الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية

الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية6%

الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية مؤلف:
الناشر: ياس زهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 580

الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية
  • البداية
  • السابق
  • 580 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 192750 / تحميل: 8197
الحجم الحجم الحجم
الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية

الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية

مؤلف:
الناشر: ياس زهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

الفصل الأوّل: تمهيد في الأخلاق

٢١

٢٢

في البداية هناك سؤال يتبادر إلى ذهن القارئ الكريم هو: ما هي الأخلاق؟ أو أيّ نوع من الأخلاق تريدون؟

ولا بدَّ من نزهة سريعة في بساتين اللغة العربية؛ لتقصِّي المعاني التي وردت في هذه المادة (خلق).

فالنزهة في تلك الحقول اللغوية من أجمل النُّزه؛ لأنّ لغتنا العربية من أجمل وأغنى لغات العالم قاطبة حيَّها وميَّتها.

قال صاحب (معجم المقاييس): الخاء واللام والقاف أصلان:

أحدهما: تقدير الشيء، كقولهم: خَلَقْتُ الأديم للسقاء، إذا قدَّرته (صنَّعته).

والآخر: ملاسة الشيء، كقولهم: صخرة خلقاء، أي ملساء.

ومن الأوّل نأخذ معنى الخُلُق: وهي السجيَّة؛ لأنّ صاحبه قد قدَّر عليه(١) .

وأمّا صاحب (الوسيط) فإنّه قال في هذه المادة كثيراً، وممّا قال:

١ - الخُلُق: حالٌ للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال من خيرٍ أو شرٍّ من غير حاجة إلى فكر ورويَّة.

_____________________

١ - معجم مقاييس اللغة ٢ /٢١٤ بتصرف.

٢٣

٢ - الأخلاق (علم الأخلاق): علم موضوعه أحكام قيميَّة تتعلّق بالأعمال التي توصف بالحُسن أو القبح.

٣ - الأخلاقي (العمل): هو ما يتّفق وقواعد الأخلاق، أو قواعد السلوك المقرَّرة في المجتمع، وعكسه لا أخلاقي.

٤ - الخالق: اسم من أسماء الله تعالى (يعني): المبدع الشيء، المخترعه على غير مثال سبق (أي المبدع أو الصانع).

٥ - الخِلقة: الفطرة. والخليقة: هي كلّ مخلوق. والطبيعة التي يُخلق المرء بها(١) .

ويُضيف بعضهم معاني أُخرى، فكلمة (الخُلُق) تُستعمل في اللغة بمعاني منها: السجيّة، والطبع، والعادة، والدين، والمروءة. وقد ذكر أصحاب المعاجم أمثالاً وأشعاراً تؤيِّد ما ذهبوا إليه.

ولكن بالتأمّل في كلّ هذه المعاني، بعد إرجاعها إلى الأصل اللغوي الذي ذهب إليه (ابن فارس) في مقاييسه، أي إلى معنيين فقط: (التقدير، والملامسة والتسوية)، نلاحظ أنّ بين هذه المعاني صلة قريبة ودقيقة، تكاد تلحظها وتجمعها في إطار واحد.

ولعلّ معنى الكلمة الأصلي في اللغة واحد، وهذه المعاني أفياؤه وظلاله، ولعلَّ هذا المعنى الواحد في اللغة: هو الذي يعرفه الخُلُقيون من هذه الكلمة أيضاً، وإن كانت النصوص اللغوية قاصرة عن إثبات ذلك.

والخُلُقيون يعرفون من معنى هذه الكلمة: أنّها ملكة من ملكات النفس.

_____________________

١ - المعجم الوسيط ١ / ٢٥٢ بتصرف.

٢٤

ويقولون: إنّ أظهر خاصة تتميّز بها هذا الكلمة هي صدور الأفعال عن الإنسان من دون إمعان فكر أو إعمال رويَّة(١) .

وبالتأمّل في معاني هذه الكلمة مع ملاحظة الأفياء والظلال المرافقة لها، لاح لي أنّ الخيط الدقيق الواصل بينها هو: التقدير والتسوية بالإملاس.

فالله سبحانه قد خلق الإنسان إبداعاً، وزودّه بالعقل، وميّزه بالإرادة؛ ليتمكّن من الفعل والترك، وتحمّل مسؤولية التكليف الشرعي.

وكأنّما العقل والقابليات من خَلْق وتقدير الله سبحانه للإنسان، وأمّا التَّسوية والإملاس لطبائعه فإنّها عن طريق الرسالات السماوية (الدين الإلهي)؛ لأنّ وظيفة الرسالة تهذيب الأخلاق المقدَّرة وإملاسها وتليينها حتّى تأتي النفس الإنسانيّة إلى بارئها( رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ) .

والإنسان العاقل فعلاً لا يرضى إلاّ بالجنّة ونعيمها الدائم.

والله سبحانه وتعالى لا يرضى منه إلاّ الأعمال الصالحة التي أمره بها، أو ندبه إليها.

ومن هذا المنطلق، ذهبت مدرسة أهل بيت النبوّة والطهارة (صلوات الله عليهم) إلى أنّه: لا دين بلا أخلاق، ولا أخلاق بلا دين وإيمان بربّ العالمين.

وهذا ما نستفيده من هذه الحكمة النورانية الرائعة للإمام الحسينعليه‌السلام التي يقول فيها:((ما أخذ الله طاقة أحد إلاّ وضع عنه طاعته، ولا أخذ قدرته إلاّ وضع عنه

_____________________

١ - الأخلاق عند الإمام الصادقعليه‌السلام / ١٣.

٢٥

كِلفته)) (١) .

فمَنْ تُسلب منه قوّته يسقط تكليفه، ومَنْ لا يستطيع ويقدر فإنّه لا مسؤولية عليه ولا تكليف، والقاعدة تقول: إذا أخذ ما أوهب أسقط ما أوجب.

فهم الأخلاق

وقبل المضي في البحث، لا بدَّ من نظرة إلى الماضي السحيق والحاضر اللصيق؛ لمعرفة نظرة العلماء والفلاسفة لهذه المسألة الخلقية.

وهدفنا ليس البحث عن النظريات الأخلاقيّة المختلفة ومناقشتها والإشكال عليها؛ فلهذا كلّه أماكن وأبحاث أُخرى، وأمّا هدفنا فهو إعطاء لمحة سريعة لزيادة الإيضاح لهذه الفكرة التي توصلنا إليها.

فالبحث في الجذور يعني الأصالة والتأصيل، وأمّا في الفروع فإنّه يعني التهذيب والتحسين والتجميل.

والتأصيل والتجميل عمليتان لا بدَّ منهما في تناولنا لمسألة الأخلاق؛ لأنّهما تمسّان الجوانب النظرية في أصولها، وغايتهما الجوانب العملية في غاياتها؛ لأنّ الأخلاق قواعد وعمل تهذيبي لتجميل السلوك البشري، وتحسين الحياة الإنسانيّة الفردية والاجتماعية؛ ذلك لأنّ الوجود الأخلاقي معطى نفسي، اجتماعي قيمي، يشتمل على الوقائع اللازمة في كلّ مجتمع إنساني ممّا يتّصل بالسلوك.

_____________________

١ - تحف العقول / ١٧٦.

٢٦

وقد قاد هذا النشاط الفكري العلماء والفلاسفة إلى التمهّل أمام ينبوع السلوك الأخلاقي، فوجدوا أنّه ينبع من النفس أو الشعور، وأطلقوا على هذا الينبوع اسم (الوجدان، أو الضمير، أو الحسّ الأخلاقي).

قائلين (في تعريفه): أنّه صوت نبيل يدعو إلى الخير، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأنّه حَكَم حكيم عليهم (البشر) يفصل بين الفضيلة والرذيلة، ويميّز الخير عن الشرّ، وأنّه الرادع اليقظ، والآمر المُطاع، والنور الحيّ الذي به تتمثّل الأخلاق الطيِّبة، ويهتدي للعمل الصالح، ويحقّق المرء بإطاعته حال البرّ والتقوى(١) .

فالأخلاق: علمٌ وقواعد عملية واجبة الالتزام؛ حتّى يكون الإنسان أخلاقياً في حياته، وإنسانياً في معاملاته.

وعلم الأخلاق: هو العلم الذي يبعث الكمال في النفس البشرية، وينمِّي القوّة والاستقلال في العقل البشري. وهو العلم الذي يساير الإنسانيّة في اتجاهاتها، ويوجّهها عند حيرتها، ويأخذ بيد العقل عند اضطرابه، ويمدُّه بالقوّة عند ضعفه.

