الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية

الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية6%

الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية مؤلف:
الناشر: ياس زهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 580

الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية
  • البداية
  • السابق
  • 580 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 191744 / تحميل: 8169
الحجم الحجم الحجم
الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية

الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية

مؤلف:
الناشر: ياس زهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

تتّسعوا اتهموه ووصفوه بالبخل أو القصور والتقصير وغير ذلك - والعياذ بالله -، وليس عليهم إلاّ أن يلتفتوا إلى قدرهم وصغر حجمهم.

الحب في الله لأبي عبد اللهعليه‌السلام

من الواجب علينا أن نتعبأ من المودّة والحبّ لأهل البيتعليهم‌السلام ليس أكثر، فأحبَّ اُولئك الأنوار لله تعالى ولوجه الله الحقّ، ولذواتهم المقدّسة؛ لأنّك مفطور على هذا الحبّ، ومأمور بتلك المودّة.

يروى أنّه وفد إلى الإمام الحسينعليه‌السلام وفد فقالوا: يابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إنّ أصحابنا وفدوا إلى معاوية ووفدنا نحن إليك.

فقالعليه‌السلام :((إذن أُجيزكم بأكثر ممّا يُجيزهم)) .

فقالوا: جُعلنا فداك! إنّما جئنا مرتادين لديننا.

قال: فطأطأ رأسه الشريف ونكت في الأرض وأطرق طويلاً، ثم رفع رأسه فقال:((قصيرةٌ من طويلة، مَنْ أحبّنا لم يُحبّنا لقرابةٍ بيننا وبينه، ولا لمعروفٍ أسديناه إليه، إنّما أحبّنا لله ورسوله، فمَنْ أحبّنا جاء معنا يوم القيامة كهاتين - وقرن بين سبابتيه -)) (١) .

تأمّل، إنّها لا تحتاج إلى طويل الشرح وكثير التفريع والتفصيل رغم أنّها تستوعب ذلك؛ فإنّ الحبّ والوِدّ يجب أن يكون خالصاً مخلصاً لوجه الله وليس لأيّ قرابة نسبيّة أو خدمة دنيويّة، والفاعل لها فإنّه سيُحشر معهم في يوم

_____________________

١ - أعلام الدين / ٤٦٠.

١٤١

القيامة، ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول:((المرءُ يُحشر مع مَنْ أحب)) (١) .

وفي حديث آخر عن المعصوم:((أليس الدين كُله الحبَّ في اللهِ، والبغض في الله؟)) (٢) .

وذلك لأنّ الحبّ في الله ولله يأتي نقيّاً دون شوائب، أمّا حبّ الدنيا فإنّه كالدنيا فيه من القاذورات والأوساخ المعنوية الشيء الكثير، وفي رواية للإمام الحسينعليه‌السلام :((مَنْ أحبّنا لله وردنا نحن وهو على نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله هكذا - وضمّ إصبعيه -،ومَنْ أحبّنا للدنيا فإنّ الدنيا لتسع البرّ والفاجر، فإنّه إذا قام قائم العدل وسع عدله البرّ والفاجر)) (٣) .

عليك يا عزيزي ليس بالحبّ فقط، بل بالطاعة والاقتداء بأئمّتك من أهل البيتعليهم‌السلام ، والإمام الحسينعليه‌السلام عليك أن تعرفه وتعشقه وتطيعه في كلّ ما أمركَ به الشرع المقدّس، وإلاّ كنت مدّعياً للحبّ والولاء ولست صادقاً في قولك إذا لم يقترن بالأفعال.

وللإمام الحسينعليه‌السلام الكثير من الخطب التي تُعلن عن هذا المنهج النوراني الصريح، أعلنها الإمامعليه‌السلام على رؤوس الأشهاد، وأمام الجيش الأموي كلّه، وقبل ذلك أمام الملك الأوّل للدولة الأمويّة معاوية بن أبي سفيان، وكم هي قصص الإمام مع ذلك الرجل الحاكم لأكبر دولة في العالم لذلك العصر.

_____________________

١ - بحار الأنوار ٦٦ / ٨٠.

٢ - مستدرك الوسائل ١٥ / ١٢٨.

٣ - أمالي الشيخ الطوسي ١ / ٢٥٩.

١٤٢

طاعة الحسينعليه‌السلام مفروضة

عن موسى بن عقبة أنّه قال: لقد قيل لمعاوية أنّ الناس قد رموا أبصارهم إلى الحسينعليه‌السلام ، فلو قد أمرته أن يصعد المنبر فيخطب؛ فإنّ فيه حصراً وفي لسانه كلالة.

فقال لهم معاوية: قد ظنّنا ذلك بالحسن، فلم يزل حتّى عظم في أعين الناس وفضحنا.

فلم يزالوا به حتّى قال للحسينعليه‌السلام : يا أبا عبد الله، لو صعدت المنبر فخطبت.

فصعد الحسينعليه‌السلام على المنبر فَحَمَدَ اللهَ وأثنى عليه، وصلّى على النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فسمع رجلاً يقول: مَنْ هذا الذي يخطب؟

فقال الحسينعليه‌السلام :((نحنُ حزبُ الله الغالبون، وعترة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الأقربون، وأهل بيته الطيّبون، وأحد الثقلين الذين جعلنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثاني كتاب الله تبارك وتعالى الذي فيه تفصيل كلُّ شيء، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والمعوّل علينا في تفسيره، ولا يُبطئنا تأويله، بل نتّبع حقائقه، فأطيعونا؛ فإنّ طاعتنا مفروضةٌ، إذ كانت بطاعة الله ورسوله مقرونة، قال الله عزّ وجلّ: ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ ) (١) ،وقال: ( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ

_____________________

١ - سورة النساء / ٥٩.

١٤٣

وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاّ قَلِيلاً ) (١) .

وأحذركم الإصغاء إلى هتوف الشيطان بكم؛ فإنّه لكم عدوّ مبين، فتكونوا كأوليائه الذين قال لهم: ( لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ منكم ) (٢) فتلقون للسيوف ضرباً، وللرماح ورداً، وللعمد حطماً، وللسهام غرضاً، ثمّ لا يُقبل من نفسٍ إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً)) .

قال معاوية: حسبك يا أبا عبد الله فقد أبلغت(٣) .

هل سمعت مثل هذا البيان الواضح إلاّ من جدّه وأبويه (صلوات الله عليهم جميعاً)، إنّهم من أهل البيت الذين زقّوا العلم زقّاً، وآتاهم الله الحكم صغاراً وكباراً.

فطاعة أهل البيتعليهم‌السلام هي طاعة للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبالتالي هي طاعة لله بالطول وليس بالعرض، وآية الولاية والتصدق بالخاتم تؤكّد ذلك مع كثير من الآيات القرآنية الشريفة.

وعلينا أن نبحث عن الحقيقة ونتمسّك بها ونحافظ عليها، لا أن نكون كمعاوية الذي لم يحفظ رسوله الكريم المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله في أهل بيته، بل طغى

_____________________

١ - سورة النساء / ٨٣.

٢ - سورة الأنفال / ٤٨.

٣ - الاحتجاج ٢ / ٢٢ - ٢٣، مناقب ابن شهر آشوب ٤ / ٦٧.

١٤٤

وبغى حتّى قاتل الإمام علياًعليه‌السلام ، رأس العترة وسيّدهم في صفين، ثمّ دسَّ السمّ إلى الإمام الحسن السبطعليه‌السلام ، وأراد الوقيعة بالإمام الحسينعليه‌السلام فلم يستطع.

وإليك أخي الكريم بعض أحوال الإمام الحسينعليه‌السلام مع ذاك الطاغيّة الباغيّة، وأهل بيته الشجرة الملعونة في القرآن كما في سورة الإسراء المباركة، والشجرة الخبيثة كما في سورة إبراهيم المباركة، وأقربائهم صبية النار، والأوزاغ الملعونين إلى يوم القيامة على لسان الحبيب المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته الأطهارعليهم‌السلام .

رأفة الإمام الحسينعليه‌السلام وموقف مروان بن الحكم

يروى أنّ مروان بن الحكم قال يوماً للحسين بن عليعليهما‌السلام بمحضر من رجالات قريش: لولا فخركم بفاطمة بِمَ كنتم تفتخرون علينا؟

فوثب الحسينعليه‌السلام - وكان شديد القبضة - فقبض على حلقه فعصره، ولوى عمامته على عنقه حتّى غشي عليه ثمّ تركه، وأقبل الإمامعليه‌السلام على القوم فقال:((أنشدكم بالله إلاّ صدّقتموني إن صدقت. أتعلمون أنّ في الأرض حبيبين كانا أحبّ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله منّي ومن أخي؟ أو على ظهر الأرض ابن بنت نبيّ غيري وغير أخي؟)) .

قالوا: اللهمّ لا.

