنده إلى معاوية أنّه قال ما زلت أطمع في الخلافة منذ وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا ملكت فاحسن(2) .

فكان يعد نفسه للخلافة موجهاً بموجات هذا الطمع وأوقد له عمر تحت هذا الطمع بالتدبير الذي اتخذه لتنحية علي وضمان مجئ عثمان إلى الخلافة ألم معاوية بذلك حين نفذ إلى دخيلة عمر فعلم أنّ هواه أموي مع أنّه كان يقول لعبد الرحمن بن

____________________

(1) محمد بن عقيل، النصائح الكافية، ص42.

(2) ابن حجر الهيثمي، تطهير الجنان واللسان، ص15، المطالب العالية، ج4 ص108.

٨٣

عوف: ألم يكن فيما نقرأ قاتلوا في الله في آخر مرة كما قاتلتم أول مرة قال: متى ذلك قال إذا كانت بنو امية الأمراء وبنو مخزوم الوزراء(1) يروي هذا عنهم ويمدّ لهم في الطغيان إنّ هذا لشيء عجيب ويراهم في الشرف تلو بني هاشم لأنّه ثنّى بهم بعد وضع الديوان فقد بدأ ببني هاشم والمطلب فاعطاهم جميعاً ثمّ اعطى بني عبد شمس(2) واعتقد أن هناك علاقة سرية بينه وبينهم تقدّمت اسلامه.

وقيل إن عمر تعلم القرائة والكتابة على يد أبي سفيان من هنا ما زال عمر يشعر بفضله وتقدمه عليه حتى بعد أن اسلم.

عن يحيى بن عبدالرحمن بن حاطب عن أبيه قال: قدمنا مكة مع عمر فأقبل أهل مكة يسعون يا أميرالمؤمنين أبو سفيان حبس مسيل الماء علينا ليهدم منازلنا فاقبل عمر ومعه الدرة فإذا أبوسفيان نصب أحجاراً فقال له: ارفع هذا فرفعه وهذا فرفعه ثم قال: وهذا وهذا حتى رفع احجاراً خمسة أو ستة ثم استقبل عمر الكعبة فقال: الحمدلله الذي جعل عمر يأمر أباسفيان فيطيعه وهذا يدلّ على تصاغر الرجل في نفسه أمام أبي سفيان ولم يكن أبو سفيان في الجاهلية بالمنزلة التي يهابه الناس أو يعظمونه ولكنّ حالة خاصة في نفس عمر تجاه الأمويين قد يفصح عنها الزمان على يد المحققين.

تعلقت سياسة عمر بالأمويين وأنّه ليعلم أن لاكفاء بغيرهم في عداء علي والهاشميين لذلك والاهم ووالوه ووراء هذا الولاء السياسي قوىً ضاربة من قريش واحلافها.

وكان رصيد معاوية في طمعه بالحكم هذا الولاء وكان بامكانه الركون إليه والاتكال عليه فيما إذا ساعدته الريح وأدار شراع سفينته تجاه الحكم والذي حمل معاوية على الأسراف في هذا الحلم الذهبي هو طول امارته على الشام.

البلد الخصب ذي الحضارة القديمة والرخاء العتيد فقد اعتبر ذلك مقدمة منتجة لنيل الخلافة بخاصة وقد أطمعه عمر فيها من خلال أقوال عزيت إليه وبلغ

____________________

(1) محمد بن عقيل، النصائح الكافية، ص140.

(2) ابن الجوزي، تاريخ عمر بن الخطاب، ص96.

٨٤

معاوية صداها وكان استشعرها في نفسه وعثمان ما يزال حياً.

وذلك حين قدم المدينة سنة أربع وثلاثين ووقف على مجريات الاحداث فعلم أن عثمان مقتول لا محالة.

ذكر ابن كثير نقلاً عن ابن جرير: أن معاوية استشعر الأمر لنفسه من قدمته هذه إلى المدينة وذلك أنه سمع حادياً يرتجز في أيام الموسم من هذا العام وهو يقول:

قد علمت ضوامر المطي

وضمّرات عوج العيني

أن الأمير بعده علي

وفي الزبير خلف رضي

وطلحة الحافي لها ولي

فلما سمعها معاوية لم يزل ذلك في نفسه حتى كان ما كان(1) وابن كثير هنا ذكر النص غامضاً بحذف شيء من تفصيله وذكره في الجزء الثامن تاماً قال وكيع عن الأعمش عن أبي صالح قال: كان الحادي يحدو بعثمان فيقول:

أن الأمير بعده علي

وفي الزبير خلف رضي

فقال كعب: بل هو صاحب البغلة الشهباء يعني معاوية فقال: يا ابا اسحاق تقول هذا وهاهنا علي والزبير وأصحاب محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال أنت صاحبها(2) . أترى أن كعباً اعلمه بعلم الغيب ولا يعلم الغيب إلاّ الله أم هي الأسرار العمرية التي رشحت إلى مستشاره كعب فاعلنها كبشارة تزف إلى معاوية.

وأحسب أن ابن كثير في روايته الناقصة يشير إلى أن معاوية ايقن بقتل عثمان فاضمر في نفسه العصيان على من يخلفه في الأمر ولكن الأمر أبعد من ذلك.

فقد عرف معاوية أن هوى الناس في عليعليه‌السلام وإن الحكم صائر إليه حتماً. من ثمّ راح يعيد حساباته مع الأحداث الماضية والمستجده.

واسترجع الأسرار المحوّلة إليه من ولي نعمه عمر ومنها تفويت الفرصة على علي إذا صار الأمر إليه وشن حرب على حكمه بأي ثمن كان ومن شديد عداء عمر لعلي أنّه كان يرتجف فرقاً إذا تصوّر البيعة تتم لعليعليه‌السلام .

