الامام الحسين(ع) الظلامة الفاتحة الهادية

الامام الحسين(ع) الظلامة الفاتحة الهادية0%

الامام الحسين(ع) الظلامة الفاتحة الهادية مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 60

الامام الحسين(ع) الظلامة الفاتحة الهادية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة المحقق السيد سامي البدري
تصنيف: الصفحات: 60
المشاهدات: 28094
تحميل: 5307

توضيحات:

الامام الحسين(ع) الظلامة الفاتحة الهادية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 60 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 28094 / تحميل: 5307
الحجم الحجم الحجم
الامام الحسين(ع) الظلامة الفاتحة الهادية

الامام الحسين(ع) الظلامة الفاتحة الهادية

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الإمام الحسينعليه‌السلام

الظلامة الفاتحة الهادية

العلامة المحقق السيّد سامي البدري

١

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمّد وآله الطاهرين. وبعد، فهذه خلاصة لكتاب عن الإمام الحسينعليه‌السلام يتضمن عدة أبحاث، أرجو أن تكون مفيدة ونافعة في حقلها.

وقد حاولت أن أستبق ظهور الكتاب نفسه بنشر خلاصة عن اُطروحته؛ مساهمة في تلبية تطلعات وشوق عشاق الحسينعليه‌السلام إلى أن يطالعوا شيئاً جديداً في هذا الموسم؛ بوصفه أوّل موسم يأخذ فيه الشيعة حرّيتهم في إقامة شعائر المحرم، ويشقّ الكتاب الحسيني طريقه بأمان إلى قرّائه.

وقبل أن أدع القارئ وجهاً لوجه أمام الخلاصة رأيت أن أفتتح الكتاب بعدة تنبيهات مفيدة كنت قد افتتحت بها أحاديثي عن الإمام الحسينعليه‌السلام في موسم المحرم قبل اثنتي عشرة سنة تقريباً:

التنبيه الأوّل

هناك نوعان من البحوث حول أهل البيتعليهم‌السلام :

الأوّل: بحوث تستهدف الاستدلال على إمامتهم، وعظيم منزلتهم عند اللّه ورسوله، ومسؤوليتهم في حفظ الإسلام وتبليغه. ويتكفّل هذا النوع من البحوث علم العقائد والكلام.

الثاني: بحوث تستهدف التعريف بسيرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأوصيائهعليهم‌السلام من بعده في ضوء العقيدة بهم. فحين نعتقد أن علياً والحسن والحسين والتسعة من ذرية الحسينعليهم‌السلام كانوا قد كُلِّفوا بحفظ الرسالة ونشرها في المجتمع بعد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، يجيء البحث التاريخي ليكشف عن جهودهم وخططهم التي حققت ذلك.

٢

التنبيه الثاني

هناك نوعان من البحوث التاريخيّة:

النوع الأوّل: يستهدف نقد مصادر الأخبار لتمييز صحيحها من سقيمها(١) .

النوع الثاني: يستهدف معرفة المغزى الذي يكمن وراء الواقعة التاريخيّة؛ وذلك من خلال التدبُّر في أسبابها ونتائجها(٢) .

ومن الطبيعي أنّ النوع الثاني من البحث متأخر رتبة عن النوع الأوّل؛ فما لم تكن أخبار الفترة التاريخيّة المعينة قد مُحّصت وفرز صحيحها من سقيمها فإنّ عملية التحليل ودراسة الأسباب والنتائج سوف تفقد الأساس الموضوعي لها؛ إذ قد ينطلق التحليل من معلومات خاطئة، وحينئذٍ يزداد القارئ أو الباحث بُعداً عن الحقِّ بسبب ذلك التحليل الخاطئ الذي سيكون بعد ذلك نفسه حجاب آخر يضاف إلى حجاب الرواية الكاذبة.

التنبيه الثالث

ينطلق الأئمة الاثنا عشرعليهم‌السلام في مواقفهم ونشاطاتهم من حقيقة كونهم أوصياء للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، مكلّفون إلهيّاً بواسطته في حفظ الإسلام الذي جاء به وجعله ميسَّراً بين الناس. وأنهم تسلموا من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله رؤية تفصيلية لما ستواجهه الرسالة من أخطار بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وخطة إنقاذها منها، وأنهمعليهم‌السلام قد شُخص لكلِّ واحد منهم عمله المحدد(٣) .

وفي ضوء ذلك فإنّ عملهمعليهم‌السلام سلسلة مترابطة يستند آخرها على أولها، وتقود الحلقة السابقة منها إلى التي تليها؛ ومن هنا تعذَّر للباحث أن يُقدّم صورة واضحة لعمل أي واحد من الأئمةعليهم‌السلام دون أن يبيّن موقعه ممّا قبله، بل وممّا بعده أيضاً.

____________________

(١) وفي هذا السياق تأتي بحوث كتابنا: المدخل إلى دراسة مصادر السيرة النبويّة والتاريخ الإسلامي (المطبوع).

(٢) وفي هذا السياق تأتي بحوث كتابنا: حول الإمام الحسينعليه‌السلام ، الذي نرجو أن تتهيّأ أسباب طبعه.

(٣) روى الكليني في الكافي ١ / ٢٨١: محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن ضريس الكناسي، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: قال له حمران: جعلت فداك! أرأيت ما كان من أمر علي والحسن والحسينعليهم‌السلام وخروجهم، وقيامهم بدين الله (عزّ وجلّ)، وما اُصيبوا من قتل الطواغيت إيّاهم، والظفر بهم حتّى قتلوا وغلبوا؟

فقال أبو جعفرعليه‌السلام :« يا حمران، إنّ الله تبارك وتعالى [ قد ] كان قدّر ذلك عليهم، وقضاه وأمضاه وحتمه، ثمّ أجراه؛ فبتقدّم علم ذلك إليهم من رسول الله قام علي والحسن والحسين، وبعلمٍ صمت مَن صمت منّا » . راجع كتاب اُصول الكافي - الجزء الأول - باب أنّ أفعالهم معهودة من الله تعالى.

٣

التنبيه الرابع

في بحثنا عن سيرة الإمام الحسينعليه‌السلام كوصيٍّ لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كُلِّف إلهيّاً بواسطة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في حفظ الرسالة ونشرها في المجتمع. لا بدّ لنا أن نتعرف أولاً على الخطر الذي واجهه الإسلام في زمان إمامته التي استغرقت عشر سنوات، ثمّ ندرس الخطة الإلهيّة التي تحمَّل الحسينعليه‌السلام مسؤولية تنفيذها في مواجهة ذلك الخطر وإنقاذ الرسالة منه.

