الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية

الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية6%

الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية مؤلف:
الناشر: ياس زهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 580

الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية
  • البداية
  • السابق
  • 580 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 192749 / تحميل: 8197
الحجم الحجم الحجم
الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية

الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية

مؤلف:
الناشر: ياس زهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن).

تصوّر رعاك الله هذه العقيدة الغير إسلاميّة، ويطالبوننا باعتناقها وهي محضّ الجاهليّة التي حاربها الإسلام ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ورجالاته المخلصون؟!

مشاهدات ابن بطوطة لابن تيمية

وإليك ما كتبه الرحّالة العالمي ابن بطوطة عن مشاهداته لإمام من أئمّتهم في العقائد، وشيخ من أعظم مشايخهم، وعمدة من أعمدتهم الذي لم يأتِ مثله إلاّ المجدّد في نظرهم محمد بن عبد الوهاب النجدي.

كان بدمشق من كبار الفقهاء الحنابلة تقي الدين بن تيمية(١) ، كبير الشام،

_____________________

١ - مَنْ هو ابن تيمية؟

أحمد بن عبد الحليم الحرّاني الحنبلي، الملقّب بابن تيمية، وتقي الدين، وأبي العباس، كان من كبار علماء الحنابلة في القرن السابع والثامن الهجريين. ولد في مدين حرّان سنة ٦٦١ هـ، وبعد أن عاش ٦٧ عاماً توفي سنة ٧٢٨ هـ في دمشق.

إنّه من بيت حمل لواء المذهب الحنبلي أكثر من قرن من الزمن، تعاقب فيه رجال على زعامة المذهب، فتصدّروا الخطابة وأكثروا التأليف، منهم: محمد بن الخضر بن تيمية، وابنه عبد الغني المعروف بالسيف، وأيضاً عبد القاهر بن عبد الغني السيف.

والدة ابن تيمية تدعى ستّ النعم بنت عبدوس الحرّانية. أمّا بالنسبة إلى قبيلته، فإنّ أحداً ممّن ترجم له لم يذكر قبيلته ولا منحدره القومي، وحتى معاصروه وتلامذته كالذهبي، وابن الوردي، وابن كثير وغيرهم لم ينسبوه إلى قبيلة من قبائل العرب ولا من غيرهم، ولم يذكر شيء من ذلك في تراجم آبائه أيضاً؛ فبقيت نسبته عرضة للتكهّنات التي لا يؤيّدها دليل شافٍ، ولا ينفيها برهان قاطع بعد سكوت معاصريه، بل ومعاصري آبائه عن ذلك.

نشأ ابن تيمية بحرّان، حتّى إذا بلغ السابعة من عمره أغار على المدينة التتار، ففرّ أهل المدينة منها، =

٣٢١

يتكلّم في الفنون، إلاّ أنّ في عقله شيئاً، وكان أهل دمشق يعظّمونه أشدّ التعظيم، (وهذا ديدن الهمج الرعاع الذين كانوا يعظّمون معاوية وعمرو بن العاص و ...)، ويعظهم على المنبر، وتكلّم بأمر أنكره الفقهاء (التجسيم والتشبيه).

قال: وكنت إذ ذاك بدمشق فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكّرهم، فكان من جُملة كلامه أن قال: (إنّ الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا) ونزل درجة من المنبر ثمّ صعد ليكمل!

فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء، وأنكر ما تكلّم به، فقامت العامّة إلى هذا الفقيه (ابن تيمية) وضربوه بالأيدي والنعال ضرباً كثيراً حتّى سقطت عمامته، وظهر على رأسه شاشيّة حرير (وهو محرّم على رجال أُمّة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأنكروا عليه لباسها واحتملوه إلى دار عزّ الدين بن مسلم قاضي الحنابلة، فأمر بسجنه، وعزّره بعد ذلك(١) (أي جلده وأقام عليه الحدّ).

هذه عقيدة القوم يا أهل الإيمان!

_____________________

= وهاجرت أسرته إلى الشام واستقرّت هناك، وكانت آراؤه الكثيرة المنحرفة تخالف آراء الفقهاء، فكفّروه واشتدّت العداوة بينه وبينهم حتّى بدأ ولاة مصر يستمعون للشكايات المثيرة، ومنها شكايات الصوفية.