____________________

(1) ابن كثير، البداية والنهاية، ج7 ص177.

(2) البداية والنهاية، ج8 ص129 وص130، والذهبي سير أعلام النبلاء، ج3 ص136.

٨٥

وكان يرضاها لكل أحد سالم مولى حذيفة بن اليمان ومعاوية وعثمان إلاّ لعليعليه‌السلام . وإنه ليعد تفويت الفرصة على علي من أولى همومه. ولقد سمع كلمة في خلافته عن البيعة انخلع لها لبه وطاش صوابه.

عن ابن عباس قال: كنت عند عبدالرحمن بن عوف في خلافة عمر بن الخطاب فلما كان في آخر حجة حجّها عمر أتاني عبدالرحمن بن عوف في منزلي عشاءاً فقال: لو شهدت أميرالمؤمنين اليوم وجاءه رجل وقال: يا أميرالمؤمنين إني سمعت فلاناً يقول: لو مات اميرالمؤمنين لبايعت فلاناً، فقال عمر إني لقائم العشيّة في الناس ومحذرهم هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغتصبوا المسلمين أمرهم فقلت: يا أميرالمؤمنين إن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغائهم وأنّهم الذين يغلبون على مجلسك وإني أخشى أن تقول اليوم مقالة لا يعونها ولا يضعونها مواضعها وأن يطيروا بها كل مطير ولكن أمهل يا أميرالمؤمنين حتى تقدم المدينة فإنّها دار السنة ودار الهجرة فتخلّص بالمهاجرين والأنصار وتقول ما قلت متمكناً فيعون مقالتك ويصغونها مواضعها قال عمر: أما والله لأقومن به في أول مقام أقومه بالمدينة قال ابن عباس: فلما قدمنا المدينة وجاء يوم الجمعة هجّرت لما حدثني به عبدالرحمن بن عوف فوجدت سعيد بن زيد ابن نفيل قد سبقني بالهجرة جالساً إلى جنب المنبر فجلست إلى جنبه تمس ركبتي ركبته فلما زالت الشمس خرج علينا عمر فقلت وهو مقبل أما والله ليقولنّ اليوم أميرالمؤمنين على هذا المنبر مقالة لم يقل عليه أحد قبله قال: فغضب سعيد بن زيد فقال: واي مقال لم يقل قبله فلما ارتقى عمر المنبر أخذ المؤذن في أذانه فلما فرغ من أذانه قام عمر فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أما بعد! فإني أريد أن أقول مقالة قد قدّر لي أن أقولها لا أدري لعلها بين يدي أجلي فمن عقلها ووعاها فليحدث بها حيث تنتهي به راحلته، ومن خشي أن لا يعيها فإني لا أحل لأحد أن يكذب علي إن الله بعث محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالحق وأنزل عليه الكتاب وكان مما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها ووعيناها فرجم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورجمنا بعده وإني خائف أن يطول بالناس زمان فيقول قائل ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله.

ألا وإنّ الرجم على من أحصن إذا زنى وقامت عليه البينة أو كان الحمل أو

٨٦

الاعتراف ثم إنا كنا نقرأ ولا ترغبوا عن اباكم ثم إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لا تطروني كما اطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبدالله ورسوله.

ثم إنّه قد بلغني أن فلاناً منكم يقول: لو قد مات أميرالمؤمنين لقد بايعت فلاناً فلا يغتر أن يقول: إنّ بيعة أبي بكر كانت فلتتة فقد كانت كذلك ألا وإن الله وقى شرها ودفع عن الإسلام والمسلمين ضرّها ....(1) والذي يعنينا من هذا الكلام الذي نقلنا أكثره ذكر فلان وفلان فمن هما هذان الفلانان؟! لقد أبهم ابن حبان اسمهما في الرواية التي أخرجها لكي يلبس على نفسه وعلى قومه. أما نحن فلابدّ لنا من البحث لنقع على الحقيقة فمن خلال معرفتها نعرف الكثير من الاُمور ونطل على واقع الحق الضائع ولئن كان ابن حبان كتم الحقيقة فإن البلاذري صرّح بها في الرواية التي أخرجها عن ابن عباس قال: بلغني أنّ عمر بن الخطاب أراد الخطبة يوم الجمعة فعجّلت الرواح حين صارت الشمس صكّة عمي فلما سكت المؤذنون خطب فقال: إني قائل مقالة لا أدري لعلها قدام اجلي فمن وعاها فليتحدث بها حيث انتهت به راحلته ومن خشي أن لا يعقلها شيء فإني لا أحل لأحد أن يكذب علي ثم قال: بلغني أن الزبير قال: لو قد مات عمر، بايعنا علياً وإنما كانت بيعة أبي بكر فلتة ....(2)

عرفنا من رواية البلاذري الاسمين المبهمين فهما عليعليه‌السلام والزبير أجل علي والزبير. فما بال الشيخ تناولته الوساوس واستبدت به الهواجس وانتابه قلق وخوف شديدان؟ إنّ علياً عدوه اللدود يلوح له بالخلافة التي يريد عمر تقويتها عليه لتفوت بني هاشم أيضاً الذين لا ينبغي جمع النبوة والإمامة في بيتهم وهذه إرادة حتمتها عليهم قريش وعبّر عنها عمر في أقواله وسيرته مرات عديدة.

وفي موطن آخر يشير عمر إشارة شبه صريحه إلى دفع علي عن حقه وترك بيعته وذلك في حادثة الشورى لما طعنه غلام المغيرة بن شعبة فقد قال لأهل الشورى لا تختلفوا فإنّ معاوية وعمراً بالشام(3) .

ومعنى قوله لا تختلفوا أي لا تبايعوا علياً لعلمه أن قريشاً لا ترضى ببيعته فلو

____________________

(1) ابن حبان، كتاب الثقات، ج2 ص152.