وقد ذكرنا في التنبيه الثاني أنّ عمل الإمام اللاحق يتقوّم بعمل الإمام السابق؛ ومن هنا فإنّه يتعيّن علينا أن ندرس ولو باختصار جهود الإمام الحسن والإمام عليعليهما‌السلام كأوصياء للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في تبليغ الإسلام؛ لنُدرِك كيف توقّف عمل الإمام الحسينعليه‌السلام على عملهم.

كما لا بدّ لنا أن ندرس عمل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أوّلاً لندرك صلة عمل أوصيائه بعملهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكيف أن سيرة هؤلاء الأوصياء على استقامة واحدة مع سيرة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله تبليغاً وتطبيقاً، وأنّ سيرة غيرهم تحريف لسيرته وسنتهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وهكذا يتعين علينا منذ البدء بالبحث عن الإسلام على عهد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ ندرس ما جرى عليه أيام حكومة قريش المسلمة بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ كيف نشر علي والحسنعليهما‌السلام الإسلام بين أهل البلاد التي فُتحت بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثمّ كيف كانت سيرة معاوية بعد وفاة الحسنعليه‌السلام وخطته في تحريف الإسلام، ومدى نجاحه في ذلك، ثمّ كيف كانت سيرة الحسينعليه‌السلام ومدى نجاحه في إحباط تخطيط معاوية وإنقاذ تراث النبوة الخاتمة برمّته من الخطر الذي أحدق به.

٤

الاُطروحات الأساسيّة في تفسير الثورة الحسينيّة

من ينعم النظر في كتب التاريخ الإسلامي التي ظهرت في القرون الخمسة الهجرية الاُولى يجد ثلاث اُطروحات في تفسير حركة الحسينعليه‌السلام ونهضته؛ تبعاً للنظرة إليه.

الاُولى: الاُطروحة الاُمويّة

تبنّى الإعلام الاُموي عرض الحسينعليه‌السلام على أنه ثائر من أجل الملك، مارق عن الدين، وخارج على الخليفة الشرعي، وقد تبنّى بعض الكتّاب المعاصرين هذه الاُطروحة نظير الشيخ الخضري، قال: وعلى الجملة فإنّ الحسين أخطأ خطأً عظيماً في خروجه هذا الذي جرَّ على الاُمّة وبالَ الفُرقة والاختلاف، وزعزع عماد إلفتِها إلى يومنا هذا... غاية الأمر أنّ الرجل طلب أمراً لم يتهيّأ له، ولم يعد له عدته؛ فحيل بينه وبين ما يشتهي، وقُتل دونه(١) .

وذكر أحمد العسيري نظير هذا الكلام، ثمّ ختمه بكلام الدكتور أحمد شلبي(٢) ولم ينسبه إليه، قائلاً: وكانت هذه فتنة أيسر ما نقول عنها: إنها وسعّت باب الفرقة، والتهمت الآلاف والملايين من المسلمين، ولا يزال بابها مفتوحاً حتّى كتابة هذه السطور(٣) .

الثانية: الاُطروحة العباسيّة

تبنى الإعلام العباسي عرض الحسينعليه‌السلام على أنه ثائر من أجل الملك، وأنه وكان من حقه الثورة وطلب الخلافة، غير أن تقديره للاُمور لم يكن صحيحاً حين اختار الكوفة رغم كثرة الناصحين له، وأن مسؤولية قتل الحسينعليه‌السلام تقع على ابن زياد والكوفيِّين من شيعة عليعليه‌السلام .

وقد كرّس أبو مخنف ونظراؤه من الرواة المعاصرين له رواياتهم لهذا التفسير، وقد تبنى العباسيّون هذه الاُطروحة للنهضة الحسينيّة بعد أن تعمّق الصراع بين الطالبيِّين والعباسيِّين، واستحكم بعد قيام ثورة محمّد وإبراهيم ولدي عبد الله بن الحسن المثنى ابن الحسن بن عليعليهم‌السلام ، ثمّ القضاء عليها سنة (١٤٤) هجرية.

____________________

(١) الدولة الاُمويّة - الشيخ محمّد الخضري / ٣٢٧، دار المعرفة - بيروت / ١٤١٨ هجرية. والكتاب محاضرات في تاريخ الإسلام اُلقيت على طلاب الجامعة المصرية بطلب من مجلس إدارة الجامعة المصرية، ورأت إدارة الجامعة أن تُجمع وتُطبع.

(٢) موسوعة التاريخ الإسلامي ٧ / ٢٠٨، ط ٧ - القاهرة / ١٩٨٤.

(٣) موجز التاريخ الإسلامي - تأليف أحمد محمود العسيري / ١٥٢، ط١ - الدمام / ١٤١٧ هجرية.

٥

وقد تبنّى أغلب المؤرّخين الذين كتبوا التاريخ في العهد العباسي هذه النظرة كالطبري وغيره، وحذا حذوهم بعدهم آخرون كالذهبي وابن كثير وغيرهما من القدامى وكثير من المعاصرين.

الثالثة: اُطروحة الأئمة من ذرّية الحسينعليهم‌السلام

عرض الأئمة من ذرّية الحسينعليهم‌السلام الحسينَعليه‌السلام على أنه وارث الأنبياء، وإمام الهدى، وحجة الله على خلقه(٤) ، وأنهعليه‌السلام نهض لأجل هداية الناس بعد أن عمت ضلالة بني اُميّة.

هذه الضلالة التي تمثّلت بتحريف الدين، وطمس أحاديث النبي (صلى لله عليه وآله) في أهل بيتهعليهم‌السلام ، وعرض عليعليه‌السلام على أنه رمز للفساد في الإسلام، وعرض بني اُميّة على أنهم أئمة هدى، وحجج الله على عباده. وهذا التفسير للحركة الحسينيّة يجده الباحث واضحا جلياً في تراث أهل البيتعليهم‌السلام .