قالعليه‌السلام :((وإنّي لا أعلم في الأرض ملعوناً ابن ملعون غير هذا (مروان) وأبيه، طريدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله . والله ما بين جابرس وجايلق، أحدهما بباب

١٤٥

المشرق والآخر بباب المغرب، رجلان ممّن ينتحل الإسلام أعدى لله ولرسوله ولأهل بيته منك ومن أبيك؛ إذ كان علامةُ قولي فيك أنّك إذا غضبت سقط رداؤك عن منكبك)) .

قال: فو الله ما قام مروان من مجلسه حتّى غضب، فانتفض وسقط رداؤه عن عاتقه(١) .

هذا هو (الوزغ ابن الوزغ) كما في الرواية عن الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا الملعون سيصبح أمير المؤمنين بعد حين، ويخطب باسمه في جميع بلاد المسلمين، ويتعاقب على الحكم الأموي سبعة أكباش من صلبه الملعون.

وفي معركة الجمل للإمام الحسينعليه‌السلام مع هذا الوزغ حوادث وأحداث جسام عظام، تخبرك عن عظيم أخلاق الإمامعليه‌السلام ، وفادح حقارة ودناءة ذاك الوزغ، منها تلك التي حدثت في يوم معركة الجمل حيث كان مروان وجماعته مع المرأة وأتباع الجمل الأدْبَب، عسكر ذاك الشيطان.

فعندما عُقر الجمل وفرَّ أصحابه، وقُتل طلحة(٢) والزبير، وأُسرت عائشة، كان من الفارّين عبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم ومَنْ لفَّ لفهم، فأرسل مروان يستغيث بالإمامين الحسنينعليهما‌السلام ؛ ليشفعا له عند أبيهما أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، حيث كانوا يخافون على أنفسهم حدَّ السيف.

فخفّا إلى أبيهما وكلّماه في شأنه، وقالا له:((يُبايعك يا أمير المؤمنين)) .

_____________________

١ - المناقب ٤ / ٥١، الاحتجاج ٢ / ٦٩، موسوعة البحار ٤٤ / ٢٠٦.

٢ - علماً أنّ مروان بن الحكم هو الذي قتل طلحة في يوم الجمل، وذلك حين رآه يريد الفرار، فرماه بسهم فقتله.

١٤٦

فقالعليه‌السلام :((أوَ لم يُبايعني بعد قتل عثمان، لا حاجة لي في بيعته؛ إنّها كفٌ يهودية، لو بايعني بكفّه لغدر بسبابته (أو بسبته)، أما أنّ له إمرةً كلعقة الكلب أنفه، وهو أبو الأكبُش الأربعة، وستلقى الأُمّة منه ومن ولده يوماً أحمر!)) (١) .

وما زالا يتلطّفان به حتّى عفا عنه، إلاّ أنّ هذا الوغد قد تنكّر لهذا المعروف، وقابل السبطين بكلّ ما يملك من وسائل الشرّ، فهو الذي منع جنازة الإمام الحسنعليه‌السلام أن تُدفن بجوار جدّه وأمطرها بسهامه، وهو الذي أشار على الوليد بقتل الإمام الحسينعليه‌السلام إن امتنع من البيعة ليزيد(٢) .

لقد كان ذلك في المدينة المنوّرة عندما هلك معاوية واستولى على كرسي الخلافة يزيد الفاسق الفاجر، فقد أرسل إلى الوليد والي المدينة يخبره الخبر، ويأمره بأخذ البيعة من الناس مع ورقة صغيرة كتب فيها: خذ الحسين وعبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذاً شديداً عنيفاً ليست فيه رخصة، ومَنْ أبى عليك منهم فاضرب عنقه وابعث إليّ برأسه(٣) .

وبعث الوليد إلى الإمام الحسينعليه‌السلام فوضع خطّة مع فتيان بني هاشم الأجاويد بحيث لا يمكّن الوليد من نفسه، وعندما استقرَّ المجلس بأبي عبد اللهعليه‌السلام نعى الوليد إليه معاوية، ثمّ عرض عليه البيعة ليزيد، فقالعليه‌السلام :((مثلي

_____________________

١ - بحار الأنوار ٣٢ / ٢٣٤، نهج البلاغة / ١٠٢، ضبط د. صبحي صالح - ط دار الكتاب - بيروت.

٢ - حياة الإمام الحسين بن علي ١ / ١٢٦.

٣ - مقتل الحسين - للخوارزمي ١ / ١٧٨.

١٤٧

لا يُبايع سرّاً، فإذا دعوت الناس إلى البيعة دعوتنا معهم، فكان أمراً واحداً)) (١) .

فاقتنع الوليد منه، ولكن مروان ابتدر قائلاً: إن فارقك الساعة ولم يبايع لم تقدر منه على مثلها حتّى تكثر القتلى بينكم، ولكن احبس الرجل حتّى يبايع أو تضرب عنقه.

فقال الحسينعليه‌السلام :((يابن الزّرقاء، أنت تقتلني أم هو؟ كذبت وأثمت!)) .

ثمّ أقبلعليه‌السلام على الوليد، وقال:((أيّها الأمير، إنّا أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد رجلٌ شارب الخمور، وقاتل النفس المحرمة، معلنٌ بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون أيّنا أحقُّ بالخلافة)) .

وارتفعت الأصوات فيما بينهم، وخرج الإمام الحسينعليه‌السلام من بينهم قهراً، فقال مروان للوليد: عصيتني، فو الله لا يمكنك من مثلها أبداً.

قال الوليد: وبّخ غيرك يا مروان! اخترت لي ما فيه ذهاب ديني، أأقتلُ حسيناً إنْ قال لا أبايع، والله لا أظنّ امرأً يُحاسب بدم الحسين إلاّ خفيف الميزان يوم القيامة، ولا ينظر الله إليه ولا يزكّيه وله عذاب أليم!(٢) .

انظر واعجب من جرأة هذا الوزغ على الله وعلى أوليائه الكرام الميامين، وهو من أشرّ خلق الله، يأمر بضرب عنق وقتل ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، الإمام في ذاك الزمان، المفترض الطاعة والولاية على الأُمّة جمعاء، إلاّ أنّ عذره كان بيِّناً

_____________________

١ - تاريخ الطبري ٦ / ١٨٩.

٢ - مقتل الحسين - للمقرّم / ١٣١، الخوارزمي / ١٨٣، واللهوف / ١٣.

١٤٨

في أوّل كلام الإمام الحسينعليه‌السلام ، حيث عرَّفه جيداً بأنّه ابن الزرقاء، تلك البغي التي كانت من أصحاب الرايات المومسات.

موقف آخر مع عمرو بن العاص

وإليك نموذج آخر، إنّه من عمرو بن العاص بن ليلى، أرخص بغايا العرب في عصرها، ولقد كانت له قصص كثيرة ومثيرة مع أبناء الطهر المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله ووصيه أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، أكتفي بهذه الحادثة اللطيفة، حيث تروي كتب التاريخ والأدب أنّ عمرو بن العاص قال للإمام الحسينعليه‌السلام : يابن علي، ما بال أولادنا أكثر من أولادكم؟

فقالعليه‌السلام :

بغاثُ الطيرِ أكثرها فراخاً

وأُمُّ الصقرِ مقلاة نزور(١)

فقال: ما بال الشيب إلى شواربنا أسرع منه في شواربكم؟

فقالعليه‌السلام :((إنّ نساءكم نساءٌ بخرةٌ (كريهة رائحة الفم)، فإذا دنا أحدكم من امرأته نكهت في وجهه فيُشاب منه شاربه)) .

فقال: ما بال لحاكم أوفر من لحانا؟

_____________________

١ - الشعر لعباس بن مرداس السلمي. بغاث الطير: شرارها وما لا يصاد منها. المقلاة من النوق التي تضع واحداً ثمّ لا تحمل بعده، والمقلاة من النساء التي لا يعيش لها ولد. النزور: المرأة القليلة الولد.

١٤٩

فقالعليه‌السلام :(( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاّ نَكِداً )) (١) .

فقال معاوية لعمرو: بحقّي عليك إلاّ سكتّ؛ فإنّه ابن عليّ بن أبي طالب.

فقالعليه‌السلام :

إن عادتْ العقربُ عُدنا لها

وكانت النعلُ لها حاضره

قد علمت عقربُ واستيقنت

أن لا لها دنيا ولا آخره(٢)

كان دأب اُولئك الأشرار أن ينقصوا من أهل البيت الأطهارعليهم‌السلام ، إلاّ أنّ الله سبحانه كان يخذلهم دائماً وأبداً على أيدي الأئمّة وأتباعهم المخلصين، وهذا ديدن الحقّ في مقابل الباطل.

رسالة الإمام الحسينعليه‌السلام لمعاوية

وقبل أن أغادر هذا المقام فإنّني أحبّ أن أختمه برسالة كتبها الإمام الحسينعليه‌السلام ردّاً على رسالة إليه من معاوية بن أبي سفيان، عندما وشى مروان بن الحكم والي المدينة إلى معاوية عن الإمام الحسينعليه‌السلام بأنّه يعدُّ العدّة للخروج والثورة عليه.