(2) انساب الأشراف، ج2 ص261 وص262.

(3) نثر الدر، ج2 ص37.

٨٧

بويع لاختلفوا عليه حتماً يشهد لما نقول: قوله لابن عباس: يابن عباس أنت ابن عم رسول الله، وأبوك عم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: نعم قال بخ بخ فما منع قومكم منكم؟ قال: لا أدري فوالله ما كنا لهم إلاّ بالخير قال اللهم غفراً على كره قومكم أن تجتمع فيكم النبوة والخلافة فتذهبون في السماء شمخاً لعلكم تقولون إنّ أبابكر أول من فعل ذلك والله ما فعله ولكن حضر أمر لم يكن بحضرته أحزم مما فعل ولولا رأي أبي بكر فيّ لجعل لكم من الأمر نصيباً ولو فعل ما هنأكم مع قومكم أنهم ينظرون إليكم كما ينظر الثور إلى جازره(1) .

لعلّه لا يقصد بالثور غير بني امية لأنهم الذين جزرهم بنوهاشم في حروب الإسلام والشرك والعجيب في أمره أنّه يسمي الخلافة في رواية ألآبي حقاً لبني هاشم ويسميها في رواية ابن حبان اغتصاباً.

وعلى أية حال فإنّ الاختلاف في نظره ينشأ من بيعتهم علياً وليس من سبب يدعوهم إلى ذلك سوي البيعة لعلي وفي رواية اُخرى يقول: إياكم والفرقة بعدي فإن فعلتم فاعلموا أنّ معاوية بالشام وستعلمون إذا وكلتم إلى رأيكم كيف يستبرها دونكم.

وقال أيضاً لأهل الشورى: إن اختلفتم دخل عليكم معاوية بن أبي سفيان من الشام وبعده عبدالله بن أبي ربيعة من اليمن فلا يريان لكم فضلاً إلاّ سابقتكم(2) .

والحق أحق أن يتبع فنحن لا نتّهم الفاروق جزافاً لأنّ ذكره لمعاوية قرينة على طلبه اختيار عثمان فإن معاوية لا يدخل عليهم من الشام إذا ما بايعوه.

وأنّ الزمن اثبت صحة رأيه فقد دخل معاوية من الشام حين تمت لعليعليه‌السلام البيعة وحاربه وفوّت عليه الفرصة وهذا ما توخاه عمر.

____________________

(1) الآلي، نثر الدرر، ج2 ص28، الهيئة المصرية للكتاب 1981.

(2) ابن منظور مختصر تاريخ دمشق، ج25 ص25، دارالفكر 1409.

٨٨

 عمر ومعاوية

كان معاوية في نفسه أذل وأقل من أن تحدثه بسلطان أوامره لولافعل عمر معه وتأييده إياه وقد وصفه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه صعلوك لا مال له .....(1) وكان احياناً يتحدث عن هذه الصعلكة إذا ما خلا باصحابه.

قال ذات يوم قدم علقمة بن وائل الحضرمي على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأمرني رسول الله أن انطلق به إلى منزل رجل من الأنصار أنزله عليه وكان منزله في اقصى المدينة فانطلقت معه وهو على ناقة له وأنا أمشي في ساعة حارة وليس عليّ حذاء فقلت احملني يا عم من هذا الحر فإنه ليس عليّ حذاء فقال: لست من أرداف الملوك قلت: إني ابن أبي سفيان قال: سمعت رسول الله يذكر ذلك قال قلت: فألق إليّ نعلك قال: لا تقبلها قدماك ولكن امش في ظل ناقتي فكفاك بذلك شرفاً وإن الظل لك لكثير قال معاوية: فما مربى مثل ذلك اليوم قط .....(2)

وكان وائل هذا أحد أقيال حضر موت وكان أبوه من ملوكهم ويقال: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشر أصحابه قبل قدومه به وقال يأتيكم بقيّة ابناء الملوك فلما دخل رحب به وادناه من نفسه وقرب مجلسه وبسط له ردائه وقال اللهم بارك في وائل وولده وولد ولده واستعمله على الأقيال من حضر موت وكتب معه ثلاث كتب إلى أن قال ابن كثير: واقطعه ارضاً فليس كما يزعم معاوية أرسله لينزل وليس في رواية ابن كثير ذكر لأبي سفيان(3) وفي التذكرة الحمدونية مثل ذلك وفيها أن وائلاً قال لمعاوية حين طلب نعله: ما بخل يمنعني يابن أبي سفيان ولكن أكره أن يبلغ أقيال اليمن إنك لبست نعلي ولكن امش في ظل ناقتي فحسبك بها شرفاً .....(4) لم تكن لمعاوية مأثرة في الجاهلية يعتز بها وكان بهذه المثابة من الضعه والمهانة وتكفي في بيان حقيقته

____________________

(1) الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج3 ص122، الآبي نثر الدرر، ج1 ص251، التوحيدي / البصائر والذخائر، ج2 ص78.

(2) ابن قتيبة، عيون الأخبار، ج1 ص271.

(3) ابن كثير، البداية والنهاية، ج5 ص71 وص72.

(4) ابن حمدون، التذكرة الحمدونية، ج3 ص97، راجع ابن سعد، الطبقات، ج1 ص349.

