الحسين في طريقه إلى الشهادة

الحسين في طريقه إلى الشهادة0%

الحسين في طريقه إلى الشهادة مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 222

الحسين في طريقه إلى الشهادة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الخطيب علي بن حسين الهاشمي
تصنيف: الصفحات: 222
المشاهدات: 53692
تحميل: 7466


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 222 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 53692 / تحميل: 7466
الحجم الحجم الحجم
الحسين في طريقه إلى الشهادة

الحسين في طريقه إلى الشهادة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

والعصيان، والذي غشى أمّهات أولاد أبيه، وقذف بغشيان أخيه.

وهذه المثالب مع عظمها وكثرتها، ومع قبحها وشنعتها، صغيرة وقليلة في جنب مثالب بني العباس الذين بنوا مدينة الجبّارين، وفرّقوا في الملاهي والمعاصي أموال المسلمين.

هؤلاء أرشدكم الله الأئمّة المهديون الراشدون الذين قضوا بالحقّ وبه يعدلون، بذلك يقف خطيب جمعتهم، وبذلك تقوم صلاة جماعتهم إلخ.

لعنَ اللهُ مَنْ يسبُ علياً

وحسيناً من سوقةٍ وأمامِ

وقال آخر:

لعنَ اللهُ أعظماً حملوها

لديارِ البلى على الخشباتِ

أعظماً تكرهُ النبي وأهل البيـ

تِ والطيبينَ والطيباتِ

أميّةَ غوري في الخمولِ وأنجدي

فما لكِ في العلياءِ فوزةُ مشهدِ

هبوطاً إلى أحسابكمْ وانخفاضها

فلا نسبٌ زاكٍ ولا طيبُ مولدِ

تطاولتمُ لا عن عُلا فتراجعوا

إلى حيثُ أنتم واقعدوا شرَّ مقعدِ

قديمكمُ ما قد علمتم ومثلُهُ

حديثكمُ في خزيةِ المتجدّدِ

فماذا الذي أحسابُكمْ شرفت به

فأصعدكمْ في الملكِ أشرفَ مصعدِ

صلابةُ أعلاكِ الذي بللُ الحيا

به جفَّ أم في لين أسفلُك الندي

بني عبد شمسٍ لا سقى اللهُ حفرةً

تضمّكِ والفحشاءُ في شرِّ ملحدِ

ألما تكوني في فجوركِ دائماً

بمشغلةٍ عن غصبِ أبناءِ (أحمدِ)

وراءك عنها لا أبا لك إنّما

تقدّمتها لا عن تقدّمِ سؤددِ

عجبتُ لمَنْ في ذلةِ النعلِ رأسُهُ

بهِ يتراءى عاقداً تاجَ سيّدِ

دعوا هاشماً والفخر يعقدُ تاجهُ

على الجبهاتِ المستنيراتِ في الندي

ودونكموا والعارُ ضمّوا غشاءهُ

إليكم إلى وجهٍ من العارِ أسودِ

يرشّحُ لكن لا لشيء سوى الخنا

وليدُكمُ فيما يروحُ ويغتدي

وتترفُ لكن للبغاءِ فتاتُكمْ

فيدنسُّ منها في الدُّجا كلّ مرقدِ

ويسقي بماءٍ حرثكم غيرُ واحدٍ

فكيف لكم تُرجى طهارةُ مولدِ

ذهبتم بها شنعاءَ أبقت وصومَها

بأحسابكم خزياً لدى كلّ مشهدِ

وللمرحوم السيد حيدر الحلّي (رحمه الله):

٢٠١

فسل (عبدَ شمس) هل يرى جرمَ هاشمٍ

إليهِ سوى ما كان أسداهُ من يدِ

وقل (لأبي سفيان) ما أنتَ ناقمٌ

أأمنك يوم الفتحِ ذنبُ (محّمدِ)

فكيف جزيتم (أحمداً) عن صنيعهِ

بسفكِ دمِ الأطهارِ من آلِ (أحمدِ)

أميّة هم أئمّة الكفر الذين نزل فيهم قوله تعالى:( فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ ) ؛ لأنّ أبا سفيان كان إمام الكفر، وقائد المشركين في وقعة بدر وأحد والأحزاب، ومعه أولاده ورهطه، وفيهم نزل قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً ) .

قال الرازي فيمَنْ يعني بالذين كفروا بعد كلام له: وقيل: هم مشركوا قريش عامّة، وقيل: بل هم أبو سفيان ورهطه خاصّة، ووجهوه بما نقل من إنفاقه المال الكثير على المشركين يوم بدر وأحد.

وهم أيضاً الشجرة الملعونة في القرآن، قال تعالى:( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآَنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاّ طُغْيَاناً كَبِيراً ) .

قال الفخر الرازي في تفسيره: عن سعيد بن المسيب أنّه قال: إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله رأى في منامه أنّ بني اُميّة ينزون على منبره كما تنز القردة، فساءه ذلك.

وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء، وفيه عن ابن عباس: إنّ الشجرة الملعونة هم بنو أميّة، يعني الحكم بن أبي العاص وأولاده.

ومثله قال النيسابوري في تفسيره، ونظير ذلك في البيضاوي، إلاّ إنّه زاد أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال بعد ذلك: « هذا حظّهم في الدنيا يعطونه جزاء عن إسلامهم ».

وكأنّه كناية عن أنّه لاحظ لهم في الآخرة، وقريب من ذلك في الكشّاف، وأشار إلى ذلك المعتضد العباسي من منشوره حيث قال: ولا خلاف في أنّ الشجرة الملعونة هم بنو أميّة، وممّا يؤكّد هذا التأويل قول عائشة لمروان: لعن الله أباك وأنت في صلبه، فأنت بعض مَنْ لعنه الله.

وعن صاحب كتاب (الهاوية)، عن ابن مسعود أنّه قال: لكلّ لشيء آفة، وآفة هذا الدين بنو أمية؛ حارب أبو سفيان النبي، وحرّض عليه اليهود والمشركين حتّى أسلم عام الفتح كرهاً، وبقي يكيد للإسلام سرّاً وجهراً إلى أن انتهى الأمر إلى عثمان، فقال: تلقّفوها يا بني اُميّة تلقّف الكرة؛

٢٠٢

فإنّه لا جنّة ولا نار، ولا ثواب ولا عقاب.

روى البيهقي والزمخشري وكثير من الرواة: أنّ أبا سفيان كان راكباً حماراً، وابنه معاوية يقوده، ويزيد(*) يسوقه، فلمّا نظر إليهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: « لعن الله الراكب والقائد والسائق ». وكان أبو سفيان رأس بني أمية في الجاهلية، وقائد المشركين، ورأس الأحزاب.