وعلم الأخلاق: هو الرسالة العامّة التي يلزم على كلّ حيّ مدرك أن يبلِّغها إلى كلّ حيّ مدرك، وهو الأمانة الكبيرة التي يجب على كلّ كائن عاقل أن يؤدّيها إلى كلّ كائن عاقل(٢) .

_____________________

١ - الفلسفة الأخلاقيّة / ١١.

٢ - الأخلاق عند الإمام الصادقعليه‌السلام / ٦.

٢٧

فالأخلاق علمٌ، وعلم الأخلاق سلوك يسير عليه الإنسان ليقف على قيمته وإنسانيته؛ لأنّ الإنسان كائن أخلاقي كما يعرفه أحدهم، ولأنّه لا يمكن أن يكون الإنسان إنساناً إلاّ إذا اتّصف بالإنسانيّة. تلك الصفة التي تشكّل جوهره المميّز له عن غيره من جنسه الحيواني، كما يقول الفلاسفة.

والوجدان الأخلاقي حياة قيمية خاصّة ذات درجات شعورية، وتحت الشعورية متفاوتة بتفاوت الإشكالات المطروحة عليها، بحيث تثير في النفس حركة وصراعاً وجدلاً وتردداً ينتهي بعد المحاكمة والموازنة إلى حكم واعٍ يتوخّى سبيله إلى حيّز التنفيذ.

والواقع أنّ كلّ إنسان في كلّ لحظة من لحظات حياته اليومية - وطوال عمره - يعيش مثل هذا الصراع الباطني الخفي، ويجهد جهداً يسيراً أو عسيراً للتكيُّف مع ظروف وجوده الأخلاقي، فيُدرك أنّ أعماله ليست حوادث حياديّة بوجه من الوجوه، بل إنّ ثمّة صبغة أخلاقيّة هي صبغة الاقتراب من الخير أو من الشرّ في كلّ حركة يقوم بها، وفي كلّ فعل يحقّقه وعمل يؤدّيه(١) .

والوجدان الذي كثيراً ما نتحدّث عنه، ونقيّم الناس على أساسه، يصفونه بأنّه: خاصّة تمكّن الفكر البشري من إطلاق أحكام معيارية عفويّة ومباشرة (دون تكلُّف) على القيمة الأخلاقيّة لبعض الأعمال الفردية المحدّدة.

فإذا انصرف الوجدان إلى الحكم على الأفعال المستقبلية، ظهر في صورة (صوت) آمرٍ ناهٍ، وإذا تناول الأعمال الماضية تجلّى بعواطف الفرح و (الارتياح)، أو الألم

_____________________

١ - الفلسفة الأخلاقيّة / ١١.

٢٨

أو (وخز الضمير).

والشعور الأخلاقي يشبه الشعور الديني من حيث أنّ الخروج على الأخلاق أشبه بالخروج على القداسة الدينية، ولكنّ مصدر القيمة الدينية خارجي عن الإنسان، في حين أنّ الشعور الأخلاقي يستقي من الوجدان ذاته أحكامه الآمرة، وهذه الأحكام تطرح على بساط البحث مصير الإنسان وخلاصه كما يطرحها الشعور الديني(١) .

فالشعور الديني: هو الالتزام بالقواعد الشرعية التي حدّدها الشارع المقدّس (الله) سبحانه وتعالى في رسالاته المتتالية لبني البشر؛ ولذا أطلقنا عليه أنّه من الخارج: أي خارج النفس البشرية. أمّا الضمير والوجدان فهما من الذّات البشرية من داخلها وصميمها فهما داخليان.

وهنا نلتقي بالكلمة المشهورة عن الإمام موسى الكاظمعليه‌السلام :((إنّ لله على الناس حجّتين: حجّة ظاهرة، وحجّة باطنة. فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة، وأمّا الباطنة فالعقول)) (٢) .

ولهذا كان من المحتوم أن يحذّر الإنسان نفسه (الأمّارة) التي بين جنبيه، ويحتاط ضدّ الانحياز، والأحكام المسبقة، والتقليد الأعمى.

فأين الخير والشرّ من الوجدان، إن كان الوجدان حائراً أو ضالاً، أو شاكاً أو موسوساً، أو مبطلاً طالحاً، ولم يكن سليماً أصيلاً نيّراً، واعياً مستقيماً، بل معصوماً؟!

_____________________

١ - المصدر السابق / ١٢.

٢ - تحف العقول / ٢٨٥.

٢٩

تقويم الأخلاق

اشتهر عن (باسكال) قوله: (إنّ الأخلاق الحقيقية تسخر من الأخلاق ...)، وذهب المفسّرون لها إلى اعتبار أنّ الأخلاق الحقيقية هي أخلاق الوجدان السليم، أو الشعور المرهف بروح الدقّة والحدس الذكي الفطن، وهي تسخر من النظريات أو المذاهب الأخلاقيّة التي أذاب في طلبها الفلاسفة - وما يزالون - الكثير الكثير من نشاطهم، وجهدهم العقلي المنطقي المنضود.

والمدقّق يجد أنّ المسألة الأخلاقيّة كانت في النظرة الدينية (وهذا ما يهمنا هنا) جزءاً لا يتجزأ من النظرة الشاملة إلى الحياة والسلوك (الإنساني)؛ وذلك أنّ المسوِّغ الأساسي والوحيد للخير والشرّ، وما بينهما من ألوان المستحبّ أو المكروه أو المباح إنّما يرجع إلى الالتزام بما تأمر به التعاليم السماوية / وتنصُّ عليه الكتب المقدّسة(١) .

وهذا ما يؤكّده ديننا الإسلامي الحنيف الذي ختم الله به الرسالات وأكملها، ورسول الإسلام الخاتم الحبيب المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله قال:((إنّما بُعثتُ لأُتمّم مكارم الأخلاق)) (٢) .

فإكمال الأخلاق لا يتمّ إلاّ بالالتزام بأخلاق رسول الإسلام وسنّته المطهّرة، وما وصل إلينا من سنن آله الأطهار الأبرار (صلوات الله عليهم أجمعين).

والأخلاق تمثّل أهم الجهات الإنسانيّة التي عني بها دين الإسلام، واهتمَّ

_____________________

١ - الفلسفة الأخلاقيّة / ١٥.

٢ - مستدرك الوسائل ١١ / ١٨٧ ح١٢٧٠١، بحار الأنوار ٦٨ / ٣٨٢، مكارم الأخلاق / ٨.

٣٠

بها اهتماماً كبيراً (منذ انطلاقته المظفّرة)، والذي يستقصي تعاليم الكتاب (القرآن الكريم) وإرشادات السنّة المطهرّة، يعلم مقدار هذا الاهتمام، ومبلغ هذه العناية.

وهذه الظاهرة من الدين الإسلامي هي إحدى مميّزاته عن سائر الأديان (المنتشرة على وجه الأرض حالياً)، وإحدى مؤهّلاته للخلود (في الحياة والوجود).

وهي جارية على ما تفرضه جامعيَّة الدين، وصفاء أخلاق المتديّنين، يوم غرس الدين بذرته (في الجاهليّة الجهلاء)، قال الشاعر:

وإنّما الأُمم الأخلاقُ ما بقيت

فإن هُمُ ذهبتْ أخلاقُهم ذهبوا

وإذا كان شذوذ الأخلاق ناتجاً عن تطرّف في الغريزة، أو إسفاف في العادة، أو قصور في التربية، وإذا كانت أمراض الروح أشدّ فَتكاً في معنويات الأُمّة، وأعظم أثراً في إبعادها عن الخير والسعادة، فجدير بالدين الجامع، وجدير بالمصلح المهذِّب أن يتكفّل بإتمام النقص في الأخلاق، ويتبيّن مواضع الخلل في النفس، ويعالج الخطر في الغريزة الموبوءة؛ لكيوِّن من الفرد عضواً صالحاً لمكانته من الأُمّة، ويجعل من الأُمّة مجتمعاً قابلاً للعلم والعمل في سبيل الخير.

والإسلام دين فردي اجتماعي، وهو في اجتماعيته فردي أيضاً؛ لأنّ الجنّة مشروع خاصّ بالفرد الذي يطلبها، وينظر الإسلام في سعادة الفرد كما ينظر في سعادة الأُمّة، ويسعى لتهذيب الشخص كما يسعى لتنظيم المجتمع.