٨٩

صعلكته التي أخبر عنها الصادق المصدقصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

إلا أنّ بزّة الحكم التي ارتداها في الإسلام بتدبير عمر صيّرته يتحدث عن عزة وشرف كانت له قبل الإسلام وزادت به ذكر الطبري حواراً دار بينه وبين ابن عامر وكان ابن عامر قد قال: لقد هممت أنّ آتي بقسامة من قريش يحلفون أن أبا سفيان لم يرسميه فبلغت زياداً فأخبر معاوية فاغضبته فلما جائه ابن عامر حجبه وخرج معاوية ورآه مع ابنه يزيد وبيد معاوية قضيب يضرب به الابواب ويتمثل:

لنا سياق ولكم سياق

قد علمت ذلكم الرفاق

ثم قعد فقال: يا ابن عامر أنت القائل في زياد ما قلت! أما والله لقد علمت العرب إني كنت أعزها في الجاهلية وإنّ الإسلام لم يزدني إلاّ عزاً وإني لم اتكثر بزياد من قلة ولم اتعزز به من ذلة ولكن عرفت حقاً له فوضعته موضعه ......(1)

وهذه العزّة التي تحدث عنها إلى إبن عامر عرفنا حقيقتها من خطاب وائل الحضرمي له.

وتعدّى معاوية بهذه العزة المدعاة حداً أن فخر بها ذات يوم على أميرالمؤمنينعليه‌السلام عن أبي عبيدة قال: كتب معاوية إلى عليعليه‌السلام يا أبا الحسن إنّ لي فضائل كثيرة وكان أبي سيداً في الجاهلية وصرت ملكاً في الإسلام وأنا صهر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخال المؤمنين وكاتب الوحي فقال علي: أبا لفضائل يفخر على ابن آكلة الأكباد؟ ثم قال: اكتب يا غلام:

محمد النبي أخي وصهري

وحمزة سيد الشهداء عمي

وجعفر الذي يمسي ويضحي

يطير مع الملائكة ابن امي

وبنت محمد سكنى وعرسي

منوط لحمها بدمي ولحمي

وسبطا أحمد ولداي منها

فايكم له سهم كسهمي

سبقتكم إلى الإسلام طرّاً

صغيراً ما بلغت أوان حلمي

فقال معاوية اخفوا هذا الكتاب لا يقرأه أهل الشام(2) .

____________________

(1) ابن جرير الطبري، تاريخ الرسل والملوك، ج5 ص215، وابن الاثير، الكامل، ج3 ص220.

(2) ابن كثير، البداية والنهاية، ج8 ص9.

٩٠

والحق أنّ معاوية لا شأن له سواء في الجاهلية أو الإسلام وإن كانت له عزة في الإسلام فهي كعزّة فرعون التي اغتربها السحرة أي هي عزة الملك والطغيان أجل في العصر العباسي حيث بلغ ظلم العباسيين رقماً قياسياً إلى ما عرف من ظلم الاُمويين.

تغيّرت السحنة الأموية المقيته عند الناس لما ذاقوه من ظلم وحيف على يد العباسيين وصار معاوية قديساً في عهد المعتضد يترحم عليه من العامة حدث العلاء بن صاعد قال: لمّا حمل رأس صاحب البصرة ركب المعتضد في جيش لم يُر مثله فاشتقّ اسواق بغداد والرأس بين يديه فلما صرنا بباب الطاق صاح قوم من درب من تلك الدروب رحم الله معاوية وزاد حتى علت أصواتهم فتغبّر وجهه وقال: أما تسمع يا أبا عيسى؟ ما أعجب هذا! ما ذكر معاوية في هذا الأمر؟ والله لقد بلغ أبي الموت وما أفلت أنا منه إلاّ بعد مشارفته ولقينا كل جهد وبلاء حتّى أرحناهم من عدوهم وحصّنا حرمهم وأموالهم تركوا أن يترحموا على العباس أو عبدالله بن العباس. أو من ولد من الخلفاء وتركوا الترحم على أميرالمؤمنين علي وحمزة وجعفر والحسن والحسين والله لا برحت أو أؤثّر في تأديب هؤلاء أثراً لا يعاودون بعده مثله.

ثم امر بجمع النفّاطين لتحريق الناحية فقلت أيها الأمير هذا من أشرف أيام الإسلام فلا تفسده بجهل غلمة لا خلاق لهم ولم أزل أداريه وارفق به حتى سار ....(1)

ونقول له والحقيقة معنا على أهلها جنت براقش إنّ ردّ الفعل هذا من أثر السياسة الخرقاء الظالمة التي ارتكبها العباسيون بحق الأمة.

دعوت على عمر فلما فقدته

وجاورت أقواماً بكيت على عمرو

ومهما كان الأمر فإن واقع معاوية لم يتغيّر من صعلوك إلى قدّيس وإن قذف الدهر الأمة بمثله أو بأدهى منه وأمر. بل لم تكسبه أمارته الطويلة العريضة معنىً أعظم مما هو فيه.

عن أبي سليم إنّ معاوية قال لأبي هريرة بن شماس الباهلي لقد هممت أن أحمل جمعاً من باهله في سفينة ثم أغرقهم! فقال أبو هوذة: إذن لا ترضى باهله بعدّتهم من بني امية! قال: اسكت أيها الغراب الابقع! وكان به برص فقال أبو هوذة:

____________________

(1) الآبي، نثر الدر، ج3 ص138.

٩١

إن الغراب الابقع ربما درج إلى الرخمة حتى يفقر دماغها ويقلع عينيها فقال يزيد بن معاوية: ألا تقتله يا أميرالمؤمنين؟ فقال مه! ونهض معاوية ثمّ وجهه بعد في سريّة فقتل فقال معاوية ليزيد: هذا اخفى واصوب(1) .

نال معاوية الرفعة وهو المهان الوضيع على يد عمر بن الخطاب لغاية في نفس عمر فقد أمّره على الشام بعد هلاك يزيد أخيه(2) يقول ابن كثير: ولما فتحت الشام ولاه عمر نيابة دمشق بعد أخيه يزيد(3) وخالف عمر بهذا الفعل ما كان يقوله: هذا الأمر في أهل بدر ما بقي منهم أحد ثمّ في أهل أحد ما بقي منهم أحد وفي كذا وكذا وليس فيها لطليق ولا لولد طليق ولا لمسلمة الفتح شيء(4) .

