اعلام الهداية الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام)

اعلام الهداية الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام)33%

اعلام الهداية الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
تصنيف: الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام
الصفحات: 221

اعلام الهداية الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام)
  • البداية
  • السابق
  • 221 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 122453 / تحميل: 6739
الحجم الحجم الحجم
اعلام الهداية الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام)

اعلام الهداية الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام)

مؤلف:
الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

أهل البيتعليهم‌السلام وتربية الأُمّة

وكان للأئمّة الأطهارعليهم‌السلام نشاط مستمر في مجال تربية الأمة عقائدياً وأخلاقياً وسياسياً ؛ وذلك من خلال تربية الأصحاب العلماء وبناء الكوادر العلمية والشخصيات النموذجية التي تقوم بمهامّ كبيرة مثل : نشر الوعي والفكر الإسلامي ، وتصحيح الأخطاء المستجدّة في فهم الرسالة والشريعة ، ومواجهة التيارات الفكرية السياسية المنحرفة ، أو الشخصيّات العلمية المنحرفة التي كان يوظّفها الحاكم المنحرف لدعم زعامته .

وحيث كان الأئمة من أهل البيتعليهم‌السلام يُشكّلون النموذج الحيّ للزعامة الصالحة ، عملوا على تثقيف الأمة ورفع درجة وعيها بالنسبة لإمامتهم وزعامتهم ومرجعيّتهم العامة .

وهكذا تفاعل الأئمةعليهم‌السلام مع الأمة ودخلوا إلى أعماق ضمير الأمة وارتبطوا بها وبكل قطّاعاتها بشكل مباشر وتعاطفوا مع قطّاع واسع من المسلمين ; فإنّ الزعامة الجماهيرية الواسعة النطاق التي كان يتمتّع بها أئمة أهل البيت عليهم‌السلام على مدى قرون لم يحصل عليها أهل البيت صدفة أو لمجرّد الانتماء لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ; وذلك لوجود كثير ممّن كان ينتسب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يكن يحظى بهذا الولاء ; لأنّ الأمة لا تمنح على الأغلب الزعامة مجّاناً ، ولا يملك الفرد قيادتها وميل قلوبها من دون عطاء سخيّ منه في مختلف مجالات اهتمام الأمة ومشاكلها وهمومها .

سلامة النظرية الإسلامية

وهكذا خرج الإسلام على مستوى النظرية سليماً من الانحراف وإن تشوّهت معالم التطبيق من خلال الحكّام المنحرفين ، وتحولّت الأمة إلى أُمّة عقائدية تقف بوجه الغزو الفكري والسياسي الكافر حتى استطاعت أن تسترجع قدرتها وروحها على المدى البعيد ، كما لاحظناه في هذا القرن المعاصر بعد عصور الانهيار والتردّي حيث بزغ نور الإسلام من جديد ليعود بالبشرية إلى مرفأ الحق التليد .

٦١

وقد حقّق الأئمّة المعصومونعليهم‌السلام كل هذه الانتصارات بفضل اهتمامهم البليغ بتربية الجماعة الصالحة التي تؤمن بهم وبإمامتهم فأشرفوا على تنمية وعيها وإيمانها من خلال التخطيط لسلوكها وحمايتها باستمرار وإسعافها بكل الأساليب التي كانت تساعد على ثباتها في خضمّ المحن وارتفاعها إلى مستوى جيش عقائدي رسالي يعيش هموم الرسالة ويعمل على صيانتها ونشرها وتطبيقها ليل نهار.

مراحل الحركة الرسالية للائمّة الراشدينعليهم‌السلام

وإذا رجعنا إلى تاريخ أهل البيتعليهم‌السلام والظروف التي كانت قد أحاطت بهم ولاحظنا سيرتهم ومواقفهم العامة والخاصة ؛ استطعنا أن نصنّف ظروفهم ومواقفهم إلى مراحل وعصور ثلاثة يتميّز بعضها عن بعض بالرغم من اشتراكهم في كثير من الظروف والمواقف ، ولكنّ الأدوار تتنوّع باعتبار مجموعة الظواهر العامّة التي تشكل خطّاً فاصلاً ومميّزاً لكل عصر .

فالمرحلة الأُولى من حياة الأئمّةعليهم‌السلام وهي ( مرحلة تفادي صدمة الانحراف ) بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجسّدت في سلوك ومواقف الأئمّة الأربعة : علي والحسن والحسين وعلي بن الحسينعليهم‌السلام فقاموا بالتحصينات اللازمة لصيانة العناصر الأساسية للرسالة وإن لم يستطيعوا القضاء على القيادة المنحرفة ، لكنّهم استطاعوا كشف زيفها والمحافظة على الرسالة الإسلامية نفسها .

وبالطبع إنّهم لم يهملوا الأمة أو الدولة الإسلامية بشكل عام من رعايتهم واهتماماتهم فيما يرتبط بالكيان الإسلامي والأمة المسلمة ، فضلاً عن سعيهم البليغ في بناء وتكوين الكتلة الصالحة المؤمنة بقيادتهم .

٦٢

وتبدأ المرحلة الثانية بالشطر الثاني من حياة الإمام السجّاد السياسية حتى الإمام الكاظمعليه‌السلام وتتميّز بأمرين أساسيين :

الأوّل منهما : يرتبط بالخلافة المزيّفة ، فقد تصدّى هؤلاء الأئمّة لتعريتها عن التحصينات التي بدأ الخلفاء يحصّنون بها أنفسهم من خلال دعم وتأييد طبقة من المحدّثين والعلماء ( وهم وعّاظ السلاطين ) لهؤلاء الخلفاء وتقديم صنوف التأييد والولاء لهم من أجل إسباغ الصبغة الشرعية على زعامتهم بعد أن استطاع الأئمّة في المرحلة الأولى أن يكشفوا زيف خط الخلافة ويشعروا الأمة بمضاعفات الانحراف الذي حصل في مركز القيادة بعد الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

والثاني منهما : يرتبط ببناء الجماعة الصالحة والذي أُرسيت دعائمه في المرحلة الأولى ، فقد تصدّى الأئمّة المعصومون في هذه المرحلة إلى تحديد الإطار التفصيلي وإيضاح معالم الخط الرسالي الذي اؤتمن الأئمّة الأطهارعليهم‌السلام عليه ، والذي تمثّل في تبيين ونشر معالم النظرية الإسلامية وتربية عدّة أجيال من العلماء على أساس الثقافة الإسلامية التي استوعبها الأئمة الأطهار في قِبال الخط الثقافي الذي استحدثه وعّاظ السلاطين .

هذا فضلاً عن تصدّيهم لدفع الشبهات وكشف زيف الفرق التي استحدثت من قِبل خط الخلافة أو غيره .

والأئمّة في هذه المرحلة لم يتوانوا عن زعزعة الزعامات والقيادات المنحرفة من خلال دعم بعض الخطوط المعارِضة للسلطة ولاسيّما بعض الخطوط الثورية منها ، والتي كانت تتصدّى لمواجهة مَن تربَّع على كرسيّ خلافة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ثورة الإمام الحسينعليه‌السلام .

وأمّا المرحلة الثالثة من حياة الأئمّة من أهل البيتعليهم‌السلام : فهي تبدأ بشطر من حياة الإمام الكاظمعليه‌السلام وتنتهي بالإمام المهديعليه‌السلام فإنّهم بعد وضع التحصينات اللازمة للجماعة الصالحة ورسم المعالم والخطوط التفصيلية لها عقائدياً وأخلاقياً وسياسيّاً في المرحلة الثانية قد بدا للخلفاء أنّ قيادة أهل البيتعليهم‌السلام أصبحت بمستوى تسلّم زمام الحكم والعودة بالمجتمع الإسلامي إلى حظيرة الإسلام الحقيقي ، ممّا خلّف ردود فعل للخلفاء تجاه الأئمّةعليهم‌السلام ، وكانت مواقف الأئمّة تجاه الخلفاء تختلف تبعاً لنوع موقف الخليفة تجاههم وتجاه قضيّتهم .

٦٣

وأمّا فيما يرتبط بالجماعة الصالحة التي أوضحوا لها معالم خطّها فقد عمل الأئمّةعليهم‌السلام على دفعها نحو الثبات والاستقرار والانتشار من جهة لتحصينها من الانهيار ، وإعطائها درجة من الاكتفاء الذاتي من جهة أُخرى .

وكان يقدّر الأئمّة أنّهم بعد المواجهة المستمرّة للخلفاء سوف لا يُسمح لهم بالمكث بين ظهرانيهم ، وسوف لن يتركهم الخلفاء أحراراً بعد أن تبيّن زيفهم ودَجلهم واتضحت لهم المكانة الشعبية للأئمّة المعصومين الذين كانوا يمثّلون الزعامة الشرعية والواقعية للأمة الإسلامية .

ومن هنا تجلّت ظاهرة تربية الفقهاء بشكل واسع ثم إرجاع الناس إليهم وتدريبهم على مراجعتهم للعلماء السائرين على خط أهل البيتعليهم‌السلام في كل قضاياهم وشؤونهم العامة ؛ تمهيداً للغيبة التي لا يعلم مداها إلاّ الله سبحانه والتي أخبر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن تحقّقها وأملت الظروف عليهم الانصياع إليها .

وبهذا استطاع الأئمّةعليهم‌السلام ـ ضمن تخطيط بعيد المدى ـ أن يقفوا بوجه التسلسل الطبيعي لمضاعفات انحراف القيادة الإسلامية والتي كانت تنتهي بتنازل الأمة عن الإسلام الصحيح ؛ وبالتالي ضمور الشريعة وانهيار الرسالة الإلهية بشكل كامل .

موقع الإمام الهاديعليه‌السلام في عملية التغيير الشاملة

والإمام علي بن محمد الهاديعليه‌السلام يُصنّف في هذه المرحلة الثالثة من مراحل حركة أهل البيتعليهم‌السلام فهو قد مارس نشاطاً مكثّفاً لإعداد الجماعة الصالحة للدخول إلى دور الغيبة المرتقب ، وتحصين هذا الخط ضد التحدّيات التي كانت توجّه إليه باستمرار .

