الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية

الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية6%

الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية مؤلف:
الناشر: ياس زهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 580

الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية
  • البداية
  • السابق
  • 580 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 193536 / تحميل: 8228
الحجم الحجم الحجم
الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية

الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية

مؤلف:
الناشر: ياس زهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

تعقّل الحسينعليه‌السلام من شهادة مسلم

يختلف المؤرّخون في المكان الذي ورد فيه خبر استشهاد سفيره إلى أهل الكوفة ابن عمّه مسلم بن عقيل (رضوان الله عليه) إلى الحسينعليه‌السلام ، فمنهم مَنْ قال: بالثعلبية أو في زبالة أو في مكان آخر، المهمّ أنّ رجلان أسديان جاءا إلى الإمامعليه‌السلام وسايراه حتّى نزل في زبالة فقالا له: (رحمكَ الله، إنَّ عندنا خبراً إنْ شئتَ حَدَّثناك علانيةً وإن شئتَ سرّاً).

وتأمّل الحسينعليه‌السلام في أصحابه، (وهنا شاهدي الأوّل على هذه الصراحة العجيبة من الإمام القائد السياسي هنا، كيف ينطلق بها، وكيف علينا أن نفهمها ونقتدي بها)، فقالعليه‌السلام :((ما دُونَ هؤلاءِ سترٌ)) .

فقالا: أرأيتَ الراكبَ الذي استقبلته عشيَّ أمسِ؟

قال:((نَعَمْ، وأردتُ مسألتَهَ)) .

فقالا: قد والله استبرأنا لكَ خبره، وكفيناك مسألته، وهو امرؤٌ منّا ذو رأي وصدقٍ وعقلٍ، وإنّه حدّثنا أنّه لم يخرج من الكوفة حتّى قُتل مسلم وهانئ ورآهما يُجران في السوق بأرجلهما(١) .

وكان وقعُ النبأ المؤلم كالصاعقة على العلويّين، فانفجروا بالبكاء على فقيدهم العظيم حتّى ارتّج الموضع بالبكاء، وسالت الدموع كلّ مسيل(٢) .

_____________________

١ - الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد / ٢٢٢، ط / مؤسسة الأعلمي - بيروت، وج٢ ص٧٤ ط / مؤسسة آل البيت لإحياء التراث.

٢ - حياة الإمام الحسين بن عليعليهما‌السلام ٣ / ٦٩، الدرّ المسلوك ١ / ١١١.

١٨١

فانبرى إلى الإمامعليه‌السلام بعض أصحابه قائلين: ننشدُكَ الله إلاّ انصرفت من مكانك؛ فإنّه ليس لك بالكوفة ناصرٌ ولا شيعةٌ، بل نتخوّفُ أن يكونوا عليك.

ويلتفت الإمام القائد إلى بني عقيل ويقول لهم:((ما ترونَ فقد قُتل مسلم؟)) .

فوثب الفتية وهم يُعلنون استهانتهم بالموت قائلين: لا واللهِ، لا نرجعُ حتّى نُصيب ثأرَنا، أو نذوقَ ما ذاق مسلم.

وبعد ما سمع الإمامعليه‌السلام هذه المقالة، قال:((لا خير في العيش بعد هؤلاء)) .

ثمّ أنشد:

سأمضي وما بالموتِ عارٌ على الفتى

إذا ما نَوى حَقّاً وجاهدَ مُسلما

فإنْ مُتّ لم أندم وإن عشتُ لم أُلم

كفى بك عاراً أن تعيشَ وتُرغما(١)

ولما سار من الموضع الذي أتاه فيه الخبر باتّجاه العراق لإكمال المسيرة، وإذا به يلتقي بالشاعر العربي الحسن بن هانئ المعروف بالفرزدق، فسلّم عليه وقال: يابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كيف تركن إلى أهل الكوفة وهم الذين قتلوا ابن عمّك مسلم بن عقيل وشيعته؟!

قال: فاستعبر الحسينعليه‌السلام باكياً، ثمّ قال:((رَحِمَ الله مسلماً، فلقد صارَ إلى روح الله وريحانه، وجنّته ورضوانه، أما إنّه قد قضى ما عليه وبقي ما علينا)) .

ثمّ أنشأ يقول:

_____________________

١ - الإرشاد ٢ / ٧٥، الدرّ النظيم / ١٦٧.

١٨٢

فإنْ تكنِ الدنيا تُعدّ نفيسة

فإنّ ثوابَ اللهِ أعلى وأنبلُ

وإنْ تكنِ الأبدانُ للموتِ أُنشئت

فقتلُ امرئٍ بالسيفِ في اللهِ أفضلُ

وإنْ تكنِ الأرزاقُ قسماً مقدّراً

فقلّةُ حرصِ المرءِ في السعي أجملُ

وإنْ تكنِ الأموالُ للتركِ جمعها

فما بالُ متروكٍ بهِ المرءُ يبخلُ(١)

ثمّ قالعليه‌السلام :((اللهمّ اجعل لنا ولشيعتنا منزلاً كريماً، واجمع بيننا وبينهم في مستقرّ رحمتك، إنّك على كلّ شيء قدير)) (٢) .

هل قرأت أو انتهى إلى سمعك مثل هذا الموقف، وهذه الشجاعة، وهذه الصراحة من قائد سياسي يسير للثورة على دولة ظالمة، وينهض في وجه حاكم مستبدّ فاسق فاجر ظالم؟!

القائد والأصحاب

نعم، إنّه لموقف عظيم يستوقفنا طويلاً أمامه لنتأمّله بهدوء ورويَّة؛ ولنستوضح خيط النور الذي ينساب منه، فإنّنا لا نرى إلاّ القائد الربّاني والسياسي والأخلاقي، والقائد العسكري الذي يقود جيشاً من الإيمان رغم قلّة عدده، قد تسامت قامات أفراده وارتفعت حتّى بلغت عنان السماء، وتضخّمت حتّى سوت ما بين المشرق والمغرب، وكأنّ كلّ واحد منهم صار علماً وجبلاً من أوتاد الأرض الحافظة لها من الاضطراب والميدان.

فمَنْ كأصحاب الحسينعليه‌السلام وهو الذي قال فيهم، وشهد لهم:

_____________________

١ - مثير الأحزان / ٤٥، اللهوف / ٣٢.

٢ - موسوعة البحار ٤٤ / ٣٧٤.

١٨٣

((فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيتٍ أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي)) (١) .

وهؤلاء صاروا كذلك؛ لأنّ الإمامعليه‌السلام عاملهم تلك المعاملة، وربّاهم بهذا الأسلوب الإسلامي الرفيع في التربية، وساسهم بالأخلاق، حيث الصراحة والصدق والوضوح في كلّ شيء حتّى في أدقّ وأرقّ الظروف السياسيّة والأمنيّة.

ولو كان الإمام الحسينعليه‌السلام لم يسر معهم على هذا المنوال، وبهذه الروح النقيّة لكانوا خذلوه في ساحة المعركة على أرض كربلاء.

وأبو الأحرار الحسين بن عليعليهما‌السلام أراد أن يكون أصحابه من خلّص الأصحاب، فراح ينقّيهم ويختبرهم ويغربلهم غربلة ويهزهم في كلّ موقف هزَّ السياط؛ ليعلم مَنْ يسير معه لله، ومَنْ يسير طمعاً في الدنيا، حتّى وصلوا إلى أرض كربلاء أتقياء أنقياء، بعيدين عن الخنى كنجوم السماء.

ومواقف الإمام القائد الاختباريّة ابتدأت من المدينة وقبل أن يخرج منها، وفي مكة وأثناء مغادرته إيّاها، وفي كلّ منزل ترد إليه أخبار كان يلقيها على أصحابه؛ لأنّه((ما دون هؤلاء سرّ)) ، أي ليسوا من أهل الخيانة والغدر؛ ولذا فواجبي أن لا أكتم عنهم شيئاً من المعلومات التي تردني مهما كانت مفجعة.

إنّهم جميعاً قادة وسادة كرام، يستأهل كلّ واحد منهم أن يكون قائد جيش، ومَنْ بلغ هذا المبلغ فإنّ الإمامعليه‌السلام لا يخفي عليه شيئاً؛ ليكون على بيّنة من أمره.

_____________________

١ - إرشاد المفيد / ٢٣١، اللهوف / ٤١، تاريخ الطبري ٣ / ٣١٥.