روى ابن قولويه بسنده عن أبي حمزة الثمالي قال: قال الصادقعليه‌السلام :« قل اللهمَّ إنّي أَشهَدُ أنّ هذا قبرُ ابنِ حبيبِك وصَفوتِك من خلقِك، وأنه الفائزُ بكرامتِك، أكرمتَه بكتابِك، وخصَصْتَه وائتمَنْتَه على وحيك، وأعطيتَه مواريثَ الأنبياء، وجعلته حجةً على خَلقِك؛ فأعذَرَ في الدعاء، وبذَل مُهجتَه فيك؛ ليستنقذَ عبادَك من الضَّلالة والجهالة والعَمى، والشَّكِ والارتياب، إلى باب الهدى.

السّلام عليك يا وارث آدم صفوة الله، السّلام عليك يا وارث نوح نبي الله، السّلام عليك يا وارث إبراهيم خليل الله، السّلام عليك يا وارث موسى كليم الله، السّلام عليك يا وارث عيسى روح الله، السّلام عليك يا وارث محمّد حبيب الله، السّلام عليك يا وارث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وصيِّ رسول الله وولي الله، السّلام عليك يا وارث الحسن بن علي الزكي، السّلام عليك يا وارث فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين.

السّلام عليك أيها الصِّدِّيق الشهيد، السّلام عليك أيها الوصيّ، السّلام عليك أيها الوفيّ، أشهد أنك قد أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، وعبدت الله مخلِصاً حتّى أتاك اليقين، السّلام عليك يا أبا عبد الله ورحمة الله وبركاته » (٥) .

____________________

(٤) وهذا الموقع للحسين هو الذي نصّت عليه الأحاديث النبويّة الصحيحة في الحسينعليه‌السلام .

(٥) رواه ابن قولويه في كتابه كامل ‏الزيارات / ٢٢٣، قال: حدّثني أبو عبد الرحمن محمّد بن أحمد بن الحسين العسكري، ومحمد بن الحسن جميعاً عن الحسن بن علي بن مهزيار، عن أبيه علي بن مهزيار، عن محمّد بن أبي عمير، عن محمّد بن مروان.

٦

الواقع التاريخي لحركة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي والحسنعليهما‌السلام في أداء وظيفتهم الإلهيّة قبل حركة الحسينعليه‌السلام

عهد النبوة الخاتمة

قال الله سبحانه وتعالى:( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (الجمعة / ٢ - ٥).

الاُميّون: هم (قريش) ساكنو مكة ومَن دانَ بدينهم من القبائل العربيّة في الحجاز. ودينهم هو دين إبراهيمعليه‌السلام . وقد حُرِّف على مراحل، كان أخطرها نصب الأصنام على الكعبة، وتحويل بيت إبراهيمعليه‌السلام الذي شُيِّد على التوحيد إلى بيت عبادة للأصنام.

وكان آخر مراحل تحريف دين إبراهيم هو ما قامت به قريش بعد حادثة الفيل حين ابتدعت بدعة الحُمْس(١) ، وفصلت بين العمرة والحج، وفرضت على الناس أن يحجّوا بثياب قريش ليُقبَل حجُّهم، وتسمّت بـ (آل الله) بدلاً من حصر تلك التسمية في بيت عبد المطلب الذي أجرى الله تعالى على يده آياته ليميِّزه بها عن بقية قريش.

وإلى جانب الاُمِّيين القرشيين هؤلاء حرَّف اليهود من أهل الكتاب كتاب الله (التوراة)، وأدخلوا فيه الأساطير، وكذلك حرَّف المسيحيون (الإنجيل)، واتخذ أهل الكتاب (أحبارهم ورهبانهم) أرباباً من دون الله.

وكذلك القبائل العربيّة في الحجاز اتّخذت (قريشاً) أرباباً من دون الله حين كانوا يشرِّعون لهم من الدين ما فيه تحريف لشريعة إبراهيمعليه‌السلام ، ويقبلون ذلك منهم.

ثمّ بعث الله تعالى محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنزل عليه القرآن كتاب هدى، ونسخ به كتب أهل الكتاب، كما هدم به الإمامة الدينية لهم ولقريش.

____________________

(١) تعني لفظة الحمس التشدّد في الدين، والتطرف والغلو فيه، في قبال اليسر والسماحة.

٧

وشاءت حكمة الله أن يجعل القرآن بحاجة إلى شرح وتفصيل، قال الله تعالى:( فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) (القيامة / ١٨ - ١٩).

وشاءت حكمته تعالى أن يكون النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مصدر البيان،( وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (النحل / ٤٤).

وبعبارة اُخرى شاءت حكمته أن يؤخذ تفصيل القرآن وبيانه من سنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهي قوله وفعله وتقريره؛ وبذلك صار الإسلام عبارة عن كتاب الله وسنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

بلَّغ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله القرآن وبيانه، وقام المجتمع الإسلامي على اتّباع كتاب الله وسنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكَتَبَ عليعليه‌السلام بأمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كلَّ السنّة النبويّة المطهرة من خلال لقاءات خاصة بينهما(٢) ، وجعلها في صُحُف لتكون تراثاً إلهيّاً للأئمة الاثني عشرعليهم‌السلام ، نظير تراث آل هارون المذكور في القرآن(٣) ؛ وبذلك صار علي والطاهرون من ذرّيتهعليهم‌السلام الراوي الأمين والوحيد إلى سنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الكاملة، والعِدْلَ الوحيد للقرآن لتحقيق الهداية التفصيلية التي جاء بها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وقد أشار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى ذلك بقوله:« ثمّ إني أوشك أن اُدعى فاُجيب، وإنّي تارك فيكم الثقلين؛ كتاب الله (عزّ وجل) وعترتي؛ كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنّ اللطيف الخبير أخبرني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض، فانظروني بمَ تخلفوني فيهما » (٤) .

____________________

(٢) كما روى ذلك عليعليه‌السلام ، قال:« كان لي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مدخلان؛ مدخل بالليل ومدخل بالنهار، فكنت إذا دخلت بالليل تنحنح لي » .

وفي رواية اُخرى قال:« كانت لي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله منزلة لم تكن لأحد من الخلائق؛ إني كنت آتيه كل سحر فاُسلّم عليه حتّى يتنحنح، فإن تنحنح انصرفت إلى أهلي وإلاّ دخلت عليه » . (المجتبى من السنن للنسائي ٣ / ٢، مسند أحمد ١ / ٨٥).

(٣) قال تعالى:( أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ... وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا... إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (البقرة / ٢٤٦ - ٢٤٨).

