الحسين في طريقه إلى الشهادة

الحسين في طريقه إلى الشهادة0%

الحسين في طريقه إلى الشهادة مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 222

الحسين في طريقه إلى الشهادة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الخطيب علي بن حسين الهاشمي
تصنيف: الصفحات: 222
المشاهدات: 53651
تحميل: 7464


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 222 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53651 / تحميل: 7464
الحجم الحجم الحجم
الحسين في طريقه إلى الشهادة

الحسين في طريقه إلى الشهادة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، والصلوات الدائمة على سيّد أرباب الهجرة وخاتم رسله، وسلام الله على آله المنتجبين الذين خصّهم الله بآية التطهير، وجعلهم أئمّة يهدون إلى الخير، وحججاً على بريته، والشهداء عليهم يوم الدين.

(المقصورة وشرحها )

سارَ الحسينُ تاركاً أمّ القرى

ينحو العراقَ بميامين الورى

سار: فعل ماضي، أي ذهب في الأرض. والحسين: فاعل. وتاركاً: حال. واُمّ القرى: مفعول. وينحو: فعل مضارع. العراق: مفعول. بميامين الورى: جار ومجرور ومضاف إليه.

الحسينعليه‌السلام هو ثاني السبطين الذي قال فيه جدّه الأكرم: « حسين منّي وأنا من حسين، أحبّ الله مَنْ أحبّ حسيناً، حسين سبط من الأسباط »(1) .

وروى ابن حيّان، وابن سعد، وأبو يعلى، وابن عساكر، عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: « مَنْ سرّه أن ينظر إلى رجل من أهل الجنّة - وفي لفظ ( إلى سيّد شباب أهل الجنّة ) - فلينظر إلى الحسين بن علي ».

أبوه أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، ابن عمّ الرسول، وصهره وخليفته على

____________________

(1) أخرجه الحاكم وصححه عن يعلى العامري. من نور الأبصار - للشبلنجي / 170 طبع العثمانية.

١

أمّته، وأمّه فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين.

ذكر ابن حجر في الإصابة(1) عن ابن حريب قال: بينما عبد الله بن عمر جالس في ظلّ الكعبة إذ رأى الحسين مقبلاً، فقال: هذا أحبّ أهل الأرض إلى أهل السماء اليوم.

وذكر ابن سعد في طبقاته، ونقل عنه سبط ابن الجوزي(2) قال: كان ابن عباس يمسك بركاب الحسن والحسين حتّى يركبا، ويقول: هما ابنا رسول الله. وقال ابن عساكر(3) : وكان الحسين في جنازة فأعيا وقعد في الطريق، فجعل أبو هريرة ينفض التراب عن قدميه بطرف ثوبه، فقال له: « يا أبا هريرة، وأنت تفعل هذا؟! ». فقال: دعني. فوالله لو يعلم الناس منك ما أعلم لحملوك على رقابهم.

وقال الشبراوي(4) في فصل له: وقد حلّ الإمام الحسين (رضي‌الله‌عنه ) من هذا البيت الشريف في أوج ذراه، وعلا فيه علوّاً تطامنت الثريا عن أن تصل إلى معناه، ولما انقسمت غنائم المجد كان له منه السهم الأوفر والحظّ الأكبر، وقد انحصرت جرثومة هذا البيت فيه وفي أخيه، فكان لهما من خلال المجد والفضل ما لا خلاف فيه.

كيف لا؟ وهما ابنا فاطمة البتول، والملحوظان بعين الودّ والرأفة والقبول من أشرف نبيّ وأكرم رسول.

نعم، كما ذكر:

نسبٌ كأنّ عليهِ من شمسِ الضحى

نوراً ومن فُلكِ الصباحِ عمودا

ما فيهِ إلاّ سيّدٌ من سيّدٍ

حازَ المكارمَ والتقى والجودا

وقال آخر:

فيا نسباً كالشمسِ أبيضَ مشرقا

ويا شرفاً من هامةِ النجمِ أرفعُ

وقال آخر:

ذريةٌ مثلُ ماءِ المزنِ قد طهروا

وطيّبوا فصفت أخلاقُ ذاتهمُ

و(اُمّ القرى) من أسماء مكّة المكرّمة (زاد الله شرفها وتعظيمها). وفسّر

____________________

(1) انظر الإصابة - العسقلاني 2 / 15.

(2) انظر التذكرة - سبط ابن الجوزي / 134.

(3) انظر التاريخ الكبير - ابن عساكر 4 / 322.

(4) انظر الإتحاف بحبّ الأشراف - الشبراوي / 57 المطبعة الأدبية - مصر.

٢

قوله تعالى:( وَمَا كَانَ رَبّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى‏ حَتّى‏ يَبْعَثَ فِي أُمّهَا رَسُولاً ) (1) على وجهين؛ أحدهما: أنّه أراد أعظمها وأكثرها أهلاً، والأخرى: أنّه أراد مكّة.

وقال ابن دريد: سمّيت مكّة (اُمّ القرى)؛ لأنّها توسّطت الأرض والله أعلم. وقيل: سمّيت اُمّ القرى؛ لأنّها تُقصد من كلّ أرض وقرية، أو لأنّها أقدم القرى التي في جزيرة العرب وأعظمها خطراً؛ إمّا لاجتماع أهل القرى فيها كلّ سنة، أو لانكفائهم إليها، وتعويلهم على الاعتصام بها لما يرجونه من رحمة الله تعالى(2) .

وقوله عزّ اسمه:( وَلِتُنذِرَ اُمّ القرى‏ وَمَنْ حَوْلَهَ ) (3) ، أراد تعالى ذكره مكّة.

ومن أسمائها (بكّة)، قال جلّ ذكره:( إِنّ أَوّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلّذِي بِبَكّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ ) (4) ، وقوله عظم شأنه:( وَهُوَ الّذِي كَفّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً ) (5) .

وذكر زكريا القزويني قال في ذكر الحجاز: حاجز بين اليمن والشام، وهو مسيرة شهر. قاعدتها مكّة (حرسها الله تعالى)، لا يستوطنها مشرك ولا ذمّي. كانت تُقام للعرب بها أسواق في الجاهلية في كلّ سنة، فإذا اجتمع بها قبائلهم يتفاخرون ويذكرون مناقب آبائهم، وما كان لهم من الأيام، ويتناشدون أشعارهم التي أحدثوا.

وكانت العرب إذا أرادت الحجّ أقامت بسوق عكاظ شهر شوال، ثمّ تنتقل إلى ذي المجاز فتقيم فيه إلى الحجّ. والعرب الذين اجتمعوا في هذه المواسم إذا رجعوا إلى قومهم ذكروا لقومهم ما رأوا وما سمعوا(6) .

ومكة هي البلد الأمين الذي شرّفه الله تعالى وعظّمه، وخصّه بالقسم وبدعاء الخليل( رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آَمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ ) (7)(8) ، واجعله مثابة للناس، وأمناً

____________________

(1) سورة القصص / 59.

(2) انظر معجم البلدان - للحموي 1 / 337.

(3) سورة الأنعام / 92.

(4) سورة آل عمران / 96.

(5) سورة الفتح / 24.

(6) انظر آثار البلاد وأخبار العباد - زكريا القزويني / 55 طبع أوربا.

(7) سورة البقرة / 126.

(8) انظر آثار البلاد - زكريا القزويني / 74 طبع أوربا.