لم يقيّد ابن تيمية نفسه باتّباع مذهب أحمد بن حنبل، وكان من المسائل الكلامية يغالي في التوحيد، وفي زمانه رحّب الناس به واستمعوا إليه وأعجبوا به، وتعصّب له فريق، ولكنّ دعوته لم تلقَ التأييد، فظلّت راكدة إلى أربعة قرون ونصف، حيث حملها محمد بن عبد الوهاب مؤسّس الحركة الوهابيّة إلى شبه الجزيرة العربية في القرن الثاني عشر الهجري.

١ - رحلة ابن بطوطة / ٩٥.

٣٢٢

هذه آراء أعاظمهم ومشايخهم وأعلامهم عن الله تعالى وصفاته؟!

هذا هو التوحيد الذي يدعون الأُمّة الإسلاميّة إليه؟! أليس هو عين الكفر والشرك والجحود بكل ما جاء به القرآن وملّة أهل الإيمان؟!

٣٢٣

٣٢٤

الفصل الثاني: خلاصة عقيدتهم في التوحيد

٣٢٥

٣٢٦

التوحيد الذي تدعونا إليه الوهابيّة

يعتقد الوهابيون السلفيون أنّ الله تعالى جسم له حدّ وغاية، وأنّ له صورة ووجهاً، وعينين وفماً، وأضراساً وأضواء لوجهه هي السبحات، ويدين وكفاً، وخنصراً وإبهاماً، وأصابع وصدراً، وجنباً وساقين، ورجلين وقدمين، وأنّه جالس على العرش، وأنّه ينتقل من مكان إلى مكان، فينزل في النصف الثاني من الليل إلى السماء الدنيا وينادي ثمّ يصعد(١) ، نستجير بالله.

ويقول الحافظ ابن الجوزي: (ورأيت من أصحابنا مَنْ تكلّم في الاُصول بما لا يصلح، وانتدب للتصنيف ثلاثة: أبو عبد الله بن حامد وصاحبه القاضي وابن الزاغوني، فصنّفوا كتباً شانوا بها المذهب، ورأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوام، فحملوا الصفات على مقتضى الحسّ، فسمعوا أنّ الله تعالى خلق آدم على صورته، فأثبتوا له صورة ووجهاً على الذات، وعينين وفماً ولهوات، وأضراساً وأضواء لوجهه هي السّبحات، ويدين وأصابع، وكفاً وخنصراً، وإبهاماً وصدراً، وفخذاً وساقين ورجلين، وقالوا ما سمعنا بذكر الرأس(٢) !

_____________________

١ - السلفية الوهابيّة / ٥٨.

٢ - دفع شبهة التشبيه بأكفّ التنزيه - لابن الجوزي / ٩٧. علماً أنّ هذا ليس هو ابن قيّم الجوزيّة تلميذ ابن تيميّة.

٣٢٧

وقالوا: يجوز أن يَمسّ ويُمسّ، ويدني العبد من ذاته. وقال بعضهم: ويتنفس ..

وأبو بكر ابن العربي يروي عن القاضي أبي يعلي الحنبلي أنّه كان إذا ذُكر الله سبحانه يقول: (ألزموني - من صفات الله - ما شئتم؛ فإنّي ألتزمه إلاَّ اللحية والعورة)(١) .

أهذا هو حقيقة التوحيد في المفهوم القرآني؟! وهل يرضاه الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟! وهل يقبله العقل السليم؟!

توحيد الأفعال (الأسماء والصفات):

ويعتقدون مثل كلّ المسلمين أنّ الله وحده هو المنفرد بالخلق والتدبير، والإحياء والإماتة، والملك التام لكلّ ما في هذا الكون(٢) ، ولكنّهم يبنون على ذلك أنّ مَنْ دعا غير الله واستغاث به وهو غائب أو ميت، وطلب منه المدد واعتقد أنّه ينفع ويضرّ، ويشفي المريض ويردّ الغائب، وينتصر للمظلوم فقد أشرك بالله العظيم.

ولا ينفع هذا أن يسمّي ما يفعله شفاعة أو توسلاً فهذه حجّة المشركين، ومن الشرك ما يفعله كثير من الناس من النذر لغير الله، والذبح لغيره كما يفعل عند قبور الصالحين وغيرهم، كما إنّ مَنْ صلّى وسجد لغير الله فقد أشرك(٣) .

_____________________

١ - العواصم ٢ / ٢٨٣.

٢ - معلومات مهمة من الدين / ٦.

٣ - المصدر نفسه، علماً أنّ هذا الكتيب يوزّع بالملايين على حجّاج بيت الله الحرام.