١٨٤

وكانت أعظم غربلة لجيش الإمامعليه‌السلام عند هذا الموضع الذي بلغه فيه شهادة مسلم بن عقيل وبعض أصحابه المخلصين في الكوفة؛ فإنّ الإمامعليه‌السلام استوقف الناس، وأخرج كتاباً أو ورقة وقرأها عليهم، وكان فيها:((بسم الله الرحمن الرحيم. أمّا بعد، فإنّه قد أتانا خبرٌ فظيعٌ، قتل مسلم بن عقيل، وهانئ بن عروة، وعبد الله بن يقطر، وقد خذلنا شيعتنا، فمَنْ أحبّ منكم الانصراف فلينصرف في غير حرجٍ، ليس عليه ذمام)) (١) .

يُقال: فتفرّق الناس عنهعليه‌السلام ، وأخذوا يعدلون يميناً وشمالاً حتّى لم يبقَ معه إلاّ أصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة، ونفر يسير ممّن انضمّوا إليه في الطريق.

هل رأيت أو سمعت بمثل هذا في تاريخ الثورات والحروب العالميّة؟!

هذا كان من جانب الصراحة والصدق في أسلوب التعامل مع الأصحاب، ومن الشجاعة والقيميّة في أعلى مراتبها في دنيا الإنسانيّة.

وبقي علينا الجانب الآخر من شخصية الإمام الحسينعليه‌السلام الإنسانيّة، الأبويّة، المسؤوليّة، وهذه تجلّت بموقفه مع ابنة مسلم بن عقيل، هذا الموقف الذي يهمله كثير من كتّاب التاريخ والسيرة.

_____________________

١ - موسوعة البحار ٤٤ / ٣٧٤، الإرشاد ٢ / ٧٥ تحقيق: مؤسسة آل البيتعليهم‌السلام لإحياء التراث.

١٨٥

الحسينعليه‌السلام ويتيمة مسلم

الذي يستوقفني هنا أيّها المؤمن، قصّة الإمام الحسينعليه‌السلام مع حميدة طفلة مسلم بن عقيل حين جاء خبر شهادته للإمامعليه‌السلام كيف تصرّف معها؟ هل كان تصرّفه كقائد سياسي أو عسكري؟ أم أنّه تصرّف كإنسان، بل كأب عطوف رؤوف قلَّ نظيره في التاريخ الإسلامي؟!

إنّه كان لمسلم بن عقيل طفلة وحيدة يُقال لها: حميدة. كانت مع عيالات العلويّين في ركب الإمام الحسينعليه‌السلام ، وعندما جاء خبر الفاجعة بمسلم ذهب الإمامعليه‌السلام إلى خيمة النساء ونادى بأخواته:((أن أعطوني حميدة)) .

فلمّا جاءت أخذها واحتضنها، ووضعها في حجره، وراح يمسح على رأسها، وعيناه الشريفتان المباركتان تدمعان، فأحسّت الطفلة بالخطر، وحلول نازلة وشر، فقالت: يا عمّ، لماذا تمسح على رأسي كاليتامى؟! هل حدث لوالدي شيء؟

فقالعليه‌السلام :((يا ابنتي، أنا أبوكِ، وبناتي (فاطمة وسكينة)أخواتك)) (١) .

وهكذا ضجّت النساء بالبكاء والعويل على مسلم بن عقيل.

فهل لك أن تتصوّر هذه الرقّة الأبويّة، والعطف السّامي، والمحبّة الرفيعة للإمام الحسينعليه‌السلام مع هذه الطفلة المفجوعة بأبيها؟!

فيا قادة العالم السياسي، هكذا يكون القائد السياسي الحقيقي للأُمّة، وهو والد شفوق، وأخ رؤوف لشعبه، ومَنْ هم تحت حكمه وسلطته، وليس سيّداً وهم

_____________________

١ - مثير الأحزان / ٤٥.

١٨٦

عبيد أرقّاء، أو أنّه من جنس سامٍ وهم من جنس آخر دانٍ، أو أنّه سبعٌ ضارٍ وهم شياه وأحمال وديعة يفعل فيها ما يشاء كيف يشاء متى يشاء؟!

ويا أيّها القادة العسكريون، تعلّموا من الحسين بن عليعليهما‌السلام كيف يكون القائد الناجح في معارك الشرف والكرامة، وتعاملوا مع مرؤوسيكم وجنودكم بأخلاق الحسينعليه‌السلام ، وبما تعامل به مع جنده والذين كانوا تحت قيادته المظفّرة؛ حتّى يفدوكم ويدافعوا عنكم كما دافعوا عن الحسينعليه‌السلام ، وفدوه وأهله من كلّ سوء حتّى استشهدوا جميعاً قبل أن تصل إلى قائدهم الحسين جراحة واحدة.

هكذا يعلمنا أبو عبد اللهعليه‌السلام ، فانظروا إلى مَنْ وعى رسالة الحسينعليه‌السلام في أمسنا المعاصر، كيف نجح وحرّر شعبه وبلاده، ذاك زعيم الهند غاندي الذي قال: (تعلّمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر).

موقف الأصحاب من قائدهم ليلة عاشوراء

وهذه واقعة أُخرى عجيبة، وموقف لم يسجّل التاريخ مثله من نُبل وأخلاق الإمام الحسينعليه‌السلام وشجاعته، ووفاء الأهل والأصحاب الكرام، وأتحدّى مَنْ يستنطق التاريخ كلّه أن يأتي بمثل هذا الموقف في ليلة عاشوراء.

يروى أنّه نهض عمر بن سعد بن أبي وقاص إلى الحسينعليه‌السلام عشية الخميس لتسع مضين من المحرَّم، ثمّ نادى: يا خيل الله اركبي، وبالجنّة أبشري!

تصوّر يا عزيزي هذا الشيطان الرجيم الذي ينادي بالخيول أن تركب لقتال

١٨٧

ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وسيّد شباب أهل الجنّة، ويلقّبها (بخيل الله)، وهي (خيول يزيد)، ويبشّرها بالجنّة، ولكن ليس جنّة الله، وإنّما جنّة بني أُميّة؛ لأنّ الذين يقاتلونه هو الإمام الحسينعليه‌السلام ، وهو سيّد شباب أهل جنّة الله.

وزحف جيش ابن سعد نحو معسكر الإمام بعد العصر، والحسينعليه‌السلام جالس أمام خيمته محتبٍ بسيفه، إذ خفق برأسه على ركبتيه، فسمعت أخته الضجّة فدنت من أخيها، وقالت: (يا أخي، أما تسمع الأصوات قد اقتربت؟)

فرفع الحسينعليه‌السلام رأسه فقال:((إنّي رأيتُ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الساعةَ في المنامِ وهو يقولُ لي: أنّك تروح إلينا)) .

فلطمت أخته وجهها، ونادت بالويل. فقال لها الحسينعليه‌السلام :((ليس لكِ الويل يا أخيّة، اسكتي رحمكِ الله)) .

ثمّ قال له العباس بن علي: (يا أخي، أتاك القوم).

فنهض ثمّ قال:((يا عباس، اركب بنفسي أنتَ يا أخي حتّى تلقاهم، وتقول لهم: ما لكم، وما بدا لكم؟ وتسألهم عمّا جاء بهم)) .

فأتاهم العباس في نحو من عشرين فارساً، فيهم زهير بن القين وحبيبب بن مظاهر، فقال لهم العباس: (ما بدا لكم، وما تريدون؟).

قالوا: قد جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمة أو نناجزكم.

فقال: (فلا تعجلوا حتّى أرجع إلى أبي عبد الله فأعرض عليه ما ذكرتم).

فوقفوا وقالوا: القه فأعلمه، ثمّ القنا بما يقول لك.

١٨٨

فانصرف العباس راجعاً يركض إلى الحسينعليه‌السلام يخبره الخبر، ووقف أصحابه يخاطبون القوم ويعظونهم ويكفّونهم عن قتال الحسينعليه‌السلام .

فجاء العباس إلى الحسينعليه‌السلام فأخبره بما قال القوم.

فقالعليه‌السلام :((ارجع إليهم، فإن استطعت أن تُؤخّرهم إلى غدوة، وتدفعهم عنّا العشيّة؛ لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أنّي قد كنت أحبُّ الصلاة له، وتلاوة كتابه، وكثرة الدعاء والاستغفار)) .

فمضى العباس إلى القوم، ورجع من عندهم ومعه رسول من قبل عمر بن سعد يقول: إنّا قد أجّلناكم إلى غدٍ، فإن استسلمتم سرحّناكم إلى أميرنا عبيد الله بن زياد، وإن أبيتم فلسنا تاركيكم، وانصرف.