٣

للخايف، وقبلة للعباد، ومنشأ لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فهذه أسماء مكّة جاءت في الذكر الحكيم، وقد أجمع أرباب التاريخ على أنّ الحسينعليه‌السلام كان قد دخلها ليلة الجمعة، لثلاث مضين من شعبان سنة ستين من الهجرة، وذلك عندما أبى بيعة يزيد بالمدينة، والخنوع تحت غاشية الظلم والجور، وهو ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولمّا نزل مكّة المعظّمة أقبل إليه أهلها ومَنْ كان من المعتمرين بها، يسلّمون عليه ويرحبّون بمقدمه، وصار الأشراف من الناس يختلفون إليه. وقد أقام بها بقية شعبان وشهر رمضان، وشوال وذي القعدة، وخرج منها لثمان مضين من ذي الحجّة يوم الثلاثاء. يوم التروية(1) ، وهو اليوم الذي خرج فيه مسلم بن عقيل سفيره بالكوفة.

وكان قد اجتمع إليه مدّة مقامه بمكّة نفر من أهل الحجاز، ونفر من أهل البصرة انضافوا إلى أهل بيته ومواليه. وكان ناديه يضمّ وجوه المسلمين من الصحابة وأعيان أهل الحجاز؛ كعبد الله بن عباس (حبر الأمّة)(2) ، وعبد الله بن جعفر(3) ، ونظائرهما،

____________________

(1) سمّي يوم التروية لأنهم كانوا يرتوون فيه من الماء من منى ويخرجون إلى عرفات.

(2) هو عبد الله بن عباس. كان يكنى أبا العباس. توفى بالطائف سنة ثمان وستين في فتنة بن الزبير. وكان قد كُفّ بصره في أواخر حياته، وعمره سبعون سنة، وصلّى عليه محمد بن الحنفيّة. وضرب على قبره فسطاطا. انظر المعارف لابن قتيبة.

(3) هو عبد الله بن جعفر بن أبي طالبعليه‌السلام ، زوج زينب بنت أمير المؤمنين. قال صاحب الدرجات الرفيعة: إنّ أوّل مَنْ بايع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من الصبيان الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر الطيار. ولقد دعا له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله: « اللهم بارك له في صفقته ». وكان جواداً كريماً، يعطى العطايا الجزيلة، والأموال الكثيرة، وفيه قال القائل:

ألا كلّ مَنْ يرجو نوالَ ابنِ جعفرٍ

سيجري لهُ باليمنِ والبشرِ طائره

وكانت ولادته بأرض الحبشة؛ حيث هاجر أبوه جعفر بأمر من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إليه هو وجماعة من المسلمين في إبان الدعوة المحمدية.

ويروى عنه أنّه قال: أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نعي أبينا جعفر، فدخل علينا، وقال لأمّنا أسماء بنت عميس: « أين بنو أخي؟ ». فدعانا وأجلسنا بين يديه، وذرفت عيناه، فقالت أسماء: هل بلغك يا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن جعفر شيء؟ قال: « نعم، استشهد رحمه الله ». فبكت =

٤

وأمثال عبد الله بن الزبير(1) وأقرانه.

وقال ابن كثير في البداية والنهاية في إقامة الحسينعليه‌السلام بمكة: عكف الناس على الحسين (رضي‌الله‌عنه ) يفدون إليه، ويقدمون عليه، ويجلسون حواليه، ويستمعون كلامه، وينتفعون بما يسمع منه، ويضبطون ما يروون عنه. وقال أبو الفرج الأصبهاني: إنّ عبد الله بن الزبير لم يكن شيء أثقل عليه من مكان الحسين بالحجاز، ولا أحبّ إليه من خروجه إلى العراق؛ طمعاً في الوثوب بالحجاز، وعلماً

____________________

= وولولت، وخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . فلمّا كان بعد ثلاثة أيام دخل علينا ودعانا، فأجلسنا بين يديه كأنّنا أفراخ، وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا تبكي على أخي - يعني جعفراً - بعد اليوم ». ثمّ دعا بالحلاّق فحلق رؤوسنا، وعقّ عنّا، ثمّ أخذ بيد محمد وقال: « هذا شبيه عمّنا أبي طالب ». وقال لعون: « هذا شبيه أبيه خلقاً وخُلقاً ». وأخذ بيدي فشالهما وقال: « اللهم احفظ جعفر في أهله، وبارك لعبد الله في صفقته ». قال: وجاءته أمّنا تبكي وتذكر يتمنا، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « أتخافين وأنا وليّهم في الدنيا والآخرة ».

وفي جود عبد الله أخبار كثيرة. يروى أنّه ليم في جوده، فقال:

لستُ أخشى خلّة العدمِ

ما اتقيتُ اللهَ في كرمي

كلّما أنفقتُ يخلفهُ

ليَ ربّ واسعُ النعمِ

قالوا: ولمّا ورد نعي الحسين إلى المدينة كان عبد الله جالساً في بيته، فدخل عليه الناس يعزّونه، فقال غلامه أبو اللسلاس: هذا ما لقيناه من الحسينعليه‌السلام - يعني بقتل ولدي عبد الله (محمد وعون) -.

قال الراوي: فحذفه عبد الله بنعله، وقال: يابن اللخناء! أللحسين تقول هذا؟! والله، لو شهدته لما فارقته حتّى أُقتل معه. والله، إنّهما لمما يُسخى بالنفس عنهما، ويهون عليَّ المصاب بهما أنّهما أُصيبا مع أخي وابن عمّي؛ مواسين له صابرين معه. ثمّ أقبل على الجلساء، وقال: الحمد لله. أعزز عليّ بمصرع الحسين أن لا أكن آسيت حسيناً بيدي فقد آسيته بولدي.

وكانت وفاته سنة ثمانين، وصلّى عليه أبان بن عثمان، ودفن بالبقيع. وقيل: مات بالأبواء، وله من العمر تسعين سنة. وأعقب عشرين ذكراً، وقيل: أربعة وعشرين.

والعقب من جعفر الطيار في عبد الله الأكبر الجواد وحده، ليس له إلاّ عقب منه. انظر عمدة الطالب / 20، 21 طبع الهند.

(1) هو عبد الله بن الزبير بن العوام. كان يُكنى أبا بكر وأبا حبيب. ولد بعد الهجرة بعشرين شهراً. طلب الخلافة لنفسه بالحجاز، فسار إليه الحجّاج فحاصره بمكّة، ثمّ أصابته رمية فمات بها، وكان بخيلاً. وهو صاحب المثل السائر (أكلتم تمري وعصيتم أمري)، حتّى قال فيه الشاعر:

رأيتُ أبا بكرٍ وربّك غالب

على أمرهِ يبغي الخلافة بالتمرِ

انظر ابن قتيبة - المعارف - طبع مصر.

٥

منه بأنّ ذلك لا يتمّ له إلاّ بعد خروج الحسينعليه‌السلام ، فلقي الحسينعليه‌السلام وقال له: على أيّ شيء عزمت يا أبا عبد الله؟ فأخبره برأيه في إتيان الكوفة، وأعلمه بما كتب به مسلم بن عقيل.

فقال له ابن الزبير: فما يحبسك؟ فوالله لو كان لي مثل شيعتك بالعراق ما تلوّمت في شيء. وقوّى عزمه، ثمّ انصرف.

هذا وقد تواردت كتب أهل الكوفة على الحسينعليه‌السلام ، وذلك لمّا بلغهم وفاة معاوية(1) ، وعلموا امتناع الحسين من بيعة يزيد ونزوله مكّة.