روي أنّ مروان بن الحكم كتب إلى معاوية وهو عامله على المدينة: أمّا بعد، فإنّ عمرو بن عثمان ذكر أنّ رجالاً من أهل العراق ووجوه أهل

_____________________

١ - سورة الأعراف / ٥٨.

٢ - المناقب لآل أبي طالب ٤ / ٦٧.

١٥٠

الحجاز يختلفون إلى الحسين بن علي، وذكر أنّه لا يأمن وثوبه، وقد بحثت عن ذلك فبلغني أنّه لا يريد الخلاف يومه هذا، ولست آمن أن يكون هذا أيضاً لما بعده؛ فاكتب إليَّ برأيك في هذا، والسّلام.

فكتب إليه معاوية: أمّا بعد، فقد بلغني كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه من أمر الحسين، فإيّاك أن تعرض للحسين في شيء، واترك حسيناً ما تركك، فإنّا لا نريد أن نعرض له في شيء ما وفى ببيعتنا، ولم ينزُ على سلطاننا، فاكمن عنه ما لم يبد لك صفحته، والسّلام.

وكتب معاوية إلى الحسين بن عليعليه‌السلام : أمّا بعد، فقد انتهت إليَّ أمور عنك إن كانت حقّاً فقد أظنّك تركتها رغبة فدعها، ولعمر الله، إنّ مَنْ أعطى الله عهده وميثاقه لجدير بالوفاء، وإن كان الذي بلغني باطلاً فإنّك أنت أعزل الناس لذلك، وعظ نفسك فاذكره، ولعهد الله أوف؛ فإنّك متى ما تنكرني أنكرك، ومتى ما تكدني أكدك، فاتّقِ شقّ عصا هذه الأُمّة، وأن يؤدّهم الله على يديك في فتنة، فقد عرفت الناس وبلوتهم، فانظر لنفسك ولدينك، ولأمّة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا يستخفنَّك السفهاء الذين لا يعلمون.

فلمّا وصل الكتاب إلى الحسين (صلوات الله عليه) كتب إليه:((أمّا بعد، فقد بلغني كتابُك، تذكرُ فيه أنّه قد بلغك عنّي أُمورٌ أنت لي عنها راغبٌ، وأنا لغيرها عندك جديرٌ، فإنّ الحسنات لا يهدي لها، ولا يردُّ إليها إلاّ الله.

١٥١

وأمّا ما ذكرت أنّه انتهى إليك عنّي، فإنّه إنّما رقاه إليك عنّي الملاّقون المشاؤون بالنميم، وما أُريد لك حرباً ولا عليك خلافاً، وأيمُ الله، إني لخائف لله في ترك ذلك، وما أظنّ الله راضياً بترك ذلك، ولا عاذراً بدون الإعذار فيه إليك، وفي أوليائك القاسطين الملحدين، حزب الظلمة وأولياء الشياطين.

ألستَ القاتل حجر بن عدي أخا كندة والمصلين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم ويستعظمون البدع، ولا يخافون في الله لومة لائم؟ ثمّ قتلتهم ظلماً وعدواناً من بعد ما كنتَ أعطيتهم الأيمان المغلّظة، والمواثيق المؤكّدة لا تأخذهم بحدثٍ كان بينك وبينهم، ولا بإحنةٍ تجدها في نفسك؟

أوَ لستَ قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، العبد الصالح الذي أبلته العبادة فنحل جسمه وصفرّ لونه؟ بعد ما أمّنته وأعطيته من عهود الله ومواثيقه ما لو أعطيته طائراً لنزل إليك من رأس الجبل، ثمّ قتلته جُرأة على ربّك واستخفافاً بذلك العهد؟

أوَ لستَ المدّعي زياد بن سُميّة، المولود على فراش عبد ثقيف؟ فزعمت أنّه ابن أبيك، وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : الولد للفراش، وللعاهر الحجر. فتركت سُنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تعمّداً، وتبعت هواك بغير هدى من الله، ثمّ سلّطته على العراقيين يقطع أيدي المسلمين وأرجلهم، ويسمل أعينهم، ويصلبهم على جذوع النخل، كأنّك لست من هذه الأُمّة وليسوا منك؟!

أوَ لستَ صاحب الحضرميين الذين كتب فيهم ابن سُميّة أنّهم كانوا

١٥٢

على دين علي عليه‌السلام ؟ فكتبت إليه أن اقتل كلّ مَنْ كان على دين علي، فقتلهم ومثّل بهم بأمرك، ودينُ علي عليه‌السلام سرّ الله الذي كان يُضرب عليه أباك ويضربك، وبه جلست مجلسك الذي جلست، ولولا ذلك لكان شرفك وشرف أبيك الرحلتين .

وقلت فيما قلت: انظر لنفسك ولدينك ولأُمّة محمد، واتّقِ شقّ عصا هذه الأُمّة، وأن تردهم إلى فتنة. وإنّي لا أعلم فتنة أعظم على هذه الأُمّة من ولايتك عليها، ولا أعلم نظراً لنفسي ولديني ولأُمّة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل من أن أجاهدك، فإن فعلت فإنّه قربةٌ إلى الله، وإن تركته فإنّي أستغفر الله لديني، وأسأله توفيقه لإرشاد أمري.

وقلت فيما قلت: أنّك إن أنكرك تنكرني، وإن أكدك تكدني، فكدني ما بدا لك؛ فإنّي أرجو أن لا يضرّني كيدك فيّ، وأن لا يكون على أحدٍ أضرّ منه على نفسك، لأنّك قد ركبت جهلك، وتحرّصت على نقض عهدك، ولعمري ما وفيت بشرط.

ولقد نقضت عهدك بقتلك هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والإيمان، والعهود والمواثيق، فقتلتهم من غير أن يكونوا قاتلوا وقتلوا، ولم تفعل ذلك بهم إلاّ لذكرهم فضلنا، وتعظيمهم حقّنا، فقتلتهم مخافة أمرٍ لعلك لو لم تقتلهم متّ قبل أن يفعلوا، أو ماتوا قبل أن يدركوا.

فأبشر يا معاوية بالقصاص، واستيقن بالحساب، واعلم أنّ لله تعالى كتاباً لا يُغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها، وليس الله بناسٍ لأخذك بالظنّة، وقتلك أولياءه على التهم، ونفيك أولياءه من دورهم إلى دار الغربة، وأخذك للناس بيعة ابنك غلام حدث، يشرب الخمر، ويلعب

١٥٣

بالكلاب، لا أعلمك إلاّ وقد خسرت نفسك، وتبّرت دينك، وغششت رعيتك، وأخربت أمانتك، وسمعت مقالة السفيه الجاهل، وأخفت الورع التقي لأجلهم، والسّلام)) (١) .

أخي القارئ، لم أعلّق على هذه الرسالة؛ لوضوح الحقيقة، وكما يُقال: توضيح الواضحات من أشكل المشكلات، بل تركته لذوقك الرفيع، وأخلاقك العالية؛ لتعرف ما بين السطور.

إنّك لو تأمّلت رسالة معاوية فقط لتصوّرت أنّه رجل قديس؟ ولكنّ جواب الإمامعليه‌السلام كشف الحقيقة، وزيف حال الرجل.

_____________________

١ - راجع رجال الكشي ١ / ٢٥٠ - ٢٥٩ ح٩٧ - ٩٩، والغدير ١٠ / ١٦٠، والإمامة والسياسة ١ / ١٨٠.

١٥٤

الفصل الثامن: النبوّة والإمامة توأمان

١٥٥

١٥٦

الإمام الحسينعليه‌السلام هو ابن الإمام عليعليه‌السلام ، هو ابن الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، هو ابن الرسالة الإسلاميّة، وأخلاقه القرآن.

والنبوّة هي بعثة من الله لبني البشر، أمّا الإمامة فهي امتدادٌ رساليٌ وتأويليّ إلهيّ لتلك الرسالة، وإلاّ لخلت الأرض من الحجّة، ولو خلت لساخت بأهلها.

وفي رواية عن الإمام محمد الباقرعليه‌السلام ، عن أبيه زين العابدينعليه‌السلام ، عن جدّه الإمام الحسينعليه‌السلام قال:((خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذاتَ يومٍ وهو راكبٌ، وخرج عليٌ عليه‌السلام وهو يمشي، فقال له: يا أبا الحسن، إمّا أن تركب وإمّا أن تنصرف؛ فإنّ الله عزّ وجلّ أمرني أن تركب إذا ركبتُ وتمشي إذا مشيت، وتجلس إذا جلستُ، إلاّ أن يكون في حدٍّ من حدود الله لا بدّ لك من القيام والقعود فيه، وما أكرمني الله بكرامةٍ إلاّ وقد أكرمك بمثلها، وخصّني الله بالنبوّة والرسالة وجعلك ولييّ في ذلك تقوم في حدوده وصعب أموره، والذي بعثني بالحقِّ نبيّاً ما آمن بي مَنْ أنكرك، ولا أقرّ بي مَنْ جحدك، ولا آمن بالله مَنْ كفر بك، وإنّ فضلك لَمِن فضلي، وإنّ

١٥٧

فضلي لفضل الله، وهو قول ربّي عزّ وجلّ: ( قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) (١) .