فقال حسان يعرّض بنسب ابنه زياد على ادّعاء معاوية:

عضضتَ بأيرٍ من أبيكَ وخالِهِ

وعضّت بنو النجّارِ بالسكرِ والرطبِ

فلستَ بخيرٍ من أبيهِ وخاله

ولستَ بخيرٍ من معاظلةِ الكلبِ

ولستَ بذي دينٍ ولا ذي أمانةٍ

ولستَ بخيرٍ من لؤيٍّ ولا كلبِ

ولكن هجينٌ ذو دناةٍ لمغرفٍ

مجاجة ملحٍ غير صافٍ ولا عذبِ

وقال أيضاً:

ولستَ من المعشرِ الأكرمينْ

ولا عبد شمسٍ ولا نوفلِ

وليسَ أبوكَ بساقي الحجيج

فاقع على الحسبِ الأرذلِ

ولكن هجينٌ منوطٌ بهم

كما نوّطت حلقةُ المحملِ

تجيش من اللؤمِ أحسابكم

كجيش المشاشةِ في المرجلِ

تشير هذه الأبيات إلى أنّ أبا سفيان ابن زنى كما جاء في كتب التاريخ؛ إذ إنّ أمّه صفية بنت مزن الهلالية كانت معروفة بالزنى، وكانت ولدته سرّاً بعشر سنين قبل عام الفيل.

قال الجاحظ في رسالة (مفاخرة بني هاشم وبني أميّة): فأميّة ظلمت العباد، وأكثرت الفساد، وأخربت البلاد، واتّبعت الشهوات، وانتهكت الحرمات، وأذاعت الخمور، وهتكت الستور، وارتكبت الفجور، وجرت على خلاف ما أمر به الإسلام، وعادت العلم، وعطّلت الأحكام.

فعمد معاوية إلى هدم أساس الدين باستلحاقه زياداً، والردّ بذلك على القرآن وعلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبجعله الخلافة إرثاً، وقتله المسلمين من الصحابة، وأبطال العراق في صفين حرباً، وعلى يد زياد، وسمرة بن جندب، والمغيرة بن شعبة صبراً إلى غير ذلك من أعماله.

وخلفه يزيد نغله قتل الذرية الطاهرة وفي طليعتها سيّد شباب أهل الجنّة، الحسين بن علي ريحانة رسول الله، وكانت أعماله لطخة سوداء في جبين التاريخ، يشرب

____________________

(*) تجدر الإشارة إلى أن يزيد هذا هو ابن أبي سفيان وليس ابن معاوية؛ إذ كانت ولادة هذا الأخير سنة 25 للهجرة، أي بعد شهادة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله بأربعة عشر سنة.(موقع معهد الإمامين الحسَنَين)

٢٠٣

الخمر، وكان مولعاً بالقرود والفهود، حتّى أباح مدينة الرسول، وكانت هناك من المنكرات ما يندى لها الجبين، وأعماله كلّها في مدّة خلافته كانت مضادة للإسلام.

قال الشعبي: كانت ليزيد أخت تسمّى هنداً، فلمّا رأت أسرى أهل البيت، قالت: أيّها الأسرى أيكنّ اُمّ كلثوم أخت الحسين؟

فقالت اُمّ كلثوم: ويلك! ها أنا ابنة الإمام الزكي، والهمام التقي، والصمصام النقي، أمير المؤمنين، وقاتل الناكثين والمارقين والقاسطين، الذي قرن الله طاعته بطاعته، وعقابه بمعصيته، والذي فرض الله تعالى ولايته على البدوي والحضري، فهو مبيد الأقران والفرسان، والمتوّج بتاج الولاية والسلطان، وهو الذي كسر اللات والعزّى، وطهّر البيت والصفا.

فلمّا سمعت أخت يزيد ذلك قالت: يا اُمّ كلثوم، ولأجل ذلك أُخذتم، وبمثله طُلبتم، وهو أنتم يا بني عبد المطلب، بمثل ربيعة وأبي جهل وأضرابهم تُسفك دماؤكم، أنسينا أباكِ يوم بدر وما قتل من رجالنا؟!

فقالت أم كلثوم: يا بنت مَنْ خبث من الولادة والأولاد، ويا ابنة آكلة الأكباد، لسنا كنسائهم المشهورات بالزنى والخنا، ولا رجالنا العاكفون على اللات والعزّى، أليس جدّك أبو سفيان الذي حزّب على الرسول الأحزاب؟ أليست أمّك هند باذلة نفسها لوحشي وآكلت كبد حمزة جهراً؟ أليس أبوك الضارب في وجه إمامه بالسيف؟ أليس أخوك قاتل أخي ظلماً، وهو سيّد شباب أهل الجنّة وابن بنت الرسول؟ وكثر ما ملكتموه في الدنيا فإنّه في الآخرة قليل.

وهذا عبد الملك بن مروان أوّل مَنْ نهى عن الأمر بالمعروف في الإسلام؛ فإنّه أتى المدينة بعد قتل ابن الزبير فصعد المنبر، فقال: لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلاّ ضربت عنقه. وأتبعه على ذلك سائر الملوك.

ولكن أولاده كانوا أكثر الناس اتّباعاً له عملاً بالمنكر، وبعداً عن المعروف، فقد كان الوليد اسمه جبّاراً عنيداً، وكان يرغب في بناء القصور، فكان حديث الناس في أيامه البناء، ولم يكن للوليد حظّ من العلم؛ صعد المنبر يوماً فقال: إنّ علي بن أبي طالب لصّ وابن لصّ بكسر الصاد فيهما.

وصعد المنبر يوماً فقال في خطبته: يا ليتها كانت القاضية. بضم التاء، فقال ابن عبد العزيز: يا ليتها كانت القاضية، تعريضاً بالدعاء

٢٠٤

عليه، وجميع ما اقترفه الحجّاج في عنق الوليد وعبد الملك؛ لأنّه كان والياً من قبلهما.

قال أبو العطاء السندي من شعراء الحكومة الأمويّة والعباسيّة:

إنّ الخيارَ من البريةِ هاشمٌ

وبنو أميّة أرذلُ الأشرارِ

وبنو أميّة عودُهم من خروعٍ

ولهاشمٍ في المجدِ عودُ نضارِ

أمّا الدعاةُ إلى الجنانِ فهاشمٌ

وبنو أميّةَ من دعاةِ النارِ

وبهاشمٍ زكت البلادُ وأعشبتْ

وبنو أميّةَ كالسرابِ الجاري

وكان حديث الناس في زمن سليمان بن عبد الملك الطعام والنكاح؛ لأنّه كان لا يرغب في سواهما حتّى قيل: إنّه أكل يوماً أحشاء ثلاثين حملاً في ثلاثين رغيفاً، ولمّا حضرت المائدة أكل مع الناس كأنّه لم يكن قد أكل قبل.