٨

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« أنا مدينة العلم وعلي بابها » .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« يا علي، أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبيّ بعدي » .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« يا علي، لا يُحبك إلاّ مؤمن، ولا يبغضك إلاّ منافق » .

وجعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ولاية أول أهل بيته عليعليه‌السلام هي ولايته إلى آخر الدنيا حين قال:« مَن كنت مولاه فعلي مولاه » .

وهكذا صار الإسلام عبارة عن الولاية لله تعالى، وللرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولعليعليه‌السلام ، ثمّ الأئمة من ولده. وولاية الله تعني اتّباع كتابه، وولاية الرسول تعني اتّباع سنّته والاقتداء به، وولاية علي والأئمة من ولده تعني أخذ سنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله منهم والاقتداء بهم، والاحتكام إليهم في زمانهم.

حاربت قريش المشركة بكلِّ قواها دعوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعاونها في ذلك يهود المدينة، واستغلّت قريش حروب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله التي كانت دفاعاً عن نفسه وعن أصحابه لتشويه صورته لدى القبائل العربيّة، وأخذت تصفه بأنه رجل أساء إلى البيت الحرام، وقطع الطرق الآمنة، وسفك الدِّماء، وأنها تريد الأمن وخدمة البيت الحرام وخدمة الحجيج.

ونجحت قريش في تحشيد عشرة آلاف جندي لحرب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في غزوة الأحزاب المعروفة بغزوة الخندق، وباءت جهودها بالفشل ورجعت تلك الأحلاف والأحزاب منهزمة.

ثمَّ رأى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد فشل قريش في الأحزاب أنّ استمرار اُسلوب الحرب معها ومع حلفائها لا ينفع؛ فعدَلَ عنه إلى الصلح، وفاجأ قريشاً في ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة بقدومهصلى‌الله‌عليه‌وآله ومعه ألف وخمسمئة من أصحابه، وقد ساقوا معهم الهدي ليعتمروا ويصالحوا قريشاً.

ولكن قريشاً أخذتها حَمِيَّةُ الجاهليّة، فأصرَّت على رفض دخول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ومَن معه مكّة ذلك العام، وصالحته على الأمان عشر سنين، وعلى أن يرجع تلك السنة ويعتمر العام القادم؛ وبذلك افتضحت قريش عند القبائل بكونها هي التي تصدّ عن البيت الحرام، وأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله رجل يعظّم البيت ويدعو إلى تعظيمه واحترامه.

____________________

(٤) مسند أحمد بن حنبل ٣ / ١٧، ط مؤسسة قرطبة.

٩

وانتشر الإسلام في قبائل الجزيرة العربيّة، وبلغ عدد المسلمين خلال سنتين ونصف عشرة آلاف. ثمّ نقضت قريش عهدها وأخلّت بشروط الصلح، وفاجأها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بجيش قوامه عشرة آلاف مسلم، ونصر الله تعالى نبيّه، ودخلت قريش الإسلام وهي راغمة.

عهد خلافة قريش المسلمة

خططت قريش المسلمة للالتفاف على الإسلام واحتوائه بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله تحت شعار (حسبنا كتاب الله)، في حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، من أجل فصل الكتاب عن السنة.

وتجاوزت مقام عليعليه‌السلام الذي أسسه الله تعالى ورسوله، ورجعت تعظم مقامها في الجاهليّة،( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ) (آل عمران / ١٤٤)، وفرضت على المسلمين أن تكون الإمامة الدينية والسياسية في رجالات قريش وليست في أهل البيتعليهم‌السلام ، وأعادت الأمر جاهليّة باسم الإسلام.

وقال رجالاتها في السقيفة: إنّ العرب لا ترضى أن يكون هذا الأمر في غير قريش. ثمّ فرضت بيعة أبي بكر ثمّ عمر ثمّ عثمان بالقوة(٥) .

____________________

(٥) روى البخاري بسنده عن عمر بن الخطاب وهو يتحدّث عن مجريات الاُمور في السقيفة، قال: فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتّى فُرّقت من الاختلاف، فقلت: أبسط يدك يا أبا بكر. فبسط يده فبايعته، وبايعه المهاجرون، ثمّ بايعته الأنصار. ونَزَوْنا على سعد بن عبادة، فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة؟ فقلت: قتل الله سعد بن عبادة. وروى الطبري في تاريخه ٤ / ٢٢٤عن عمر بن شبة بسنده عن عمر بن ميمون، قال عمر لأبي طلحة الأنصاري: اختر خمسين رجلاً من الأنصار، فاجمع هؤلاء الرهط في بيت حتّى يختاروا رجلاً منهم؛ فإن اجتمع خمسة ورضوا رجلاً وأبى واحد فاشدخ رأسه، وإن اتّفق أربعة فرضوا رجلاً منهم وأبى اثنان فاضرب [رأسيهما]، فإن رضي ثلاثة رجلاً منهم وثلاثة رجلاً منهم فحكِّموا عبد الله بن عمر، فأي الفريقين حكم له فليختاروا رجلاً منهم؛ فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، واقتلوا الباقين إن رغبوا عما اجتمع عليه الناس. وفي طبقات بن سعد ٣ / ٣٤٢ بسنده عن سماك أن عمر قال للأنصار: أدخلوهم بيتاً ثلاثة أيام، فإن استقاموا وإلاّ فادخلوا عليهم فاضربوا أعناقهم.وفي أنساب الأشراف للبلاذري ٤ / ٥٠٣ قال عمر: ليتبع الأقل الأكثر، فمن خالفكم فاضربوا عنقه. ومثله في كنز العمال ١٢ / ٦٨١. وقال عبد الرحمن لعليعليه‌السلام : بايع وإلاّ ضربت عنقك. أنساب الأشراف ٤ / ٥٠٨. واللفظ في صحيح البخاري ٩ / ٩٨ (فلا تجعل على نفسك سبيلاً).

١٠

وكانت سياستهم هي أن تتداول بطون قريش وقبائلها الإمامة الدينية والسياسية، ويمنعونها بني هاشم(٦) .

رفع الخلفاء القرشيّون الثلاثة شعار (حسبنا كتاب الله)، وأنَّ العرب لا ترضى أن يكون هذا الأمر في غير قريش، في قبال شعار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله « إنّي تارك فيكم كتاب الله وعترتي أهل بيتي » .

