الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية

الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية6%

الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية مؤلف:
الناشر: ياس زهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 580

الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية
  • البداية
  • السابق
  • 580 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 191618 / تحميل: 8164
الحجم الحجم الحجم
الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية

الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية

مؤلف:
الناشر: ياس زهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

إنّ لكلّ معركة استثناءات تخرج بها الخطط العسكريّة عمّا رُسم لها، وذلك بما تفرضه أرض المعركة وتطوّراتها المتلاحقة، وسير الأعمال القتاليّة وتنفيذ المعركة، إلاّ إنّ معركة يوم عاشوراء على تراب كربلاء كانت كلّها استثناءات منقطعة النظير في التاريخ كلّه.

ولهذا لو استعرضنا جميع الصور لكان يجب علينا أن نكتب المقتل من جديد، أو أن ننقل تفاصيل المقاتل المختلفة، وهذا ما لا نريده هنا، والذي نريده أن نلتفت إلى الأخلاقيّات الحسينيّة كشخص وكقائد عسكري كما تصرَّف في أرض المعركة؛ لنعلم مدى الإيمان والقيم التي تحلّى بها المولى أبو عبد الله الحسين الامام الحسين (عليه السلام) في أشدّ الظروف وأدقّ الأوقات.

المرأة في كربلاء

إنّ المرأة هذا المخلوق الرائع الجميل، اللطيف الناعم، الريحانة التي تحيطنا من كلّ نواحينا، ويلفنا من كلّ جوانب حياتنا فهي: الأُمّ والزوجة، والبنت والأخت، والخالة والعمّة والجدّة.

المرأة التي خلقها الله منّا،( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً

٢٠١

لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا ) (١) ، وجعلها الله لنا سكناً وسكينة، وملجأ ورهينة في ذات الوقت، ورغم ذلك ظلمها الرجل منذ البداية؛ لأنّه لم يستطع أن يفهمها أو يقدّرها حقّ قدرها فيتعامل معها بمنطقها اللطيف، حتى إنّ العرب في الجاهليّة كانوا يدفنونها حيَّة (بالوأد) بحجّة الفقر والخوف منه تارة، أو بذريعة العار والخوف من الفضيحة تارة أُخرى، فكان( وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) (٢) .

إلاّ إنّ الإسلام الحنيف والرسول العظيم أعطى للمرأة حقّها اللازم، ووضعها في مكانها اللائق على لائحة الإنسانيّة المكرّمة منذ البداية؛ لأنّ أوّل الناس إسلاماً كانت أُمّنا خديجة بن خويلد (رضي الله عنها وأرضاها) التي منحت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كلّ شيء حتّى قال بحقّها:((لولا سيف علي ومال خديجة لما قام للإسلام عود)) .

هذه العظيمة كانت زوجة وأُمّاً، فكانت نِعْمَ الزوجة والأُمّ، وعندما جاء دور البنت فإنّ ابنتها سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السّلام) تقف شامخة تتحدّى الرجال جميعاً بالكفاءة الإيمانيّة:((فلولا علي (عليه السّلام) لما كان لفاطمة الزهراء كفؤ آدم فما دون)) (٣) ، كما يقول النبي (صلّى الله عليه وآله)، وكفى بهذه العظيمة التي كانت حجّة على الأولياء العظام أن تكون قدوة وأسوة حسنة.

_____________________

١ - سورة الروم / ٢١.

٢ - سورة النحل / ٥٨ - ٥٩.

٣ - التهذيب ٧ / ١٤٧٠، بحار الأنوار ٤٣ / ١٠٧.

٢٠٢

فالإسلام دين الله الخاتم الذي نظّم الحياة كلّها بحكمة بالغة؛ لأنّه من حكيم خبير بصير، ولذا تراه وضع المرأة في مكانتها الصحيحة في الحياة الاجتماعيّة الإسلاميّة، وما دعاة التحرّر أو المنادون بحريّة المرأة في هذا العصر الأغبر إلاّ ثلّة من الأفّاكين والمحتالين الذين يطالبون بتجريد المرأة من كلّ كرامة وقداسة؛ لتكون لعبة جميلة بين أيديهم وأرجلهم، ولا همَّ لهم إلاّ جسدها وجمالها، فتراهم يستخدمونها لشهواتهم الخسيسة الدنيئة، ثمّ يلقونها كأتفه سلعة بالية يستخدمونها.

فلكلّ مَنْ ينادي بحقوق المرأة في العالم نقول: ادرس الإسلام وقوانين وتشريعات الإسلام في هذا الباب؛ فإنّك ستجد أنّه أعطاها كامل حقوقها، ونظَّم لها حياتها، وحفظها من كلّ أذى حتّى العيون الطامحة أو النفوس الطامعة، ووضعها في مكانها الذي خلقها الله له، كأساس ومدير لأعظم لبنة في المجتمع، ألا وهي الأسرة.

الحسين (عليه السّلام) وبطلة كربلاء زينب (عليها السّلام)

وإذا يمّمنا بنظرنا إلى ما نحن بصدده، واتّجهنا بأرواحنا وعيوننا إلى أرض الطفوف ومَنْ عليها، فإنّنا سنجد أنّ النساء كنَّ مرافقات للرجال ومساويات لهم؛ لأنّ فيهنّ السيّدة العظيمة الجليلة زينب الكبرى (سلام الله عليها) شقيقة القائد الأعلى الإمام الحسين (عليه السّلام)، وفيهنّ زوجته الرباب، وابنته سكينة، وكذلك زوجات الأبطال والمقاتلين وحتى العبيد والإماء.

فللمرأة حضور عظيم جدّاً في كربلاء، حتّى إنّ معظم الخطباء والعلماء الأجلاّء يذهبون إلى أنّ وجود المرأة في كربلاء كان ضرورة لبقاء المسيرة

٢٠٣

واستمرار المنهج؛ لأنهنَّ كنَّ كالإعلام الذي نقل الأحداث بتفاصيلها المؤلمة، مع ما يرافقها من بكاء ونواح وحتى العويل على الشهداء.

وهذا ما جعل أخبار الفاجعة تنتشر في المجتمع الذي ينزلنَ فيه كالنار في الهشيم، حتّى إنّ يزيد الطاغية اعترف بذلك.

ويُقال: إنّ أوّل مجلس عزاء على سيّد الشهداء ِأقامته هند زوجة يزيد في الشام.

وأمّا موقف السيّدة العظيمة زينب الكبرى، عقيلة بني هاشم، في كربلاء، ثمّ في الكوفة، وحتى في الشام، وخطبها الرنّانة التي فضحت فيها الحكومة الأمويّة بكلّ قوّة واقتدار، حتّى إنّها خاطبت الحاكم الأموي الأعلى يزيد بن معاوية قائلة: (فو الله، ما فريتَ إلاّ جلدكَ، ولا حززت إلاّ لحمك، ولَتردنّ على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بما تحمّلت من سفكِ دماء ذُرِّيته، وانتهكتْ من حرمتهِ في عترتهِ).

وقالت: (ألا فالعجب كلّ العجبِ لقتلِ حزبِ الله النُجباء، بحزبِ الشّيطان الطُّلقاء!).

ثمّ قالت: (ولئن جرّت عليّ الدّواهي مخاطبتك، إنّي لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، وأستكثر توبيخك، لكنّ العيون عبرى، والصدور حرّى.

فكد كيدك، واسعَ سعيك، وناصب جهدك، فو الله لا تمحو ذكرنا، ولا تُميت وحينا، ولا يرحض عنك عارها. وهل رأيك إلاّ فند، وأيّامك إلاّ عدد، وجمعك إلاّ بدد. يوم ينادي المنادي: ألاّ لعنة الله على الظالمين)(١) .

_____________________

١ - موسوعة بحار الأنوار ٤٥ / ١٣٤.

٢٠٤

مَنْ يستطيع أن يخاطب الحاكم في أيّ دولة من دول العالم بهذا الخطاب، وبهذا الأسلوب والتحدّي، وبهذه اللهجة القوية المليئة بالبلاغة والتقريع؟

لكنّها زينب بنت أبيها أمير المؤمنين علي (عليه السّلام)، وأُمّها الزهراء (عليها السّلام) التي وقفت بشموخ وجرأة أمام الخليفة الأوّل تطالب بفدك، وخطبتها الصريحة الأُخرى في نساء الأنصار بعد ذلك.