٣٢٨

إنّ هذا الكلام هو كجنود معاوية من قبل الذي كان يغتال الناس بالسمّ المدسوس في العسل ويتّهم الله تعالى بأنّه الفاعل، ويقول: (إنّ لله جنوداً من عسل).

إنّ هذا الكلام المنسّق يدسّ الكفر بالإسلام والشرك باسم التوحيد، ويخرج الأُمّة من الدين دفعة واحدة بعد أن دخلوه زرافات ووحدانا ومن ثمّ أفواجاً.

اعلم عزيزي القارئ أنّ من ضروريات الدين الإسلامي، والمُجمع عليه بين جميع الفرق المنتحلة لدين سيّد الأنام محمد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل ومن أعظم أركان التوحيد: توحيد الله (عزَّ وجلَّ) في تدبير العالَم، كالخلق والرزق، والإماتة والإحياء، إلى غير ذلك ممّا يرجع إلى تدبير العالَم، كتسخير الكواكب، وجعل الليل والنهار، والظلم والأنوار، وإنزال الأمطار وإجراء الأنهار.

فلا كلام بين طوائف أهل الإسلام أنّ المدبّر لهذا النظام هو الله الملك العلاّم وحدهُ(١) . كيف لا يكون ذلك، والمسلم يقرأ العشرات من الآيات القرآنية المباركة التي تصف الله سبحانه بهذه الصفات، وتسند إليه تلك الأفعال التي يستقل بها من دون الخلق طراً؟! كقوله تعالى:( قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ ) (٢) .

_____________________

١ - الوهابيّة واُصول الاعتقاد / ٣٥.

٢ - سورة يونس / ٣١.

٣٢٩

وقوله:( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ ) (١) .

وقوله:( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللهُ ) (٢) .

وغير ذلك كثير جدّاً في آيات الكتاب الحكيم.

ولكن مَنْ قال لكم أيها الناس أنّ (التوسّل والاستغاثة، والاستشفاع، أو طلب الانتفاع) هو شرك أكبر؟

ومَنْ قال أنَّ التماس الشفاعة وتشريك غير الله مع الله وتقديمه بين يدي الدعاء هو شرك بالله العظيم؟!

ومَنْ قال أنَّ التوسّل بالأنبياء والصالحين وزيارة قبورهم والنذر لهم حبّاً لهم وتقرباً إلى الله بذلك، هو من الشرك الكبير الذي يخرج صاحبه من الدين، ويُستباح دمه ويحلّ لكم قتله؟!

١ - شرعية التوسّل:

إنَّ التوسّل إلى الله ليس بالأمر المندوب فقط، بل هو من الواجبات العقلية والنقلية في الشريعة الإسلاميّة؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى يقول:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) (٣) ، وقال سبحانه:( اُولئك الَّذِينَ يَدْعُونَ

_____________________

١ - سورة العنكبوت / ٦١.

٢ - سورة العنكبوت / ٦٣.

٣ - سورة المائدة / ٣٥.

٣٣٠

يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ) (١) .

فالتوسّل بشخص مقرَّبٍ أو مَلكٍ عظيمٍ إلى الله تعالى ليس عبادة له؛ لاعتقادنا أنّ النفع والضرّر هو من الله سبحانه باستقلاليّة مطلقة، ولكن نجعله وسيلتنا (واسطتنا) إلى الله؛ لكي يستجيب لنا ببركة ذاك العظيم أو المقرب إلى ساحات القدس؛ ولذا ترانا في كثير من أدعيتنا نقول: بجاه الحبيب المصطفى عندك يا الله، بجاه كلّ مَنْ له جاه عندك، وبحقّ كلّ مَنْ جعلت له حقّاً عندك، وبكرامة مَنْ له كرامة عندك، وهكذا.

وهذا معمول به عند جميع المسلمين منذ عهدهم الأوّل وزمن الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله وحتى يومنا هذا، تراها سنّة مباركة جارية، فليس الغرض بالعمل والاستغاثة الشرك بالله - والعياذ بالله -، بل الغرض: أن يفعل الله فعله، ويقضي الحاجة ببركتهم وشفاعتهم؛ حيث إنّهم مقرّبون لديه، مكرّمون عنده، ولا مانع من أن يكونوا سبباً ووسيلة لجريان فيضه(٢) الأقدس علينا نحن الفقراء إليه والمذنبون بحقّه علينا.

فلا جرأة لنا أن ندعوه بأنفسنا المخطئة، وألسنتنا المذنبة؛ ولذا جاء في الحديث الشريف:((ادعُ الله بلسان لم تخطئ به)) .

