اعلام الهداية الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام)

اعلام الهداية الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام)16%

اعلام الهداية الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام
الصفحات: 221

اعلام الهداية الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 221 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 122519 / تحميل: 6744
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام)

اعلام الهداية الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

أهل البيتعليهم‌السلام وتربية الأُمّة

وكان للأئمّة الأطهارعليهم‌السلام نشاط مستمر في مجال تربية الأمة عقائدياً وأخلاقياً وسياسياً ؛ وذلك من خلال تربية الأصحاب العلماء وبناء الكوادر العلمية والشخصيات النموذجية التي تقوم بمهامّ كبيرة مثل : نشر الوعي والفكر الإسلامي ، وتصحيح الأخطاء المستجدّة في فهم الرسالة والشريعة ، ومواجهة التيارات الفكرية السياسية المنحرفة ، أو الشخصيّات العلمية المنحرفة التي كان يوظّفها الحاكم المنحرف لدعم زعامته .

وحيث كان الأئمة من أهل البيتعليهم‌السلام يُشكّلون النموذج الحيّ للزعامة الصالحة ، عملوا على تثقيف الأمة ورفع درجة وعيها بالنسبة لإمامتهم وزعامتهم ومرجعيّتهم العامة .

وهكذا تفاعل الأئمةعليهم‌السلام مع الأمة ودخلوا إلى أعماق ضمير الأمة وارتبطوا بها وبكل قطّاعاتها بشكل مباشر وتعاطفوا مع قطّاع واسع من المسلمين ; فإنّ الزعامة الجماهيرية الواسعة النطاق التي كان يتمتّع بها أئمة أهل البيت عليهم‌السلام على مدى قرون لم يحصل عليها أهل البيت صدفة أو لمجرّد الانتماء لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ; وذلك لوجود كثير ممّن كان ينتسب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يكن يحظى بهذا الولاء ; لأنّ الأمة لا تمنح على الأغلب الزعامة مجّاناً ، ولا يملك الفرد قيادتها وميل قلوبها من دون عطاء سخيّ منه في مختلف مجالات اهتمام الأمة ومشاكلها وهمومها .

سلامة النظرية الإسلامية

وهكذا خرج الإسلام على مستوى النظرية سليماً من الانحراف وإن تشوّهت معالم التطبيق من خلال الحكّام المنحرفين ، وتحولّت الأمة إلى أُمّة عقائدية تقف بوجه الغزو الفكري والسياسي الكافر حتى استطاعت أن تسترجع قدرتها وروحها على المدى البعيد ، كما لاحظناه في هذا القرن المعاصر بعد عصور الانهيار والتردّي حيث بزغ نور الإسلام من جديد ليعود بالبشرية إلى مرفأ الحق التليد .

٦١

وقد حقّق الأئمّة المعصومونعليهم‌السلام كل هذه الانتصارات بفضل اهتمامهم البليغ بتربية الجماعة الصالحة التي تؤمن بهم وبإمامتهم فأشرفوا على تنمية وعيها وإيمانها من خلال التخطيط لسلوكها وحمايتها باستمرار وإسعافها بكل الأساليب التي كانت تساعد على ثباتها في خضمّ المحن وارتفاعها إلى مستوى جيش عقائدي رسالي يعيش هموم الرسالة ويعمل على صيانتها ونشرها وتطبيقها ليل نهار.

مراحل الحركة الرسالية للائمّة الراشدينعليهم‌السلام

وإذا رجعنا إلى تاريخ أهل البيتعليهم‌السلام والظروف التي كانت قد أحاطت بهم ولاحظنا سيرتهم ومواقفهم العامة والخاصة ؛ استطعنا أن نصنّف ظروفهم ومواقفهم إلى مراحل وعصور ثلاثة يتميّز بعضها عن بعض بالرغم من اشتراكهم في كثير من الظروف والمواقف ، ولكنّ الأدوار تتنوّع باعتبار مجموعة الظواهر العامّة التي تشكل خطّاً فاصلاً ومميّزاً لكل عصر .

فالمرحلة الأُولى من حياة الأئمّةعليهم‌السلام وهي ( مرحلة تفادي صدمة الانحراف ) بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجسّدت في سلوك ومواقف الأئمّة الأربعة : علي والحسن والحسين وعلي بن الحسينعليهم‌السلام فقاموا بالتحصينات اللازمة لصيانة العناصر الأساسية للرسالة وإن لم يستطيعوا القضاء على القيادة المنحرفة ، لكنّهم استطاعوا كشف زيفها والمحافظة على الرسالة الإسلامية نفسها .

وبالطبع إنّهم لم يهملوا الأمة أو الدولة الإسلامية بشكل عام من رعايتهم واهتماماتهم فيما يرتبط بالكيان الإسلامي والأمة المسلمة ، فضلاً عن سعيهم البليغ في بناء وتكوين الكتلة الصالحة المؤمنة بقيادتهم .

٦٢

وتبدأ المرحلة الثانية بالشطر الثاني من حياة الإمام السجّاد السياسية حتى الإمام الكاظمعليه‌السلام وتتميّز بأمرين أساسيين :

الأوّل منهما : يرتبط بالخلافة المزيّفة ، فقد تصدّى هؤلاء الأئمّة لتعريتها عن التحصينات التي بدأ الخلفاء يحصّنون بها أنفسهم من خلال دعم وتأييد طبقة من المحدّثين والعلماء ( وهم وعّاظ السلاطين ) لهؤلاء الخلفاء وتقديم صنوف التأييد والولاء لهم من أجل إسباغ الصبغة الشرعية على زعامتهم بعد أن استطاع الأئمّة في المرحلة الأولى أن يكشفوا زيف خط الخلافة ويشعروا الأمة بمضاعفات الانحراف الذي حصل في مركز القيادة بعد الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

والثاني منهما : يرتبط ببناء الجماعة الصالحة والذي أُرسيت دعائمه في المرحلة الأولى ، فقد تصدّى الأئمّة المعصومون في هذه المرحلة إلى تحديد الإطار التفصيلي وإيضاح معالم الخط الرسالي الذي اؤتمن الأئمّة الأطهارعليهم‌السلام عليه ، والذي تمثّل في تبيين ونشر معالم النظرية الإسلامية وتربية عدّة أجيال من العلماء على أساس الثقافة الإسلامية التي استوعبها الأئمة الأطهار في قِبال الخط الثقافي الذي استحدثه وعّاظ السلاطين .

هذا فضلاً عن تصدّيهم لدفع الشبهات وكشف زيف الفرق التي استحدثت من قِبل خط الخلافة أو غيره .

والأئمّة في هذه المرحلة لم يتوانوا عن زعزعة الزعامات والقيادات المنحرفة من خلال دعم بعض الخطوط المعارِضة للسلطة ولاسيّما بعض الخطوط الثورية منها ، والتي كانت تتصدّى لمواجهة مَن تربَّع على كرسيّ خلافة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام .

وأمّا المرحلة الثالثة من حياة الأئمّة من أهل البيتعليهم‌السلام : فهي تبدأ بشطر من حياة الإمام الكاظمعليه‌السلام وتنتهي بالإمام المهديعليه‌السلام فإنّهم بعد وضع التحصينات اللازمة للجماعة الصالحة ورسم المعالم والخطوط التفصيلية لها عقائدياً وأخلاقياً وسياسيّاً في المرحلة الثانية قد بدا للخلفاء أنّ قيادة أهل البيتعليهم‌السلام أصبحت بمستوى تسلّم زمام الحكم والعودة بالمجتمع الإسلامي إلى حظيرة الإسلام الحقيقي ، ممّا خلّف ردود فعل للخلفاء تجاه الأئمّةعليهم‌السلام ، وكانت مواقف الأئمّة تجاه الخلفاء تختلف تبعاً لنوع موقف الخليفة تجاههم وتجاه قضيّتهم .

٦٣

وأمّا فيما يرتبط بالجماعة الصالحة التي أوضحوا لها معالم خطّها فقد عمل الأئمّةعليهم‌السلام على دفعها نحو الثبات والاستقرار والانتشار من جهة لتحصينها من الانهيار ، وإعطائها درجة من الاكتفاء الذاتي من جهة أُخرى .

وكان يقدّر الأئمّة أنّهم بعد المواجهة المستمرّة للخلفاء سوف لا يُسمح لهم بالمكث بين ظهرانيهم ، وسوف لن يتركهم الخلفاء أحراراً بعد أن تبيّن زيفهم ودَجلهم واتضحت لهم المكانة الشعبية للأئمّة المعصومين الذين كانوا يمثّلون الزعامة الشرعية والواقعية للأمة الإسلامية .

ومن هنا تجلّت ظاهرة تربية الفقهاء بشكل واسع ثم إرجاع الناس إليهم وتدريبهم على مراجعتهم للعلماء السائرين على خط أهل البيتعليهم‌السلام في كل قضاياهم وشؤونهم العامة ؛ تمهيداً للغيبة التي لا يعلم مداها إلاّ الله سبحانه والتي أخبر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن تحقّقها وأملت الظروف عليهم الانصياع إليها .

وبهذا استطاع الأئمّةعليهم‌السلام ـ ضمن تخطيط بعيد المدى ـ أن يقفوا بوجه التسلسل الطبيعي لمضاعفات انحراف القيادة الإسلامية والتي كانت تنتهي بتنازل الأمة عن الإسلام الصحيح ؛ وبالتالي ضمور الشريعة وانهيار الرسالة الإلهية بشكل كامل .

موقع الإمام الهاديعليه‌السلام في عملية التغيير الشاملة

والإمام علي بن محمد الهاديعليه‌السلام يُصنّف في هذه المرحلة الثالثة من مراحل حركة أهل البيتعليهم‌السلام فهو قد مارس نشاطاً مكثّفاً لإعداد الجماعة الصالحة للدخول إلى دور الغيبة المرتقب ، وتحصين هذا الخط ضد التحدّيات التي كانت توجّه إليه باستمرار .

وسوف نقف على تفاصيل مواقف الإمام الهاديعليه‌السلام ونشاطاته وإنجازاته التي اختصّ بها عصره ، بعد التعرّف على ملامح عصره وأهم الظروف التي كانت تحيط به وبشيعته وبالأمة الإسلامية جميعاً ، ضمن الفصول القادمة إن شاء الله تعالى .

٦٤

الفصل الثاني : عصر الإمام علي بن محمّد الهاديعليه‌السلام

تحدّثنا عن المرحلة الأولى من حياة الإمام الهاديعليه‌السلام في ظِلال والده الإمام محمد الجوادعليه‌السلام وقد كانت فترة قصيرة جداً لم تتجاوز ثماني سنين ـ على أكثر التقادير ـ وقد قضاها في المدينة المنوّرة ، وكان في شطر منها بعيداً عن والده ؛ وذلك لأنّ المعتصم العباسي قد استدعاه في سنة (٢١٨ هـ) إلى بغداد .

والمرحلة الثانية من حياة الإمام الهاديعليه‌السلام تناهز أربعاً وثلاثين سنة حيث تحمّل فيها أعباء منصب الإمامة منذ سنة (٢٢٠ هـ) إلى سنة (٢٥٤هـ) واستمرّت (٣٤ سنة) وعاصر فيها كلاًّ من : المعتصم (٢١٨ ـ ٢٢٧ هـ) ، والواثق (٢٢٧ ـ٢٣٢ هـ) ، والمتوكل (٢٣٢ ـ ٢٤٧ هـ) ، والمنتصر (٢٤٧ ـ ٢٤٨ هـ) ، والمستعين (٢٤٨ ـ ٢٥٢ هـ) ، والمعتز (٢٥٢ ـ ٢٥٥ هـ) .