نعم، إنّها زينب السيّدة العظيمة التي كان يحترمها الحسين (عليه السّلام) أي احترام، ويجلّها عظيم الإجلال، ويقدّرها كبير التقدير؛ فإنّه كان إذا دخلت عليه منزله، أو خيمته في كربلاء وهو يقرأ القرآن فإنّك تراه يضع القرآن، ويقف لها إجلالاً وإكباراً، وكان لا يخاطبها إلاّ بكلّ احترام، لما يعلمه من عظمتها، ورفيع مكانتها عند الله.

فكانت لزينب (عليها السّلام) مع إخوتها وقفات ووقفات، لا سيما مع الإمام القائد، ونائبه السيّد الجليل أبو الفضل العباس (عليه السّلام).

وهكذا ترى احترام الأئمّة (عليهم السلام) للسيدة زينب (عليها السّلام)، وهذا هو الإمام زين العابدين (عليه السّلام) يقول لها:((عمَّة، أنتِ بحمدِ الله عالمةٌ غير معلّمة، وفهمةٌ غير مفهمّة)) (١) .

وأمّا سبي الحوراء فإنّها لمصيبة المصائب أن تُسبى وتُؤسر مثل السيّدة زينب عقيلة بني هاشم (عليها السّلام) وسائر الهاشميّات والعلويّات، وعلى العالم المتحضّر أن يُراجع أخلاقيّات الإمام الحسين (عليه السّلام) وأئمّة المسلمين؛ ليتعلّم كيف يتعامل مع المرأة، وكيف يعلّمها لتكون كزينب والرباب وسكينة ورملة وليلى (عليهنّ السّلام).

_____________________

١ - موسوعة بحار الأنوار ٤٥ / ١٦٤، الاحتجاج ٢ / ٣٠٥.

٢٠٥

إذاً، فالإمام القائد (عليه السّلام) لم يصرخ أو يأمر أو ينهر تلك النساء من حوله، بل كان لهنّ البلسم الشافي، والأدب الراقي، والنور الساطع، وكلّ ذلك بأخلاقه الفاضلة.

الحسين (عليه السّلام) وزوجة النصراني

ولدينا صور أُخرى عن مناقبيّات سبط الرسول الحسين (عليه السّلام) مع النساء في يوم عاشوراء، كأُمّ وهب التي رافقته مع زوجها النصراني المؤمن الذي قُتل مع زوجته، وكانت من قبل تنهاه عن الالتحاق بالإمام الحسين (عليه السّلام)؛ لأنّه عريس جديد وشاب نضر.

فإنّك تجد الإمام القائد (عليه السّلام) يخاطبهنّ بهذا الخطاب:((يا أمة الله، عودي إلى الخيام رحمك الله؛ فإنّه ليس على النساء جهاد. أما ترضينَ أن تكوني مع زينب والرّباب)) (١) .

وهكذا فإنّ الأخلاق الإسلاميّة التي جسّدها الحسين (عليه السّلام) كانت حاضرة بكلّ دقّة ورقّة في جنبات كربلاء، لا سيما في أيّام عاشوراء. فأبو الفضل العباس (عليه السّلام) كانت أمنيته أن يوصل الماء إلى النساء والأطفال في ذلك اليوم، والإمام (عليه السّلام) ترك الماء عندما قال له ذاك الجلف: تتلذّذ بالماء البارد وقد هجموا على خيامك وهتكوا حريمك؟

فالغيرة والحميّة والعفة، وجميع المفردات الأخلاقيّة كانت حاضرة عند الإمام ولم يفته منها شيء، ولو تتبّعناها لطال بنا الحديث، ولكنّ نباهة القارئ

_____________________

١ - المصدر السابق.

٢٠٦

تكفي المؤونة.

رجال في كربلاء، العبيد نموذج

إنّ عادة الرقّ وحياة العبيد كانت سائدة وبكثرة في تلك الأيّام، وعندما جاء الإسلام العظيم فإنّه أولى هذه المسألة اهتماماً كبيراً لتحرير اُولئك العبيد الأرقاء. فهناك الكثير من الكفّارات وغيرها تحضّ على تحرير الرقاب من رقّ العبوديّة، ورفع تلك القيود عن كواهلهم.

وفي كربلاء كان للعبيد حضور خاصّ؛ لأنّهم شاركوا وسطّروا ملاحم بطولية كالسادة تماماً، وهنا نأخذ صورة العبد (جون) الذي كان يخدم الصحابي الجليل أبا ذرّ الغفاري (رضوان الله عليه)، ثمّ انتقل إلى خدمة الإمام الحسين (عليه السّلام)، ورافقه إلى كربلاء، وتحمّل معه عناء الطريق كلّه، ولا أحد يعلم ما يفكّر به هذا الرجل العبد.

وعندما سقط أصحاب الحسين (عليه السّلام) شهداء، تقدّم هذا العبد إلى أبي الأحرار الحسين (عليه السّلام) بكلّ تواضع وخشوع يستأذنه للنزول إلى ميدان القتال، إلاّ إنّ الإمام أراد أن يردّه ردّاً أخلاقيّاً لطيفاً؛ لكي لا يجرح شعوره، فقال له بكلّ حبّ وحنان وتقدير:((يا جون، إنّما تبعتنا طلباً للعافية، فأنت في إذن منّي)) ، أو((فلا تبتلِ بطريقنا)) (١) .

فأنت أتيت معنا على الصحة والحياة والعيش الكريم، وأمّا الآن فإنّه الموت الزؤام الذي لا بدَّ منه، فأين ترمي بنفسك؟ ولعلك خجلت أو استحييت من

_____________________

١ - اللهوف / ٤٧، مثير الأحزان / ٦٣، العوالم ١٧ / ٢٦٥.

٢٠٧

موقفك، فأنّا أعذرك وأقدّر لك هذا الموقف، ولكن أنت في حلّ من ذلك كلّه، فاذهب وعش حياتك كما تريد.

فوقع جون على قَدَمي الإمام القائد يقبّلهما وهو يقول: يابن رسول الله، أنا في الرخاء ألحسُ قصاعكم، وفي الشدّة أخذلكم! والله، إنّ ريحي لَنَتنٌ، وحَسَبي لَلئيم، ولوني لأسود، فتنفّس عليَّ بالجنّة؛ ليطيب ريحي، ويشرف حسبي، ويبيضَّ لوني، لا والله، لا أُفارقكم حتّى يختلط هذا الدمّ الأسود مع دمائكم(١) .

ألم أقل لك إنّ كربلاء وعاشوراء استثناء منقطع النظير في التاريخ كلّه، فمَنْ يقف مثل هذا الموقف العظيم؟! ما هو السبب الذي يجعل هذا العبد رهن إشارة المولى؟! إنّه يعرف نفسه جيداً، وإنّ طموحه كبير، وأمله عظيم؛ لأنّه محدِّقٌ بنظر من حديد إلى مكانة سامية في جنان الخلد، ورضى الربّ وجنّة القرب؛ لذا تراه يرفض العيش، بل ويطلب الموت العاجل.

وعندما سمع سيّد الشهداء الحسين (عليه السّلام) كلامه، أذن له بالنزول إلى المعركة، فسطّر ملحمته بحروف من نور، وكتب وثيقة وفائه وصدقه وإخلاصه بدمه الطاهر الزكي.

وحينما استشهد وسقط على الأرض ذهب إليه المولى أبو عبد الله الحسين (عليه السّلام)، ودعا له بهذه الكلمات التي تفيض عذوبة ولطافة:((اللهمّ بيّض وجهه، وطيّب ريحه، واحشره مع محمد (صلّى الله عليه وآله)، وعرّف بينه وبين آل محمد (صلّى الله عليه وآله)) .

فكان كلّ مَنْ يمرّ بالمعركة يشمّ منه رائحة طيّبة أزكى من المسك(٢) .

_____________________

١ - المصدر السابق.

٢ - مقتل الحسين - للمقرّم / ٢٥٢، العوالم / ٨٨.

٢٠٨

إنّ مناقبيّات سيّد الشُّهداء الحسين بن علي (عليهما السّلام) كانت عظيمة جدّاً مع هؤلاء الكوكبة من العبيد الذين فاقوا على الكثيرين من اُولئك الذين فاتتهم المسيرة الحسينيّة، وهم في أعلى مراتب الإسلام كعبد الله بن العباس وغيره من أعلام الإسلام.

وكُتب السيرة والمقاتل تروي أنّ الإمامعليه‌السلام كان كلّما سقط واحد من هؤلاء العبيد يذهب إليه ويرفع رأسه ويحتضنه رقةً وحُبّاً به، فكان يودّع الدنيا وهو في حجر الحسينعليه‌السلام .

فلمّا صُرع واضح التركي مولى الحرث المذحجي استغاث بالحسينعليه‌السلام فأتاه أبو عبد الله واعتنقه، فقال: مَن مثلي وابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله واضع خدّه على خدّي؟! ثمّ فاضت نفسه الطاهرة(١) .