قالوا: كيف ذلك يا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله :((ادع لأخيك المؤمن، ودعه يدعو لك، ودعاء المؤمن لأخيه المؤمن في ظهر الغيب لا يحجبه عن الله حجاب)) .

_____________________

١ - سورة الإسراء / ٥٧.

٢ - الوهابيّة واُصول الاعتقاد / ٣٧.

٣٣١

فكيف يفسّر هذه الأحاديث المباركة والآيات الشريفة اُولئك الذين جاؤوا بعد قرون من عمل الأُمّة؛ ليكتشفوا حديثاً أنّ هذا شرك كبير؟!

ولاُولئك نقول: إذا كان أحدكم في منصب الإفتاء، أو الوزارات والقيادات في بلدانكم، لا سيما مَنْ تحكمونها من البلدان، إذا أراد شخص منكم قضية أو خدمة أو وظيفة وجاء إليك بأبيك أو أخيك، أو ولدك أو صديقك ومَنْ هو عزيز عندك، هل ستعتبر ذلك شركاً عظيماً وتضرب عنق ذاك المتوسّل إليك بأحبابك؟!

سأترك الجواب إلى حضرات السادة القرّاء الكرام، فهذا أمر بديهي لدى العقلاء كما نراه ويراه أكثر أهل العلم والإيمان من هذه الأُمّة.

٢ - شرعية الدعاء:

يعتقد الوهابيون السلفيون أنَّ مَنْ دعا أو استغاث بأحد غير الله فقد أشرك بالله؛ لأنّ الدعاء عبادة كما في قوله تعالى:( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) (١) .

فإذا قلت: يا محمد يا رسول الله، أو يا علي يا ولي الله، فإنّما أنت بهذا النداء تشرك بالله؛ لأنّك تدعو غير الله وتستغيث بغير الله.

اسمع ما يقول الصنعاني في (تنزيه الاعتقاد): (ومَنْ هتف باسم نبي، أو صالح بشيء، أو قال: اشفع لي إلى الله في حاجتي، أو أستشفع بك إلى الله في حاجتي، أو نحو ذلك، أو قال: اقضِ ديني، أو اشفِ مريضي أو نحو ذلك، فقد دعا ذلك النبيّ والصالح،

_____________________

١ - سورة غافر / ٦٠.

٣٣٢

والدعاء عبادة - بل مخّها - فيكون قد عبد غير الله وصار مشركاً)(١) .

قل لي بربّك، أليس هذا عين السفسطة؟! أليس هذا البرهان كبراهين اُولئك السوفسطائيين الذين ما زال العقلاء يضحكون من براهينهم السطحية، والخالية عن أيّ أصل علمي؟!

إنّك عندما تقدّم نبيّاً أو صالحاً بين يدي دعائك إلى الله؛ ليكون لك وسيلة وباباً لقبول الدعاء واستجابة الطلب، فأين هذا من العبادة التي تعني الخضوع النابع من الاعتقاد بالألوهيّة والربوبيّة للمعبود، وهذا محصوراً بالله قطعاً؟!

والله سبحانه وتعالى أمرنا نحن المسلمين أن نقدّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خاصّة بين يدي حاجاتنا، بقوله تعالى:( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً ) (٢) .

هذا لأنّ المدعو عبد من عباد الله المكرمين، (بل أكرم عباد الله طرّاً)، ولأنّه ذو مقام معنوي استحق به منزلة النبوّة أو الإمامة، والله سبحانه وعد المتوسّلين بهصلى‌الله‌عليه‌وآله بقبول أدعيتهم، وإنجاح طلباتهم فيما إذا قصدوا الله عن طريقه(٣) .

لا بل هناك أحاديث كثيرة تأمرنا وتحضّنا على الابتداء بالدعاء وإنهائه بالصلاة على محمد وآل محمد (صلوات الله وسلامه عليهم)؛ لأنّها مفتاح القبول للدعاء كما في الحديث الشريف:((مَنْ كانت له إلى الله (عزّ وجلّ) حاجة

_____________________

١ - كشف الارتياب في أتباع محمد بن عبد الوهاب / ٢٧٣.

٢ - سورة النساء / ٦٤.

٣ - التوحيد والشرك في القرآن الكريم / ١٨٤.

٣٣٣

فليبدأ بالصلاة على محمد وآله، ثمّ يسأل حاجته، ثمّ يختم بالصلاة على محمد وآل محمد؛ فإنّ الله (عزّ وجلّ) أكرم من أن يقبل الطرفين ويدع الوسط، إذ كانت الصلاة على محمد وآل محمد لا تحجب عنه)) (١) .