وإذا كان صلاح الأُمّة مشروطاً بصلاح أفرادها، كان اهتمام الدين بسعادة الفرد من ناحيتين:

٣١

- تهمّه سعادة الفرد؛ لأنّه ممّن يجب إيصاله إلى الكمال.

- وتهمّه سعادة الفرد؛ لأنّها شرط في سعادة الأُمّة.

وكلتا هاتين الغايتين يدعو إليهما الدين الجامع.

فإذن لا بدَّ للإسلام من أن يكون دين أخلاق فاضلة، ولا بدّ لقادة الدعوة فيه من بثِّ روح وتعاليم الأخلاق في المجتمع البشري(١) .

وهذا ما سنتلمّسه في السيرة الحسينيّة العطرة التي نحاول تتبّعها في هذه الورقات، فنبيّضها بتلك الأقوال والأفعال النورانية الرحمانية المباركة؛ باعتبار أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام شخصية قيادية من الطراز الأوّل في العلم والعمل في ساحات الجهاد الأكبر والأصغر، وفي كلّ الظروف سلماً وحرباً.

ولكن قبل المضي لا بدَّ من زيادة في التوضيح؛ لإكمال الفائدة من هذه المقدّمات المختصرة عن علم الأخلاق وفلسفته، وما علينا في هذا المقام إلاّ أن نميّز نوعين من الأخلاق:

١ - الأخلاق الاعتقادية: وهي أخلاق العمل الملحّ الاتّباعي السريع.

٢ - الأخلاق الفلسفية: وهي رهن بالباحث الناقد، والمفكّر المدقّق الذي يعتبر الأخلاق محلّ نظر فلسفي يتوخّى تبيان حقيقة الأخلاق بمعرفة ماهيتها وطبيعتها، وتحديد مصادرها وأهدافها وغاياتها، مؤيّداً معرفته بأدلّة ساطعة تجريبية أو عقلية(٢) .

_____________________

١ - الأخلاق عند الإمام الصادقعليه‌السلام / ٨.

٢ - نلفت الانتباه إلى أنّنا لا نؤيّد الفلاسفة في كلّ أقوالهم ونظرياتهم واعتقاداتهم، إلاّ أنّنا هنا نستشهد بأقوالهم حول الأخلاق فقط لا غير.

٣٢

واللافت أنّ هذا النظر الفلسفي هو ذاته يصدر من قيمة أخلاقيّة مائلة في أنّ كرامة الإنسان تمنع عليه أن يُميت عقله، ويجمِّد فكره، ويضيّق على منطقة عالم الرحب والسعة، مؤمناً بأنّ الإنسانيّة ما برحت دائبة التحفّز والعمل في أجواء التقدّم والإبداع(١) .

وفي الحقيقة يمكننا القول: إنّ الفلسفة الأخلاقيّة هي جماع آراء الفلاسفة الأخلاقيين، وقد كثرت المذاهب الأخلاقيّة بتعدد المذاهب الفلسفية، حتّى صار بوسعنا أن نتحدّث عن أنواع، ونستعرض نماذج من الأخلاق النظرية، أو النظريات الأخلاقيّة، يساوي عددها عدد أصحاب تلك النظريات أو المذاهب.

وعدد هؤلاء ما زال بازدياد كلّما امتدّت بنا الأيام، ولن نقف عند ذاك الاستعراض الممل للأقوال من أفلاطون ومدينته الفاضلة، وأرسطو وشروحه، وأبيقور وتخرّصاته، والرواقيين وفذلكاتهم، ولا حتّى الفارابي وابن سينا والغزالي وإضافاتهم، ولا حتّى الفلسفات المعاصرة كلّها؛ لأنّ الوقوف عندها ممل ومقيت، والواقف عليها لا بدَّ له من أن يفقد أخلاقه، هذا إذا لم يفقد عقله لشدّة تباينها واختلافاتها وفراغها الروحي.

المبادئ الأخلاقيّة

بداية لا بدَّ من القول أنّ المبدأ بوجه عام هو أوّل كلّ أمر؛ سواء أكان بصورة مطلقة، أم بصورة نسبية، أو كان بحسب الترتيب الزمني، أو المنطقي، أو غير ذلك.

_____________________

١ - الفلسفة الأخلاقيّة / ١٦.

٣٣

ونحن إذا نظرنا إلى كلمة (أخلاق) من زاوية الوجود وجدناها تدلُّ على معنى ينبوع الفعل، أو سببه؛ من حيث أنّ السبب هو أصل النتيجة، فالمبدأ يوضّح وجود الوجود ويفسّره.

والمبدأ من الزاوية المعيارية هو قاعدة الفعل أو معياره من حيث أنّه تصوّر ذهني جلي تعبّر عنه صيغة محدّدة، ويكون المبدأ أخلاقياً بالمعنى الدقيق؛ لأنّه يتّصل بالبحث الأخلاقي.

وما التخلُّق، أي السِّمة الأخلاقيّة التي تسم فعلاً أو فاعلاً، إلاّ التقيُّد الذاتي بالقانون الأخلاقي، وذلك كما يرى (كانت) مثلاً، وهذا يعني أنّ التخلُّق هو إرادة التقيُّد بقانون الأخلاق.

يقول (لوسين): المبدأ الأخلاقي لا يتناول ما ينبغي أن يتناوله الفكر من أمر الحقيقة؛ بل ما ينبغي فعله من أمور صالحة طيّبة، ولا يخفى عليكم أنّ الباحث النظري يتطلّع إلى تطابق المبادئ الفكرية ومعايير الأوامر الأخلاقيّة(١) .

ذاك كان حديثاً مختصراً وسريعاً عن القواعد الأخلاقيّة، ونريد أن نلتفت إلى الغاية المتوخّاة من تلك القواعد وذاك العلم الذي نحن في رحابه (الأخلاق).

والغاية: هي ما يؤدّي إليه الشيء، ويترتّب هو عليه، وقد تسمّى غرضاً من حيث أنّه يطلب بالفعل، ومنفعة إن كان ممّا يتشوّقه الكلّ طبعاً(٢) .

فالغاية بوجه عام هي ما لأجله يُطلب الشيء، وهي نتيجة تستهدفها

_____________________

١ - الفلسفة الأخلاقيّة / ٢٥ - ٢٦.

٢ - الكلّيات - لأبي البقاء / مادة: الغاية.

٣٤

أسبابها.

يقول (غوبلو): عندما يعي المرء غايته تكون الغاية فكرة، ويكون التحقيق غرضها ونهايتها.

ولكن علينا أن نحسن التمييز بين الغاية والوسيلة، أو الغايات والوسائل الموصلة إليها، أو الطرق المؤدّية إليها.

وقد تساءل باحثون منذ القدم: هل الخير غاية لأنّه خير، أم أنّه خير لأنه غاية؟

ويبقى من الثابت: أنّ ما ندعوه الخير الأسمى هو الغاية الأخلاقيّة القصوى(١) .

والقاعدة الأخلاقيّة تقول: بضرورة المثل الأخلاقي الأعلى، أي لا بدَّ لنا من قدوة حسنة، وربّنا سبحانه وتعالى قال في كتابه العزيز:( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً ) (٢) .

فمثلنا الأعلى في هذه الحياة هو الرسول الأعظم وأهل بيته الأطهار الأبرار، والإمام الحسين (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).

فإنّ المثل الأعلى: هو ما يتطلّع إليه الفاعل أيضاً، ولكن بوصفه نمطاً كاملاً، أو نموذجاً في مجال معيّن من مجالات الفكر أو العمل(٣) .

فالمثل الأخلاقي: مفهوم من مفاهيم الوعي الأخلاقي، فيه يعبَّر عن المطالب الأخلاقيّة في صورة نموذج للشخصية الكاملة أخلاقياً على شكل

_____________________

١ - المفردات الفلسفية - إدمون غوبلو / مادة الغاية.

٢ - سورة الأحزاب / ٢١.

٣ - لالاند، المصدر السابق / مادة المثل الأعلى.

٣٥

تصوّر عن إنسان تتجسّد فيه أسمى الخصال الأخلاقيّة (الفضائل)(١) .

وذاك المثل الأعلى هو الشخص الأوحد في كلّ زمانه، المتفرّد بالفضائل الأخلاقيّة بالطول والعرض، فالرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والأوصياء من بعده هم أصحاب تلك المنزلة الرفيعة، وذاك المقام السامي في هذه الدنيا، فهم الأولياء الكاملون في الإنسانيّة، والرجال الأنوار في دنيا الإسلام، ومثلُهُ العليا بالفضائل وحسن الشمائل.

