الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية

الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية10%

الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية مؤلف:
الناشر: ياس زهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 580

الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية
  • البداية
  • السابق
  • 580 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 195132 / تحميل: 8276
الحجم الحجم الحجم
الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية

الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية

مؤلف:
الناشر: ياس زهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

عن حرمة اللقاء الجنسي بين الزوجين حال الاعتكاف ، وبعد ذكر سلسلة من الأحكام المتعلقة بالصوم ، كما جاءت في الآيات (229 و 230) من سورة البقرة ، والآية (10) من سورة الطلاق بعد بيان قسم من أحكام الطلاق ، وفي الآية (4) من سورة المجادلة بعد بيان كفارة «الظهار».

وفي جميع هذه الموارد أحكام وقوانين منع من تجاوزها ، ولهذا وصفت بكونها «حدود الله»(1) .

ثمّ بعد الإشارة إلى هذا القسم من حدود الله يقول سبحانه :( وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ) ، وهو بذلك يشير إلى النّتيجة الأخروية للالتزام بحدود الله واحترامها ، ثمّ يصف هذه النتيجة الأخروية بقوله :( وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) .

ثمّ يذكر سبحانه ما يقابل هذا المصير في صورة المعصية ، وتجاوز الحدود الإلهية إذ يقول :( وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها ) .

على أنّنا نعلم أن معصية الله (مهما كانت كبيرة) لا توجب الخلود والعذاب الأبدي في النار ، وعلى هذا الأساس يكون المقصود في الآية الحاضرة هم الذين يتعدون حدود الله عن تمرد وطغيان وعداء وإنكار لآيات الله ، وفي الحقيقة الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، ولا يستبعد هذا المعنى إذا لا حظنا أن «حدود» جمع ، وهو مشعر بأن يكون التعدي شاملا لجميع الحدود والأحكام الإلهية ، لأن الذي يتجاهل كل القوانين الإلهية لا يؤمن بالله عادة ، وإلّا فإنّه يحترم ولو بعضها ـ على الأقل.

إنّ الملفت للنظر في الآية السابقة أنّ الله تعالى عبّر عن أهل الجنّة بصيغة الجمع حيث قال تعالى :( خالِدِينَ فِيها ) بينما عبر عن أهل النّار بصيغة المفرد

__________________

(1) لقد مرّ حول «حدود الله» وتفسيره بحث أكثر تفصيلا في المجلد الثاني من هذا التّفسير.

١٤١

حيث قال( خالِداً فِيها ) .

إنّ هذا التفاوت في التعبير ـ في الآيتين المتلاحقتين ـ شاهد واضح على أن لأهل الجنّة اجتماعات (أو بعبارة أخرى أنّ هناك حالة اجتماعية بين أهل الجنّة ونزلائها) وتلك هي في حد ذاتها نعمة من نعم الجنّة ، ينعم بها ساكنوها وأصحابها ، بينما يكون الوضع بالنسبة إلى أهل النار مختلفا عن هذا ، فكل واحد من أهل النار مشغول بنفسه ـ لما فيه من العذاب ـ بحيث لا يلتفت إلى غيره ، ولا يفكر فيه ، بل هو مهتم بنفسه ، يعمل لوحده،وهذه هي حالة المستبدين المتفردين بالرأي والموقف ، والجماعات المتحدة والمجتمعة في المقابل ، في هذه الدنيا أيضا ، فالفريق الأول يمثل أهل جهنم ، بينما يمثل الفريق الثاني أهل الجنّة.

ميزات قانون الإرث الإسلامي :

في قانون الإرث عموما ، وفي نظام الإرث الإسلامي خاصّة مزايا نشير إلى قسم منها في ما يلي :

1 ـ في نظام الإرث الإسلامي ، وفي ضوء ما أقرّ من الطبقات للورثة لا يحرم أي واحد من أقرباء المتوفى من الإرث ، فليس في الإسلام ما كان متعارفا (أو لا يزال) عند العرب الجاهليين ، أو في بعض المجتمعات البشرية من حرمان النساء والأطفال من الإرث لعدم قدرتهم على حمل السلاح والمشاركة في الحروب وما شاكل ذلك ، بل يشمل نظام الإرث الإسلامي كل من يمتّ إلى المتوفى بوشيجة القربى.

2 ـ يلبي هذا النظام الحاجات الإنسانية الفطرية والمشروعة ، لأنّ كل إنسان من أبناء البشر يجب أن يرى حصيلة جهوده وثمرة أتعابه ونتاج كدّه وكدحه بيد من يعتبره امتدادا لوجوده وشخصيته ، ولهذا يكون سهم الأبناء ـ حسب هذا النظام ـ أكثر من سهام غيرهم ، في حين تكون سهام الآباء والأمهات وغيرهم من

١٤٢

الأقرباء وأنصبتهم بدورها سهاما وأنصبة محترمة وجديرة بالاهتمام أيضا.

3 ـ إنّ هذا القانون يشجع الأشخاص على السعي والعمل وبذل المزيد من الفعالية في سبيل تحصيل الثروة ، وتشغيل عجلة الإقتصاد.

وذلك لأنّ الإنسان إذا عرف أنّ نتاج كده وكدحه وحصيلة جهوده وأتعابه طوال حياته ستنتقل إلى من يحبّهم ويودّهم ، فإنّه يتشجع على المزيد من العمل والنشاط مهما كان عمره وسنه ، ومهما كانت ظروفه وملابساته ، وبهذا لا يحدث أي ركود في فعاليته ونشاطه مطلقا.

وقد أشرنا في ما مضى ـ كيف أنّ إلغاء قانون الإرث والتوارث في بعض البلاد،وتأميم أموال الموتى ، وحيازتها من قبل الدولة أدى إلى آثار سيئة في المجال الاقتصادي ، وظهر في صورة ركود اقتصادي مخيف دفع بالدولة إلى إعادة النظر في إلغاء قانون الإرث وحذفه.

4 ـ إنّ قانون الإرث الإسلامي يمنع من تراكم الثّروة ، لأنّ هذا النظام يقضي بتقسيم الثّروة ـ بعد كلّ جيل ـ بين الأفراد المتعددين بصورة عادلة ، وهذا ممّا يساعد على تفتيت الثروة ، كما يساعد على التوزيع العادل لها.

هذا والجدير بالاهتمام أنّ هذا التقسيم لا يعاني ممّا تعاني منه بعض الأشكال السائدة في عالمنا الراهن لتقسيم الثروة ، والتي ترافق غالبا سلسلة من المضاعفات والآلام الاجتماعية السيئة ، فهو نظام فريد من نوعه يشمل الجميع برحمته ، ولا يتسبب في انزعاج أي شخص أو جهة.

5 ـ إنّ الأسهم والأنصبة في قانون الإرث الإسلامي لم تنظم على أساس الارتباط والانتساب إلى المتوفى برابطة النسب خاصّة ، بل على أساس الحاجات الواقعية عند الورثة،فإذا رأينا الذكور من أولاد الميت يرثون ضعف ما ترثه الإناث ، أو يرث الأب ـ في بعض الموارد ـ أكثر من الأمّ ، فهو لأجل أنّ الرجال يتحملون مسئولية مالية أكبر في النظام الإسلامي ، ولأنّ عليهم أن

١٤٣

يتحملوا الإنفاق على زوجاتهم وعوائلهم ، ولهذا لا بدّ أن يسهم لهم ـ في الإرث ـ أكثر من الإناث.

ما هو العول ، وما هو التعصيب؟ :

في كتاب الإرث نقف على بحثين أحدهما تحت عنوان «العول» ، والآخر تحت عنوان «التعصيب» وهما حالتان تعرضان لمسألة الإرث عند ما تكون الأسهم المذكورة في الآيات المتقدمة أقل من التركة أحيانا ، أو أكثر أحيانا أخرى.

وللمثال نقول : إذا ترك الميت أختين من جانب الأب والأمّ ، وزوجا ، ورثت الأختان ثلثي المال وورث الزوج النصف ، فيكون المجموع 6 أي بزيادة 6 على مجموع المال،وهنا يطرح السؤال التالي وهو : ننقص هذا السدس الزائد 6 من جميع الورثة ـ حسب سهامهم ـ وبصورة عادلة ، أم يجب أن تنقص من نصيب أشخاص معينين خاصّة؟

المعروف عن علماء السنة أنّهم يذهبون إلى إدخال النقص على جميع الورثة ، وسمّى الفقهاء هذا القسم عولا ، لأن العول يعني في اللغة الارتفاع والزيادة.