نعم، إنَّ أحد أعظم موارد استجابة الدعاء ذكر الحبيب المصطفى محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأنّ ذكره واجب ومندوب، وفاضل ومرغوب في كلّ زمان ومكان.

٣ - حقيقة الشفاعة:

يقول محمد بن عبد الوهاب: إن قال قائل: الصالحون ليس لهم من الأمر شيء، ولكن أقصدهم وأرجو من الله شفاعتهم. فالجواب: إنّ هذا قول الكفّار سواء بسواء، وأقرأ عليهم قوله تعالى:( الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى ) (٢) .

وقوله تعالى:( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ ) (٣) .

وإن قال: إنّ النبي أُعطي الشفاعة، وأنا أطلبها ممّن أعطاه الله.

فالجواب: إنّ الله أعطاه الشفاعة ونهاك عن طلبها منه فقال تعالى:( فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً ) (٤) .

وأيضاً فإنّ الشفاعة أعطيها غير النبي، فصحَّ أنّ الملائكة يشفعون،

_____________________

١ - الكافي ٢ / ٤٩٤ ح١٦.

٢ - سورة الزمر / ٣.

٣ - سورة يونس / ١٨.

٤ - سورة الجن / ١٨.

٣٣٤

والأولياء يشفعون.

أتقول: إنّ الله أعطاهم الشفاعة فأطلبها منهم؟

فإن قلت هذا رجعت إلى عبادة الصالحين التي ذكرها الله في كتابه(١) .

إنّ هذا الكلام كذر الرماد في العيون تماماً، فما معنى أن يعطيك الله الشفاعة وينهاني عن طلبها منك، فما قيمة هذه الشفاعة إذن؟

ولكن هذه حجّة مَنْ لا حجّة له؛ لأنّه صح أنّ الله أعطى الشفاعة للأنبياء والأولياء والملائكة وحتى الخواصّ، كالوالدين والأصدقاء من المؤمنين.

فإذا صحَّت وثبتت بالكتاب والسنّة، فإنّه علينا أن نبحث لها عن تأويل، ونلتفّ عليها لنفرّغها من محتواها العقائدي.

فلاُولئك المتفلسفين من السلفيين نقول: إنّ للمسألة ثلاثة أركان أساسيّة:

١ - جهة الشفاعة المطلقة: هي لله سبحانه( قُلْ للهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً ) (٢) . أي أنّ المشفوع إليه هو الله؛ لأنّه صاحب الحساب والعقاب في الآخرة.

٢ - جهة الشفاعة النسبية: هي لِمَنْ أعطاه الله إذناً بالشفاعة؛ لكرامة أو قرب أو أي أمر معنوي له. وهذه ثابتة لِمَنْ ذكرنا من قبل، وهؤلاء شفاعتهم مأذونة (بإذن الله)؛ لأنّه [قال سبحانه]:( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ ) (٣) ، [وقال:] ( مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ) (٤) .

_____________________

١ - كشف الشبهات / ٩.

٢ - سورة الزمر / ٤٤.

٣ - سورة البقرة / ٢٥٥.

٤ - سورة يونس / ٣.

٣٣٥

[وقال أيضاً:]( يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ ) (١) .

[وكذلك قال:]( وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى ) (٢) .

هذه الآيات المباركات وأُخرى غيرها تؤكّد أنّ الشفاعة لا تكون إلاّ بإذن الله تعالى.

٣ - جهة الطلب: أي مَنْ يطلب الشفاعة، وهو العبد الفقير المحتاج إلى شفاعة شافع من نبي كريم، أو إمام مبين أو غير ذلك؛ ليرحمه الله ويغفر له ذنوبه، ويدخله الجنة بالرحمة والشفاعة المقبولة.

وهؤلاء المساكين يحتاجون في تحقّق الشفاعة إلى أمرين اثنين:

١ - أن يكون الشفيع مأذوناً له في الشفاعة.

٢ - أن يكون المشفوع له مرضيّاً عند الله(٣) .

وأين هذا من الشرك يا عقلاء العالم؟! فإذا اعتقدنا بالشفاعة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وطلبناها منه، فهل هذا يعني أنّنا نعبد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونجعله صنماً نعبده من دون الله، وتُستباح لذلك دماؤنا؟! ويحكم علينا أتباع ابن عبد الوهاب بالقتل والسبي وغير ذلك؟! أين هذا من دين الإسلام الحنيف يا عباد الله؟!