ففضل الله نبوّة نبيكم، ورحمته ولاية علي بن أبي طالب عليه‌السلام ( فَبِذَلِكَ ) قال: بالنبوّة والولاية ( فَلْيَفْرَحُوا ) يعني الشيعة ( هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ) يعني ما يجمع مخالفوهم من الأهل والمال والولد في دار الدنيا، والله يا عليّ ما خُلقتَ إلاّ ليُعبد ربّك، ولتُعرف بكَ معالم الدين، وتُصلح بكَ دار السبيل، ولقد ضلّ مَنْ ضلّ عنك، ولن يهتدي إلى الله مَنْ لم يهتد إليك وإلى ولايتك.

وهو قول ربّي عزّ وجلّ: ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى ) (٢) يعني إلى ولايتك، ولقد أمرني ربّي تبارك وتعالى أن افترض من حقّك ما افترض من حقّي، وإنّ حقّك لمفروضٌ على مَنْ آمن بي، ولولاك لم يُعرف حزب الله وبكَ يُعرف عدوّ الله، ومَنْ لم يلقه بولايتك لم يلقه بشيء.

ولقد أنزل الله عزّ وجلّ إليّ: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) يعني في ولايتك يا علي ( وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) (٣) ولو لم اُبلّغ ما أُمرت به من ولايتك لحبط عملي، ومَنْ لقيَ الله عزّ وجلّ بغير ولايتك فقد حبط عمله وغداً سُحقاً له (سُحقاً) وما

_____________________

١ - سورة يونس / ٥٨.

٢ - سورة طه / ٨٢.

٣ - سورة المائدة / ٦٧.

١٥٨

أقولُ إلاّ قول ربّي تبارك وتعالى، وإنّ الذي أقولُ لَمِنَ الله أنزله فيك)) (١) .

إنّ هذا الحديث الذي يرويه الإمام الحسينعليه‌السلام عن جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بحقّ أبيه أمير المؤمنينعليه‌السلام ليس حديث فكاهة ورواية عابرة، بل هو حديث ولاء ودين يُدان به بين يدي الله عزّ وجلّ. والذي يُلفت النظر ليس الحديث فقط، بل الأدب العظيم، والخُلق العالي، والاحترام الكبير الذي كان يتعامل به الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله مع وصيه وابن عمّه الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، هذا الإمام العظيم الذي تجرّأ عليه الوهابيّة، لا سيما شيخهم ابن تيميّة وغيره كما سنوضّح فيما بعد بإذن الله.

الحسينعليه‌السلام وعلوم القرآن

إنّ ميزة العلم هي الميزة الأساسية للدين الإسلامي، وبالتالي لقادة المسلمين الربّانيين وأئمّة الدين (سلام الله عليهم أجمعين)، وإنّ أشرف العلوم علم القرآن الكريم.

والقرآن عند الإمام الحسينعليه‌السلام فيه أربعة أشياء، كما كان يقول (سلام الله عليه):((كتابُ الله عزّ وجلّ على أربعة أشياء: على العبارة، والإشارة، واللطائف، والحقائق. فالعبارة للعوام، والإشارة للخواص، واللطائف للأولياء، والحقائق

_____________________

١ - كلمة الإمام الحسين / ٤٨ - ٤٩.

١٥٩

للأنبياء)) (١) .

وفي حديث آخر يروى عنه وعن أبيه أمير المؤمنينعليهما‌السلام :((القرآن ظاهره أنيقٌ، وباطنه عميقٌ)) (٢) .

سلام الله عليك سيدي ومولاي يا أبا عبد الله، ما أعظمك وأجمل كلامك هذا الذي تصف فيه القرآن الحكيم، بكلمات عذبة رقيقة إلاّ أنّها تُعطي بحاراً من العلم القرآني لكافة البشرية!

إنّ الإمامعليه‌السلام قد أعطى تقسيماً للبشر جميعاً، فهذا التصنيف ليس للقرآن فقط، بل لِمَنْ يقرؤه أيضاً، والناس على هذه الأوجه الأربعة:

الصنف الأوّل: هم عامّة الناس الذي يحفظون القرآن بالقراءة والتلاوة والتبرّك به في كلّ ذلك، وليس لهم إلاّ الألفاظ والكلمات بمعناها الظاهر، ورسمها المتداول.

أمّا الصنف الثاني: فهم الخواصّ من المؤمنين، وهم كالأشعّة اللامعة ينظرون من بين الحروف، وما وراء الكلمات؛ لتضيء لهم فكرة أو علماً لم يكن لغيرهم، وهؤلاء أندر من الكبريت الأحمر في كلّ زمان ومكان.

أمّا الصنف الثالث: فهم الأولياء من اُولئك المؤمنين الذين جاهدوا في الله حقّ جهاده، فهداهم وسدّدهم إلى لطائف الكتاب العزيز.

أمّا الصنف الرابع: فهم الأنبياء والرسل فقط، فحقائق القرآن لهم وليس

_____________________

١ - جامع الأخبار / ٤١ فصل ٢٢، موسوعة البحار ٩٢ / ٢٠ ح١٨.

٢ - المصدر نفسه.

١٦٠

لغيرهم، وهي حقائق لأنّها لا تقبل التأويل أو التفسير المخالف لما يقوله المعصومعليه‌السلام .

ويبقى القرآن الكريم في ظاهره أنيقاً جميلاً كالنور يتلألأ على صفحات الوجود العلوي والسفلي، وأمّا باطنه فإنّه أعمق من أن يتصوّره بشر عادي؛ لأنّه متّصل بنور الأنوار، وقدس الأقداس، بالذّات الإلهية المقدّسة.

وإليك بعض تلك اللطائف الجميلة، والحقائق الرائعة نستلهمها من الإمام الحسينعليه‌السلام عن بعض آيات القرآن الكريم، وعليك يا عزيزي أن تلحظ أنّنا نأخذ بحجمنا نحن وقدرنا الصغير، ويبقى الإمامعليه‌السلام فوق ما يمكن أن نفهم بكثير؛ فإنّه يروى أنّ رجلاً جاء إليه وسأله عن معنى (كهيعص) فقال له:((لو فسّرتها لك لمشيت على الماء)) (١) .

الحسينعليه‌السلام وفلسفة التوحيد

فالإمامعليه‌السلام يفيض علينا بقدرنا، وبحسب عقولنا القاصرة، وإليك ما قاله في تفسير كلمة (الصمد) الشريفة من كلمات سورة الإخلاص المباركة:

عن الإمام الباقرعليه‌السلام ، عن أبيهعليه‌السلام قال:((إنّ أهل البصرة كتبوا إلى الحسين بن علي عليهما‌السلام يسألونه عن (الصمد)، فكتب إليهم:

_____________________

١ - ينابيع المودّة / ٤٨٤، إحقاق الحقّ ١١ / ٤٣٢.

١٦١

بسم الله الرحمن الرحيم

أمّا بعد، فلا تخوضوا في القرآن، ولا تُجادلوا فيه، ولا تتكلّموا فيه بغير علم؛ فقد سمعت جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: مَنْ قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار، وإنّ الله سبحانه قد فسّر الصمد فقال: ( اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ ) ثمّ فسّره فقال: ( لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ) .

( لَمْ يَلِدْ ) :لم يخرج منه شيء كالولد وساير الأشياء الكثيفة التي تخرج من المخلوقين، ولا شيءٌ لطيف كالنفس، ولا يتشعّب منه البدوات كالسِّنة والنوم، والخطرة والهمّ، والحزن والبهجة، والضحك والبكاء، والخوف والرجاء، والرغبة والسأمة، والجوع والشبع، تعالى أن يخرج منه شيء، وأن يتولّد منه شيء كثيفٌ أو لطيفٌ.

( وَلَمْ يُولَدْ ) :لم يتولّد من شيءٍ، ولم يخرج من شيء كما تخرج الأشياء الكثيفة من عناصرها، كالشيء من الشيء، والدابة من الدابة، والنبات من الأرض، والماء من الينابيع، والأثمار من الأشجار، ولا كما تخرج الأشياء اللطيفة من مراكزها كالبصر من العين، والسمع من الأذن، والشمّ من الأنف، والذوق من الفمّ، والكلام من اللسان، والمعرفة والتمييز من القلب، وكالنّار من الحجر. لا بل هو ( اللهُ الصَّمَدُ ) الذي لا من شيء ولا في شيء ولا على شيء، مبدع الأشياء وخالقها، ومنشئ الأشياء بقدرته، يتلاشى ما خلق للفناء

١٦٢

بمشيته، ويبقى ما خلق للبقاء بعلمه، فذلكم الذي ( لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ) ، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ )) (١) .