وسوف نقف على تفاصيل مواقف الإمام الهاديعليه‌السلام ونشاطاته وإنجازاته التي اختصّ بها عصره ، بعد التعرّف على ملامح عصره وأهم الظروف التي كانت تحيط به وبشيعته وبالأمة الإسلامية جميعاً ، ضمن الفصول القادمة إن شاء الله تعالى .

٦٤

الفصل الثاني : عصر الإمام علي بن محمّد الهاديعليه‌السلام

تحدّثنا عن المرحلة الأولى من حياة الإمام الهاديعليه‌السلام في ظِلال والده الإمام محمد الجوادعليه‌السلام وقد كانت فترة قصيرة جداً لم تتجاوز ثماني سنين ـ على أكثر التقادير ـ وقد قضاها في المدينة المنوّرة ، وكان في شطر منها بعيداً عن والده ؛ وذلك لأنّ المعتصم العباسي قد استدعاه في سنة (٢١٨ هـ) إلى بغداد .

والمرحلة الثانية من حياة الإمام الهاديعليه‌السلام تناهز أربعاً وثلاثين سنة حيث تحمّل فيها أعباء منصب الإمامة منذ سنة (٢٢٠ هـ) إلى سنة (٢٥٤هـ) واستمرّت (٣٤ سنة) وعاصر فيها كلاًّ من : المعتصم (٢١٨ ـ ٢٢٧ هـ) ، والواثق (٢٢٧ ـ٢٣٢ هـ) ، والمتوكل (٢٣٢ ـ ٢٤٧ هـ) ، والمنتصر (٢٤٧ ـ ٢٤٨ هـ) ، والمستعين (٢٤٨ ـ ٢٥٢ هـ) ، والمعتز (٢٥٢ ـ ٢٥٥ هـ) .

المعتصم (٢١٨ ـ ٢٢٧ هـ)

هو محمد بن الرشيد ، وُلد سنة (١٨٠ أو ١٧٨) ، واستولى على كرسي الخلافة سنة (٢١٨ هـ) أُمّه ماردة كانت أحظى الناس عند الرشيد .

وقالوا عنه : إنّه كان ذا شجاعة وقوّة وهمّة وكان عريّاً من العلم .

وكان إذا غضب لا يبالي من قتل ، وكان من أشدّ الناس بطشاً ، كان يجعل زند الرجل بين أصبعيه فيكسره .

وهو أوّل خليفة أدخل الأتراك الديوان وكان يتشبّه بملوك الأعاجم ويمشي مشيتهم ، وبلغت غلمانه الأتراك بضعة عشر ألفاً .

وهجاه دعبل الخزاعي بالأبيات التالية :

ملوك بني العباس في الكتب سبعة

ولم يأتنا في ثامن منهم الكُتْبُ

كذلك أهل الكهف في الكهف سبعة

غداة ثَوَوْا فيه وثامنهم كلبُ

وإنّي لأزهى كلبهم عنك رغبةً

لأنّك ذو ذنب وليس له ذنبُ

لقد ضاع أمر الناس حيث يسوسهم

وصيف واشناس وقد عظم الخطبُ

وسار على ما كان عليه المأمون من امتحان الناس بخلق القرآن وقاسى الناس منه مشقّة في ذلك ، وقتل عليه خلقاً من العلماء ، وضرب الإمام أحمد بن حنبل في سنة عشرين ومائتين .

٦٥

وفيها تحوّل المعتصم من بغداد وبنى سُرّ مَن رأى بعد أن اعتنى باقتناء الترك وبذل الأموال الطائلة فيهم حتى ألبسهم الديباج ومناطق الذهب وأصبحوا يؤذون الناس ببغداد حتى هدّده أهل بغداد بمحاربته إن لم يخرجهم منها ؛ ولهذا بنى سامراء وأخرجهم من بغداد .

وغزا المعتصم الروم سنة (٢٢٣ هـ) وفتح عمورية ومات في ربيع الأوّل سنة (٢٢٧ هـ) ودامت حكومة المعتصم ثماني سنين وثمانية أشهر .

الإمام الهاديعليه‌السلام والمعتصم العباسي

بعد اغتيال الإمام الجوادعليه‌السلام من قِبل المعتصم عهد المعتصم إلى عمر بن الفرج أن يشخص بنفسه إلى المدينة ليختار معلّماً لأبي الحسن الهادي عليه‌السلام البالغ من العمر آنذاك ست سنين وأشهراً ، وقد عهد إليه أن يكون المعلّم معروفاً بالنصب والانحراف عن أهل البيت عليهم‌السلام ليغذّيه ببغضهم .

ولمّا انتهى عمر إلى يثرب التقى بالوالي وعرّفه بمهمّته فأرشده الوالي وغيره إلى الجنيدي الذي كان شديد البغض للعلويين ، فأرسل خلفه وعرّفه بالأمر فاستجاب له بعد أن عيّن له راتباً شهرياً ، وعهد إليه أن يمنع الشيعة من زيارته والاتصال به .

بادر الجنيدي إلى ما كان اُمر به من مهمّة تعليم الإمامعليه‌السلام إلاّ أنّه قد ذهل لمّا كان يراه من حدَّة ذكائه ، والتقى محمد بن جعفر بالجنيدي فقال له : ( ما حال هذا الصبي الذي تؤدّبه ؟ ) فأنكر الجنيدي ذلك وراح يقول :

( أتقول : هذا الصبي ؟!! ولا تقول هذا الشيخ ؟ أنشدك بالله هل تعرف بالمدينة مَن هو أعرف منّي بالأدب والعلم ؟ ) .

قال : لا .

فقال الجنيدي : ( إنّي والله لأذكر الحرف في الأدب ، وأظن أنّي قد بالغت ، ثم إنّه يملي أبواباً استفيده منه ، فيظن الناس أنّي أُعلّمه ، وأنا والله أتعلّم منه ) .

وانطوت الأيام فالتقى محمد بن جعفر مرّة أُخرى بالجنيدي ، فقال له : ما حال هذا الصبي ؟

٦٦

فأنكر عليه الجنيدي ذلك وقال : ( دع عنك هذا القول ، والله تعالى لهو خير أهل الأرض ، وأفضل مَن برأه الله تعالى ، وإنّه لربّما همَّ بدخول الحجرة فأقول له : حتى تقرأ سورة ، فيقول : أيّ سورة تريد أن أقرأها ؟ فاذكر له السور الطوال ما لم يبلغ إليها فيسرع بقراءتها بما لم أسمع أصحّ منها ، وكان يقرأها بصوت أطيب من مزامير داود ، إنّه حافظ القرآن من أوّله إلى آخره ، ويعلم تأويله وتنزيله .

وأضاف الجنيدي قائلاً : ( هذا الصبي صغير نشأ بالمدينة بين الجدران السود فمن أين عَلِم هذا العلم الكبير ؟ يا سبحان الله !! ثم نزع عن نفسه النصب لأهل البيتعليهم‌السلام ودان بالولاء لهم واعتقد بالإمامة )(١) .

لقد كان لأدب الإمام الهاديعليه‌السلام وحسن تعامله مع معلّمه ( الناصبي ) أثر كبير في تحوّله الاعتقادي وإيمانه بزعامة أهل البيتعليهم‌السلام .

ثمّ إنّ الجنيدي نفسه صرّح لغيره أنّه تعلّم من الإمامعليه‌السلام ولم يأخذ الإمامعليه‌السلام العلم منه ؛ وتلك خاصة للإمام وآبائهعليهم‌السلام ، فإنّ الإمام الرضاعليه‌السلام لمّا سُئل عن الخلف بعده أشار إلى الإمام الجوادعليه‌السلام وهو صغير ربّما في عمر كعمر الإمام الهاديعليه‌السلام ، واحتجّ الرضاعليه‌السلام بقوله تعالى :( وآتيناه الحكم صبيّاً ) فالصغر والكبر ليس مورداً للإشكال فإنّ الله سبحانه جعل الإمامة امتداداً للنبوّة لتقتدي الناس بحملة الرسالة ، فهم القيّمون عليها والمجسّدون لها تجسيداً كاملاً ؛ ليتيسّر للناس تطبيق أحكام الله تعالى بالاقتداء بالأئمةعليهم‌السلام .

وتعكس لنا هذه الرواية الاهتمام المبكّر من قِبل المعتصم بالإمام الهاديعليه‌السلام من أجل تطويق تحرّكه وعزله عن شيعته ومريديه ، كما يتّضح ذلك من أمره بأن يمنع اتصال الشيعة به .

يُضاف إلى ذلك أنّ المبادرة لتعليم الإمام في سنّ مبكّرة لا يبعد أن يكون للتعتيم على علم الإمام وهو في هذا العمر كما حدث لأبيه الجوادعليه‌السلام حين تحدّى كبار العلماء ولم يعهد منه أنّه كان قد تعلّم عند أحد .

ــــــــــــــ

(١) مآثر الكبراء في تاريخ سامراء : ٣ / ٩١ ـ ٩٥ .

٦٧

فهذا الإسراع يُعدّ محاولة للحيلولة دون بزوغ اسم الإمام الهاديعليه‌السلام وسطوع فضله عند الخاص والعام ؛ لأنّ ما سوف يصدر منه يمكن أن يُنسب إلى معلّمه ومربّيه .

غير أنّ الإمامعليه‌السلام بخُلقه وهدوئه استطاع أنّ يفوّت الفرصة على الخليفة وبلاطه ويُظهر للناس علمه وإمامته التي عيّنها الله له .

الواثق (٢٢٧ ـ ٢٣٢ هـ)

هو هارون بن المعتصم ، أُمّه رومية ، وُلد في شعبان (١٩٦ هـ) واستولى على الخلافة في ربيع الأوّل (٢٢٧ هـ) .

وفي سنة (٢٢٨ هـ) استخلف على السلطة أشناس التركي وألبسه وشاحين مجوهرين وتاجاً مجوهراً .

وكان كثير الأكل جداً حتى قال ابن فهم : إنّه كان يأكل في خوان من ذهب وكان يحمل كل قطعة منه عشرون رجلاً .