فجمع الحسينعليه‌السلام أصحابه عند قرب المساء.

قال علي بن الحسين زين العابدينعليه‌السلام :((فدنوت منه لأسمع ما يقول لهم، وأنا إذ ذاك مريض، فسمعتُ أبي يقول لأصحابه: أُثني على الله أحسن الثناء، وأحمده على السّرّاء والضّرّاء. اللهمّ إنّي أحمدك على أن كرّمتنا بالنبوّة، وعلّمتنا القرآن، وفقّهتنا في الدّين، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدةً فاجعلنا من الشاكرين.

أمّا بعد، فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيتٍ أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عنّي خيراً، ألا وإنّي لا أظنّ يوماً لنا من هؤلاء، ألا وإنّي قد أذنت لكم، فانطلقوا جميعاً في حلٍّ ليس عليكم منّي ذمام، هذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً.

١٨٩

فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه وابنا عبد الله بن جعفر: لِمَ نفعل ذلك لنبقى بعدك؟ لا أرانا الله ذلك أبداً! بدأهم بهذا القول العباس بن عليعليه‌السلام وتبعه الجماعة عليه فتكلّموا بمثله ونحوه.

فقال الحسينعليه‌السلام : يا بني عقيل حسبكم من القتل بمسلم فاذهبوا أنتم فقد أذنتُ لكم.

قالوا: سبحان الله! فما يقول الناس؟ يقولون إنّا تركنا شيخنا وسيّدنا وبني عمومتنا خير الأعمام ولم نرمِ معهم بسهمٍ، ولم نطعن معهم برمحٍ، ولم نضرب معهم بسيفٍ، ولا ندري ما صنعوا! لا والله، ما نفعل (ذلك)، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا، ونقاتل معك حتّى نرد موردك، فقبّح الله العيش بعدك.

وقام إليه مسلم بن عوسجة فقال: أنحن نُخلّي عنك! وبِمَ نعتذر إلى الله في أداء حقّك؟ أمّا والله، حتّى أطعن في صدورهم برمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة. والله، لا نخلّيك حتّى يعلم الله أنا قد حفظنا غيبة رسوله فيك.

أمّا والله، لو قد علمتُ أنّي أُقتل ثمّ أُحيى، ثمّ أُحرق ثمّ أُحيى ثم أُذرى، يُفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك. فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة، ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً؟

وقام زهير بن القين (رحمه الله) فقال: والله، لوددتُ أنّي قُتلت ثم نُشرت ثمّ قُتلت، حتّى أُقتل هكذا ألف مرّة، وأنّ الله عزّ وجلّ يدفع بذلك القتل عن نفسك، وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك.

وتكلّم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضاً في وجه واحد، فجزاهم

١٩٠

الحسين عليه‌السلام خيراً)) .

وقيل لمحمد بن بشير الحضرمي في تلك الحال: قد أُسر ابنك بثغر الرّي.

فقال: عند الله أحتسبه ونفسي، ما كنت أحبّ أن يؤسر وأنا أبقى بعده.

فسمع الحسينعليه‌السلام قوله، فقال:((رحمكَ الله، أنتَ في حلٍّ من بيعتي، فاعمل في فكاكِ ابنك)) .

فقال: أكلتني السبِّاع حيّاً إن فارفتك.

قال:((فأعطِ ابنك هذه الأثواب البرود يستعين بها فداء أخيه)) . فأعطاه خمسة أثوابٍ قيمتها ألف دينار.

قال الراوي: وبات الحسينعليه‌السلام وأصحابه تلك الليلة ولهم دويّ كدويّ النحل، ما بين راكع وساجد، وقائم وقاعد، فعبر إليهم - أي التحق بهم - في تلك الليلة من عسكر عمر بن سعد اثنان وثلاثون رجلاً(١) .

هذا هو المؤتمر الموسَّع الذي ضمَّ جميع أفراد جيش الحقّ والخير، جيش الإيمان والتقوى، الجيش الذي يقوده ويرأسه الإمام الحسين السبطعليه‌السلام ، وفي آخر ليلة له في هذه الدنيا الدنيّة.

هل سمعت بمثله أيّها القارئ المنصف؟ وهل قرأ أحرار العالم شبيه ذلك؟!

نعم، هذا هو الحسين بن عليعليهما‌السلام ، وعظمة شخصه، وسموّ أخلاقه وإنسانيّته التي لا تُحد، وعطفه الذي لا يوصف؟

_____________________

١ - إرشاد المفيد / ٢٣٠ - ٢٣٢، اللهوف / ٤٠ - ٤١.

١٩١

الإمام الحسينعليه‌السلام يعلم علم اليقين أنّه مقتول بسيوف بني أُميّة وزبانيتهم، وكلّ مَنْ سيبقى معه مصيره الشهادة وقطع الرؤوس والدوران بها في البلاد، والتمثيل بجثثهم على رؤوس الأشهاد؛ ولذا فإنّه (صلوات الله عليه) ولعظيم تديّنه وأخلاقيّة نهضته، أراد أن يحلّ الجميع من البقاء معه؛ لأنّه ربّما كان بينهم مَنْ يرى أنّ حياته في الأُمّة الإسلاميّة وبين ظهرانيّها أنفع له ولأهله كما يظنّ البعض، فتمنعه البيعة والالتزام بها، والشرف والكرامة والأنفة، والشجاعة والشهامة، وغير ذلك من الصّفات الإنسانيّة الحميدة من التخلّف عن القتال مع الإمام، فأرادعليه‌السلام أن يكون واضحاً وصريحاً معهم منذ البداية وحتى هذه الليلة.

وهذا الموقف الذي أكّد لهم فيه أنّه مقتول، وأنّ حكّام بني أُميّة لا يطلبون إلاّ نفسه الزكيّة وشخصه الكريم، وإذا ما وصلوا إليه ذُهلوا عن البقيّة الباقية، وتركوهم ولم يبحثوا عنهم، فيتفرّقون في الأمصار والبلدان إلى أن يأتيهم الأجل المحتوم.

إنّها العظمة، الإيمان، التقوى، القيم الإنسانيّة العظيمة، يريدعليه‌السلام أن لا يكون مسؤولاً عن شهادة أحد من أصحابه دون رويّة ووضوح رؤية وبصيرة، يريدهم جميعاً أن يكونوا مخلصين لله، وليس لشخص الإمام الحسينعليه‌السلام ، رغم أنّه يستحق أن يُفدى بأغلى وأثمن ما في الوجود، أرادهم لله خالصين مخلصين.

قد يُقال: عند هجوم القوم عصر التاسع من شهر محرّم يَطلب الإمام منهم رخصة لليلة فقط، لماذا؟ هل هي مهلة للتفكير أو التدبير، أو تقدير المصير؟ أم أنّها مهلة للاستسلام للحاكم الظالم كما ظنَّ الكثير من جهّال العراق آنذاك؟ أم

١٩٢

هي فرصة للهروب والفرار في ذلك الليل البهيم خوفاً من التحدّي والمواجهة؟

لماذا هذه المهلة إذن؟!

كلّ تلك الحسابات لم تكن في فكر، ولا دارت في خلد الإمام الحسينعليه‌السلام ، ولا حتّى أحد من أصحابه البررة، بل المهلة للصلاة والعبادة، والدعاء وقراءة آيات من القرآن الكريم والاستغفار، وليس لأيّ شيء آخر.

هكذا يكون الرّسالي الربّاني، القائد الإلهي، يطلب مهلة عن الموت؛ لكي يتهيّأ أصحابه وأهل بيته للقاء الربّ الجليل، فهل هو بحاجة لذلك كلّه؟!

لا، الإمام الحسينعليه‌السلام ليس بحاجة لهذه الصلاة أو الدعاء أو الاستغفار، بل لأنّ الله يعلم أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام ((يحبّ الصلاة له، وتلاوة كتابه، وكثرة الدعاء والاستغفار)) .

إذن الصلاة بالحبّ، وحبّ الصلة بالله العزيز الحميد، وتلاوة الكتاب فيه لذّة ما بعدها لذّة؛ لأنّه كلام ربّ العالمين، وتلاوته تعني مخاطبة الله لتاليه.

والدعاء: هو خطاب من العبد إلى المعبود مباشرة.

فكم أنت عظيم يا سيدي ويا مولاي يا أبا عبد الله، كم أنت محبٌّ لله عابد له؟!