وكذلك كان حال أسلم مولى الحسينعليه‌السلام حيث مشى إليه واعتنقه وكان به رمق، فتبسّم وافتخر بذلك ومات(٢) .

تلك هي الأخلاق الإسلاميّة العظيمة التي لا تفرّق بين عبد رقيق وسيّد جليل، ولا بين أبيض وأسود، بل إنّ التفاضل بالأعمال والتقوى وليس بالأحساب والأنساب.

فأين اُولئك الذين يدَّعون الحريّة والديمقراطيّة وحقوق الإنسان؟!

هلاّ قرؤوا الإسلام الحنيف وأخلاقيّات أهل البيت الأطهارعليهم‌السلام ، لا سيما

_____________________

١ - مقتل الحسين - للمقرّم / ٢٤٩، مقتل الخوارزمي ٢ / ٢٤.

٢ - المصدر السابق.

٢٠٩

أخلاقيّات عاشوراء وكربلاء التي سطّرها سيد الشهداء الحسين بن عليعليهما‌السلام على أرض الواقع، فرسخت في القلوب المؤمنة وعافتها النفوس الخبيثة؟!

أصحاب الحسينعليه‌السلام وصور من الوفاء

تبقى المسيرة متعثّرة ما لم تسعفها أخلاق القيادة الرساليّة والوفاء من الجند والأصحاب، وهذا ما يجب أن يتبادله القائد ومَنْ هم تحت قيادته وإمرته؛ لأنّ حبّ القائد يعني حبّ القضية والوفاء لها وإيثارها على النفس والغير.

وعاشوراء سجّلت على أرض كربلاء ملاحم بطوليّة بدماء الشهداء الزكيّة، وأبرزت كلّ معاني الوفاء، وأعظم صور الأخلاق، وأرفع أوسمة القيم المثاليّة في الحياة الإنسانيّة، وذلك مع جميع الشهداء من الأهل والأقرباء وحتى الأصحاب والعبيد والإماء.

هذا البطل زهير بن القين، يقف أمام الحسينعليه‌السلام ويضع يده على كتفه، ويقول:

أقدم هديت هادياً مهديّا

فاليوم ألقى جدّك النبيّا

وحسناً والمرتضى عليّا

وذا الجناحين الفتى الكميّا

وأسد الله الشهيد الحيّا

فيقول له الإمام:((وأنا ألقاهم على أثَرِكَ)) .

هذه من صور الوفاء الخالدة، ولكن أين الوسام الأخلاقي المقابل؟

إنّه من الحسين بن عليعليه‌السلام القائد الذي وقف على جسد زهير بعد شهادته، يقول له:

٢١٠

((لا يُبعدنّك الله يا زُهير، ولعن الله قاتليك؛ لَعْنَ الذين مُسخوا قردةً وخنازير)) (١) .

إليك هذا القائد التاريخي لجناح الحسينعليه‌السلام الذي كبر سنّه في طاعة الله، وقضى نحبه بين يدي ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكان ممّن يستحق الخلود كشامة على خدود الدهر.

إنّه حبيب بن مظاهر الأسدي الذي كان من أصحاب أمير المؤمنينعليه‌السلام ومن شرطة الخميس، وكان نافذ البصيرة، صلب الإيمان، ويصفه المؤرّخون بالوفاء؛ إذ أنّه كان يوم الطفّ من أشدّ أصحاب الإمام سروراً وغبطة بما يصير إليه من الشهادة بين يدي ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد برز وهو يقول:

أنا حبيب وأبي مظهّر

فارس هيجاء وحرب تسعر

وأنتم منّا لعمري أكثر

ونحن أوفى منكم وأصبر

ونحن أعلى حجّة وأظهر

حقّاً وأبقى منكم وأعذر

إذن هو وفيٌّ لمبدئه، ودينه وعقيدته، وبالتالي لقائده وإمامه وسيّده؛ ولذا كان صاحب الوسام الرفيع، لأنّ هذا البطل قد هدَّ مقتله الحسينعليه‌السلام كما يقول المؤرّخون؛ ولذا وقف القائد العظيم على الجسد المقطّع فاسترجع كثيراً، وقال:((عند الله أحتسب نفسي وحماة أصحابي)) (٢) .

فالوفاء من الجندي يقابله أخلاق عالية، وأوسمة رفيعة من القائد.

_____________________

١ - تاريخ الطبري ٦ / ٢٥٣.

٢ - حياة الإمام الحسين بن علي ٣ / ٢٢١، تاريخ الكامل - لابن الأثير ٣ / ٢٩٢، تاريخ الطبري ٦ / ٢٥١.

٢١١

وقصّة الحرّ الرياحيّ التائب، ووداع الإمام له وشهادته له بأنّه حرٌّ في الدنيا والآخرة تكفيه، وإنّه نِعْمَ الرجل كان.

وكذلك برير بن خضير، ذاك العابد الزاهد، المعلّم للقرآن في مسجد الكوفة الذي دعا صاحبه إلى المباهلة في قلب المعركة لولاية أمير المؤمنينعليه‌السلام ، ورغم كبر سنّه، وجلالة قدره فإنّه تعارك مع خصمه رضي بن منقذ العبدي فصرعه وجلس على صدره، فاستغاث هذا برجل من أصحابه، فقال له عفيف بن زهير: هذا برير بن خضير القارئ الذي كان يقرئنا القرآن في جامع الكوفة.

فلم يلتفت إليه فقتل بريراً بالرمح، وعاد إليه بالسيف فقتله، وذهبت روحه إلى بارئها طاهرة زكيّة.

وعاد عدوّه إلى بيته فاستقبلته زوجته النوار قائلة: أعنت على ابن فاطمة، وقتلت سيّد القرّاء، لقد أتيت عظيماً من الأمر! والله لا أكلّمك من رأسي كلمة أبداً(١) .

حبّ الحسينعليه‌السلام أجنّني

وقبل أن أدعك وأودّعك من هذا الفصل، لا بأس بأن نذكر عملاقاً من عمالقة كربلاء؛ لنستأنس ونتبارك بسيرته العطرة.

كان عابس بن شبيب رئيساً من رؤساء همدان الخير، وخطيباً من خطباء العرب، وناسكاً في العبادة، ومجتهداً في الدين، إنّه من رجال الشيعة المعروفين، ولا غرو فهذا ديدن بني شاكر، فكلّهم كانوا مخلصين بولايتهم لأمير المؤمنين

_____________________

١ - مقتل الحسين - للمقرّم / ٢٥٠.

٢١٢

عليعليه‌السلام ، ولقد قال فيهم الإمام عليعليه‌السلام في صفين:((لو تمّتْ عدّتهم ألفاً لعُبد الله حقَّ عبادته)) .

وكانوا من شجعان العرب المشهورين، وحماتهم المعروفين؛ ولذا لقبوا بـ (فتيان الصباح)، وعابس هذا كان من أكابرهم ورجالاتهم الرفيعة الشأن، وما أن قدم مسلم بن عقيلعليه‌السلام الكوفة حتّى بايعه وراح يساعده في جميع شؤونه.

وفي يوم الطفّ وقف أمام سيّد الشهداء ليودعه بهذه الكلمات التي تشعّ محبّة وفخاراً، وتنضج بالولاء والوفاء: ما أمسى على ظهر الأرض، قريب ولا بعيد، أعزّ عليَّ منك، ولو قدرت أن أدفع الضيَّم عنك بشيء أعزّ عليّ من نفسي لفعلت. السّلام عليك، اشهد لي أنّي على هداك وهدى أبيك. ومشى بالسيف نحو القوم.

قال ربيع بن تميم: فلمّا رأيته مقبلاً عرفته، وقد كنت شاهدته في المغازي فكان أشجع الناس، فقلت للقوم: أيّها الناس هذا أسد الأسود، هذا ابن شبيب لا يخرجنّ إليه أحد منكم.

فأخذ ينادي: ألا رجل، ألا رجل لرجل؟!

فتحاماه الناس لشجاعته المعروفة، فقال لهم عمر بن سعد وكان قريباً منهم: ويلكم! ارضخوه بالحجارة (اضربوه بها بشدّة وقسوة).

فرموه بالحجارة من كلّ جانب، فلمّا رأى ذلك ألقى درعه ومغفره وشدَّ على القوم، فصاح به أحد أصحابه: ما لك يا عابس هل جُننتْ؟!

٢١٣

فقال البطل المغوار: نعم، حبُّ الحسين أجنّني(١) .

وهنا شاهدي: لماذا تعلّق هذا الرجل الشجاع بالإمام الحسينعليه‌السلام إلى هذه الدرجة؟! لماذا أحبّه حتّى الجنون؟!