وأكل يوماً مئة رطل من الطعام، وكان لشرهه لا يصبر إذا أُتي له بالدجاج المشوي وهو حار، فكان يتناوله بكمّه ويأكله، وكان إذا نام توضع عند رأسه أطباق الحلوى ليأكل منها إذا استيقظ في أثناء الليل.

وقد سبقه إلى هذا معاوية بن أبي سفيان، وهذه الخلّة لا تناسب الخلافة التي قوامها المواساة للناس.

وانظر إلى يزيد بن عبد الملك واستهتاره بالدين والصلاة، يروى أنّه طرب يوماً وعنده حبابة جاريته وسلامة القس، فقال: دعوني أطير. فقالت حبابة: على مَنْ تدع هذه الأمّة يا أمير المؤمنين؟ قال: عليكِ. وغنّته بهذا البيت:

وبين التراقي واللهاتِ حرارةٌ

وما ظمأت ماء يسوغُ فتبردا

فأهوى ليطير، فقالت: يا أمير المؤمنين، إنّ لنا فيك حاجة، فقال: والله لأطيرنَّ.

فقالت: على مَنْ تخلف الأمّة والملك؟ قال: عليكِ والله. وقبّل يدها، فخرج بعض خدمه وهو يقول: سخنت عينك فما أسخفك.

وخرجت يوماً تتنزه معه إلى ناحية الأردن فرماها بحبّة عنب، فدخلت حلقها فشرقت ومرضت وماتت، فتركها أسبوعاً لم يدفنها حتّى أنتنت، وهو يشمّها ويقبّلها وينظر إليها ويبكي، فكلّم في أمرها حتّى أذن في دفنها، وعاد إلى قصره كئيباً حزيناً.

وسمع جارية تتمثّل بعدها:

كفى حزناً بالهائم الصبِّ أن يرى

منازلَ مَنْ يهوي معطّلة قفرا

٢٠٥

فبكى وبقي بعد موتها سبعة أيام لا يظهر للناس، فأشار عليه أخوه (مسلمة) بذلك مخافة أن يظهر منه ما يسفهه عندهم.

وقال آخر: ووجد يزيد بعد موت حبابة وجداً شديداً، فخرج مشيّعاً لجنازتها، ومعه أخوه مسلمة بن عبد الملك؛ ليسليه ويعزيه فلم يجبه بكلمة، ولم يطلق الركوب من الجزع، وعجز عن المشي، فأمر مسلمة فصلّى عليها، ولمّا دُفنت بقي بعدها خمسة عشر يوماً ومات ودُفن إلى جانبها. وأخبار يزيد مع حبابة كثيرة تدلّ على ما بلغت به أميّة من الدعارة، وترويج الزنا والفجور، ومخالفة أحكام الإسلام.

وإليك ما يُروى من أخبار هشام: اشترى هشام جارية بمال جزيل اسمها صدوف، فعتب عليها في شيء ذات يوم فحلف أن لا يبدأها بكلام، فجلس مغموماً، فدخل عليه الكميت فقال له: ما لي أراك مغموماً يا أمير المؤمنين؟ فأخبره بالقصة، فأنشأ استرضاء له:

أعتبتَ أم عتبت عليكَ صدوفُ

وعتابُ مثلكَ مثلُها تشريفُ

لا تقعدنَّ للومِ نفسكَ دائماً

فيها وأنتَ بحبّها مشغوفُ

إنّ العزيمةَ لا تقوم بمثلها

إلاّ القوي بها وأنتَ ضعيفُ

فقال هشام: صدقت والله. فقام من مجلسه ودخل عليها، ونهضت إليه فاعتنقته، وأعطى هشام الكميت ألف دينار.

وعندما اشترى يزيد بن عبد الملك سلامة القس التي كانت بارعة بالجمال، قال للشاعر صفها، فقال:

هي شمسُ النهارِ في الحسنِ إلاّ

إنّها فضلت بفتكِ الطرافِ

غضةٌ بضةٌ رخيمٌ لعوبُ

وعثةُ المتنِ نحثةُ الأطرافِ

خُلقت فوقَ منيةِ المتمني

فاقبل النصحَ يابن عبد منافِ

هذه خلافة بني اُميّة ودعارتها، وهي تدّعي الخلافة على المسلمين، ويدعى لها على المنابر، تعالوا على الإسلام نبكي ونلطم.

والوليد بن يزيد بن عبد الملك كان ماجناً مولعاً بشرب الخمر، فقال له

٢٠٦

هشام يوماً: ما أدري، أعلى الإسلام أنت أم لا؛ ما تدع شيئاً من المنكرات إلاّ أتيته غير متحاشٍ!

فأجابه الوليد:

يا أيّها السائلُ عن ديننا

نحنُ على دين أبي شاكرِ

نشربها صرفاً وممزوجةً

بالسخنِ أحياناً وبالفاترِ

وأبو شاكر هو مسلمة بن هشام، وكان شريباً للخمر كالوليد، ولمّا مات هشام كان الوليد بالأردن، فجاءته الرسل تهنئه بالخلافة، وحمل إليه الخاتم والقضيب، فقال غنّوا بهذه الأبيات:

طابَ يومي ولذَّ شربُ السلافهْ

وأتانا نعي مَنْ بالرصافهْ(1)

وأتانا البريدُ ينعى هشاماً

وأتانا بخاتمٍ للخلافهْ

فاصطبحنا من خمرِ عانة صرفاً

ولهونا بقنيةٍ عزّافهْ

وحلف أن لا يبرح من موضعه حتّى يغنّي في هذا الشعر ويشرب عليه، ففعلوا ذلك، ولم يزالوا يغنّون إلى الليل.

وكان مدّة خلافته مدمنا للخمر واللهو، منادماً للفساق، ولم يبالِ بانتهاك الحرمات، وكان يغشى أمّهات أولاد أبيه غير مبالٍ بما نهى الله عنه في الذكر الحكيم، وقوله:( وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ ) ، حتّى قال فيه الشاعر:

يا وليد الخنا تركتَ الطريقا

واضحاً وارتكبت فجّاً عميقا

وتماديتَ واعتديتَ وأسرفـ

تَ وأغويتَ وأبتغيتَ فسوقا

أبداً هات ثمّ هات وهات

ثمّ هات حتّى تخرّ صعيقا

أنتَ سكرانُ ما تفيقُ فما تر

تق فتقاً وقد فتقتَ فتوقا

وذكر الأنطاكي(2) أنّ الوليد عشق فتاة نصرانية، فقصدها في يوم عيد بغير زيّه؛ لأنّ معشوقته أبت مواصلته، ودخل بستاناً كانت قد مضين بنات النصارى للتنزّه فيها، فالتفتت معشوقته إلى صاحب البستان وقالت: مَنْ هذا؟ فقال: مصاب.