والذي يظهر من ابن كثير أنّه استنابه على دمشق وحدها وعند غيره أنّه جمعها له يقول ابن الخياط: ثم جمع الشام كلها لمعاوية ابن أبي سفيان(5) بل ذكر ابن كثير في مكان آخر من بدايته أنّ معاوية ظل نائباً على الشام في الدولة العمرية وهذا يدلّ على أنّها كانت مجموعة له في عهد عمر(6) وقال عمر بن الوردي: استعمله عمر على الشام أربع سنين من خلافته(7) ولم يعز له طيلة خلافته بل كان لا يرى عزل معاوية يحل له لأنّه فيما زعم مصلح فقد عزّى أباه لما هلك يزيد وأمّر معاوية مكانه قائلاً له: ابناك مصلحان ولا يحل لنا أن ننزع مصلحاً(8) .

وعلّل ابن حجر الهيثمي ذلك بقوله: لم يشك أحد منه ولا اتّهمه بجور ولا مظلمة(9) وهذا مدفوع بعبادة بن الصامت فقد كثرت شكايته منه.

____________________

(1) الجاحظ، كتاب الحيوان، ج3 ص428، تحقيق عبدالسلام هارون، دار الفكر 1408

(2) ابن حجر الهيثمي: تطهير اللسان: ص17.

(3) البداية والنهاية: ج8 ص22.

(4) مختصر تاريخ دمشق، ج25 ص42، ابن الأثير، اسد الغابة، ج4 ص387.

(5) تاريخ خليفة بن خياط، ج1 ص129، ونقل محقق الكتاب عن تاريخ الإسلام وسير أعلام النبلاء مثله.

(6) ابن كثير البداية والنهاية، ج8 ص22.

(7) تاريخ ابن الوردي، ج1 ص162.

(8) ابن منظور، مختصر تاريخ دمشق، ج25 ص18.

(9) تطهير الجنان واللسان، ص16.

٩٢

ذكر ابو زرعة الدمشقي في تاريخه: إنّ عبادة أنكر على معاوية شيئاً فقال: لا أساكنك بارض فرحل إلى المدينة فقال له عمر ما أقدمك؟ فأخبره فقال ارجع إلى مكانك، فقبّح الله أرضاً لست فيها ولا أمثالك ولا إمرة عليك(1) .

فما حرك عمر ساكناً لمعاوية ولم يزد على ما قال لعبادة شيئاً ومورد الخلاف بين عبادة بن الصامت الذي سماه ابو زرعة شيئاً هو الربا وكان معاوية يستحله ولا يرى به بأساً ولمّا كلمه عباده يقول ابن الأثير في اسد الغابة، اغلظه له معاوية(2) فإذا كانت هذه حال معاوية وعمر على قيد الحياة فكيف يكون إذا مات عمر.

ولكن ما الذي يخشاه من عمر وها هو لا يلقي بالاً لشكاية عبادة بن الصامت مع أنّه أخيره أن معاوية يأكل الربا أضعافاً مضاعفة ويوكله فما زاد على أن أمره بالرجوع إلى الشام ونفي أمرة معاوية عنه وبقي معاوية كما هو يعمل المنكرات علناً.

وشاهد عدل آخر هو أبو الدرداء فقد رأى معاوية باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها فقال له أبو الدرداء سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينهى عن مثل هذا إلاّ مثلاً بمثل فقال معاوية ما أرى بمثل هذا بأساً فقال أبو الدرداء من يعذرني من معاوية أنا أخبره عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويخبرني عن رأيه لا اساكنك بأرض أنت بها ثمّ قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب فذكر له ذلك فكتب عمر بن الخطاب إلى معاوية أن لا يبيع مثل ذلك إلاّ مثلاً بمثل وزناً بوزن(3) كان من حقه أن لا يعزله فحسب بل يقتله لأنه استحلّ الربا وردّ على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولست أدري كيف يستباح قتل بعض بعقال البعير ويترك لمعاوية الحبل على الغارب.

يفعل معاوية هذا كله ويلام على ضربه من أجل حلة خضرا، كان قد دخل عليه بها فيقول: ما رأيت وما بلغني إلاّ خيراً ...!!!!(4)

وكأنّ الربا الذي يأكله معاوية ولا يرى به بأساً عناداً لله ورسوله هو من الخير عند عمر وكأن اتفاقاً ألف بينه وبين معاوية والناس تضرب في حديد بارد.

____________________

(1) ابو زرعة الدمشقي، تاريخ أبي زرعة، ص64.

(2) اسد الغابة، ج3 ص106.

(3) النصائح الكافية، ص120.

(4) سير أعلام النبلاء، ج3 ص134 وذكرها أكثر المؤرخين كالطبري وابن الأثير وغيرهما.

٩٣

والباحث من أي باب دخل إلى هذين الرجلين وجد أمرهما مريباً ووضعهما غريباً.

وإلاّ فما هو سبب الرفق الذي اغدقه عمر على معاوية مع ما يبدو منه من الطامات ومن البدع والمنكرات ومن المحظورات العظيمة التي يرتكبها بمسمع ومشهد من عمر فلا ينكر عليه.

وإذا ما أنكر عليه فكالوالد الرؤوف بولده الوحيد المدلل وأمن معاوية جانب عمر فاطلق لنفسه العنان يفعل ما يشاء كان عمر إذا استناب الرجل على بلد لا يبقيه أكثر من سنة ولم يخرم هذه القاعدة إلاّ مع ابن هند وستأتيك انبائها إن شاء الله.