واجتهد الخلفاء القرشيّون الثلاثة باُمور خالفوا فيها سنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان من أكثر اجتهاداتهم ضرراً على الإسلام والمسلمين مَنْعُهم نشرَ حديث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وتفسيرَ القرآن، وإحراقُهم مدوَّنات الصحابة في الحديث(٧) ، وفسحُ المجال لعلماء أهل الكتاب الذين أسلموا من نشر أساطيرهم بين المسلمين باسم الإسلام(٨) .

____________________

(٦) قال الطبري: حدَّثني ابن حميد قال: حدَّثنا سلمة عن محمّد بن إسحاق، عن رجل، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: بينما عمر بن الخطابرضي‌الله‌عنه وبعض أصحابه يتذاكرون الشعر، فقال بعضهم: فلان أشعر، وقال بعضهم: بل فلان أشعر، قال: فأقبلت، فقال عمر: قد جاءكم أعلم الناس بها.

فقال عمر: مَن شاعر الشعراء يابن عباس؟

قال: فقلت: زهير بن أبي سلمى.

فقال عمر: هلمّ من شعره ما نستدل به على ما ذكرت.

فقلت: امتدح قوماً من بني عبد الله بن غطفان فقال:

لو كان يقعد فوق الشمس من كرمٍ

قومٌ بأوّلهم أو مجدهم قعدوا

قومٌ أبوهم سنانٌ حين تنسِبُهم

طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا

إنسٌ إذا أمنوا جنٌّ إذا فزعوا

مرزَّؤون بهاليل إذا حشدوا

محسّدون على ما كان من نعمٍ

لا ينزع الله منهم ماله حُسِدوا

فقال عمر: أحسن، وما أعلم أحداً أولى بهذا الشعر من هذا الحي من بني هاشم؛ لفضل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقرابتهم منه.

فقلت: وُفِّقتَ يا أمير المؤمنين، ولم تزل موفقا.

فقال: يابن عباس، أتدري ما منع قومكم منهم بعد محمد؟

فكرهت أن اُجيبه، فقلت: إن لم أكن أدري فأمير المؤمنين يدريني.

فقال عمر: كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة، فتبجّحوا على قومكم بجحاً بجحاً، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفّقت. (الطبري في ٤ / ٢٢٢ - ٢٢٤).

(٧) انظر كتابنا: شيعة العراق، حيث ذكرنا الروايات في ذلك.

(٨) انظر كتاب دور الأئمة في الحياة الإسلاميّة للعلامة العسكري.

١١

وكان من أبرز مخالفاتهم لسنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد نكثهم وصيَّته في عليعليه‌السلام هو تحريمهم متعة الحج.

وفي ضوء هذه الاجتهادات الخاطئة فُتِحت البلاد شرقاً وغرباً، وتعلَّم أهل البلاد المفتوحة الإسلام على أنه ولاء لله وللخليفة من قريش، وأنّ الدين هو كتاب الله وما شرعه الخليفة القرشي؛ ومن هنا عَرَضَ عبد الرحمن بن عوف على عليعليه‌السلام أن يبايعه على كتاب الله والعمل بسيرة الشيخين، فرفض عليعليه‌السلام ذلك قائلاً:« إنّ سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا تحتاج إلى إجّيري (٩) أحد » . وبويع عثمان على ذلك(١٠) .

وهكذا عاش الناس خمساً وعشرين سنة بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في جاهليّة وضلالة مقنَّعة باسم الإسلام.

____________________

(٩) الإجّيري (بالكسر والتشديد): العادة. انظر تاج العروس - مادة(أجر).

(١٠) قال اليعقوبي في تاريخه ٢ / ١٦٢: وكان عبد الرحمن بن عوف الزهري، لمّا توفي عمر واجتمعوا للشورى، سألهم أن يخرج نفسه منها على أن يختار منهم رجلاً، ففعلوا ذلك، فأقام ثلاثة أيام، وخلا بعلي بن أبي طالب، فقال: لنا الله عليك إن ولّيت هذا الأمر أن تسير فينا بكتاب الله وسنة نبيه، وسيرة أبي بكر وعمر.

فقال:« أسير فيكم بكتاب الله وسنة نبيّه ما استطعت ».

فخلا بعثمان، فقال له: لنا الله عليك إن ولّيت هذا الأمر أن تسير فينا بكتاب الله وسنة نبيه، وسيرة أبي بكر وعمر.

فقال: لكم أن أسير فيكم بكتاب الله وسنة نبيّه، وسيرة أبي بكر وعمر.

ثمّ خلا بعلي، فقال له مثل مقالته الاُولى، فأجابه مثل الجواب الأوّل، ثمّ خلا بعثمان فقال له مثل المقالة الاُولى، فأجابه مثل ما كان أجابه، ثمّ خلا بعلي فقال له مثل المقالة الاُولى، فقال:« إنّ كتاب الله وسنة نبيّه لا يحتاج معهما إلى إجّيرى أحد. أنت مجتهد أن تزوي هذا الأمر عني ».

فخلا بعثمان، فأعاد عليه القول، فأجابه بذلك الجواب، وصفّق على يده.

١٢

خالف عثمان سيرة الشيخين في قضية تولية الولاة على البلدان؛ إذ جعلاها في قبائل قريش وحصرها عثمان في بني اُميّة؛ فقد بدأ عهده باستقدام عمّه الحكم والد مروان، وكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد نفاه إلى الطائف، ثمّ جعل ابنه مروان(١١) كاتبه الخاص بعد أن زوّجه ابنته، ثمّ عزل سعد بن أبي وقاص عن الكوفة سنة ٢٥ هجرية وعيَّن أخاه لاُمّه الوليد بن عقبة الفاسق بنص القرآن، وفي سنة ٢٦ هجرية جمع الشام كلّها لمعاوية، وفي سنة ٢٧ هجرية جمع مصر كلّها لأخيه من الرضاعة عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد أهدر دمه في فتح مكة وأجاره عثمان.

وفيها أيضاً عزل أبا موسى الأشعري عن البصرة وولّى مكانه عبد الله بن عامر بن كريز بن حبيب بن عبد شمس وهو ابن أربع وعشرين سنة، وضمّ إليه ولاية فارس. وبسبب ذلك شاع التذمر في قريش، وصار المتذمرون وهم عبد الرحمن بن عوف، وطلحة والزبير، وعمرو بن العاص وعائشة حزباً، وصار عثمان ومعه بنو أبيه بنو اُميّة حزباً.