____________________

(1) الرصافة: أراد بها رصافة الشام.

(2) انظر تزيين الأسواق.

٢٠٧

فرحمته ممازحة حتّى سكن، فقيل لمعشوقته: هل تعرفينه؟ قالت: لا. قيل لها: هذا الخليفة. فمكّنته من نفسها وتزوّجها، فقال فيها:

أضحى فؤادكَ يا وليدُ عميدا

صبّاً قديماً للحسانِ صيودا

من حبِّ واضحةِ العوارضِ طفلةٌ

برزت لنا نحو الكنيسةِ عيدا

مازلتَ ترمقها بعيني وامقٍ

حتى بصرت بها تقبّلُ عودا

عودُ الصليبِ فويحَ نفسي مَنْ رأى

منكم صليباً مثلهِ معبودا

فسألتُ ربّي أن أكونَ مكانهُ

وأكونُ في لهبِ الجحيمِ وقودا

ولما اشتهر أمره فيها قال:

ألا حبّذا سعدي وإن قيلَ إنّني

كلفتُ بنصرانيةٍ تشربُ الخمرا

يهونُ علينا أن نظلّ نهارنا

إلى الليلِ لا اُولى نصلّي ولا عصرا

وفي تاريخ الخميس: إنّ الوليد أتى منزله فرأى بنتاً له مع مرضعتها، فجلس على فخذها ولم يفارقها حتّى افتضّ بكارتها.

فقالت المرضعة: اخترت دين المجوس؟!

فقال الوليد:

مَنْ راقبَ الناس ماتَ هماً

وفازَ باللذةِ الجسورُ

قال ابن أبي الحديد، وجلال الدين السيوطي: إنّ سليمان عبد الملك قال: لعن الله الوليد كان فاسقاً، وقد دعاني يوماً إلى الفاحشة - أي اللواط -.

فقال بعض قومه: اسكت لو أراد ذلك لفعل. وأذّن مؤذن للصلاة، وكان الوليد سكرانَ، فخرج مع جارية له وحلف لتصلّين بالناس، فمضت إلى المسجد وصلّت بالناس وهي سكرانة في جنابتها.

وذكر المسعودي أنّ ابن عائشة المغني جاء يوماً إلى الوليد فغنّاه بقوله:

إنّي رأيتُ صبيحةَ النحرِ

حوراً تعينُ عزيمةَ الصبرِ

مثلَ الكواكبِ في مطالعها

عند الغناءِ أطفنَ بالبدرِ

وخرجتُ أبغي الأجرَ محتسباً

فرجعتُ موفوراً من الوزرِ

قال الوليد: أحسنت. وعزم عليه بحقّ عبد شمس لما أعادها، فأعاد، ثمّ عزم عليه بحقّ أميّة فأعادها، وهكذا عزم عليه بواحد واحد من بني اُميّة وهو

٢٠٨

يستعيدها فيعيد حتّى وصل إلى نفسه، فقال: بحقّي عليك لما أعدتها. فأعادها، فأخذه الطرب ووقع على ابن عائشة، وجعل يقبّل أعضاء بدنه عضواً عضواً حتّى وصل إلى مذاكيره فانحنى ليقبّلها، فجمع ابن عائشة فخذيه فسترها.

فحلف الوليد ليقبّلها فقبّل حشفته، فنادى وهو سكران: وا طرباه! وا طرباه! وخلع لباسه عنه وخلعه على ابن عائشة، وبقي عريان حتّى جيء له بلباس فلبسه، وأمر له بألف دينار ذهباً، وجيء له ببغل فأركب ابن عائشة وقال: لا بدّ أن تطأ فراشي ببغلك فقد أضرمت قلبي ناراً.

قال المسعودي: وكان ابن عائشة قد غنّى يزيد أبا الوليد بهذه الأبيات قبل ذلك وأطربه، وقيل: إنّه ألحد في طربه، وفاه بكلمة الكفر، وقال للساقي: اسقني الشراب؛ فإنّي في السماء الرابعة.

وفي مروج الذهب، والكامل للمبرّد: إنّ الوليد أظهر كفره وإلحاده في قوله:

تلعّبَ بالخلافةِ هاشميٌّ

بلا وحيٍ أتاه ولا كتابِ

فقل لله يمنعني طعامي

وقل لله يمنعني شرابي

هذه أعمال أميّة، فكان منهم مَنْ أدمن الخمر كيزيد بن معاوية الذي يقول في الخمرة:

وَشَمسَةُ كَرمٍ بُرجُها قَعرُ دَنِّها

وَمَطلَعُها الساقي وَمَغرِبُها فَمي

فَإِن حُرِّمَت يَوماً عَلى دينِ أَحمَدٍ

فَخُذها عَلى دينِ المَسيحِ بنِ مَريَمِ

ويزيد بن عبد الملك والوليد ابنه، وتكتم بها من أقل مَنْ شرب الخمر منهم، ولقد سبق يزيد إلى ذلك الوليد بن عقبة، وكان والياً في خلافة عثمان بن عفان على الكوفة فخرج إلى المسجد سكراناً وصلّى الصبح أربع ركعات، ثمّ التفت إلى الناس وقال: لو شئتم أن أزيدكم ركعة أزدتكم، ولم يقم عثمان عليه الحد لقرابته منه، فعيب على عثمان بذلك، وكان من أسباب قتل عثمان.