المعتصم (٢١٨ ـ ٢٢٧ هـ)

هو محمد بن الرشيد ، وُلد سنة (١٨٠ أو ١٧٨) ، واستولى على كرسي الخلافة سنة (٢١٨ هـ) أُمّه ماردة كانت أحظى الناس عند الرشيد .

وقالوا عنه : إنّه كان ذا شجاعة وقوّة وهمّة وكان عريّاً من العلم .

وكان إذا غضب لا يبالي من قتل ، وكان من أشدّ الناس بطشاً ، كان يجعل زند الرجل بين أصبعيه فيكسره .

وهو أوّل خليفة أدخل الأتراك الديوان وكان يتشبّه بملوك الأعاجم ويمشي مشيتهم ، وبلغت غلمانه الأتراك بضعة عشر ألفاً .

وهجاه دعبل الخزاعي بالأبيات التالية :

ملوك بني العباس في الكتب سبعة

ولم يأتنا في ثامن منهم الكُتْبُ

كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة

غداة ثَوَوْا فيه وثامنهم كلبُ

وإنّي لأزهى كلبهم عنك رغبةً

لأنّك ذو ذنب وليس له ذنبُ

لقد ضاع أمر الناس حيث يسوسهم

وصيف واشناس وقد عظم الخطبُ

وسار على ما كان عليه المأمون من امتحان الناس بخلق القرآن وقاسى الناس منه مشقّة في ذلك ، وقتل عليه خلقاً من العلماء ، وضرب الإمام أحمد بن حنبل في سنة عشرين ومائتين .

٦٥

وفيها تحوّل المعتصم من بغداد وبنى سُرّ مَن رأى بعد أن اعتنى باقتناء الترك وبذل الأموال الطائلة فيهم حتى ألبسهم الديباج ومناطق الذهب وأصبحوا يؤذون الناس ببغداد حتى هدّده أهل بغداد بمحاربته إن لم يخرجهم منها ؛ ولهذا بنى سامراء وأخرجهم من بغداد .

وغزا المعتصم الروم سنة (٢٢٣ هـ) وفتح عمورية ومات في ربيع الأوّل سنة (٢٢٧ هـ) ودامت حكومة المعتصم ثماني سنين وثمانية أشهر .

الإمام الهاديعليه‌السلام والمعتصم العباسي

بعد اغتيال الإمام الجوادعليه‌السلام من قِبل المعتصم عهد المعتصم إلى عمر بن الفرج أن يشخص بنفسه إلى المدينة ليختار معلّماً لأبي الحسن الهادي عليه‌السلام البالغ من العمر آنذاك ست سنين وأشهراً ، وقد عهد إليه أن يكون المعلّم معروفاً بالنصب والانحراف عن أهل البيت عليهم‌السلام ليغذّيه ببغضهم .

ولمّا انتهى عمر إلى يثرب التقى بالوالي وعرّفه بمهمّته فأرشده الوالي وغيره إلى الجنيدي الذي كان شديد البغض للعلويين ، فأرسل خلفه وعرّفه بالأمر فاستجاب له بعد أن عيّن له راتباً شهرياً ، وعهد إليه أن يمنع الشيعة من زيارته والاتصال به .

بادر الجنيدي إلى ما كان اُمر به من مهمّة تعليم الإمامعليه‌السلام إلاّ أنّه قد ذهل لمّا كان يراه من حدَّة ذكائه ، والتقى محمد بن جعفر بالجنيدي فقال له : ( ما حال هذا الصبي الذي تؤدّبه ؟ ) فأنكر الجنيدي ذلك وراح يقول :

( أتقول : هذا الصبي ؟!! ولا تقول هذا الشيخ ؟ أنشدك بالله هل تعرف بالمدينة مَن هو أعرف منّي بالأدب والعلم ؟ ) .

قال : لا .

فقال الجنيدي : ( إنّي والله لأذكر الحرف في الأدب ، وأظن أنّي قد بالغت ، ثم إنّه يملي أبواباً استفيده منه ، فيظن الناس أنّي أُعلّمه ، وأنا والله أتعلّم منه ) .

وانطوت الأيام فالتقى محمد بن جعفر مرّة أُخرى بالجنيدي ، فقال له : ما حال هذا الصبي ؟

٦٦

فأنكر عليه الجنيدي ذلك وقال : ( دع عنك هذا القول ، والله تعالى لهو خير أهل الأرض ، وأفضل مَن برأه الله تعالى ، وإنّه لربّما همَّ بدخول الحجرة فأقول له : حتى تقرأ سورة ، فيقول : أيّ سورة تريد أن أقرأها ؟ فاذكر له السور الطوال ما لم يبلغ إليها فيسرع بقراءتها بما لم أسمع أصحّ منها ، وكان يقرأها بصوت أطيب من مزامير داود ، إنّه حافظ القرآن من أوّله إلى آخره ، ويعلم تأويله وتنزيله .

وأضاف الجنيدي قائلاً : ( هذا الصبي صغير نشأ بالمدينة بين الجدران السود فمن أين عَلِم هذا العلم الكبير ؟ يا سبحان الله !! ثم نزع عن نفسه النصب لأهل البيتعليهم‌السلام ودان بالولاء لهم واعتقد بالإمامة )(١) .

لقد كان لأدب الإمام الهاديعليه‌السلام وحسن تعامله مع معلّمه ( الناصبي ) أثر كبير في تحوّله الاعتقادي وإيمانه بزعامة أهل البيتعليهم‌السلام .

ثمّ إنّ الجنيدي نفسه صرّح لغيره أنّه تعلّم من الإمامعليه‌السلام ولم يأخذ الإمامعليه‌السلام العلم منه ؛ وتلك خاصة للإمام وآبائهعليهم‌السلام ، فإنّ الإمام الرضاعليه‌السلام لمّا سُئل عن الخلف بعده أشار إلى الإمام الجوادعليه‌السلام وهو صغير ربّما في عمر كعمر الإمام الهاديعليه‌السلام ، واحتجّ الرضاعليه‌السلام بقوله تعالى :( وآتيناه الحكم صبيّاً ) فالصغر والكبر ليس مورداً للإشكال فإنّ الله سبحانه جعل الإمامة امتداداً للنبوّة لتقتدي الناس بحملة الرسالة ، فهم القيّمون عليها والمجسّدون لها تجسيداً كاملاً ؛ ليتيسّر للناس تطبيق أحكام الله تعالى بالاقتداء بالأئمةعليهم‌السلام .

وتعكس لنا هذه الرواية الاهتمام المبكّر من قِبل المعتصم بالإمام الهاديعليه‌السلام من أجل تطويق تحرّكه وعزله عن شيعته ومريديه ، كما يتّضح ذلك من أمره بأن يمنع اتصال الشيعة به .

يُضاف إلى ذلك أنّ المبادرة لتعليم الإمام في سنّ مبكّرة لا يبعد أن يكون للتعتيم على علم الإمام وهو في هذا العمر كما حدث لأبيه الجوادعليه‌السلام حين تحدّى كبار العلماء ولم يعهد منه أنّه كان قد تعلّم عند أحد .

ــــــــــــــ

(١) مآثر الكبراء في تاريخ سامراء : ٣ / ٩١ ـ ٩٥ .

٦٧

فهذا الإسراع يُعدّ محاولة للحيلولة دون بزوغ اسم الإمام الهاديعليه‌السلام وسطوع فضله عند الخاص والعام ؛ لأنّ ما سوف يصدر منه يمكن أن يُنسب إلى معلّمه ومربّيه .

غير أنّ الإمامعليه‌السلام بخُلقه وهدوئه استطاع أنّ يفوّت الفرصة على الخليفة وبلاطه ويُظهر للناس علمه وإمامته التي عيّنها الله له .

الواثق (٢٢٧ ـ ٢٣٢ هـ)

هو هارون بن المعتصم ، أُمّه رومية ، وُلد في شعبان (١٩٦ هـ) واستولى على الخلافة في ربيع الأوّل (٢٢٧ هـ) .

وفي سنة (٢٢٨ هـ) استخلف على السلطة أشناس التركي وألبسه وشاحين مجوهرين وتاجاً مجوهراً .

وكان كثير الأكل جداً حتى قال ابن فهم : إنّه كان يأكل في خوان من ذهب وكان يحمل كل قطعة منه عشرون رجلاً .

وكان الواثق كأسلافه الحاكمين في الإسراف وقضاء الوقت باللهو والمفاسد .

وقيل عنه إنّه كان وافر الأدب مليح الشعر ، وكان أعلم الخلفاء بالغناء ، وله أصوات وألحان عملها نحو مائة صوت وكان حاذقاً بضرب العود ، راوية للأشعار والأخبار .

٦٨

وكان يحب خادماً له أُهدي له من مصر فأغضبه الواثق يوماً ثم إنّه سمعه يقول لبعض الخدم : والله إنّه ليروم أن أكلّمه ـ أي الواثق ـ من أمس فما أفعل ، فقال الواثق في ذلك شعراً :

يا ذا الذي بعد أبي ظل مختفراً

ما أنت إلاّ مليك جاد إذ قدرا

لولا الهوى لتحاربنا على قدر

وان أقف منه يوماً فسوف ترى(١)

وفي سنة (٢٢٩ هـ) حبس الواثق كتّاب دولته وألزمهم أموالاً عظيمة ، فأخذ من أحمد بن إسرائيل ثمانين ألف دينار ، ومن سليمان بن وهب ـ كاتب ايتاخ ـ أربعمائة ألف دينار ، ومن الحسن بن وهب أربعة عشر ألف دينار ، ومن إبراهيم بن رباح وكتّابه مائة ألف دينار ، ومن أحمد بن الخصيب مليوناً من الدنانير ، ومن نجاح ستين ألف دينار ، ومن أبي الوزير مائة وأربعين ألف دينار(٢) .

فكم كان مجموع ثرواتهم بحيث أمكنهم دفع تلك الضرائب ؟ وإذا كانت هذه ثروة الكاتب العادي ، فكم هي ثروة الوزير نفسه ؟ ولعلّ من نافلة القول إنّ هذه الأموال إنّما اجتمعت عند هؤلاء على حساب سائر أبناء الأمة الإسلامية الذين كانوا يعانون من الفقر وحياة التقشّف التي أنتجها الظلم إلى جانب التفاضل الطبقي الفاحش .

الإمام الهاديعليه‌السلام وبغا الكبير

وفي سنة (٢٣٠ هـ) أغار الأعراب من بني سليم على المدينة ونهبوا الأسواق وقتلوا النفوس ، ولم يفلح حاكم المدينة في دفعهم حتى ازداد شرّهم واستفحل ؛ فوجّه إليهم الواثق بغا الكبير ففرّقهم وقتل منهم وأسر آخرين وانهزم الباقون(٣) .

وللإمام حين ورود بغا بجيشه إلى المدينة موقف تجدر الإشارة إليه ، فإنّ أبا هاشم الجعفري يقول : كنت بالمدينة حين مّر بها بغا أيّام الواثق في طلب الأعراب .