وفي رواية أُخرى عنهعليه‌السلام أنّه قال:((الصمد: الذي لا جوف له، والصمد: الذي قد انتهى سؤدده، والصمد: الذي لا يأكل ولا يشرب، والصمد: الذي لا ينام، والصمد: الدائم الذي لم يزل ولا يزال)) (٢) .

هذا عن (الصمد)، ذاك الاسم الكريم العظيم لله سبحانه وتعالى في لطائف الإمام الحسينعليه‌السلام .

وأمّا عن (القدرِ) وما جاء في هذا الباب من اللطائف القرآنية في سورة القدر المباركة، يحدّثنا الإمام الباقرعليه‌السلام عن أبيه زين العابدينعليه‌السلام قوله:

((قرأ عليُّ بن أبي طالب عليه‌السلام ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) وعنده الحسن والحسين عليهما‌السلام ، فقال له الحسين عليه‌السلام : يا أبتاه، كأنّ بها من فيك حلاوةً؟!

فقال له: يابن رسول الله وابني، إنّي أعلمُ فيها ما لم تعلم، إنّها لمّا نزلت بعث إليّ جدّك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقرأها عليّ ثمّ ضرب على كتفي الأيمن وقال: يا أخي ووصيي، ووالي أُمّتي بعدي، وحرب أعدائي إلى يوم يبعثون، هذه السورة لك من بعدي، ولولدك من بعدك، إنّ جبرائيل أخي من الملائكة حدَّث إليّ أحداث أُمّتي في سنتها، وإنّه ليحدث ذلك إليك كأحداث النبوّة.

_____________________

١ - توحيد الصدوق / ٩٠، البرهان ٤ / ٥٢٥، موسوعة البحار ٣ / ٢٢٣.

٢ - التوحيد / ٩٠، البرهان ٤ / ٥٢٥، موسوعة البحار ٣ / ٢٢٣.

١٦٣

ولها نورٌ ساطعٌ في قلبكَ وقلوب أوصيائك إلى مطلع فجر القائم عليه‌السلام )) (١) .

اقرأ واستمع واعجب مسبّحاً الخالق تعالى على هذا الأدب الجمّ، وعلى هذه الأخلاق الفاضلة بين الوالد العظيم والولد الكريم، ثمّ بين الاثنين وذكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

الإمام الحسينعليه‌السلام يقول لوالده عند تلاوته للقرآن (السورة) كأنّ بها من فيك حلاوة، أدب عظيم، وأخلاق عالية، وتوقير واحترام، فالنظر إلى وجه أمير المؤمنينعليه‌السلام عبادة، والنظر إلى وجه الوالدين عبادة، والنظر إلى وجه العالم عبادة، وكلّ هذه الصّفات النورانيّة اجتمعت بالإمام عليعليه‌السلام .

والإمام عليّ وليّ الله الأعظمعليه‌السلام يبادل ولده باحترام أكبر، وتبجيل أعظم، حيث يناديه يابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ يردفه (وابني)؛ إعظاماً للوالدة الشهيدة سيّدة نساء العالمين الزهراءعليها‌السلام ، ويعلّمه بلطف ولين من أسرار السورة وأسباب نزولها.

إنّه لدرسٌ تربويٌ تعليميٌّ أخلاقيٌّ رفيعٌ جدّاً ليتنا نحفظه، ونعلّمه للآباء قبل الأبناء، والأساتذة قبل التلاميذ؛ ليكون لنا نبراساً ومتراساً على طول المدى.

هذه حقائق قرآنيّة، ولطائف عرفانيّة اقتطفناها من رياض الإمام الحسينعليه‌السلام القرآنيّة النورانيّة، الوارفة الظلال، البهيّة الجمال التي تميس خضرتها بغنج ودلال، تسبح الخالق المتعال.

وقد رأيت لزاماً عليَّ أن أنقل لكم هذين الحديثين عن توحيد الله ومعنى صفاته؛ ليعرف المسلمون كافة كيف علّمنا

_____________________

١ - موسوعة البحار ٧٠ / ٦٠، موسوعة كلمات الإمامعليه‌السلام / ٥٦٧.

١٦٤

الإمام الحسينعليه‌السلام حقائق العلم وخصائص التوحيد، ودقائق الفهم للأسماء الشريفة، والصّفات الملازمة للذّات المقدّسة، لا أن نفهمها بذاك الفهم الساذج الذي يخلو حتّى من التفكير السليم، والفعل الصحيح، إذ يجسّمون الخالق ويشبّهونه بخلقه تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.

أخلاقيات القائد العسكري

هنا محطّات أخلاقيّة أستعرضها بعد حديث مقتضب عن القيادة العسكرية وشروطها، وعوامل نجاحها - كما نفهمها في الوقت الحاضر - في أرض المعركة، وأثناء التحضير لها.

إنّ مسألة القائد وقيادة الأعمال القتالية أثناء مجريات المعركة لها الأثر الكبير جدّاً في أيّة معركة حدثت، أو يمكن أن تحدث على هذه الأرض أو خارجها، وللقائد العسكري صفات يجب أن يتحلّى بها؛ ليكون ناجحاً في عمليّة الإرادة والتوجيه، وقيادة العسكريين، أو العناصر المشتركة في المعركة.

صفات القائد عند الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام

هذا وقد حدّد الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام هذه الصّفات بعهده لمالك الأشتر النخعي (رضوان الله عليه) حين بعثه والياً على مصر بخمسة عشر نقطة، أو صفة، هي أن يكون القائد:

١ - مؤمناً، وناصحاً لله دائماً.

٢ - عفيفاً، طاهر الجيب، نقي السريرة.

٣ - حكيماً، يبطن على الغضب، ويستريح إلى العذر، ولا يعجل بالأمور.

١٦٥

٤ - شفوقاً على عسكره وجنده، وخاصة الضعفاء منهم.

٥ - ينبو عن الأقوياء، ويشتدّ عليهم؛ لمنعهم من الطغيان على الضعفاء.

٦ - من ذوي الحسب والنسب، والبيوتات المشهورة بالإصلاح.

٧ - شجاعاً، ورابط الجأش، وثابت الجنان (القلب).

٨ - كريماً، وهي من أكبر صفات النبل البشري في كلّ زمان ومكان.

٩ - ذكياً، سريع البديهة، ولا يستأثر بالقرار دون مشورة الأصحاب.

١٠ - لا يهتمّ بالإطراء والمديح، فاحثوا التراب في وجوه المداحين كما في الرواية.

١١ - أقرب الناس إلى العدوّ، وأكثرهم مراجعة وكرّاً عليه أثناء القتال.

١٢ - عادلاً بين جنده في توزيع المهام والواجبات على الجنود.

١٣ - يشاور أصحابه، ويتراجع عندما يشعر بالخطأ في القرار الذي اتّخذه.

١٤ - قويّاً وحازماً، إلاّ أنّه لا يغضب من جنده، ويملك غضبه إذا ما غضب يوماً.

١٥ - لا يتردّد باتّخاذ القرار المناسب، والعمل على تنفيذه مباشرة، ولا يتلكأ بسبب الضعف أو الخوف، فلا ضعف ولا جبن فيه.

هذا استعراض لبعض النقاط التي حدّدها الإمام عليعليه‌السلام ، وهو أعظم قائد عسكري ربّاني عرفته البشرية بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهي صفات القائد الناجح حقيقة، وفي كلّ الموازين والمعارك، وتجمع بين الدنيا والآخرة، أي أنّ القيادة تكون ربّانيّة رساليّة إسلاميّة وإنسانيّة عسكريّة واقعيّة، إذ لا إفراط ولا تفريط لديه، فتنقلب الفضائل إلى عكسها تماماً، وهذا ما لا يريده الإسلام أصلاً.

١٦٦

صفات القائد العسكري حالياً:

أمّا في عصرنا الحاضر بتعقيدات القوّات، وتنوّع الأسلحة، واختلاف الأماكن والأوضاع والأنواع القتالية، ونحن في عصر الصواريخ النوويّة العابرة للقارات، وأسلحة الإبادة الجماعيّة الشاملة والرحيمة، في عصر النور الإلكتروني وما فيه من حرب النجوم والفضاء الخارجي، فإنّ الإنسان المعاصر لم يكتفِ بإفساد البرّ والبحر، بل راح يسعى إلى إفساد الجو والفضاء الخارجي، فما هي صفات القائد العسكري في قواميسنا العسكريّة اليوم؟

إنّنا إن تتبّعنا مناهج الأكاديميّات العسكريّة من الغرب المتطوّر إلى الشرق النامي وما بينهما من متخلفين، نرى أنّ صفات القائد عندهم مختصرة بخمسة أو ستة نقاط لا أكثر، هي:

١ - العقيدة: أن يلتزم العقيدة السياسيّة للبلد الذي يعيش فيه.