قال أرباب السير: اجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد الخزاعي(2) بالكوفة، فذكروا وفاة معاوية، وخطبهم سُليمان بن صرد، وقال لهم فيما قال: إنّ الحسين قد خرج من مكّة، وأنتم شيعته وشيعة أبيه، فإن كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدوا أعدائه فاكتبوا إليه، وإن خفتم الفشل والوهن فلا تغرّوه.

قالوا: بل نُقاتل عدوّه، ونقتل أنفسنا دونه، فكتبوا إليه:

بسم الله الرحمن الرحيم

للحسين بن علي بن أبي طالبعليهما‌السلام . من سُليمان بن صرد، والمسيب بن نجبه، ورفاعة بن شداد البجلي، وحبيب بن مظهر الأسدي(3) ،

____________________

(1) كانت وفاة معاوية في النصف من رجب سنة ستين من الهجرة. قال ابن إسحاق: مات وله ثمان وسبعون سنة. انظر ابن قتيبة - المعارف.

(2) سُليمان بن صرد الخزاعي: كان صحابياً، وكان في الجاهلية اسمه يسار، فسمّاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله سُليمان، ويُكنى أبا المطرف، وكان له قدر وشرف في قومه. شهد مع عليعليه‌السلام مشاهده كلّها، وهو الذي قتل حوشباذا ظليم الألهاني بصفين مبارزة، وقد سجنه ابن زياد لمّا دخل الكوفة فيمَنْ سجنهم، وقد ترأس سُليمان التوّابين بعد مقتل الحسينعليه‌السلام ، وسمّوه أمير التوّابين، وكان يُقال له بالكوفة: شيخ الشيعة. ولمّا جاء عبيد الله بن زياد بجيشه يريد العراق، التقوا بعين الوردة من أرض الجزيرة، وهي رأس عين فوقعت الواقعة بين التوّابين وجيش ابن زياد هناك فقُتل سُليمان والمسيب بن نجبة وكثير ممّن معهما، وحُمل رأسيهما إلى مروان بن الحكم إلى الشام، وكان عمر سُليمان يوم قُتل ثلاثاً وتسعين سنة.

(3) هو حبيب بن مظهر الأسدي. كان صحابياً، رأى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ذكره الكلبي.

قال أرباب التاريخ: إنّ حبيباً نزل الكوفة، وصحب علياً في حروبه كلّها، وكان من خاصّته وحملة علومه، علّمه عليعليه‌السلام علم المنايا والبلايا. وكان من جملة الذين كاتبوا الحسينعليه‌السلام ووفى له، وعند ورود مسلم بن عقيل الكوفة صار حبيب ومسلم بن عوسجة يأخذان البيعة للحسين، حتّى إذا دخل ابن زياد الكوفة وتخاذل أهل الكوفة عن سفير الحسينعليه‌السلام ، اختفيا إلى أن ورد الحسينعليه‌السلام =

٦

وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة. سلام عليك. فإنّا نحمد الله الذي لا إله إلاّ هو. أمّا بعد، فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبار العنيد الذي اعتدى على هذه الأمّة، فابتزّها أمرها، وانتزعها حقوقها، وغصبها فيئها، وتأمّر عليها بغير رضاً منها، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها، فبُعداً له كما بعُدت ثمود.

وإنّه ليس علينا إمام، فأقبل لعل الله أن يجمعنا بك على الحقّ. والنعمان بن بشير(1) في قصر الإمارة لسنا نجتمع معه في جمعة ولا جماعة ولا عيد، وقد حبسنا أنفسنا عليك، ولو أقبلت إلينا أخرجناه حتّى نلحقه بالشام.

ثمّ سرّحوا بالكتاب مع عبد الله بن مسمع الهمداني، وعبد الله بن وآل، فخرجا مسرعين حتّى قدما على الحسينعليه‌السلام بمكّة لعشر مضين من شهر رمضان، ولبث أهل الكوفة يومين بعد تسريحهم بالكتاب، وأنفذوا قيس بن مسهر

____________________

= كربلاء خرجا مختفيين ولحقا به، وصارا من أصحابه وقُتلا بين يديه.

ولمّا استأذن الحسينعليه‌السلام لصلاة الظهر وطلب منهم المهلة لأداء الفرض، قال له الحصين بن تميم: إنّها لا تُقبل منك. فقال له حبيب: زعمت أنّ الصلاة من آل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لا تُقبل وتُقبل منك يا حمار! فحمل الحصين وحمل عليه حبيب؛ فضرب حبيب وجه فرس الحصين بالسيف، فشبّ به الفرس ووقع عنه فحمله أصحابه واستنقذوه، وجعل حبيب يحمل فيهم ليختطفه منهم، وهو يقول:

ثمّ قاتل القوم، وأخذ يحمل فيهم ويضربهم بسيفه، وهو يقول:

أُقسمُ لو كنّا لكم أعدادا

أو شطركم ولّيتمُ أكتادا

يا شرَّ قومٍ حسباً وآدا

أنّا حبيبٌ وأبي مظهّرُ

فارسُ هيجاءٍ وحربٍ تسعرُ

أنتم أعدُّ عدّةً وأكثرُ

ونحنُ أوفى منكمُ وأصبرُ

ونحنُ أعلى حجّةً وأظهرُ

حقّاً وأبقى منكمُ وأعذرُ

فجالد القوم سويعة حتّى قتل منهم جماعة، فحمل عليه بُديل بن صريم العقفاني فضربه بسيفه، وطعنه آخر برمحه فوقع، فذهب ليقوم فضربه الحصين بن تميم على رأسه بالسيف فسقط، فنزل إليه التميمي فاحتز رأسه.

(1) النعمان بن بشير، كان والياً على الكوفة من قبل معاوية فأقرّه يزيد عليها. واُمّه عمرة بنت رواحة أخت عبد الله بن رواحة. قال ابن أبي الحديد في شرح النهج: كان النعمان بن بشير منحرفاً عنه - يعني علياًعليه‌السلام - وعدوّاً لله، خاض الدماء مع معاوية خوضاً. قتله أهل حمص في فتنة ابن الزبير إذ كان والياً عليها.

٧

الصيداوي(1) ، وعبد الله وعبد الرحمن ابني شداد الأرحبي، وعمارة بن عبد الله السلولي إلى الحسينعليه‌السلام ، ومعهم نحو مئة وخمسين صحيفة من الرجل والاثنين والأربعة، ثمّ لبثوا يومين آخرين وسرّحوا إليه هاني بن هاني السبيعي وسعيد بن عبد الله الحنفي، وكتبوا إلى الحسينعليه‌السلام :

بسم الله الرحمن الرحيم

للحسين بن عليعليهما‌السلام من شيعته من المؤمنين والمسلمين. أمّا بعد، فحيهلا، فإنّ الناس ينتظرونك لا رأي لهم غيرك، فالعجل العجل، ثمّ العجل العجل، والسلام.

ثمّ كتب شبث بن ربعي، وحجار بن أبجر، ويزيد بن الحارث، ويزيد بن رويم، وعروة بن قيس، وعمرو بن الحجاج الزبيدي، ومحمد بن عمير بن عطارد التميمي: أمّا بعد، فقد اخضرّ الجناب، وأينعت الثمار، فإذا شئت فاقبل على جند لك مجنّدة، والسلام(2) .

وروى ابن جرير الطبري، عن حصين أنّ أهل الكوفة كتبوا إلى الحسينعليه‌السلام أنّ معك مئة ألف.