هل يمكن لأحدٍ أن يشتري الحبّ؟! وهل يمكن أن يرغم قلبه على حبّ مَنْ لا يحبّ؟

وقد تسألني: وهل القلب باليد أم أنّ أمره بيد الربّ تعالى؟

نعم، الحبّ في القلب، والقلب يتقلّب بيد الربّ سبحانه، ولا أحد يستطيع أن يحبّ أو يكره بإرادته ومتى شاء وأراد، فهذا أمر متعذّر؛ ولذا قال أمير المؤمنين عليعليه‌السلام :((لو ضربت خيشومَ المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني، ولو صببتُ الدنيا بجمّاتها على المنافق على أن يُحبّني ما أحبّني)) (٢) .

والإنسان يمتلك القلوب بالإحسان والأخلاق الفاضلة والقيم السامية، والمولى أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام الذي مثَّل خُلق القرآن والإسلام والرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله في كلّ أيّام حياته، أسر القلوب، وسكن أفئدة المؤمنين، لا سيما أصحابه الذين كانوا معه في كربلاء، ولا عجب أن يصرّح عابس بن شبيب بهذه الحقيقة العاشورائيّة.

_____________________

١ - المصدر السابق.

٢ - نهج البلاغة - قصار الحكم، رقم ٤٥.

٢١٤

الفصل العاشر: ثقافة السِّلم والسَّلام عند الحسين بن عليعليه‌السلام

٢١٥

٢١٦

السَّلام ثقافة وضرورة حضارية؛ لأنّ الثقافة فكر نظري وتطبيق عملي، فهذا لا ينفصل عن هذا، وهذا لا يبتعد عن ذاك، العلم والعمل، الفكر والتطبيق، النظري والعملي. والثقافة خليط من كلّ ذلك، ولكلّ مجتمع أو بلد ثقافته المميّزة له عن الآخر، وقد تتوحّد الثقافات، وربما تختلف العادات، وهذا أمر طبيعي في هذه الحياة.

فالسَّلام ما هو؟ وكيف مارسه الإمام الحسينعليه‌السلام في نهضته، تلك هي القضية؟

وقبل البسط في الحديث لا بدَّ لنا من مقدّمات تبسيطيّة لبعض المفاهيم، باعتبار أنّ هذه الكلمة (السّلام) هي عبارة عن مفهوم عام ضبابي، فلا بدَّ من العودة إلى كتب اللغة العربية؛ حتّى نعرف المعنى الحقيقي لها في لغتنا الأُمّ، ومن ثمّ التيمّم باتّجاه الجوانب الأُخرى وأطيافها المعاصرة.

ولو سألت كلّ عباقرة البشريّة عن معنى (السعادة) لما حصلت إلاّ على آراء مختلفة، تخبرك عن هوية أصحابها ونفسيّاتهم أكثر ممّا تخبرك عن المعنى الحقيقي للكلمة.

السَّلام: هو حالة من الهدوء والاطمئنان الذي يشعر بها الإنسان في نفسه، وكذلك في أسرته ومجتمعه وأُمّته والعالم أجمع. فلا تعقيدات ولا قلق نفسي،

٢١٧

ولا عنف أسري ولا اضطرابات في المجتمع، ولا منازعات في اختلافات الأُمّة؛ فالاختلاف حقّ مشروع وسُنّة كونيّة، ولا حروب وعمليات عسكريّة في العالم المسكون.

هذا هو السّلام العام كما نفهمه ونتطلّع إليه على كلّ المستويات. وإذا رجعنا إلى المعنى اللغوي للكلمة، فإنّنا سوف نجد كلّ ذلك في تراثنا اللغوي، إذ أنّ اللغة العربية هي أجمل وأغنى لغات العالم الحيّة والميّتة في مفرداتها وبلاغتها.

(سِلْم) السين واللام والميم معظم بابه من الصحة والعافية. فالسلامة: أن يسلْم الإنسان من العاهة، والله جلّ ثناؤه: هو السّلام، لسلامته ممّا يلحق المخلوقين من العيب والنقص والفناء. قال الله (جلّ جلاله):( وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ ) (١) .

فالسَّلام: هو اسم الله (جلّ ثناؤه) وداره الجنّة. ومن بابه الإسلام: وهو الانقياد التام(٢) .

أسلم: انقاد، وأخلص الدين لله، ودخل في دين الإسلام، ودخل في السلم. والسلام اسم من أسمائه تعالى. والسلامة: البراءة من العيوب(٣) .

والسَّلام: تحيّة الإسلام، بل تحيّة أهل الجنّة، كما في الحديث الشريف، وهي

_____________________

١ - سورة يونس / ٢٥.

٢ - معجم مقاييس اللغة ٣ /٩٠ مادة (سلم).

٣ - المعجم الوسيط ١ / ٤٤٦ مادة (سلم).

٢١٨

قولنا (السّلام عليكم)، والتحيّة بها مستحبّة استحباباً مؤكّداً، أمّا ردّها فهو واجب شرعاً وعقلاً بمثلها (وعليكم السّلام)، أو بأحسن منها بأن تزيد (ورحمة الله وبركاته) وما أشبه ذلك. وهي سواء للزائر الداخل، أو للمودّع الخارج، فالتحيّة هي السّلام(١) .

والسَّلام: هو علامة انتهاء الصلاة والخروج من الحضرة المقدّسة لله تعالى، والتي تدخلها بتكبيرة الإحرام استئذاناً، فلا بدّ من السّلام عند الانتهاء والخروج، فتسلّم على الوسيلة إلى الله وهو الرسول وآله الأطهارعليهم‌السلام . وتسلّم على نفسك تحيّة من الله مباركة طيّبة، وتسلّم على الملأِ الملائكي والإيماني من حولك؛ ليكون كلّ ما أنت فيه سلاماً وهدوءاً واطمئناناً، فالسّلام بالنسبة للإسلام هدف استراتيجي حضاري(٢) .

القرآن الكريم وحقيقة السّلام

وردت هذه الكلمة (سلم) ومشتقاتها المختلفة أكثر من (٨٠) مرّة في القرآن الكريم، وذلك بألفاظ عدّة (٢٦ لفظاً) أكثرها هي: سلام، سلاماً، أسلم، السلم.

كما إنّه وردت مادة الإسلام ومشتقاته أكثر من (٥٧) مرّة في الكتاب الكريم. والإسلام هو مشتق وباب من أبواب السّلام كما هو معروف.

فالطرح الإسلامي لهذا الشعار نابع من صميمه العقيدي، وأصوله الفكريّة

_____________________

١ - السبيل إلى إنهاض المسلمين / ١٤٣.

٢ - للتفصيل راجع موسوعة الفقه / السلم والسّلام.

٢١٩

كما هو بيِّن في كتاب الله، النبع القيّم، والفضائل والتشريعات الإسلاميّة كلّها.

والملفت للنظر هنا أنّ المتتبّع لآيات القرآن الكريم، سوف يرى أنّه لا يوجد فيها ما يعبّر عن العنف، أو أيّ مشتقّ من مشتقاته أبداً. وهذا يزيد التأكيد على أنّ الدين الإسلامي يرفض العنف ويدعو إلى السّلام مع الجميع.

هذا وقد تمّ اختبار هذا الشعار على أرض الواقع فأعطى نتائج رائعة حقّاً، فقد أعطى حضارة كانت وما زالت فخراً للإنسانيّة جمعاء، بعلومها وآدابها، وعمرانها رجالاتها، وتاريخها الناصع كلّه.

النبيّ محمد رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله السّلام

وأمّا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي كان خُلقه القرآن، وحياته تطبيق وتجسيد لآيات وأحكام القرآن الحكيم، فقد عاش في مكّة أربعين عاماً واسمه الصادق الأمين، وعندما نزل عليه الوحي المقدّس، وأُمِر بالتبليغ لرسالة السماء؛ لكي ينقذ أهل الأرض من الظلام والجهل والتخلّف إلى النور والعلم والحضارة، راح الجهلاء وأبناء الجاهليّة يرمونه بكلّ ما يمكن أن يُرمى به من كذب ودجل، وسحر وشعوذة، وجنون وهوس، وغيرها الكثير من الألفاظ، ولم يكتفوا بذلك، بل كانوا يضربونه ويؤذونه، بل يرضخونه بالحجارة حتّى أدموا كعبيه وآذوه.

وصدق حين قالصلى‌الله‌عليه‌وآله :((ما أوذي نبيٌ مثلَ ما أوذيت)) (١) .