٢ - الذكاء والمبادرة، والاعتماد على النفس باتّخاذ القرار وإمضائه بإصرار.

٣ - الانضباط الصارم، والإصرار على تنفيذ المهام القتالية.

٤ - الإرادة القتالية، والقدرة التنظيمية للقوّات؛ لسهولة القيادة.

٥ - الإعداد العسكري العالي، والثقافة العسكريّة العامّة الجيدة.

٦ - إمكانيّة تربية وتدريب المقاتلين.

وبإعادة النظر في هذه الصفات أو النقاط التي سلفت نرى كم هو الفرق بينها وبين الصفات السابقة عند الإمام عليعليه‌السلام ؛ وذلك لأنّ الإمامعليه‌السلام يلتزم بالدين الحنيف وبالعقيدة الإيمانية، فترى الصفات عنده يغلب عليها الجانب السماوي الإلهي الرسالي، ثمّ يلتفت إلى الصفات الذاتيّة والشخصية الأُخرى

١٦٧

للقائد.

وهذا ما يسبغ الصفة الإنسانيّة الأخلاقيّة القيميّة عليها، لا صفات القسوة والغطرسة والانفراديّة باتّخاذ القرارات، والإصرار بعناد على تنفيذها كما يفهم من صفات القائد المعاصر الذي يجب أن يكون خالياً من كلّ صفات الرحمة والعطف والرأفة والإنسانيّة تجاه عدوّه.

فإذا سألت أحداً منهم، لماذا هذه القسوة لديكم في التعامل؟

يقول: هكذا يجب أن يكون القائد، لا يرحم أبداً، ولا يتردّد في تدمير وإبادة العدوّ، هكذا تربينا منذ البداية، وقد نستعمل القسوة حتّى مع مناصرنا إذا لزم الأمر، فالقائد يجب أن يُطاع دون تردّد، وتنفذ الأوامر دون تذمّر من أحد.

لأنّ القائد أساساً ليس عنده الوقت الكافي ليستمع إلى رأي أقرب المقرّبين إليه، فكيف سيكون لديه إمكانية المشاورة أو النصح؟

والقائد لا يعتذر ولو أخطأ؛ لأنّ اعتذاره يؤدّي إلى خلخلة صورته في عيون عناصره ومرؤوسيه، ورجاؤه إذا ما قال رجاءً فإنّه أمر عسكري واجب التنفيذ.

قيادة الإمام الحسين بن عليعليهما‌السلام

والبحث يطول هنا إلاّ أنّنا لسنا بحاجة إلى بسط القول في الباب، فنلوي عنق البحث إلى صفات القائد الناجح قديماً وحديثاً بنظر القادة العظام والسادة الكرام أئمّة الأنامعليهم‌السلام ، فنسأل: أين قيادة الإمام الحسينعليه‌السلام من هذا كلّه؟

هل كان الإمامعليه‌السلام قائداً ناجحاً بالمعنى الكلّي للكلمة؟

هل من ملاحظات على قيادة الإمام الحسينعليه‌السلام ؟ أم أنّه كما قال ذاك

١٦٨

الجلف عن أبيه الإمام عليعليه‌السلام : إنّ الإمام علياً رجل شجاع، إلاّ أنّه لا علم له بفنون الحرب وولده كذلك؟!

هل كان الإمام الحسينعليه‌السلام قائداً عسكريّاً فقط، أم أنّه كان قائداً رساليّاً إلهيّاً بكلّ المعاني الروحيّة والسماويّة السامية في هذه الدنيا؟!

نَعم، كان الإمام الحسينعليه‌السلام نِعمَ القائد لجنده، وكانت تتوفّر في شخصه الكريم جميع الصّفات المذكورة قديماً وحديثاً، وأكثر منها أيضاً، لماذا؟!

لأنّهعليه‌السلام جمع صفات القائد العسكري الفذ، والإنسان المثالي في الإنسانيّة، والإمام المفترض الطاعة من السماء (من الله تعالى).

وأحسب أنّني لست بحاجة إلى البسط والتطويل؛ لأنّه يخرجنا عن مدار بحثنا هنا، رغم أنّ الحديث عن الأخلاق والشجاعة، والذكاء ومضاء العزيمة التي أظهرها الإمام الحسينعليه‌السلام على أرض كربلاء كقائد حقيقي في يوم عاشوراء كثيرة وعظيمة، إلاّ إنّني سوف أختار مواقف معيّنة، وأترك البقيّة الباقيّة لذكاء وفطنة الأخ القارئ الكريم.

١ - وضوح الرؤية عند الإمام الحسين:

الإنسان الذي لا يمتلك رؤية مستقبليّة واضحة، أو الذي ليس لديه بصيرة نيّرة تهديه إلى السبيل الصحيح؛ ليصل إلى هدفه المنشود وغايته المرجوّة، لا يمكن أن يكون ناجحاً في عمله، أو ناجحاً في تفكيره، أو سعيداً في حياته.

والقائد من باب أولى وأخصّ عليه أن يمتلك رؤية شبه حقيقيّة، أو تصوّراً جادّاً لمراحل المعركة، مع حساب كلّ الاحتمالات الممكنة الوقوع، أو حتّى

١٦٩

البعيدة والمستحيلة الحدوث، ويقول في قراره عند كلّ نقطة: إنّ كان كذا أو حدث كذا فإنّنا نتصرّف بهذا الشكل أو تلك الطريقة؛ لتلافي الخسائر والتأثير بالعدوّ قدر الإمكان.

وهذا كلّه لا يأتي إلاّ من دراسة المعركة وعناصرها كلّها - لا سيما قوّات الصديق والعدوّ - وتحليل كافة المعطيات المتوفّرة، وحساب الاحتمالات، مع ثقافة عسكريّة عالية، وخبرة عمليّة واسعة في خوض وإدارة الأعمال القتاليّة العسكريّة التي تأتي بالتدريب المستمر على القتال.

والمولى أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام كان من القادة الأفذاذ الذين خاضوا المعارك حتّى حفظوها عن ظهر قلب؛ وذلك لأنّه ومنذ ولادته المباركة في أوائل سنوات الهجرة المباركة التي شُحنت بالغزوات والحروب الإسلاميّة مع أهل الشرك والكفر والضلال، حتّى خاض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه حوالي ثمانين غزوة وسريّة، كان يراقب ويرصد كلّ ما يجري في تلك الساحة.

أمّا في عهد الخلفاء الأوائل، فإنّ الإمام الحسينعليه‌السلام شارك في فتح أفريقيا، وخاض حروب التأويل الثلاث: الجمل والناكثين، وصفين والقاسطين، والنهروان والمارقين، مع أبيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، تلك الحروب التي كانت تشيب الطفل الرضيع من هولها، وعظيم وقعتها على النفوس، وتأثيرها في القلوب، كما إنّه شارك أخاه الإمام الحسن السبط المجتبىعليه‌السلام وقاسمه همومه طيلة فترة إمامته التي امتدت حوالي عشر سنوات، وذاق معهعليهما‌السلام طعم الغدر من الأُمّة الإسلاميّة، ومكرها بعد الصلح مع

١٧٠

معاوية، والاتهامات الشنيعة - والعياذ بالله - للإمام الحسنعليه‌السلام بعد ذلك، حتّى إنّ أحدهم طعنه في فخذه يريد قتله، وآخر قال له: يا مذِّل المؤمنين - نستجير بالله من ذلك كلّه -، إلى أن وصلت سفن النجاة الإيمانيّة إلى شواطئ الإمام الحسينعليه‌السلام ، ورست سفينة الإمامة عنده، ولاذ به المؤمنون، والتجأ إليه المخلصون من شيعته ومحبي أبيه الأميرعليه‌السلام ، فنهض على اسم الله وبأمره خير نهوض، وقارع الفساد في الأُمّة بيد من حديد، وصارع معاوية الجبّار العنيد بسياسة حكيمة ورأي سديد.

إلاّ إنّه أعلن النهضة المباركة عندما نزا على عرش الخلافة والإمارة ذاك الطاغية يزيد، وأراد تشريعاً لسطانه، وتثبيتاً لملكه بفتوى (بيعة) من الإمام الحسينعليه‌السلام ، وأرسل بالتهديد والوعيد وحرّ الحديد إن لم يفعل الإمامعليه‌السلام ذلك ويبايع، إلاّ إنّ أبيّ الضيم قالها مدوّية منذ اليوم الأوّل:((مِثلي لا يُبايع مِثلَه)) . أي أنّ الذي يكون في مقامي، مقام إمامة الأُمّة الشرعيّة والحقيقيّة، لا يمكن أن يُعطي شرعيّة الحكم والقيادة لشخص مثل يزيد، فاسقٍ فاجرٍ، شاربٍ للخمر، قاتلٍ للنفس المحرّمة؛ لأنّ مثل هذا لا شرعيّة لوجوده أصلاً، فيجب أن تُقام عليه الحدود الإسلاميّة كلّها، أو العقوبات القانونيّة المطابقة لأعماله الإجراميّة.