ففي المثال الحاضر يقول فقهاء السنة : إنّ السدس الزائد يجب أن يقسم على الجميع ، وأن ننقص من جميع الورثة من كل واحد حسب سهمه(1) ، وهكذا يكون العمل في الموارد الاخرى ، وفي الحقيقة ينزل الورثة ـ هنا ـ منزلة الغرماء الذين لا تفي أموال المفلس بتسديد ديونهم جميعا وبصورة كاملة ، فهنا يدخل النقص

__________________

(1) فتكون طريقة الحساب هنا هي أنّنا يجب أن ننقص 6 / 1 من سهم الأختين الذي هو 6 / 4 وسهم الزوج الذي هو 6 / 3 بمقدار أسهمهم أي نقسم 6 / 1 على 7 أقسام فننقص من سهم الأختين بمقدار 4 ، ومن الزوج بمقدار 3 ، وذلك طبقا لقانون «الإسهام بالنسبة» المذكورة في الرياضيات فتكون النتيجة أنه ينقص من سهم الأختين بمقدار 42 / 4 ومن سهم الزوج بمقدار 42 / 3.

١٤٤

على جميع الغرماء بنسب متناسبة مع مقادير ديونهم.

ولكن فقهاء الشيعة يذهبون في هذا المجال مذهبا آخر ، فهم يدخلون النقص على أشخاص معنيين ، لا على جميع الورثة.

فهم في المثال الحاضر ، مثلا يدخلون النقص على الأختين ، ويقولون كما جاء في حديث شريف : «إن الذي أحصى رمل عالج ـ أي المتراكم من الرمل الداخل بعضه في بعض ـ ليعلم أن السهام لا تعول» أي لا تتعدى الأسهم ولا تؤول إلى الكسر ، فلا بدّ أن يكون سبحانه قد وضع لمثل هذه الحالة قانونا ، وذلك هو أن بين الورثة الذين ذكرهم القرآن الكريم من له سهم ثابت من حيث الأقل أو الأكثر كالزوج والزوجة والأب والأمّ ، ومن ليس سهم كذلك كالأختين والبنتين ، ومن هنا نفهم أن النقص يجب أن يدخل دائما على من ليس له سهم محدد في جانب القلّة أو الكثرة (أي الذي ليس له حدّ أقل أو حدّ أكثر معين) أي الذي يكون عرضة للتغير والاضطراب ، ولهذا لا يدخل النقص المذكور على سهم الزوج ، فهو يرث سهمه من التركة وهو النصف بلا نقصان بسبب العول ، وإنّما يدخل النقص على سهم الأختين فقط (فلا حظ ذلك بدقّة).

وقد يكون مجموع الأسهم أقلّ من مجموع المال ـ فيفضل شيء من المال بعد أخذ كل واحد من أفراد الطبقة الوارثة فرضه.

فمثلا إذا توفي رجلا وخلف بنتا واحدة وأمّا ، فإن سهم الأم هو 6/1 وسهم البنت هو 6/3 فيكون مجموع الأسهم هو 6/4 أي يفصل 6/2 من المال ، في هذه الصورة يذهب علماء السنة وفقهاؤهم إلى إعطاء هذا الفاضل من التركة إلى عصبة الميت(1) وهم رجال الطبقة الثانية من الإرث (كالأخوة) ويسمى هذا القسم بالتعصيب.

ولكن فقهاء الشيعة يذهبون إلى أنّ ذلك الفاضل يجب أن يقسّم بين الوارثين

__________________

(1) العصبة هم الرجال الذين ينتسبون إلى الميت بلا واسطة كالأخوة.

١٤٥

المذكورين أي بنسبة 1 و 3 ، لأنه مع وجود الطبقة السابقة لا تصل النوبة إلى الطبقة اللاحقة ، هذا مضافا إلى أن إعطاء الفاضل من التركة إلى رجال الطبقة اللاحقة يشبه ما كان سائدا في العهد الجاهلي حيث تحرم النساء من الإرث.

هذا والبحث الراهن من الأبحاث العلمية المعقدة ، وقد أعطينا هنا خلاصة موضحة منه تبعا للحاجة ، وأما التفصيل فموكول إلى محله في الكتب الفقهية المفصّلة.

* * *

١٤٦

الآيتان

( وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16) )

التّفسير

تعني لفظة «الفاحشة» حسب اللّغة : العمل أو القول القبيح جدّا ـ كما أسلفنا ـ ويستعمل في الزنا لقبحه الشديد ، وقد وردت هذه اللفظة في (13) موردا من القرآن الكريم، وقد استعملت تارة في «الزّنا» وأخرى في «اللواط» وتارة في الأفعال الشديدة القبح على العموم.

والآية الأولى ـ من هاتين الآيتين ـ تشير كما فهم أكثر المفسرين ـ إلى جزاء المرأة المحصنة التي تزني. فتقول :( وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ ) .

وما يدل على أنّ الآية المبحوثة تعني زنا المحصنة ـ مضافا إلى القرينة

١٤٧

المذكورة في الآية اللاحقة ـ التعبير بـ «من نسائكم» أي زوجاتكم ، لأنّ التعبير بهذه اللفظة عن الزوجات قد تكرر في مواضع عديدة من القرآن الكريم ، وعلى هذا يكون جزاء المحصنة التي ترتكب الزنا في هذه الآية هو الحبس الأبدي.

ولكنه تعالى أردف هذا الحكم بقوله :( أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ) فإذن لا بدّ أن يستمر هذا الحبس في حقهنّ إلى الأبد حتى يأتي أجلهنّ ، أو يعين لهنّ قانون جديد من جانب الله سبحانه.

ويستفاد من هذه العبارة أنّ هذا الحكم (أي الحبس الأبدي للمحصنة الزانية) حكم مؤقت ، ولهذا ذكر من بداية الأمر أنّه سوف ينزل في حقهنّ قانون جديد ، وحكم آخر في المستقبل (وبعد أن تتهيأ الظروف والأفكار لمثل ذلك) حينئذ سيتخلص النساء اللاتي شملهنّ ذلك الحكم (أي الحكم بالحبس أبدا) من ذلك السجن إذا كن على قيد الحياة طبعا ، ولا يشملهنّ حكم جزائي آخر ، وليس الخلاص من السجن إلّا بسبب إلغاء الحكم السابق ، وأما عدم شمول الحكم الجديد لهنّ فلئن الحكم الجزائي لا يشمل الموارد التي سبقت مجيئه ، وبهذا يكون الحكم والقانون الذي سيصدر في ما بعد ـ مهما كان ـ سببا لنجاة هذه السجينات ، على أنّ هذا الحكم الجديد يشمل حتما كل الذين سيرتكبون هذا المنكر في ما بعد. (فلا حظ بدقّة هذه النقطة).

وأمّا ما احتمله البعض من أنّ المراد من قوله تعالى :( أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ) هو أنّ الله سبحانه قد جعل الرجم للمحصنات الزانيات في ما بعد ، يجعل وبذلك سيكون للسجينات سبيلا إلى النجاة والخلاص من عقوبة السجن ، فهو احتمال مردود ، لأنّ لفظة «لهنّ سبيلا» لا تتلاءم أبدا مع مسألة الأعدام ، فعبارة «لهنّ» تعني ما يكون نافع لهنّ وليس الاعدام سبيلا لنجاتهنّ ، والحكم الذي قرّره الله في الإسلام للمحصنات الزانيات في ما بعد هو الرجم (وقد ورد هذا الحكم في لسان السنة النبوية الشريفة أي الأحاديث قطعا،وإن لم ترد في القرآن الكريم

١٤٨

أية إشارة إليها).

من كلّ ما قلناه اتّضح أنّ الآية الحاضرة لم تنسخ قط ، لأنّ النسخ إنّما يكون في الأحكام التي تردّ مطلقة من أوّل الأمر لا التي تذكر مؤقتة ومحدودة كذلك ، والحكم المذكور في الآية الحاضرة (أي الحبس الأبدي) من القسم الثّاني ، أي أنّه حكم مؤقت محدود ، وما نجده في بعض الرّوايات من التصريح بأنّ الآية الحاضرة قد نسخت بالأحكام التي وردت في عقوبة مرتكبي الفاحشة ، فالمراد منه ليس هو النسخ المصطلح ، لأنّ النسخ في لسان الروايات والأخبار يطلق على كل تقييد وتخصيص (فلا حظ ذلك بدقّة وعناية).

ثمّ لا بدّ من الالتفات إلى ناحية مهمّة ، وهي أن الحكم بحبس هذا النوع من النساء في «البيوت» من صالحهن من بعض الجهات ، لأنّه أفضل ـ بكثير ـ من سجنهن في السجون العامّة المتعارفة ، هذا مضافا إلى أن التجربة قد دلّت أن للسجون والمتعقلات العامّة أثرا سيئا وعميقا في إفساد المجتمع ، إذ أنّ هذه المراكز تتحول ـ شيئا فشيئا ـ إلى معاهد كبرى لتعليم شتى ألوان الجريمة والفساد بسبب أن المجرمين سيتبادلون فيها ـ من خلال المعاشرة واللقاء وفي سعة من الوقت وفراغ من الشغل ـ تجاربهم في الجريمة.

ثمّ أنّ الله سبحانه يذكر بعد ذلك حكم الزنا عن إحصان إذ يقول :( وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً ) ويقصد أنّ الرجل غير المحصن أو المرأة غير المحصنة إن أتيا بفاحشة الزنا فجزاؤهما أن يؤذيا».