وكان الواثق كأسلافه الحاكمين في الإسراف وقضاء الوقت باللهو والمفاسد .

وقيل عنه إنّه كان وافر الأدب مليح الشعر ، وكان أعلم الخلفاء بالغناء ، وله أصوات وألحان عملها نحو مائة صوت وكان حاذقاً بضرب العود ، راوية للأشعار والأخبار .

٦٨

وكان يحب خادماً له أُهدي له من مصر فأغضبه الواثق يوماً ثم إنّه سمعه يقول لبعض الخدم : والله إنّه ليروم أن أكلّمه ـ أي الواثق ـ من أمس فما أفعل ، فقال الواثق في ذلك شعراً :

يا ذا الذي بعد أبي ظل مختفراً

ما أنت إلاّ مليك جاد إذ قدرا

لولا الهوى لتحاربنا على قدر

وان أقف منه يوماً فسوف ترى(١)

وفي سنة (٢٢٩ هـ) حبس الواثق كتّاب دولته وألزمهم أموالاً عظيمة ، فأخذ من أحمد بن إسرائيل ثمانين ألف دينار ، ومن سليمان بن وهب ـ كاتب ايتاخ ـ أربعمائة ألف دينار ، ومن الحسن بن وهب أربعة عشر ألف دينار ، ومن إبراهيم بن رباح وكتّابه مائة ألف دينار ، ومن أحمد بن الخصيب مليوناً من الدنانير ، ومن نجاح ستين ألف دينار ، ومن أبي الوزير مائة وأربعين ألف دينار(٢) .

فكم كان مجموع ثرواتهم بحيث أمكنهم دفع تلك الضرائب ؟ وإذا كانت هذه ثروة الكاتب العادي ، فكم هي ثروة الوزير نفسه ؟ ولعلّ من نافلة القول إنّ هذه الأموال إنّما اجتمعت عند هؤلاء على حساب سائر أبناء الأمة الإسلامية الذين كانوا يعانون من الفقر وحياة التقشّف التي أنتجها الظلم إلى جانب التفاضل الطبقي الفاحش .

الإمام الهاديعليه‌السلام وبغا الكبير

وفي سنة (٢٣٠ هـ) أغار الأعراب من بني سليم على المدينة ونهبوا الأسواق وقتلوا النفوس ، ولم يفلح حاكم المدينة في دفعهم حتى ازداد شرّهم واستفحل ؛ فوجّه إليهم الواثق بغا الكبير ففرّقهم وقتل منهم وأسر آخرين وانهزم الباقون(٣) .

وللإمام حين ورود بغا بجيشه إلى المدينة موقف تجدر الإشارة إليه ، فإنّ أبا هاشم الجعفري يقول : كنت بالمدينة حين مّر بها بغا أيّام الواثق في طلب الأعراب .

ــــــــــــــ

(١) تاريخ الخلفاء : ٣٤٣ ـ ٣٤٥ .

(٢) الكامل في التاريخ : ٥/٢٦٩ .

(٣) الكامل في التاريخ : ٥/٢٧٠ .

٦٩

فقال أبو الحسنعليه‌السلام : اخرجوا بنا حتى ننظر إلى تعبئة هذا التركي .

فخرجنا فوقفنا فمرّت بنا تعبئته فمرّ بنا تركي فكلّمه أبو الحسنعليه‌السلام بالتركية فنزل عن فرسه فقبّل حافر دابته ، قال ( أبو هاشم ) فحلّفت التركي وقلت له : ما قال لك الرجل ؟ فقال : هذا نبيّ ؟ قلت : ليس هذا بنبيّ .

قال : دعاني باسم سُمّيت به في صغري في بلاد الترك ما علمه أحد الساعة(١) .

وهذه الوثيقة التاريخية تتضمّن بيان مجموعة من فضائل الإمام الهاديعليه‌السلام وكمالاته واهتماماته العسكرية والتربوية لأصحابه ، وتشجيعه لبغا الذي واجه هذا الهجوم التخريبي للأعراب على مدينة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وبالإضافة إلى كرامات الإمامعليه‌السلام المتعدّدة لا تستبعد أن يكون الإمامعليه‌السلام قد استفاد من هذه الفرصة لكسب فرد في جيش بغا إذ بإمكانه أن يكون حامل صورة ايجابية ورسالة خاصة عن الإمامعليه‌السلام يمكنه إيصالها في الموقع المناسب إلى قائده بغا .

وسوف نرى مواقف خاصة لبغا تجاه الإمام الهاديعليه‌السلام في المستقبل الذي ينتظره ، فضلاً عن موقف له مع أحد الطالبيين بعد أن حاول قتل عامل المعتصم فتمرّد بغا على أمر المعتصم ولم يُلق هذا الطالبي إلى السباع(٢) .

ومن هنا قال المسعودي عنه : كان بغا كثير التعطّف والبر على الطالبيين .

ــــــــــــــ

(١) أعلام الورى : ٣٤٣ .

(٢) مروج الذهب : ٤/٧٦ .

٧٠

الواثق ومحنة خلق القرآن

وامتحن الواثق الناس في قضية خلق القرآن ، فكتب إلى القضاة أن يفعلوا ذلك في سائر البلدان وأن لا يجيزوا إلاّ شهادة مَن قال بالتوحيد ، فحبس بهذا السبب عالماً كثيراً .

وفي سنة إحدى وثلاثين[ بعد المائتين ] ورد كتاب إلى أمير البصرة يأمره أن يمتحن الأئمة والمؤذّنين بخلق القرآن ، وكان قد تبع أباه في ذلك ثم رجع في آخر أمره .

وفي هذه السنة قتل أحمد بن نصر الخزاعي وكان من أهل الحديث وقد استفتى الواثق جماعة من فقهاء المعتزلة بقتله فأجازوا له ذلك ، وقال : إذا قمت إليه فلا يقومنّ أحد معي فإنّي أحتسب خطاي إلى هذا الكافر الذي يعبد ربّاً لا نعبده ولا نعرفه بالصفة التي وصفه بها ، ثم أمر بالنطع فأجلس عليه وهو مقيّد فمشى إليه فضرب عنقه ، وأمر بحمل رأسه إلى بغداد فصلب بها ، وصلبت جثته في سُرّ مَن رأى ، واستمرّ ذلك ست سنين إلى أن ولي المتوكل فأنزله ودفنه ، ولمّا صُلب كتب ورقة وعُلّقت في أذنه فيها : ( هذا رأس أحمد بن نصر بن مالك دعاه عبد الله الإمام هارون إلى القول بخلق القرآن ونفي التشبيه فأبى إلاّ المعاندة فعجّله الله إلى ناره ) ووكل بالرأس مَن يحفظه .

وفي هذه السنة استفك من الروم ألفاً وستمائة أسير مسلم ، فقال ابن داود ـ قبّحه الله ـ ! مَن قال من الأُسارى ( القرآن مخلوق ) خلّصوه وأعطوه

٧١

دينارين ومَن امتنع دعوه في الأسر(١) .

قال الخطيب : كان أحمد ابن أبي داود قد استولى على الواثق وحمله على التشدّد في المحنة ودعا الناس إلى القول بخلق القرآن .

ومن جملة مَن شملهم ظلم الواثق أبو يعقوب بن يوسف بن يحيى البوطي صاحب الشافعي الذي مات سنة (٢٣١هـ) محبوساً في محنة الناس بالقرآن ، ولم يجب إلى القول بأنّه مخلوق وكان من الصالحين(٢) .

وجيء بأبي عبد الرحمن عبد الدين محمد الآذرمي ( شيخ أبي داود والنسائي ) مقيّداً إلى الواثق وابن أبي داود حاضر ، فقال له : أخبرني عن هذا الرأي الذي دعوتم الناس إليه ، أعلمه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يَدعُ الناس إليه أم شيء لم يعلمه ؟ فقال ابن أبي داود : بل علمه .

فقال : فكان يسعه أن لا يدعو الناس إليه وأنتم لا يسعكم ؟ قال : فبهتوا وضحك الواثق وقام قابضاً على فمه ودخل بيتاً ومدّ رجليه وهو يقول : وسع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسكت عنه ولا يسعنا ! فأمر له أن يعطى ثلاثمائة دينار وأن يرد إلى بلده ولم يمتحن أحداً بعدها ومقت ابن أبي داود من يومئذ .

وعن يحيى بن أكثم : ما أحسن أحد إلى آل أبي طالب ما أحسن إليهم الواثق ، ما مات وفيهم فقير(٣) .

ــــــــــــــ

(١) يراجع تاريخ اليعقوبي : ٢ / ٤٨٢ ـ ٤٨٣ ، وتاريخ الخلفاء : ٤٠١ .

(٢) تاريخ ابن الوردي : ١ / ٣٣٥ .

(٣) تاريخ الخلفاء : ٣٤٢ .

٧٢

موقف الإمام الهاديعليه‌السلام من مسألة خلق القرآن

لقد عمّت الأمة فتنة كبرى زمن المأمون والمعتصم والواثق بامتحان الناس بخلق القرآن وكانت هذه المسألة مسألة يتوقّف عليها مصير الأمة الإسلامية ، وقد بيّن الإمام الهاديعليه‌السلام الرأي السديد في هذه المناورة السياسية التي ابتدعتها السلطة ، فقد روي عن محمد بن عيسى بن عبيد اليقطين أنّه قال : كتب علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا عليه‌السلام إلى بعض شيعته ببغداد :

( بسم الله الرحمن الرحيم ، عصمنا الله وإيّاك من الفتنة فإن يفعل فأعظم بها نعمة وإلاّ يفعل فهي الهلكة نحن نرى أنّ الجدال في القرآن بدعة اشترك فيها السائل والمجيب فتعاطى السائل ما ليس له وتكلّف المجيب ما ليس عليه ، وليس الخالق إلاّ الله وما سواه مخلوق ، والقرآن كلام الله لا تجعل له اسماً من عندك فتكون من الضالّين جعلنا الله وإياك من الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون ) (١) .

إخبار الإمام الهاديعليه‌السلام بموت الواثق

كان الإمام الهاديعليه‌السلام يتابع التطوّرات السياسية ويرصد الأحداث بدقّة .