حتى إنّهم لم يتركوا شيئاً يمكن أن يؤذوه به إلاّ وفعلوه؛ من قتل ربيبته، ومحاولة اغتياله شخصيّاً ولعدّة مرّات، فاضطروه إلى الالتجاء إلى شعب أبي

_____________________

١ - موسوعة بحار الأنوار ٣٩ / ٥٥، مناقب آل أبي طالب ٣ / ٢٤٧.

٢٢٠

طالبعليه‌السلام لمدّة ثلاث سنوات، وتهجير أصحابه مرّتين إلى الحبشة، ولم يزالوا به حتّى هاجر إلى بلد هجرته مكرهاً(١) .

لكنّه وبعد فتح مكة، وبعد حروب طاحنة خاضها ضدّ جيش الكفر والشرك المكي وهو في دار غربته، وعندما أسرهم وتمكّن منهم قال لهم:((اذهبوا فأنتم الطُّلقاء)) (٢) .

فالأذى لا يُقابل بالأذى في شريعتنا، بل يُقابل بالإحسان والامتنان، والإطلاق لوجه الله تعالى، وكذلك فعل أمير المؤمنين عليعليه‌السلام الذي قال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :((أنت المظلوم من بعدي)) (٣) ، فلقد ظلموه وانتهكوا حرمته، واقتحموا عليه داره، وقتلوا زوجته سيّدة نساء العالمين، وطفلها الجنين (محسن)، وساقوه كالأسير، وفعلوا أفعالاً يندى لها جبين الإنسانيّة، إلاّ أنّه كان كثيراً ما يقولعليه‌السلام :((لأُسالمنَّ ما سلمتْ أمورُ المسلمين، ولم يكن بها جورٌ إلاّ عليَّ خاصةً)) (٤) .

ويقولعليه‌السلام :((سلامةُ الدِّين أحبُّ إلينا من غيره)) (٥) .

هذا هو الشعار، وهذه هي الممارسة العمليّة له، فالسّلام عند أمير المؤمنين عليعليه‌السلام هو السبيل إلى بقاء الدين الإسلامي، والطريق الأفضل لانتشاره.

علينا أن نستفيد من هذا الدرس العظيم من الإمام عليعليه‌السلام على طول المدى.

_____________________

١ - لأوّل مرّة في تاريخ العالم ١ / ١٤٣.

٢ - الكافي ٣ / ٥١٢، وسائل الشيعة ٩ / ١٨٢، بحار الأنوار ١٩ / ١٨٠.

٣ - عيون أخبار الإمام الرضاعليه‌السلام ١ / ٩ ح١٣، و٢ / ٢٧١ ح٦٣، الاعتقادات في دين الإمامية - للشيخ الصدوق / ١٤.(موقع معهد الإمامين الحسَنَين)

٤ - بحار الأنوار ٢٩ / ٦١٢، نهج البلاغة / ١٠٢.

٥ - بحار الأنوار ٢٨ / ٣٥٣، شرح نهج البلاغة ٦ / ٢١.

٢٢١

أمّا الإمام الحسن السبط المجتبىعليه‌السلام فإنّه دفع الحكومة والإمارة كلّها لمعاوية حقناً لدماء المسلمين، ولوحدتهم وحفظ كلمتهم، فهو رمز الوحدة والجماعة إلى هذا اليوم.

قدّمنا هذه المقدّمات؛ لنصل إلى شواطئ النور لبحر الحسين السبطعليه‌السلام سيّد الشهداء، وسيّد شباب أهل الجنّة الذي قتلته هذه الأُمّة ظلماً وعدواناً، وجرأة على الله ورسوله ما بعدها جرأة، ولكن كيف، ولماذا؟!

الحسينعليه‌السلام ورسالة السّلام والإصلاح

طال البحث حول حركة الإمام الحسينعليه‌السلام ، فهل هي ثورة حقيقيّة كان الهدف منها قلب نظام الحكم في الدولة الإسلاميّة، والسيطرة بالتالي على مقاليد الأمور السلطويّة؟ أم إنّها كانت نهضة شعبيّة محدودة دون تأييد جماهيري؛ ولذا أُبيدت؟

أم إنّها كانت حركة إصلاحيّة سلميّة جوبهت بقسوة عجيبة، وعنف غريب لم يسجّل التاريخ له مثيلاً؟!

إنّ الإمام الحسينعليه‌السلام كان ابن الإسلام البار، بل أصل الإسلام الحقيقي في عصره، وهو الذي يُعطي الشرعيّة للحكومة التي تحكم باسم الإسلام، وإذا لم يعطِ الشرعيّة (بالبيعة) فهذا يعني أنّ الحكومة غير معترف بها دينيّاً وعقائديّاً، فهي تسير إلى الفشل بلا شك.

الإمام الحسينعليه‌السلام ومنذ اليوم الأوّل كان يردّ الاعتداء والعنف عن نفسه، وذلك حين دخل دار الإمارة وحاولوا أن يضربوا عنقه، كما أشار مروان بن

٢٢٢

الحكم على والي يزيد بن معاوية على المدينة، إلاّ إنّ الإمامعليه‌السلام كان قد اصطحب معه فتيان بني هاشم احتياطاً لمثل هذا العمل الدنيء من الحاكم وأعوانه، وكان في كلّ مسيرته النهضويّة مسالماً، لم يبدأ أحداً بعدوان، ولم يشنّ على أحد حرباً.

أمّا عن أهداف الحركة (أو النهضة) الحسينيّة، فإنّ الإمامعليه‌السلام قال منذ البداية:((إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مُفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ أريدُ أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، فمَنْ قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومَنْ ردّ عليَّ أصبر حتّى يحكم الله بيني وبين القوم الظالمين)) (١) .

فالحركة لطلب الإصلاح في الأُمّة. وهذا لا يأتي إلاّ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وذلك لأنّ بني أُميّة غيّروا قواعد الإسلام، وحرفوا الأُمّة عن المحجّة البيضاء والصراط المستقيم، حتّى فشا المنكر وقلّ المعروف بكثرة أنصار الأوّل وخذلان الثاني، حتّى صار الإسلام بحالة من التقهقر والرجوع إلى العهد الجاهلي، وهذا لا يمكن السكوت عنه.

فنهض الإمام الحسينعليه‌السلام ، وتحرّك لإصلاح منظومة القيم الإسلاميّة، وإنقاذ الإسلام من الجاهليّة، وبالتالي إعادة المجتمع المسلم إلى أخلاقيّات الإسلام وأحكام القرآن، وسيرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وسنّته الشريفة، ولكن كيف؟

_____________________

١ - موسوعة البحار ٤٤ / ٣٢٩.

٢٢٣

أرادوا أن يعيدوها جاهليّة جهلاء، فلا خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل.

أرادوا أن يطمسوا معالم الدين الحنيف، ويسلّموه للأجيال اللاحقة مشوّهاً ومنفّراً.

أرادوا أن يُطفئوا نور الله بأفواههم وأعمالهم، وبكلّ ما توفّر لديهم من معطيات.

أرادوا أن ينتقموا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بإبادة ذريّته وقتل ريحانته وأبنائهعليهم‌السلام .

أرادوا أن يحكموا بالباطل، وهم لا يعترفون بالحقّ تعالى.

فكيف السبيل إلى دفع إرادتهم السيئة الخبيثة بإرادة نورانيّة رحمانيّة ربّانيّة؟ فهل هناك إلاّ إمام ذاك الزمان، المكلّف برعاية وحفظ الدين وتسديد الأُمّة، وإعادتها إلى جادة الصواب إذا مالت بها الطريق في أثناء مسيرتها؟!

لقد كان الإمام الحسين سبط رسول الله، وسيّد شباب أهل الجنّة، فأنعم به وأكرم من قائد حقّ، وناطق بالصدق، تتجسّد فيه أخلاقيّات الإسلام والقرآن ورسول الله، وشجاعة والده علي بن أبي طالب، ورقّة ولطافة ومحبّة أُمّه فاطمة الزهراء (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).

فحركة الإمام منذ البداية وحتى النهاية - وهي لما تنته إلى الآن - كانت تهدف إلى إبطال كلّ ما أراده اُولئك الرهط اللعناء بحقّ الدين الحنيف.

فأراد الإمامعليه‌السلام أن يؤكّد الإسلام ويرسّخه في الأُمّة كوحي منزل من السماء.

٢٢٤

وأراد أن يبيّن معالم الدين، ويوضّح أحكامه، ليسلّمه إلى الأجيال صحيحاً ناصعاً جميلاً.

وأراد أن يستنير الجميع بنور الله الأعظم بالقول والعمل حتّى الشهادة.