مميزات الفاعل الأخلاقي

إذا اقتصرنا بالنسبة لما نحن فيه هنا على ما يرجع حصراً إلى الفاعل الأخلاقي من حيث أنّه فاعل واعٍ ومسؤول وجدير، ألفينا أنّ لمفهومي الفضيلة والرذيلة تاريخاً ثقافيّاً فائق التنوّع، يواكب تطوّر الوقائع الأخلاقيّة، والأفكار والنظريات المفسّرة على الصعيد الأسطوري والديني والفلسفي، نخلص منه كلّه إلى أنّ الفضيلة على مستوى الفاعل: هي استعداد خاصّ للقيام بواجب معيّن، أو عمل صالح معيّن، وعكسها الرذيلة.

بل هي بقول أدق: الاستعداد الدائم لإرادة الخير، وإعادة صنعه (الخير)(٢) .

ويذهب أحدهم إلى القول: إنّ الإنسان الكامل هو الذي لم تفته فضيلة، ولم تشنه رذيلة،

وهذا الحدّ قلّما ينتهي إليه إنسان، فإذا انتهى الإنسان إلى هذا

_____________________

١ - الفلسفة الأخلاقيّة / ٣١.

٢ - المصدر نفسه / ٥٥.

٣٦

الحدّ كان بالملائكة أشبه منه بالناس؛ فإنّ الإنسان مضروب بأنواع النقص، مستولى عليه وعلى طبعه بضروب الشرّ، فقلَّما يخلص من جميعها، أو تسلم نفسه من كلّ عيب ومنقصة، وتحيط بكلّ فضيلة ومنقبة.

إلاّ إنّ الإنسان التامّ (الكامل)، وإن كان عزيزاً بعيد التناول، فإنّ صدقت عزيمته، وأعطى الاجتهاد حقّه، كان يقيناً أن ينتهي إلى غايته التي هو متهيّئ لها؛ ويصل إلى بغيته التي تسمو نفسه إليها.

فأمّا تفصيل أوصاف الإنسان التامّ فهو الذي يكون:

- متيقّظاً لجميع معايبه.

- متحرزاً من دخول نقص عليه.

- مستعملاً لكلّ فضيلة.

- ومجتهداً في بلوغ الغاية.

- وعاشقاً لصور الكمال.

- مستلذّاً لمحاسن الأخلاق.

- متيقّظاً في الأصل.

- متبغّضاً لمذموم العادات.

- معنيّاً بتهذيب نفسه.

- غير مستكثر لما يقتنيه من الفضائل.

- مستعظماً اليسير من الرذائل.

- مستصغراً للرّتبة العليا.

- مستحقراً للغاية القصوى.

٣٧

- يرى التمام دون محلّه، والكمال أقلَّ أوصافه(١) .

والإنسان بالمطلق مسؤول عن أفعاله وتصحيح أعماله؛ لأنّها ناتجة عن إرادة واختيار كامل منه، وهذا هو بالضبط ما نطلق عليه فلسفة التكليف الربّاني للإنسان الذي يلحقه الثواب للمحسن، والعقاب للمسيء.

إذاً، فالفعل الذي يفعله الإنسان بإرادته واختياره يكون على قسمين:

١ - أخلاقي: وهو الذي يكون مظهراً للخلق الصحيح، والذي يكون صدوره بإشارة العقل وإرشاده، وهذا هو الذي يجب أن تكون غايته الكمال الإنساني المطلق، ولا يصل إليه إلاّ المعصوم.

وإذا أعقبت هذا النوع من العمل لذّة فهي شيء آخر يصحب الغاية، يتقدّم عليها أو يقارنها في الوجود.

٢ - غير أخلاقي: وهو الذي لا يعدُّ كذلك (ما سبق).

وفي هذا الصنف من الفعل الاختياري قد تكون الغاية هي اللذّة، وقد تكون الغاية هي الكمال، وقد تكون شيئاً يتوهّمه الفاعل كمالاً.

وسواء ثبت أنّ اللذّة بمطلقها خير أم لم يثبت، فلا يسعنا التصديق بأنّ السعادة هي اللذّة ما دامت السعادة هي الخير الأعلى، وكان أكثر اللذّات مصحوباً بالألم.

والسعادة: هي الخير الأعلى، كما تعرّفها الخاصّة. وهذا ما تفهمه العامّة من معناها أيضاً.

وإذا تجددّ بين الفريقين اختلاف بعد ذلك فإنّما هو في تعيين أفراد الخير الأعلى؛

_____________________

١ - رسائل البلغاء - تصنيف محمّد كرد علي / ٥١٢.

٣٨

لأنّ الخاصّة تعرف من الخير الأعلى مثالية سامية لا تدركها عقول العامّة، وللعامّة في تحديده رأي قصير لا تذعن له الخاصّة.

لأنّ العامّة تدرك من الخير الأعلى معنىً بسيطاً تحدّده لها أنظار بسيطة، بحيث ترى أنّ السعادة هي الثروة والمال، والصحة والرفاه؛ لأنّها لا تعرف من الخير الأعلى غير هذا وما يشبهه، والخاصَّة لا ترى في ذلك ما يسمّى كمالاً؛ ولا تعدُّ الحصول عليه سعادة إلاّ إذا كان للسعادة معنى آخر.

وكمال النفس عند هؤلاء ارتقاؤها إلى المراتب العقلية الرفيعة، واستيفاؤها حظّها من الإنسانيّة الكاملة، وبين هاتين الطائفتين طبقات متوسطة تعرف من الكمال ومن الخير الأعلى غير ما يعرفه هؤلاء جميعاً فتكون السعادة عندهم شيئاً آخر(١) .

وأرسطو يقول في تعريف الخير: (الخير: هو موضوع جميع الآمال).

ويقول فيلسوف آخر: (الخير: ما يتشوّقه الجميع).

ويقول ثالث: (هو ما يقصده الجميع في أعمالهم).

والملاحظ لهذه التعاريف يجد أنّ بينها فروقاً واضحة، إلاّ أنّها تجتمع على الجهة التي ذكرت آنفاً.

ولفظ الخير عند الخلقيين القدماء يحكي معنيين متناسبين، وللتفرقة بينهما يصفون أحدهما بالخير المطلق، والثاني بالخير المضاف.

والتعاريف المتقدّمة تحدّد الخير بالمعنى الأوّل (المطلق)، وأمّا الخير المضاف

_____________________

١ - الأخلاق عند الإمام الصادقعليه‌السلام / ٢٥.

٣٩

فإنّه كلّ وسيلة توصلنا إلى الخير المطلق.

والفارق بينهما هو الفارق بين الوسيلة والغاية، أو بين الغرض الأدنى والغرض الأقصى(١) .

الإرادة الإنسانيّة الكاملة

والإنسان في هذه الحياة يسير في دروبها مستخدماً عقله الذي أنعم الله عليه به، متسلّحاً بإراداته الجبّارة، إمّا في طريق الفضائل والكمالات، أو في طريق الرذائل والسفالات، وصدق ربّنا الجليل حيث يقول:( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ) (٢) .

لأنّ الإرادة عزيمة في الإنسان يوجد بها ما يروم، ويدفع بها ما يكره، ولها بسائر القوى الإنسانيّة أسوة، فهي تتّصف بالقوّة والضعف.

وقوي الإرادة هو الإنسان العظيم الذي يأتي بالعُجاب، ويفعل ما يشبه المعجزات، إذا أحسن توجيه إرادته إلى أعمال الخير ومحاسن الصّفات، أمّا إذا توجّه بها إلى أعمال الشرّ فإنّه يجرّ على نفسه نقصاً آخر لا يقلّ خطراً عن ضعف الإرادة(٣) .

والمدقّق يلاحظ أنّ الرذائل الخلقية جراثيم فتّاكة يجب دفعها عن النفس مهما أمكن الدفع، وسموم قاتلة يلزم الحذر منها ما أمكن الحذر، وجميع النقائص الخلقية في هذا الحكم على السَّواء، ولا فرق بين القوي منها والضعيف،

_____________________

١ - الأخلاق عند الإمام الصادقعليه‌السلام / ٢٧.

٢ - سورة الإنسان / ٣.

٣ - الأخلاق عند الإمام الصادقعليه‌السلام / ٤١.

٤٠

والأوّل والآخر، والحكمة في تقديم بعضها على البعض مختلفة جدّاً.