والآية وإن كانت لا تذكر قيد «عدم الإحصان» ، صراحة ، إلّا أنّها حيث جاءت بعد ذكر حكم المحصنة وذكر عقوبتها التي تختلف عن هذه العقوبة التي هي أخف من العقوبة المذكورة في الآية السابقة ، أستفيد منها إنها واردة في حق الزنا عن غير إحصان، وإنها بالتالي عقوبة الزاني غير المحصن والزانية غير

١٤٩

المحصنة اللذين لا يدخلان في عنوان الآية السابقة ، وبالتالي حيث أن الآية السابقة اختصّت ـ بالقرينة التي ذكرت ـ بالزانية المحصنة استنتجنا أنّ هذه الآية تبيّن حكم الزنا عن غير إحصان.

كما أنّ هناك نقطة واضحة أيضا ، وهي أنّ الحكم المذكور في هذه الآية (أي الإيذاء) عقوبة كلية ، يمكن أن تكون الآية الثانية من سورة النور التي تذكر أن حدّ الزنا هو (100) جلدة لكل واحد من الزاني والزانية تفسيرا وتوضيحا لهذه الآية وتعيينا للحكم الوارد فيها ، ولهذا لا يكون هذا الحكم منسوخا أيضا.

ففي تفسير العياشي روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير هذه الآية أنّه قال : «يعني البكر إذا أتت الفاحشة التي أتتها هذه الثيب فآذوهما».

وعلى هذا يكون المراد من «اللذان» ـ وإن كان للإشارة إلى مثنى مذكر ـ هو الرجل والمرأة أي من باب التغلب.

هذا وقد احتمل جماعة من المفسرين أن يكون الحكم الوارد في هذه الآية واردا في مجال «اللواط» واعتبروا الحكم في الآية السابقة واردا في مجال «المساحقة» ، ولكن رجوع الضمير في «يأتيانها» إلى «الفاحشة» في الآية السابقة يفيد أن العمل المستلزم لهذا الحكم الصارم في هذه الآية هو من نوع العمل المذكور في الآية السابقة لا من نوع آخر،ولهذا فإن اعتبار أنّ هذه الآية واردة في شأن اللوط ، والآية السابقة واردة في شأن المساحقة خلاف الظاهر ، (وإن كان كلا العملين اللواط والمساحقة يشتركان في عنوان كلي، وهو الميل إلى الجنس الموافق) وعلى هذا تكون كلتا الآيتين واردتين في حدّ الزنا وحكمه.

هذا مضافا إلى أننا نعلم أنّ عقوبة «اللواط» في الإسلام هو القتل والإعدام وليست الإيذاء والجلد ، وليس ثمّة أي دليل على انتساخ الحكم المذكور في الآية الحاضرة.

ثمّ إنّ الله سبحانه بعد ذكر هذا الحكم يشير إلى مسألة التوبة والعفو عن مثل

١٥٠

هؤلاء العصاة ، فيقول :( فَإِنْ تابا ، وَأَصْلَحا ، فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً ) .

وهذا التعليم هو في الحقيقة يفتح طريق العودة ويرسم خط الرجعة لمثل هؤلاء العصاة،فإن على المجتمع الإسلامي أن يحتضن هؤلاء إذا تابوا ورجعوا إلى الطهر والصواب وأصلحوا،ولن يطردوا من المجتمع بعد هذا بحجّة الفساد والانحراف.

هذا ويستفاد من هذا الحكم أيضا ـ أنّه يجب أن لا يعير العصاة الذين رجعوا إلى جادة الصواب وتابوا وأصلحوا على أفعالهم القبيحة السابقة ، وأن لا يلاموا على ذنوبهم الغابرة ، فإذا كان الحكم الشرعي والعقوبة الإلهية يسقطان بسبب التوبة والإنابة ، فإنّ من الأولى أن يغض الناس الطرف عن سوابقهم ، وهذا بنفسه جار في من نفذ فيه الحدّ الشرعي ثمّ تاب بعد ذلك ، فإنّه يجب أن تشمله مغفرة المسلمين وعفوهم.

العقوبات الإسلامية السهل الممتنع :

قد يتساءل البعض أحيانا : لما ذا قرر الإسلام عقوبات صارمة ، وأحكاما جزائية قاسية وثقيلة؟ فمثلا : لما ذا حكم بالحبس الأبدي أوّلا على الزانية عن إحصان ، ثمّ قرّر الحكم القتل والإعدام في شأنهما في ما بعد ، ألم يكن من الأفضل أن يتّخذ الإسلام موقفا أكثر تسامحا ولينا تجاه هذه الأفعال ، لتتعادل الجريمة والعقوبة ولا يرجح أحدهما على الآخر؟

غير أنّ العقوبات الإسلامية وإن كانت تبدو في الظاهر صعبة وقاسية وثقيلة ، إلّا أنّ إثبات الجريمة في الإسلام في المقام ليس سهلا ، أيضا فقد عين الإسلام وحدد لإثبات الجريمة شروطا لا تثبت ـ في الأغلب ـ إلّا إذا وقعت الجريمة علنا.

١٥١

فمثلا : تصعيد عدد الشهود في الزنا إلى الأربعة ـ كما في الآية الحاضرة ـ من الأمور الصعبة جدّا بحيث لا يثبت بها إلّا من كان مجرما جسورا جدّا ، ولا شك أن مثل هؤلاء لا بدّ أن ينالوا عقابا ثقيلا وقاسيا ليعتبر بهم الآخرون ، فتطهر بذلك البيئة الاجتماعية من لوث الفساد والانحراف والتورط في الجريمة ، كما أن المواصفات والشروط المعتبرة في الشهود مثل رؤية العملية الجنسية بعينها ، وعدم الاكتفاء بالقرائن ، ومثل الاتحاد في الشهادة وما شاكل ذلك تجعل إثبات الجريمة أصعب جدّا.

وبهذا الطريق جعل الإسلام احتمال التعرض لمثل هذه العقوبة القاسية الثقيلة نصيب عيني هذا النوع من المجرمين ، وهو احتمال مهما كان ضعيفا من شأنه أن يؤثر في ردع الأشخاص ، وكبح جماحهم ، وأمّا الدقّة في كيفية إثبات هذه الجريمة ، والتشدد في الشرائط التي اعتبرها في الشهادة والشهود فهو لأجل أن لا تتسع دائرة هذه الأعمال الخشنة ، ولا يقتصر استعمال العقوبات الخشنة فيها على أقل الموارد ، وفي الحقيقة أراد الإسلام أن يحافظ على الأثر التهديدي لهذا القانون الجزائي من دون أن يعرض أفرادا كثيرين لعقوبة الإعدام من جانب آخر.

ونتيجة ذلك هي أنّ هذا الأسلوب الإسلامي في تعيين العقوبة وطريق إثبات الجريمة من أكثر الأساليب تأثيرا ونجاحا في خلاص المجتمع من التورط في الآثام والمعاصي في حين لا يتعرض لمثل هذه العقوبة أفراد كثيرون ، وبهذا نصف هذا الأسلوب بالأسلوب «السهل الممتنع».

* * *

١٥٢

الآيتان

( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18) )

التّفسير

شرائط قبول التوبة :

في الآية السابقة بيّن الله تعالى بصراحة مسألة سقوط العقوبة عن مرتكبي الفاحشة ومعصية الزّنا إذا تابوا وأصلحوا ، ثمّ عقب ذلك بقوله :( إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً ) مشيرا بذلك إلى قبول التوبة من جانب الله أيضا.

وفي هذه الآية يشير سبحانه إلى شرائط قبول التوبة إذ يقول :( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ) .

وهنا يجب أن نرى ما ذا تعني «الجهالة» هل هي الجهل وعدم المعرفة بالمعصية ، أم هي عدم المعرفة بالآثار السيئة والعواقب المؤلمة للذنوب والمعاصي؟

١٥٣

إنّ كلمة الجهل وما يشتق منها وإن كانت لها معان مختلفة ، ولكن يستفاد من القرائن أنّ المراد منها في الآية المبحوثة هنا هو طغيان الغرائز ، وسيطرة الأهواء الجامحة وغلبتها على صوت العقل والإيمان ، وفي هذه الصورة وإن لم يفقد المرء العلم بالمعصية ، إلّا أنّه حينما يقع تحت تأثير الغرائز الجامحة ، ينتفي دور العلم ويفقد مفعوله وأثره ، وفقدان العلم لأثره مساو للجهل عملا.

وأمّا إذا لم يكن الذنب عن جهل وغفلة ، بل كان عن إنكار لحكم الله سبحانه وعناد وعداء ، فإن ارتكاب مثل هذا الذنب ينبئ عن الكفر ، ولهذا لا تقبل التوبة منه ، إلّا أن يتخلّى عن عناده وعدائه وإنكاره وتمرده.

وفي الحقيقة إنّ هذه الآية تبيّن نفس الحقيقة التي يذكرها الإمام السجادعليه‌السلام في دعاء أبي حمزة ببيان أوضح إذ يقول : «إلهي لم أعصك حين عصيتك وأنا بربوبيتك جاحد ولا بأمرك مستخف ، ولا لعقوبتك متعرض ، ولا لوعيدك متهاون ، لكن خطيئة عرضت وسولت لي نفسي وغلبني هواي».