فعن خيران الخادم قال : قدمت على أبي الحسنعليه‌السلام المدينة فقال لي :ما خبر الواثق عندك ؟ قلت : جُعلت فداك خلفته في عافية ، أنا من أقرب الناس عهداً به ، عهدي به منذ عشرة أيام قال : فقال لي :إنّ أهل المدينة يقولون إنّه مات ، فلمّا أن قال لي : ( الناس ) ، علمت أنّه هو ، ثم قال لي :ما فعل جعفر ؟

ــــــــــــــ

(١) أمالي الشيخ الصدوق : ٤٨٩ .

٧٣

قلت : تركته أسوء الناس حالاً في السجن ، فقال : أما إنّه صاحب الأمر . ما فعل ابن الزيات ؟ قلت : جُعلت فداك الناس معه والأمر أمره فقال : أما إنّه شؤم عليه ثم سكت وقال لي : لا بد أن تجري مقادير الله تعالى وأحكامه يا خيران ، مات الواثق وقد قعد المتوكل جعفر وقد قتل ابن الزيات فقلت : متى جُعلت فداك ؟ قال : بعد خروجك بستة أيّام (١) .

وهذه الرواية دون شكّ تظهر لنا حدّة الصراع والتنافس على السلطة داخل الأسرة العباسية الحاكمة ، كما تظهر لنا مدى متابعة الإمامعليه‌السلام للأوضاع العامة والسياسية أوّلاً بأوّل .

واهتمامه الكبير هذا يوضح مستوى الحالة السياسية التي كانت تعيشها قواعد الإمامعليه‌السلام الشعبية ومواليه ، فكان يوافيهم بمآل الأحداث السياسية ، ليكونوا على حذر أولاً ; ولينمّي قابليّاتهم في المتابعة وتحليل الظواهر ثانياً .

المتوكّل (٢٣٢ ـ ٢٤٧ هـ)

هو جعفر بن المعتصم بن الرشيد ، أُمّه أُمّ ولد اسمها شجاع .

أظهر الميل إلى السنّة ، ورفع المحنة وكتب بذلك إلى الآفاق سنة (٢٣٤ هـ) ، واستقدم المحدّثين إلى سامرّاء وأجزل عطاياهم وأمرهم أن يحدّثوا بأحاديث الصفات والرؤية .

وقالوا عنه : إنّه كان منهمكاً في اللذات والشراب ، وكان له أربعة آلاف سُرِّيّة ( أمَة يتسرّى بها ) .

وقال علي بن الجهم : كان المتوكل مشغوفاً بقبيحة أم المعتزّ ، والتي كانت أُم ولد له ، ومن أجل شغفه بها أراد تقديم ابنها المعتزّ على

ــــــــــــــ

(١) أُصول الكافي : ١ / ٤٩٨ ح ١ ب ١٢٢ .

٧٤

ابنه المنتصر بعد أن كان قد بايع له بولاية العهد ، وسأل المنتصر أن ينزل عن العهد فأبى ، فكان يُحضره مجلس العامّة ويحطّ منزلته ويتهدّده ويشتمه ويتوعّده(١) .

وكان المتوكل مسرفاً جداً في صرف بيت المال على الشعراء الذين يتقرّبون إليه بالمديح ـ في الوقت الذي كان عامة الناس يشتكون الفقر والحاجة ـ حتى قالوا : ما أعطى خليفة شاعراً ما أعطى المتوكّل ، وفيه قال مردان ابن أبي الجنوب :

فامسِك ندى كفّيك عنّي ولا تزد

فقد خفتُ أن أطغى وأن اتجبّرا

فقال المتوكل : لا أمسك حتى يغرقك جودي ، وكان قد أجازه على قصيدة بمائة ألف وعشرين ألفاً(٢) .

ولعلّ مَن وصف المتوكل بالجود سوف يتراجع عن وصفه إذا سمع أن المتوكّل قال للبحتري : قُل فيّ شعراً وفي الفتح بن خاقان ، فإنّي أحب أن يحيا معي ولا أفقده فيذهب عيشي ولا يفقدني ، فقل في هذا المعنى ، فقال البحتري :

يا سيّدي كيف أخلفتَ وعدي

وتثاقلت عن وفاء بعهدي ؟

لا أرتني الأيام فقدك يا فتـ

ـحُ ولا عَرَّقتْك ما عشتَ فقدي

أعظم الرزء أن تقدّمَ قبلي

ومن الرزء أن تؤخّر بعدي

حذراً أن تكون إلفاً لغيري

إذ تفرّدت بالهوى فيك وحدي

وقد قتل المتوكل والفتح بن خاقان في مجلس لهوهما في ساعة واحدة وفي جوف الليل في الخامس من شوّال سنة (٢٤٧ هـ) كما سوف يأتي بيانه .

ــــــــــــــ

(١) تاريخ الخلفاء : ٣٤٩ ـ ٣٥٠ .

(٢) تاريخ الخلفاء : ٣٤٩ ـ ٣٥٠ .

٧٥

الإمام الهاديعليه‌السلام والمتوكّل العبّاسي

وقد عُرف المتوكل ببغضه لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ولآل البيتعليهم‌السلام وشيعتهم ، ففي سنة (٢٣٦ هـ) أمر بهدم قبر الإمام الحسينعليه‌السلام وهدم ما حوله من الدور .

ومنع الناس من زيارته وأمر بمعاقبة مَن يتمرّد على المنع .

قال السيوطي : وكان المتوكّل معروفاً بالتعصّب فتألّم المسلمون من ذلك ، وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان والمساجد وهجاه الشعراء .

فمّما قيل في ذلك :

بالله إن كانت أُمية قد أتت

قتل ابن بنت نبيّها مظلوما

فلقد أتاه بنو أبيه بمثله

هذا لعمري قبره مهدوما

أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا

في قتله فتتبّعوه رميما(١)

ولم يقف المتوكّل عند حدّ في عدائه ونصبه لأهل البيتعليهم‌السلام وإيذاء شيعتهم فقد قتل معلّم أولاده إمام العربية يعقوب ابن السكّيت حين سأله : مَن أحب إليك ؟ هما ـ يعني ولديه المعتز والمؤيد ـ أو الحسن والحسين ؟ فقال ابن السكّيت : قنبر ـ يعني مولى علي ـ خير منهما ، فأمر الأتراك فداسوا بطنه حتى مات ، وقيل أمر بسلّ لسانه فمات ، وذلك في سنة (٢٤٤ هـ)(٢) .

وأهم حدث في زمن المتوكّل فيما يخص حياة أهل البيتعليهم‌السلام بحيث يكشف عمّا وصل إليه الرأي العام الإسلامي من التوجّه إليهم والاهتمام بهم في الوقت الذي كان العباسيون يفقدون فيه موقعهم في النفوس هو حدث إشخاص المتوكّل للإمام علي الهاديعليه‌السلام من مدينة جدّه ووطنه إلى سجون سُرّ مَن رأى بعيداً عن حواضر العلم والدين والأدب .

ــــــــــــــ

(١) تاريخ الخلفاء ، السيوطي : ٣٤٧ .

(٢) تاريخ الخلفاء : ٣٤٨ .

٧٦

ففي سنة (٢٣٤ هـ) أي بعد سنتين(١) من سيطرته على كرسي الخلافة أمر المتوكل يحيى بن هرثمة بالذهاب إلى المدينة والشخوص بالإمام إلى سامراء ، وكانت للإمامعليه‌السلام مكانة رفيعة بين أهل المدينة ، ولمّا همّ يحيى بإشخاصه اضطربت المدينة وضجّ أهلها كما ينقل يحيى نفسه ، حيث قال : دخلت المدينة فضجّ أهلها ضجيجاً عظيماً ، ما سمع الناس بمثله خوفاً على علي ـ أي الإمام الهاديعليه‌السلام ـ وقامت الدنيا على ساق ؛ لأنّه كان محسناً إليهم ملازماً المسجد ، لم يكن عنده ميل إلى الدنيا فجعلت أسكتهم ، وأحلف لهم أنّي لم أومر فيه بمكروه وأنّه لا بأس عليه ثم فتّشت منزله فلم أجد إلاّ مصاحف وأدعية ، وكتب علم ، فعظم في عيني(٢) .

ونستفيد من هذه الرواية أُموراً منها :

١ ـ قوّة تأثير الإمام الهاديعليه‌السلام وانشداد الناس إليه وتعلّقهم به لكثرة إحسانه إليهم ، ولأنّه يجسّد الرسول والرسالة في هديه وسلوكه .

٢ ـ خشية السلطة العباسية من تعاظم أمر الإمامعليه‌السلام ومن سهولة اتصال الجماعة الصالحة به ، وإشخاصه إلى سامراء يعتبر إبعاداً له عنهم ومن ثمّ يمكن وضعه تحت المراقبة الشديدة .

٣ ـ تأثّر قائد الجيش العباسي ـ يحيى بن هرثمة ـ بالإمامعليه‌السلام وتعظيمه له ; لكذب الاتهامات حوله بالنسبة لعدّ العدّة والسلاح للإطاحة

ــــــــــــــ

(١) إنّ تاريخ الرسالة التي استقدم بها المتوكل الإمام الهاديعليه‌السلام على ما في جملة من المصادر هو سنة (٢٤٤ هـ) وليس (٢٣٤ هـ) ، ويشهد لذلك ما صرّح به الشيخ المفيدقدس‌سره من أنّ مدّة إقامة الإمام الهادي بسُرّ مَن رأى عشر سنين وأشهراً ، وحيث استشهد في سنة (٢٥٤ هـ) فيظهر من ذلك أنّ استقدامه كان سنة (٢٤٤ هـ) أي بعد اثنتي عشرة سنة من حكم المتوكّل ، وهو غير بعيد .

(٢) تذكرة الخواص ، سبط ابن الجوزي : ٢٠٣ .

٧٧

بالخليفة العباسي .

٤ ـ عزوف الإمامعليه‌السلام عن الدنيا وملازمة المسجد متخذاً من سيرة آبائه نبراساً له ، ومن المسجد طريقاً لبثّ علوم أهل البيتعليهم‌السلام وتصحيح معتقدات الأمة .