الإمامعليه‌السلام والصلاة تحت الأسنّة

إنّ الصلاة - الصلة الحقيقية بين العبد وربّه - لها وقعٌ خاصّ، وشأنٌ رفيع، ومكانة سامية في قاموس الأولياء والعظماء، لا سيما وأنّ الحبيب المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله

١٩٣

كان يقول:((حُبّبَ إليّ من دُنياكم ثلاث وجعلت قرّة عيني في الصلاة)) (١) .

ولذا فإنّ قصص الأئمّة من أهل البيت الأطهارعليهم‌السلام مع الصلاة عجيبة وغريبة، لا سيما وأنّ أمير المؤمنين عليعليه‌السلام كان يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة، وحفيده الإمام زين العابدين علي بن الحسين لقّب بالسجادعليه‌السلام لكثرة صلاته وسجوده.

وأمّا المولى أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام فإنّه كان يحبّ الصلاة، ومَنْ أحبَّ شيئاً بادر إليه، ووالده العظيم حينما وقف في ليلة الهرير المشهورة في حرب صفين وراح يصلّي، استنكر عليه أحد القوم فقال له: صلاة في مثل هذا اليوم (الوقت) يا مولاي؟!

فقالعليه‌السلام :((على ماذا إذنْ نُقاتلُ القَوم؟!)) . أليس على الصلاة، فإذا تركنا الصلاة فلا داعي للحرب والقتال؛ لأنّنا سنكون مثلهم تماماً في ترك الصلاة أو تأخيرها.

وهكذا عندما حلّ وقت الزوال في يوم عاشوراء وهم في حلبة المعركة، جاء أبو ثمامة الصيداوي إلى الحسينعليه‌السلام وقال: يا أبا عبد الله، نفسي لنفسك الفداء، هؤلاء اقتربوا منك، لا والله لا تُقتل حتّى أُقتل دونك، وأحبّ أن ألقى ربّي وقد صلّيت هذه الصلاة.

فرفع الحسينعليه‌السلام رأسه إلى السماء، وقال:((ذكرتَ الصلاة، جعلك الله من المصلِّين الذّاكرين. نعم، هذا أوّل وقتها)) . ثمّ قال:((سلوهم أن يكفّوا عنّا حتّى

_____________________

١ - شرح نهج البلاغة ١٩ / ٣٤١، بحار الأنوار ٧٣ / ١٤١.

١٩٤

نُصلّي)) .

فقال الحصين بن نُمير: إنّها لا تُقبل. (تصوّر أنّ صلاة الإمام الحسينعليه‌السلام لا تقبل عند هذا)!

فقال حبيب بن مظاهر الأسدي: لا تُقبل الصلاة كما زعمت من ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وتقبل منك يا ختَّار (يا حمار)!

فحمل عليه حصين بن نُمير، وحمل عليه حبيب فضرب وجه فرسه بالسيف فشبَّ (وثب) به الفرس ووقع عنه الحصين، واستنقذه أصحابه.

فقال الحسينعليه‌السلام لزهير بن القين، وسعيد بن عبد الله:((تقدّما أمامي حتّى أصلّي الظهر)) . فتقدّما أمامه في نصف أصحابه حتّى صلّى بهم صلاة الخوف(١) .

ووقف البطل سعيد بن عبد الله الحنفي أمام الإمام الحسينعليه‌السلام درعاً ووقاية له أثناء الصلاة، ولمّا أُثخن بالجراح سقط على الأرض، وهو يقول: اللهمَّ العنهم لعن عاد وثمود، وأبلغ نبيّك منّي السّلام، وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح؛ فإنّي أردت بذلك ثوابك في نصرة ذريّة نبيّكصلى‌الله‌عليه‌وآله .

والتفت إلى الحسينعليه‌السلام قائلاً: أوفيتُ يابن رسول الله؟

قالعليه‌السلام :((نعم، أنتَ أمامي في الجنّة)) .

وقضى نحبه، وارتفعت روحه إلى ربِّه، فوجدوا فيه ثلاثة عشر سهماً غير الضرب بالسيف والطعن بالرمح.

حقاً هكذا تصنع العقيدة أبطالاً يفخر بهم التاريخ، وتخلّدهم الأُمم.

_____________________

١ - موسوعة البحار ٤٥ / ٢١، الكلمة / ٢٨٤.

١٩٥

ولما فرغ الإمام الحسينعليه‌السلام من الصلاة قال لأصحابه:((يا كرام، إنّ هذه الجنّة قد فُتحت أبوابُها، واتّصلت أنهارها، وأينعت ثمارُها، وهذا رسول الله والشهداء الذين قُتلوا في سبيل الله يتوقّعون قدومكم ويتباشرون بكم، فحاموا عن دين الله ودين نبيّه، وذبّوا عن حرم الرسول (صلّى الله عليه وآله)) .

فقالوا: نفوسنا لنفسك الفداء، ودماؤنا لدمك الوقاء، فو الله لا يصل إليك وإلى حرمك سوء وفينا عرق يضرب(١) .

هكذا تكون العبادة والصلاة، وهكذا يكون الأصحاب الأوفياء؛ ولذا استحقوا جميعاً، وبكلّ فخر وجدارة شهادة الإمام الحسينعليه‌السلام لهم، وتقليدهم بذلك الوسام الرفيع العالي الذي يحقّ لهم أن يعلّقوه على صدر السماء التي كتبت أسماءهم من نور، حيث قال لهم مولاهم وقائدهم:((فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي)) .

فمَنْ كمسلم بن عوسجة الأسدي الذي قال في المؤتمر: والله، لا نخلّيك حتّى يعلم الله أنّا قد حفظنا غيبة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله فيك. أما والله، لو قد علمتُ أنّي أُقتل ثمّ أُحيى، ثمّ أُحرق ثمّ أُحيى ثمّ أُذرى، يُفعل بي ذلك سبعين مرّة ما فارقتك.

ومَنْ كزهير بن القين الذي قال: والله، لوددتُ أنّي قُتلت ثمّ نُشرت، ثمّ قُتلت، حتّى أُقتل هكذا ألف مرّة.

وأمّا ذاك البطل الذي أُسر ولده عند العدوّ يقول: أكلتني السباع حيّاً إن

_____________________

١ - مقتل الحسين - للمقرّم / ٢٤٦.

١٩٦

فارقتك.

ألا يستحق مثل هؤلاء الأبطال مثل ذاك الوسام الرفيع؟! بلى والله، إنّه لهم وليس لأحد غيرهم، فكم هو الفرق بين هؤلاء الأصحاب الكرام، وغيرهم من رجال الإسلام الذين صحبوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وبعد أيام قتلوا ابنته الوحيدة، بعد أن عصروها بالباب، وكسروا ضلعها، وأسقطوا جنينها، وضربوا عضدها، ولطموا خدّها، وفعلوا ما فعلوا!

فهكذا تكون الصحبة، وهكذا يكون الأصحاب، وهؤلاء الكرام ليسوا من الشيعة فقط، كما يظنّ الكثير من الناس الجهلاء بثورة الإمام الحسينعليه‌السلام ونهضته العملاقة؛ فإنّ فيهم السيّد الجليل، والهاشميّ الأصيل، والسنيّ النبيل، وحتى المسيحي النصراني، والحروري الخارجي، إلى الكثير من العبيد والأرقّاء، والأطفال والنساء.

فنهضة الإمام الحسينعليه‌السلام كانت أمميَّة شاملة وليست فئوية ضيّقة، كما يظنّها البعض من قصيري النظر، وقليلي العلم والثقافة بالنهضة الحسينيّة المباركة، وسنتحدّث عن هذا في بحث السّلام فيما بعد بإذن الله.

١٩٧

١٩٨

الفصل التاسع: صور أخلاقيّة أُخرى من أرض الطفوف

١٩٩

٢٠٠

إنّ لكلّ معركة استثناءات تخرج بها الخطط العسكريّة عمّا رُسم لها، وذلك بما تفرضه أرض المعركة وتطوّراتها المتلاحقة، وسير الأعمال القتاليّة وتنفيذ المعركة، إلاّ إنّ معركة يوم عاشوراء على تراب كربلاء كانت كلّها استثناءات منقطعة النظير في التاريخ كلّه.