وفيهم قال الكميت:

لا كعبد الملك أو كوليدِ

أو سليمان بعده أو هشامِ

مَنْ يمت لا يمت فقيداً وإن يح

يا فلا ذو إلٍّ ولا ذو ذمامِ

٢٠٩

وللسيد علي جليل الوردي رادّاً بقصيدته على قصيدة شوقي؛ إذ راح يشيد بذكرهم الخامل:

بنو أميّةَ للشيطانِ ما صنعوا

وللضلالةِ ما شادوا وما دانوا

القردُ أشرفُ منهم في سجيّته

إذ توّجوه فهم للقردِ عبدانُ

بوركتَ (شوقي) هل أغراكَ بارقهمْ

فرحتَ تبكي ودمعُ العينِ هتّانُ

مررتَ بالمسجدِ المحزونِ تسألهُ

هل في المصلّى أو المحرابِ مروانُ

أأنتَ أعمى فيا عوفيتَ من عمهٍ

فكيف يوجدُ في المحرابِ شيطانُ

شدوتَ في ملكهم هدلاً إنّ ملكهمُ

إلاّ ضلالٌ وتدليسٌ وبهتانُ

من كلّ محتقرٍ في زي محترمٍ

ومبصرينَ وهم تاللهِ عميانُ

أهؤلاءِ يسودونَ الأنامَ هدىً

وهؤلاءِ لدينِ اللهِ أعوانُ

أنّا لهم باُصولِ الدينِ معرفةٌ

هل يعرفُ الدينَ خمّارٌ ودنّانُ

الطاسُ والكأسُ والطنبورُ دينهمُ

فجدّهمْ ناقرٌ والابنُ سكرانُ

فلا الأذان أذانٌ في ديارهمُ

فقد تعالى ولا الآذان آذانُ

وقيلَ قد فتحَ الأنصارُ جيشَهمُ

وامتدَّ منهم على الآفاقِ سلطانُ

فقلتُ وا عجباً فتحٌ ولا خُلقٌ

ومجدُ سيفٍ ولا عدلٌ وإيمانُ

ما قيمةُ الفتحِ إن سادَ الفسادُ به

وعمَّ في ظلّهِ ظلمٌ وطغيانُ

ما الفتحُ أن تخضعَ الأقطارُ عن جشعٍ

الفتحُ عدلٌ وأخلاقٌ وعمرانُ

يا مَنْ قد ارتابَ فيما قلتُ معترضاً

الحقُّ للحقِّ تأييدٌ وبرهانُ

فتلكَ يثربُ سلها عن مثالبهمْ

تُنبئكَ يثربُ والأنباءُ أشبحانُ

كم هُتّكت من بناتِ الخدرِ محصنةٌ

وريعُ غيدٍ وأطفالٌ ورضعانُ

حمى النبيِّ أباحوهُ فوا عجباً

كيفَ استقرّت على الأقذاءِ أجفانُ

وذلكَ البيتُ بيتُ اللهِ قد نُسفتْ

جوانبُ منهُ حيثُ اندكَّ أركانُ

مجانقُ آلِ سفيانٍ رموهُ بها

لا كانَ سفيانُ في الدنيا ولا كانوا

طغت علوجهمُ من فرطِ ما غصبوا

حتى كأن جميعَ الناسِ عبدانُ

ونكلّوا بدعاةِ الحقِّ جهدهمُ

فضجَّ منهم محاريبٌ وقرآنُ

* * *

٢١٠

ليتَ المشرّعُ الذي أنقذنا

من ظلمةِ الغي إلى أسنى هدى

يرى بناتهُ تُساقُ حُسّراً

تُساقطُ الدمعَ كهطّالِ السما

ليت : حرف تمنّي متعلّق بالمستحيل غالباً، وعلى الرجاء قليلاً، نحو: ليت العليل الصحيح، وهي تنصب الاسم وترفع الخبر.

والمشرّع: هو سيّد الكائنات، نبي هذه الأمّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي أخرج الأمّة من هوّة الضلالة فأنقذها إلى سمو الهداية والرشاد.

قلت: ليته يرى كرائمه سبايا تُساق حسّراً، وهي تساقط الأدمع كالمطر.

قال الشريف الرضي:

ومسوقٍ عاثرٍ يسعى به

إثرَ محمولٍ على غيرِ وطا

متعبٍ يشكو أذى السيرِ على

نقبِ المنسمِ مجزولِ المطا(1)

وقال ابن هاني الأندلسي(2) :

وقد غصّت البيداءُ بالعيسِ فوقها

كرائمُ أبناءِ النبيِّ المـُكرّمِ

ذعرنَ بأبناءِ الضبابِ وأعوجٍ

فأبكينَ أبناءِ الجديلِ وشدقمِ

يشلونها في كلّ غاربِ دوسرٍ

عليهِ الولايا بالخشاشِ مخزّمِ

فما في حريمٍ بعدها في تحرّجٍ

ولا هتكِ سترٍ بعدها بمحرّمِ

والهطال : على وزن فعال، مثل قتال، من أمثلة المبالغة، اسم مجرور بكاف التشبيه. والسما: اسم للسحاب.

قال السيد حيدر (رحمه الله):

سبقَ الدمعُ حين قلتُ سقتها

فتركتُ السما وقلتُ الدموعُ

ذكر الشبراوي(3) بعد كلام له: وأخذ عمر بن سعد بنات الحسين وأخواته، ومَنْ كان معه من الأطفال، وعلي بن الحسين مريض، فأدخلهم على ابن زياد، وطيف

____________________

(1) المنسم: خفّ البعير. ونقب المنسم: أي رقّ وثقب. والجزل: حدوث درّة في الغارب تهجم على الجوف فتهلكه. والمطا: الظهر.

(2) انظر ديوان ابن هاني الأندلسي / 684، مطبعة المعارف بمصر.

(3) انظر الإتحاف - الشبراوي / 55.

٢١١

برأس الحسينعليه‌السلام في الكوفة على خشبة، ثمّ أرسل به إلى يزيد بن معاوية، وأرسل معه الصبيان والنساء مشدودين على أقتاب الجمال، موثوقين بالحبال، والنساء مكشّفات الوجوه والرؤوس(1) .

ويُقال: إنّ الذي حضر بالرأس إلى الشام عمر بن سعد بن أبي وقاص، وفي عنق علي بن الحسين ويديه الغل.

فدخل بعض بني اُميّة على يزيد فقال: ابشر يا أمير المؤمنين، فقد أمكنك الله من عدوك، قد قُتل الحسين، ووجّه برأسه إليك، فلم يلبث إلاّ أياماً قلائل حتّى جيء برأس الحسين.

قال الشاعر:

رأسُ ابن بنتِ محمدٍ ووصيّهِ

للناظرينَ على قناةٍ يُرفعُ

والمسلمونَ بمنظرٍ وبمسمعٍ

لا منكرٌ منهم ولا متفجّعُ

* * *

وينظرُ الرجسَ يزيدَ ناكثاً

بعودهِ ثغرَ الحسينِ ذي العُلا

أبدى لذاكَ الحقدِ ما لم يُبدهِ

طالبُ وترٍ قطّ من كلِّ الملا

عليهِ دامَ اللعنُ كلّما جرى

دمٌ على الأرضِ وغصنٌ التوى

الواو عاطفة، وينظر: الضمير يعود إلى المشرّع الأعظم وهو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . والرجس: هنا القبيح، وهو يزيد بن معاوية. ونكت: ضرب بقضيبه، يُقال: نكت الأرض بقضيبه حال التفكّر فأثّر فيها. والثغر: مقدّم الأسنان.