قال أرباب التأريخ: وتلاقت الرسل كلّها عند الحسينعليه‌السلام ، فقرأ الكتب وسأل الرسل عن الناس، ثمّ كتب مع هاني بن هاني وسعيد بن عبد الله، وكانا آخر الرسل: « بسم الله الرحمن الرحيم. من الحسين بن علي إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين. أما بعد، فقد فهمت كلّ الذي اقتصصتم، وقد بعثت إليكم بأخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، وأمرته أن يكتب إليّ بحالكم وأمركم ورأيكم؛ فإن كتب إليّ أنّه قد أجمع رأي ملئكم، وذوي الحجى منكم على

____________________

(1) قيس بن مسهر الصيداوي: أحد بني الصيداء، وهي قبيلة من بني أسد، وإيّاهم عنى الشاعر:

يا بني الصيداء ردّوا فرسي

إنّما يُفعل هذا بالذليل

قال علماء السير: كان قيس رجلاً شريفاً، شجاعاً مخلصاً في محبّة أهل البيتعليهم‌السلام ، وقد بعثه أهل الكوفة بكتبهم إلى الحسينعليه‌السلام ، وكذلك بعثه الحسين إلى أهل الكوفة بجوابات الكتب من الحاجر في كتاب جاء به يحمله حتّى ظفر به الحصين قبل أن يدخل الكوفة، وأرسله إلى ابن زياد مخفوراً، وقُتل بالكوفة - يأتي تفصيل خبره في محلّه - انظر الحاجر.

(2) انظر التذكرة طبع إيران - سبط ابن الجوزي / 129. وهؤلاء هم الذين كاتبوا الحسين وقاتلوه يوم الطفّ فقتلوه. انظر الحسين - علي جلال الحسيني 2 / 174.

٨

مثل ما قدمت به رسلكم وقرأت في كتبكم، فإنّي أقدم إليكم وشيكاً إن شاء الله؛ فلعمري، ما الإمام إلاّ العامل بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بالحقّ، الحابس نفسه على ذات الله، والسّلام ».

فسار مسلم بن عقيل من مكّة واجتاز بالمدينة، فصلّى في مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وودع أهله، واستأجر منها دليلين فمرّا به في برّية مهجورة المسالك، فأصابهم عطش فحادا عن الطريق فضلاّ وماتا من العطش.

ونجا مسلم ومَنْ معه من خدمه بحشاشة الأنفس حتّى أفضوا إلى الطريق فلزموه، فورد الماء، فأقام مسلم به، وكتب إلى الحسينعليه‌السلام مع رسول استأجره من أهل ذلك الماء يخبره خبره، وما لاقى من الجهد، ويستعفيه، ويسأله أن يوجّه غيره.

فأوصل الرسول الكتاب إلى الحسينعليه‌السلام فقرأه، وكتب في جوابه: « أمّا بعد، فقد ظننت أنّ الجبن قد قصر بك عمّا وجّهتك به، فامض لما أمرتك به؛ فإنّي غير معفيك، والسّلام ».

فسار مسلم إلى الكوفة، ومكث هو بمكّة بقيّة شهر رمضان وشوال وذي القعدة، وثمان ليال خلون من ذي الحجة.

وفي ذلك الحين ورد إليه كتاب مسلم بن عقيل من الكوفة مع عابس بن شبيب الشاكري(1) ، يقول فيه: أمّا بعد، فإنّ الرائد لا يكذب أهله(2) ،

____________________

(1) عابس بن شبيب الهمداني الشاكري، وبنو شاكر بطن من همدان. ذكر أرباب السير: أنّ عابس كان رئيساً شجاعاً، خطيباً ناسكاً مجتهداً، وكان من رجال الشيعة، وكذلك بنو شاكر كانوا من المخلصين بولاء أمير المؤمنينعليه‌السلام .

وفيهم قال عليعليه‌السلام يوم صفين: « لو تمّت عدّتهم ألفاً لعبد الله حقّ عبادته ». وكانوا من شجعان العرب وحماتهم، وكانوا يلقّبون (فتيان الصباح)، فنزلوا في بني وداعة من همدان، فقيل لها: فتيان الصباح. وقيل لعابس: الشاكري والوادعي.

وهو الذي قام خطيباً بين يدي مسلم بن عقيل عندما قدم الكوفة واجتمع عليه أهلها، وصار مسلم يقرأ عليهم كتاب الحسينعليه‌السلام ، فقام عابس بن شبيب خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: أمّا بعد، فإنّي لا أخبرك بما أنا موطن نفسي عليه. والله لأجيبنّكم إذا دعوتم، ولأقاتلنّ معكم عدوّكم، ولأضربنّ بسيفي دونكم حتّى ألقى الله، لا اُريد بذلك إلاّ ما عند الله.

وكان عابس رسولاً لمسلم بن عقيل إلى الحسينعليه‌السلام ، وقد أرسله بكتابه إليه وذلك عندما سار من الكوفة إلى الحسينعليه‌السلام ، وقد صحبه شوذب مولاه.

=

٩

وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألف، فعجّل الإقبال حين يأتيك كتابي؛ فإنّ الناس كلّهم معك ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوى، والسلام.

وكان يزيد آنذاك قد أرسل ثلاثين سيّافاً، وأمرهم أن يقتلوا الحسينعليه‌السلام أينما وجدوه بمكّة ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة.

فعلم الحسينعليه‌السلام ذلك، فجاء إلى منزله ليلاً، وجمع أصحابه، وخطب فيهم، فقال: « الحمد لله، وما شاء الله، ولا حول ولا قوّة إلا بالله، وصلّى الله على رسوله محمد وآله أجمعين. خُطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة. وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخُيّر لي مصرع أنا لاقيه؛ كأنّي بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء، فيملأن منّي أكراشاً جوفا، وأجربة سغبا، لا محيص عن يوم خطّ بالقلم. رضا الله رضانا أهل البيت؛ نصبر على بلائه، ويوفّينا أجور الصابرين. لن تشذّ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لحمته، وهي

____________________

= ولما كان يوم عاشوراء، والتحم القتال، وقُتل جلّ أصحاب الحسينعليه‌السلام ، قال عابس لشوذب: يا شوذب، ما في نفسك أن تصنع؟ قال: ما أصنع! اُقاتل معك دون ابن بنت رسول الله حتّى أُقتل. فقال: ذلك الظنّ بك. أمّا الآن فتقدّم بين يدي أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام حتّى يحتسبك كما احتسب غيرك من أصحابه، وحتى أحتسبك أنا؛ فإنّه لو كان معي الساعة أحد أنا أولى به منّي بك لسرني أن يتقدّم بين يدي الحسينعليه‌السلام حتّى أحتسبه؛ فإنّ هذا يوم ينبغي لنا أن نطلب الأجر فيه بكلّ ما نقدر عليه؛ فإنّه لا عمل بعد اليوم، وإنّما هو الحساب.

قال أبو مخنف: وتقدّم عابس إلى الحسينعليه‌السلام بعد مقالته لشوذب، فسلّم عليه، وقال: يا أبا عبد الله، أما والله ما أمسى على ظهر الأرض قريب ولا بعيد أعزّ عليّ ولا أحبّ ليّ منك، ولو قدرت على أن أدفع عنك الضيم والقتل بشيء أعزّ عليّ من نفسي ودمي لفعلته. السلام عليك يا أبا عبد الله، أشهد أنّي على هداك وهدى أبيك. ثمّ مشى بالسيف مصلتاً نحو القوم وبه ضربة على جبينه فطلب البراز.