وأراد أن يؤكّد مكانة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ويمكّن دينه حتّى ولو كلّفه ذلك نفسه القدسيّة، وجميع مَنْ معه من الأهل والأصحاب الكرام.

نعم، أراد أن يزهق الباطل، ويثبت الحقّ لوجه الحقّ تعالى، ويسجّل ذلك كلّه بدمه الطاهر الزكي على تراب كربلاء، ليبقى شعاراً تتناقله الأجيال المؤمنة، ويذكره الرجال الطامحون إلى الإصلاح بالسلم والعلم.

وهذا المهاتما غاندي الذي حرّر الهند من الاستعمار البريطاني بحركته السلميّة يقول: (تعلّمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر).

والمهاتما غاندي، هذا الرجل الذي دحر الاستعمار البريطاني من بلاده، بعد استعمار واحتلال دام قروناً عدّة، ونهب طال كلّ خيرات الهند، بماذا حرّر بلاده؟

حرّرها بشعاراته السِّلميّة، وحركته السِّلميّة الإصلاحيَّة التي شهد لها التاريخ الحديث بالحكمة والحنكة والشجاعة.

وغاندي هذا تعلّم من الإمام الحسينعليه‌السلام ، وتعلّم من الإسلام الأخلاق الفاضلة الكريمة، من حلم وصبر، وشجاعة ووفاء، ومحبّة وإخاء، وثبات على الحقّ الذي يعتقد به، فحرَّر بلاده وصار مثالاً يُحتذى به، وعَلماً يُشار إليه بالبَنان كلّما ذُكر السَّلام، وما هو إلاّ تلميذ في مدرسة المولى أبي عبد ا لله الحسين سيّد الشهداء.

نحن إذا نظرنا في التاريخ وفي الواقع فسنجد أنّ البعض يحاول أن يبني

٢٢٥

إمبراطوريّة سياسيّة، والبعض الآخر يحاول أن يبني إمبراطوريّة عالميّة، وبعض يحاول أن يبني إمبراطوريّة إعلاميّة، ولكن الأنبياء وأوصيائهمعليهم‌السلام وحدهم كانوا يريدون أن يبنوا إمبراطوريّة سلام (إنسانيّة)، وقد سجّل التاريخ بأحرف من نور أنّ الحسين السبطعليه‌السلام قد قُتل من أجل أن يسود السَّلام.

يبدأ السَّلام من إحساس نزيه يتحوّل إلى فكرة مقدّسة بمرور الزمن؛ والإحساس بالكرامة والسَّلام يتطلب كرامة وسلامة الإحساس، وكما يحوم الضباب حول القمم العالية، فإنّ كلّ فكرة تدعو للسّلام لا بدّ وأن تحوم حولها الشبهات، تماماً مثل السَّلام الحسيني.

لقد قُتل الحسين بن علي الشهيدعليه‌السلام في معركة من أجل السَّلام، غير أنّه لم يُهزَم كرجل عمل في سبيل السَّلام والكرامة، والحرية والعدالة والإصلاح.

إنّ مَنْ يريد أن يُصبح رجل سلام عليه أن يفكّر كما يفكّر رجال السَّلام، وأن يتصرّف ويتحمّل مثلهم، ومَثَلهم الأعلى هو الإمام الحسينعليه‌السلام .

قلنا بأنّ الله سبحانه هو السَّلام، ومنه السَّلام، وإليه السَّلام، ويدعو إلى دار السَّلام، ورسوله محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله رسول الإسلام والسَّلام، وهو يقول:((حسين منّي وأنا من حسين)) (١) . ومعنى هذا أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام هو رائد السَّلام الإلهي والعالمي، وأنّ ظلامته تكمن في اغتيال نيّة وجهود السَّلام الحسيني.

إنّ الإمام الحسينعليه‌السلام كان يبحث عن أيّ فرصة سلام للأُمّة، ولم يكن يبحث عن فرصة هروب إلى الأمام، وكيف يكون ذلك وهو القائل:((إنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياةَ مع الظّالمين إلاّ برماً)) (٢) .

_____________________

١ - سنن الترمذي ٥ / ٣٢٤ ح٣٨٦٤.(موقع معهد الإمامين الحسَنَين)

٢ - موسوعة بحار الأنوار ٤٤ / ١٩٢، كشف الغمة ٢ / ٣٢، المناقب ٤ / ٦٨.

٢٢٦

وأن تحمل مشعلاً كبيراً للسّلام حتّى ولو لم تنجح في وضعه على قمم الجبال، أفضل من أن تحمل شمعة صغيرة يمكن أن تضعها في أيّ مكان، وأن تحمل شمعة خير لك من أن تعيش في الظلام.

كان أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام يبحث عن السَّلام بقوّة الرفق، وصلابة الإرادة الإيمانيّة، ومهما كانت إرادتك صلبة فلا بدّ لك من أن تعتمد اللّين والسَّلام في تنفيذها.

وكلمات الإمام ما زالت تردّدها الأجيال في أصداء الزمن باحثة برفقٍ ولين عن السَّلام، وحفظ الذمام قائلةً:((إذا كرهتُموني فدعوني أنصرف عنكم - إلى مأمن من الأرض -)) (١) .

وهو الذي خرج في ليلة العاشر من المحرَّم قاصداً قيادة جيش العدوّ (عمرو بن سعد)؛ ليبحث معه فرص السَّلام الممكنة، وفرص الحياة الآمنة بعيداً عن الدماء وقعقعة السّلاح.

نعم، كان الإمام يبحث عن سلام البطولة والرجولة وليس عن بطولة السَّلام، ولأن تكاليف البطولة كبيرة وغالية فإنّ أغلب الناس يحبّذون القيام بتمثيل دور بطل السَّلام، بدل أن يقوموا بأداء دور سّلام البطولة.

وكم مرّة حاول الإمام الحسينعليه‌السلام نزع فتيل الصاعقة المدمِّرة، وإيقاف السيل أو تحويله إلى أماكن أكثر أمناً وفائدة، وأقلّ ضرراً وأذيّة، حتّى أنّه طلب منهم أن يتركوه ليسير أو يسيروا معه إلى الشام.

وفي يوم عاشوراء خاطبهم ونصحهم حتّى أنّه بكى عليهم رحمة وشفقة؛

_____________________

١ - روضة الواعظين ١ / ١٨١، المناقب لآل أبي طالب ٤ / ٩٧.

٢٢٧

لأنّهم سوف يدخلون النار بسببه، وهو لا يريد لهم إلاّ الرحمة والجنّة، إلاّ أنّ إبليس ركبهم وساقهم إلى ما فيه هلاكهم في الدنيا والآخرة.

إنّه إذا كان جلب المنفعة هو أكبر دوافع التّجار إلى العمل، ودفع المضرّة هو أكبر دوافع الحكماء، فإنّ مسؤوليّة السَّلام هي أكبر دوافع العظماء إلى ذلك؛ ولذلك كان الإمامعليه‌السلام يرى أن السَّلام وحده هو الكفيل بإخراج الأُمّة من شرنقة الضياع والانحراف.

وكما كانت حروب الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله دفاعيّة - دفعاً للاعتداء، وبحثاً عن السَّلام في الأرض - فإنّ دفاع الإمام الحسينعليه‌السلام عن نفسه وعياله، لهو أكبر دليل على أنّه لم يرد الحرب، بل كان دائماً يقول:((إنّي أكرهُ أن أبدأهم بقتالٍ)) (١) .

حتى حين تمكن من طلائعهم - جيش الحرّ الرياحي - وكانوا على شفا حفرة من الهلاك بالعطش هم ودوابهم، فإنّه أنقذهم وسقاهم الماء حتّى أنعشهم ولم يبدأهم بالقتال، وكان من السهل أن يبيدهم عن بكرة أبيهم، أو لا أقل أن يتركهم يموتون عطشاً في تلك الصحراء، وتلسعهم سياط الشمس المحرقة حتّى يهلكوا، إلاّ أنّ أخلاق الحسين بن عليعليه‌السلام أرفع من ذلك بكثير.

فالإمام لم يكن أبداً يريد القتال ولا الحرب، ولم يكن يسمح لعسكره ببدء المعركة بعد أن تحتّمت في صباح اليوم العاشر، إذ لم تستعر نيرانها إلاّ بعد أن تقدّم (عمر بن سعد) ووضع نبلاً في كبد قوسه، ورماه إلى جهة معسكر

_____________________

١ - مستدرك الوسائل ١١ / ٨٠، بحار الأنوار ٤٥ / ٤.

٢٢٨

الحسينعليه‌السلام وقال: اشهدوا لي عند الأمير أنّي أوّل مَنْ رمى؛ فانهالت السّهام على جيش الإيمان كالمطر كما يذكر المؤرّخون وأرباب السير(١) .