ولهذا لو استعرضنا جميع الصور لكان يجب علينا أن نكتب المقتل من جديد، أو أن ننقل تفاصيل المقاتل المختلفة، وهذا ما لا نريده هنا، والذي نريده أن نلتفت إلى الأخلاقيّات الحسينيّة كشخص وكقائد عسكري كما تصرَّف في أرض المعركة؛ لنعلم مدى الإيمان والقيم التي تحلّى بها المولى أبو عبد الله الحسين الامام الحسين (عليه السلام) في أشدّ الظروف وأدقّ الأوقات.

المرأة في كربلاء

إنّ المرأة هذا المخلوق الرائع الجميل، اللطيف الناعم، الريحانة التي تحيطنا من كلّ نواحينا، ويلفنا من كلّ جوانب حياتنا فهي: الأُمّ والزوجة، والبنت والأخت، والخالة والعمّة والجدّة.

المرأة التي خلقها الله منّا،( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً

٢٠١

لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا ) (١) ، وجعلها الله لنا سكناً وسكينة، وملجأ ورهينة في ذات الوقت، ورغم ذلك ظلمها الرجل منذ البداية؛ لأنّه لم يستطع أن يفهمها أو يقدّرها حقّ قدرها فيتعامل معها بمنطقها اللطيف، حتى إنّ العرب في الجاهليّة كانوا يدفنونها حيَّة (بالوأد) بحجّة الفقر والخوف منه تارة، أو بذريعة العار والخوف من الفضيحة تارة أُخرى، فكان( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) (٢) .

إلاّ إنّ الإسلام الحنيف والرسول العظيم أعطى للمرأة حقّها اللازم، ووضعها في مكانها اللائق على لائحة الإنسانيّة المكرّمة منذ البداية؛ لأنّ أوّل الناس إسلاماً كانت أُمّنا خديجة بن خويلد (رضي الله عنها وأرضاها) التي منحت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كلّ شيء حتّى قال بحقّها:((لولا سيف علي ومال خديجة لما قام للإسلام عود)) .

هذه العظيمة كانت زوجة وأُمّاً، فكانت نِعْمَ الزوجة والأُمّ، وعندما جاء دور البنت فإنّ ابنتها سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السّلام) تقف شامخة تتحدّى الرجال جميعاً بالكفاءة الإيمانيّة:((فلولا علي (عليه السّلام) لما كان لفاطمة الزهراء كفؤ آدم فما دون)) (٣) ، كما يقول النبي (صلّى الله عليه وآله)، وكفى بهذه العظيمة التي كانت حجّة على الأولياء العظام أن تكون قدوة وأسوة حسنة.

_____________________

١ - سورة الروم / ٢١.

٢ - سورة النحل / ٥٨ - ٥٩.

٣ - التهذيب ٧ / ١٤٧٠، بحار الأنوار ٤٣ / ١٠٧.

٢٠٢

فالإسلام دين الله الخاتم الذي نظّم الحياة كلّها بحكمة بالغة؛ لأنّه من حكيم خبير بصير، ولذا تراه وضع المرأة في مكانتها الصحيحة في الحياة الاجتماعيّة الإسلاميّة، وما دعاة التحرّر أو المنادون بحريّة المرأة في هذا العصر الأغبر إلاّ ثلّة من الأفّاكين والمحتالين الذين يطالبون بتجريد المرأة من كلّ كرامة وقداسة؛ لتكون لعبة جميلة بين أيديهم وأرجلهم، ولا همَّ لهم إلاّ جسدها وجمالها، فتراهم يستخدمونها لشهواتهم الخسيسة الدنيئة، ثمّ يلقونها كأتفه سلعة بالية يستخدمونها.

فلكلّ مَنْ ينادي بحقوق المرأة في العالم نقول: ادرس الإسلام وقوانين وتشريعات الإسلام في هذا الباب؛ فإنّك ستجد أنّه أعطاها كامل حقوقها، ونظَّم لها حياتها، وحفظها من كلّ أذى حتّى العيون الطامحة أو النفوس الطامعة، ووضعها في مكانها الذي خلقها الله له، كأساس ومدير لأعظم لبنة في المجتمع، ألا وهي الأسرة.

الحسين (عليه السّلام) وبطلة كربلاء زينب (عليها السّلام)

وإذا يمّمنا بنظرنا إلى ما نحن بصدده، واتّجهنا بأرواحنا وعيوننا إلى أرض الطفوف ومَنْ عليها، فإنّنا سنجد أنّ النساء كنَّ مرافقات للرجال ومساويات لهم؛ لأنّ فيهنّ السيّدة العظيمة الجليلة زينب الكبرى (سلام الله عليها) شقيقة القائد الأعلى الإمام الحسين (عليه السّلام)، وفيهنّ زوجته الرباب، وابنته سكينة، وكذلك زوجات الأبطال والمقاتلين وحتى العبيد والإماء.

فللمرأة حضور عظيم جدّاً في كربلاء، حتّى إنّ معظم الخطباء والعلماء الأجلاّء يذهبون إلى أنّ وجود المرأة في كربلاء كان ضرورة لبقاء المسيرة

٢٠٣

واستمرار المنهج؛ لأنهنَّ كنَّ كالإعلام الذي نقل الأحداث بتفاصيلها المؤلمة، مع ما يرافقها من بكاء ونواح وحتى العويل على الشهداء.

وهذا ما جعل أخبار الفاجعة تنتشر في المجتمع الذي ينزلنَ فيه كالنار في الهشيم، حتّى إنّ يزيد الطاغية اعترف بذلك.

ويُقال: إنّ أوّل مجلس عزاء على سيّد الشهداء ِأقامته هند زوجة يزيد في الشام.

وأمّا موقف السيّدة العظيمة زينب الكبرى، عقيلة بني هاشم، في كربلاء، ثمّ في الكوفة، وحتى في الشام، وخطبها الرنّانة التي فضحت فيها الحكومة الأمويّة بكلّ قوّة واقتدار، حتّى إنّها خاطبت الحاكم الأموي الأعلى يزيد بن معاوية قائلة: (فو الله، ما فريتَ إلاّ جلدكَ، ولا حززت إلاّ لحمك، ولَتردنّ على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بما تحمّلت من سفكِ دماء ذُرِّيته، وانتهكتْ من حرمتهِ في عترتهِ).

وقالت: (ألا فالعجب كلّ العجبِ لقتلِ حزبِ الله النُجباء، بحزبِ الشّيطان الطُّلقاء!).

ثمّ قالت: (ولئن جرّت عليّ الدّواهي مخاطبتك، إنّي لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، وأستكثر توبيخك، لكنّ العيون عبرى، والصدور حرّى.

فكد كيدك، واسعَ سعيك، وناصب جهدك، فو الله لا تمحو ذكرنا، ولا تُميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها. وهل رأيك إلاّ فند، وأيّامك إلاّ عدد، وجمعك إلاّ بدد. يوم ينادي المنادي: ألاّ لعنة الله على الظالمين)(١) .

_____________________

١ - موسوعة بحار الأنوار ٤٥ / ١٣٤.

٢٠٤

مَنْ يستطيع أن يخاطب الحاكم في أيّ دولة من دول العالم بهذا الخطاب، وبهذا الأسلوب والتحدّي، وبهذه اللهجة القوية المليئة بالبلاغة والتقريع؟

لكنّها زينب بنت أبيها أمير المؤمنين علي (عليه السّلام)، وأُمّها الزهراء (عليها السّلام) التي وقفت بشموخ وجرأة أمام الخليفة الأوّل تطالب بفدك، وخطبتها الصريحة الأُخرى في نساء الأنصار بعد ذلك.

نعم، إنّها زينب السيّدة العظيمة التي كان يحترمها الحسين (عليه السّلام) أي احترام، ويجلّها عظيم الإجلال، ويقدّرها كبير التقدير؛ فإنّه كان إذا دخلت عليه منزله، أو خيمته في كربلاء وهو يقرأ القرآن فإنّك تراه يضع القرآن، ويقف لها إجلالاً وإكباراً، وكان لا يخاطبها إلاّ بكلّ احترام، لما يعلمه من عظمتها، ورفيع مكانتها عند الله.

فكانت لزينب (عليها السّلام) مع إخوتها وقفات ووقفات، لا سيما مع الإمام القائد، ونائبه السيّد الجليل أبو الفضل العباس (عليه السّلام).

وهكذا ترى احترام الأئمّة (عليهم السلام) للسيدة زينب (عليها السّلام)، وهذا هو الإمام زين العابدين (عليه السّلام) يقول لها:((عمَّة، أنتِ بحمدِ الله عالمةٌ غير معلّمة، وفهمةٌ غير مفهمّة)) (١) .