وسيكون لنا وقفات وحوارات، وقصص وروايات مع هذه الجماعة فيما بعد؛ لنرى التعصّب والتبلّد الذي يضرب بعرض الحائط كلّ ما جاء به القرآن

_____________________

١ - سورة طه / ١٠٩.

٢ - سورة الأنبياء / ٢٨.

٣ - التوحيد والشرك في القرآن الكريم / ١٦٣.

٣٣٦

الكريم، والعقل السليم، والرسول العظيم محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم.

ب) توحيد العبادة:

العبادة الحقّة التي تعني الخضوع الكامل مع اعتقاد إلهيّة المعبود، أو المتوجّه إليه بالطاعة، تعدّ من ضروريات الدين الإسلامي، والمتّفق عليه من جميع طبقات المسلمين، بل من أعظم أركان اُصول الدين: اختصاص العبادة بالله ربّ العالمين.

ولذا نقول في صلواتنا كلّ يوم عشر مرّات:( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) ؛ لأنّه لا يستحقّها غيره، ولا يجوز إيقاعها لغيره، ومَنْ عبد غيره فهو كافرٌ مشرك؛ سواء عبد الأصنام، أو عبد أشرف الملائكة، أو أفضل الأنام.

وهذا لا يرتاب فيه أحد ممّن عرف دين الإسلام(١) .

ولكن شذّاذ الآفاق وشواذ العصور المتأخّرة يقولون: ومن الشرك ما يفعله كثير من الناس من النذر لغير الله والذبح لغيره، كما يفعل عند قبور الصالحين وغيرهم.

فكما إنّ مَنْ صلّى وسجد لغير الله فقد أشرك، فكذلك مَنْ نحر وذبح لغير الله فقد أشرك، ومن هنا حذّر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أُمّته من اتّخاذ القبور مساجد؛ حتّى لا يقع الناس في الشرك بسبب الغلو في الصالحين(٢) .

_____________________

١ - الوهابيّة واُصول الاعتقاد / ٢٢.

٢ - معلومات مهمة عن الدين / ١٥.

٣٣٧

نقول نعم، العبادة لله وحده، ويجب أن تكون خالصة مخلصة لوجهه الكريم دون أيّ شريك، وهذا ما نستفيده ونتعلّمه من القرآن الكريم، لا سيما أُمّ الكتاب التي نقرؤها في الصلوات كلّها قائلين:( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) .

وتقديم (إيّاك) على الفعل (نعبدُ) تفيد الحصر كما يقول أهل اللغة والتفسير، أي أنّنا نقول: نحصر العبادة، والاستعانة بك يا الله، فلا نعبد ولا نستعين بأحد إلاّ بك وحدك، وما على أهل الكفر والإيمان إلاّ التوجّه والبحث في جميع كتب التفسير حول هذه الآية المباركة في سورة الفاتحة.

وهذا ما نقرؤه في سورة الكافرون، والعشرات من الآيات القرآنية في مختلف السور، كقوله تعالى:( إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ للهِ أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيَّاهُ ) (١) .

وقوله تعالى:( وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (٢) .

وعبادة الله وحده كانت آخر وصايا الأنبياءعليهم‌السلام لأبنائهم وذويهم وأُممهم، كما قصَّ سبحانه وتعالى لنا وصيّة نبيّ الله يعقوبعليه‌السلام :( أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) (٣) .

تلك هي العبادة المخلصة التي أمر الله بها رسوله الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله وأُمّته

_____________________

١ - سورة يوسف / ٤٠.

٢ - سورة التوبة / ٣١.

٣ - سورة البقرة / ١٣٣.

٣٣٨

المرحومة، كما في قوله تعالى:( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) (١) .

وقوله تعالى:( قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي ) (٢) .

فالعبادة كما يقول أهل العربية: هي غاية الخضوع والخشوع والتذلّل والسجود، ووضع المكارم على الأرض أمام المخضوع له، وهذا لا يجوز إلاّ لله وحده؛ ولذا فإنّك ترى المسلمين والمؤمنين عندما يذهب أحدهم إلى زيارة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو أولياء الله ويصلّون صلوات الزيارة فتراهم يقولون في عقبها: (اللهمّ إنّي صليتُ وركعتُ، وسجدتُ لك وحدك لا شريك لكَ؛ لأنّ الصلاة والركوع والسجود لا تكون إلاّ لك لأنّك أنت الله لا إله إلاّ أنت. اللهمّ صلّ على محمد وآل محمد وأبلغهم عنّي أفضل السّلام والتحية واردُد عليّ منهم السّلام. اللهمّ (وهذه الصلاة) هديةٌ منّي إلى مولاي (وتسمّي المزور). اللهمّ صلّ على محمد وآله وتقبّل منّي وأجُرني على ذلك بأفضل أملي ورجائي فيك وفي وليك يا وليّ المؤمنين)(٣) .