قال الربيع بن تميم الهمداني: لمّا رأيت عابساً مقبلاً عرفته، وكنت قد شاهدته في المغازي والحروب، وكان أشجع الناس، فصحت: أيّها الناس، هذا أسد الأسود، هذا ابن شبيب. لا يخرجن إليه أحد منكم. فأخذ عابس ينادي: ألا رجل، ألا رجل. فلم يتقدّم إليه أحد.

فنادى عمر بن سعد: ويلكم! ارضخوه بالحجارة. فرمي بالحجارة من كلّ جانب، فلمّا رأى ذلك ألقى درعه ومغفره خلفه، فصيح به: عابس، جننت؟! قال: نعم، حبّ الحسين أجنّني.

ثمّ شدّ على الناس، فوالله لقد رأيته يطرد أكثر من مئتين من الناس، ثمّ إنّهم تعطّفوا عليه من حواليه فقتلوه واحتزوا رأسه، فرأيت رأسه في أيدي الرجال ذوي عدّة، هذا يقول: أنا قتلته، وهذا يقول: أنا قتلته. فأتوا عمر بن سعد، فقال: لا تختصموا، هذا لم يقتله إنسان واحد، كلّكم قتله. ففرقهم بهذا القول. انظر إبصار العين - السماوي / 74 -.

(2) الرائد: هو الذي يرسلونه أهله أرباب الماشية ليكتشف لهم الأرض الخصبة والمربع والماء؛ فإنّه لا يكذبهم، لأنّ الأمر كما يهمهم يهمّه أيضاً.

١٠

مجموعة له في حظيرة القدس؛ تقرّ بهم عينه، وينجز لهم وعده ».

ثمّ قالعليه‌السلام : « ألا ومَنْ كان فينا باذلاً مهجته، موطّناً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا؛ فإنّي راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى ».

قال أهل السير: ولمّا أراد التوجّه إلى العراق طاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة، وأحلّ من إحرامه وجعلها عمرة مفردة.

هذا ولم يرد عليه خبر مسلم بن عقيل، وشاع خبر سفره إلى العراق عند الخاصّة.

ذكر ابن الأثير والطبري: إنّ عبد الله بن عباس أتى الحسينعليه‌السلام ، وقال: قد أُرجف الناس أنّك سائر إلى العراق، فبيّن لي ما أنت صانع؟

قالعليه‌السلام : « قد أجمعت على السير في أحد يومي هذين إن شاء الله تعالى ». فقال ابن عباس: إنّي أُعيذك بالله من ذلك، وأتخوّف عليك من هذا الوجه الهلاك. إنّ أهل العراق يريدونك كما زعموا، فلينفوا عدوّهم ثمّ أقدم عليهم، فإن أبيت إلاّ أن تخرج فسر إلى اليمن؛ فإنّ بها حصوناً وشعاباً، ولأبيك بها شيعة.

فقال له الحسينعليه‌السلام : « يابن عمّ، إنّي أعلم أنّك ناصح مشفق، ولكنّي أزمعت وأجمعت على المسير ».

قال الراوي: وكرر ابن عباس الدخول عليه مرّة ثانية، وقد رأى الحسينعليه‌السلام عازماً على الخروج، وحقّقه، فجعل يناشده في المقام، ويعظّم عليه القول في ذم أهل الكوفة، وقال له: إنّك تأتي قوماً قتلوا أباك، وطعنوا أخاك، وما أراهم إلاّ خاذليك.

فقال له: « هذه كتبهم معي، وهذا كتاب مسلم بن عقيل باجتماعهم ».

فقال له ابن عباس: إن كنت لا بدّ فاعلاً فلا تخرج أحداً من ولدك، ولا حرمك، ولا نسائك؛ فخليق أن تُقتل وهم ينظرون إليك كما قُتل ابن عفان. فأبى ذلك ولم يقبله.

قال: فلمّا أبى الحسينعليه‌السلام قبول رأي ابن عباس ودّعه وانصرف، ومضى الحسينعليه‌السلام لوجهه.

وذكر الطبري عن أبي مخنف: قال أبو جناب يحيى بن أبي حيّة، عن عدي بن حرملة الأسدي، عن عبد الله بن سليم والمنذر بن المشمعل الأسديين، قالا: خرجنا حاجّين من الكوفة حتّى قدمنا مكّة، فدخلنا يوم التروية، فإذا نحن بالحسينعليه‌السلام وعبد الله بن الزبير قائمين عند ارتفاع الضحى فيما بين الحجر والباب. قالا: فتقرّبنا منهما، فسمعنا ابن الزبير وهو يقول للحسينعليه‌السلام : إن شئت أن تقيم أقمت، فولّيت هذا الأمر، فآزرناك وساعدناك، ونصحنا لك وبايعناك.

فقال له الحسينعليه‌السلام : « إنّ أبي حدّثني أنّ بها كبشاً يستحلّ حرمتها، فما أحبّ أن أكون أنا

١١

ذلك الكبش »(1) .

فقال له ابن الزبير: فأقم إن شئت وتولّيني أنا الأمر؛ فتُطاع ولا تُعصى.

فقال: « وما اُريد هذا أيضاً ».

قالا: ثمّ إنّهما أخفيا كلامهما دوننا، فمازالا يتناجيان حتّى سمعنا دعاء الناس متوجّهين إلى منى عند الظهر. قالا: فطاف الحسين بالبيت وبين الصفا والمروة، وقصّ شعره وحلّ من عمرته، ثمّ توجه نحو العراق وتوجّهنا نحو منى(2) .

قال الاُستاذ علي جلال الحسيني المصري(3) : ولمّا رأى الحسينعليه‌السلام أنّه وجب عليه المطالبة بحقّه في الخلافة، والقيام بأمر الأمّة، وأنّه قادر على ذلك، وأنّه بصرف النظر عن طلب الولاية تعيّن عليه إنكار الفسق، والنهي عن المنكر وجهاد الظلم أجاب دعوة أهل العراق.

قال أرباب التأريخ: ولقي عبد الله بن عباس عبد الله بن الزبير بعد خروج الحسين من مكّة، فقال متمثّلاً ومخاطباً له:

يا لكِ من قُبّرةٍ بمعمرِ

خلا لكِ الجوُّ فبيضي واصفري

ونقِّري ما شئتِ أن تنقّري

هذا الحسينُ خارجٌ فاستبشري

وقال له ابن عباس: قد خرج الحسين وخلت لك الحجاز.

أقول: لقد اتّفق المؤرّخون على أنّ الحسين خرج من مكّة يوم التروية لثمان مضين من ذي الحجّة سنة ستين من الهجرة.

ذكر سبط ابن الجوزي(4) قال: وقد ذكر جدّي في كتاب ( التبصرة ) قال: إنّما سار الحسينعليه‌السلام إلى القوم؛ لأنّه رأى الشريعة قد دُثرت، فجدّ في رفع قواعد أصلها، فلمّا حصروه قالوا له: انزل على حكم

____________________

(1) هذه من المغيّبات التي ذكرها أمير المؤمنينعليه‌السلام وأخبر عنها؛ فإنّ ابن الزبير حوصر بمكّة خمسة أيّام، حاصره الحجاج، ثمّ قُتل في البيت، فكان هو الكبش، وبسببه هُتكت حرمة البيت. وبعد أن قُتل أُمر بصلبه فصُلب بمكّة، وكان يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة خلت من جمادي الأولى سنة 73 هـ.

(2) انظر الطبري 6 / 217.

(3) انظر الحسين - علي جلال الحسيني 2 / 172.

(4) انظر تذكرة الخواص - سبط ابن الجوزي / 154.