٥ ـ عزل الإمامعليه‌السلام عن شيعته ومحبّيه ، فسامراء مدينة أسّسها المعتصم العباسي وكانت تسكنها غالبية تركية ( قوّاد وجنود ) ولم يكونوا يعبؤون بالدين والقيم قدر اهتمامهم بالسيطرة والسلطة .

الوشاية بالإمامعليه‌السلام

يبدو من بعض المصادر أنّ أحد أسباب إشخاص المتوكّل العباسي للإمام الهاديعليه‌السلام إلى سامراء هو وشاية إمام الحرمين الذي كان معروفاً بالنصب لأهل البيتعليهم‌السلام وقد كانت هذه الوشايات متتابعة ومتكرّرة ؛ وهذا دليل على عدم الارتياح لتواجد الإمام الهاديعليه‌السلام بالمدينة ، وتأثيره الكبير على الحرمين معاً وهما مركز الثقل العلمي والديني في الحاضرة الإسلامية .

ويشهد لذلك ما قالوا : من أنّه كتب بريحة العباسي(١) صاحب الصلاة بالحرمين إلى المتوكل : ( إن كان لك في الحرمين حاجة فأخرج علي بن محمد منهما فإنّه قد دعا إلى نفسه واتبعه خلق كثير ).

وتابع بريحة الكتب في هذا المعنى فوجّه المتوكل بيحيى بن هرثمة في سنة (٢٣٤ هـ) وكتب معه إلى أبي الحسنعليه‌السلام كتاباً جميلاً يعرّفه أنّه قد اشتاقه ويسأله القدوم عليه وأمر يحيى بالمسير معه كما يحب ، وكتب إلى بريحة يعرّفه ذلك .

ــــــــــــــ

(١) وقيل اسمه ( تريخه ) ، وعن الطريحي في مجمع البحرين : ( بريمة ) ، بينما ذكر آخرون أنّ اسمه عبد الله بن محمد وكان يتولّى الحرب والصلاة بمدينة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، اُنظر الإرشاد : ٢/٣٠٩ .

٧٨

وإليك نصّ رسالة المتوكل إلى الإمام الهاديعليه‌السلام ، حسبما رواه الشيخ محمد بن يعقوب الكليني : عن محمد بن يحيى ، عن بعض أصحابنا قال : أخذت نسخة كتاب المتوكل إلى أبي الحسن الثالثعليه‌السلام من يحيى بن هرثمة في سنة ثلاث وأربعين ومائتين وهذه نسخته : ( بسم الله الرحمن الرحيم ، أمّا بعد فإنّ أمير المؤمنين عارف بقدرك ، راع لقرابتك ، موجباً لحقّك يقدّر الأمور فيك وفي أهل بيتك ، ما أصلح الله به حالك وحالهم وثبت به عزّك وعزّهم ، وأدخل اليُمن والأمن عليك وعليهم يبتغي بذلك رضى ربّه وأداء ما افترض عليه فيك وفيهم ، وقد رأى أمير المؤمنين صرف عبد الله بن محمد عمّا كان يتولاّه من الحرب والصلاة بمدينة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ إذ كان على ما ذكرت من جهالته بحقّك واستخفافه بقدرك ، وعندما قرفك(١) به ، ونسبك إليه من الأمر الذي قد علم أمير المؤمنين براءتك منه وصدق نيّتك في ترك محاولته ، وأنّك لم تؤهّل نفسك له ، وقد ولّى أمير المؤمنين ما كان يلي من ذلك محمد بن الفضل ، وأمره بإكرامك وتبجيلك ، والانتهاء إلى أمرك ورأيك والتقرّب إلى الله والى أمير المؤمنين بذلك ، وأمير المؤمنين مشتاق إليك يحب إحداث العهد بك والنظر إليك فإن نشطت لزيارته والمقام قبله ما رأيت ، شخصت ومَن أحببت من أهل بيتك ومواليك وحشمك على مهلة وطمأنينة ترحل إذا شئت وتنزل إذا

ــــــــــــــ

(١) قرف : عابه أو اتّهمه .

٧٩

شئت ، وتسير كيف شئت ، وإن أحببت أن يكون يحيى بن هرثمة مولى أمير المؤمنين ومَن معه من الجند مشيّعين لك ، يرحلون برحيلك ، ويسيرون بسيرك ، والأمر في ذلك إليك حتى توافي أمير المؤمنين فما أحد من إخوته وولده وأهل بيته وخاصّته ألطف منه منزلة ولا أحد له أثرة ولا هو لهم أنظر وعليهم أشفق ، وبهم أبرُّ وإليهم أسكن منه إليك إن شاء الله تعالى والسلام عليك ورحمة الله وبركاته )(١) .

إنّ المتوكل قد كان يهدف في رسالته أُموراً إعلامية ودعائية أولاً تأثيراً في أهل المدينة ، محاولة منه لتغيير انطباعهم من جهة فالغالبية من أهل المدينة تعرف المتوكل وعداءه لأهل البيتعليهم‌السلام وشيعتهم.

وحاول ثانياً أن يُبدي للإمام الهاديعليه‌السلام أنّه يحترم رأيه ويقدّره ويعزّه ؛ لذا فقد أبدل والي المدينة بغيره ومن ثمّ جعل له الحرية في الشخوص إلى الخليفة كيف يشاء الإمامعليه‌السلام .

وتلك أساليب إن كانت تغري العامة فالإمامعليه‌السلام كان يدرك ما يرومه المتوكل ويهدف إليه في استدعائه .

وعلى أيّة حال فقد قدم يحيى بن هرثمة المدينة فأوصل الكتاب إلى بريحة ، وركبا جميعاً إلى أبي الحسنعليه‌السلام فأوصلا إليه كتاب المتوكل فاستأجلهما ثلاثاً ، فلمّا كان بعد ثلاث عاد إلى داره فوجد الدواب مسرجة والأثقال مشدودة قد فرغ منها .

ولا نغفل عن تفتيش يحيى لدار الإمامعليه‌السلام ممّا يعني أنّه كان مأموراً بذلك في الوقت الذي كان الكتاب ينفي عن الإمام أي اتّهام ضدّه .

ومن هنا نعلم أنّ استقدام الإمامعليه‌السلام كان أمراً إلزامياً له وإن كان بصيغة

ــــــــــــــ

(١) الكافي : ١ / ٥٠١ .

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

لم يكن جيش فرعون مانعا من العذاب الإلهي ، ولم تكن سعة مملكتهم وأموالهم وثراؤهم سببا لرفع هذا العذاب ، ففي النهاية أغرقوا في أمواج النيل المتلاطمة إذ أنّهم كانوا يتباهون بالنيل ، فبماذا تفكرون لأنفسكم وأنتم أقل عدّة وعددا من فرعون وأتباعه وأضعف؟! وكيف تغترون بأموالكم وأعدادكم القليلة؟!

«الوبيل» : من (الوبل) ويراد به المطر الشديد والثقيل ، وكذا يطلق على كل ما هو شديد وثقيل بالخصوص في العقوبات ، والآية تشير إلى شدّة العذاب النازل كالمطر.

ثمّ وجه الحديث إلى كفّار عصر بنيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويحذرهم بقوله :( فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً ) (١) (٢) .

بلى إنّ عذاب ذلك اليوم من الشدّة والثقيل بحيث يجعل الولدان شيبا ، وهذه كناية عن شدّة ذلك اليوم.

هذا بالنسبة لعذاب الآخرة ، وهناك من يقول : إنّ الإنسان يقع أحيانا في شدائد العذاب في الدنيا بحيث يشيب منها الرأس في لحظة واحدة.

على أي حال فإنّ الآية تشير إلى أنّكم على فرض أنّ العذاب الدنيوي لا ينزل عليكم كما حدث للفراعنة؟ فكيف بكم وعذاب يوم القيامة؟

في الآية الاخرى يبيّن وصفا أدقّ لذلك اليوم المهول فيضيف :( السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً ) .

إنّ الكثير من الآيات الخاصّة بالقيامة وأشراط الساعة تتحدث عن

__________________

(١) يوما مفعول به لتتقون ، و «تتقون» ذلك اليوم يراد به تتقون عذاب ذلك اليوم ، وقيل (يوم) ظرف لـ (تتقون) أو مفعول به لـ (كفرتم) والاثنان بعيدان.

(٢) «شيب» جمع (أشيب) ويراد به المسن ، وهي من أصل مادة شيب ـ على وزن عيب ـ والمشيب يعني تغير لون الشعر إلى البياض.

١٤١

انفجارات عظيمة وزلازل شديدة ومتغيرات سريعة ، والآية أعلاه تشير إلى جانب منها.

فما حيلة الإنسان الضعيف العاجز عند ما يرى تفطر السموات بعظمتها لشدّة ذلك اليوم؟!(١)

وفي النّهاية يشير القرآن إلى جميع التحذيرات والإنذارات السابقة فيقول تعالى :( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ ) .

إنّكم مخيرون في اختيار السبيل ، فمن شاء اتّخذ إلى ربّه سبيلا ، ولا فضيلة في اتّخاذ الطريق إلى الله بالإجبار والإكراه ، بل الفضيلة أن يختار الإنسان السبيل بنفسه وبمحض إرادته.

والخلاصة أنّ الله تعالى هدى الإنسان إلى النجدين ، وجعلهما واضحين كالشمس المضيئة في وضح النهار ، وترك الإختيار للإنسان نفسه حتى يدخل في طاعته سبحانه بمحض إرادته ، وقد احتملت احتمالات متعددة في سبب الإشارة إلى التذكرة ، فقد قيل أنّها إشارة إلى المواعظ التي وردت في الآيات السابقة ، وقيل هي إشارة إلى السورة بكاملها ، أو إشارة إلى القرآن المجيد.

ولعلها إشارة إلى إقامة الصلاة وقيام الليل كما جاء في الآيات من السورة ، والمخاطب هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والآية تدل على توسعة الخطاب وتعميمه لسائر المسلمين ، ولهذا فإنّ المراد من «السبيل» في الآية هو صلاة الليل ، والتي تعتبر سبيل خاصّ ومهمّة تهدي إلى الله تعالى ، كما ذكرت في الآية (٢٦) من سورة الدهر بعد أن أشير إلى صلاة الليل بقوله تعالى :( وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً ) .