فمن الناس مَنْ يكون قوي الإرادة، حازم النفس، ومن الخير لهذا الصنف من الناس أن يبتدئ بإصلاح جميع ملكاته دفعة واحدة.

ومن الناس مَنْ يكون ضعيف الإرادة، واهن النفس، فاتر الهمّة، ومن الصواب له أن يبتدئ بإصلاح الضعيف من صفاته؛ ليتمرَّن به على جهاد القوي(١) .

وهذا الذي سمَّاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (الجهاد الأكبر، جهاد النفس)(٢) .

فمجاهدة النفس لإصلاح المفاسد فيها، أو كبح جماح الناشز من صفاتها السبعية والبهيمية، فهذا أعظم من كلّ جهاد في هذه الحياة.

وجهاد النفس أكبر جهاد؛ لأنّها أعدى الأعداء للإنسان كما في الرواية الشريفة:((أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك)) (٣) .

والعاقل الفطن يجب أن يُحارب العدوّ الأقرب والأخطر الذي يكون ضرره أعظم، وفتكه أكبر بذات الإنسان، وهل يهلك الإنسان ويلقيه على منخريه في النار إلاّ نفسه الأمارة بالسوء!

وعلى الإنسان أن يوجد التوازن المطلوب في ملكاته الخلقية؛ لأنّ الفلاسفة

_____________________

١ - الأخلاق عند الإمام الصادقعليه‌السلام / ٧١.

٢ - في الحديث: إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بعث بسرّية، فلمّا رجعوا قال:((مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر)) . فقيل: يا رسول الله، وما الجهاد الأكبر؟ قال:((جهاد النفس)) . الكافي ٥ / ١٢ ح٣.

٣ - موسوعة البحار ٦٧ / ٣٦.

٤١

والحكماء قالوا: فضائل الملكات أوساط، ورذائلها أطراف وانحرافات.

هذا قول أرسطو، وهو صحيح، ويؤيّده ما جاء في تعاليم ديننا الحنيف، وأقوال علمائنا الكبار، وسلفنا من الأبرار الذين قالوا: إنّ الفضيلة وسط بين رذيلتين؛ هما الإفراط والتفريط. فالإفراط: رذيلة بجهة الإيجاب. والتفريط: رذيلة بجهة السلب.

وربّنا سبحانه وصف هذه الأُمّة بالوسيطة، فهي أُمّة وسطى للشهادة على الأُمم، أي الأُمّة المعتدلة الثابتة على الوسط، فلا تميل إلى جهة دون جهة؛ لأنّ الميلان والانحراف والزيغ كلّه رذائل، نهى عنها ربّنا الكريم ورسولنا العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله وأئمّتنا الأطهارعليهم‌السلام ، وعلماؤنا الأبرار منذ القديم وإلى هذا اليوم.

قال تعالى:( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) (١) .

وكلّ شيء عندنا يجب أن يُصبغ بصبغة الدين الذي هو عند الله الإسلام، ولا يمكن أن يُنظر إلى مسألة من المسائل بانعزال عن هذا الأساس الإلهي، وأمير المؤمنينعليه‌السلام يقول:((أوّل الدين معرفته)) (٢) .

أي أنّ أوّل التديّن وبدايته أن نعرف الله سبحانه وتعالى، وبعد ذلك نتعرّف على كلّ شيء بالله، فكما أنّ((أوّل الدين معرفته)) حيث تشكّل معرفة الله سبحانه الحجر الأساس للدين، فكذا معرفة الله تشكّل الحجر الأساس

_____________________

١ - سورة البقرة / ١٤٢.

٢ - نهج البلاغة - الخطبة الأولى.

٤٢

للإنسانيّة، ولا معنى للإنسانيّة ولا للأخلاق من دون معرفة الله تعالى.

وعندما ندخل إلى أجواء التربية الدينية لديننا، نجد أنّ هذه المفاهيم (الخلقية) ليست فارغة، وإنّما هي مليئة، كالحقّ والعدالة، والسّلام والتعايش، والعفّة والتقوى، والعفوية والصدق، والاستقامة والأمانة، فكلّها ألفاظ مليئة بالمعاني ولها منطلق وأساس.

والموضوع المهم هو: على أساس أيّ منطق يمكننا أن نبني الأخلاق؟ أيمكننا أن نجد للأخلاق منطقاً استدلالياً فلسفياً بعيداً عن طريق معرفة الله؟

كلاّ لا يمكن؛ لأنّ الخلفية والرصيد لجميع هذه المفاهيم هي معرفة الله (والإيمان به)، وإذا فُقد الإيمان أصبحت الأخلاق كقطعة نقود لا رصيد لها، قد يكون البعض غير ملتفت إلى هذا الأمر، ومنهجه عندئذٍ لا يكون مبنيّاً على أساس محكم.

ألم يكن الغربيون - ولا سيما الفرنسيون - أوّل مَنْ نشر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ولكن أين كان هذا الإعلان أيّام الحرب العالمية الأولى والثانية؟!

ألم تكن هناك حقوق للإنسان في هذه المجالات؟ وأين هم كلّ الذين يتبجّحون اليوم بحقوق الإنسان، وهم يدمّرون كلّ شيء يتعلّق بالإنسان وإنسانيّة الإنسان، حتّى صار يحسد الحيوان ويتمنّى طعامه وكسوته؟!

هذا ما يحدث في عصرنا ونراه بأُمّ أعيننا، في كلّ لحظة شيء جديد عن جرائم تُرتكب بحقّ الإنسان باسم حقوق الإنسان، لماذا؟!

لأنّ أقوالهم لم تكن مبنيّة على أساس رصين، كما يقول الله سبحانه في كتابه المجيد:( وَمِنَ النَّاسِ

٤٣

مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ) (١) .

عندما تنظر إلى أقوالهم وكتبهم وإعلاناتهم يستولي عليك العجب وتفرح لهذه المواقف الرفيعة، لكنّك لا تدري إذا جاء وقت الامتحان واستولى عليهم العناد ماذا يفعلون،( وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ) (٢) .

إنّ الذّات في الدين لا تعرف الحدود، أي أنّ الفضائل الأخلاقيّة لا حدود لها، والأخلاق الدينية لا تفرّق بين المتديّن وغيره، يقول الله تعالى في محكم كتابه:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ ) (٣) .

فالشهادة يجب أن تؤدّى لله وإن كانت في ضرر الشاهد، أو أبويه أو أقاربه.

هذا هو موقف الدين الحنيف، وما أكثر القصص العجيبة التي تتحدّث عن آثار مثل هذه الآيات في حياة المسلمين على مرِّ السنين.

فخلاصة ما تقدّم أنّ أساس الفضائل الأخلاقيّة هو معرفة الله تعالى، ثمّ التخلُّق بأخلاق الباري (عزّ وجلّ).

_____________________

١ - سورة البقرة / ٢٠٤.

٢ - سورة البقرة / ٢٠٥.

٣ - سورة النساء / ١٣٥.

٤٤

الفصل الثاني: الأخلاق الحسينيّة

٤٥

٤٦

أخي الكريم، عندما تريد أن تتحدّث عن مسألة فلا بدَّ لك من الإحاطة العلمية بها، وإلاّ فإنّ اللوم سوف يُطالك من حيث لا تدري، وكذلك أي قضية من القضايا تريد أن تدرسها فلا شك في أنّك يجب أن تستغرقها بحثاً من جميع نواحيها؛ لكي لا يكون بدراستك نقص، وفي بحثك مغمز.

وهكذا الأشخاص، فأيّ شخصيةٍ تريد أن تتناولها بالبحث، عليك أن تستهلكها بذاتك حتّى تتقمّصها إن استطعت، أو لا أقل الإحاطة بالظروف الاجتماعية والحياتية زماناً ومكاناً وملابساتٍ؛ حتّى تُعطي الشخصية حقّها منك بحثاً وفكراً ومجهوداً.

فالأخلاق: بحث واسع وعنوان عريض يشمل جميع الفضائل الخلقية وعكسها في الحياة الاجتماعية، وتطبيقها على أرض الواقع الذي نعيش فيه.

فإذا أردت أن تدرس مفرداتٍ أخلاقيّة دراسة مجرّدة، فإن المسألة تختصّ بالفلسفة والمفاهيم الصوريّة، وأمّا إذا أردت تطبيق تلك المفاهيم وانتزاع صور وشواهد عليها بتجسيدها في الحياة العامّة، فإنّ الأمر يخرج من التصوّر إلى التصديق، ومن المجرّد إلى الواقع، ومن النظرية إلى التطبيق، وتلك هي الفلسفة العملية للأخلاق.