ــــــــــــــ

(١) تاريخ الخلفاء : ٣٤٣ ـ ٣٤٥ .

(٢) الكامل في التاريخ : ٥/٢٦٩ .

(٣) الكامل في التاريخ : ٥/٢٧٠ .

٦٩

فقال أبو الحسنعليه‌السلام : اخرجوا بنا حتى ننظر إلى تعبئة هذا التركي .

فخرجنا فوقفنا فمرّت بنا تعبئته فمرّ بنا تركي فكلّمه أبو الحسنعليه‌السلام بالتركية فنزل عن فرسه فقبّل حافر دابته ، قال ( أبو هاشم ) فحلّفت التركي وقلت له : ما قال لك الرجل ؟ فقال : هذا نبيّ ؟ قلت : ليس هذا بنبيّ .

قال : دعاني باسم سُمّيت به في صغري في بلاد الترك ما علمه أحد الساعة(١) .

وهذه الوثيقة التاريخية تتضمّن بيان مجموعة من فضائل الإمام الهاديعليه‌السلام وكمالاته واهتماماته العسكرية والتربوية لأصحابه ، وتشجيعه لبغا الذي واجه هذا الهجوم التخريبي للأعراب على مدينة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وبالإضافة إلى كرامات الإمامعليه‌السلام المتعدّدة لا تستبعد أن يكون الإمامعليه‌السلام قد استفاد من هذه الفرصة لكسب فرد في جيش بغا إذ بإمكانه أن يكون حامل صورة ايجابية ورسالة خاصة عن الإمامعليه‌السلام يمكنه إيصالها في الموقع المناسب إلى قائده بغا .

وسوف نرى مواقف خاصة لبغا تجاه الإمام الهاديعليه‌السلام في المستقبل الذي ينتظره ، فضلاً عن موقف له مع أحد الطالبيين بعد أن حاول قتل عامل المعتصم فتمرّد بغا على أمر المعتصم ولم يُلق هذا الطالبي إلى السباع(٢) .

ومن هنا قال المسعودي عنه : كان بغا كثير التعطّف والبر على الطالبيين .

ــــــــــــــ

(١) أعلام الورى : ٣٤٣ .

(٢) مروج الذهب : ٤/٧٦ .

٧٠

الواثق ومحنة خلق القرآن

وامتحن الواثق الناس في قضية خلق القرآن ، فكتب إلى القضاة أن يفعلوا ذلك في سائر البلدان وأن لا يجيزوا إلاّ شهادة مَن قال بالتوحيد ، فحبس بهذا السبب عالماً كثيراً .

وفي سنة إحدى وثلاثين[ بعد المائتين ] ورد كتاب إلى أمير البصرة يأمره أن يمتحن الأئمة والمؤذّنين بخلق القرآن ، وكان قد تبع أباه في ذلك ثم رجع في آخر أمره .

وفي هذه السنة قتل أحمد بن نصر الخزاعي وكان من أهل الحديث وقد استفتى الواثق جماعة من فقهاء المعتزلة بقتله فأجازوا له ذلك ، وقال : إذا قمت إليه فلا يقومنّ أحد معي فإنّي أحتسب خطاي إلى هذا الكافر الذي يعبد ربّاً لا نعبده ولا نعرفه بالصفة التي وصفه بها ، ثم أمر بالنطع فأجلس عليه وهو مقيّد فمشى إليه فضرب عنقه ، وأمر بحمل رأسه إلى بغداد فصلب بها ، وصلبت جثته في سُرّ مَن رأى ، واستمرّ ذلك ست سنين إلى أن ولي المتوكل فأنزله ودفنه ، ولمّا صُلب كتب ورقة وعُلّقت في أذنه فيها : ( هذا رأس أحمد بن نصر بن مالك دعاه عبد الله الإمام هارون إلى القول بخلق القرآن ونفي التشبيه فأبى إلاّ المعاندة فعجّله الله إلى ناره ) ووكل بالرأس مَن يحفظه .

وفي هذه السنة استفك من الروم ألفاً وستمائة أسير مسلم ، فقال ابن داود ـ قبّحه الله ـ ! مَن قال من الأُسارى ( القرآن مخلوق ) خلّصوه وأعطوه

٧١

دينارين ومَن امتنع دعوه في الأسر(١) .

قال الخطيب : كان أحمد ابن أبي داود قد استولى على الواثق وحمله على التشدّد في المحنة ودعا الناس إلى القول بخلق القرآن .

ومن جملة مَن شملهم ظلم الواثق أبو يعقوب بن يوسف بن يحيى البوطي صاحب الشافعي الذي مات سنة (٢٣١هـ) محبوساً في محنة الناس بالقرآن ، ولم يجب إلى القول بأنّه مخلوق وكان من الصالحين(٢) .

وجيء بأبي عبد الرحمن عبد الدين محمد الآذرمي ( شيخ أبي داود والنسائي ) مقيّداً إلى الواثق وابن أبي داود حاضر ، فقال له : أخبرني عن هذا الرأي الذي دعوتم الناس إليه ، أعلمه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يَدعُ الناس إليه أم شيء لم يعلمه ؟ فقال ابن أبي داود : بل علمه .

فقال : فكان يسعه أن لا يدعو الناس إليه وأنتم لا يسعكم ؟ قال : فبهتوا وضحك الواثق وقام قابضاً على فمه ودخل بيتاً ومدّ رجليه وهو يقول : وسع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسكت عنه ولا يسعنا ! فأمر له أن يعطى ثلاثمائة دينار وأن يرد إلى بلده ولم يمتحن أحداً بعدها ومقت ابن أبي داود من يومئذ .

وعن يحيى بن أكثم : ما أحسن أحد إلى آل أبي طالب ما أحسن إليهم الواثق ، ما مات وفيهم فقير(٣) .

ــــــــــــــ

(١) يراجع تاريخ اليعقوبي : ٢ / ٤٨٢ ـ ٤٨٣ ، وتاريخ الخلفاء : ٤٠١ .

(٢) تاريخ ابن الوردي : ١ / ٣٣٥ .

(٣) تاريخ الخلفاء : ٣٤٢ .

٧٢

موقف الإمام الهاديعليه‌السلام من مسألة خلق القرآن

لقد عمّت الأمة فتنة كبرى زمن المأمون والمعتصم والواثق بامتحان الناس بخلق القرآن وكانت هذه المسألة مسألة يتوقّف عليها مصير الأمة الإسلامية ، وقد بيّن الإمام الهاديعليه‌السلام الرأي السديد في هذه المناورة السياسية التي ابتدعتها السلطة ، فقد روي عن محمد بن عيسى بن عبيد اليقطين أنّه قال : كتب علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا عليه‌السلام إلى بعض شيعته ببغداد :

( بسم الله الرحمن الرحيم ، عصمنا الله وإيّاك من الفتنة فإن يفعل فأعظم بها نعمة وإلاّ يفعل فهي الهلكة نحن نرى أنّ الجدال في القرآن بدعة اشترك فيها السائل والمجيب فتعاطى السائل ما ليس له وتكلّف المجيب ما ليس عليه ، وليس الخالق إلاّ الله وما سواه مخلوق ، والقرآن كلام الله لا تجعل له اسماً من عندك فتكون من الضالّين جعلنا الله وإياك من الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون ) (١) .

إخبار الإمام الهاديعليه‌السلام بموت الواثق

كان الإمام الهاديعليه‌السلام يتابع التطوّرات السياسية ويرصد الأحداث بدقّة .

فعن خيران الخادم قال : قدمت على أبي الحسنعليه‌السلام المدينة فقال لي :ما خبر الواثق عندك ؟ قلت : جُعلت فداك خلفته في عافية ، أنا من أقرب الناس عهداً به ، عهدي به منذ عشرة أيام قال : فقال لي :إنّ أهل المدينة يقولون إنّه مات ، فلمّا أن قال لي : ( الناس ) ، علمت أنّه هو ، ثم قال لي :ما فعل جعفر ؟

ــــــــــــــ

(١) أمالي الشيخ الصدوق : ٤٨٩ .

٧٣

قلت : تركته أسوء الناس حالاً في السجن ، فقال : أما إنّه صاحب الأمر . ما فعل ابن الزيات ؟ قلت : جُعلت فداك الناس معه والأمر أمره فقال : أما إنّه شؤم عليه ثم سكت وقال لي : لا بد أن تجري مقادير الله تعالى وأحكامه يا خيران ، مات الواثق وقد قعد المتوكل جعفر وقد قتل ابن الزيات فقلت : متى جُعلت فداك ؟ قال : بعد خروجك بستة أيّام (١) .

وهذه الرواية دون شكّ تظهر لنا حدّة الصراع والتنافس على السلطة داخل الأسرة العباسية الحاكمة ، كما تظهر لنا مدى متابعة الإمامعليه‌السلام للأوضاع العامة والسياسية أوّلاً بأوّل .

واهتمامه الكبير هذا يوضح مستوى الحالة السياسية التي كانت تعيشها قواعد الإمامعليه‌السلام الشعبية ومواليه ، فكان يوافيهم بمآل الأحداث السياسية ، ليكونوا على حذر أولاً ; ولينمّي قابليّاتهم في المتابعة وتحليل الظواهر ثانياً .

المتوكّل (٢٣٢ ـ ٢٤٧ هـ)

هو جعفر بن المعتصم بن الرشيد ، أُمّه أُمّ ولد اسمها شجاع .

أظهر الميل إلى السنّة ، ورفع المحنة وكتب بذلك إلى الآفاق سنة (٢٣٤ هـ) ، واستقدم المحدّثين إلى سامرّاء وأجزل عطاياهم وأمرهم أن يحدّثوا بأحاديث الصفات والرؤية .

وقالوا عنه : إنّه كان منهمكاً في اللذات والشراب ، وكان له أربعة آلاف سُرِّيّة ( أمَة يتسرّى بها ) .

وقال علي بن الجهم : كان المتوكل مشغوفاً بقبيحة أم المعتزّ ، والتي كانت أُم ولد له ، ومن أجل شغفه بها أراد تقديم ابنها المعتزّ على

ــــــــــــــ

(١) أُصول الكافي : ١ / ٤٩٨ ح ١ ب ١٢٢ .

٧٤

ابنه المنتصر بعد أن كان قد بايع له بولاية العهد ، وسأل المنتصر أن ينزل عن العهد فأبى ، فكان يُحضره مجلس العامّة ويحطّ منزلته ويتهدّده ويشتمه ويتوعّده(١) .

وكان المتوكل مسرفاً جداً في صرف بيت المال على الشعراء الذين يتقرّبون إليه بالمديح ـ في الوقت الذي كان عامة الناس يشتكون الفقر والحاجة ـ حتى قالوا : ما أعطى خليفة شاعراً ما أعطى المتوكّل ، وفيه قال مردان ابن أبي الجنوب :

فامسِك ندى كفّيك عنّي ولا تزد

فقد خفتُ أن أطغى وأن اتجبّرا

فقال المتوكل : لا أمسك حتى يغرقك جودي ، وكان قد أجازه على قصيدة بمائة ألف وعشرين ألفاً(٢) .