وتعاظم الخلاف بين الحزبين القرشيين سنة ٢٧ هجرية حين أعلن عبد الرحمن بن عوف المرشح الأكيد لخلافة عثمان قطيعته لعثمان، وبدأ الخصوم يذكرون من سيرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأحاديثه ما يضعِّفون به جانب عثمان وبني اُميّة؛ وبذلك انكسرت سياسة منع الحديث وضعفت سيطرة السلطة.

____________________

(١١) قال ابن حجر: مروان بن الحكم بن أبي العاص بن اُميّة بن عبد شمس، وهو ابن عمِّ عثمان، وكاتبه في خلافته. يقال: ولد بعد الهجرة بسنتين، وقيل: بأربع.

وقال ابن شاهين: مات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو ابن ثمان سنين، فيكون مولده بعد الهجرة بسنتين.

وكان مع أبيه بالطائف إلى أن أذن عثمان للحكم في الرجوع إلى المدينة، فرجع مع أبيه، ثمّ كان ذلك من أسباب قتل عثمان، ثمّ شهد (مروان) الجمل مع عائشة، ثمّ صفّين مع معاوية، ثمّ ولي إمرة المدينة لمعاوية، ثمّ لم يزل بها إلى أن أخرجهم ابن الزبير في أوائل إمرة يزيد بن معاوية؛ فكان ذلك من أسباب وقعة الحرة، وبقي بالشام إلى أن مات معاوية بن يزيد بن معاوية، فبايعه بعض أهل الشام في قصة طويلة.

ثمّ كانت الوقعة بينه وبين الضحاك بن قيس، وكان أميراً لابن الزبير، فانتصر مروان وقتل الضحاك، واستوثق له مُلك الشام، ثمّ توجّه إلى مصر فاستولى عليها، ثمّ بَغَتَه الموت فعهد إلى ولده عبد الملك.

وفي التعديل والتجريح قال عمرو بن علي: بويع مروان بن الحكم وهو ابن إحدى وستّين سنة، في النصف من ذي القعدة سنة أربع وستّين، فعاش خليفة تسعة أشهر وثماني عشرة ليلة ومات لثلاث خلون من رمضان سنة خمس وستّين.

١٣

حركة عليعليه‌السلام لإحياء السنة النبويّة

في أجواء الانشقاق القرشي هذا قرَّر عليعليه‌السلام البدء بحركته الإحيائية لسنّة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في المجتمع، وأعلن عن عزمه على الحج تلك السنة، ولبّى بحجّ التمتع الذي أمر به النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وحرَّمته الخلافة القرشية(١٢) .

وأوعز إلى أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الذين على رأيه، وهم: أبو ذر وعمّار ومقداد ونظراؤهم أن يبدؤوا بنشر الحديث النبوي، ويعرِّفوا الناس بمفتاح العلم والهداية بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وهم أهل بيتهعليهم‌السلام .

____________________

(١٢) روى مالك في الموطأ أنّ المقداد بن الأسود دخل على عليعليه‌السلام بالسُّقْيا وهو يُنجِع بَكرات له دقيقاً وخبطاً، فقال: هذا عثمان بن عفان ينهى أن يقرن بين الحج والعمرة. فخرج عليعليه‌السلام وعلى يديه أثر الدقيق والخبط، فما أنسى أثر الدقيق والخبط على ذراعيه، حتّى دخل على عثمان، فقال:« أنت تنهى عن أن يُقْرَنَ بين الحج والعمرة؟ » . فقال عثمان: ذلك رأيي. فخرج عليٌّعليه‌السلام مغضباً وهو يقول:« لبيك اللهمَّ لبيك بحجة وعمرة معاً » . وفي سنن النسائي ومستدرك الصحيحين ومسند أحمد - واللفظ للأوّل - عن سعيد بن المسيب قال: حجّ علي وعثمان، فلمّا كنّا ببعض الطريق نهى عثمان عن التمتع، فقال علي:« إذا رأيته ارتحل فارتحلوا » . فلبى علي وأصحابه بالعمرة قال الإمام السندي بهامشه: قال:« إذا رأيتموه قد ارتحل فارتحلوا » ، أي ارتحلوا معه ملبّين بالعمرة؛ ليعلم أنكم قدّمتم السنة على قوله، وأنه لا طاعة له في مقابل السنة.

وفي صحيح البخاري، وسنن النسائي، وسنن الدارمي، وسنن البيهقي، ومسند أحمد، ومسند الطيالسي وغيرها عن علي بن الحسينعليه‌السلام ، عن مروان بن الحكم قال: شهدت عثمان وعليعليه‌السلام ، وعثمان ينهى عن المتعة وأن يُجمع بينهما، فلمّا رأى علي أهلَّ بهما:« لبّيك بعمرة وحجة معاً » . قال:« ما كنت لأدع سنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لقول أحد » . وفي لفظ النسائي: فقال عثمان: أتفعلها وأنا أنهى عنها؟ فقال عليعليه‌السلام :« لم أكن لأدع سنّة رسول الله لأحد من الناس » . انظر تفصيل المصادر في كتابنا شبهات وردود / ٢١٤ - ٢٢٤ ط٤ - بحث متعة الحج.

١٤

انتهى انشقاق قريش بنجاح طرف عائشة وطلحة في التحريض على عثمان، ثمّ نجاحهم في قتله، وكانوا يترقّبون أن يتّجه الناس إلى طلحة ليبايعوه، غير أنهم فوجئوا بأن الناس اتجهوا إلى عليعليه‌السلام يقودهم عمار وأبو الهيثم بن التيِّهان وأبو سعيد الخُدري وغيرهم من الصحابة الأنصار، ومعهم مالك الأشتر ونظراؤه من التابعين، وأصرّوا على عليعليه‌السلام أن يبايعوه(١٣) .

وقام عليعليه‌السلام بواجبه كوصيٍّ للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإمام هدى بأمر الله تعالى، وشاهد إلهي على الناس، مسؤول عن حفظ الرسالة ونشرها في المجتمع خير قيام حين نهض بالأمر بعد قتل عثمان وبيعة الأمة له؛ فأكمل عمله الذي بدأه في اُخريات عهد عثمان، أكمل نشر سنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأحيا العمل بها، وحثَّ على تدوينها، ومنع من التحديث بالأساطير الإسرائيلية.