وكيف يُدّعى بأن أحداً لم يشكه ولا اتّهمه بجور ولا مظلمة وعمر نفسه يقول له:

أنت صاحب الموكب العظيم؟ قال: نعم قال: مع ما بلغني عنك من طول وقوف ذوي الحاجات ببابك ....(1) . واسئل ما كان وقوفهم ببابه؟ أكانوا يتمسحون باعتابه؟! أم الحاجة الجئتهم والضرورة أوفقتهم أجل كل هذا ويقول القائل لم يشكّه أحد!!!

ولم توجه كلمة واحدة تجرح خاطر معاوية من ولي نعمته بل على العكس من ذلك طالما أطراه ومدحة على رؤوس الاشهاد وما فتىء يثني عليه ليشدّ أزره ويقويه. وجعل ابن حجر ثناء عمر عليه منقبة من مناقبه وسرح به الخيال المريض فراح يستنبط له المقامات الرفيعة والدرجات العالية قال: ومنها أنّ عمر مدحه واثنى عليه وولاه دمشق الشام مدة خلافة عمر وكذلك عثمان رضي الله عنه وناهيك بهذه منقبة عظيمة من مناقب معاوية ومن الذي كان عمر يرضى به لهذه الولاية الواسعة المستمرة(2) ويقول الذهبي متمدحاً به قلت: حسبك بمن يؤمره عمر ثم عثمان على اقليم - وهو ثغر - فيضبطه ويقوم به اتم قيام ويرضي الناس بسخائه وحلمه وإن كان بعضهم تألم منه مرّة....(3)

____________________

(1) سير أعلام النبلاء، ج3 ص133.

(2) تطهير الجنان واللسان، ص16.

(3) سير أعلام النبلاء، ج3 ص132.

٩٤

لقد أضل الله الذهبي وابن حجر على علم وثاها في بيداء الضلال في حب فرع الشجرة الملعونة عداوة لله ورسوله وأهل البيت. لقد سمّى الذهبي عبادة بن الصامت (بعضهم) ليهون الخطب على معاوية ويلبس على الأمة. وقد علم من يكون عبادة الذي قال عنه سفيان بن عيينة: بدري إحدي عقبي شجري وهو نقيب(1) وعبادة نقيب شهد بدراً والمشاهد كلها مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (2) .

وأمّا الألم الذي ذكره فهو استباحة معاوية الربا ردّاً لحكم القرآن وما بيّنته السنة من حكم الربا وقد مرّ عليك قبلاً.

والبعض الثاني الذي تألم من معاوية هو أبو الدرداء الذي صرّح له معاوية بكفره بما أنزل على محمد وهو لا يقل فضلاً وهدىً عن سابقه.

ومالنا نلوم هذا وذاك على ولاء معاوية والملوم الاكبر هو عمر الذي أمدّ له في الضلال والطغيان وشاركه فيما قال وفعل، فقد روى عمران بن سليم عنه أنّه قال:

من استعمل فاجراً وهو يعلم أنّه فاجر فهو مثله(3) . واقسم بالله أن عمر كان يعلم بما يجري من معاوية وإذا لم يكن يعلم فقد اعلمه عبادة وأبوالدرداء وهل يريد عمر شاهداً أعدل منهما، ولم يهم من هام من القوم بمعاوية وزبانيّته من أجل معاوية نفسه بل من أجل من ولاه وأمرّه وهيأ له أسباب الطغيان ودواعي الهوى والعصيان لأنهم اعتبروه ستراً له فإذا زال الستر عن مساوي معاوية فقد انكشف عن مساوئ غيره لأن مساوئهما مشتركة هذا بفعله وذاك بتأميره وتأييده.

يقول ابو توبة الربيع بن نافع الحلبي: معاوية ستر لاصحاب محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإذا كشف الرجل الستر اجترأ على ما ورائه(4) وهذا الستر يا أبا توبة خلق مهلهل لا يحتاج إلى من يكشفه بل الله سبحانه كشفه وهتك حجابه وأغرب ابن المبارك حين قال: معاوية عندنا محنة فمن رأيناه ينظر إليه شزراً اتّهمناه على القول يعني الصحابة(5) .

____________________

(1) المستدرك، ج5 ص354.

(2) نفسه، ج5 ص355.

(3) ابن الجوزي، عمر بن الخطاب، ص72.

(4) البداية والنهاية، ج8 ص142.

(5) البداية والنهاية، ج8 ص142.

٩٥

عفى الله عن هؤلاء إنهم يقولون الكلمة عفواً فتؤخذ عنهم وتصبح ديناً، متى يا ابن المبارك امتحن الله المسلمين بالفاسقين لمعرفة المؤمنين وبالاشرار لمعرفة الأخيار إنّ هذا لقول غريب وهو من محن الإسلام حقاً.

والذي يحملنا على الشك في سلامة العلاقة بين عمر ومعاوية أنّ الأول طالما عوتب على تأمير ابن هنذ الفاجر فما اصاخ لأحد سمعاً ومضى على غلوائه يجري مع ابن هند.

قال عبدالعزيز ابن الوليد بن سليمان سمعت أبي يقول: إنّ عمر ولّى معاوية فقالوا: ولاّه حديث السن فقال: تلومونني وأنا سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: اللهم اجعله هادياً مهدياً واهد به. قال الذهبي: هذا منقطع(1) .

مصيبة كبيرة أن يكذب الوضاعون على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيضعون الأحاديث لمصلحة معاوية. وأكبر منها أن تكون من وضع الفاروق ليسدّ به عذراً عن نفسه ولكني أُبرّء عمر من جريرة الوضع إن شاء الله.

ولا زلنا نطلع على غريبة أثر غريبة من سلوك عمر مع معاوية لقد ولاه الشام وأقره عليها طيلة خلافته وجمعها له كما تقدم ولو أن عمر استبدل معاوية بمن هو شر منه لهانت المصيبة ولكنه عزل عميراً بن سعد وولاه مكانه مما أثار حنق الناس عليه.