ومنذ البداية، وقبلها من حين الولادة، والإمام الحسينعليه‌السلام يمتلك الرؤية الواضحة، والفكر الناضج الذي جعله يتّخذ هذا القرار الحاسم والمصيري، لا سيما وأنّه يعلم علم اليقين أنّه مُطارد ومقتول ظلماً وعدواناً حتّى لو اختبأ في قنن الجبال وأوكار الصقور، فإنّهم لن يدعوه حتّى يستخرجوه ويقتلوه.

١٧١

والملفت أنّ القائد العسكري أو السياسي يخفي على أتباعه وأقرب المقرّبين إليه الكثير من التفاصيل الحساسة حتّى لا يتأثّر مَنْ حوله معنويّاً ونفسيّاً، فتخور عزائمهم وتضعف قواهم، وتتأثّر الحركة أو النهضة الثوريّة وتتعثّر من بدايتها.

إلاّ إنّ القيادة الإلهيّة والرساليّة للإمام الحسينعليه‌السلام تملك الشجاعة الفائقة لكي تخبر عن أدقّ التفاصيل لكافة العسكريين، وليس للمقرّبين من القائد فقط؛ لأنّ قيادة السماء همّها وهدفها الأوّل الإنسان المخلص، والعبد التقي الذي يقدم على العمل بدافع ديني يقيني، لا من منطلق مصالح دنيويّة آنيّة يطمع بها، أو منصب قيادي تشريفي يطمح إليه، فهؤلاء يعملون من أجل المصلحة أو الكرسي، وليس لله والقربى من ساحاته المقدّسة.

إنّ الحسين بن عليعليهما‌السلام القائد الناهض في وجه الفساد الأموي، يعلم منذ البداية أنّ كرامته من الله الشهادة، ولم تغب عن باله يوماً كلمة جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :((إنَّ لك في الجنّة درجات لن تنالها إلاّ بالشهادة)) (١) .

ولذا قال لأصحابه وأهل بيته سوف نُقتل جميعاً على أرض كربلاء بوحشيّة ودون رحمة أو رأفة؛ وإنّما أراد بذلك أن يكونوا على بيِّنة من أمرهم منذ البداية:((مَنْ كان باذلاً فينا مهجته، وموطِّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا؛ فإنّني راحلٌ مصبحاً إن شاء الله تعالى)) (٢) .

فالشهادة هي الهدف، وليس النصر والغلبة واستلام السلطة السياسيّة،

_____________________

١ - موسوعة كلمات الإمام الحسينعليه‌السلام / ٢٨٧.

٢ - مثير الأحزان / ٤١، اللهوف في قتلى الطفوف / ٢٦.

١٧٢

فكانت رؤية الجميع واضحة، والنتيجة محتمة، ولكنّهم يعلمون أيضاً أنّ ثمن هذه الشهادة حفظ الإسلام.

وهذا عكس جميع العلوم العسكريّة، وقيادة الأعمال القتاليّة في عصرنا الحاضر، أو مَنْ كان قبلنا بعشرات السنين.

٢ - الصراحة والصدق أساس المنهج الحسيني:

الصراحة قوّة، والصدق شهامة وإباء وكرامة.

الصراحة شموخ وشَمَم، والصدق أمانة وديانة وكرم.

الصدق: ضدّ الكذب، وهو أشرف الصّفات المَرْضِيَّةِ، ورئيس الفضائل النفسيّة، وما ورد في مدحه وعظيم فائدته من الآيات والأخبار لا يمكن إحصاؤه(١) .

وممّا جاء في وصف الصادقين في كتاب الله قوله تعالى:( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ اُولئك هُمُ الصَّادِقُونَ ) (٢) .

وقد أمرنا ربّنا سبحانه بأن نكون في كلّ أحوالنا مع الصادقين، محمدٍ وعترته الطاهرين (صلوات الله عليه وعليهم أجمعين) وجميع الأنبياء والمرسلين بقوله تعالى:( اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) (٣) .

_____________________

١ - جامع السعادات ٢ / ٣٣٣.

٢ - سورة الحجرات / ١٥.

٣ - سورة التوبة / ١٢٠.

١٧٣

وممّا يروى عن الإمام الحسينعليه‌السلام بهذا الشأن الأخلاقي قولهعليه‌السلام :((الصدق عزٌّ، والكذبُ عجزٌ، والسرُّ أمانةٌ، والجوارُ قرابةٌ، والمعونةُ صداقةٌ، والعملُ تجربةٌ، والخُلُقُ الحسنُ عبادةٌ، والصمتُ زينٌ، والشحُ فقرٌ، والسخاءُ غنى، والرفقُ لبٌ)) (١) .

فالصدق عزٌّ وفخرٌ للإنسان؛ لأنّه يعبّر عن شموخ وأنفة، وسلامة النفس من الأمراض الباطنيّة، لأنّ الإنسان لا يكذب إلاّ لعلّة نفسيّة، وخساسة داخلية يعيش فيها، ويقع تحت وطأتها فتدفعه إلى الكذب والدجل؛ ليريح نفسه من عقدة النقص تلك، ولو أصلحها بالحقّ والصدق لكانت أجدى وأنفع له على كلّ حال.

وهل هناك موقف أصعب من موقف الإمام الحسينعليه‌السلام من بداية حياته إلى يوم عاشوراء، حيث شهادته المظفّرة على تراب كربلاء؟!

ويروي الإمام الصادقعليه‌السلام قائلاً:((قال عليّ للحسين عليهما‌السلام : يا أبا عَبدِ الله، أُسوةٌ أنتَ قِدماً. (أي أنت أسوة يقتدى بك منذ القديم).

فقالعليه‌السلام : جُعلتُ فداك ما حالي؟!

قالعليه‌السلام : قد علمت ما جهلوا، وسينتفع عالمٌ بما علم، يا بُنيّ اسمع وأبصر من قبل أن يأتيك، فو الذي نفسي بيده، ليسفكنَّ بنو أُميّة دمك، ثمّ لا يزيلونك عن دينك، ولا يُنسونك ذكر ربّك.

فقال الإمام الحسينعليه‌السلام : والذي نفسي بيده حسبي، وأقررت بما أنزلَ

_____________________

١ - تاريخ اليعقوبي ٢ / ٢٤٦.

١٧٤

اللهُ، وأصدّق قول نبي الله، ولا أُكذّب قول أبي)) (١) .

هذه شهادة صادقة من أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام بحقّ ولده الحسينعليه‌السلام ، فهو قدوة في كلّ خير وإحسان وبركة منذ أن ولد على هذه الأرض وظهر في هذا الوجود.

ولا يفوتنا الإشارة إلى هذا الأدب العظيم، والتواضع الجم الذي يتجلّى به الإمامعليه‌السلام بحضرة والده العظيم.

فيبدأ كلامه بالفداء له بالروح والجسد، ويُقسم بارّاً بالله أنّه يكفيه الإقرار لله بما ينزل والتسليم بما يقدر، ويصدّق جدّه الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله فيما أخبر به، ولا يكذب - حاشاه - قول أبيه فيما يخبره عن فاجعته في كربلاء.

فالإنسان العالم بالعواقب يجب أن يستفيد من علمه ذاك بالعمل الصالح والتقى، وانتهاز الفرص في الخيرات، ولا يتوانى أو يتكاسل عن إصلاح المجتمع ومفاسده التي تفشّت في زمانه، وسماع النصيحة واجب، بالتبصّر بالعواقب تسلم النتائج، وتكون إيجابيّة أكثر.

وحركة الإمام الحسينعليه‌السلام منذ البداية كانت صادقة وصريحة، فلا التواء ولا مواراة؛ لأنّ الهدف واضح، والنتيجة مضمونة ومعلومة عند القائد، فلماذا لا يكون واضحاً كلّ الوضوح مع الجميع؟!

ولكي نزيد مسألة الوضوح عند الإمام الحسينعليه‌السلام فإنّنا نستعرض أنواع الصدق عند علماء الأخلاق، ونطبّقها على حركة الإمام الشهيدعليه‌السلام ؛ لنرى كم كانت حركة الإمامعليه‌السلام صادقة ونزيهة، وكم كانت مواقفه واضحة وظاهرة

_____________________

١ - موسوعة البحار ٤٤ / ٢٦٢ ح١٧، العوالم ١٧ / ١٥٢.

١٧٥

للعيان.

فالعلماء قالوا: إنّ الصدق أنواع ستة هي:

١ - الصدق في القول: وهو الذي يُقابل الكذب، وهذا من أفحش فواحش اللسان.

والإمامعليه‌السلام منزّه ومطهّرٌ من هذه الآفة، وكلماته كلّها تخبر عن مدى صدقه في الحديث والقول.