ولعلّ مَن وصف المتوكل بالجود سوف يتراجع عن وصفه إذا سمع أن المتوكّل قال للبحتري : قُل فيّ شعراً وفي الفتح بن خاقان ، فإنّي أحب أن يحيا معي ولا أفقده فيذهب عيشي ولا يفقدني ، فقل في هذا المعنى ، فقال البحتري :

يا سيّدي كيف أخلفتَ وعدي

وتثاقلت عن وفاء بعهدي ؟

لا أرتني الأيام فقدك يا فتـ

ـحُ ولا عَرَّقتْك ما عشتَ فقدي

أعظم الرزء أن تقدّمَ قبلي

ومن الرزء أن تؤخّر بعدي

حذراً أن تكون إلفاً لغيري

إذ تفرّدت بالهوى فيك وحدي

وقد قتل المتوكل والفتح بن خاقان في مجلس لهوهما في ساعة واحدة وفي جوف الليل في الخامس من شوّال سنة (٢٤٧ هـ) كما سوف يأتي بيانه .

ــــــــــــــ

(١) تاريخ الخلفاء : ٣٤٩ ـ ٣٥٠ .

(٢) تاريخ الخلفاء : ٣٤٩ ـ ٣٥٠ .

٧٥

الإمام الهاديعليه‌السلام والمتوكّل العبّاسي

وقد عُرف المتوكل ببغضه لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ولآل البيتعليهم‌السلام وشيعتهم ، ففي سنة (٢٣٦ هـ) أمر بهدم قبر الإمام الحسينعليه‌السلام وهدم ما حوله من الدور .

ومنع الناس من زيارته وأمر بمعاقبة مَن يتمرّد على المنع .

قال السيوطي : وكان المتوكّل معروفاً بالتعصّب فتألّم المسلمون من ذلك ، وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان والمساجد وهجاه الشعراء .

فمّما قيل في ذلك :

بالله إن كانت أُمية قد أتت

قتل ابن بنت نبيّها مظلوما

فلقد أتاه بنو أبيه بمثله

هذا لعمري قبره مهدوما

أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا

في قتله فتتبّعوه رميما(١)

ولم يقف المتوكّل عند حدّ في عدائه ونصبه لأهل البيتعليهم‌السلام وإيذاء شيعتهم فقد قتل معلّم أولاده إمام العربية يعقوب ابن السكّيت حين سأله : مَن أحب إليك ؟ هما ـ يعني ولديه المعتز والمؤيد ـ أو الحسن والحسين ؟ فقال ابن السكّيت : قنبر ـ يعني مولى علي ـ خير منهما ، فأمر الأتراك فداسوا بطنه حتى مات ، وقيل أمر بسلّ لسانه فمات ، وذلك في سنة (٢٤٤ هـ)(٢) .

وأهم حدث في زمن المتوكّل فيما يخص حياة أهل البيتعليهم‌السلام بحيث يكشف عمّا وصل إليه الرأي العام الإسلامي من التوجّه إليهم والاهتمام بهم في الوقت الذي كان العباسيون يفقدون فيه موقعهم في النفوس هو حدث إشخاص المتوكّل للإمام علي الهاديعليه‌السلام من مدينة جدّه ووطنه إلى سجون سُرّ مَن رأى بعيداً عن حواضر العلم والدين والأدب .

ــــــــــــــ

(١) تاريخ الخلفاء ، السيوطي : ٣٤٧ .

(٢) تاريخ الخلفاء : ٣٤٨ .

٧٦

ففي سنة (٢٣٤ هـ) أي بعد سنتين(١) من سيطرته على كرسي الخلافة أمر المتوكل يحيى بن هرثمة بالذهاب إلى المدينة والشخوص بالإمام إلى سامراء ، وكانت للإمامعليه‌السلام مكانة رفيعة بين أهل المدينة ، ولمّا همّ يحيى بإشخاصه اضطربت المدينة وضجّ أهلها كما ينقل يحيى نفسه ، حيث قال : دخلت المدينة فضجّ أهلها ضجيجاً عظيماً ، ما سمع الناس بمثله خوفاً على علي ـ أي الإمام الهاديعليه‌السلام ـ وقامت الدنيا على ساق ؛ لأنّه كان محسناً إليهم ملازماً المسجد ، لم يكن عنده ميل إلى الدنيا فجعلت أسكتهم ، وأحلف لهم أنّي لم أومر فيه بمكروه وأنّه لا بأس عليه ثم فتّشت منزله فلم أجد إلاّ مصاحف وأدعية ، وكتب علم ، فعظم في عيني(٢) .

ونستفيد من هذه الرواية أُموراً منها :

١ ـ قوّة تأثير الإمام الهاديعليه‌السلام وانشداد الناس إليه وتعلّقهم به لكثرة إحسانه إليهم ، ولأنّه يجسّد الرسول والرسالة في هديه وسلوكه .

٢ ـ خشية السلطة العباسية من تعاظم أمر الإمامعليه‌السلام ومن سهولة اتصال الجماعة الصالحة به ، وإشخاصه إلى سامراء يعتبر إبعاداً له عنهم ومن ثمّ يمكن وضعه تحت المراقبة الشديدة .

٣ ـ تأثّر قائد الجيش العباسي ـ يحيى بن هرثمة ـ بالإمامعليه‌السلام وتعظيمه له ; لكذب الاتهامات حوله بالنسبة لعدّ العدّة والسلاح للإطاحة

ــــــــــــــ

(١) إنّ تاريخ الرسالة التي استقدم بها المتوكل الإمام الهاديعليه‌السلام على ما في جملة من المصادر هو سنة (٢٤٤ هـ) وليس (٢٣٤ هـ) ، ويشهد لذلك ما صرّح به الشيخ المفيدقدس‌سره من أنّ مدّة إقامة الإمام الهادي بسُرّ مَن رأى عشر سنين وأشهراً ، وحيث استشهد في سنة (٢٥٤ هـ) فيظهر من ذلك أنّ استقدامه كان سنة (٢٤٤ هـ) أي بعد اثنتي عشرة سنة من حكم المتوكّل ، وهو غير بعيد .

(٢) تذكرة الخواص ، سبط ابن الجوزي : ٢٠٣ .

٧٧

بالخليفة العباسي .

٤ ـ عزوف الإمامعليه‌السلام عن الدنيا وملازمة المسجد متخذاً من سيرة آبائه نبراساً له ، ومن المسجد طريقاً لبثّ علوم أهل البيتعليهم‌السلام وتصحيح معتقدات الأمة .

٥ ـ عزل الإمامعليه‌السلام عن شيعته ومحبّيه ، فسامراء مدينة أسّسها المعتصم العباسي وكانت تسكنها غالبية تركية ( قوّاد وجنود ) ولم يكونوا يعبؤون بالدين والقيم قدر اهتمامهم بالسيطرة والسلطة .

الوشاية بالإمامعليه‌السلام

يبدو من بعض المصادر أنّ أحد أسباب إشخاص المتوكّل العباسي للإمام الهاديعليه‌السلام إلى سامراء هو وشاية إمام الحرمين الذي كان معروفاً بالنصب لأهل البيتعليهم‌السلام وقد كانت هذه الوشايات متتابعة ومتكرّرة ؛ وهذا دليل على عدم الارتياح لتواجد الإمام الهاديعليه‌السلام بالمدينة ، وتأثيره الكبير على الحرمين معاً وهما مركز الثقل العلمي والديني في الحاضرة الإسلامية .

ويشهد لذلك ما قالوا : من أنّه كتب بريحة العباسي(١) صاحب الصلاة بالحرمين إلى المتوكل : ( إن كان لك في الحرمين حاجة فأخرج علي بن محمد منهما فإنّه قد دعا إلى نفسه واتبعه خلق كثير ).

وتابع بريحة الكتب في هذا المعنى فوجّه المتوكل بيحيى بن هرثمة في سنة (٢٣٤ هـ) وكتب معه إلى أبي الحسنعليه‌السلام كتاباً جميلاً يعرّفه أنّه قد اشتاقه ويسأله القدوم عليه وأمر يحيى بالمسير معه كما يحب ، وكتب إلى بريحة يعرّفه ذلك .

ــــــــــــــ

(١) وقيل اسمه ( تريخه ) ، وعن الطريحي في مجمع البحرين : ( بريمة ) ، بينما ذكر آخرون أنّ اسمه عبد الله بن محمد وكان يتولّى الحرب والصلاة بمدينة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، اُنظر الإرشاد : ٢/٣٠٩ .

٧٨

وإليك نصّ رسالة المتوكل إلى الإمام الهاديعليه‌السلام ، حسبما رواه الشيخ محمد بن يعقوب الكليني : عن محمد بن يحيى ، عن بعض أصحابنا قال : أخذت نسخة كتاب المتوكل إلى أبي الحسن الثالثعليه‌السلام من يحيى بن هرثمة في سنة ثلاث وأربعين ومائتين وهذه نسخته : ( بسم الله الرحمن الرحيم ، أمّا بعد فإنّ أمير المؤمنين عارف بقدرك ، راع لقرابتك ، موجباً لحقّك يقدّر الأمور فيك وفي أهل بيتك ، ما أصلح الله به حالك وحالهم وثبت به عزّك وعزّهم ، وأدخل اليُمن والأمن عليك وعليهم يبتغي بذلك رضى ربّه وأداء ما افترض عليه فيك وفيهم ، وقد رأى أمير المؤمنين صرف عبد الله بن محمد عمّا كان يتولاّه من الحرب والصلاة بمدينة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ إذ كان على ما ذكرت من جهالته بحقّك واستخفافه بقدرك ، وعندما قرفك(١) به ، ونسبك إليه من الأمر الذي قد علم أمير المؤمنين براءتك منه وصدق نيّتك في ترك محاولته ، وأنّك لم تؤهّل نفسك له ، وقد ولّى أمير المؤمنين ما كان يلي من ذلك محمد بن الفضل ، وأمره بإكرامك وتبجيلك ، والانتهاء إلى أمرك ورأيك والتقرّب إلى الله والى أمير المؤمنين بذلك ، وأمير المؤمنين مشتاق إليك يحب إحداث العهد بك والنظر إليك فإن نشطت لزيارته والمقام قبله ما رأيت ، شخصت ومَن أحببت من أهل بيتك ومواليك وحشمك على مهلة وطمأنينة ترحل إذا شئت وتنزل إذا

ــــــــــــــ

(١) قرف : عابه أو اتّهمه .

٧٩

شئت ، وتسير كيف شئت ، وإن أحببت أن يكون يحيى بن هرثمة مولى أمير المؤمنين ومَن معه من الجند مشيّعين لك ، يرحلون برحيلك ، ويسيرون بسيرك ، والأمر في ذلك إليك حتى توافي أمير المؤمنين فما أحد من إخوته وولده وأهل بيته وخاصّته ألطف منه منزلة ولا أحد له أثرة ولا هو لهم أنظر وعليهم أشفق ، وبهم أبرُّ وإليهم أسكن منه إليك إن شاء الله تعالى والسلام عليك ورحمة الله وبركاته )(١) .

إنّ المتوكل قد كان يهدف في رسالته أُموراً إعلامية ودعائية أولاً تأثيراً في أهل المدينة ، محاولة منه لتغيير انطباعهم من جهة فالغالبية من أهل المدينة تعرف المتوكل وعداءه لأهل البيتعليهم‌السلام وشيعتهم.

وحاول ثانياً أن يُبدي للإمام الهاديعليه‌السلام أنّه يحترم رأيه ويقدّره ويعزّه ؛ لذا فقد أبدل والي المدينة بغيره ومن ثمّ جعل له الحرية في الشخوص إلى الخليفة كيف يشاء الإمامعليه‌السلام .