_____________________

١ - سورة الزمر / ٦٥ - ٦٦.

٢ - سورة الزمر / ١٤.

٣ - مفاتيح الجنان / ٥٠٣.

٣٣٩

وربما تقول: وَأجُرني عليهما شفاعته لي يوم القيامة، أو يوم الورود عليك.

وهذا كما تقرأ يا أخي المؤمن، إقرار اللسان الذي ينبع عن عقد راسخ في الجنان على أنّ العبادة لا تجوز إلاّ لله وحده؛ لأنّه أهل العبادة، وصاحب الاستحقاق لها بالأصالة، وبها يتفرّد دون غيره من الخلق أجمعين.

٣٤٠

الفصل الثالث: حقيقة السجود لغير الله

٣٤١

٣٤٢

حقيقة سجود الملائكة لآدمعليه‌السلام

إنّ هذا السجود إذا كان بأمر من الله، يخرج عن حيّز العبادة للمسجود له إلى حيّز عبادة الآمر بالسجود، كما في قصّة أبينا آدمعليه‌السلام وسجود الملائكة له، وورود ذلك في عدد من السور القرآنية، كما في قوله تعالى:( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) (١) .

نسأل: هل كان السجود هنا عبادة لآدمعليه‌السلام أم تعظيماً وتفخيماً وتكريماً له؟!

فالآية تدلّ دلالة قطعية وواقعية واضحة على أنّ آدمعليه‌السلام كان مسجوداً له، وأنّ الملائكة كانوا هم الساجدين، وأنّ الله اعتبر إبليس مستكبراً وكافراً؛ لأنّه لم يسجد لآدم، فهل كان آدم معبوداً إلهاً والملائكة عابدون له والعياذ بالله؟!

لا، إنّ الآية تدلّ على أنّ آدمعليه‌السلام كان مسجوداً للملائكة، ولم يحسب سجودهم له شركاً وعبادة لغير الله، ولم تعدّ الملائكة بذلك العمل مشركة، ولم يجعلوا بعملهم هذا ندّاً لله وشريكاً في المعبودية، بل كان عملهم تعظيماً لآدم وتكريماً لشأنه(٢) .

_____________________

١ - سورة البقرة / ٣٤.

٢ - التوحيد والشرك في القرآن الكريم / ٥١.

٣٤٣

وهنا يمكن أن يكون لدينا عدد من الصور لتفسير أو فهم هذا السجود الملائكي المقدّس لآدمعليه‌السلام ، كما يذهب معظم أهل التفسير قديماً وحديثاً:

- يمكن أن يتصوّر: أنّ معنى السجود لآدم في هذه الآية هو الخضوع له، لا السجود بمعناه الحقيقي المتعارف كسجود الصلاة.

- ويمكن أن يتصوّر: أنّ المقصود بالسجود لآدمعليه‌السلام ، هو جعله (قبلة) كالكعبة المشرّفة، لا السجود له سجوداً حقيقياً.

ولكن كلا التصوّرين باطلان بالدليل:

أمّا الأوّل: فلأنّ تفسير السجود في الآية بالخضوع خلاف الظاهر والمتفاهم العربي؛ إذ المتبادر من هذه الكلمة في اللغة والعرف هو الهيئة السجودية المتعارف عليها لا الخضوع.

وأمّا الثاني: فهو أيضاً باطل؛ لأنّه تأويل بلا مصدر يرجع إليه، ولا دليل يدلّ عليه، هذا مضافاً إلى أنّ آدمعليه‌السلام لو كان قبلة للملائكة لما كان ثمة مجال لاعتراض الشيطان؛ إذ قال:( أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً ) (١) .

لأنّه يلزم أبداً أن تكون القبلة أفضل من الساجد، ليكون أيّ مجال لاعتراضه، بل اللازم هو كون المسجود له أفضل من الساجد، في حين أنّ آدمعليه‌السلام لم يكن أفضل في نظر الشيطان، وهذا ممّا يدلّ على أنّ السجود كان أمام مسجود له.

_____________________

١ - سورة الإسراء / ٦١.