ويقول بعد فاصلة قصيرة :( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً )

__________________

(١) «المنفطر» : من الانفطار بمعنى الإنشقاق ، والضمير (به) يعود لليوم ، والمعنى السماء منشقة بسبب ذلك اليوم والسماء جائزة للوجهين أي أنّه تذكر وتؤنث.

١٤٢

وهي بعينها الآية التي نحن بصدد البحث فيها(١) .

وبالطبع هذا التّفسير مناسب ، والأنسب منه أن تكون الآية ذات مفهوم أوسع حيث تستوعب هذه السورة جميع مناهج صنع الإنسان وتربيته كما أشرنا إلى ذلك سابقا.

* * *

ملاحظة

المراحل الأربع للعذاب الإلهي

الآيات السابقة تهدد المكذبين المغرورين بأربعة أنواع من العذاب الأليم : النكال ، الجحيم ، الطعام ذو الغصّة ، والعذاب الأليم ، هذه العقوبات في الحقيقة هي تقع في مقابل أحوالهم في هذه الحياة الدنيا.

فمن جهة كانوا يتمتعون بالحرية المطلقة.

الحياة المرفهة ثانيا.

لما لهم من الأطعمة السائغة من جهة ثالثة.

والجهة الرابعة لما لهم من وسائل الراحة ، وهكذا سوف يجزون بهذه العقوبات لما قابلوا هذه النعم بالظلم وسلب الحقوق والكبر والغرور والغفلة عن الله تعالى.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ١٤٧.

١٤٣

الآية

( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠) )

التّفسير

فاقرؤوا ما تيسر من القرآن :

هذه الآية هي من أطول آيات هذه السورة وتشتمل على مسائل كثيرة ، وهي مكملة لمحتوى الآيات السابقة ، وهناك أقوال كثيرة للمفسّرين حول ما إذا كانت

١٤٤

هذه الآية ناسخة لحكم صدر السورة أم لا ، وكذلك في مكّيتها أو مدنيتها ، ويتّضح لنا جواب هذه الأسئلة بعد تفسير الآية.

فيقول تعالى :( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ ) (١) .

الآية تشير إلى نفس الحكم الذي أمر به الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صدر السورة من قيام الليل والصلاة فيه ، وما أضيف في هذه الآية هو اشتراك المؤمنين في العبادة مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (بصيغة حكم استحبابي أو باحتمال حكم وجوبي لأنّ ظروف صدر الإسلام كانت تتجاوب مع بناء ذواتهم والاستعداد للتبليغ والدفاع عنه بالدروس العقائدية المقتبسة من القرآن المجيد ، وكذا بالعمل والأخلاق وقيام الليل ، ولكن يستفاد من بعض الرّوايات أنّ المؤمنين كانوا قد وقعوا في إشكالات ضبط الوقت للمدة المذكورة (الثلث والنصف والثلثين) ولذا كانوا يحتاطون في ذلك ، وكان ذلك يستدعي استيقاظهم طول الليل والقيام حتى تتورم أقدامهم ، ولذا بني هذا الحكم على التخفيف ، فقال :( عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) .

«لن تحصوه» : من (الإحصاء) وهو عد الشيء ، أي علم أنّكم لا تستطيعون إحصاء مقدار الليل الذي أمرتم بقيامه والإحاطة بالمقادير الثلاثة.

وقال البعض : إنّ معنى الآية أنّكم لا تتمكنون من المداومة على هذا العمل طيلة أيّام السنة ، ولا يتيسر لعامّة المكلّفين إحصاء ذلك لاختلاف الليالي طولا وقصرا ، مع وجود الوسائل التي توقظ الإنسان.

والمراد بـ( فَتابَ عَلَيْكُمْ ) خفف عليكم التكاليف ، وليس التوبة من الذنب ، ويحتمل أنّه في حال رفع الحكم الوجوبي لا يوجد ذنب من الأساس ، والنتيجة

__________________

(١) يجب الالتفات إلى أنّ (نصفه) و (ثلثه) معطوف على أدنى وليس على (ثلثي الليل) فيكون المعنى أنّه يعلم أنّك تقوم بعض الليالي أدنى من ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه ،. كذا الالتفات إلى أن أدنى تقال لما يقرب من الشيء ، وهنا إشارة إلى الزمن التقريبي.

١٤٥

تكون مثل المغفرة الإلهية.

وأمّا عن معنى الآية :( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) فقد قيل في تفسيرها أقوال ، فقال بعضهم : إنّها تعني صلاة الليل التي تتخللها قراءة الآيات القرآنية ، وقال الآخرون : إنّ المراد منها قراءة القرآن ، وإن لم تكن في أثناء الصلاة ، وفسّرها البعض بخمسين آية ، وقيل مائة آية ، وقيل مائتان ، ولا دليل على ذلك ، بل إنّ مفهوم الآية هو قراءة ما يتمكن عليه الإنسان.

وبديهي أنّ المراد من قراءة القرآن هو تعلم الدروس لبناء الذات وتقوية الإيمان والتقوى.

ثمّ يبيّن دليلا آخرا للتخفيف فيضيف تعالى :( عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ) ، وهذا تخفيف آخر كما قلنا في الحكم ، ولذا يكرر قوله «فاقرؤوا ما تيسر منه» ، والواضح أنّ المرض والأسفار والجهاد في سبيل الله ذكرت بعنوان ثلاثة أمثلة للأعذار الموجهة ولا تعني الحصر ، والمعنى هو أنّ الله يعلم أنّكم سوف تلاقون ، كثيرا من المحن والمشاكل الحياتية ، وبالتالي تؤدي إلى قطع المنهج الذي أمرتم به ، فلذا خفف عليكم الحكم.

وهنا يطرح هذا السؤال ، وهو : هل أنّ هذا الحكم ناسخ للحكم الذي ورد في صدر السورة ، أم هو حكم استثنائي؟ طاهر الآيات يدل على النسخ ، وفي الحقيقة أنّ الغرض من الحكم الأوّل في صدر السورة هو إقامة المنهج العبادي ، وهذا ما حصل لمدّة معينة ثمّ نسخ بعد ذلك بهذه الآية ، وأصبح أخف من ذي قبل ، لأنّ ظاهر الآية يدل على وجود معذورين ، فلذا حفف الحكم على الجميع ، وليس للمعذورين فحسب ، ولذا لا يمكن أن يكون حكما استثنائيا بل هو حكم ناسخ.

ويرد سؤال آخر ، هو : هل أنّ الحكم المذكور بقراءة ما تيسّر من القرآن واجب أم مستحب؟ إنّه مستحب ، واحتمل البعض الآخر الوجوب ، لأنّ قراءة القرآن تبعث على معرفة دلائل التوحيد ، وإرسال الرسل ، وواجبات الدين ، وعلى

١٤٦

هذا الأساس تكون القراءة واجبة.

ولكن يجب الالتفات إلى أنّ الإنسان لا يلزم بقراءة القرآن ليلا أثناء صلاة الليل ، بل يجب على المكلّف أن يقرأ بمقدار ما يحتاجه للتعليم والتربية لمعرفة اصول وفروع الإسلام وحفظه وإيصاله إلى الأجيال المقبلة ، ولا يختص ذلك بزمان ومكان معينين ، والحقّ هو وجوب القراءة لما في ظاهر الأمر (فاقرؤا كما هو مبيّن في اصول الفقه) إلّا أن يقال بقيام الإجماع على عدم الوجوب ، فيكون حينها مستحبا ، والنتيجة هي وجوب القراءة في صدر الإسلام لوجود الظروف الخاصّة لذلك ، واعطي التخفيف بالنسبة للمقدار والحكم ، وظهر الاستحباب بالنسبة للمقدار الميسّر ، ولكن صلاة الليل بقيت واجبة على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طيلة حياته (بقرينة سائر الآيات والرّوايات).

ونقرأ في حديث ورد عن الإمام الباقرعليه‌السلام حيث يقول : «... متى يكون النصف والثلث نسخت هذه الآية( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) واعلموا أنّه لم يأت نبيّ قط إلّا خلا بصلاة الليل ، ولا جاء نبي قط صلاة الليل في أوّل الليل»(١) .

والملاحظ في الآية ذكر ثلاثة نماذج من الأعذار ، أحدها يتعلق بالجسم (المرض) ، والآخر بالمال (السفر) ، والثالث بالدين (الجهاد في سبيل الله) ، ولذا قال البعض : إنّ المستفاد من الآية هو السعي للعيش بمثابة الجهاد في سبيل الله! وقالوا : إنّ هذه الآية مدنيّة بدليل سياقها في وجوب الجهاد ، إلّا أنّ الجهاد لم يكن في مكّة ، ولكن بالالتفات إلى قوله :( سَيَكُونُ ) يمكن أن تكون الآية مخبرة على تشريع الجهاد في المستقبل ، أي بسبب ما لديكم من الأعذار وما سيكون من الأعذار ، لم يكن هذا الحكم دائميا ، وبهذا الصورة يمكن أن تكون الآية مكّية ولا منافاة في ذلك.

ثمّ يشير إلى أربعة أحكام اخرى ، وبهذه الطريقة يكمل البناء الروحي للإنسان فيقول:( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ٤٥١.

١٤٧

تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

هذه الأوامر الأربعة (الصلاة ، الزكاة ، القروض المستحبة ، الاستغفار) مع الأمر بالقراءة والتدبر في القران الذي ورد من قبل تشكّل بمجموعها منهجا للبناء الروحي ، وهذا مهم للغاية بالخصوص لمن كان في عصر صدر الإسلام.

والمراد من «الصلاة» هنا الصلوات الخمس المفروضة ، والمراد من «الزكاة» الزكاة المفروضة ومن إقراض الله تعالى هو إقراض الناس ، وهذه من أعظم العبارات المتصورة في هذا الباب ، فإنّ مالك الملك يستقرض بمن لا يملك لنفسه شيئا ، ليرغبهم بهذه الطريقة للإنفاق والإيثار واكتساب الفضائل منها وليتربى ويتكامل بهذه الطريقة.