____________________

(١٣) قال عليعليه‌السلام :« فما راعني إلاّ والناس كعرف الضبع إليَّ، ينثالون عليَّ من كلِّ جانبٍ حتّى لقد وطئ الحسنان، وشق عطفاي، مجتمعين حولي كربيضة الغنم » . شرح النهج ١ / ٢٠٠.

« وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إيّاي أن ابتهج بها الصغير، وهدج إليها الكبير، وتحامل نحوها العليل، وحسرت إليها الكعاب. وبسطتم يدي فكففتها، ومددتموها فقبضتها، ثمّ تداككتم عليَّ تداك الإبل الهيم على حياضها يوم وردها، حتّى انقطعت النعل، وسقط الرداء، ووطئ الضعيف » شرح النهج ١٣ / ٣.

التداك: الازدحام الشديد. والإبل الهيم: العطاش. وهدج إليها الكبير: مشى مشياً ضعيفاً مرتعشاً، والمضارع يهدج (بالكسر). وتحامل نحوها العليل: تكلّف المشي على مشقة. وحسرت إليها الكعاب: كشفت عن وجهها؛ حرصاً على حضور البيعة. والكعاب: الجارية التي قد نهد ثديها، كعبت تكعُب (بالضم).

١٥

ولم تطب نفس قريش بذلك؛ فنكثت بيعة عليعليه‌السلام ، وعملت على تفريق الاُمّة. وتصدى لذلك وجوهم آنذاك، وهم: عائشة وطلحة والزبير ومعاوية، وحاربوه في البصرة في الحرب المعروفة بحرب الجمل، ولمّا انكسروا فيها التفّوا حول معاوية في الشام وحاربه في صفين، ثمّ وقعت الفتنة في جيش عليعليه‌السلام وتجمهر عدة آلاف من العراقيِّين المتأثرين باجتهادات عمر في العبادة وغيرها(١٤) فحاربوه في النهروان.

____________________

(١٤) افتتن قسم من المسلمين في جيش عليعليه‌السلام بعد أن رفع معاوية وأصحابه القرآن داعين إلى الاحتكام إليه، وانطلت عليهم حيلة معاوية وعمرو بن العاص. وهذا القسم كان قد تعوَّد على السنن التي أجراها عمر وخالف فيها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يستجيبوا للتصحيح الذي قاده عليعليه‌السلام في إحياء السنة النبويّة.

وقد روى لنا الكليني في الكافي ٨ / ٥٩ قطعة من كلام [الإمام] عليٍّعليه‌السلام [وهو] يتحدّث عن هؤلاء:« قد عملت الولاة قبلي أعمالاً خالفوا فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، متعمدين لخلافه، ناقضين لعهده، مغيّرين لسنته. ولو حملت الناس على تركها، وحوّلتها إلى مواضعها، وإلى ما كانت في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لتفرّق عنّي جندي حتّى أبقى وحدي، أو قليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي، وفرض إمامتي من كتاب الله (عزّ وجلّ) وسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيمعليه‌السلام فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ورددت فدك إلى ورثة فاطمةعليها‌السلام ، ورددت صاع رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كما كان ورددت دار جعفر إلى ورثته وهدمتها من المسجد، ورددت قضايا من الجور قُضي بها، ونزعت نساءً تحت رجال بغير حقٍّ فرددتهنّ إلى أزواجهنّ، واستقبلت بهنّ الحكم في الفروج والأرحام... ومحوت دواوين العطايا وأعطيت كما كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يعطي بالسوية، ولم أجعلها دولة بين الأغنياء...

وسوّيت بين المناكح، وأنفذت خمس الرسول كما أنزل الله (عزّ وجلّ) وفرضه، ورددت مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى ما كان عليه، وسددت ما فُتح فيه من الأبواب، وفتحت ما سُدّ منه، وحرّمت المسح على الخفين، وحددت على النبيذ، وأمرت بإحلال المتعتين، وأمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات، وألزمت الناس الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم...

وحملت الناس على حكم القرآن، وعلى الطلاق على السنّة، وأخذت الصدقات على أصنافها وحدودها، ورددت الوضوء والغسل والصلاة إلى مواقيتها وشرائعها ومواضعها... إذاً لتفرّقوا عنّي.

والله، لقد أمرت الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلاّ في فريضة، وأعلمتهم أنّ اجتماعهم في النوافل بدعة، فتنادى بعض أهل عسكري ممّن يقاتل معي: يا أهل الإسلام، غُيّرت سنة عمر؛ ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوعاً!

ولقد خفت أن يثوروا في ناحية جانب عسكري. ما لقيت من هذه الاُمة!... » .

أقول: كلامهعليه‌السلام هذا كان في أواسط خلافته قبل قصة النهروان وإقبال الناس عليه والتفافهم حوله.

١٦

انحصر إحياء سنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ونشرها بين أهل البلاد المفتوحة شرقاً، وصارت الكوفة مركزاً لتلك النهضة الإحيائية لسنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والعمل بها. أما الشام فقد بقيت منغلقة على هذه النهضة، وصارت مركزاً لقريش في محاربة عليعليه‌السلام والكيد له، ومحاربة الأحاديث النبويّة الصحيحة.

وشوَّه معاوية عن طريق الأخبار الكاذبة صورة عليعليه‌السلام لدى الشاميِّين، وصوَّره لهم شخصاً مجرماً بحق الإسلام، وأن دم عثمان بعهدته، وسوَّغ لهم لعنه ومحاربته نظير ما فعلت قريش المشركة مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا هاجر إلى المدينة.

وصار يشن الغارات على أطراف بلاد عليعليه‌السلام لسلب الأموال وإرعاب الناس؛ ليطوّق تجربة عليعليه‌السلام الإحيائية للسنة النبويّة ويحدها من الانتشار. واستشهد عليعليه‌السلام وهو يعبِّئ الناس لخوض معركة جديدة مع معاوية.

١٧

صلح الإمام الحسنعليه‌السلام يحفظ وحدة الكتاب والقبلة ويثقّف أهل الشام بالسنة النبويّة الصحيحة

بايع أهل العراق الحسنعليه‌السلام تبعاً للنصوص النبويّة الواردة في حق أهل البيتعليهم‌السلام التي تعيِّنهم أئمة هدى، وحججاً إلهيين بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والتي أحيا نشرها عليعليه‌السلام . وكانت حكومته مشروعة؛ لأنّ بيعة الاُمّة وقعت في محلها الشرعي، وبايع أهل الشام معاوية ولم تكن بيعة مشروعة؛ لأنها لم تقع في محلها الشرعي.