وتلك أساليب إن كانت تغري العامة فالإمامعليه‌السلام كان يدرك ما يرومه المتوكل ويهدف إليه في استدعائه .

وعلى أيّة حال فقد قدم يحيى بن هرثمة المدينة فأوصل الكتاب إلى بريحة ، وركبا جميعاً إلى أبي الحسنعليه‌السلام فأوصلا إليه كتاب المتوكل فاستأجلهما ثلاثاً ، فلمّا كان بعد ثلاث عاد إلى داره فوجد الدواب مسرجة والأثقال مشدودة قد فرغ منها .

ولا نغفل عن تفتيش يحيى لدار الإمامعليه‌السلام ممّا يعني أنّه كان مأموراً بذلك في الوقت الذي كان الكتاب ينفي عن الإمام أي اتّهام ضدّه .

ومن هنا نعلم أنّ استقدام الإمامعليه‌السلام كان أمراً إلزامياً له وإن كان بصيغة

ــــــــــــــ

(١) الكافي : ١ / ٥٠١ .

٨٠

الاستدعاء ، وإلاّ فلِم هذا التفتيش الذي يكشف عن وجود سوء ظن بالإمامعليه‌السلام بعد تلك الوشايات ؟! وخرجعليه‌السلام بولده الإمام الحسن العسكريعليه‌السلام وهو صبي مع يحيى بن هرثمة متوجّهاً نحو العراق واتبعه بريحة مشيّعاً فلمّا صار في بعض الطريق قال له بريحة : قد علمت وقوفك على أنّي كنت السبب في حملك وعليّ حلف بأيمان مغلّظة : لئن شكوتني إلى أمير المؤمنين أو أحد من خاصته وأبنائه لأجمّرنّ نخلك ولأقتلنّ مواليك ولأعورنّ عيون ضيعتك ولأفعلنّ ولأصنعنّ ، فالتفت إليه أبو الحسن فقال له : إنّ أقرب عرضي إيّاك على الله البارحة وما كنت لأعرضنك عليه ثم لأشكوك إلى غيره من خلقه .

قال : فانكبّ عليه بريحة وضرع إليه واستعفاه فقال له : قد عفوت عنك(١) .

وأهم الإشارات ذات الدلالة في هذه الرواية : أنّ المتوكل أمر يحيى بن هرثمة برعاية الإمامعليه‌السلام وعدم التشديد عليه ، وقد بلغ ذلك بريحة وخشي أن يشتكيه الإمام للمتوكل ، فتوعّد الإمام فعمد الإمامعليه‌السلام إلى تركيز مفهوم إسلامي وهو مسألة الارتباط بالله سبحانه ، فإنّه هو الذي ينفع ويضر ويدفع عن عباده ؛ لذا أجاب الإمامعليه‌السلام بريحة بأنّه قد شكاه إلى الله تعالى قبل يوم من سفره وأنّ الإمامعليه‌السلام ليس في نيّته أن يشتكي بريحة عند الخليفة ممّا اضطرّ بريحة أن يعتذر من الإمامعليه‌السلام ويطلب العفو منه ، فهو يعرف منزلة الإمام وآبائهعليهم‌السلام وصلتهم الوثيقة بالله سبحانه ، فأخبره الإمامعليه‌السلام بأنّه قد عفى عنه ، وكان الإمام يدرك أبعاد سلوك الخليفة إزاءه وما يرمي إليه من تفتيش داره وإشخاصه من المدينة إلى سامراء ، وإبعاده عن أهله ومواليه ومن ثمّ

ــــــــــــــ

(١) إثبات الوصية : ١٩٦ ـ ١٩٧ .

٨١

وضعه تحت الرقابة المشدّدة ومعرفة الداخلين على الإمام المرتبطين به ؛ وبالتالي ضبط كل حركات الإمامعليه‌السلام وتحرّكات قواعده ، فوجودهعليه‌السلام في المدينة يعني بالنسبة للخليفة تمتّع الإمامعليه‌السلام بحرية في التحرّك ، فضلاً عن سهولة وتيسّر سبل الاتصال به من قِبل القواعد الموالية للإمامعليه‌السلام .

وقد كان الإمامعليه‌السلام في كل تحرّكاته وحتى في كتبه ووصاياه إلى شيعته يتصف باليقظة والحذر ، ومن هنا كانت الوشايات به تبوء بالفشل ، وحينما كانت تكبس داره ـ كما حصل ذلك مراراً ـ لا يجد جلاوزة السلطان فيها غير كتب الأدعية والزيارات والقرآن الكريم ، حتى حينما تسوّروا عليه الدار لم يجدوه إلاّ مصلّياً أو قارئاً للقرآن .

وقال ابن الجوزي : إنّ السبب في إشخاص الإمامعليه‌السلام من المدينة إلى سامراء ـ كما يقول علماء السّير ـ هو أنّ المتوكل كان يبغض عليّاً أمير المؤمنينعليه‌السلام وذريّته وخشي تأثيره في أهل المدينة وميلهم إليه(١) .

وهذا التعليل ينسجم مع كل تحفّظات الإمامعليه‌السلام تجاه السلطان .

الإمام في طريقه إلى سامراء

وحاول ابن هرثمة في الطريق إحسان عِشرة الإمامعليه‌السلام وكان يرى من الإمامعليه‌السلام الكرامات التي ترشده إلى عظمة الإمام ومكانته وحقيقة أمره ، وتوضح له الجريمة التي يرتكبها في إزعاج الإمامعليه‌السلام والتجسّس عليه .

عن يحيى بن هرثمة قال : رأيت من دلائل أبي الحسن الأعاجيب في طريقنا ، منها : أنّا نزلنا منزلاً لا ماء فيه ، فأشفينا دوابنا وجمالنا من العطش على

ــــــــــــــ

(١) تذكرة الخواص : ٣٢٢ .

٨٢

التلف ، وكان معنا جماعة وقوم قد تبعونا من أهل المدينة ، فقال أبو الحسن : كأنّي أعرف على أميال موضع ماء .

فقلنا له : إن نشطت وتفضّلت عدلت بنا إليه وكنّا معك فعدل بنا عن الطريق .

فسرنا نحو ستة أميال فأشرفنا على واد كأنّه زهو الرياض فيه عيون وأشجار وزروع وليس فيها زرّاع ولا فلاّح ولا أحد من الناس ، فنزلنا وشربنا وسقينا دوابّنا وأقمنا إلى بعد العصر ، ثم تزوّدنا وارتوينا وما معنا من القرب ورحنا راحلين فلم نبعد أن عطشت .

وكان لي مع بعض غلماني كوز فضّة يشده في منطقته وقد استسقيته فلجلج لسانه بالكلام ونظرت فإذا هو قد أنسى الكوز في المنزل الذي كنّا فيه فرجعت أضرب بالسوط على فرس لي ، جواد سريع واغد السير حتى أشرفت على الوادي ، فرأيته جدباً يابساً قاعاً محلاً لا ماء ولا زرع ولا خضرة ورأيت موضع رحالنا وروث دوابنا وبعر الجمال ومناخاتهم والكوز موضوع في موضعه الذي تركه الغلام فأخذته وانصرفت ولم أعرفه شيئاً من الخبر .

فلمّا قربت من القطر والعسكر وجدتهعليه‌السلام ينتظرني فتبسّم ولم يقل لي شيئاً ولا قلت له سوى ما سأل من وجود الكوز ، فأعلمته أنّي وجدته .

قال يحيى : وخرج في يوم صائف آخر ونحن في ضحو وشمس حامية تحرق فركب من مضربه وعليه ممطر وذنب دابته معقود وتحته لبد طويل .

فجعل كل مَن في العسكر وأهل القافلة يضحكون ويقولون هذا الحجازي ليس يعرف الري ، فسرنا أميالاً حتى ارتفعت سحابة من ناحية القبلة وأظلمت وأضلتنا بسرعة وأتى من المطر الهاطل كأفواه القرب فكدنا نتلف وغرقنا حتى جرى الماء من ثيابنا إلى أبداننا وامتلأت خفافنا وكان أسرع وأعجل من أن يمكن أن نحط ونخرج اللبابيد ، فصرنا شهرة ومازالعليه‌السلام يتبسّم تبسّماً ظاهراً تعجّباً من أمرنا .

قال يحيى : وصارت إليه في بعض المنازل امرأة معها ابن لها أرمد العين ولم تزل تستذل وتقول معكم رجل علوي دلّوني عليه حتى يرقى عين ابني هذا .

٨٣

فدللناها عليه ، ففتح عين الصبي حتى رأيتها ولم أشكّ أنّها ذاهبة فوضع يده عليها لحظة يحرّك شفتيه ثم نحّاها فإذا عين الغلام مفتوحة صحيحة ما بها علّة(١) .

ومرّ الركب ببغداد ـ في طريقه إلى سامراء ـ فقابل ابن هرثمة واليها إسحاق بن إبراهيم الطاهري فأوصاه بالإمامعليه‌السلام خيراً واستوثق من حياته بقوله : يا يحيى إنّ هذا الرجل قد ولده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمتوكل مَن تعلم ، وإن حرّضته على قتله كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خصمك فأجابه يحيى : والله ما وقفت له إلاّ على كل أمر جميل(٢) .

وحين وصل الركب إلى سامراء بدأ ابن هرثمة بمقابلة وصيف التركي ـ وهو ممّن كان يشارك في تنصيب الخليفة وعزله ومناقشته في أعماله ـ وممّا قاله وصيف ليحيى : والله لئن سقطت من رأس هذا الرجل ـ ويقصد به الإمام الهاديعليه‌السلام ـ شعرة لا يكون المطالب بها غيري .

قال ابن هرثمة : فعجبت من قولهما وعرّفت المتوكّل ما وقفت عليه من حسن سيرته وسلامة طريقه وورعه وزهادته وأنّي فتّشت داره فلم أجد فيها غير المصاحف وكتب العلم ، وإنّ أهل المدينة خافوا عليه ، فأحسن جائزته وأجزل برّه(٣) .

ــــــــــــــ

(١) إثبات الوصية : ٢٢٥ .

(٢) مروج الذهب : ٤/٨٥ .

(٣) مروج الذهب : ٤/٨٥ ، وتذكرة الخواص : ٣٥٩ .

٨٤

غير أنّ هذا الإكرام الذي ادّعاه ابن هرثمة يتنافى مع ما أمر به المتوكل من حجب الإمامعليه‌السلام عنه في يوم وروده إلى سامراء ، ويزيد الأمر إبهاماً وتساؤلاً هو أمره بإنزال الإمامعليه‌السلام في مكان متواضع جدّاً يُدعى بخان الصعاليك(١) .

قال صالح بن سعيد : دخلت على أبي الحسنعليه‌السلام فقلت له : جعلت فداك في كل الأمور أرادوا إطفاء نورك والتقصير بك حتى أنزلوك هذا الخان الأشنع ، خان الصعاليك(٢) .

وليس ببعيد أن تكون الصورة التي نقلها يحيى للمتوكل عن الإمامعليه‌السلام ومدى نفوذ شخصيّته حتى عند الولاة والقوّاد مدعاةً للضغط على الإمام عليه‌السلام ، والسعي للتضييق الحقيقي عليه من خلال الحيلولة بينه وبين ارتباطه بقواعده وإن كان ذلك بالتظاهر بالإكرام كما نراه في النص الذي نُقل عن يحيى ، ولا يغيب عن مثل يحيى مدى كره المتوكل لآل أبي طالب بشكل عام وللإمام الهادي عليه‌السلام بشكل خاص .