قال الشبراوي(2) : فوضع، أي رأس الحسينعليه‌السلام بين يدي يزيد بن معاوية، فأمر الغلام فرفع الثوب الذي كان عليه، فحين رآه غطّى وجهه بكمّه، كأنّه شمّ رائحة(3) . وقال

____________________

(1) أمّا الوجوه فنعم، وأمّا الرؤوس فما كان لطغاة بني اُميّة وغيرهم ذلك؛ لعظم منزلة أهل البيتعليهم‌السلام عند الله تعالى.(موقع معهد الإمامين الحسَنَين)

(2) انظر الإتحاف - الشبراوي / 55.

(3) أقول: إنّ اللعين لمّا رفع المنديل من على رأس الحسينعليه‌السلام شمّ رائحة طيّبة، وإنّما غطّى وجهه بكمّه أراد أن يموّه على الجلاّس؛ لئلاّ يشمّه الحاضرون فيفتتنوا به.

٢١٢

الحمد لله الذي كفانا المؤن بغير مؤونة( كُلّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ ) (1) .

قالت ديا حاضنة يزيد: دنوت من رأس الإمام الحسينعليه‌السلام حين شمّ يزيد منه رائحة لم تعجبه، فإذا تفوح منه رائحة من روح الجنّة كالمسك الأذفر(2) ، بل أطيب، والذي ذهب بنفسه وهو قادر أن يغفر لي لقد رأيت يزيد وهو يقرع ثناياه بقضيب في يده، ويقول: ليت أشياخي ببدر شهدوا.

قال الشبراوي: وأصل هذه الأبيات لابن الزبعرى كما في الصواعق، وزاد يزيد فيها بيتين مشتملتين على الكفر.

أقول: لقد أبدى يزيد في ذلك اليوم الشماتة برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأظهر حقده الذي كان قد أوغر صدره على النبي وأبنائه، واشتفى غليله بقتل سبطه وريحانته، وأخذ ثارات عتبة بن ربيعة وشيبة أخوه والوليد بن عتبة؛ إذ قتلهم عليعليه‌السلام في واقعة بدر، ألا تراه كيف راح يتمثّل بشعر المشرك ابن الزبعرى الذي كان ممّن هجا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويذكر قتلاه ببدر إذ قال:

يا غرابَ البَينِ أَسمَعتَ فَقُل

إِنَّما تَنطِقُ شَيئاً قَد فُعِلْ

إِنَّ لِلخَيرِ وَلِلشَّرِّ مَدىً

وَكِلا ذَلِكَ وَجهٌ وَقبلْ

وَالعَطياتُ خِساسٌ بَينَهُم

وَسَواءٌ قَبرُ مُثرٍ وَمُقِلْ

كُلُّ عَيشٍ وَنَعيمٍ زائِلٌ

وَبَناتُ الدَهرِ يَلعَبنَ بِكُلْ(3)

أَبلِغا حسّانَ عَنّى آيَةً

فَقَريضُ الشِعرِ يِشفى ذا الغُلَلْ(4)

كَم تَرى بِالجَرِّ مِن جُمجُمَةٍ

وَأَكُفٍّ قَد أُتِرّت وَرِجِلْ(5)

وسرابيلٌ حسانٌ سربت

من كماةٍ أهلكوا في المنتزلْ(6)

____________________

(1) سورة المائدة / 64.

(2) الأذفر: صفة للمسك، أي الشديد الرائحة.

(3) بنات الدهر: حوادثه.

(4) هو حسان بن ثابت شاعر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله . والآية: العلامة. والغلل: جمع غلّة، وهي الحرارة والعطش.

(5) الجر: أصل الجبل.

(6) السرابيل: يريد هنا الدروع. وسربت: أي جردت. والمنتزل: موضع الحرب.

٢١٣

كم قتلنا من كريمٍ سيدٍ

ماجدِ الجدّين مقدامٌ بطلْ

صادِقِ النَجدَةِ قَرمٍ بارِعٍ

غَيرِ مُلتاثٍ لَدى وَقع الأَسَلْ(1)

فسل (المهراس) من ساكنه

بين أقحاف وهام كالحجلْ(2)

ليتَ أشياخي ببدرٍ شهدوا

جزعَ الخزرجِ من وقعِ الأسلْ

حين حكّت بقباءِ بركها

واستحرّ القتلُ في عبد الأشلْ(3)

ثُمَ خَفّوا عِندَ ذاكُم رُقَّصاً

رَقَصَ الحَفّانِ يَعلو في الجَبَلْ(4)

فقتلنا الضعفَ من أشرافهم

وعدلنا ميلَ بدرٍ فاعتدلْ

لا ألومُ النفسَ إلاّ أنّنا

لو كررنا لفعلنا المفتعلْ

بسيوفِ الهندِ تعلو هامهمْ

عللاً تعلوهم بعد نهلْ(5)

وقد أضاف إليها يزيد بيتين وهما:

لعبت هاشمُ بالملكِ فلا

خبرٌ جاءَ ولا وحي نزلْ(6)

لستُ من خندفَ إن لم أنتقمْ

من بني أحمدَ ما كانَ فعلْ

قال الشبراوي: أخزاه الله في هذه الأبيات إن كانت صحيحة عنه؛ فقد كفر فيها بإنكار الرسالة، ولا ريب إنّ الله سبحانه قضى على يزيد بالشقاء، فقد تعرّض لآل البيت الشريف بالأذى، فأرسل جنده لقتل الحسينعليه‌السلام وقتله وسبى حريمه وأولاده، وهم أكرم أهل الأرض حينئذ على الله سبحانه.

ولقد أبدى ابن ميسون في ذلك اليوم الشماتة بآل الرسول، وأظهر كلّ ما كان يكنّه ضميره من الحقد الجاهلي كما قال ابن هاني الأندلسي (رحمه الله تعالى):

____________________

(1) الملتاث: الضعيف.

(2) المهراس: ماء بأحد بالقرب من قبر الحمزة عمّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

(3) قوله عبد الأشل: أي عبد الأشهل. والبرك: الصدر.

(4) الرقص: المشي السريع. والحفان: النعام.

(5) العلل والعل: الشرب بعد الشرب. والنهل: الشرب الأول. والعل: الشرب الثاني.

(6) وهاشم: هنا أراد به بني هاشم، كناية عن النبي الهاشمي.