٤٧

والفلسفة الأخلاقيّة المجرّدة لا نريدها؛ لأنّنا لا نستفيد منها في حياتنا إلاّ إذا اتّخذناها منهجاً عملياً نسير بهداها، ونطبّق حروفها وحدودها على حياتنا اليومية، تلك المفردات والمفاهيم التي عجز عن تطبيقها كاملاً إلاّ الأشخاص الكاملون في شخصياتهم الإنسانيّة.

فالشخص الكامل: هو الذي يتحوّل من وجود شخصي إلى شعار إنساني؛ لأنّه يتجرّد من ذاته للحقّ ولوجه الحقّ الذي يمثّله، فيكون ممثلاً للحقّ ومحوراً له في حياته كلّها، كما قال الرسول الأعظم محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله للإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام في أكثر من موقع، وحديث:((علي مع الحقّ والحقّ مع علي يدور معه حيثما دار)) (١) .

فالإمام عليعليه‌السلام صار محوراً للحقّ يدور معه أينما توجّه وحيثما حلَّ، فمثل هذه الشهادة المباركة من رمز الإنسانيّة الأوّل، وأعظم شخصية عرفتها البشرية عبر العصور، بحقّ خليفته ووصيّه والإمام القائد للأُمّة من بعده، تعطينا إشارات نورانيّة، وحالات قدسيّة تُحيط بتلك الشخصيات الاستثنائية، فتُضفي عليهم وعلى حياة الأُمّة كلّها رونقاً خاصّاً.

فالإمام بعد الرسول: هو الشخص الكامل في الأُمّة الإسلاميّة، وهو قمّة القيم الفاضلة العالية للأُمّة.

وبالتالي: هو الراية الخفّاقة العالية التي تتّخذها الأُمّة شعاراً للهداية والرشاد والنورانيّة، ولا يمكن أن تكون إلاّ متفرّدة شامخة لا

_____________________

١ - ينابيع المودة / ٦٥ ب٧، الإمامة والسياسة ١ / ٧٣، كنز العمال ١١ / ٦٤٢، الترمذي في الجامع ٥ / ٥٩٢ ح٣٧١٤.

٤٨

تنالها الأيادي الطامحة، ولا تدركها العيون الباصرة، كما هو النجم في كبد السماء الصافية.

وكم هي جملية تلك الخطبة الأميرية والتي تُسمّى بالشقشقية، حيث يقول:((ينحدر عنّي السّيل، ولا يرقى إليّ الطير)) (١) .

نعم، الإمام هو القمّة العالية، والقيمة السّامية التي لا تُطال ولا تُنال، حتّى العقول والأفهام قد تقصر عن الارتفاع، أو الوصول إلى ذُراها العالية.

والسبب في ذلك: أنّ الكامل يسع الناقص، أمّا الناقص فإنّه لا يمكن أن يسع أو يحيط بالكامل، والقصور يعود إلى طبيعة البشر المتّصفة بالنقص والضعف، والقصور الذاتي عن بلوغ الكمال، إلاّ أنّ التطلّع إلى الكمال، وحبّ الوصول إليه هو من أجمل الصّفات الإنسانيّة.

وبهذه القراءة الدقيقة نفهم الأحاديث النبويّة والعلويّة الشريفة، مثل قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله للإمام عليعليه‌السلام :((يا علي، ما عرف الله إلاّ أنا وأنت، وما عرفني إلاّ الله وأنت، وما عرفك إلاّ الله وأنا)) (٢) .

ويبقى قول الله سبحانه في كتابه الكريم الميزان الحقّ الذي لا يحيف، قال تعالى:( أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ) (٣) .

فالقابليات تتغيّر وتختلف من شخص إلى آخر، وصدق مَنْ وصف الأجساد

_____________________

١ - نهج البلاغة - الخطبة الشقشقية.

٢ - بحار الأنوار ٣٩ / ٨٤.

٣ - سورة الرعد / ١٨.

٤٩

والأجسام بأنّها كالأوعية، كلّ يتّسع بقدره، ولا يمكن أن يتّسع أكثر مهما حاولت أن تفعل، وبهذا قال رسول الإنسانيّة محمد (صلوات الله عليه وآله):((إنّا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم)) (١) .

والكلام إذن عن الإمام الحسينعليه‌السلام هو بهذا اللحاظ النوراني؛ لأنّنا لسنا أمام شخصيّة عاديّة، بل نحن على شاطئ بحر محيط من الفضائل وحسن الشمائل، منه نجمع بعض الدُّرر واللآلئ الحسان، متنزّهين في الجزر المرجانيّة العجيبة الأشكال والألوان.

أو أنّنا ندخل جنّة أو بستاناً عظيماً في فصل الربيع، نبحث عن أشياء غائبة عنّا، فأينما توجّهت رأيت عجباً، من حسن الربيع وأصوات خرير الينابيع، تدور وتقطف باقات من الزهور الأخلاقيّة المتنوّعة من جنّة المولى أبي عبد الله الحسين (عليه صلوات المصلّين).

أقول: نقطف باقة أو طاقة من الزهور؛ لأنّنا عاجزون عن الإحاطة بكلّ ذاك الربيع الفيّاض بالحسن والكمال، والذي لا يدرك كلّه لا يترك جلّه، فتخيّرت عبقات أخلاقيّة؛ لتكون إشارة لذاك البستان العظيم، لتلك الجنّة الوارفة.

فنستفيد بالباقة التنوّعَ وجمالَه، واختلافَ أشكاله، والأريجَ وتضوُّعَ عبقه في الأرجاء، والألوانَ واختلافاتها وأطيافَها الساحرة؛ لأنّ لكلّ زهرة لونها وعبقها، وشكلها الخاص المميّز.

_____________________

١ - الكافي ٨ / ٢٦٨، مستدرك الوسائل ١١ / ٢٠٨.

٥٠

فزهرة الياسمين بهذا الشكل البسيط، واللون الناصع البياض، والعبق العجيب الذي يجعلها تختلف عن كلّ الزهور في الدنيا، وهكذا الفُل والنرجس النعسان، وشقائق النعمان وغيرها كثير.

أدور باحثاً في رياض سيدي ومولاي الإمام الحسينعليه‌السلام ، ريحانة جدّه الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفلذة أبيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، وبضعة أُمّه سيّدة النساء فاطمة الزهراءعليها‌السلام ، وصنو أخيه الإمام الحسن المجتبىعليه‌السلام ، فهل لك أن تسأل من أين استقى الإمام الحسينعليه‌السلام كلّ تلك الفضائل الأخلاقيّة؟

إنّه وإن كان الإمام الحسينعليه‌السلام هو بذاته نبع فضائل وفيض كمائل إنسانيّة، ينتصب علَمَاً ومناراً للإسلام والإيمان، إلاّ أنّنا نعود إلى النسق الطبيعي للبشريّة والتربية الإنسانيّة؛ لنعرف كيف تربّى الإمام الشهيد في أحضان البشر قبل تقلّبه في أحضان الوحي المقدّس.

وهذا يهمنا في بحثنا هذا؛ لأنّنا نريد أن نتحدّث عن أبي الأحرار الإمام الحسينعليه‌السلام كإنسان بشري، خُلق على هذه الأرض في تلك البقعة المباركة، وذاك الزمان الموغل في القدم؛ لنتعلّم منه أصول التربية الإسلاميّة، وأُسس الأخلاق الإيمانيّة، ونرى أين نحن المسلمون في هذا العصر من ذاك كلّه، لا سيما دعاة التكفير وحاملوا لواء الخوارج في هذا العصر الخطير الذين يرون لأنفسهم ديناً خاصّاً لا أحد من المسلمين يشاركهم فيه؛ فيكفّرون الأُمّة الإسلاميّة برمّتها، ويتعاملون معها بأخلاقيّات شاذّة ما أنزل الله بها من سلطان، أقلّها استباحة الدم والعرض والمال، بفتوى أشبه شيء بالجنون والهذيان.

٥١

وتوجّهنا إلى أخلاقيّات ومناقب المولى أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام بالخصوص؛ لأنّه صار مستهدفاً من جديد، ممّن يريدون أن يطفئوا نوره بأفواههم الآثمة، وأن يبعدوا الأُمّة عن شعائره المباركة بالقتل والإرهاب؛ فراحوا يعيثون في الأرض فساداً، فيقتلون الأبرياء في الحضرة الحسينيّة المقدّسة، والروضة العباسيّة الشّريفة، وحرم الكاظميّة الطّاهرة، لا لذنب اقترفوه إلاّ أن يقولوا: ربّنا الله، وإمامنا الحسين بن علي.