الإمامعليه‌السلام في سامراء

إنّ حجب المتوكل للإمام الهاديعليه‌السلام لدى وروده والأمر بإنزاله في خان الصعاليك لو لاحظناه مع ما جاء في رسالة المتوكل للإمام الهاديعليه‌السلام يحمل بين طيّاته صورة واضحة من نظرة المتوكل إلى الإمامعليه‌السلام ، فهو لا يأبى من تحقير الإمام وإذلاله كلّما سنحت له الفرصة ولكنّه كان يحاول التعتيم على ما يدور في قرارة نفسه ؛ ولهذا أمر بعد ذلك بإفراد دار له فانتقل إليها .

ــــــــــــــ

(١) الإرشاد : ٣١٣ ـ ٣١٤ .

(٢) الكافي : ١/٤٩٨ .

٨٥

مع العلم بأنّ المتوكل هو الذي كان قد استدعى الإمامعليه‌السلام وكان يعلم بقدومه عليه ، ولابد أن يكون قد استعد لذلك .

وعلى أيّة حال فالذي يبدو من سير الأحداث أنّ المتوكل حاول بكل جهده ليكسب ودّ الإمام ويورّطه فيما يشتهي من القبائح التي كان يرتكبها المتوكل .

وحاول المتوكل غير مرّة إفحام الإمامعليه‌السلام بالرغم من أنّه كان يضطر إلى الالتجاء إليه حين كان يعجز علماء البلاط أو وعّاظ السلاطين عن تقديم الأجوبة الشافية في الموارد الحرجة .

وإليك جملة من هذه الموارد :

١ ـ إنّ نصرانياً كان قد فجر بامرأة مسلمة فأراد المتوكل أن يقيم عليه الحد فأسلم فقال ابن الأكثم : قد هدم إيمانه شركه وفعله وقال بعضهم يضرب ثلاثة حدود وقال آخرون غير ذلك ، فأمر المتوكل بأن يكتب إلى الإمام الهاديعليه‌السلام وسؤاله عن ذلك فلمّا قرأ الكتاب ، كتب :يضرب حتى يموت فأنكر ابن الأكثم وسائر فقهاء العسكر وطالبوا الإمام بالحجّة من الكتاب والسنّة فكتبعليه‌السلام :بسم الله الرحمن الرحيم : ( فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ) .

فأمر المتوكل فضرب حتى مات(١) .

٢ ـ وحين نذر المتوكل أن يتصدّق بمال كثير واختلف الفقهاء في تحديد المال الكثير ، أشار عليه أحد ندمائه بالسؤال من الإمامعليه‌السلام قائلاً : ألا تبعث إلى هذا الأسود فتسأله عنه ؟ فقال له المتوكل : مَن تعني ؟ ويحك ! فقال له : ابن الرضا .

ــــــــــــــ

(١) الكافي : ٧/٢٣٨ .

٨٦

فقال له : وهو يحسن من هذا شيئاً ؟ فقال : إن أخرجك من هذا فلي عليك كذا وكذا وإلاّ فاضربني مائة قرعة فبعث مَن يسأل له ذلك من الإمام فأجاب الإمام بأنّ الكثير ثمانون .

فلما سُئل عن دليل ذلك أجاب قائلاً :( ولقد نصركم الله في مواطن كثيرة ) فعددناها فكانت ثمانين(١) .

إنّ هذا التنكّر من المتوكّل للإمامعليه‌السلام أو هذا التعجّب من أنّه قادر على الإجابة وقد عرفنا موارد منها ليشير إلى مدى حقد المتوكل وتعمّده في تسقيط الإمامعليه‌السلام أمام الآخرين ولكنّه لم يفلح حتى أنّه كان يبادر للتعتيم الإعلامي على فضائل الإمامعليه‌السلام ومناقبه ، كما نرى ذلك بعد ردّه على أسئلة ابن الأكثم حيث قال ابن الأكثم للمتوكل : ما نحب أن تسأل هذا الرجل عن شيء بعد مسائلي هذه وإنّه لا يرد عليه شيء بعدها إلاّ دونها وفي ظهور علمه تقوية للرافضة(٢) .

٣ ـ ومن جملة القضايا التي حاول إحراج الإمام فيها قضية زينب الكذّابة حيث أمر الإمامعليه‌السلام بالنزول إلى بركة السباع .

قال أبو هاشم الجعفري : ظهرت في أيام المتوكل امرأة تدّعي أنّها زينب بنت فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال المتوكّل : أنت امرأة شابة وقد مضى من وقت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما مضى من السنين ، فقالت : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسح عليّ وسأل الله أن يردّ عليّ شبابي في كل أربعين سنة ، ولم أظهر للناس إلى هذه الغاية فلحقتني الحاجة فصرت إليهم .

فدعا المتوكل مشايخ آل أبي طالب وولد العباس وقريش وعرّفهم حالها فروى جماعة وفاة زينب في سنة كذا ، فقال لها : ما تقولين في

ــــــــــــــ

(١) الكافي : ٧/٤٦٣ .

(٢) المناقب : ٢/٤٤٣ .

٨٧

هذه الرواية ؟ فقالت : كذب وزور ، فإنّ أمري كان مستوراً عن الناس ، فلم يعرف لي حياة ولا موت ، فقال لهم المتوكل : هل عندكم حجّة على هذه المرأة غير هذه الرواية ؟ فقالوا : لا ، فقال : هو بريء من العبّاس إن لا أنزلها عمّا ادّعت إلاّ بحجّة .

قالوا : فأحضر ابن الرضاعليه‌السلام فلعلّ عنده شيئاً من الحجّة غير ما عندنا فبعث إليه فحضر فأخبره بخبر المرأة فقال : كذبت فإنّ زينب توفّيت في سنة كذا في شهر كذا في يوم كذا ، قال : فإنّ هؤلاء قد رووا مثل هذه وقد حلفت أن لا أنزلها إلاّ بحجّة تلزمها .

قال :ولا عليك فهاهنا حجّة تلزمها وتلزم غيرها ، قال : وما هي ؟ قال :لحوم بني فاطمة محرّمة على السباع فأنزلها إلى السباع فإن كانت من ولد فاطمة فلا تضرّها ، فقال لها : ما تقولين ؟ قالت : إنّه يريد قتلي ، قال : فهاهنا جماعة ولد الحسن والحسينعليهما‌السلام فأنزل من شئت منهم ، قال : فو الله لقد تغيّرت وجوه الجميع ، فقال بعض المبغضين : هو يحيل على غيره لم لا يكون هو ؟ فمال المتوكل إلى ذلك رجاء أن يذهب من غير أن يكون له في أمره صنع فقال : يا أبا الحسن لم لا تكون أنت ذلك ؟ قال : ذاك إليك قال : فافعل ، قال : أفعل .

فأُتي بسلّم وفتح عن السباع وكانت ستة من الأسد ، فنزل أبو الحسن إليها فلمّا دخل وجلس صارت الأسود إليه فرمت بأنفسها بين يديه ، ومدّت بأيديها ، ووضعت رؤوسها بين يديه فجعل يمسح على رأس كل واحد منها ، ثم يشير إليه بيده إلى الاعتزال فتعتزل ناحية حتى اعتزلت كلّها وأقامت بإزائه .

فقال له الوزير : ما هذا صواباً فبادر بإخراجه من هناك ، قبل أن ينتشر خبره فقال له : يا أبا الحسن ما أردنا بك سوءاً وإنّما أردنا أن نكون على يقين ممّا قلت فأُحب أن تصعد ، فقام وصار إلى السلّم وهي حوله تتمسّح بثيابه .

٨٨

فلمّا وضع رجله على أوّل درجة التفت إليها وأشار بيده أن ترجع ، فرجعت وصعد فقال :كلّ مَن زعم أنّه من ولد فاطمة فليجلس في ذلك المجلس ، فقال لها المتوكّل : انزلي ، قالت : الله الله ادّعيتُ الباطل ، وأنا بنت فلان حملني الضرّ على ما قلت ، قال المتوكلّ : ألقوها إلى السباع ، فاستوهبتها والدته(١) .

إنّ هذه المواقف من الإمامعليه‌السلام لم تكن لتثني المتوكل عمّا كان يراوده من الضغط على الإمام عليه‌السلام ومحاولة تسقيطه وعزله عن عامة الناس وخواص أتباعه وكان رصده للإمام عليه‌السلام لا يشفي غليله فكان يفتّش دار الإمام عليه‌السلام بشكل مستمر وكان ذلك واحداً من أساليبه لإهانة الإمام عليه‌السلام أو طريقاً للعثور على مستمسك يسوّغ له الفتك بالإمام عليه‌السلام .

تفتيش دار الإمامعليه‌السلام

لم تحقّق وسائل السلطة ـ في التضييق على الإمام ومراقبته ـ أهدافها في ضبط بعض القضايا التي تؤكّد صحّة الوشايات بالإمام ، فكثيراً ما سعى بعض المتزلّفين للخليفة بالإمامعليه‌السلام وأوغروا صدره ضد الإمامعليه‌السلام واخبروا الخليفة كذباً وزوراً بأنّ لديه السلاح وتُجبى إليه الأموال من الأقاليم ، إلى غيرها من الأكاذيب التي كانت تدفع بالخليفة إلى إرسال جنده وبعض قوّاده إلى دار الإمامعليه‌السلام وتفتيشها ، ثم استدعاء الإمامعليه‌السلام إلى بلاط المتوكل الذي كان ثملاً على مائدة شرابه ، حتى أنّ المتوكل الثمل بعد أن أعظم الإمام وأجلسه إلى جانبه ناوله الكأس .

ــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٥٠/١٤٩ .

٨٩

فقال له الإمامعليه‌السلام :يا أمير المؤمنين ما خامر لحمي ودمي قط فأعفني فأعفاه .

ثم قال له المتوكل : أنشدني شعراً .

فأجابه الإمامعليه‌السلام :إنّي لقليل الرواية للشعر .

فقال له المتوكل : لا بد من ذلك .

فانشده الإمامعليه‌السلام الأبيات التالية :

باتوا على قلل الأجبال تحرسهم

غلب الرجال فما أغنتهم القُلَلُ

واستنزلوا من بعد عِزٍّ من معاقلهم

فأودعوا حفراً يا بئس ما نزلوا

ناداهم صارخٌ من بعد ما قُبروا

أين الأسرّة والتيجان والحللُ

أين الوجوه التي كانت منعّمةً

من دونها تضرب الأستار والكللُ

فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم

تلك الوجوه عليها الدود يقتتلُ

قد طال ما أكلوا دهراً وما شربوا

فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكلوا

فبكى المتوكل ، ثم أمر برفع الشراب وقال : يا أبا الحسن أعليك دين ؟ قال :نعم أربعة آلاف دينار ، فدفعها إليه ورده إلى منزله مكرّماً .