فالمولى أبو عبد اللهعليه‌السلام لم يكن يريد أن يقاتلهم ويقتلهم، بل كان يريد أن يهديهم ويحميهم، وينقذهم من شياطين الإنس والجنّ، كان يفكر بسعادتهم وعيالاتهم، وإصلاح جميع شؤونهم الخاصّة والعامّة، ولا يفكّر بقتلهم وإبادتهم، ولو أراد ذلك لدعا عليهم دعوة واحدة فيغرقهم الفرات، أو تبلعهم الصحراء، أو تلعنهم السماء وترميهم بحجارة من سجّيل لتجعلهم كأصحاب الفيل.

إنّ الإمام الحسينعليه‌السلام قد أبى أن يعيش إلاّ عزيزاً كريماً بكلّ شموخه وعظمته، وأبى أعداؤه إلاّ الإصرار على أخذه بالذلّة:((إنّ الدّعيَ ابن الدعي قد ركز بين اثنين؛ بين السِّلة والذلّة)) (٢) ؛ وذلك لأنّ العدوّ ينظر إلى تحقيق مصالحه وأهدافه غير منقوصة، ولذا تراه لم يعطِ للإمام أيّ فرصة لتحقيق المصلحة العامّة للإسلام المتمثلة في السَّلام.

وقد نجح شمر بن ذي الجوشن في إفشال عدّة حوارات بين الإمام الحسينعليه‌السلام وعمرو بن سعد من أجل السَّلام.

والحقيقة أنّه لا شك في ضرورة امتلاك القوّة من القوّة، ولكنّ استخدامها في غير وقتها ومحلّها من الضعف.

وسبحان الله الذي يملك القوّة جميعاً، ولا يستخدمها إلاّ بقدر وحكمة!

_____________________

١ - مقتل الحسين - للمقرّم / ٢٣٧.

٢ - مثير الأحزان / ٥٤، شرح نهج البلاغة ٣ / ٢٤٩.

٢٢٩

ولو كانت القوّة يمكن أن يُكتب لها البقاء من غير أن يرافقها السَّلام الحسيني لما انقرضت الإمبراطوريّات، ولو كان السَّلام يمكن أن يُكتب له البقاء والانتصار من غير القوّة لما كانت أسماء الشهداء تملأ صفحات التاريخ النيّرة، وفي مقدّمتهم سيّد الشهداء الحسين بن عليعليهما‌السلام .

أراد الإمام السَّلام بشروطه هو، وليس بشروط يزيد بن معاوية أو عبيد الله بن زياد؛ ولذا فلن يكون الاستسلام للباطل قاعدة للسَّلام بين الأُمم، إذ كيف يمكن الجمع بين الهزيمة والطمأنينة؟

ولذلك قال أبو الأحرار الحسين بن عليعليهما‌السلام :((هيهاتَ منّا الذّلة! يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون)) (١) .

أقسام السَّلام

ينقسم السَّلام إلى ثلاث مستويات متتاليات، هي:

١ - السَّلام الذاتي: الذي يعيشه كلّ واحد منّا ويتمنّاه في حياته كلّها.

٢ - السَّلام المجتمعي: الذي يشمل المجتمع كلّه من الأسرة وحتى الأُمّة.

٣ - السَّلام العالمي: وهو الذي لا يتحقّق إلاّ في آخر الزمان، ولكن لا بدَّ من السعي وراءه في كلّ زمان، وخصوصاً في هذا الزمن الأغبر الذي تتكالب فيه الأقوياء لأكل وهضم الضعفاء.

فلكي يكون الإنسان في سلام مع نفسه، يجب عليه أن يؤدّي حقّ ربّه وحقّ نفسه، ولكي يكون في سلام مع أسرته يجب أن يعطي لكلٍّ حقّه؛ أبويه وإخوته، وأقربائه وزوجته وأبنائه.

_____________________

١ - موسوعة البحار ٤٥ / ٨٣، الاحتجاج / ٢٣٦، المناقب ٤ / ١١٠.

٢٣٠

أمّا الذي يتطلّع إلى سلام الأُمّة فعليه تأدية الحقوق المرتبطة بها، من الجار المؤمن إلى المسلم إلى أهل الكتاب وأهل الذمّة، إلى المعلّم والقاضي، إلى أن يصل إلى الحاكم الشرعي، فلكلٍّ حقّه، وعليه أن يراعيه ما أمكنه ذلك، ويؤدّيه عن طيب خاطر وهدوء نفس.

أمّا الذي يدنو ويتفاءل في سلام العالم (السَّلام الكوني)، فعليه أن يؤدّي حقوق العالم عليه، فللأرض حقّ وللسماء حقّ، وللبحار والأنهار والمياه حقّ، وللبهائم والحيوانات البريّة والبحريّة والطيور حقوق، وهي شريكة لنا في هذا الكون الفسيح، ولا ننسى حقوق الأجيال المقبلة من هذه الثروات، كما إنّ الهواء وطبقات الجو والأوزون، وبقيّة الكواكب والنجوم والأكوان كلّها لها مواقعها وحقوقها، وعلى الإنسان أن يعي ويؤدّي بعض هذه الحقوق.

لأنّ الله سبحانه يقول وقوله حقّ وصدق:( كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) (١) و( كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ ) (٢) و( وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ) (٣) .

فالكون مركّب من حقوق وواجبات، فصاحب الحقّ سلطان، ومَنْ عليه الواجب فهو مطالب به أيّ لتأديته، وهذا أمر بديهي وفطري وعقلاني، ولا يستطيع أحد أن ينكر ضرورة تأدية الواجب.

ومن حقوق الأجيال القادمة أن تعيش وتتنعّم بهذه النعم حسب حاجتها وطاقتها، وواجبنا الحفاظ على هذه الثروات وألاّ نستهلك منها ما يزيد عن حاجتنا، وذلك بهدر هذا المخزون الكوني فيما يدمّر الكون ولا يعمّره، وفيما

_____________________

١ - سورة القمر / ٤٩.

٢ - سورة الرعد / ٨.

٣ - سورة الحجر / ١٩.

٢٣١

يبيد البشر ولا يسعدهم.

ومن يعِ كلّ هذا أو بعضه يمكن أن يعيش في سلام ذاتي يشعر فيه بالسعادة والأمن والاطمئنان، وبقدر الوعي والعمل تكون النتائج إيجاباً أو سلباً.

فالسَّلام: ضرورة حضاريّة حقّاً، طرحه الإسلام منذ أربعة عشر قرناً من الزمن، وهو ضرورة لكلّ مناحي الحياة البشريّة اعتباراً من الفرد مروراً بالمجتمع وانتهاءً بالعالم أجمع.

والسَّلام: هو الذي يبني ويعلّي ويعلّم ويطوّر المجتمع.

والحرب أو العنف: هو الذي يدمِّر ويهدم ويقتل ويشرّد، ولا يقي ولا يذر، بل يدفع بالبشر إلى التخلّف والجهل والرذيلة.

ولأنّ سيّد الشهداء كان يعيش السَّلام في داخله، فقد حمل مسؤوليّة تحقيق المشروع على عاتقه، غير أنّ الطرف الآخر كان يريد من الحسين الاستسلام دون السَّلام، ولا معنى لتحقيق السّلام مع الآخرين من دون أن تحقّقه مع نفسك، فلا أحد أولى به منك.

ويفقد السَّلام قدسيته عندما تحمل اليد الملوثة رايته، ذلك أنّ اللوث نجاسة مسرية وستسري إلى الراية من اليد. وقد كان يزيد بن معاوية يريد سلام السيف، وقد رفع له راية بيد عمر بن سعد كُتب عليها (عجّلوا في قتل الحسين حتّى نصلّي جماعة)!

وإذا كان السَّلام ممنوعاً عنك فلا تتردّد في قبول خيار الدفاع عنه؛ حتّى تصبح معركتك مقدّسة، وهكذا كان الحسين يدافع عن الطهارة والسَّلام، وهو الذي أنشد يقول:

٢٣٢

الموتُ أولى من ركوبِ العارِ

والعارُ أولى من دخولِ النارِ

والله ما هذا وهذا جاري

بين الدم والسيف صراع علني أحياناً وخفي حيناً آخر، فإذا كان في العلن انتصر الدم على السيف، وإذا كان في الخفاء انتصر السيف على الدم.

ومن هنا فإنّ كلّ أعداء السَّلام في التاريخ يريقون الدماء في الظلام، ويغسلون عنها أيديهم في العلن، وماذا سيبقى من الضمير العالمي إذا كان السَّلام يُذبح كلّ يومٍ بمنظرٍ وبمسمعٍ من كلّ الناس في كلّ مكان.