عن أبي إدريس قال: لما عزل عمر عمير بن سعد عن حمص، ولّى معاوية فقال الناس في ذلك، فقال عمر: لا تذكروا معاوية إلاّ بخير فإنّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: اللهم اهد به(2) .

يظهر من هذا أنّ في الناس نقمة مكبونة على عمر في توليته معاوية بخاصة وقد عزل به عميراً وكان عمر نفسه يسمي عميراً هذا نسيج وحده فما الذي بان له من حكم عمير حتى عزله بالفاجر المنافق المرابي اللاهي المتميّع.

أضف إلى ذلك أنّه اختار أكثر بقاع العالم خصباً ورخاءاً واقتطع له الشام هذا

____________________

(1) سير أعلام النبلاء، ج3 ص126.

(2) سير أعلام النبلاء، ج3 ص126.

٩٦

الجزء الغالي من جسم البلاد الإسلامية فهل كان ذلك محض صدفة واتّفاق أو أنّها قضيّة منظورة لهم.

كلا فما كان عمر يخطو خطوة إلاّ ويعلم أين يضعها، والشام بلد رخي ومن أغنى بلاد العالم وهو مطلٌ على الروم يتصل براً وبحراً بهم.

وسماه ابن حجر الهيثمي ولاية واسعة مستمرة(1) وسماها العقاد مملكة مستقلة(2) يضاف إلى رخاء البلد ما يتمتع به أهله من خلق (طاعة القائد). يقول لمعاوية الحجاج بن خزيمة ابن الصمة واصفاً أهل الشام وطاعتهم: وإني اخبرك أنك تقوى بدون ما يقوى به علي لأن معك قوماً لا يقولون إذا سكت ويسكتون إذا نطقت ولا يسألون إذا اُمرت ......(3) .

وفي الشام بلد الرخاء والطاعة، راح ابو حفص يبني لمعاوية دعائم الحكم ويشيد له الملك ويقوّي سلطانه بما يقول وما يفعل.

ويعتبر معاوية لعمر الرصيد المدخر والقوة العسكرية التي يهدد بها المنافسين ويخيف العدو.

وكان عمر في بعض فصول هذه المأساة، يظهر محاسبته احياناً امام الرأي العام ولكنه سرعان ما يؤوب إلى جانبه ويظهر الحياء منه ومن صفات عمر البديهية أنّه لا يعرف ما هو الحياء حتى سماه اميرالمؤمنينعليه‌السلام حوزة خشناء بخشن مسها ويكثر العثار فيها والاعتذار منها(4) .

ولكنّ تلك التمثيلية جزء من خطة السياسة في ترجيح جانب ابن هند ورفع منزلته ولعل عمر وهو الحاكم المطلق يعد الحياء ضعفاً من هنا كان لا يريده لنفسه.

وبناءاً عليه فما كان يعبأ بأحد مهما كان مقامه رجل بحضرة عمر فلما حضرت الصلاة قال عمر: عزمت على من كانت هذه الريح منه إلاّ توضأ فقال جرير بن عبدالله: لو عزمت علينا جميعاً أن نتوضّأ كان استر للرجل وأكرم في الفعل فقال له

____________________

(1) ابن حجر الهيثمي، تطهير الجنان واللسان، ص16.

(2) عباس محمود القعاد، معاوية، ص215.

(3) الدينوري، الأخبار الطوال، ص155.

(4) راجع خطبته الشقشقية، نهج البلاغة.

٩٧

عمر: جزاك الله خيراً فلقد كنت سيداً في الجاهلية سيداً في الإسلام عزمت عليكم إلاّ توضأتم فقاموا جميعاً وسترت على الرجل(1) .

أقول هلاّ ستر عليه وما منعه أن يسلك سلوك جرير؟ إنّ عمر لا يبالي بما قال لأنه حوزة حشناء.

يقول أبي قتيبة: بينا عمر بن الخطاب على المنبر إذا حسّ من نفسه بريح قد خرجت منه، فقال: أيّها الناس إني قد ميلت بين أن اخافكم في الله وبين أن أخاف الله فيكم فكان أن أخاف الله فيكم أحب إلي، ألا واني قد فسوت - هكذا لا يكنّي - وها أنا ذا أنزل لأعيد الوضوء(2).

ومن البلية أن الرجل قالها وفعلها على منبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهل حرمة منبره اكبر من حرمته أو هيبة المنبر في صدورهم أعظم من هيبتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم روى البخاري أنّه كان يعظهم في الضرطة وقال: لم يضحك أحدكم مما يفعل(3) .

لا اهتدى إلى السر في رواية هذه الطامات من قوم يدلّون على من سواهم بموالات الصحابة وتعديلهم فكيف تجامع هذه الرواية عقيدتهم في الصحبة والصحابة اللهم إلاّ إذا قصد الراوي التندر والسخرية بهم.

على أنهم رووا في تفسير قوله تعالى عن عائشة: (وتأتون في ناديكم المنكر) عن عائشة قالت: الضراط(4) .

إنّ فعلاً عذّب الله عليه أمة خلت كيف تفعله الأمة المرحومة بلا اكترات منها ومن فاروقها وعلى منبر نبيّها أنّه فعل لا يستساغ على أنّه إن صح فهو حاك عن الطبيعة العمرية التي لا تدري ما الحياء ....

وهذا حاتم الأصم لا يزال يطنب في مدحه رواة سيرته لأنه ستر على امرأة ريحها وسمى الاصم من يومئذ ولم يكن كذلك. فما بال الصحابي لا يعبأ بمثل هذه الآداب؟ قيل إنّ ذلك يعود إلى الشدة والجفاء المنسوبين إلى طباعه ولأول مرّة

____________________

(1) الأبي نثر الدر، ج6 ص551.