ومرّة أخرى حين مرض المتوكل من خُرّاج خرج به وأشرف منه على الهلاك ، فلم يجسر أحدٌ أن يمسّه بحديدة ، فنذرت أُمّه إن عوفي أن تحمل إلى أبي الحسن عليّ بن محمد مالاً جليلاً من مالها وقال له الفتح بن خاقان : لو بعثت إلى هذا الرجل فسألته فإنّه لا يخلو أن يكون عنده صفة يفرّج بها عنك. فبعث إليه ووصف له علّته ، فرّد إليه الرّسول بأن يؤخذ كسب الشاة فيداف بماء ورد فيوضع عليه فلمّا رجع الرّسول فأخبرهم أقبلوا يهزؤون من قوله ، فقال له الفتح : هو والله أعلم بما قال ، وأُحضر الكسبُ وعمل كما قال ووضع عليه فغلبه النوم وسكن ، ثم انفتح وخرج منه ما كان فيه وبُشّرت أُمه بعافيته ، فحملت إليه عشرة آلاف دينار تحت خاتمها .

ثم استقلّ من علّته فسعى إليه البطحائي العلوي بأنّ أموالاً تحمل إليه وسلاحاً ، فقال لسعيد الحاجب : اهجم عليه باللّيل وخذ ما تجد عنده من الأموال والسلاح واحمله إليّ ، قال إبراهيم بن محمّد : فقال لي سعيد الحاجب : صرت إلى داره بالليل ومعي سلّم فصعدت السطح ، فلمّا نزلت على بعض الدرج في الظلمة لم أدر كيف أصل إلى الدار .

٩٠

فناداني : يا سعيد مكانك حتى يأتوك بشمعة ، فلم ألبث أن أتوني بشمعة فنزلت فوجدته عليه جبّة صوف وقلنسوة منها وسجّادة على حصير بين يديه ، فلم أشكّ أنّه كان يصلّي ، فقال لي : دونك البيوت ، فدخلتها وفتّشتها فلم أجد فيها شيئاً ووجدت البدرة في بيته مختومة بخاتم اُمّ المتوكل وكيساً مختوماً وقال لي : دونك المصلّى ، فرفعته فوجدت سيفاً في جفن غير ملبّس ، فأخذت ذلك وصرت إليه .

فلمّا نظر إلى خاتم أُمّه على البدرة بعث إليها فخرجت إليه ، فأخبرني بعض خدم الخاصّة أنّها قالت له : كنت قد نذرت في علّتك لمّا آيست منك إن عوفيت حملت إليه من مالي عشرة آلاف دينار فحملتها إليه وهذا خاتمي على الكيس وفتح الكيس الآخر فإذا فيه أربعمائة دينار .

فضمّ إلى البدرة بدرة أخرى وأمرني بحمل ذلك إليه فحملته ورددت السيف والكيسين وقلت له : يا سيّدي عزّ عليّ ، فقال لي :( وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون ) .

غير أنّ الإمامعليه‌السلام لم يأبه لكل أدوات المراقبة والتضييق عليه ، بل كانت أساليبه أدقّ وكان نفوذه في جهاز السلطة يمكّنه من التحرّك بالشكل الذي يراه مناسباً مع تلك الظروف .

وممّا يعزّز ذلك ما رواه الشيخ الطوسيرضي‌الله‌عنه بإسناده عن محمد بن الفحام : أنّ الفتح بن خاقان قال : قد ذكر الرجل ـ يعني المتوكل ـ خبر مال يجيء من قم ، وقد أمرني أن أرصده لأخبره ، فقلت له ، فقل لي : من أيّ طريق يجيء حتى أجيئه ؟ فجئت إلى الإمام علي بن محمدعليهما‌السلام فصادفت عنده مَن احتشمه فتبسّم وقال لي : لا يكون إلاّ خيراً يا أبا موسى ، لِم لم تعد الرسالة الأولى ؟ فقلت : أجللتك يا سيدي فقال لي : المال يجيء الليلة وليس يصلون إليه فبت عندي .

٩١

فلمّا كان من الليل وقام إلى ورده قطع الركوع بالسلام وقال لي : قد جاء الرجل ومعه المال ، وقد منعه الخادم الوصول إليّ فاخرج وخذ ما معه .

فخرجت فإذا معه زنفِيلجه(١) فيها المال : فأخذته ودخلت به إليه ، فقال : قل له هات المحنقة التي قالت له القمية إنّها ذخيرة جدتها ، فخرجت له فأعطانيها ، فدخلت بها إليه ، فقال لي : قل له الجبة التي أبدلتها منها ردّها إليها فخرجت إليه فقلت له ذلك ، فقال : نعم كانت ابنتي استحسنتها فأبدلتها بهذه الجبة وأنا أمضي فأجيء بها .

فقال : اخرج فقل له : إنّ الله يحفظ ما لنا وعلينا هاتها من كتفك ، فخرجت إلى الرجل فأخرجها من كتفه فغشي عليه ، فخرج إليهعليه‌السلام ، فقال له : قد كنت شاكاً فتيقّنت(٢) .

وفي الرواية دلالات كثيرة لكنّ أهمّ ما يلفت النظر فيها هو : أولاً : إنّ الإمام كان يعرف شكّ السلطة وهو آخذ حذره ومستيقظ ومتأهّب للأمر ; لذا أجاب مَن سأله عن المال بأنّه سيصل ولا سبيل للمتوكل وجلاوزته عليه ، وفعلاً وصل المال سالماً .

ــــــــــــــ

(١) معرّب : زنبيلچه : زنبيل صغير .

(٢) أمالي الشيخ الطوسي : ٢٧٦ ح ٥٢٨ ، والمناقب : ٤ / ٤٤٤ .

٩٢

ثانياً : إنّ حامل المال إلى الإمامعليه‌السلام كان يُريد أن يختبر الإمامعليه‌السلام أو يبحث عن وسيلة لليقين بإمامتهعليه‌السلام ؛ لذا نجد الإمام يرشد مستلم المال إلى أمور لا يعرفها إلاّ حامله كالجبّة التي كان قد أخفاها تحت كتفه وزادعليه‌السلام الأمر وضوحاً بقوله : أتيقّنت ؟ مشيراً إلى ما كان يكنّه هذا الرجل في نفسه ، وما يروم أن يصل إليه وهو معرفة الإمام بهذه الأمور ، وقد أيقن واطمأن حينما أخبره رسول الإمامعليه‌السلام بما كان يضمره .

ثالثاً : إنّ أنصار الإمامعليه‌السلام وأتباعه كان لهم حضور فاعل في البلاط وهم عيون الإمام بدل أن يكونوا عملاء السلطة .

وفيما يلي من خبر اعتقال الإمامعليه‌السلام أيضاً شواهد أخرى على هذه الحقيقة .

اعتقال الإمام الهاديعليه‌السلام

إنّ المتوكّل بعد رصده الدائم للإمام وتفتيشه المستمر والمتكرّر لدار الإمامعليه‌السلام أمر باعتقال الإمامعليه‌السلام وزجّه في السجن ، فبقي فيه أياماً وجاء لزيارته صقر بن أبي دلف فاستقبله الحاجب وكانت له معرفة به ، كما كان عالماً بتشيّعه ، وبادر الحاجب قائلاً : ما شأنك ؟ وفيم جئت ؟ قال صقر : بخير.

قال الحاجب : لعلّك جئت تسأل عن خبر مولاك ؟ قال صقر : مولاي أمير المؤمنين ( يعني المتوكل ) .

فتبسم الحاجب وقال : اسكت مولاك هو الحق ( يعني الإمام الهاديعليه‌السلام ) فلا تحتشمني فإنّي على مذهبك .

قال صقر : الحمد لله .

فقال الحاجب : تحب أن تراه ؟ قال صقر : نعم .

فقال الحاجب : اجلس حتى يخرج صاحب البريد .

ولمّا خرج صاحب البريد ، التفت الحاجب إلى غلامه فقال له : خذ بيد الصقر حتى تدخله الحجرة التي فيها العلوي المحبوس ، وخلِّ بينه وبينه .

٩٣

فأخذه الغلام حتى أدخله الحجرة وأومأ إلى بيت فيه الإمام ، فدخل عليه الصقر ، وكان الإمام جالساً على حصير وبإزائه قبر محفور قد أمر به المتوكل لإرهاب الإمام ، والتفتعليه‌السلام قائلاً بحنان ولطف :يا صقر ما أتى بك ؟ قال صقر : جئت لأتعرّف على خبرك .

وأجهش الصقر بالبكاء رحمة بالإمام وخوفاً عليه : فقالعليه‌السلام : ( يا صقر لا عليك ، لن يصلوا إلينا بسوء فهدّأ روعه وحمد الله على ذلك ، ثم سأل الإمام عن بعض المسائل الشرعية فأجاب عنها ، وانصرف مودّعاً للإمام (١) ، ولم يلبث الإمام في السجن إلاّ قليلاً ثمّ أطلق سراحه ) .

محاولة اغتيال الإمام الهاديعليه‌السلام

وقد دبّرت السلطة الحاكمة آنذاك مؤامرة لقتل الإمامعليه‌السلام ولكنّها لم تنجح ، فقد روي : أنّ أبا سعيد قال : حدثنا أبو العباس فضل بن أحمد بن إسرائيل الكاتب ونحن بداره بسُرّ مَن رأى فجرى ذكر أبي الحسنعليه‌السلام فقال : يا أبا سعيد أحدثك بشيء حدثني به أبي ؟ قال : كنّا مع المنتصر وأبي كاتبه فدخلنا والمتوكل على سريره فسلّم المنتصر ووقف ووقفت خلفه ، وكان إذا دخل رحّب به وأجلسه ، فأطال القيام وجعل يرفع رجلاً ويضع أخرى وهو لا يأذن له في القعود ورأيت وجهه يتغيّر ساعة بعد ساعة ويقول للفتح بن خاقان : هذا الذي يقول فيه ما تقول ؟ ويرد عليه القول ، والفتح يسكته ويقول : هو مكذوب عليه ، وهو يتلظّى ويستشيط ويقول : والله لأقتلنّ هذا المرائي الزنديق وهو يدّعي الكذب ويطعن في دولتي .

ــــــــــــــ

(١) رواه الصدوق في الخصال : ٣٩٤ ومعالي الأخبار : ١٣٥ وكمال الدين ط النجف الأشرف : ٣٦٥ و ط الغفاري : ٣٨٢ ح٩ ب ٣٧ وعنه الطبرسي في إعلام الورى : ٢/٢٤٥ وعن الخصال وعلل الشرائع في بحار الأنوار : ٥٠/١٩٤ .

٩٤

ثم طلب أربعة من الخزر أجلافاً ودفع إليهم أسيافاً ، وأمرهم أن يقتلوا أبا الحسن إذا دخل ، وقال : والله لأحرقنه بعد قتله ، وأنا قائم خلف المنتصر من وراء الستر ، فدخل أبو الحسن وشفتاه تتحرّكان وهو غير مكترث ولا جازع ، فلمّا رآه المتوكل رمى بنفسه عن السرير إليه ، وانكب عليه يقبّل بين عينيه ويديه ، وسيفه شقه بيده وهو يقول : يا سيدي يا بن رسول الله يا خير خلق الله يا بن عمّي يا مولاي يا أبا الحسن .

وأبو الحسنعليه‌السلام يقول :أعيذك يا أمير المؤمنين من هذا .

فقال : ما جاء بك يا سيدي في هذا الوقت ؟ قال :جاءني رسولك .

قال : كذب ابن الفاعلة .