وذكر «الاستغفار» في آخر هذه الأوامر يمكن أن يكون إشارة إلى هذا المعنى وإيّاكم والغرور إذا ما أنجزتم هذه الطاعات ، وبأنّ تتصوروا بأنّ لكم حقّا على الله ، بل اعتبروا أنفسكم مقصرين على الدوام واعتذروا لله.

ويرى البعض أنّ التأكيد على هذه الأوامر هو لئلا يتصور المسلّم أنّ التخفيف سار على جميع المناهج والأوامر الدينية كما هو الحال في التخفيف الذي امر به النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه في قيام وقراءة القرآن ، بل إنّ المناهج والأوامر الدينية باقية على متانتها وقوّتها(١) .

وقيل إنّ ذكر الزكاة المفروضة في هذه الآية هو دليل آخر على مدنيّة هذه الآية ، لأنّ حكم الزكاة نزل بالمدينة وليس في مكّة ، ولكن البعض قال : إنّ حكم الزكاة نزل في مكّة من غير تعيين نصاب ومقدار لها ، والذي فرض بالمدينة تعيين الأنصاب والمقادير.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ١٥٦.

١٤٨

ملاحظات

١ ـ ضرورة الاستعداد العقائدي والثقافي

لغرض إيجاد ثورة واسعة في جميع الشؤون الحياتية أو إنجاز عمل اجتماعي ذي أهمية لا بدّ من وجود قوّة عزم بشرية قبل كل شيء ، وذلك مع الإعتقاد الراسخ ، والمعرفة الكاملة ، والتوجيه والفكري والثقافي الضروري والتربوي ، والتربية الأخلاقية ، وهذا ما قام به النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكّة في السنوات الاولى للبعثة ، بل في مدّة حياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولوجود هذا الأساس المتين للبناء أخذ الإسلام بالنمو السريع والرشد الواسع من جميع الجهات.

وما جاء في هذه السورة هو نموذج حي ومنطقي لهذا المنهج المدروس ، فقد خلّف القيام لثلثي الليل أو ثلثه وقراءة القرآن والتمعن فيه أثرا بالغا في أرواح المؤمنين ، وهيأهم لقبول القول الثقيل والسبح الطويل ، وتطبيق هذه الأوامر التي هي أشدّ وطأ وأقوم قيلا كما يعبّر عنه القرآن ، هي التي أعطتهم هذه الموفقية ، وجهزت هذه المجموعة المؤمنة القليلة ، والمستضعفة والمحرومة بحيث أهلتهم لإدارة مناطق واسعة من العالم ، وإذا ما أردنا نحن المسلمين إعادة هذه العظمة والقدرة القديمة علينا أن نسلك هذا الطريق وهذا المنهج ، ولا يجب علينا إزالة حكومة الصهاينة بالاعتماد على أناس عاجزين وضعفاء لم يحصلوا على ثقافة أخلاقية.

٢ ـ قراءة القرآن والتفكر

يستفاد من الرّوايات الإسلامية أنّ فضائل قراءة القرآن ليس بكثرة القراءة ، بل في حسن القراءة والتدبر والتفكر فيها ، ومن الطريف أنّ هناك رواية

وردت عن الإمام الرضاعليه‌السلام في تفسير ذيل الآية :( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ ) رواها عن

١٤٩

جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما تيسّر منه لكم فيه خشوع القلب وصفاء السر»(١) ، لم لا يكون كذلك والهدف الأساس للقراءة هو التعليم والتربية.

والرّوايات في هذا المعنى كثيرة.

٣ ـ السعي للعيش كالجهاد في سبيل الله

كما عرفنا من الآية السابقة فإنّ السعي لطلب الرزق جعل مرادفا للجهاد في سبيل الله ، وهذا يشير إلى أنّ الإسلام يعير أهمية بالغه لهذا الأمر ، ولم لا يكون كذلك فلأمّة الفقيرة والجائعة المحتاجة للأجنبي لا يمكن لها أن تحصل على الاستقلال والرفاه ، والمعروف أنّ الجهاد الاقتصادي هو قسم من الجهاد مع الأعداء ، وقد نقل في هذا الصدد قول عن الصحابي المشهور عبد الله بن مسعود : «أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا فباعه بسعر يومه كان عند الله بمنزلة الشهداء» ثمّ قرأ :( وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ ) (٢) .

اللهم! وفقنا للجهاد بكلّ أبعاده.

ربّنا! وفقنا لقيام الليل وقراءة القرآن الكريم وتهذيب أنفسنا بواسطة هذا النور السماوي.

ربّنا! منّ على مجتمعنا الإسلامي بمقام الرفعة والعظمة بالإلهام من هذه السورة العظيمة.

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة المزّمل

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٨٢.

(٢) مجمع البيان ، وتفسير أبي الفتوح ، وتفسير القرطبي ، ذيل الآية مورد البحث وقد نقل القرطبي حديثا عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشابه هذه الحديث ، فيستفاد من ذلك أنّ عبد الله بن مسعود قد ذكر الحديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس هو من قوله.

١٥٠
١٥١

سورة

المدّثّر

مكيّة

وعدد آياتها ستّ وخمسون آية

١٥٢

«سورة المدّثّر»

محتوى السورة :

لا شك أنّ هذه السورة هي من السور المكّية ولكن هناك تساؤل عن أنّ هذه السورة هل هي الاولى النازلة على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم نزلت بعد سورة العلق؟

يتّضح من التمعن في محتوى سورة العلق والمدثر أنّ سورة العلق نزلت في بدء الدعوة ، وأنّ سورة المدثر نزلت في زمن قد امر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه بالدعوة العلنية ، وانتهاء فترة الدعوة السرّية ، لذا قال البعض أنّ سورة العلق هي أوّل سورة نزلت في صدر البعثة ، والمدثر هي السورة الاولى التي نزلت بعد الدعوة العلنية ، وهذا الجمع هو الصحيح.

ومهما يكن فإنّ سياق السور المكّية التي تشير إلى الدعوة وإلى المبدأ والمعاد ومقارعة الشرك وتهديد المخالفين وإنذارهم بالعذاب الإلهي واضح الوضوح في هذه السورة.

يدور البحث في هذه السورة حول سبعة محاور وهي :

١ ـ يأمر الله تعالى رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإعلان الدعوة العلنية ، ويأمر أن ينذر المشركين ، وتمسك بالصبر والاستقامة في هذا الطريق والاستعداد الكامل لخوض هذا الطريق.

٢ ـ تشير إلى المعاد وأوصاف أهل النّار الذين واجهوا القرآن بالتكذيب والإعراض عنه.

١٥٣

٣ ـ الإشارة إلى بعض خصوصيات النّار مع إنذار الكافرين.

٤ ـ التأكيد على المعاد بالأقسام المكررة.

٥ ـ ارتباط عاقبة الإنسان بعمله ، ونفي كل أنواع التفكر غير المنطقي في هذا الإطار.

٦ ـ الإشارة إلى قسم من خصوصيات أهل النّار وأهل الجنّة وعواقبهما.

٧ ـ كيفية فرار الجهلة والمغرورين من الحقّ.

فضيلة السورة :

ورد في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من قرأ سورة المدثر اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بمحمّد وكذب به بمكّة»(١) .

وورد في حديث آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام قال : «من قرأ في الفريضة سورة المدثر كان حقّا على الله أن يجعله مع مجمّد في درجته ، ولا يدركه في حياة الدنيا شقاء أبدا»(٢)

وبديهي أنّ هذه النتائج العظيمة لا تتحقق بمجرّد قراءة الألفاظ فحسب ، بل لا بدّ من التمعن في معانيها وتطبيقها حرفيا.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٨٣.

(٢) المصدر السابق.

١٥٤

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠) )

التّفسير

قم وانذر النّاس :

لا شك من أنّ المخاطب في هذه الآيات هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن لم يصرح باسمه ، ولكن القرائن تشير إلى ذلك ، فيقول أوّلا :( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ ) فلقد ولى زمن النوم الاستراحة ، وحان زمن النهوض والتبليغ ، وورد التصريح هنا بالإنذار مع أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبشر ونذير ، لأنّ الإنذار له أثره العميق في إيقاظ الأرواح النائمة خصوصا في بداية العمل.

وأورد المفسّرون احتمالات كثيرة عن سبب تدثرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودعوته إلى القيام والنهوض.

١ ـ اجتمع المشركون من قريش في موسم الحج وتشاور الرؤساء منهم

١٥٥

كأبي جهل وأبي سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث وغيرهم في ما يجيبون به عن أسئلة القادمين من خارج مكّة وهم يناقشون أمر النّبي الذي قد ظهر بمكّة ، وفكروا في وأن يسمّي كلّ واحد منهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باسم ، ليصدوا الناس عنه ، لكنّهم رأوا في ذلك فساد الأمر لتشتت أقوالهم ، فاتفقوا في أن يسمّوه ساحرا ، لأنّ أحد آثار السحرة الظاهرة هي التفريق بين الحبيب وحبيبه ، وكانت دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أثّرت هذا الأثر بين الناس! فبلغ ذلك النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتأثر واغتم لذلك ، فأمر بالدثار وتدثر ، فأتاه جبرئيل بهذه الآيات ودعاه إلى النهوض ومقابلة الأعداء.

٢ ـ إنّ هذه الآيات هي الآيات الأولى التي نزلت على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما نقله جابر بن عبد الله قال : جاوزت بحراء فلمّا قضيت جواري نوديت يا محمّد ، أنت رسول الله ، فنظرت عن يميني فلم أر شيئا ، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ، ونظرت خلفي فلم أر شيئا ، فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض ، فملئت منه رعبا ، فرجعت إلى خديجة وقلت : «دثروني دثروني ، واسكبوا عليّ الماء البارد» ، فنزل جبرئيل بسورة :( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) .