ثمّ إنّ الله سبحانه يشير إلى شرط آخر من شروط قبول التوبة إذ يقول :( ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ) .

هذا وقد وقع كلام بين المفسّرين في المراد من «قريب» فقد ذهب كثيرون إلى أنّ معناه التوبة قبل أن تظهر آثار الموت وطلائعه ، ويستشهدون لهذا الرأي بقوله تعالى :( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ ) الذي جاء في مطلع الآية اللاحقة ، ويشير إلى أن التوبة لا تقبل إذ ظهرت علامات الموت.

ولعل استعمال لفظة «قريب» إنّما هو لأجل أن نهاية الحياة الدنيوية مهما بعدت فهي قريبة.

ولكن بعض المفسرين ذهب إلى تفسير لفظة «من قريب» بالزمان القريب من وقت حصول المعصية ، فيكون المعنى أن يتوبوا فورا ، ويندموا على ما فعلوه

١٥٤

بسرعة ، ويتوبوا إلى الله ، لأنّ التوبة الكاملة هي التي تغسل آثار الجريمة وتزيل رواسبها من الجسم والروح بشكل مطلق حتى لا يبقى أي أثر منه في القلب ، ولا يمكن هذا إلّا إذا تاب الإنسان وندم قبل أن تتجذر المعصية في كيانها ، وتتعمق آثارها في وجوده فتكون له طبيعة ثانية ، إذ في غير هذه الصورة ستبقى آثار المعصية في زوايا الروح الإنسانية ، وتعشعش في خلايا قلبه ، فالتوبة الكاملة ـ إذن ـ هي التي تتحقق عقيب وقوع الذنب في أقرب وقت،ولفظة «قريب» أنسب مع هذا المعنى من حيث اللغة والفهم العرفي.

صحيح أنّ التوبة التي تقع بعد زمن طويل من ارتكاب المعصية تقبل أيضا ، إلّا أنّها ليست التوبة الكاملة ، ولعل التعبير بجملة «على الله» (أي على الله قبولها) كذلك إشارة إلى هذا المعنى ، لأن مثل هذا التعبير لم يرد في غير هذا المورد من القرآن الكريم ، ومفهومه هو أن قبول التوبة القريبة من زمن المعصية حق من حقوق العباد ، في حين ان قبول التوبة البعيدة عن زمن المعصية تفضل من الله وليس حقا.

ثمّ أنّه سبحانه ـ بعد ذكر شرائط التوبة ـ يقول :( فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً ) مشيرا بذلك إلى نتيجة التوبة التي توفرت فيها الشروط المذكورة.

ثمّ يقول تعالى :( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ) وهو إشارة إلى من لا تقبل توبته.

وعلّة عدم قبول هذا النوع من التوبة واضحة ، لأن الإنسان عند الاحتضار في رحاب الموت تنكشف له الأستار ، فيرى ما لم يكن يراه من قبل ، فهو يرى بعد انكشاف الغطاء عن عينيه بعض الحقائق المتعلقة بالعالم الآخر ، ويشاهد بعينيه نتائج أعماله التي ارتكبها في هذه الدنيا ، وتتخذ القضايا التي كان يسمع بها صفة

١٥٥

محسوسة ، وفي هذه الحالة من الطبيعي أن يندم كل مجرم على جرمه وأفعاله السيئة ، ويفرّ منها فرار الذي يرى اقتراب ألسنة اللهب من جسمه.

ومن المسلم أن التكليف الإلهي والإختيار الرباني للبشر لا يقوم على أساس هذا النوع من المشاهدات والمكاشفات ، بل يقوم على أساس الإيمان بالغيب ، والمشاهدة بعيني العقل والقلب.

ولهذا نقرأ في الكتاب العزيز أنّ أبواب التوبة كانت تغلق في وجه بعض الأقوام العاصية عند ظهور طلائع العذاب الدنيوي والنقمة العاجلة ، وللمثال نقرأ قول الله سبحانه عن فرعون إذ يقول :( حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) (1) .

كما يستفاد من بعض الآيات القرآنية (مثل الآية 12 من سورة السجدة) إنّ العصاة يندمون عند ما يشاهدون العذاب الإلهي في الآخرة ، ولكن لات حين مندم ، فلا فائدة لندمهم في ذلك الوقت ، إن هؤلاء أشبه ما يكونون بالمجرمين الذين إذا شاهدوا أعواد المشنقة وأحسوا بالحبل على رقابهم ندموا على جرائمهم وأفعالهم القبيحة ، فمن الواضح أنّ مثل هذه التوبة وهذا الندم لا يعد فضيلة ، ولا مفخرة ولا تكاملا ، ولهذا لا يكون أي تأثير.

على أنّ هذه الآية لا تنافي الروايات التي نصت على إمكان قبول التوبة حتى عند اللحظة الأخيرة من الحياة ، لأن المراد في هذه الروايات هي اللحظات التي لم تظهر فيها بعد ملامح الموت وآثاره وطلائعه ، وبعبارة أخرى لم تحصل لدى الشخص العين البرزخية التي يقف بها على حقائق العالم الآخر.

هذا عن الطائفة الأولى الذين لا تقبل توبتهم ، وهم من يتوبون عند ما تظهر أمام عيونهم ملامح الموت وتبدو عليهم آثاره.

__________________

(1) يونس ، 90 ـ 91.

١٥٦

وأمّا الطائفة الثّانية الذين لا تقبل توبتهم فهم الذين يموتون كفارا ، إذ يقول سبحانه :( وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ) .

ولقد ذكر الله سبحانه بهذه الحقيقة في آيات أخرى في القرآن الكريم(1) .

وهنا يطرح سؤال وهو : متى لا تقبل توبة الذين يموتون كفارا؟

احتمل البعض أن لا تقبل توبتهم في العالم الآخر ، واحتمل آخرون أن يكون المراد من التوبة ـ في هذا المقام ـ ليس هو توبة العباد ، بل توبة الله ، يعني عود الله على العبد وعفوه ورحمته له.

ولكن الظاهر هو أنّ الآية تهدف أمرا آخر وتقول : إن الذين يتوبون من ذنوبهم حال العافية والإيمان ولكنهم يموتون وهم كفار لا تقبل توبتهم ولا يكون لها أي أثر.

وتوضيح ذلك : إنّنا نعلم إن من شرائط قبول الأعمال «الموافاة على الإيمان» بمعنى أن يموت الإنسان مؤمنا ، فالذين يموتون وهم كفار تحبط أعمالهم السابقة حتى الصالحة منها حسب صريح الآيات القرآنية(2) . وتنتفي فائدة توبتهم من ذنوبهم حتى إذا تابوا حال الإيمان في هذه الصورة أيضا.

وخلاصة القول إنّ قبول التوبة مشروط بأمرين.

الأوّل : أنّ تتحقق التوبة قبل أن يرى الشخص علائم الموت.

والثّاني : أن يموت وهو مؤمن.

ثمّ أنّه يستفاد من هذه الآية أيضا إن على الإنسان أن لا يؤخر توبته ، إذ يمكن أن يأتيه أجله على حين غفلة ، فتغلق في وجهه أبواب التوبة ولا يتمكن منها حينئذ.

والملفت للنظر أن تأخير التوبة الذي يعبر عنه بالتسويف قد أردف في الآية

__________________

(1) آل عمران ـ 91 ، البقرة ، 161 ، البقرة ، 217 ، محمّد ـ 34.

(2) البقرة ، 217.

١٥٧

الحاضرة بالموت حال الكفر ، وهذا يكشف عن أهمية التسويف وخطورته البالغة في نظر القرآن.

ثمّ يقول سبحانه في ختام الآية :( أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) ، ولا حاجة إلى التذكير بأنّ للتوبة مضافا إلى ما قيل شرائط اخرى مذكورة في آيات مشابهة من الكتاب العزيز.

* * *

١٥٨

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19) )

سبب النّزول

روي في مجمع البيان عن الإمام محمّد الباقرعليه‌السلام : «نزلت في الرجل يحبس المرأة ـ من دون أن يعاملوها كالزّوجة ـ عنده لا حاجة له إليها ينتظر موتها حتى يرثها» ، أي فيأخذ أموالها من بعد وفاتها.

وروي عن ابن عباس أنّ الآية الحاضرة نزلت في الذين أمهروا نساءهم بمهور كبيرة ثمّ يحبسونهن من دون حاجة إليهن ، ولا يطلقونهن لغلاء المهر وثقله ، ويؤذونهن حتى يقبلن بالطلاق بعد أن يتنازلن عن تلك المهور.

وقد روى جماعة من المفسرين سببا آخر لنزول هذه الآية لا يناسب هذه الآية ، بل يناسب الآية (22) من هذه السورة ، وسنذكر ذلك الرأي عند تفسير تلك الآية بإذن الله تعالى.