١٢

ابن زياد. فقال: « لا أفعل ». واختار القتل على الذلّ، وهكذا النفوس الأبيّة.

ثمّ أنشد جدّي:

ولمّا رأوا بعضَ الحياةِ مذلةً

عليهم وعزَّ الموتِ غيرَ مذمّمِ

أبوا أن يذوقوا العيشَ والذلُّ واقعُ

عليه وماتوا ميتةً لم تذمّمِ

ولا عجبٌ للأسد إن ظفرت بها

كلابُ الأعادي من فصيحٍ وأعجمِ

فحربةُ وحشيٍّ سقت حمزةَ الردى

وحتفُ عليٍّ في حسامِ ابن ملجمِ

قال الاُستاذ محمد عبد الباقي(1) : فلو بايع الحسين يزيد الفاسق المستهتر، والذي أباح الخمر والزنا، وحطّ بكرامة الخلافة إلى مجالسة الغانيات، وعقد حلقات الشراب في مجلس الحكم، والذي ألبس الكلاب والقرود جلاجل من ذهب ومئات الألوف من المسلمين صرعى الجوع والحرمان.

لو بايع الحسين يزيدَ أن يكون خليفة لرسول الله على هذا الوضع لكانت فتياً من الحسين بإباحة هذا للمسلمين، وكان هذا سكوته أيضاً على هذا رضاً، والرضا عن ارتكاب المنكرات ولو بالسكوت إثمٌ وجريمة في حكم الشريعة الإسلاميّة.

والحسين بوضعه الراهن في عهد يزيد هو الشخصية الأولى المسؤولة في جزيرة العرب، بل في البلاد الإسلاميّة كافّة عن حماية التراث الإسلامي؛ لمكانته في المسلمين، ولقرابته من رسول الله، ولكونه بعد موت كبار المسلمين أنّه كبير المسلمين في هذا الوقت؛ علماً وزهداً، وحسباً ومكانة.

فعلى هذا الوضع أحسّ بالمسؤولية تناديه وتطلبه لإيقاف المنكرات عند حدّها، ولا سيما إنّ الذي يرتكب هذه المنكرات ويشجّع عليها هو الجالس في مقعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ،هذا أوّلاً .

وثانياً: أنّه جاءته المبايعات بالخلافة من جزيرة العرب، وجاءه ثلاثون ألفاً من الخطابات من ثلاثين ألفاً من العراقيين من سكان البصرة والكوفة يطلبون فيها منه الشخوص لمشاركتهم في محاربة العربيد يزيد بن معاوية، وألحّوا في تكرار هذه الخطابات، حتّى قال رئيسهم عبد الله بن أبي الحصين الأزدي:

____________________

(1) انظر الثائر الأوّل في الإسلام الحسين - محمد عبد الباقي سرور، من علماء الأزهر / 79. طبع مصر.

١٣

يا حسين، سنشكوك إلى الله تعالى يوم القيامة إذا لم تلبِّ طلبنا، وتقوم لنجدة الإسلام. وكيف والحسين ذو حمية دينية ونخوة إسلاميّة، والمفاسد تترى أمام عينه؟ كيف لا ولا يقوم بتلبية النداء؟

وعلى هذا الوضع لبّى النداء كما تأمر به الشريعة الإسلاميّة، فنجا العراق كما قال الشاعر:

فجشّمها نحو العراقِ تحفهُ

مصاليتُ حربٍ من ذؤابةِ هاشمِ

قلت: ينحو نحو الشيء: قصده. والعراق: علم لأرض بابل، القطر المعروف.

قال الخليل: العراق: شاطئ البحر. وسمّي العراق عراقاً؛ لأنّه على شاطئ دجلة والفرات مداً حتّى يتّصل بالبحر على طوله. قال: وهو مشبّه بعراق القربة، وهو الذي يُثنى منها فتخرز. وقيل: سمّيت بذلك لاستواء أرضها حين خلت من جبال تعلو وأودية تنخفض. والعراق: الاستواء في كلامهم. قال الشاعر:

سقتم إلى الحقِّ معاً وساقوا

سياقَ مَنْ ليس لهُ عراقُ

قال الحموي(1) : والعراق أعدل أرض الله هواء، وأصحّها مزاجاً وماء؛ فلذلك كان أهل العراق هم أهل العقول الصحيحة، والآراء الراجحة، والشهوات المحمودة، والشمائل الظريفة، والبراعة في كلّ صناعة مع اعتدال الأعضاء، واستواء الأخلاط، وسمرة الألوان.

وهم الذين أنضجتهم الأرحام فلم تخرجهم بين أشقر وأصهب وأبرص، كالذي يعتري أرحام النساء الصقالبة في الشقرة، ولم يتجاوز أرحام نسائهم في النضج إلى الحراق كالزنج والنوبة والحبشة الذين حلك لونهم، ونتن ريحهم، وتفلفل شعرهم، وفسدت آراؤهم وعقولهم، فمَن عداهم بين خمير لم ينضج، ومجاوز للقدر حتّى خرج عن الاعتدال.

قال: وأقليم بابل موضع التميمة من العقل، وواسطة القلادة، ومكان اللبة من المرأة الحسناء، والمحّة من البيضة، والنقطة من (البركار).

ولقد أكثر الشعراء في مدح العراق، قال بعضهم:

إلى الله أشكو عبرةً قد أظلّتِ

ونفساً إذا ما عزّها الشوق ذلّتِ

تحنُّ إلى أرضِ العراقِ ودونها

تنايفُ لو تسري بها الريحُ ضلّتِ

____________________

(1) انظر معجم البلدان - الحموي - مادة عراق.

١٤

وذكر المسعودي في مروجه(1) قال: ذكر ذوو الدراية أنّ عمر بن الخطاب (رض) حين فتح الله البلاد على المسلمين من العراق والشام ومصر وغير ذلك من الأرض، كتب إلى حكيم من حكماء العصر: إنّا أُناس عرب، وقد فتح الله علينا البلاد، ونريد أن نتبوّأ الأرض، ونسكن البلاد والأمصار، فصف لي المدن وأهويتها ومساكنها، وما تؤثره الترب والأهوية في سكّانها.

فكتب إليه ذلك الحكيم عن وصف الأقطار، وأعطى كلّ قطر صفته، كالشام ومصر، واليمن والحجاز، والمغرب وخراسان، وفارس والجبال، وخوزستان والبر، ووصف له العراق فقال: وأمّا العراق، فمنار الشرق وسرة الأرض، وقلبها إذا تحادرت المياه، وبه اتّصلت النضارة، وعنه وقف الاعتدال؛ فصفت أمزجة أهله، ولطفت أذهانهم، واحتدت خواطرهم، واتّصلت مسراتهم؛ فظهر منهم الدهاء، وقويت عقولهم، وثبتت بصائرهم.

وقلب الأرض العراق، وهو المجتبى من قديم الزمان، وهو مفتاح الشرق، ومسلك النور، ومسرح العينين، ومدنه المدائن وما والاها، ولأهله أعدل الألوان، وأنقى الروائح، وأفضل الأمزجة، وأطوع القرائح، وفيهم جوامع الفضائل، وفوائد المبرات، وفضائله كثيرة؛ لصفاء جوّه، وطيب نسيمه، واعتدال تربته، وإغداق الماء عليه، ورفاهية العيش به.