وسيأتي تفصيل ذلك في الفصل الثاني من هذا الكتاب إنشاء الله.

وما زيارتنا لسبط الرسول وابن البتول الحسين الشهيد المظلومعليه‌السلام إلاّ لنجّدد له العهد والولاء، والوعد بالطلب للثأر العظيم تحت راية صاحب العصر والزمان المهدي المنتظر من آل محمد (صلوات الله عليهم أجمعين).

لقد تعدّدت الأبواق التي تريد أن تبعدنا عن إمامنا ومقتدانا سبط الرسول وابن البتول الحسين المظلوم، فقلت لهم: دعونا وإمامنا، نحبّه كيف نريد، ونبكي عليه متى نشاء، ونعبِّر عن ذلك بطرقنا المختلفة، دعونا نعبِّر عن عشقنا الحسيني كيف استطعنا وكيف أردنا، واذهبوا أنتم إلى مَنْ تريدون؟!

ومنهم مَنْ يقول: إنّها ليست طريقة حضاريّة أن تعبّر عن حزنك وأسفك و ...، بهذه الطرق المتخلفة؛ لأنّنا في عصر الحضارة والنور، وأعمالنا تنقلها الفضائيّات إلى أبعد أصقاع الدنيا.

ومنهم مَنْ يقول: إنّ كلّ هذه الأعمال كفر محض، وشرك مقيت وكلّ الأُمّة التي تؤمن أو تعمل أو تشارك في إحياء تلك الشعائر يجب قتلهم وإبادتهم عن بكرة أبيهم؛ لأنّهم شيعة.

وقبور أئمّتهم وقبابها يجب هدمها كلّها، ومنع الناس

٥٢

من زيارتها كما فعلوا مع أئمّة البقيع الغرقد.

وهؤلاء أخطر من الجميع؛ لفكرهم الشنيع، وإمكانياتهم الماديّة الهائلة، ودعايتهم المقيتة، وأعمالهم الفظيعة في كربلاء وغيرها من بلاد المسلمين.

وسيأتي تفصيل ذلك في الفصل الثاني من هذا الكتاب بإذن الله تعالى.

لهذا كلّه اخترنا البحث عن (أخلاقيات الإمام الحسينعليه‌السلام ) وليس غيره من أصحاب الكمال في هذا المجال الإنساني؛ لنقول للجميع: هكذا عمل الإمام الحسينعليه‌السلام ، فما الذي عملتموه، وكيف أنتم تعملون، ومَنْ أقرب إلى الله (عزّ وجلّ) وإلى الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله في المنهج والسلوك؟!

لا سيما أو لعل من أبرز المظاهر التي يتّصف بها عصرنا في أواخر القرن العشرين، الصراعات والنزاعات والاحتجاجات والفتن من كلّ صوبٍ؛ على صعيد الأسرة والمجتمع والدولة، سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي ..

ونحن نشاهد أنّ النقد العنيف يتناول الأخلاق اسماً ومفهوماً، أسساً وتطبيقاً، كما يشمل المذاهب الأخلاقيّة على اختلاف منازعها، ونلمس في الوقت ذاته تبدّلاً عميقاً، إن لم نقل تقهقراً يصيب العادات الأخلاقيّة والأعراف، ويفجّر أزمة الوجدان.

ولكنّ الوضع أشدّ خطراً في أيّامنا هذه؛ ذلك أنّ ضروب الابتعاد عن الجادّة السويّة في السلوك تنمّ عن تدنّي التفكير العقلي، ونحن نرى مَنْ يرفض الأخلاق التقليديّة، ويعلن أنّها بالية لا تلائم العالم الحديث، كما نرى مَنْ يرفض وجود قيم تفرض نفسها على الإنسان، والأمر عندئذ يتناول تعالي النظر الأخلاقي، ويجعل الاضطراب ماثلاً على مستوى الفكر بأكثر منه على صعيد العمل.

٥٣

ولعلّ هذا اللايقين يؤلّف إحدى ظواهر الأزمة العامّة التي تعاني منها الحضارة المعاصرة، فنحن نشاهد تحوّلات جذريّة تجري في المجالات العلميّة والتقنيّة والاقتصاديّة، وإنّ طراز المعيشة والبنيات الاجتماعيّة والعقليّة المشتركة تتطوّر بحسب إيقاعٍ يُعرب عن تسارع التاريخ، حتّى قيل إنّنا نغيّر القرن كلّ عشرين عاماً.

إذاً، فالإنسان هو هدف الوجود وغايته، وهذا ما يقرّه العلماء والمفكّرون والمصلحون.

أمّا غاية الإنسان وهدفه: فهو الله، وهذا ما يعلمه الحكماء، وربّنا سبحانه وتعالى يقول في حديث قدسي:((عبدي خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي)) (١) ، وفي القرآن الكريم يقول:( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ ) (٢) .

فالإنسان غاية الوجود، أمّا وجود الإنسان فغايته الله، وساحات قدسه، ومجاورته في الجنّة؛ ولهذه الغاية كان بحثنا الأخلاقي يدور حول ذلك الشخص المجسّد للفضائل والكرامات الأخلاقيّة ذلك النور الأبهر، والعلم الأحمر، حجّة الله على الخلق في عصره الأغبر، ذاك الإمام العظيم الحسين بن عليعليه‌السلام .

وأخلاق الإمام الحسينعليه‌السلام امتداد لأصله النوراني النبويّ العلويّ، كيف لا وهو خامس أهل البيت الأطهار الأبرارعليهم‌السلام ، أهل الكساء اليماني

_____________________

١ - الأمالي / ١٠٢، موسوعة البحار ٢٧ / ٦٢.

٢ - سورة الذاريات / ٥٦.

٥٤

الذي جلَّلهم به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي قال الله سبحانه في وصفه:( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (١) ، فهو صاحب ذلك الخلق الرفيع الذي ربَّى وعلَّم أهل بيته الكرامعليهم‌السلام ، حتّى غدوا صورة طبق الأصل عن جدّهم، فكانوا على خُلق عظيم كذلك، وكانوا مدارس مستقلة في فنون التعامل مع الناس بأخلاقٍ إسلاميّة مسؤولةٍ:

- مدرسة اختصَّ بها أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام الذي تخرّج على يدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتقلَّبَ في أحضان الرسالة، وتلقّى أخبار الوحي النورانيّة، فكان ولا زال الأوحدي الذي لا يُطال ولا يُنال.

وصدق ذاك المؤرّخ الغربي الذي قال: إنّ معجزة رسول الله محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله كان علي بن أبي طالبعليه‌السلام .

- مدرسة اختصَّت بها سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراءعليها‌السلام التي انبعثت من كبد الرسول((فاطمة بضعة منّي)) (٢) ، وتربَّت بين يدي الرسالة، واقترنت بالولاية العلويّة عندما كبرت فكانت برزخاً نورانيّاً بين الرسالة والولاية والنبوّة والإمامة.

- مدرسة اختصَّ بها الإمام الحسن السبط المجتبىعليه‌السلام ، بالصفح والتسامح والوحدة الإسلاميّة؛ لأنّه صاحبها الأوّل، إلاّ أنّه يبقى المظلوم العظيم في هذه الأُمّة، ظلمه أقرب الناس إليه قبل أعدائه، وما زالوا يفعلون.

_____________________

١ - سورة القلم / ٥.

٢ - مَنْ لا يحضره الفقيه ٤ / ١٢٤، مستدرك الوسائل ١٤ / ١٨٢.

٥٥

- مدرسة اختصَّ بها أبو الأحرار الإمام الحسين الشهيدعليه‌السلام ، وهذه في الحقيقة خلاصة كلّ المدارس السّابقة؛ لأنّ الإمام الحسينعليه‌السلام هو الذي جمع القسط الأكبر من كلّ مَنْ سبقه جدّه وأبويه وأخيهعليهم‌السلام ، ثمّ نفسه القدّوسيّة، وعقله العملاق، واجتهاده المعصوم، فكان منه ما أبهر العقول والألباب.

تأمّل أيّها القارئ الكريم، كيف كان تعامل الإمام الحسينعليه‌السلام مع آل بيته وأصحابه وأعدائه؛ فإنّه يعكس أخلاق الإنساني الرسالي الكبير الذي ولِد وترعرع في بيت النبوّة ومهبط الوحي، ذلك البيت الذي اختصّه الله بأمور لم يختصّ بها بيتاً غيره.