١٥٩

التّفسير

الدفاع عن حقوق المرأة أيضا :

قلنا في مطلع تفسير هذه السورة أنّ آيات هذه السورة تهدف إلى مكافحة الكثير من الأعمال الظالمة والممارسات المجحفة التي كانت رائجة في العهد الجاهلي ، وفي هذه الآية بالذات أشير إلى بعض هذه العادات الجاهلية المقيتة وحذر الله سبحانه فيها المسلمين من التورط بها ، وتلك هي :

1 ـ لا تحبسوا النساء لترثوا أموالهنّ ، فلقد كانت إحدى العادات الظالمة في الجاهلية ـ كما ذكرنا في سبب نزول الآية ـ أنّ الرجل كان يتزوج بالنساء الغنيات ذوات الشرف والمقام اللاتي لم يكن يحظين بالجمال ، ثمّ كانوا يذرونهن هكذا فلا يطلقونهنّ ، ولا يعاملونهنّ كالزوجات ، بانتظار أن يمتن فيرثوا أموالهن ، فقالت الآية الحاضرة :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً ) وبهذا استنكر الإسلام هذه العادة السيئة.

2 ـ لا تضغطوا على أزواجكم ليهبنّ لكم مهورهنّ ، فقد كان من عادات الجاهليين المقيتة أيضا أنّهم كانوا يضغطون على الزوجات بشتى الوسائل والطرق ليتخلين عن مهورهنّ،ويقبلن بالطلاق ، وكانت هذه العادة تتبع إذا كان المهر ثقيلا باهظا ، فمنعت الآية الحاضرة من هذا العمل بقولها :( وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ ) أي من المهر.

ولكن ثمّة استثناء لهذا الحكم قد أشير إليه في قوله تعالى في نفس الآية :( إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ) والفاحشة هي أن ترتكب الزوجة الزنا وتخون بذلك زوجها ، ففي هذه الحالة يجوز للرجل أن يضغط على زوجته لتتنازل عن مهرها ، وتهبه له ويطلقها عند ذلك،وهذا هو في الحقيقة نوع من العقوبة ، وأشبه ما يكون بالغرامة في قبال ما ترتكبه هذه الطائفة من النساء.

هذا والمقصود من الفاحشة المبينة في الآية هل هو خصوص الزنا ، أو كل

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

طالبعليه‌السلام لمدّة ثلاث سنوات، وتهجير أصحابه مرّتين إلى الحبشة، ولم يزالوا به حتّى هاجر إلى بلد هجرته مكرهاً(١) .

لكنّه وبعد فتح مكة، وبعد حروب طاحنة خاضها ضدّ جيش الكفر والشرك المكي وهو في دار غربته، وعندما أسرهم وتمكّن منهم قال لهم:((اذهبوا فأنتم الطُّلقاء)) (٢) .

فالأذى لا يُقابل بالأذى في شريعتنا، بل يُقابل بالإحسان والامتنان، والإطلاق لوجه الله تعالى، وكذلك فعل أمير المؤمنين عليعليه‌السلام الذي قال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :((أنت المظلوم من بعدي)) (٣) ، فلقد ظلموه وانتهكوا حرمته، واقتحموا عليه داره، وقتلوا زوجته سيّدة نساء العالمين، وطفلها الجنين (محسن)، وساقوه كالأسير، وفعلوا أفعالاً يندى لها جبين الإنسانيّة، إلاّ أنّه كان كثيراً ما يقولعليه‌السلام :((لأُسالمنَّ ما سلمتْ أمورُ المسلمين، ولم يكن بها جورٌ إلاّ عليَّ خاصةً)) (٤) .

ويقولعليه‌السلام :((سلامةُ الدِّين أحبُّ إلينا من غيره)) (٥) .

هذا هو الشعار، وهذه هي الممارسة العمليّة له، فالسّلام عند أمير المؤمنين عليعليه‌السلام هو السبيل إلى بقاء الدين الإسلامي، والطريق الأفضل لانتشاره.

علينا أن نستفيد من هذا الدرس العظيم من الإمام عليعليه‌السلام على طول المدى.

_____________________

١ - لأوّل مرّة في تاريخ العالم ١ / ١٤٣.

٢ - الكافي ٣ / ٥١٢، وسائل الشيعة ٩ / ١٨٢، بحار الأنوار ١٩ / ١٨٠.

٣ - عيون أخبار الإمام الرضاعليه‌السلام ١ / ٩ ح١٣، و٢ / ٢٧١ ح٦٣، الاعتقادات في دين الإمامية - للشيخ الصدوق / ١٤.(موقع معهد الإمامين الحسَنَين)

٤ - بحار الأنوار ٢٩ / ٦١٢، نهج البلاغة / ١٠٢.

٥ - بحار الأنوار ٢٨ / ٣٥٣، شرح نهج البلاغة ٦ / ٢١.

٢٢١

أمّا الإمام الحسن السبط المجتبىعليه‌السلام فإنّه دفع الحكومة والإمارة كلّها لمعاوية حقناً لدماء المسلمين، ولوحدتهم وحفظ كلمتهم، فهو رمز الوحدة والجماعة إلى هذا اليوم.

قدّمنا هذه المقدّمات؛ لنصل إلى شواطئ النور لبحر الحسين السبطعليه‌السلام سيّد الشهداء، وسيّد شباب أهل الجنّة الذي قتلته هذه الأُمّة ظلماً وعدواناً، وجرأة على الله ورسوله ما بعدها جرأة، ولكن كيف، ولماذا؟!

الحسينعليه‌السلام ورسالة السّلام والإصلاح

طال البحث حول حركة الإمام الحسينعليه‌السلام ، فهل هي ثورة حقيقيّة كان الهدف منها قلب نظام الحكم في الدولة الإسلاميّة، والسيطرة بالتالي على مقاليد الأمور السلطويّة؟ أم إنّها كانت نهضة شعبيّة محدودة دون تأييد جماهيري؛ ولذا أُبيدت؟

أم إنّها كانت حركة إصلاحيّة سلميّة جوبهت بقسوة عجيبة، وعنف غريب لم يسجّل التاريخ له مثيلاً؟!

إنّ الإمام الحسينعليه‌السلام كان ابن الإسلام البار، بل أصل الإسلام الحقيقي في عصره، وهو الذي يُعطي الشرعيّة للحكومة التي تحكم باسم الإسلام، وإذا لم يعطِ الشرعيّة (بالبيعة) فهذا يعني أنّ الحكومة غير معترف بها دينيّاً وعقائديّاً، فهي تسير إلى الفشل بلا شك.

الإمام الحسينعليه‌السلام ومنذ اليوم الأوّل كان يردّ الاعتداء والعنف عن نفسه، وذلك حين دخل دار الإمارة وحاولوا أن يضربوا عنقه، كما أشار مروان بن

٢٢٢

الحكم على والي يزيد بن معاوية على المدينة، إلاّ إنّ الإمامعليه‌السلام كان قد اصطحب معه فتيان بني هاشم احتياطاً لمثل هذا العمل الدنيء من الحاكم وأعوانه، وكان في كلّ مسيرته النهضويّة مسالماً، لم يبدأ أحداً بعدوان، ولم يشنّ على أحد حرباً.

أمّا عن أهداف الحركة (أو النهضة) الحسينيّة، فإنّ الإمامعليه‌السلام قال منذ البداية:((إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مُفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ أريدُ أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، فمَنْ قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ، ومَنْ ردّ عليَّ أصبر حتّى يحكم الله بيني وبين القوم الظالمين)) (١) .

فالحركة لطلب الإصلاح في الأُمّة. وهذا لا يأتي إلاّ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وذلك لأنّ بني أُميّة غيّروا قواعد الإسلام، وحرفوا الأُمّة عن المحجّة البيضاء والصراط المستقيم، حتّى فشا المنكر وقلّ المعروف بكثرة أنصار الأوّل وخذلان الثاني، حتّى صار الإسلام بحالة من التقهقر والرجوع إلى العهد الجاهلي، وهذا لا يمكن السكوت عنه.

فنهض الإمام الحسينعليه‌السلام ، وتحرّك لإصلاح منظومة القيم الإسلاميّة، وإنقاذ الإسلام من الجاهليّة، وبالتالي إعادة المجتمع المسلم إلى أخلاقيّات الإسلام وأحكام القرآن، وسيرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وسنّته الشريفة، ولكن كيف؟

_____________________

١ - موسوعة البحار ٤٤ / ٣٢٩.

٢٢٣

أرادوا أن يعيدوها جاهليّة جهلاء، فلا خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل.

أرادوا أن يطمسوا معالم الدين الحنيف، ويسلّموه للأجيال اللاحقة مشوّهاً ومنفّراً.

أرادوا أن يُطفئوا نور الله بأفواههم وأعمالهم، وبكلّ ما توفّر لديهم من معطيات.

أرادوا أن ينتقموا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بإبادة ذريّته وقتل ريحانته وأبنائهعليهم‌السلام .

أرادوا أن يحكموا بالباطل، وهم لا يعترفون بالحقّ تعالى.

فكيف السبيل إلى دفع إرادتهم السيئة الخبيثة بإرادة نورانيّة رحمانيّة ربّانيّة؟ فهل هناك إلاّ إمام ذاك الزمان، المكلّف برعاية وحفظ الدين وتسديد الأُمّة، وإعادتها إلى جادة الصواب إذا مالت بها الطريق في أثناء مسيرتها؟!