وسأل عمر (رض) كعب الأحبار عن العراق، فقال: إنّ الله لمّا خلق الأشياء ألحق كلّ شيء بشيء، فقال العقل: أنا لاحق بالعراق، فقال العلم: وأنا معك. فقال المال وأنا لاحق بالشام، فقالت الفتن: وأنا معك. فقال الخصب: وأنا لاحق بمصر، فقال الذلّ وأنا معك. فقال الفقر: وأنا لاحق بالحجاز، فقالت القناعة: وأنا معك. فقال الشقاء: وأنا لاحق بالبوادي، فقالت الصحة: وأنا معك.

وقال المسعودي(2) أيضاً: وأوسط الأقاليم إقليم بابل، وقد كان هذا الإقليم عند ملوك الفرس جليلاً، وقدره عظيماً، وكانت عنايتهم إليه مصروفة، وكانوا يشتّون بالعراق، وأكثرهم

____________________

(1) انظر مروج الذهب المسعودي 1 / 370 و 372، طبع دار الرجاء.

(2) انظر مروج الذهب المسعودي 1 / 374.

١٥

يصيّفون بالجبال، وينتقلون في الفصول إلى الصرود من الأرض والحرور.

وقد كان أهل المروءات في الإسلام كأبي دلف القاسم بن علي العجلي وغيره يشتّون في الحرور، وهو العراق. ويصيّفون في الصرود، وهي الجبال، وفي ذلك يقول أبو دلف:

وإنّي امرؤٌ كسروي الفعالِ

أصيف الجبالَ وأشتو العراقا

قال أبو القاسم الزجاجي: قال ابن الأعرابي: سمّي عراقاً؛ لأنّه سفل عن نجد، ودنا من البحر. والعراقان: الكوفة والبصرة.

ذكر ابن حوقل(1) قال: وأمّا العراق، فإنّه في الطول من حدّ تكريت إلى عبادان، وعبادان مدينة على نحر بحر فارس، وعرضه من القادسية على الكوفة وبغداد إلى حلوان، وعرضه بنواحي واسط من سواد واسط إلى قرب الطيب.

وبنواحي البصرة، من البصرة إلى حدود جبى، والذي يطيف بحدوده من تكريت فيما يلي المشرق حتّى يجوز بحدود سهرورد وشهرزور، ثمّ يمرّ على حدود حلوان، وحدود السيروان والصيمرة، وحدود الطيب والسوس حتّى ينتهي إلى حدود جبى، ثم البحر تقويس.

ويرجع على حدود المغرب من وراء البصرة في البادية على سواد البصرة وبطائحها إلى واسط، ثمّ على سواد الكوفة وبطائحها إلى الكوفة، ثمّ على ظهر الفرات إلى الأنبار، ثمّ من الأنبار إلى حدّ تكريت بين دجلة والفرات. وفي هذا الحدّ من البحر على الأنبار إلى تكريت تقويس أيضاً.

وجاء في مجلة المقتطف(2) : والعراق أو ما بين النهرين من أخصب بلدان المسكونة تربة؛ فإنّ الفرات ودجلة يحملان إليها بفيضانهما من الطمى (الأبليز) كلّ سنة أربعة أضعاف ما يحمله النيل إلى واديه.

والمرجّح أنّ تلك البلاد بلغت أوج مجدها في عهد بني ساسان؛ لأنّهم بنوا على ما خلّفته لهم العصور السالفة، فإنّ الترع المعروفة باسم نهروان، وعرضها 400 قدم وعمقها 15 قدم، كانت تروي كلّ البلاد شرقي دجلة. والترعة المسمّاة دجيل كانت تروي كلّ البلاد الغربية.

____________________

(1) انظر صورة الأرض - ابن حوقل 1 / 331، طبع ليدن.

(2) المقتطف - المجلة - 44 / 316. اقتطفته من مقال فليراجع.

١٦

وكان يتفرّع من الفرات أربع ترع كبيرة تروي سائر البلاد حتّى قال (أمبانوس مرسليانوس) الذي طاف فيها في القرن الخامس: إنّها روضة غنّاء من طرف إلى طرف.

ثمّ دوخ العرب تلك البلاد في القرن السابع فوجدوها لا تزال في أوج مجدها، ومصّروا فيها الكوفة والبصرة وواسط بدل عواصمها القديمة، وبنوا بغداد(1) فصارت دار الخلافة، ولا تزال إلى يومنا هذا أكبر مدن العراق. وفاقت بغداد عواصم الدنيا في زمن الرشيد(2) والمأمون(3) .

ثمّ انحطّ العراق رويداً رويداً، وأجهز عليه المغول في زمن (جنكيز خان)، والتتار في زمن (تيمور لنك)، في القرن الثالث عشر؛ فخربت كلّ أعمال الري العظيمة حتّى لم يبقَ منها واحد، فزال سد نمرود من دجلة، فهبط ماؤه 25 قدماً، وبطل جريان الماء في ترعتي النهروان ودجيل(4) ، وأمست ضفاف دجلة العالية قفاراً قاحلة، سوى التي تُزرع على ماء المطر (ديم)، وخربت ضفته اليسرى فما يلي تخوم العجم، ولم تعد مياهه تنصب في البطائح والمستنقعات، ولولا الاعتماد على زرع الأرز الذي تصلح له الأرض العامرة لما بقي في البلاد زرع يذكر.

ومساحة أراضي العراق 12 ميلون فدان. وإذا جادت السماء بمطرها زرعت السهول على الجانبين شعيراً؛ لأنّها سهول فيحاء لا تحتاج لنمو الزرع فيه إلاّ إلى الماء.

وزد على ذلك فإنّ النخل ينمو في كلّ

____________________

(1) بغداد: بناها المنصور العباسي الدوانيقي. وبدأ بإنشائها سنة 145 هـ. وقد أنفق على بناء المدينة وجامعها، وقصر الذهب فيها، والأبواب والأسواق أربعة آلاف ألف وثمانمئة وثلاثة وثمانين ألف درهم. وللشعراء فيها مدح كثير. انظر تاريخ بغداد - ابن الخطيب.

(2) هو هارون الرشيد بن المهدي، الخليفة العباسي. توفي في طوس 3 جمادي الآخرة سنة 193.

(3) المأمون بن الرشيد، مات على نهر البذندون 17 رجب سنة 218.

(4) حتّى اليوم لم يجرِ فيها الماء، وتظهر للناظر بعض آثارهما، وبعض القناطر على حالتها حتّى اليوم. وقفت على بعضها مراراً، وقد تغيّرت مجاري المياه، وأحدثت حكومتنا العربية بعض السدود والجسور، ولم تزل مديرية الري دائبة بأعمال الري والزراعة.

١٧

جزيرة العراق، أي على ضفاف دجلة والفرات. ولا يقلّ عدد ما فيه منها عن عشرة ملايين نخلة(1) . والمواشي كثيرة في العراق، وهي من أجود الأنواع. والأرض منبسطة لا تحتاج إلى تقصيب، وهي صفراء اللون، وفيها كثير من الجير (الكلس)؛ ولذاك يسهل إصلاحها وحرثها وتنعيمها.

وتكثر الآن أنجم عرق السوس، والنباتات الشائكة من الفصيلة القرنية، وفي المستنقعات أشجار الحور والصفصاف.

(الميامين): مفردها ميمون، وهو ذو اليمن والبركة. و (الورى): أي الخلق. وأبو الورى كنية الدهر.

فأصحاب الحسينعليه‌السلام - وأيم الحقّ - هم ميامين هذا الخلق، والصفوة من الناس وقتئذ. وقد صحبوا الحسينعليه‌السلام في سفره إلى العراق، ولم يفارقوه حتّى رُزقوا الشهادة بين يديه (رضوان الله عليهم).