وأمّا سبي الحوراء فإنّها لمصيبة المصائب أن تُسبى وتُؤسر مثل السيّدة زينب عقيلة بني هاشم (عليها السّلام) وسائر الهاشميّات والعلويّات، وعلى العالم المتحضّر أن يُراجع أخلاقيّات الإمام الحسين (عليه السّلام) وأئمّة المسلمين؛ ليتعلّم كيف يتعامل مع المرأة، وكيف يعلّمها لتكون كزينب والرباب وسكينة ورملة وليلى (عليهنّ السّلام).

_____________________

١ - موسوعة بحار الأنوار ٤٥ / ١٦٤، الاحتجاج ٢ / ٣٠٥.

٢٠٥

إذاً، فالإمام القائد (عليه السّلام) لم يصرخ أو يأمر أو ينهر تلك النساء من حوله، بل كان لهنّ البلسم الشافي، والأدب الراقي، والنور الساطع، وكلّ ذلك بأخلاقه الفاضلة.

الحسين (عليه السّلام) وزوجة النصراني

ولدينا صور أُخرى عن مناقبيّات سبط الرسول الحسين (عليه السّلام) مع النساء في يوم عاشوراء، كأُمّ وهب التي رافقته مع زوجها النصراني المؤمن الذي قُتل مع زوجته، وكانت من قبل تنهاه عن الالتحاق بالإمام الحسين (عليه السّلام)؛ لأنّه عريس جديد وشاب نضر.

فإنّك تجد الإمام القائد (عليه السّلام) يخاطبهنّ بهذا الخطاب:((يا أمة الله، عودي إلى الخيام رحمك الله؛ فإنّه ليس على النساء جهاد. أما ترضينَ أن تكوني مع زينب والرّباب)) (١) .

وهكذا فإنّ الأخلاق الإسلاميّة التي جسّدها الحسين (عليه السّلام) كانت حاضرة بكلّ دقّة ورقّة في جنبات كربلاء، لا سيما في أيّام عاشوراء. فأبو الفضل العباس (عليه السّلام) كانت أمنيته أن يوصل الماء إلى النساء والأطفال في ذلك اليوم، والإمام (عليه السّلام) ترك الماء عندما قال له ذاك الجلف: تتلذّذ بالماء البارد وقد هجموا على خيامك وهتكوا حريمك؟

فالغيرة والحميّة والعفة، وجميع المفردات الأخلاقيّة كانت حاضرة عند الإمام ولم يفته منها شيء، ولو تتبّعناها لطال بنا الحديث، ولكنّ نباهة القارئ

_____________________

١ - المصدر السابق.

٢٠٦

تكفي المؤونة.

رجال في كربلاء، العبيد نموذج

إنّ عادة الرقّ وحياة العبيد كانت سائدة وبكثرة في تلك الأيّام، وعندما جاء الإسلام العظيم فإنّه أولى هذه المسألة اهتماماً كبيراً لتحرير اُولئك العبيد الأرقاء. فهناك الكثير من الكفّارات وغيرها تحضّ على تحرير الرقاب من رقّ العبوديّة، ورفع تلك القيود عن كواهلهم.

وفي كربلاء كان للعبيد حضور خاصّ؛ لأنّهم شاركوا وسطّروا ملاحم بطولية كالسادة تماماً، وهنا نأخذ صورة العبد (جون) الذي كان يخدم الصحابي الجليل أبا ذرّ الغفاري (رضوان الله عليه)، ثمّ انتقل إلى خدمة الإمام الحسين (عليه السّلام)، ورافقه إلى كربلاء، وتحمّل معه عناء الطريق كلّه، ولا أحد يعلم ما يفكّر به هذا الرجل العبد.

وعندما سقط أصحاب الحسين (عليه السّلام) شهداء، تقدّم هذا العبد إلى أبي الأحرار الحسين (عليه السّلام) بكلّ تواضع وخشوع يستأذنه للنزول إلى ميدان القتال، إلاّ إنّ الإمام أراد أن يردّه ردّاً أخلاقيّاً لطيفاً؛ لكي لا يجرح شعوره، فقال له بكلّ حبّ وحنان وتقدير:((يا جون، إنّما تبعتنا طلباً للعافية، فأنت في إذن منّي)) ، أو((فلا تبتلِ بطريقنا)) (١) .

فأنت أتيت معنا على الصحة والحياة والعيش الكريم، وأمّا الآن فإنّه الموت الزؤام الذي لا بدَّ منه، فأين ترمي بنفسك؟ ولعلك خجلت أو استحييت من

_____________________

١ - اللهوف / ٤٧، مثير الأحزان / ٦٣، العوالم ١٧ / ٢٦٥.

٢٠٧

موقفك، فأنّا أعذرك وأقدّر لك هذا الموقف، ولكن أنت في حلّ من ذلك كلّه، فاذهب وعش حياتك كما تريد.

فوقع جون على قَدَمي الإمام القائد يقبّلهما وهو يقول: يابن رسول الله، أنا في الرخاء ألحسُ قصاعكم، وفي الشدّة أخذلكم! والله، إنّ ريحي لَنَتنٌ، وحَسَبي لَلئيم، ولوني لأسود، فتنفّس عليَّ بالجنّة؛ ليطيب ريحي، ويشرف حسبي، ويبيضَّ لوني، لا والله، لا أُفارقكم حتّى يختلط هذا الدمّ الأسود مع دمائكم(١) .

ألم أقل لك إنّ كربلاء وعاشوراء استثناء منقطع النظير في التاريخ كلّه، فمَنْ يقف مثل هذا الموقف العظيم؟! ما هو السبب الذي يجعل هذا العبد رهن إشارة المولى؟! إنّه يعرف نفسه جيداً، وإنّ طموحه كبير، وأمله عظيم؛ لأنّه محدِّقٌ بنظر من حديد إلى مكانة سامية في جنان الخلد، ورضى الربّ وجنّة القرب؛ لذا تراه يرفض العيش، بل ويطلب الموت العاجل.

وعندما سمع سيّد الشهداء الحسين (عليه السّلام) كلامه، أذن له بالنزول إلى المعركة، فسطّر ملحمته بحروف من نور، وكتب وثيقة وفائه وصدقه وإخلاصه بدمه الطاهر الزكي.

وحينما استشهد وسقط على الأرض ذهب إليه المولى أبو عبد الله الحسين (عليه السّلام)، ودعا له بهذه الكلمات التي تفيض عذوبة ولطافة:((اللهمّ بيّض وجهه، وطيّب ريحه، واحشره مع محمد (صلّى الله عليه وآله)، وعرّف بينه وبين آل محمد (صلّى الله عليه وآله)) .

فكان كلّ مَنْ يمرّ بالمعركة يشمّ منه رائحة طيّبة أزكى من المسك(٢) .

_____________________

١ - المصدر السابق.

٢ - مقتل الحسين - للمقرّم / ٢٥٢، العوالم / ٨٨.

٢٠٨

إنّ مناقبيّات سيّد الشُّهداء الحسين بن علي (عليهما السّلام) كانت عظيمة جدّاً مع هؤلاء الكوكبة من العبيد الذين فاقوا على الكثيرين من اُولئك الذين فاتتهم المسيرة الحسينيّة، وهم في أعلى مراتب الإسلام كعبد الله بن العباس وغيره من أعلام الإسلام.

وكُتب السيرة والمقاتل تروي أنّ الإمامعليه‌السلام كان كلّما سقط واحد من هؤلاء العبيد يذهب إليه ويرفع رأسه ويحتضنه رقةً وحُبّاً به، فكان يودّع الدنيا وهو في حجر الحسينعليه‌السلام .

فلمّا صُرع واضح التركي مولى الحرث المذحجي استغاث بالحسينعليه‌السلام فأتاه أبو عبد الله واعتنقه، فقال: مَن مثلي وابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله واضع خدّه على خدّي؟! ثمّ فاضت نفسه الطاهرة(١) .

وكذلك كان حال أسلم مولى الحسينعليه‌السلام حيث مشى إليه واعتنقه وكان به رمق، فتبسّم وافتخر بذلك ومات(٢) .

تلك هي الأخلاق الإسلاميّة العظيمة التي لا تفرّق بين عبد رقيق وسيّد جليل، ولا بين أبيض وأسود، بل إنّ التفاضل بالأعمال والتقوى وليس بالأحساب والأنساب.

فأين اُولئك الذين يدَّعون الحريّة والديمقراطيّة وحقوق الإنسان؟!