٢١٤

والحقدُ حقدُ الجاهليّةِ أنّهُ

إلى الآن لم يظعن ولم يتضررِ

وبالثأرِ في بدرٍ أُريقت دماؤكمْ

وقيدَ إليكم كلّ أجردِ صلدمِ(1)

اللعن: العذاب، جمعه لعان ولعنات. والملعون: المسيّب المطرود. المشؤوم: الممسوخ المخزي. المهلك: الشيطان.

ذكر سبط ابن الجوزي(2) في باب كفر يزيد: قال ابن عقيل: وممّا يدلّ على كفره وزندقته فضلاً عن سبّه ولعنه أشعاره التي أفصح بها بالإلحاد، وأبان عن خبث الضمائر، وسوء الاعتقاد في قصيدته التي أولها:

عليةَ هاتي واعلني وترنّمى

بذلك إنّي لا اُحبُّ التناجيا

حديثُ أبي سفيان قدماً سما به

إلى أحدٍ حتى أقامَ البواكيا

ألا هاتِ أسقيني على ذاكَ قهوةً

تخيّرها العنسيُّ كرماً شئاميا

إذا ما نظرنا في اُمورٍ كثيرةٍ

وجدنا حلالاً شربها متواليا

وإن متّ يا اُمّ الاُحمير فانكحي

ولا تأملي بعد الفراقِ تلاقيا

فإنّ الذي حدّثت عن يومِ بعثنا

أحاديثَ طسمٍ تجعلُ القلبَ ساهيا

ولا بدّ لي من أن أزورَ محمداً

بمشمولةٍ صفراءَ تروي عظاميا

ومن قوله (لعنه الله):

معشرَ الندمانِ قوموا

واسمعوا صوتَ الأغاني

واشربوا كأسَ مدامٍ

واتركوا ذكرَ المغاني

شغلتني نغمةُ العي

دان عن صوتِ الأذانِ

وتعوّضت عن الحو

رِ عجوزاً في الدنانِ

وقال محمد بن نظام الدين الأنصاري(3) ، (وكان الأكثر) من الناس

____________________

(1) انظر ديوان ابن هاني الأندلسي (ره).

(2) انظر التذكرة - سبط ابن الجوزي / 146.

(3) انظر فواتح الرحموت - محمد بن نظام الدين - وشرحه لمحب الله بن مشكور والمتن بين قوسين.

٢١٥

(في زمان بني اُميّة على إمامة معاوية) مع إنّ الحقّ كان بيد أمير المؤمنين علي (كرّم الله وجهه) من غير ريبة، (و) على إمامة (يزيد) ابنه مع إنّه كان من أخبث الفسّاق، وكان بعيداً بمراحل من الإمامة، بل الشك في إيمانه خذله الله تعالى.

والصنيعات التي صنعها معروفة من أنواع الخبائث، (وأشباهها) من الظلمة والفسقة.

وذكر المسعودي(1) قال: شمل الناس جور يزيد وعمّاله، وعمّهم ظلمه، وما ظهر من فسقه من قتل ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما ظهر من شرب الخمر وسيرته سيرة فرعون، بل كان فرعون أعدل منه في رعيته.

وروى الطقطقي(2) قال: إنّ يزيد بن معاوية كان موفر الرغبة في اللهو والقنص، والخمر والنساء والشعر إلخ:

فمن شعره:

جاءت بوجهٍ كأنّ البدرَ برقعُهُ

نوراً على مائسٍ كالغصنِ معتدلِ

إحدى يديها تعاطيني مشعشعةً

كخدّها عصفرتهُ صفحةُ الخجلِ

ثمّ استبدّت وقالت وهي عالمةٌ

بما تقولُ وشمسُ الراحِ لم تقلِ

لا ترحلنَّ فما أبقيتَ من جَلدي

ما أستطيعُ بهِ توديعُ مرتحلِ

ولا من النومِ ما ألقى الخيالُ بهِ

ولا من الدمعِ ما أبكى على الطللِ

وذكر ابن سعد في طبقاته في ترجمة حنظلة: أنّه لمّا بايع أهل المدينة ليالي الحرّة على الموت، وقال: يا قوم، اتقوا الله وحده لا شريك له، فوالله ما خرجنا على يزيد حتّى خفنا أن نُرمى بالحجارة من السماء؛ إنّ رجلاً ينكح الأمّهات والبنات والأخوات، ويشرب الخمر، ويدع الصلاة، والله لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت لله فيه بلاءً حسناً.

وذكر صاحب البداية والنهاية(3) عن الطبراني، عن محمد بن زكريا الغلابي، عن أبي عائشة، عن أبيه قال: كان يزيد في حداثته صاحب شراب، يأخذ مأخذ الأحداث، فأحس معاوية بذلك

____________________

(1) انظر مروج الذهب - المسعودي 2 / 75 بولاق.

(2) انظر محمد بن علي بن طباطبا المعروف بالطقطقي - الفخري / 103.

(3) انظر البداية والنهاية - ابن كثير / قسم 4 ج 2.

٢١٦

فأحبّ أن يعظه في رفق، فقال: يا بُني، ما أقدرك على أن تصير إلى حاجتك من غير تهتّك يذهب بمروءتك وقدرك. وأنشده:

انصب نهاراً في طلابِ العُلا

واصبر على هجرِ الحبيبِ القريب

حتى إذا الليلُ أتى بالدجى

واكتحلت بالغمضِ عينُ الرقيب

فباشرِ الليلَ بما تشتهي

فإنّما الليلُ نهارُ الأريب

كم فاسقٍ تحسبهُ ناسكاً

قد باشرَ الليلَ بأمرٍ عجيب

قال سبط ابن الجوزي(1) : لهذا تطرق إلى هذه الأمّة العارُ بولايته عليها حتّى قال أبو العلاء المعرّي:

أرى الأيامَ تفعلُ كلّ نكرٍ

فما أنا في العجائبِ مستزيدُ

أليسَ قريشكمْ قتلت حسيناً

وكانَ على خلافتكم يزيدُ(2)

قال سبط ابن الجوزي(3) : قلت: ولمّا لعنه جدّي أبو الفرج على المنبر ببغداد بحضرة الإمام الناصر وأكابر العلماء قام جماعة من الجفاة من مجلسه، فقال: جدّي:( أَلاَ بُعْداً لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ) (4) .

وحكى لي بعض أشياخنا عن ذلك اليوم أنّ جماعة سألوا جدّي عن يزيد، فقال: ما تقولون في رجل ولّى ثلاث سنين؛ في السنّة الأولى قتل الحسينعليه‌السلام ، وفي الثانية أخاف المدينة وأباحها(5) ، وفي الثالثة رمى الكعبة بالمجانيق وهدمها(6) ؟ فقالوا: نلعنه.