لقد كان الإمام الحسين سبط رسول الله، وسيّد شباب أهل الجنّة، فأنعم به وأكرم من قائد حقّ، وناطق بالصدق، تتجسّد فيه أخلاقيّات الإسلام والقرآن ورسول الله، وشجاعة والده علي بن أبي طالب، ورقّة ولطافة ومحبّة أُمّه فاطمة الزهراء (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).

فحركة الإمام منذ البداية وحتى النهاية - وهي لما تنته إلى الآن - كانت تهدف إلى إبطال كلّ ما أراده اُولئك الرهط اللعناء بحقّ الدين الحنيف.

فأراد الإمامعليه‌السلام أن يؤكّد الإسلام ويرسّخه في الأُمّة كوحي منزل من السماء.

٢٢٤

وأراد أن يبيّن معالم الدين، ويوضّح أحكامه، ليسلّمه إلى الأجيال صحيحاً ناصعاً جميلاً.

وأراد أن يستنير الجميع بنور الله الأعظم بالقول والعمل حتّى الشهادة.

وأراد أن يؤكّد مكانة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ويمكّن دينه حتّى ولو كلّفه ذلك نفسه القدسيّة، وجميع مَنْ معه من الأهل والأصحاب الكرام.

نعم، أراد أن يزهق الباطل، ويثبت الحقّ لوجه الحقّ تعالى، ويسجّل ذلك كلّه بدمه الطاهر الزكي على تراب كربلاء، ليبقى شعاراً تتناقله الأجيال المؤمنة، ويذكره الرجال الطامحون إلى الإصلاح بالسلم والعلم.

وهذا المهاتما غاندي الذي حرّر الهند من الاستعمار البريطاني بحركته السلميّة يقول: (تعلّمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر).

والمهاتما غاندي، هذا الرجل الذي دحر الاستعمار البريطاني من بلاده، بعد استعمار واحتلال دام قروناً عدّة، ونهب طال كلّ خيرات الهند، بماذا حرّر بلاده؟

حرّرها بشعاراته السِّلميّة، وحركته السِّلميّة الإصلاحيَّة التي شهد لها التاريخ الحديث بالحكمة والحنكة والشجاعة.

وغاندي هذا تعلّم من الإمام الحسينعليه‌السلام ، وتعلّم من الإسلام الأخلاق الفاضلة الكريمة، من حلم وصبر، وشجاعة ووفاء، ومحبّة وإخاء، وثبات على الحقّ الذي يعتقد به، فحرَّر بلاده وصار مثالاً يُحتذى به، وعَلماً يُشار إليه بالبَنان كلّما ذُكر السَّلام، وما هو إلاّ تلميذ في مدرسة المولى أبي عبد ا لله الحسين سيّد الشهداء.

نحن إذا نظرنا في التاريخ وفي الواقع فسنجد أنّ البعض يحاول أن يبني

٢٢٥

إمبراطوريّة سياسيّة، والبعض الآخر يحاول أن يبني إمبراطوريّة عالميّة، وبعض يحاول أن يبني إمبراطوريّة إعلاميّة، ولكن الأنبياء وأوصيائهمعليهم‌السلام وحدهم كانوا يريدون أن يبنوا إمبراطوريّة سلام (إنسانيّة)، وقد سجّل التاريخ بأحرف من نور أنّ الحسين السبطعليه‌السلام قد قُتل من أجل أن يسود السَّلام.

يبدأ السَّلام من إحساس نزيه يتحوّل إلى فكرة مقدّسة بمرور الزمن؛ والإحساس بالكرامة والسَّلام يتطلب كرامة وسلامة الإحساس، وكما يحوم الضباب حول القمم العالية، فإنّ كلّ فكرة تدعو للسّلام لا بدّ وأن تحوم حولها الشبهات، تماماً مثل السَّلام الحسيني.

لقد قُتل الحسين بن علي الشهيدعليه‌السلام في معركة من أجل السَّلام، غير أنّه لم يُهزَم كرجل عمل في سبيل السَّلام والكرامة، والحرية والعدالة والإصلاح.

إنّ مَنْ يريد أن يُصبح رجل سلام عليه أن يفكّر كما يفكّر رجال السَّلام، وأن يتصرّف ويتحمّل مثلهم، ومَثَلهم الأعلى هو الإمام الحسينعليه‌السلام .

قلنا بأنّ الله سبحانه هو السَّلام، ومنه السَّلام، وإليه السَّلام، ويدعو إلى دار السَّلام، ورسوله محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله رسول الإسلام والسَّلام، وهو يقول:((حسين منّي وأنا من حسين)) (١) . ومعنى هذا أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام هو رائد السَّلام الإلهي والعالمي، وأنّ ظلامته تكمن في اغتيال نيّة وجهود السَّلام الحسيني.

إنّ الإمام الحسينعليه‌السلام كان يبحث عن أيّ فرصة سلام للأُمّة، ولم يكن يبحث عن فرصة هروب إلى الأمام، وكيف يكون ذلك وهو القائل:((إنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياةَ مع الظّالمين إلاّ برماً)) (٢) .

_____________________

١ - سنن الترمذي ٥ / ٣٢٤ ح٣٨٦٤.(موقع معهد الإمامين الحسَنَين)

٢ - موسوعة بحار الأنوار ٤٤ / ١٩٢، كشف الغمة ٢ / ٣٢، المناقب ٤ / ٦٨.

٢٢٦

وأن تحمل مشعلاً كبيراً للسّلام حتّى ولو لم تنجح في وضعه على قمم الجبال، أفضل من أن تحمل شمعة صغيرة يمكن أن تضعها في أيّ مكان، وأن تحمل شمعة خير لك من أن تعيش في الظلام.

كان أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام يبحث عن السَّلام بقوّة الرفق، وصلابة الإرادة الإيمانيّة، ومهما كانت إرادتك صلبة فلا بدّ لك من أن تعتمد اللّين والسَّلام في تنفيذها.

وكلمات الإمام ما زالت تردّدها الأجيال في أصداء الزمن باحثة برفقٍ ولين عن السَّلام، وحفظ الذمام قائلةً:((إذا كرهتُموني فدعوني أنصرف عنكم - إلى مأمن من الأرض -)) (١) .

وهو الذي خرج في ليلة العاشر من المحرَّم قاصداً قيادة جيش العدوّ (عمرو بن سعد)؛ ليبحث معه فرص السَّلام الممكنة، وفرص الحياة الآمنة بعيداً عن الدماء وقعقعة السّلاح.

نعم، كان الإمام يبحث عن سلام البطولة والرجولة وليس عن بطولة السَّلام، ولأن تكاليف البطولة كبيرة وغالية فإنّ أغلب الناس يحبّذون القيام بتمثيل دور بطل السَّلام، بدل أن يقوموا بأداء دور سّلام البطولة.

وكم مرّة حاول الإمام الحسينعليه‌السلام نزع فتيل الصاعقة المدمِّرة، وإيقاف السيل أو تحويله إلى أماكن أكثر أمناً وفائدة، وأقلّ ضرراً وأذيّة، حتّى أنّه طلب منهم أن يتركوه ليسير أو يسيروا معه إلى الشام.

وفي يوم عاشوراء خاطبهم ونصحهم حتّى أنّه بكى عليهم رحمة وشفقة؛

_____________________

١ - روضة الواعظين ١ / ١٨١، المناقب لآل أبي طالب ٤ / ٩٧.

٢٢٧

لأنّهم سوف يدخلون النار بسببه، وهو لا يريد لهم إلاّ الرحمة والجنّة، إلاّ أنّ إبليس ركبهم وساقهم إلى ما فيه هلاكهم في الدنيا والآخرة.

إنّه إذا كان جلب المنفعة هو أكبر دوافع التّجار إلى العمل، ودفع المضرّة هو أكبر دوافع الحكماء، فإنّ مسؤوليّة السَّلام هي أكبر دوافع العظماء إلى ذلك؛ ولذلك كان الإمامعليه‌السلام يرى أن السَّلام وحده هو الكفيل بإخراج الأُمّة من شرنقة الضياع والانحراف.

وكما كانت حروب الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله دفاعيّة - دفعاً للاعتداء، وبحثاً عن السَّلام في الأرض - فإنّ دفاع الإمام الحسينعليه‌السلام عن نفسه وعياله، لهو أكبر دليل على أنّه لم يرد الحرب، بل كان دائماً يقول:((إنّي أكرهُ أن أبدأهم بقتالٍ)) (١) .

حتى حين تمكن من طلائعهم - جيش الحرّ الرياحي - وكانوا على شفا حفرة من الهلاك بالعطش هم ودوابهم، فإنّه أنقذهم وسقاهم الماء حتّى أنعشهم ولم يبدأهم بالقتال، وكان من السهل أن يبيدهم عن بكرة أبيهم، أو لا أقل أن يتركهم يموتون عطشاً في تلك الصحراء، وتلسعهم سياط الشمس المحرقة حتّى يهلكوا، إلاّ أنّ أخلاق الحسين بن عليعليه‌السلام أرفع من ذلك بكثير.