ولكن بلحاظ أن آيات هذه السورة نظرت للدعوة العلنية ، فمن المؤكّد أنّها نزلت بعد ثلاث سنوات من الدعوة الخفية ، وهذا لا ينسجم والروية المذكورة ، إلّا أن يقال بأنّ بعض الآيات التي في صدر السورة قد نزلت في بدء الدعوة ، والآيات الأخرى مرتبطة بالسنوات التي تلت الدعوة.

٣ ـ إنّ النّبي كان نائما وهو متدثر بثيابه فنزل عليه جبرائيلعليه‌السلام موقظا إيّاه ، ثمّ قرأ عليه الآيات أن قم واترك النوم واستعد لإبلاغ الرسالة.

٤ ـ ليس المراد بالتدثر التدثر بالثياب الظاهرية ، بل تلبسهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنبوّة والرسالة كما قيل في لباس التقوى.

١٥٦

٥ ـ المراد به اعتزالهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانزواؤه واستعد لإنذار الخلق وهداية العباد(١) والمعني الأوّل هو الأنسب ظاهرا.

ومن الملاحظ أنّ جملة (فانذر) لم يتعين فيها الموضوع الذي ينذر فيه ، وهذا يدل على العمومية ، يعني إنذار الناس من الشرك وعبادة الأصنام والكفر والظلم والفساد ، وحول العذاب الإلهي والحساب المحشر إلخ (ويصطلح على ذلك بأن حذف المتعلق يدل على العموم). ويشمل ضمن ذلك العذاب الدنيوي والعذاب الاخروي والنتائج السيئة لأعمال الإنسان التي سيبتلى بها في المستقبل.

ثم يعطي للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خمسة أوامر مهمّة بعد الدعوة إلى القيام والإنذار ، تعتبر منهاجا يحتذي به الآخرون ، والأمر الأوّل هو في التوحيد ، فيقول :( وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ) (٢) .

ذلك الربّ الذي هو مالكك مربيك ، وجميع ما عندك فمنه تعالى ، فعليك أن تضع غيره في زاوية النسيان وتشجب على كلّ الآلهة المصطنعة ، وامح كلّ آثار الشرك وعبادة الأصنام.

ذكر كلمة (ربّ) وتقديمها على (كبّر) الذي هو يدل على الحصر ، فليس المراد من جملة «فكبر» هو (الله أكبر) فقط ، مع أنّ هذا القول هو من مصاديق التكبير كما ورد من الرّوايات ، بل المراد منه أنسب ربّك إلى الكبرياء والعظمة اعتقادا وعملا ، قولا فعلا وهو تنزيهه تعالى من كلّ نقص وعيب ، ووصفه

__________________

(١) أورد الفخر الرازي هذه التفاسير الخمسة بالإضافة إلى احتمالات أخرى في تفسيره الكبير ، واقتبس منه البعض الآخر من المفسّرين (تفسير الفخر الرازي ، ج ٣٠ ، ص ١٨٩ ـ ١٩٠).

(٢) الفاء من (فكبر) زائدة للتأكيد بقول البعض ، وقيل لمعنى الشرط ، والمعنى هو : لا تدع التكبير عند كلّ حادثة تقع ، (يتعلق هذا القول بالآيات الاخرى الآتية أيضا).

١٥٧

بأوصاف الجمال ، بل هو أكبر من أن يوصف ، ولذا ورد في الرّوايات عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام في معنى الله أكبر : «الله أكبر من أن يوصف» ، ولذا فإنّ التكبير له مفهوم أوسع من التسبيح الذي هو تنزيهه من كل عيب ونقص.

ثمّ صدر الأمر الثّاني بعد مسألة التوحيد ، ويدور حول الطهارة من الدنس فيضيف :( وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ) ، التعبير بالثوب قد يكون كناية عن عمل الإنسان ، لأنّ عمل الإنسان بمنزلة لباسه ، وظاهره مبين لباطنه ، وقيل المراد منه القلب والروح ، أي طهر قلبك وروحك من كلّ الأدران ، فإذا وجب تطهير الثوب فصاحبه اولى بالتطهير.

وقيل هو اللباس الظاهر ، لأنّ نظافة اللباس دليل على حسن التربية والثقافة ، خصوصا في عصر الجاهلية حيث كان الاجتناب من النجاسة قليلا وإن ملابسهم وسخة غالبا ، وكان الشائع عندهم تطويل أطراف الملابس (كما هو شائع في هذا العصر أيضا) بحيث كان يسحل على الأرض ، وما ورد عن الإمام الصّادقعليه‌السلام في معنى أنّه : «ثيابك فقصر»(١) ، ناظر إلى هذا المعنى.

وقيل المراد بها الأزواج لقوله تعالى :( هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ ) (٢) ، والجمع بين هذه المعاني ممكن ، والحقيقة أنّ الآية تشير إلى أنّ القادة الإلهيين يمكنهم إبلاغ الرسالة عند طهارة جوانبهم من الأدران وسلامة تقواهم ، ولذا يستتبع أمر إبلاغ الرسالة ولقيام بها أمر آخر ، هو النقاء والطهارة.

ويبيّن تعالى الأمر الثّالث بقوله :( وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) المفهوم الواسع للرجز كان سببا لأن تذكر في تفسيره أقوال مختلفة ، فقيل : هو الأصنام ، وقيل : المعاصي ، وقيل : الأخلاق الرّذيلة الذميمة ، وقيل : حبّ الدنيا الذي هو رأس كلّ خطيئة ، وقيل هو العذاب الإلهي النازل بسبب الترك والمعصية ، وقيل : كل ما يلهي

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٨٥.

(٢) البقرة ، ١٨٧.

١٥٨

عن ذكر الله.

والأصل أنّ معنى «الرجز» يطلق على الاضطراب والتزلزل(١) ثمّ اطلق على كل أنواع الشرك ، عبادة الأصنام ، والوساوس الشيطانية والأخلاق الذميمة والعذاب الإلهي التي تسبب اضطراب الإنسان ، فسّره البعض بالعذاب(٢) ، وقد اطلق على الشرك والمعصية والأخلاق السيئة وحبّ الدّنيا تجلبه من العذاب.

وما تجدر الإشارة إليه أنّ القرآن الكريم غالبا ما استعمل لفظ «الرجز» بمعنى العذاب(٣) ، ويعتقد البعض أنّ كلمتي الرجز والرجس مرادفان(٤) .

وهذه المعاني الثلاثة ، وإن كانت متفاوتة ، ولكنّها مرتبطة بعضها بالآخر ، وبالتالي فإنّ للآية مفهوما جامعا ، وهو الانحراف والعمل السيء ، وتشمل الأعمال التي لا ترضي اللهعزوجل ، والباعثة على سخر الله في الدنيا والآخرة ، ومن المؤكّد أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد هجر واتقى ذلك حتى قبل البعثة ، وتاريخه الذي يعترف به العدو والصديق شاهد على ذلك ، وقد جاء هذا الأمر هنا ليكون العنوان الأساس في مسير الدعوة إلى الله ، وليكون للناس أسوة حسنة.

ويقول تعالى في الأمر الرّابع :( وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ) .

هنا التعلق محذوف أيضا ، ويدل على سعة المفهوم كليته ، ويشمل المنّة على الله والخلائق ، أي فلا تمنن على الله بسعيك واجتهادك ، لأنّ الله تعالى هو الذي منّ عليك بهذا المقام المنيع.

ولا تستكثر عبادتك وطاعتك وأعمالك الصالحة ، بل عليك أن تعتبر نفسك مقصرا وقاصرا ، واستعظم ما وفقت إليه من العبادة.

__________________

(١) مفردات الراغب.

(٢) الميزان ، في ظلال القرآن.

(٣) راجع الآيات ، ١٣٤ ـ ١٣٥ من سورة الأعراف ، والآية ٥ من سورة سبأ ، والآية ١١ من سورة الجاثية ، والآية ٥٩ من سورة البقرة ، والآية ١٦٢ من سورة الأعراف ، والآية ٣٤ من سورة العنكبوت.

(٤) وذكر ذلك في تفسير الفخر الرازي بصورة احتمال ، ج ٣٠ ، ص ١٩٣.

١٥٩

وبعبارة أخرى : لا تمنن على الله بقيامك بالإنذار ودعوتك إلى التوحيد وتعظيمك لله وتطهيرك ثيابك وهجرك الرجز ، ولا تستعظم كل ذلك ، بل أعلم أنّه لو قدمت خدمة للناس سواء في الجوانب المعنوية كالإرشاد والهداية ، أم في الجوانب المادية كالإنفاق والعطاء فلا ينبغي أن تقدمها مقابل منّة ، أو توقع عوض أكبر ممّا أعطيت ، لأنّ المنّة تحبط الأعمال الصالحة :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ) (١) .

«لا تمنن» من مادة «المنّة» وتعني في هذه الموارد الحديث عن تبيان أهمية النعم المعطاة للغير ، وهنا يتّضح لنا العلاقة بينه وبين الاستكثار ، لأنّ من يستصغر عمله لا ينتظر المكافأة ، فكيف إذن بالاستكثار ، فإنّ الامتنان يؤدي دائما إلى الاستكثار ، وهذا ممّا يزيل قيمة النعم ، وما جاء من الرّوايات يشير لهذا المعنى : «لا تعط تلتمس أكثر منها»(٢) كما جاء في حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير الآية : «لا تستكثر ما عملت من خير لله»(٣) وهذا فرع من ذلك المفهوم.

ويشير في الآية الأخرى إلى الأمر الأخير في هذا المجال فيقول :( وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ) ، ونواجه هنا مفهوما واسعا عن الصبر الذي يشمل كلّ شيء ، أي اصبر في طريق أداء الرسالة ، واصبر على أذى المشركين الجهلاء ، واستقم في طريق عبودية الله وطاعته ، واصبر في جهاد النفس وميدان الحرب مع الأعداء.

ومن المؤكّد أنّ الصبر هو ضمان لإجراء المناهج السابقة ، والمعروف أنّ الصبر هو الثروة الحقيقية لطريق الإبلاغ والهداية ، وهذا ما اعتمده القرآن الكريم

__________________

(١) البقرة ، ٢٦٤.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤٥٤ ، وتفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ٤٠٠.

(٣) المصدر السابق.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221