فقال له : ارجع يا سيدي ، يا فتح يا عبيد الله يا منتصر شيّعوا سيّدكم وسيدي ، فلمّا بصر به الخزر خرّوا سجّداً ، فدعاهم المتوكل وقال : لِمَ لم تفعلوا ما أمرتكم به ؟ قالوا : شدّة هيبته ، ورأينا حوله أكثر من مائة سيف لم نقدر أن نتأمّلهم ، وامتلأت قلوبنا من ذلك .

٩٥

فقال : يا فتح هذا صاحبك وضحك في وجهه .

وقال : الحمد لله الذي بيّض وجهه وأنار حجّته(١) .

إنّ هذا النص قد كشف لنا بوضوح عن كل نوازع المتوكل التي تدور حول القتل والحرق للإمامعليه‌السلام فضلاً عن الاتّهام بالزندقة والطعن في دولته .

والمتوكّل بعد كل هذه المحاولات التي باءت بالفشل لم يهدأ له بال وهو يريد إذلال الإمامعليه‌السلام بأيّ نحوٍ كان ، من هنا بادر في يوم الفطر ـ وفي السنة التي قُتل فيها ـ إلى الأمر بالترجّل والمشي بين يديه قاصداً بذلك أن يترجّل الإمام الهادي عليه‌السلام بين يديه ، فترجّل الإمام عليه‌السلام كسائر بني هاشم واتكأ على رجل من مواليه فأقبل عليه الهاشميون وقالوا : يا سيّدنا ما في هذا العالم أحد يستجاب دعاؤه ويكفينا الله به من تعزّر هذا ؟ قال لهم أبو الحسن عليه‌السلام : في هذا العالم مَن قلامة ظفره أكرم على الله من ناقة ثمود ، لمّا عقرت الناقة صاح الفصيل إلى الله تعالى ، فقال الله سبحانه : ( تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) (٢) .

دعاء الإمامعليه‌السلام على المتوكّل

والتجأ الإمام أبو الحسن الهاديعليه‌السلام إلى الله تعالى ، وانقطع إليه ، وقد

ــــــــــــــ

(١) الخرائج والجرائح : ١/٤١٧ ـ ٤١٩ ح ١ ب ١١ وعنه في كشف الغمّة : ٣/١٨٥ .

(٢) بحار الأنوار : ٥٠/٢٠٩ .

٩٦

دعاه بالدعاء الشريف الذي عُرف ( بدعاء المظلوم على الظالم ) وهو من الكنوز المشرقة عند أهل البيت عليهم‌السلام (١) .

هلاك المتوكّل

واستجاب الله دعاء وليّه الإمام الهاديعليه‌السلام ، فلم يلبث المتوكل بعد هذا الدعاء سوى ثلاثة أيام حتى هلك .

وتم ذلك باتفاق المنتصر ابن المتوكل مع مجموعة من الأتراك حيث هجم الأتراك على المتوكل ليلة الأربعاء المصادف لأربع خلون من شوّال (٢٤٧ هـ) يتقدّمهم باغر التركي وقد شهروا سيوفهم ، وكان المتوكل ثملاً سكراناً ، وذعر الفتح بن خاقان فصاح بهم : ويلكم أمير المؤمنين ؟! فلم يعتنوا به ورمى بنفسه عليه ليكون كبش الفداء له إلاّ أنّه لم يغنِ عن نفسه ولا عنه شيئاً ، وأسرعوا إليهما فقطّعوهما إرباً إرباً ، بحيث لم يعرف لحم أحدهما من الآخر ـ كما يقول بعض المؤرّخين ـ ودُفنا معاً .

وبذلك انطوت أيام المتوكّل الذي كان من أعدى الناس لأهل البيتعليهم‌السلام .

وخرج الأتراك ، وكان المنتصر بانتظارهم فسلّموا عليه بالخلافة وأشاع المنتصر أنّ الفتح بن خاقان قد قتل أباه ، وأنّه أخذ بثأره فقتله ، ثم أخذ البيعة لنفسه من أبناء الأسرة العباسية وسائر قطعات الجيش .

واستقبل العلويون وشيعتهم النبأ بهلاك المتوكل بمزيد من الابتهاج والأفراح ؛ فقد هلك الطاغية الذي صيّر حياتهم إلى مآسي لا تطاق(٢) .

ــــــــــــــ

(١) مهج الدعوات : ٥٠/٢٠٩ .

(٢) الكامل في التاريخ : ١٠ / ٣٤٩ .

٩٧

المنتصر بالله (٢٤٧ ـ ٢٤٨ هـ)

هو محمّد بن المتوكل بن المعتصم ابن الرشيد ، أُمّه أُمّ ولد رومية اسمها حبشيّة .

بُويع له بعد قتل أبيه في شوّال سنة (٢٤٧ هـ) وخلع أخويه المعتزّ والمؤيد من ولاية العهد وقالوا عنه : إنّه أظهر العدل والإنصاف في الرعيّة فمالت إليه القلوب مع شدّة هيبتهم له ، وكان كريماً حليماً وممّا نُقل عنه قوله : لذّة العفو أعذب من لذّة التشفّي وأقبح أفعال المقتدر الانتقام .

ولكنّه لم يمتّع بالخلافة إلاّ أشهراً معدودة دون ستة أشهر .

وقال الثعالبي : ومن العجائب أنّ أعرق الأكاسرة في الملك ـ وهو شيرويه ـ قتل أباه فلم يعش بعده إلاّ ستة أشهر وأعرق الخلفاء في الخلافة ـ وهو المنتصر ـ قتل أباه فلم يمتّع بعده سوى ستة أشهر(١) .

المنتصر والعلويين

وكان المنتصر ليّناً مع العلويين المظلومين في عهد أبيه ، فعطف عليهم ووجّه بمال فرّقه عليهم وكان يؤثر مخالفة أبيه في جميع أحواله ومضادّة مذهبه طعناً عليه ونصرة لفعله(٢) .

ــــــــــــــ

(١) تاريخ الخلفاء : ٣٥٦ ـ ٣٥٨ .

(٢) مقاتل الطالبيين : ٣٩٦ ونحوه في تاريخ الخلفاء : ٤١٧ .

٩٨

وكان محسناً لآل أبي طالب حيث رفع عنهم ما كانوا فيه من الخوف والمحنة بمنعهم من زيارة قبر الحسينعليه‌السلام ورد على آل الحسين فدكاً فقال يزيد المهلّبي في ذلك :

ولقد بررت الطالبية بعدما

ذمّوا زماناً بعدها وزمانا

ورددت ألفة هاشم فرأيتهم

بعد العداوة بينهم إخوانا(١)

يقول أبو الفرج عنه : وكان المنتصر يظهر الميل إلى أهل البيتعليهم‌السلام ويخالف أباه في أفعاله فلم يجر منه على أحد منهم قتل أو حبس أو مكروه(٢) .

ولمّا ولي المنتصر صار يسب الأتراك ويقول : هؤلاء قتلة الخلفاء فعملوا عليه وهمّوا به فعجزوا عنه ؛ لأنّه كان مهيباً شجاعاً فطناً متحرّزاً فتحيّلوا إلى أن دسّوا إلى طبيبه ابن طيفور ثلاثين ألف دينار في مرضه فأشار بفصده ثم فصده بريشة مسمومة فمات(٣) .

المستعين (٢٤٨ ـ ٢٥٢ هـ)

هو أحمد بن المعتصم بن الرشيد فهو أخو المتوكّل ، ولد سنة (٢٢١ هـ) وأُمّه أُمّ ولد اسمها مخارق ، اختاره القوّاد بعد موت المنتصر ، ثم تنكّر له الأتراك لمّا نفى باغر التركي الذي فتك بالمتوكل ، وقتل وصيفاً وبُغا .

ولهذا خافهم وانحدر من سامراء إلى بغداد ، فأرسلوا إليه يعتذرون ويخضعون له ويسألونه الرجوع فامتنع ، فقصدوا الحبس وأخرجوا المعتز وبايعوه وخلعوا المستعين ، ثم جهّز جيشاً كثيفاً لمحاربة المستعين واستعد أهل بغداد للقتال مع المستعين .

الثورات في عصره

لم يدم حكم المستعين سوى أربع سنوات وأشهر ، وقد تميّزت فترة حكمه بالاضطرابات التي تعود إلى قوّة الأتراك وضعفه أمامهم ، كما تعود إلى الظلم والإجحاف بالأمة إلى جانب تنازع العباسيين على السلطة ، وإليك فهرساً بما وقع في أيام حكمه من وثبات وثورات :

١ ـ وثبة في الأردن بقيادة رجل من لخم .

ــــــــــــــ

(١) تاريخ الخلفاء : ٤١٧ ، ٤١٨ .

(٢) مقاتل الطالبيين : ٤١٩ .

(٣) تاريخ الخلفاء : ٤١٩ .

٩٩

٢ ـ وثب في حمص أهلها بعاملهم كيدر الاشروسني .

٣ ـ وثبة الجند في سامراء وضربة لأوتاش التركي وهو أحد القادة .

٤ ـ وثبة المعرّة بقيادة القصيص وهو يوسف بن إبراهيم التَّنوخي .

٥ ـ وثبة الجند بفارس بعاملهم الحسين بن خالد .

٦ ـ وثبة إسماعيل بن يوسف الجعفري الطالبي في المدينة .

فوقعت بينهما وقعات ودام القتال أشهراً وغلت الأسعار وعظم البلاء وانحل أمر المستعين ؛ فسعوا في الصلح على خلعه ، وقام في ذلك إسماعيل القاضي وغيره بشروط مؤكّدة ، فخلع المستعين نفسه في أوّل سنة اثنتين وخمسين ومائتين وأشهد عليه القضاة وغيرهم فأُحدِر إلى واسط فأقام بها تسعة أشهر محبوساً موكلاً به أمينٌ ثم رُدّ إلى سامراء وأرسل المعتز إلى أحمد بن طولون أن يذهب إلى المستعين فيقتله فقال : والله لا أقتل أولاد الخلفاء ، فندب له سعيد الحاجب فذبحه في ثالث شوال من السنة وله إحدى وثلاثون سنة(١) .

المعتز (٢٥٢ ـ ٢٥٥ هـ)

هو محمد بن المتوكل ، ولد سنة (٢٣٢ هـ) ، بُويع له وعمره تسع عشرة سنة ، ولم يل الخلافة قبله أحد أصغر منه ، وهو أوّل خليفة أحدث الركوب بحلية الذهب ، فقد كان الخلفاء قبله يركبون بالحلية الخفيفة من الفضّة كان المعتز مستضعفاً من قِبل الأتراك وأُلعوبة بأيديهم وأوّل سنة تولّى فيها السلطة مات اشناس الذي كان الواثق قد استخلفه على السلطة وخلف خمسمائة ألف دينار ، فأخذها المعتز وخلع خلعة الملك على محمد بن عبد الله بن طاهر ، وقلّده سيفين ، ثم عزله وخلع خلعة الملك على أخيه وتوّجه بتاج من ذهب وقلنسوة مجوهرة ، ووشاحين مجوهرين وقلّده سيفين ، ثم عزله من عامه ونفاه إلى واسط ، وخلع على بغا الشرابي وألبسه تاج الملك فخرج على المعتز بعد سنة فقتل وجيء إليه برأسه .

ــــــــــــــ

(١) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٥٨ ـ ٣٥٩ .

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221