قال فيهم الأزري (قُدّس سرّه)(2) :

همُ الأسودُ ولكنّ الوغى أجمُ

ولا مخالبَ غير البيضِ والسمرِ

وقال آخر:

وإذا الجدبُ جاء كانوا غيوثاً

وإذا النقعُ ثارَ ثاروا اُسودا

____________________

(1) إنّ عدد النخل في عصرنا يُعد بأضعاف ما ذكر. وقد أفردت كتاباً فيه أسميته (النخلة)، مخطوط، وقد قرأت في مجلة الزراعة العراقية أنّ في العراق هذا الوقت نحواً من خمس وثلاثين مليون نخلة، وربّما يُعادل ثلث ما في العالم من النخيل. ويذكرون أنّ أكبر بقعة يكثر فيها النخل العراق، ويكثر النخل في وسط العراق وجنوبه.

والألوية التي يكثر فيها النخل هي لواء الحلّة، وكربلاء، والديوانية، والمنتفك، والبصرة، وأكثره في لواء البصرة؛ حيث بها اليوم ما ينوف على العشرة ملايين نخلة، وربما يصدّر العراق إلى الخارج أكثر من ثلاثمئة ألف طن سنوياً من ثمره غير الذي يستهلك داخل القطر.

(2) هو المغفور له الشيخ كاظم ابن الحاج محمد ابن الحاج مراد ابن الحاج مهدي بن إبراهيم بن عبد الصمد بن علي التميمي الأزري البغدادي، شاعر العراق وقتئذ. توفي غرّة جمادي الأولى 1211 هـ، وقبره في الكاظمية في البيت الذي دُفن فيه علم الهدى السيّد المرتضى.

١٨

وكأنّ الإله قال لهم في الـ

ـحربِ كونوا حجارةً أو حديدا

وللسيّد حيدر الحلّي (ره):

سمةُ العبيدِ من الخشوع عليهمُ

للهِ أن ضمّتهمُ الأسحارُ

وإذا ترجلّت الضحى شهدت لهمْ

بيضُ الصوارمِ أنّهم أحرارُ

وكأنّ الشاعر الأندلسي عناهم بقوله:

ساروا فودّعهم طرفي وأودعهمْ

قلبي فما بعدوا عنّي ولا قربوا

هم الشموسُ ففي عيني إذا طلعوا

في القادمينَ وفي قلبي إذا غربوا

* * *

وقد أتى بسَيره منازلاً

حصباؤها قد فاخرت شُهبَ السما

قلت: أتى الحسينعليه‌السلام في طريقه إلى العراق منازل مشهورة معروفة محدودة. فبعضها اجتازها ولم ينزل بها، والبعض بات بها ليلته، وبعضها قال بها، أي (حلّ بها وقت القيلولة) وظعن منها إلى غيرها. وعددها كما ذكرناه في (المقصورة).

قال أرباب السير: ولمّا خرج الحسينعليه‌السلام من مكّة اعترضه يحيى بن سعيد(1) بن العاص ومعه جماعة كان قد أرسلهم أخوه عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق، فقالوا له: انصرف وإلاّ منعناك. فأبى عليهم الحسينعليه‌السلام ومضى.

قال: وتدافع الفريقان، واضطربوا بالسياط، وامتنع الحسينعليه‌السلام وأصحابه امتناعاً قوّياً.

وذكر الطبري(2) ، عن أبي مخنف قال: حدّثني الحارث بن كعب الوالبي، عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام قال: لمّا خرجنا من مكّة كتب عبد الله بن جعفر بن أبي طالبعليه‌السلام إلى الحسين بن علي مع ابنيه عون ومحمد(3) : أمّا بعد، فإنّي أسألك بالله لما انصرفت عن هذا الوجه حين تنظر في كتابي هذا؛ فإنّي

____________________

(1) يحيى بن سعيد: هو أخو عمرو بن سعيد الأشدق، الوالي على مكّة من قبل يزيد بن معاوية.

(2) انظر ابن جرير الطبري 6 / 219.

(3) عون ومحمد ابنا عبد الله بن جعفر بن أبي طالبعليهم‌السلام ، اُمّهما زينب الكبرى بنت أمير المؤمنينعليه‌السلام ، قُتلا مع خالهما الحسين يوم الطفّ.

١٩

مشفق عليك من الوجه الذي توجّهت له أن يكون فيه هلاكك، واستئصال أهل بيتك. إن هلكت اليوم طُفئ نور الأرض؛ فإنّك علم المهتدين، ورجاء المؤمنين، فلا تعجل بالمسير فإنّي آثر الكتاب، والسلام.

قال: وقام عبد الله بن جعفر إلى عمرو بن سعيد بن العاص فكلّمه، وقال: اكتب إلى الحسينعليه‌السلام كتاباً تجعل فيه الأمان، وتمنّيه فيه البرّ والصلة، وتوثق له في كتابك، وتسأله الرجوع؛ لعله يطمئن إلى ذلك فيرجع.

فقال له عمرو: اكتب ما شئت وائتني به حتّى أختمه. فكتب عبد الله بن جعفر الكتاب ثمّ أتى به عمرو، وقال: اختمه وابعث به مع أخيك يحيى؛ فإنّه أحرى أن تطمئن نفسه إليه، ويعلم أنّه الجدّ منك. ففعل.

قال: فلحقه يحيى وعبد الله بن جعفر، ثمّ انصرفا بعد أن أقرأه يحيى الكتاب. فقالا: أقرأناه الكتاب وجهدنا به، فكان ممّا اعتذر به إلينا أن قال: « إنّي رأيت رؤيا فيها رسول الله، وأُمرت فيها بأمر أنا ماضٍ له عليّ كان أولى ». فقالا له: وما تلك الرؤيا؟ قال: « ما حدّثت أحداً بها، وما أنا محدّث بها حتّى ألقى ربّي ».

قال: وكان كتاب عمرو بن سعيد إلى الحسين بن علي ما نصه: بسم الله الرحمن الرحيم. من عمرو بن سعيد إلى الحسين بن علي بن أبي طالب. أمّا بعد، فإنّي أسأل الله أن يصرفك عمّا يوبقك، وأن يهديك لمّا يرشدك.

بلغني أنّك قد توجّهت إلى العراق، وإنّي أُعيذك بالله من الشقاق؛ فإنّي أخاف عليك فيه الهلاك. وقد بعثت إليك عبد الله بن جعفر ويحيى بن سعيد فأقبل إليّ معهما؛ فإنّ لك عندي الأمان والصلة، والبرّ وحسن الجوار. لك الله عليّ بذلك شهيد وكفيل، ومراع ووكيل، والسلام عليك.

قال: فكتب إليه الحسينعليه‌السلام : « أمّا بعد، فإنّه لم يشاقق الله ورسوله مَنْ دعا إلى الله (عزّ وجلّ) وعمل صالحاً وقال إنّني من المسلمين. وقد دعوت إلى الأمان والبرّ والصلة، فخير الأمان أمان الله، ولن يؤمن الله يوم القيامة مَنْ لم يخفه في الدنيا، فنسأل الله مخافة في الدنيا توجب لنا أمانه في يوم القيامة، فإن كنت نويت بالكتاب صلتي وبرّي، فجزيت خيراً في الدنيا والآخرة، والسّلام ».

ثمّ إنّ الحسينعليه‌السلام جدّ بسيره حتّى انتهى إلى بستان بن عامر، وهو أول منزل لمَنْ يفصل من مكّة المكرّمة على هذا الطريق.

٢٠