٢ - الصدق في العزم: وهو الجزم على عمل الخير لوجه الله تعالى، وهل رأيت أحداً كان أحزم وأجزم من عمل الإمام الحسينعليه‌السلام ؟ الذي قدّم كلّ ما يملك من الأهل والأبناء، والأصحاب والأموال والأعراض في سبيل الله والمبدأ الذي نهض لإصلاحه، ألا وهو الإسلام المحمّدي الأصيل الذي حاول صبيان بني أُميّة أن يغيّروه إلى ديانة أمويّة صوريّة لا حقيقة لها في أرض الواقع.

والإنسان بطبعه يقدّم العزم والإرادة على العمل، فإن كان في داخله وباطنه جازماً على العزم، مصمّماً على العمل بمقتضاه فإنّ عزمه يكون صادقاً لأنّه مقارن للقوّة والإرادة الصادقة في تنفيذ العمل الذي عزم عليه، وهذه الصّفة كانت واضحة وجليّة منذ البداية وحتى النهاية في نهضة الحسين بن عليعليه‌السلام الإصلاحيّة.

٣ - الصدق في النيّة والإرادة: وهذا هو الإخلاص الكامل بالعمل لوجه الله تعالى، وذلك بألاّ يكون له باعث في عمله وفي جميع حركاته وسكناته إلاّ الله.

والمولى أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام قال:((إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي رسول الله، اُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير

١٧٦

بسيرة أبي وجدّي، فمَنْ قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومَنْ ردّ عليّ أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم الظالمين)) (١) .

هذه هي النيّة الصادقة، والهدف الواضح بالإصلاح للأُمّة، وإعادتها إلى السير بسيرة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنينعليه‌السلام وذلك لوجه الحقّ تعالى دون غيره.

٤ - الصدق والوفاء بالعزم: فإنّ النفس قد تسخو بالعزم في الوقت الحاضر، إذ لا مشقّة ولا تعب في الوعد، ولكن إذا حان وقت العمل بالوعد فإنّها تهيج وتجزع، وتبحث عن مبرّرات للحنث بالوعد، فإذا ثبت الإنسان كالإمام الحسينعليه‌السلام على عهده فإنّه يكون صادق العزم، وموطّناً نفسه على الوفاء به.

٥ - الصدق في الأعمال: أي تطابق القول والعمل، والظاهر والباطن، والسريرة والعلانيّة، وهذا من أصعب الموارد في هذه الحياة، ولا يكتمل هذا المقام إلاّ الكُمَّل من أولياء الله( وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) (٢) .

والإمام الحسينعليه‌السلام يقول:((إنّ الناس عبيد الدنيا، والدين لعقٌ على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت به معائشهم، فإذا محِّصوا بالبلاء قلّ الديّانون)) (٣) .

وامتحان الإمام الحسينعليه‌السلام كان أصعب، وأعظم امتحان في هذه الحياة كلّها؛ وذلك لأنّ القرآن الكريم وربّنا سبحانه يخبرنا عن أبينا إبراهيم

_____________________

١ - بحار الأنوار ٤٤ / ٣٢٩.

٢ - سورة سبأ / ١٣.

٣ - بحار الأنوار ٤٤ / ١٩٥، تحف العقول / ١٧٦، كشف الغمّة ٢ / ٣٢.

١٧٧

الخليلعليه‌السلام فيما أُمر بذبح ولده في المنام الصادق، وأسلم ولده إسماعيلعليه‌السلام لأمر باريه، وتلّه للجبين، وفداه الله بذبح عظيم. وقال ربّنا عند ذلك:( إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ ) (١) .

أُمر إبراهيمعليه‌السلام بالذبح فامتثل لأمر الله بعد مشاورة ولده البارّ إسماعيلعليه‌السلام ، والنتيجة نجاة الولد، ورفعة الوالد والولدعليهما‌السلام عند الله وعند الناس جميعاً بأنّهما من العظماء في تاريخ الإنسانيّة كلّها.

أمّا سيد الشهداء الحسين بن عليعليهما‌السلام فإنّ الأمر مختلف تماماً؛ لأنّه قدّم جميع أهله وأصحابه للذبح أمام عينيه الشريفتين، فأوّل شهداء البيت العلوي كان ولده علي الأكبرعليه‌السلام ، وآخرهم ولده الطفل الرضيع عبد الله ذُبح بسهم حرملة على صدره الشريف.

وبعد هذا وذاك قدّم نفسه الشريفة ودمه الطاهر قرباناً لله تعالى، كما قالت عقيلة بني هاشم أُمّ المصائب زينب بنت عليعليهما‌السلام : (اللهمّ تقبّل هذا القربان من آل محمد).

أسألك أيّها القارئ الكريم هل سمعت بمثل هذا الصدق؟ وهل يمكن أن تُقارن بين عمل أبينا إبراهيمعليه‌السلام وسيدنا أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ؟!

٦ - الصدق في مقامات الدين: من الصبر والشكر، والتوكّل والحبّ، والخوف والرجاء، والزهد والتعظيم، والرضى والتسليم، وغير ذلك.

_____________________

١ - سورة الصافات / ١٠٦.

١٧٨

وهو أعلى درجات الصدق وأعزّها(١) ، وأبو الأحرار الحسين بن عليعليهما‌السلام كان مثال ذلك كلّه، فصبره لا يوصف، وشكره لا يُعرف، وحبّه لا يستشفّ، ورضاه بالقضاء وتسليمه لأمر باريه بكلّ ما حدث عليه لا يمكن لأحد أن يستوعبه بكلام.

وأخيراً اعلم أيّها العزيز أنّ من علامات هذا الصدق (المقامات) كتمان المصائب والطاعات جميعاً، وكراهة اطّلاع الخلق عليها، وقد روي أنّ الله تعالى أوحى إلى موسىعليه‌السلام :((أنّي إذا أحببتُ عبداً ابتليته ببلايا لا تقوى لها الجبال؛ لأنظر كيف صدقه؛ فإن وجدته صابراً اتّخذته وليّاً وحبيباً، وإن وجدته جزوعاً يشكوني إلى خلقي خذلته ولم أُبال)) (٢) .

ألم يردّد الإمام الحسينعليه‌السلام عند كلّ مصيبة وفاجعة في أحد أصحابه وإخوته وأبنائه الكرام:((هوّن ما نزل بي أنّه بعين الله)) ؟ فالأمر النازل إذا كان بعناية الله ورعايته وتحت أنظاره فإنّه يهون عند الأولياء، والإمام الحسينعليه‌السلام سيّدهم في ذاك الزمان.

صدق القائد السياسي والعسكري

والقائد السياسي الذي ينهض في وجه حكومة طاغية، ويصرخ في وجه فرعون باغٍ، ربما عليه أن يخفي الكثير من المعلومات التي تصله عن أصحابه، لا سيما تلك التي تؤثّر على الرأي العام للجماهير التي تلتفّ حوله.

_____________________

١ - للتفصيل راجع جامع السعادات ٢ / ٣٣٧.

٢ - جامع السعادات ٢ / ٣٣٩.

١٧٩

أمّا القائد العسكري فإنّه أحفظ للمعلومات، ولديه قاعدة تقول: تُعطى المعلومات بحجم المسؤوليات. أي أنّك كقائد عسكري لا تُعطي كلّ المعلومات التي بحوزتك لكلّ عناصرك فتكون قد فضحت نفسك وجندك؛ لأنّ العدو يراقبك، وربما يكون له عيون وجواسيس في جيشك، فاكتم الأوامر والمعلومات الهامّة والضرورية، وأعطِ كلّ قائد أو مرؤوس بحجم المهمّة التي تكلّفه بها، وعدا ذلك هو مقتله بالنسبة لك.

أمّا الإمام الحسينعليه‌السلام فكان عكس جميع القادة السياسيين والعسكريين على طول المدى؛ لأنّه منذ البداية يقول: سوف نُحارب في نهضتنا، ولكنّ نجاحنا في أن نُقتل في سبيل الله، وهذه الحقيقة لم يدركها الكثيرون في ذاك الزمان وحتى يومنا هذا، كيف ينجح مَنْ يُقتل؟!

لهؤلاء نقول: انظروا إلى حركة الإمام الحسينعليه‌السلام ونهضته المباركة وتدبّروا، هل نجح هو أم الذين قتلوه على بطحاء كربلاء؟!

وأمّا المعيار العسكري فإنّ النجاح يكون بتحقيق الهدف، أو المهمّة التي كُلّفَ بها، فإذا حقّقت مهمّتك وقُتلت فإنّك ناجح لا شك، والإمام الحسينعليه‌السلام كان الهدف من نهضته إحياء سُنّة جدّه المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله وسيرة أبيه أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وبالتالي المحافظة على الدين الإسلامي الحنيف من الانحراف الأموي البغيض، وبهذا نجح الإمامعليه‌السلام أيّما نجاح، فما زال ذكر سيّد الشهداء الحسين بن عليعليه‌السلام وعاشوراء الأحرار تشكّل خطراً على كلّ المستكبرين والطّغاة في العالم أجمع.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580