____________________

(1، 2، 3) انظر التذكرة - سبط ابن الجوزي / 164.

(4) سورة هود / 95.

(5) أشار إلى واقعة الحرّة. ذكر المدايني في كتاب الحرّة عن الزهري قال: كان القتلى يوم الحرّة سبعمئة من وجوه الناس؛ من قريش، والأنصار، والمهاجرين، ووجوه الموالي. وأمّا مَنْ لم يُعرف من عبد أو حرّ أو امرأة فعشرة آلاف، وخاض الناس في الدماء إلى قبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ومنبره والسيف يعمل فيهم.

وعن أبي قرّة قال: قال هشام بن حسّان: ولدت ألف امرأة بعد وقعة الحرّة من غير زوج. وقال المدائني: عشرة آلاف امرأة.

وكانت وقعة الحرّة سنة ثلاث وستين في ذي الحجّة من الأشهر الحرم.

(6) إشارة إلى ما فعله الحصين بن نمير، فإنّه رمى الكعبة بالمجانيق.

٢١٧

فقال: العنوه.

وقال جدّي في كتاب الردّ على المتعصّب العنيد: قد جاء في الحديث لعن مَنْ فعل ما لا يقارب معشار عشر فعل يزيد، وذكر الأحاديث التي ذكرها البخاري في صحيحه، ومسلم في صحيحه؛ مثل حديث ابن معسود، عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه لعن الواشمات والمتوشّمات. وحديث ابن عمر: لعن الله الواشمة والمتوشّمة، ولعن الله المصوّرين. وحديث جابر: لعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله آكل الربا وموكله (الحديث). وحديث ابن عمر في مسند أحمد: لُعنت الخمر على عشرة وجوه (الحديث). وأورد أخباراً كثيرة في هذا الباب.

وهذه الأشياء دون فعل يزيد في قتله الحسينعليه‌السلام وإخوته وأهله، ونهب المدينة وهدم الكعبة، وضربها بالمجانيق، وأشعاره الدالة على فساد عقيدته. ومَنْ أراد الزيادة على هذا فليقف على كتابه المسمّى (بالردّ على المتعصّب العنيد).

وحكى جدّي أبو الفرج، عن القاضي أبي يعلى بن الفرّاء في كتابه (المعتمد) في الأصول بإسناده إلى صالح بن أحمد بن حنبل، قال: قلت لأبي: إنّ قوماً ينسبونا إلى تولّي يزيد!

فقال: يا بُني، وهل يتولّى يزيد أحد يؤمن بالله؟!

فقلت: فلِمَ لا تلعنه؟!

فقال: ومتى رأيتني لعنت شيئاً؟ يا بُني، لِمَ لا نلعن مَنْ لعنه الله في كتابه؟

فقلت: وأين لعن الله يزيد في كتابه؟

فقال: في قوله تعالى( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطّعُوا أَرْحَامَكُمْ * اُولئك الّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ فَأَصَمّهُمْ وَأَعْمَى‏ أَبْصَارَهُمْ ) (1) . فهل يكون فساد أعظم من قتل الحسينعليه‌السلام ؟

وصنّف القاضي أبو يعلى كتاباً ذكر فيه بيان مَنْ يستحق اللعن، وذكر منهم يزيد(2) .

قلت: أجمع المؤرّخون على أن يزيد بن معاوية حكم ثلاث سنين وتسعة أشهر؛ ففي السنّة الأولى كانت باكورة أعماله قتل ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقتل أصحابه الصفوة وأهل بيته البررة، والذين ما كان لهم على وجه الأرض من شبيه حينذاك، وسبى حرائر الرسالة من قطر إلى قطر.

____________________

(1) سورة محمد / 22 - 23.

(2) انظر تذكرة خواص الأمّة - سبط ابن الجوزي / 162.

٢١٨

وفي السنة الثانية حارب أهل المدينة، وقتل مَنْ كان فيها من الصحابة، وأباحها لجيشه يفعل فعل الوحوش حتّى أكثر النهب والهتك والسفك.

قيل: كان جابر بن عبد الله الأنصاري يومئذ قد ذهب بصره، فجعل ينادي في أزقّة المدينة: تعس مَنْ أخاف الله ورسوله! قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: « مَنْ أخاف أهل المدينة فقد أخاف ما بين جنبي ».. فحمل رجل عليه بالسيف فترامى عليه مروان فأجاره، وأمره أن يدخله منزله ويغلق عليه بابه.

قال ابن كثير في البداية والنهاية: وقد أخطأ يزيد في أمر مسلم بن عقبة بإباحته المدينة ثلاثة أيام خطأ كبيراً؛ فإنّه وقع في هذه الأيام الثلاثة من المفاسد العظيمة في المدينة النبويّة ما لا يحدّ ولا يوصف ممّا لا يعلمه إلاّ الله عزّ وجلّ، وقد أراد بإرسال مسلم بن عقبة توطيد سلطانه، ودوام أيامه فعوقب بنقيض قصده فقصمه الله قاصم الجبابرة، وأخذه أخذ عزيز مقتدر.

قال شاعر أهل المدينة مخاطباً بني اُميّة وهو محمد بن أسلم:

فإن تقتلونا يوم حرّة وأقمِ

فنحن على الإسلام أولُ مَنْ قتلْ

ونحن تركناكم ببدرٍ أذلّةً

واُبنا بأسيافٍ لنا منكم تحلْ

وفي السنة الثالثة هدم الكعبة، وأشعل النار بأستارها، وذلك لما حوصر بها ابن الزبير وقتله، كلّ هذا بأمر من يزيد الفاجر؛ ثائراً لآلهته التي كان يعبدها آباؤه، وهي اللات والعزى وهبل.

وختاماً أقول:

عليه دامَ اللعنُ كلّما جرى

دمٌ على الأرضِ وغصنٌ التوى

ألا لعنة الله على القوم الظالمين.

كان الانتهاء منه في 3 رجب سنة 1375 هجـ.

والحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسّلام على محمّد وآله الطاهرين

٢١٩

الفهرس

(المقصورة وشرحها) 1

(التنعيم) 22

(الصفاح): 26

(وادي العقيق) 28

(ذات عرق) 31

(غمرة) 33

(مسلح): 35

(اُفيعية) 36

(معدن بني سليم) 36

(العمق) 38

(السليلية) 40

(مغيثة) 41

(النَّقرة) 43

(الحاجر) 45

(سميراء) 51

(توز) 54

(فَيد) 55

(الأجفر) 60

(الخزيميّة) 63

(زرود) 66

(الثعلبية) 72

(بطان): 80

(شقوق) 83

(زُبالة): 84

٢٢٠