فالإمام لم يكن أبداً يريد القتال ولا الحرب، ولم يكن يسمح لعسكره ببدء المعركة بعد أن تحتّمت في صباح اليوم العاشر، إذ لم تستعر نيرانها إلاّ بعد أن تقدّم (عمر بن سعد) ووضع نبلاً في كبد قوسه، ورماه إلى جهة معسكر

_____________________

١ - مستدرك الوسائل ١١ / ٨٠، بحار الأنوار ٤٥ / ٤.

٢٢٨

الحسينعليه‌السلام وقال: اشهدوا لي عند الأمير أنّي أوّل مَنْ رمى؛ فانهالت السّهام على جيش الإيمان كالمطر كما يذكر المؤرّخون وأرباب السير(١) .

فالمولى أبو عبد اللهعليه‌السلام لم يكن يريد أن يقاتلهم ويقتلهم، بل كان يريد أن يهديهم ويحميهم، وينقذهم من شياطين الإنس والجنّ، كان يفكر بسعادتهم وعيالاتهم، وإصلاح جميع شؤونهم الخاصّة والعامّة، ولا يفكّر بقتلهم وإبادتهم، ولو أراد ذلك لدعا عليهم دعوة واحدة فيغرقهم الفرات، أو تبلعهم الصحراء، أو تلعنهم السماء وترميهم بحجارة من سجّيل لتجعلهم كأصحاب الفيل.

إنّ الإمام الحسينعليه‌السلام قد أبى أن يعيش إلاّ عزيزاً كريماً بكلّ شموخه وعظمته، وأبى أعداؤه إلاّ الإصرار على أخذه بالذلّة:((إنّ الدّعيَ ابن الدعي قد ركز بين اثنين؛ بين السِّلة والذلّة)) (٢) ؛ وذلك لأنّ العدوّ ينظر إلى تحقيق مصالحه وأهدافه غير منقوصة، ولذا تراه لم يعطِ للإمام أيّ فرصة لتحقيق المصلحة العامّة للإسلام المتمثلة في السَّلام.

وقد نجح شمر بن ذي الجوشن في إفشال عدّة حوارات بين الإمام الحسينعليه‌السلام وعمرو بن سعد من أجل السَّلام.

والحقيقة أنّه لا شك في ضرورة امتلاك القوّة من القوّة، ولكنّ استخدامها في غير وقتها ومحلّها من الضعف.

وسبحان الله الذي يملك القوّة جميعاً، ولا يستخدمها إلاّ بقدر وحكمة!

_____________________

١ - مقتل الحسين - للمقرّم / ٢٣٧.

٢ - مثير الأحزان / ٥٤، شرح نهج البلاغة ٣ / ٢٤٩.

٢٢٩

ولو كانت القوّة يمكن أن يُكتب لها البقاء من غير أن يرافقها السَّلام الحسيني لما انقرضت الإمبراطوريّات، ولو كان السَّلام يمكن أن يُكتب له البقاء والانتصار من غير القوّة لما كانت أسماء الشهداء تملأ صفحات التاريخ النيّرة، وفي مقدّمتهم سيّد الشهداء الحسين بن عليعليهما‌السلام .

أراد الإمام السَّلام بشروطه هو، وليس بشروط يزيد بن معاوية أو عبيد الله بن زياد؛ ولذا فلن يكون الاستسلام للباطل قاعدة للسَّلام بين الأُمم، إذ كيف يمكن الجمع بين الهزيمة والطمأنينة؟

ولذلك قال أبو الأحرار الحسين بن عليعليهما‌السلام :((هيهاتَ منّا الذّلة! يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون)) (١) .

أقسام السَّلام

ينقسم السَّلام إلى ثلاث مستويات متتاليات، هي:

١ - السَّلام الذاتي: الذي يعيشه كلّ واحد منّا ويتمنّاه في حياته كلّها.

٢ - السَّلام المجتمعي: الذي يشمل المجتمع كلّه من الأسرة وحتى الأُمّة.

٣ - السَّلام العالمي: وهو الذي لا يتحقّق إلاّ في آخر الزمان، ولكن لا بدَّ من السعي وراءه في كلّ زمان، وخصوصاً في هذا الزمن الأغبر الذي تتكالب فيه الأقوياء لأكل وهضم الضعفاء.

فلكي يكون الإنسان في سلام مع نفسه، يجب عليه أن يؤدّي حقّ ربّه وحقّ نفسه، ولكي يكون في سلام مع أسرته يجب أن يعطي لكلٍّ حقّه؛ أبويه وإخوته، وأقربائه وزوجته وأبنائه.

_____________________

١ - موسوعة البحار ٤٥ / ٨٣، الاحتجاج / ٢٣٦، المناقب ٤ / ١١٠.

٢٣٠

أمّا الذي يتطلّع إلى سلام الأُمّة فعليه تأدية الحقوق المرتبطة بها، من الجار المؤمن إلى المسلم إلى أهل الكتاب وأهل الذمّة، إلى المعلّم والقاضي، إلى أن يصل إلى الحاكم الشرعي، فلكلٍّ حقّه، وعليه أن يراعيه ما أمكنه ذلك، ويؤدّيه عن طيب خاطر وهدوء نفس.

أمّا الذي يدنو ويتفاءل في سلام العالم (السَّلام الكوني)، فعليه أن يؤدّي حقوق العالم عليه، فللأرض حقّ وللسماء حقّ، وللبحار والأنهار والمياه حقّ، وللبهائم والحيوانات البريّة والبحريّة والطيور حقوق، وهي شريكة لنا في هذا الكون الفسيح، ولا ننسى حقوق الأجيال المقبلة من هذه الثروات، كما إنّ الهواء وطبقات الجو والأوزون، وبقيّة الكواكب والنجوم والأكوان كلّها لها مواقعها وحقوقها، وعلى الإنسان أن يعي ويؤدّي بعض هذه الحقوق.

لأنّ الله سبحانه يقول وقوله حقّ وصدق:( كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) (١) و( كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ ) (٢) و( وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ ) (٣) .

فالكون مركّب من حقوق وواجبات، فصاحب الحقّ سلطان، ومَنْ عليه الواجب فهو مطالب به أيّ لتأديته، وهذا أمر بديهي وفطري وعقلاني، ولا يستطيع أحد أن ينكر ضرورة تأدية الواجب.

ومن حقوق الأجيال القادمة أن تعيش وتتنعّم بهذه النعم حسب حاجتها وطاقتها، وواجبنا الحفاظ على هذه الثروات وألاّ نستهلك منها ما يزيد عن حاجتنا، وذلك بهدر هذا المخزون الكوني فيما يدمّر الكون ولا يعمّره، وفيما

_____________________

١ - سورة القمر / ٤٩.

٢ - سورة الرعد / ٨.

٣ - سورة الحجر / ١٩.

٢٣١

يبيد البشر ولا يسعدهم.

ومن يعِ كلّ هذا أو بعضه يمكن أن يعيش في سلام ذاتي يشعر فيه بالسعادة والأمن والاطمئنان، وبقدر الوعي والعمل تكون النتائج إيجاباً أو سلباً.

فالسَّلام: ضرورة حضاريّة حقّاً، طرحه الإسلام منذ أربعة عشر قرناً من الزمن، وهو ضرورة لكلّ مناحي الحياة البشريّة اعتباراً من الفرد مروراً بالمجتمع وانتهاءً بالعالم أجمع.

والسَّلام: هو الذي يبني ويعلّي ويعلّم ويطوّر المجتمع.

والحرب أو العنف: هو الذي يدمِّر ويهدم ويقتل ويشرّد، ولا يقي ولا يذر، بل يدفع بالبشر إلى التخلّف والجهل والرذيلة.

ولأنّ سيّد الشهداء كان يعيش السَّلام في داخله، فقد حمل مسؤوليّة تحقيق المشروع على عاتقه، غير أنّ الطرف الآخر كان يريد من الحسين الاستسلام دون السَّلام، ولا معنى لتحقيق السّلام مع الآخرين من دون أن تحقّقه مع نفسك، فلا أحد أولى به منك.

ويفقد السَّلام قدسيته عندما تحمل اليد الملوثة رايته، ذلك أنّ اللوث نجاسة مسرية وستسري إلى الراية من اليد. وقد كان يزيد بن معاوية يريد سلام السيف، وقد رفع له راية بيد عمر بن سعد كُتب عليها (عجّلوا في قتل الحسين حتّى نصلّي جماعة)!

وإذا كان السَّلام ممنوعاً عنك فلا تتردّد في قبول خيار الدفاع عنه؛ حتّى تصبح معركتك مقدّسة، وهكذا كان الحسين يدافع عن الطهارة والسَّلام، وهو الذي أنشد يقول:

٢٣٢

الموتُ أولى من ركوبِ العارِ

والعارُ أولى من دخولِ النارِ

والله ما هذا وهذا جاري

بين الدم والسيف صراع علني أحياناً وخفي حيناً آخر، فإذا كان في العلن انتصر الدم على السيف، وإذا كان في الخفاء انتصر السيف على الدم.