هلاّ قرؤوا الإسلام الحنيف وأخلاقيّات أهل البيت الأطهارعليهم‌السلام ، لا سيما

_____________________

١ - مقتل الحسين - للمقرّم / ٢٤٩، مقتل الخوارزمي ٢ / ٢٤.

٢ - المصدر السابق.

٢٠٩

أخلاقيّات عاشوراء وكربلاء التي سطّرها سيد الشهداء الحسين بن عليعليهما‌السلام على أرض الواقع، فرسخت في القلوب المؤمنة وعافتها النفوس الخبيثة؟!

أصحاب الحسينعليه‌السلام وصور من الوفاء

تبقى المسيرة متعثّرة ما لم تسعفها أخلاق القيادة الرساليّة والوفاء من الجند والأصحاب، وهذا ما يجب أن يتبادله القائد ومَنْ هم تحت قيادته وإمرته؛ لأنّ حبّ القائد يعني حبّ القضية والوفاء لها وإيثارها على النفس والغير.

وعاشوراء سجّلت على أرض كربلاء ملاحم بطوليّة بدماء الشهداء الزكيّة، وأبرزت كلّ معاني الوفاء، وأعظم صور الأخلاق، وأرفع أوسمة القيم المثاليّة في الحياة الإنسانيّة، وذلك مع جميع الشهداء من الأهل والأقرباء وحتى الأصحاب والعبيد والإماء.

هذا البطل زهير بن القين، يقف أمام الحسينعليه‌السلام ويضع يده على كتفه، ويقول:

أقدم هديت هادياً مهديّا

فاليوم ألقى جدّك النبيّا

وحسناً والمرتضى عليّا

وذا الجناحين الفتى الكميّا

وأسد الله الشهيد الحيّا

فيقول له الإمام:((وأنا ألقاهم على أثَرِكَ)) .

هذه من صور الوفاء الخالدة، ولكن أين الوسام الأخلاقي المقابل؟

إنّه من الحسين بن عليعليه‌السلام القائد الذي وقف على جسد زهير بعد شهادته، يقول له:

٢١٠

((لا يُبعدنّك الله يا زُهير، ولعن الله قاتليك؛ لَعْنَ الذين مُسخوا قردةً وخنازير)) (١) .

إليك هذا القائد التاريخي لجناح الحسينعليه‌السلام الذي كبر سنّه في طاعة الله، وقضى نحبه بين يدي ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكان ممّن يستحق الخلود كشامة على خدود الدهر.

إنّه حبيب بن مظاهر الأسدي الذي كان من أصحاب أمير المؤمنينعليه‌السلام ومن شرطة الخميس، وكان نافذ البصيرة، صلب الإيمان، ويصفه المؤرّخون بالوفاء؛ إذ أنّه كان يوم الطفّ من أشدّ أصحاب الإمام سروراً وغبطة بما يصير إليه من الشهادة بين يدي ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد برز وهو يقول:

أنا حبيب وأبي مظهّر

فارس هيجاء وحرب تسعر

وأنتم منّا لعمري أكثر

ونحن أوفى منكم وأصبر

ونحن أعلى حجّة وأظهر

حقّاً وأبقى منكم وأعذر

إذن هو وفيٌّ لمبدئه، ودينه وعقيدته، وبالتالي لقائده وإمامه وسيّده؛ ولذا كان صاحب الوسام الرفيع، لأنّ هذا البطل قد هدَّ مقتله الحسينعليه‌السلام كما يقول المؤرّخون؛ ولذا وقف القائد العظيم على الجسد المقطّع فاسترجع كثيراً، وقال:((عند الله أحتسب نفسي وحماة أصحابي)) (٢) .

فالوفاء من الجندي يقابله أخلاق عالية، وأوسمة رفيعة من القائد.

_____________________

١ - تاريخ الطبري ٦ / ٢٥٣.

٢ - حياة الإمام الحسين بن علي ٣ / ٢٢١، تاريخ الكامل - لابن الأثير ٣ / ٢٩٢، تاريخ الطبري ٦ / ٢٥١.

٢١١

وقصّة الحرّ الرياحيّ التائب، ووداع الإمام له وشهادته له بأنّه حرٌّ في الدنيا والآخرة تكفيه، وإنّه نِعْمَ الرجل كان.

وكذلك برير بن خضير، ذاك العابد الزاهد، المعلّم للقرآن في مسجد الكوفة الذي دعا صاحبه إلى المباهلة في قلب المعركة لولاية أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ورغم كبر سنّه، وجلالة قدره فإنّه تعارك مع خصمه رضي بن منقذ العبدي فصرعه وجلس على صدره، فاستغاث هذا برجل من أصحابه، فقال له عفيف بن زهير: هذا برير بن خضير القارئ الذي كان يقرئنا القرآن في جامع الكوفة.

فلم يلتفت إليه فقتل بريراً بالرمح، وعاد إليه بالسيف فقتله، وذهبت روحه إلى بارئها طاهرة زكيّة.

وعاد عدوّه إلى بيته فاستقبلته زوجته النوار قائلة: أعنت على ابن فاطمة، وقتلت سيّد القرّاء، لقد أتيت عظيماً من الأمر! والله لا أكلّمك من رأسي كلمة أبداً(١) .

حبّ الحسينعليه‌السلام أجنّني

وقبل أن أدعك وأودّعك من هذا الفصل، لا بأس بأن نذكر عملاقاً من عمالقة كربلاء؛ لنستأنس ونتبارك بسيرته العطرة.

كان عابس بن شبيب رئيساً من رؤساء همدان الخير، وخطيباً من خطباء العرب، وناسكاً في العبادة، ومجتهداً في الدين، إنّه من رجال الشيعة المعروفين، ولا غرو فهذا ديدن بني شاكر، فكلّهم كانوا مخلصين بولايتهم لأمير المؤمنين

_____________________

١ - مقتل الحسين - للمقرّم / ٢٥٠.

٢١٢

عليعليه‌السلام ، ولقد قال فيهم الإمام عليعليه‌السلام في صفين:((لو تمّتْ عدّتهم ألفاً لعُبد الله حقَّ عبادته)) .

وكانوا من شجعان العرب المشهورين، وحماتهم المعروفين؛ ولذا لقبوا بـ (فتيان الصباح)، وعابس هذا كان من أكابرهم ورجالاتهم الرفيعة الشأن، وما أن قدم مسلم بن عقيلعليه‌السلام الكوفة حتّى بايعه وراح يساعده في جميع شؤونه.

وفي يوم الطفّ وقف أمام سيّد الشهداء ليودعه بهذه الكلمات التي تشعّ محبّة وفخاراً، وتنضج بالولاء والوفاء: ما أمسى على ظهر الأرض، قريب ولا بعيد، أعزّ عليَّ منك، ولو قدرت أن أدفع الضيَّم عنك بشيء أعزّ عليّ من نفسي لفعلت. السّلام عليك، اشهد لي أنّي على هداك وهدى أبيك. ومشى بالسيف نحو القوم.

قال ربيع بن تميم: فلمّا رأيته مقبلاً عرفته، وقد كنت شاهدته في المغازي فكان أشجع الناس، فقلت للقوم: أيّها الناس هذا أسد الأسود، هذا ابن شبيب لا يخرجنّ إليه أحد منكم.

فأخذ ينادي: ألا رجل، ألا رجل لرجل؟!

فتحاماه الناس لشجاعته المعروفة، فقال لهم عمر بن سعد وكان قريباً منهم: ويلكم! ارضخوه بالحجارة (اضربوه بها بشدّة وقسوة).

فرموه بالحجارة من كلّ جانب، فلمّا رأى ذلك ألقى درعه ومغفره وشدَّ على القوم، فصاح به أحد أصحابه: ما لك يا عابس هل جُننتْ؟!

٢١٣

فقال البطل المغوار: نعم، حبُّ الحسين أجنّني(١) .

وهنا شاهدي: لماذا تعلّق هذا الرجل الشجاع بالإمام الحسينعليه‌السلام إلى هذه الدرجة؟! لماذا أحبّه حتّى الجنون؟!

هل يمكن لأحدٍ أن يشتري الحبّ؟! وهل يمكن أن يرغم قلبه على حبّ مَنْ لا يحبّ؟

وقد تسألني: وهل القلب باليد أم أنّ أمره بيد الربّ تعالى؟

نعم، الحبّ في القلب، والقلب يتقلّب بيد الربّ سبحانه، ولا أحد يستطيع أن يحبّ أو يكره بإرادته ومتى شاء وأراد، فهذا أمر متعذّر؛ ولذا قال أمير المؤمنين عليعليه‌السلام :((لو ضربت خيشومَ المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني، ولو صببتُ الدنيا بجمّاتها على المنافق على أن يُحبّني ما أحبّني)) (٢) .