لقد أراد الله أن يكون البيت الذي تتطلّع إليه الأُمّة دائماً عبر مسيرتها الطويلة ليكون قدوة دائمة، وإذا أراد الله أن تكون أخلاق هذه الصفوة قدوة دائماً للناس على مرِّ العصور، فإنّه جعل في كلّ جانب من جوانب سلوكها وتصرفاتها مصدر إشعاع ورفد دائمي لأخلاق الإسلام، وتربيته التي أرداها أن تستوعب الحياة بكلّ متغيّراتها، وتنسجم معها وتطوّرها إلى آفاق الإسلام الواسعة التي جعلته مؤهّلاً للبقاء دائماً، وقادراً على قيادة البشريّة والأخذ بيدها إلى ساحل الأمان والخير والعدل والسعادة.

والإمام الحسينعليه‌السلام أثبت بسلوكه الرسالي، وأخلاق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله التي حملها معه دائماً، والتزم بها طيلة حياته الشريفة وحتى آخر لحظة منها، أنّه كان حقّاً ممثّل الرسالة، والوريث الشرعي لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتّى صار الإسلام نفسه بكلّ قيمه ومبادئه العظيمة الخيِّرة، حتّى اعترف له بذلك عدوّه اللدود معاوية بن أبي سفيان أمام ابنه يزيد وجمع من أعوانه ومريديه، حين طلبوا منه أن يبيّن عيباً للحسين بن علي فقال: (وما عسيت أن أعيب حسيناً، وما أرى للعيب فيه

٥٦

موضعاً)(١) .

والإمام الحسينعليه‌السلام هو النبع الفيَّاض بالفضائل والكمالات الإنسانيّة، ونحن نتفيّأ فيئه، ونستظلّ بظلّه العميم، ونستنير بنوره الوضَّاء؛ لأنّ سيرته كلّها فضائل وأخلاق كشخصه الشريف:

- فنسب الإمام الحسينعليه‌السلام فضيلة كبرى.

- وولادتهعليه‌السلام فضيلة سماويّة أُخرى.

- وتربيتهعليه‌السلام فضيلة ربّانية ثالثة.

- ونسلهعليه‌السلام فضيلة خاصّة رابعة.

- وحياتهعليه‌السلام مجمع فضائل لا تنتهي.

وما علينا إلاّ أن نستقي حتّى نرتوي من فضائل ومناقبيّات الإمام الحسين بن علي سيد الشهداء (صلوات الله عليه).

في التربية الإسلاميّة

إنّ مهمّة الإمامعليه‌السلام وكلّ إمام أن يربّي البشر وأبناء الأُمّة التي يكون فيها، والتربية هي اللبنة الأولى لبناء أسرة صالحة، ومجتمع سالم، وأُمّةٍ وسط، كما وصف القرآن الكريم أُمّتنا الإسلاميّة المباركة.

سأل سائل الإمام الحسينعليه‌السلام عن معنى الأدب، فقالعليه‌السلام :((هو أنْ تَخرجَ منْ بيتكَ فلا تلقي أحداً إلاّ رأيتَ

_____________________

١ - الإمامة والسياسة - ابن قتيبة ١ / ١٨٢، موسوعة الثورة الحسينيّة ٥ / ٣٣٠، سير أعلام النبلاء ٣ / ١٩٨.

٥٧

لهُ الفضلَ عليك)) (١) .

هذا هو الأدب الإنساني الرفيع الذي لا يرى أحد في نفسه فضلاً على أحد من خلق الله، وهذا يعبّر عن قمّة في الإنسانيّة من جانبي السلب والإيجاب.

فالإنسان بصير بنفسه، خبير بأحواله كلّها، وربّنا سبحانه يقول:( بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ) (٢) .

والحديث الذي صار يشبه بمثل من الأمثال وهو (رحم الله امرأً عرف قدر نفسه)، فالإمام الحسينعليه‌السلام يشير لنا إلى هذه الحقيقة الناصعة.

والحقيقة الأُخرى أنّك على ظنّ أو شك من أحوال أخيك الإنسان الذي تلتقيه، وعلى يقين من أحوال نفسك، فكيف تقدّم الشك على اليقين؟

وهذه قمّة التواضع لخلق الباري (عزّ وجلّ)، ولا يأتي إلاّ من تجربة تربويّة عاليّة جدّاً؛ ولذا يقول سبط الرسول الحسينعليه‌السلام موجّهاً ومربّياً أصحابه على هذا الخلق العظيم:((إيّاكَ وما تعتذرُ منه؛ فإنَّ المؤمنَ لا يُسيء ولا يعتذرُ، والمنافقُ كلَّ يومٍ يُسيء ويعتذرُ)) (٣) .

فإذا أردت أن تكون تلميذاً في مدرسة المولى أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام فعليك أن تحترز من أيّ عمل يمكن أن تعتذر منه. أي العمل الذي يعيب، أو

_____________________

١ - موسوعة كلمات الإمام الحسينعليه‌السلام / ٧٥٠ ح٩١٠، جمال الخواطر ٢ / ٧٥.

٢ - سورة القيامة / ٧٥.

٣ - تحف العقول / ١٧٩، موسوعة البحار ٧٨ / ١٢٠.

٥٨

يشين أو يسيء للآخرين، وهذا يجعلك في حالة مراقبة دائمة لنفسك وتصرّفاتك، وحتى كلماتك يجب أن تكون موزونة بميزان الذهب.

ويُروى عن الإمامعليه‌السلام شعراً بهذا المعنى:

أفلحَ عبدٌ كُشف ال

ـغطاءُ عنهُ ففطن

وقرّ عيناً مَنْ رأى

أنّ البلاءَ في اللسن

فما زنَ ألفاظه

في كلّ وقتٍ ووزن

وخافَ من لسانه

غرباً حديداً فخزن(١)

فالعبد المفلح: هو الذي رفع الستار عن عينيه وبصيرته، فعلم أنّ آفات اللسان هي أشدّ فتكاً من مخاطبة السنان بالإنسان؛ ولذا وزن ألفاظه، فلم يتحدّث إلاّ بذكر الله سبحانه، أو ما ينفعه ويعينه، وخزنه بين لحييه في غير هذه الموارد القليلة.

والحديث يطول في المقام التربوي للإمام الحسينعليه‌السلام ، وسنعيد الكلام عند الحديث عن نفسه القدسية بإذن الله، ولكن قبل أن أتجاوز أخي الكريم، إليك هذه الحادثة النادرة التي تعبّر عن عظمة سيّد شباب أهل الجنّة، ومدى تقديره لأهل العلم والأدب.

تقديره لأهل العلم والأدب

يُقال: إنّ أعرابياً جاء الحسين بن عليعليه‌السلام وقال: يابن رسول الله، قد

_____________________

١ - قصيدة في كشف الغمّة ٢ / ٢١٢، راجع كلمة الإمام الحسين - للشهيد السيد حسن الشيرازي / ٣٣١.

٥٩

ضمنتُ دية كاملة وعجزت عن أدائها، فقلت في نفسي: أسأل أكرم الناس، وما رأيت أكرم من أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فقال الإمام الحسينعليه‌السلام :((يا أخا العرب، أسألك عن ثلاث مسائل، فإن أجبت عن واحدة أعطيتك ثلث المال، وإن أجبت عن اثنتين أعطيتك ثلثي المال، وإن أجبت عن الكلّ أعطيتك الكلّ)) .

فقال الأعرابي: يابن رسول الله، أمثلك يسأل مثلي وأنت من أهل بيت العلم والشرف؟!

فقال الحسينعليه‌السلام :((بلى، سمعتُ جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: المعروف بقدر المعرفة)) .

فقال الأعرابي: سلْ عمّا بدا لك، فإن أجبتُ وإلاّ تعلّمتُ منك، ولا قوّة إلاّ بالله.

فقال الإمام:((أيُّ الأعمالِ أفضلُ؟)).

فقال الأعرابي: الإيمان بالله.

فقال الإمام:((فَما النَّجاةُ منَ المهلَكة؟)) .

فقال الأعرابي: الثقة بالله.

فقال الإمام:((فَما يُزيَّنُ الرَّجُلَ؟)) .

فقال الأعرابي: علم معه حلم.

فقال الإمام:((فَإنْ أخْطأهُ ذلِكَ؟)) .

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580