ومن هنا فإنّ كلّ أعداء السَّلام في التاريخ يريقون الدماء في الظلام، ويغسلون عنها أيديهم في العلن، وماذا سيبقى من الضمير العالمي إذا كان السَّلام يُذبح كلّ يومٍ بمنظرٍ وبمسمعٍ من كلّ الناس في كلّ مكان.

إنّ الحسينعليه‌السلام وقّع على وثيقة استشهاده؛ لينقذ السَّلام المذبوح، وشتان بين مَنْ يقبل التوقيع على وثيقة إعدامه لينقذ الأُمّة المُحبطة، وبين مَنْ يوقّع على وثيقة إعدام أُمّته وسلامها لينقذ نفسه أو حزبه.

فالأوّل موقف الشهداء والحسين سيّدهم، والثاني موقف قاتلي الشهداء ويزيد رئيسهم.

وعندما بحث الحسينعليه‌السلام عن السَّلام كان يريده للجميع، فهو ليس من الذين يتحدّثون عن خلاص الأُمّة وهم يتاجرون بآلامها.

وإذا أقمنا الحزن على سيّد الشهداء كلّ سنة فهو تقصير، أمّا إذا أقمنا عليه الحزن كلّ ساعة فهذا توقير، كلّ ذلك لأنّ السَّلام يُذبح كلّ ساعة، فالحزن على فقد قلب الحسين الذي بحث عن السَّلام، فهل نبحث عن السَّلام في قلب الحسين من جديد؟

ويبقى الحسين هو الشهيد الشاهد على اغتيال السَّلام بسيوف البغي(١) .

_____________________

١ - مجلة النبأ / ٨٥ عدد ٦٦ (بتصرّف).

٢٣٣

إستراتيجيّة السَّلام

الإسلام دين الحكمة والقرآن الحكيم هو دستوره، وهو منزل من حكيم عليم. ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو أحكم العلماء على مدى العصور والدهور، باعتراف العدوّ والصديق، والقاصي والداني، وكلّ مَنْ اطّلع على حياته الشريفة وأخلاقه العظيمة لا بدّ أن يأخذه العجب العجاب من حكمته وخلقه العظيم، وحنكته السياسيّة الفريدة.

الحكمة: هي وضع الشيء في موضعه المناسب له كما قالوا في تعريفها، فهل من الحكمة أن نجبر الخلق على الإسلام أو الإيمان؟

وهل من الحكمة أن يُقاتَل كلّ مَنْ يخالفنا الرأي؟!

وهل من الحكمة أن نُبيد أهل الأديان السابقة؛ لأنّها قد نُسخت بالإسلام؟!

وهل من الأخلاق أن نقتل مَنْ نشاء، كيف نشاء، ومتى نشاء، دون أيّة ضوابط شرعيّة، أو أيّة قيود عقليّة، أو شروط منطقيّة لذلك؟!

لا هذا ولا كلّ ما يمتّ إليه بصلة من الإسلام في شيء، بل الإسلام أمر بعكسه تماماً، والإسلام هو دين المحبّة والأخوّة والسَّلام، وأخلاقيّاته معروفة للجميع ومشهود لها بالطهارة.

(إنّما الأصل الذي يدعو إليه الإسلام هو السَّلام، وليست الحروب والمقاطعة، وما أساليب العنف، إلاّ وسائل اضطرارية وشاذّة، وهي على خلاف الاُصول الأوّليّة الإسلاميّة، حالها حال الاضطرار لأكل الميتة وما أشبه،

٢٣٤

والحروب تقدّر بقدرها في الإسلام)(١) .

فالإسلام يقول مقابل ذلك:

( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ) (٢) ، ويقول:( أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حتّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) (٣) ، ويقول:( لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ) (٤) ، ويقول:( وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) (٥) ، ويقول:( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا ) (٦) ، ويقول:( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ) (٧) ، ويقول:( لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاّ بِالْحَقِّ ) (٨) ، ويقول:( ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ) (٩) .

فالإسلام واحة غنّاء من الحبّ والسَّلام والتعاون، وهو يرفض رفضاً قاطعاً جميع أشكال وأنواع العنف النفسي والجسدي، والاجتماعي والسياسي، والاقتصادي والثقافي، حتّى أنّه يرفض العنف ولو بالكلمة؛ شعراً أو نثراً، سبّاً أو لعناً، قذفاً أو غيبةً، فالأخلاقيّات الإسلاميّة ترفض جميع هذه الأنواع من السلوكيّات المنحرفة.

_____________________

١ - السبيل إلى إنهاض المسلمين / ١٤٣.

٢ - سورة القصص / ٥٦.

٣ - سورة يونس / ٥٩.

٤ - سورة الكافرون / ٦٦.

٥ - سورة سبأ / ٢٤.

٦ - سورة آل عمران / ٦٤.

٧ - سورة النساء / ١٧.

٨ - سورة الإسراء / ٣٣.

٩ - سورة البقرة / ٢٠٨.

٢٣٥

والتقديم والتقويم عنده هو قوله تعالى الموجّه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وإلينا جميعاً:( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (١) .

فالحكمة بالمواقف والمواجهات والموعظة الحسنة للأهل والأقارب والمحيط الاجتماعي، والجدل بالتي هي أحسن لأهل الإنكار والجحود وللمخالفين في الآراء.

فأين دعاة التكفير للأُمّة الإسلاميّة كلّها من أخلاقيّات الإمام الحسينعليه‌السلام ؟! وأين أصحاب منهج السبّ والتشهير بالأُمّة من أخلاق الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟!

وأين رعاة المفسّدين في الدنيا ولا سيما في الأُمّة الإسلاميّة من أخلاق القرآن الكريم؟!

_____________________

١ - سورة النحل / ١٢٥.

٢٣٦

الفصل الحادي عشر: رؤية أُخرى في التوحيد الإلهي والتربوي

٢٣٧

٢٣٨

عن عكرمة، قال: بينما ابن عباس يحدّث الناس إذ قام إليه نافع بن الأزرق فقال: يابن عباس، تفتي في النملة والقمّلة، صف لنا إلهك الذي تعبده؟

فأطرق ابن عبّاس إعظاماً لله (عزّ وجلّ)، وكان الحسين بن عليعليه‌السلام جالساً ناحية، فقال:((إليَّ يابن الأزرق)) .

فقال: لست إيّاك أسأل!

فقال ابن عباس: يابن الأزرق، إنّه من أهل بيت النبوّة، وهم ورثة العلم.

فأقبل نافع بن الأزرق نحو الحسينعليه‌السلام ، فقال له الحسينعليه‌السلام :((يا نافعُ، إنّ مَنْ وضع دينه على القياس لم يزل الدّهر في الارتماس، مائلاً عن المنهاج، ظاعناً في الاعوجاج، ضالاً عن السّبيل، قائلاً غير الجميل. يابن الأزرق، أصفُ إلهي بما وصف به نفسه، وأعرِّفه بما عرّف به نفسه، لا يُدرك بالحواسّ، ولا يُقاس بالنّاس، فهو قريبٌ غير مُلتصق، وبعيدٌ غيرُ متقصٍّ، يُوحّد ولا يُبعّض، معروفٌ بالآيات، موصوفٌ بالعلامات، لا إله إلاّ هو الكبيرُ المتعال)) (١) .

_____________________

١ - التوحيد / ٧٩ ب٢ ح٣٥، مستدرك الوسائل ١٧ / ٢٦١ ح٢٦٠.

٢٣٩

فبكى ابن الأزرق، وقال: يا حسين، ما أحسن كلامك؟!

قال له الحسينعليه‌السلام :((بلغني أنّك تشهدُ على أبي وعلى أخي وعليّ بالكفر)) .

قال ابن الأزرق: أما والله يا حسين، لئن كان ذلك لقد كنتم منار الإسلام ونجوم الأحكام.

فقال له الحسينعليه‌السلام :((إنّي سائلك عن مسألةٍ)) .

قال: اسأل.

فسأله عن هذه الآية:( وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ ) (١) ،يابن الأزرق، مَنْ حُفظَ في الغُلامين؟

قال: أبوهما.

قال الحسينعليه‌السلام :((فأبوهُما خيرٌ أم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟)) .

قال ابن الأزرق: أنبأنا الله أنّكم قوم خصمون(٢) .

الإمام حياة العلم كما في الرواية، أي أنّ به يحيا العلم وينمو ويبارك، ولولا الإمام المعصوم في كلّ عصر لتاه الناس عن دينهم، وتشتّت بهم الأهواء، وكثرت التأويلات والاجتهادات في دين الله، كما فعل المجسّمة وأتباع القياس قديماً وحديثاً، لا سيما اُولئك الذين يدَّعون التوحيد وهم مشركون مشبّهون،

_____________________

١ - سورة الكهف / ٨١.

٢ - تاريخ ابن عساكر، ترجمة الإمام الحسين / ١٥٧ ح٢٠٣.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580