والإنسان يمتلك القلوب بالإحسان والأخلاق الفاضلة والقيم السامية، والمولى أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام الذي مثَّل خُلق القرآن والإسلام والرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله في كلّ أيّام حياته، أسر القلوب، وسكن أفئدة المؤمنين، لا سيما أصحابه الذين كانوا معه في كربلاء، ولا عجب أن يصرّح عابس بن شبيب بهذه الحقيقة العاشورائيّة.

_____________________

١ - المصدر السابق.

٢ - نهج البلاغة - قصار الحكم، رقم ٤٥.

٢١٤

الفصل العاشر: ثقافة السِّلم والسَّلام عند الحسين بن عليعليه‌السلام

٢١٥

٢١٦

السَّلام ثقافة وضرورة حضارية؛ لأنّ الثقافة فكر نظري وتطبيق عملي، فهذا لا ينفصل عن هذا، وهذا لا يبتعد عن ذاك، العلم والعمل، الفكر والتطبيق، النظري والعملي. والثقافة خليط من كلّ ذلك، ولكلّ مجتمع أو بلد ثقافته المميّزة له عن الآخر، وقد تتوحّد الثقافات، وربما تختلف العادات، وهذا أمر طبيعي في هذه الحياة.

فالسَّلام ما هو؟ وكيف مارسه الإمام الحسينعليه‌السلام في نهضته، تلك هي القضية؟

وقبل البسط في الحديث لا بدَّ لنا من مقدّمات تبسيطيّة لبعض المفاهيم، باعتبار أنّ هذه الكلمة (السّلام) هي عبارة عن مفهوم عام ضبابي، فلا بدَّ من العودة إلى كتب اللغة العربية؛ حتّى نعرف المعنى الحقيقي لها في لغتنا الأُمّ، ومن ثمّ التيمّم باتّجاه الجوانب الأُخرى وأطيافها المعاصرة.

ولو سألت كلّ عباقرة البشريّة عن معنى (السعادة) لما حصلت إلاّ على آراء مختلفة، تخبرك عن هوية أصحابها ونفسيّاتهم أكثر ممّا تخبرك عن المعنى الحقيقي للكلمة.

السَّلام: هو حالة من الهدوء والاطمئنان الذي يشعر بها الإنسان في نفسه، وكذلك في أسرته ومجتمعه وأُمّته والعالم أجمع. فلا تعقيدات ولا قلق نفسي،

٢١٧

ولا عنف أسري ولا اضطرابات في المجتمع، ولا منازعات في اختلافات الأُمّة؛ فالاختلاف حقّ مشروع وسُنّة كونيّة، ولا حروب وعمليات عسكريّة في العالم المسكون.

هذا هو السّلام العام كما نفهمه ونتطلّع إليه على كلّ المستويات. وإذا رجعنا إلى المعنى اللغوي للكلمة، فإنّنا سوف نجد كلّ ذلك في تراثنا اللغوي، إذ أنّ اللغة العربية هي أجمل وأغنى لغات العالم الحيّة والميّتة في مفرداتها وبلاغتها.

(سِلْم) السين واللام والميم معظم بابه من الصحة والعافية. فالسلامة: أن يسلْم الإنسان من العاهة، والله جلّ ثناؤه: هو السّلام، لسلامته ممّا يلحق المخلوقين من العيب والنقص والفناء. قال الله (جلّ جلاله):( وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ ) (١) .

فالسَّلام: هو اسم الله (جلّ ثناؤه) وداره الجنّة. ومن بابه الإسلام: وهو الانقياد التام(٢) .

أسلم: انقاد، وأخلص الدين لله، ودخل في دين الإسلام، ودخل في السلم. والسلام اسم من أسمائه تعالى. والسلامة: البراءة من العيوب(٣) .

والسَّلام: تحيّة الإسلام، بل تحيّة أهل الجنّة، كما في الحديث الشريف، وهي

_____________________

١ - سورة يونس / ٢٥.

٢ - معجم مقاييس اللغة ٣ /٩٠ مادة (سلم).

٣ - المعجم الوسيط ١ / ٤٤٦ مادة (سلم).

٢١٨

قولنا (السّلام عليكم)، والتحيّة بها مستحبّة استحباباً مؤكّداً، أمّا ردّها فهو واجب شرعاً وعقلاً بمثلها (وعليكم السّلام)، أو بأحسن منها بأن تزيد (ورحمة الله وبركاته) وما أشبه ذلك. وهي سواء للزائر الداخل، أو للمودّع الخارج، فالتحيّة هي السّلام(١) .

والسَّلام: هو علامة انتهاء الصلاة والخروج من الحضرة المقدّسة لله تعالى، والتي تدخلها بتكبيرة الإحرام استئذاناً، فلا بدّ من السّلام عند الانتهاء والخروج، فتسلّم على الوسيلة إلى الله وهو الرسول وآله الأطهارعليهم‌السلام . وتسلّم على نفسك تحيّة من الله مباركة طيّبة، وتسلّم على الملأِ الملائكي والإيماني من حولك؛ ليكون كلّ ما أنت فيه سلاماً وهدوءاً واطمئناناً، فالسّلام بالنسبة للإسلام هدف استراتيجي حضاري(٢) .

القرآن الكريم وحقيقة السّلام

وردت هذه الكلمة (سلم) ومشتقاتها المختلفة أكثر من (٨٠) مرّة في القرآن الكريم، وذلك بألفاظ عدّة (٢٦ لفظاً) أكثرها هي: سلام، سلاماً، أسلم، السلم.

كما إنّه وردت مادة الإسلام ومشتقاته أكثر من (٥٧) مرّة في الكتاب الكريم. والإسلام هو مشتق وباب من أبواب السّلام كما هو معروف.

فالطرح الإسلامي لهذا الشعار نابع من صميمه العقيدي، وأصوله الفكريّة

_____________________

١ - السبيل إلى إنهاض المسلمين / ١٤٣.

٢ - للتفصيل راجع موسوعة الفقه / السلم والسّلام.

٢١٩

كما هو بيِّن في كتاب الله، النبع القيّم، والفضائل والتشريعات الإسلاميّة كلّها.

والملفت للنظر هنا أنّ المتتبّع لآيات القرآن الكريم، سوف يرى أنّه لا يوجد فيها ما يعبّر عن العنف، أو أيّ مشتقّ من مشتقاته أبداً. وهذا يزيد التأكيد على أنّ الدين الإسلامي يرفض العنف ويدعو إلى السّلام مع الجميع.

هذا وقد تمّ اختبار هذا الشعار على أرض الواقع فأعطى نتائج رائعة حقّاً، فقد أعطى حضارة كانت وما زالت فخراً للإنسانيّة جمعاء، بعلومها وآدابها، وعمرانها رجالاتها، وتاريخها الناصع كلّه.

النبيّ محمد رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله السّلام

وأمّا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي كان خُلقه القرآن، وحياته تطبيق وتجسيد لآيات وأحكام القرآن الحكيم، فقد عاش في مكّة أربعين عاماً واسمه الصادق الأمين، وعندما نزل عليه الوحي المقدّس، وأُمِر بالتبليغ لرسالة السماء؛ لكي ينقذ أهل الأرض من الظلام والجهل والتخلّف إلى النور والعلم والحضارة، راح الجهلاء وأبناء الجاهليّة يرمونه بكلّ ما يمكن أن يُرمى به من كذب ودجل، وسحر وشعوذة، وجنون وهوس، وغيرها الكثير من الألفاظ، ولم يكتفوا بذلك، بل كانوا يضربونه ويؤذونه، بل يرضخونه بالحجارة حتّى أدموا كعبيه وآذوه.

وصدق حين قالصلى‌الله‌عليه‌وآله :((ما أوذي نبيٌ مثلَ ما أوذيت)) (١) .

حتى إنّهم لم يتركوا شيئاً يمكن أن يؤذوه به إلاّ وفعلوه؛ من قتل ربيبته، ومحاولة اغتياله شخصيّاً ولعدّة مرّات، فاضطروه إلى الالتجاء إلى شعب أبي

_____________________

١ - موسوعة بحار الأنوار ٣٩ / ٥٥، مناقب آل أبي طالب ٣ / ٢٤٧.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580