إنّ الحسينعليه‌السلام وقّع على وثيقة استشهاده؛ لينقذ السَّلام المذبوح، وشتان بين مَنْ يقبل التوقيع على وثيقة إعدامه لينقذ الأُمّة المُحبطة، وبين مَنْ يوقّع على وثيقة إعدام أُمّته وسلامها لينقذ نفسه أو حزبه.

فالأوّل موقف الشهداء والحسين سيّدهم، والثاني موقف قاتلي الشهداء ويزيد رئيسهم.

وعندما بحث الحسينعليه‌السلام عن السَّلام كان يريده للجميع، فهو ليس من الذين يتحدّثون عن خلاص الأُمّة وهم يتاجرون بآلامها.

وإذا أقمنا الحزن على سيّد الشهداء كلّ سنة فهو تقصير، أمّا إذا أقمنا عليه الحزن كلّ ساعة فهذا توقير، كلّ ذلك لأنّ السَّلام يُذبح كلّ ساعة، فالحزن على فقد قلب الحسين الذي بحث عن السَّلام، فهل نبحث عن السَّلام في قلب الحسين من جديد؟

ويبقى الحسين هو الشهيد الشاهد على اغتيال السَّلام بسيوف البغي(١) .

_____________________

١ - مجلة النبأ / ٨٥ عدد ٦٦ (بتصرّف).

٢٣٣

إستراتيجيّة السَّلام

الإسلام دين الحكمة والقرآن الحكيم هو دستوره، وهو منزل من حكيم عليم. ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو أحكم العلماء على مدى العصور والدهور، باعتراف العدوّ والصديق، والقاصي والداني، وكلّ مَنْ اطّلع على حياته الشريفة وأخلاقه العظيمة لا بدّ أن يأخذه العجب العجاب من حكمته وخلقه العظيم، وحنكته السياسيّة الفريدة.

الحكمة: هي وضع الشيء في موضعه المناسب له كما قالوا في تعريفها، فهل من الحكمة أن نجبر الخلق على الإسلام أو الإيمان؟

وهل من الحكمة أن يُقاتَل كلّ مَنْ يخالفنا الرأي؟!

وهل من الحكمة أن نُبيد أهل الأديان السابقة؛ لأنّها قد نُسخت بالإسلام؟!

وهل من الأخلاق أن نقتل مَنْ نشاء، كيف نشاء، ومتى نشاء، دون أيّة ضوابط شرعيّة، أو أيّة قيود عقليّة، أو شروط منطقيّة لذلك؟!

لا هذا ولا كلّ ما يمتّ إليه بصلة من الإسلام في شيء، بل الإسلام أمر بعكسه تماماً، والإسلام هو دين المحبّة والأخوّة والسَّلام، وأخلاقيّاته معروفة للجميع ومشهود لها بالطهارة.

(إنّما الأصل الذي يدعو إليه الإسلام هو السَّلام، وليست الحروب والمقاطعة، وما أساليب العنف، إلاّ وسائل اضطرارية وشاذّة، وهي على خلاف الاُصول الأوّليّة الإسلاميّة، حالها حال الاضطرار لأكل الميتة وما أشبه،

٢٣٤

والحروب تقدّر بقدرها في الإسلام)(١) .

فالإسلام يقول مقابل ذلك:

( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ) (٢) ، ويقول:( أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حتّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) (٣) ، ويقول:( لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ) (٤) ، ويقول:( وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) (٥) ، ويقول:( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا ) (٦) ، ويقول:( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ) (٧) ، ويقول:( لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاّ بِالْحَقِّ ) (٨) ، ويقول:( ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ) (٩) .

فالإسلام واحة غنّاء من الحبّ والسَّلام والتعاون، وهو يرفض رفضاً قاطعاً جميع أشكال وأنواع العنف النفسي والجسدي، والاجتماعي والسياسي، والاقتصادي والثقافي، حتّى أنّه يرفض العنف ولو بالكلمة؛ شعراً أو نثراً، سبّاً أو لعناً، قذفاً أو غيبةً، فالأخلاقيّات الإسلاميّة ترفض جميع هذه الأنواع من السلوكيّات المنحرفة.

_____________________

١ - السبيل إلى إنهاض المسلمين / ١٤٣.

٢ - سورة القصص / ٥٦.

٣ - سورة يونس / ٥٩.

٤ - سورة الكافرون / ٦٦.

٥ - سورة سبأ / ٢٤.

٦ - سورة آل عمران / ٦٤.

٧ - سورة النساء / ١٧.

٨ - سورة الإسراء / ٣٣.

٩ - سورة البقرة / ٢٠٨.

٢٣٥

والتقديم والتقويم عنده هو قوله تعالى الموجّه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وإلينا جميعاً:( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (١) .

فالحكمة بالمواقف والمواجهات والموعظة الحسنة للأهل والأقارب والمحيط الاجتماعي، والجدل بالتي هي أحسن لأهل الإنكار والجحود وللمخالفين في الآراء.

فأين دعاة التكفير للأُمّة الإسلاميّة كلّها من أخلاقيّات الإمام الحسينعليه‌السلام ؟! وأين أصحاب منهج السبّ والتشهير بالأُمّة من أخلاق الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟!

وأين رعاة المفسّدين في الدنيا ولا سيما في الأُمّة الإسلاميّة من أخلاق القرآن الكريم؟!

_____________________

١ - سورة النحل / ١٢٥.

٢٣٦

الفصل الحادي عشر: رؤية أُخرى في التوحيد الإلهي والتربوي

٢٣٧

٢٣٨

عن عكرمة، قال: بينما ابن عباس يحدّث الناس إذ قام إليه نافع بن الأزرق فقال: يابن عباس، تفتي في النملة والقمّلة، صف لنا إلهك الذي تعبده؟

فأطرق ابن عبّاس إعظاماً لله (عزّ وجلّ)، وكان الحسين بن عليعليه‌السلام جالساً ناحية، فقال:((إليَّ يابن الأزرق)) .

فقال: لست إيّاك أسأل!

فقال ابن عباس: يابن الأزرق، إنّه من أهل بيت النبوّة، وهم ورثة العلم.

فأقبل نافع بن الأزرق نحو الحسينعليه‌السلام ، فقال له الحسينعليه‌السلام :((يا نافعُ، إنّ مَنْ وضع دينه على القياس لم يزل الدّهر في الارتماس، مائلاً عن المنهاج، ظاعناً في الاعوجاج، ضالاً عن السّبيل، قائلاً غير الجميل. يابن الأزرق، أصفُ إلهي بما وصف به نفسه، وأعرِّفه بما عرّف به نفسه، لا يُدرك بالحواسّ، ولا يُقاس بالنّاس، فهو قريبٌ غير مُلتصق، وبعيدٌ غيرُ متقصٍّ، يُوحّد ولا يُبعّض، معروفٌ بالآيات، موصوفٌ بالعلامات، لا إله إلاّ هو الكبيرُ المتعال)) (١) .

_____________________

١ - التوحيد / ٧٩ ب٢ ح٣٥، مستدرك الوسائل ١٧ / ٢٦١ ح٢٦٠.

٢٣٩

فبكى ابن الأزرق، وقال: يا حسين، ما أحسن كلامك؟!

قال له الحسينعليه‌السلام :((بلغني أنّك تشهدُ على أبي وعلى أخي وعليّ بالكفر)) .

قال ابن الأزرق: أما والله يا حسين، لئن كان ذلك لقد كنتم منار الإسلام ونجوم الأحكام.

فقال له الحسينعليه‌السلام :((إنّي سائلك عن مسألةٍ)) .

قال: اسأل.

فسأله عن هذه الآية:( وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ ) (١) ،يابن الأزرق، مَنْ حُفظَ في الغُلامين؟

قال: أبوهما.

قال الحسينعليه‌السلام :((فأبوهُما خيرٌ أم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟)) .

قال ابن الأزرق: أنبأنا الله أنّكم قوم خصمون(٢) .

الإمام حياة العلم كما في الرواية، أي أنّ به يحيا العلم وينمو ويبارك، ولولا الإمام المعصوم في كلّ عصر لتاه الناس عن دينهم، وتشتّت بهم الأهواء، وكثرت التأويلات والاجتهادات في دين الله، كما فعل المجسّمة وأتباع القياس قديماً وحديثاً، لا سيما اُولئك الذين يدَّعون التوحيد وهم مشركون مشبّهون،

_____________________

١ - سورة الكهف / ٨١.

٢ - تاريخ ابن عساكر، ترجمة الإمام الحسين / ١٥٧ ح٢٠٣.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580