(2) عيون الأخبار، ج1 ص267.

(3) المؤلف، حجة الشيعة الكبرى، ص324 وراجع الديلمي، فردوس الأخبار، ج1 ص480.

(4) الطبري، تاريخ الرسل والملوك، ج5 ص294.

٩٨

تحدّث الأخباريون عن حيائه بين يدي ربيبه المدلل معاوية. عن اسلم مولى عمر قال: قدم معاوية وهو أبضّ الناس وأجملهم فخرج مع عمر إلى الحج وكان عمر ينظر إليه ويعجب ويضع اصبعه على متنه ثم يرفعها عن مثل الشراك فيقول: بخ بخ نحن اذن خير الناس إن جمع لنا خير الدنيا والآخرة.

قال: يا أميرالمؤمنين سأحدثك أنا بأرض الحمّا مات والريف. قال عمر: سأحدثك ما بك إلاّ إلطافك نفسك باطيب الطعام وتصبّحك حتّى تضرب الشمس متنيك وذوو الحاجات وراء الباب قال: فلما جئنا ذا طوى أخرج معاوية حلة فلبسها فوجد عمر منها طيباً فقال: يعمد أحدكم يخرج حاجاً ثفلاً حتى إذا جاء أعظم بلد لله حرمة أخرج ثوبيه كأنهما كانا في الطيب فلبسهما، قال: إنما لبستهما لأدخل فيهما على عشيرتي والله لقد بلغني آذاك هنا وبالشام والله يعلم إني قد عرفت الحياء فيه ونزع معاوية الثوبين ولبس ثوبي احرامه(1) .

اغلب الظن أنّ هذا الحياء تصنع.. وكان على عمر أن يبالغ في تأديب معاوية، لأنه خالف أبسط الشروط التي كان يشترطها عمر على العامل وهو: أن لا يغلق بايه دون ذوي الحاجات(2) فهل اشترط على معاوية أيضاً؟! أوان معاوية وحده معفو من كل شرط.

ثم قل لي: ما وجه الحياء من رجل عصى الله وتطيب في الأحرام لا يبالي بنهي الله ورسوله عن ذلك(3) وكان على عمر أن يكون حياته من الله ورسوله لا من معاوية الخارج على شرع الله وسنن حبيبه ...

والذي يظهر من حال عمر أنّه قاطع بمصير الأمر إلى معاوية في يوم من الأيام بعد ذلك اليوم لثقته بالمقدمات التي حاكتها يداه فها هو يحث الناس على اتباع معاوية ويأمرهم بالهجرة إليه إذا وقعت فرقة.

يقول ابن حجر الهيثمي: ومنها أن عمر خص الناس على اتباع معاوية والهجرة

____________________

(1) الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج3 ص134، ابن حجر، تطهير الجنان، ص17، ابن كثير، البداية والنهاية، ج8 ص128.

(2) البداية والنهاية، ج7 ص138.

(3) النصائح الكافية، ص128.

٩٩

إليه(1) واعتبر بعد كلام طويل هذا من عمر كرامة باهرة لتضمنه الأخبار بأن الأمر سيصير إليه وأن مقاليد الاُمة لا يعول فيها إلاّ عليه(2) .

وهذه الكرامة ليست من كرامات الأولياء بل الأذكياء الذين يثقون بنتائج مقدماتهم المحبوكة. والفرقة التي يتحدث عمر عنها هي خلافة عليعليه‌السلام فقد اوتي الرجل ذكاءاً خارقاً كان ينظر للغيب من ستر رفيق فعلم بما يشبه اليقين أن عثمان مقتول وإن الأمر منتقل إلى علي وإن الفرقة قادمة مع هذه الفتنة وهنا يبرز الرصيد المعد لهذه الساعة اعنى أبا عبدالرحمن معاوية. وكان عمر يطلق عليه النعوت الناعمة فيسميه كسرى العرب.

ولست أدري ما الحاجة إلى كسرى عربي بعد أن هدمت جيوش الإسلام كسرى العجم، وهل جاء الإسلام إلاّ لتحطيم هؤلاء الكسرات، الذين هم أضر على الاُمة من هبل واللات والعزى ولكن عمر حارب كسرى وجنوده وبنى كسرى آخر أشر من الأول وأشد عتواً وتجبّراً.

يقول ابن الأثير: ولما دخل عمر بن الخطاب الشام ورأى معاوية قال: هذا كسرى العرب(3) . والظاهر أن ذلك تكرر من عمر.

عن محمد بن علي قال: كان عمر إذا نظر إلى معاوية قال: هذا كسرى العرب(4) ومثله قال المديني(5) وتباهى مرة به فقال: تذكرون كسرى وقيصر ودهائهما وعندكم معاوية(6) . وكانّ عمر أغرى معاوية بسلوك كسرى لكثرة ما كان يطريه فها هو يقبل على الخضم والقضم بشره لا مثيل له فيما يأكل البشر حتى استنفذ اللذات جميعاً.

يقول السمعودي: دخل عمروبن العاص يوماً على معاوية بعد ماكبر ودق

____________________

(1) الهيثمي تطهير الجنان، ص19.

(2) الهيثمي تطهير الجنان، ص19.

(3) اسد الغابة، ج4 ص386، وراجع الاستيعاب، ج3 ص471.

(4) الأصابة، ج3 ص434.

(5) سير أعلام النبلاء، ج3 ص134، والبداية والنهاية، ج8 ص128، ومختصر تاريخ دمشق، ج25 ص19، نثر الدر، ج2 ص61.

(6) تاريخ الطبري، ج5 ص330، ابن الأثير، الكامل، ج3 ص262.

١٠٠