وانقسمت الاُمّة بذلك إلى كيانين سياسيّين:

أحدهما: كيان سياسي محوره العراق، يرأسه الحسنعليه‌السلام ، وهو عازم على مواصلة مسيرة أبيه في إحياء السنة النبويّة والعمل بها ونشرها بين المسلمين.

وثانيهما: كيان سياسي محوره الشام، يرأسه معاوية، وهو عازم على إحياء مسيرة أبي بكر وعمر وعثمان ونشر اجتهاداتهم من جديد.

عرض معاوية الصلح على الحسنعليه‌السلام لحقن الدماء، وأن يبقى كل طرف على البلاد التي بايعته واقتنعت به.

وكان الحسنعليه‌السلام أمام هذا العرض بين إحراجين؛ فهو إن رفض اُطروحة الصلح يكون قد سجّل على نفسه أمام الشاميين مخالفة لقوله تعالى:( وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ) (الأنفال / ٦٠ - ٦١)، ويكون بذلك قد أمدَّهم بمبرّر قوي لحربه.

وهو إن أقرَّ اُطروحة معاوية في الصلح يكون قد كرَّس جهلَ أهل الشام بالأحاديث النبويّة في حق عليعليه‌السلام ، وجهلهم بسيرته التي هي سيرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، مضافاً إلى ذلك فإن اُطروحة معاوية في الصلح تستبطن إجراءً سوف يتّخذه معاوية مستقبلاً يقضي بمنع أهل الشام من الذهاب إلى مكة حتّى لا يختلطوا بالعراقيِّين، ومن ثمّ يتعلموا منهم أحاديث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في حقِّ عليعليه‌السلام ، ولا يتعرفون على سيرته المشرقة.

١٨

وهذه الخطوة سوف تجر إلى تبنّي القبلة الأولى (بيت القدس) في قبال مكة، وحذف آيات ونسخها من القرآن؛ وبذلك تتعدد القبلة ويتعدد الكتاب، وكذلك تجر إلى اُمور أخرى(١) .

ومن هنا قدّم الحسنعليه‌السلام اُطروحة جديدة للصلح تستند إلى اُطروحة جدّه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في صلحه مع قريش، مع تطوير يناسب المقام ويحقق الأهداف كاملة. وتمثلت هذه الاُطروحة الحسنيّة بأن يسلّم الأمر كله لمعاوية لقاء شروط يصوغها الحسنعليه‌السلام .

وفوجئ معاوية بهذه الاُطروحة، وطار لها فرحاً، ولم يكن يصدِّق ذلك.

أرسل معاوية للحسنعليه‌السلام صحيفة بيضاء موقّعة من طرفه يكتب شروطه عليها، وكان من هذه الشروط:

أن يكون الأمر للحسنعليه‌السلام بعد معاوية.

ومنها: أن يترك لعن عليعليه‌السلام .

ومنها: أن يسير معاوية بالكتاب والسنة.

ومنها: أمان كل شيعة عليعليه‌السلام ، وغير ذلك.

وحاول معاوية أن يستثني عشرة من شيعة عليعليه‌السلام من الأمان، ولكن الحسنعليه‌السلام رفض ذلك.

واستجاب معاوية أخيراً للشروط، واتّضح لأهل الشام جلياً أنّ معاوية كان يقاتل على الملك وليس من أجل دم عثمان، بدليل أنه لمّا عرض عليه الملك بشرط أمان الناس كلهم بما فيهم مَن هو متّهم من قبل الإعلام الاُموي بدم عثمان رضيَ به، بل طار له فرحاً(٢) .

____________________

(١) من قبيل الاقتتال فيما بينهم، ثمّ طمع الروم فيهم وزوال الدولة الإسلامية مبكراً.

(٢) روى ابن عبد ربه في العقد الفريد أن معاوية حج سنة ٤٤، ولمّا دخل المدينة وزار بيت عثمان استقبلته عائشة بنت عثمان صائحة: وا عثماناه!...

١٩

عاشت الاُمّة عشر سنوات من الصلح، وكانت سنوات أمان تام، وتحرَّك أصحاب عليعليه‌السلام من العراقيِّين ينشرون سنة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، واختلطوا بأهل الشام في موسم الحج والعمرة، ومن خلال سفرات إلى الشام كان يعرضها معاوية عليهم، وانتشرت أحاديث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في حقِّ عليعليه‌السلام ، وعرف الشاميّون موقعه في الإسلام، وعرفوا سيرته المشرقة المتطابقة مع سيرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وأحبَّ الناس جميعاً الحسنعليه‌السلام ؛ لِما حقّق لهم من الأمان، ولِما رأوا من أخلاقه وعبادته وعلمه من خلال موسم الحج الذي أحياه بالحج ماشياً عشر سنوات بعد الصلح(٣) ، ومن خلال سفراته إلى الشام، وأدرك الناس بعمق كلمة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في حق الحسنعليه‌السلام حين قال:« إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين » (٤) .

ضلالة بني اُميّة

لم يَرُق لمعاوية أن يموت ويترك الاُمور ممهَّدة للحسن بن عليعليه‌السلام ، وقد برَّزته الأحداث كأعظم مُصلح في الاُمّة، ثمّ يستمر الأمر من بعده للحسين بن علي والأئمةعليهم‌السلام من ذرّيته، شهداء على الناس، وأئمة هدى يقودون الناس إلى الله تعالى.

وخطط معاوية ليستولي على الاُمور، وليكون هو ونسله أولى بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وبدين إبراهيمعليه‌السلام ، وأن يعرضوا أنفسهم على الناس أنهم أئمة الهدى، وخلفاء الله وشفعاؤه في خلقه، وأن يعرضوا علياً وأهل بيتهعليهم‌السلام ملحدين في الدين، استوجبوا اللعنة والبراءة على لسان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ وبذلك يثأر لأسلافه الذين قُتِلوا في معركة بدر على الشرك، ويحقق ما لم يخطر على بال اُمّه هند من صور الانتقام.

____________________

(٣) يذكر المترجمون للحسنعليه‌السلام أنه حج خمساً وعشرين حجة ماشياً على قدميه، فتكون هذه في السنوات الماضية من حياتهعليه‌السلام .

(٤) أوردتها كتب الصحاح والمسانيد.

٢٠