٣٤٤

يقول الجصّاص: ومن الناس مَنْ يقول أنّ السجود كان لله، وآدم بمنزلة القبلة لهم، وليس هذا بشيء؛ لأنّه يوجب أن لا يكون في ذلك حظّ من التفضيل والتكرمة، وظاهر ذلك يقتضي أن يكون آدمعليه‌السلام مفضلاً مكرماً.

ويدلّ أنّ الأمر بالسجود قد كان أراد به الله تكرمة آدمعليه‌السلام وتفضيله، وقول إبليس فيما حكى الله عنه:( أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً * قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ ) (١) .

فأخبر إبليس أنّ امتناعه من السجود لأجل ما كان من تفضيل الله وتكرمته لآدم بأمر إيّاه بالسجود له. ولو كان الأمر بالسجود على أنّه نصب قبلة للساجدين من غير تكرمة له ولا فضيلة، لما كان لآدم في ذلك حظّ ولا فضيلة يُحسد عليها كالكعبة المنصوبة للقبلة(٢) .

وعلى هذا فمفهوم الآية هو: أنّ الملائكة سجدوا لآدم بأمر الله سجوداً واقعيّاً، وأنّ آدم أصبح مسجوداً للملائكة بأمر الله، وهنا أظهر الملائكة من أنفسهم غاية الخضوع أمام آدمعليه‌السلام ، ولكنّهم مع ذلك لم يكونوا ليعبدوه(٣) .

هل السجود ليوسفعليه‌السلام عبادة؟

إنَّ العودة إلى القرآن الكريم واستعراض الآيات التي تحدّثنا عن سجود آخر ولا عبادة للمسجود له، تضعنا أمام قصّة نبيّ الله يوسفعليه‌السلام وأبويه وإخوته،

_____________________

١ - سورة الإسراء / ٦١ - ٦٢.

٢ - أحكام القرآن ١ / ٣٠٢.

٣ - التوحيد والشرك في القرآن الكريم / ٥٢.

٣٤٥

كما تحدّثنا السورة المباركة بقوله تعالى:( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً ) (١) .

ورؤياه التي يتذكّرها هي:( إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ) (٢) .

وقد تحقّقت هذه الرؤيا بعد سنوات عجاف طويلة، بحيث سجد ليوسف أبواه وإخوته جميعاً عندما اجتمع شملهم تحت ظلّه وملكه لمصر، علماً بأنّ أحد الساجدين هو والده يعقوبعليه‌السلام وهو نبيّ كما لا يخفى عليك أخي العزيز.

ألا ترى أنّ تعبير القرآن واضح وصريح بسجودهم ليوسفعليه‌السلام ؟

وعن هذا البيان القرآني يستفاد جليّاً أنّ مجرّد السجود لأحد بما هو مع قطع النظر عن الضمائم والدوافع ليست عبادة، والسجود كما نعلم هو غاية الخضوع والتذلّل(٣) .

إذ أنّه ليس كلّ خضوع بركوع أو سجود أو تذلّل يعتبر عبادة، ويعتبر فاعلها مشركاً بالله كما يذهب أصحاب الفكر الوهابي، والقرآن الكريم يؤيِّد ما نذهب إليه ويدحضهم بكلّ قوّة في العديد من الموارد والآيات المباركة.

إنّ الله سبحانه وتعالى، ورسوله الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله والعترة الطاهرةعليهم‌السلام ، والأولياء والصلحاء والعقلاء يأمرون الولد بالخضوع لوالديه احتراماً

_____________________

١ - سورة يوسف / ١٠٠.

٢ - سورة يوسف / ٤.

٣ - التوحيد والشرك / ٥٣.

٣٤٦

وإجلالاً لهما حتّى ولو كانا كافرين أو مشركين، ويعبر عن ذلك بخفض الجناح لهما، وهو كناية عن الخضوع الشديد والتذلّل لهما، بقوله تعالى:( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً ) (١) .

فهل يا ترى إنّ الله سبحانه عندما أمرنا هذا الأمر بالخضوع والتدلّل للوالدين، أمرنا بعبادتهما والشرك به والعياذ بالله؟! إنّ مثل هذا التفكير السقيم عجيب غريب فعلاً!

عمر والحجر الأسود

وكذلك أمرنا سبحانه وجميع البشر بالحجّ للبيت العتيق، والطواف حوله واستلام الحجر الأسود، والسعي بين الصفا والمروة، والصعود على عرفات للوقوف على صعيده الطاهر، ورمي الجمرات في منى، وغير ذلك من مناسك الحجّ الإسلاميّة التي تنطوي على معاني رفيعة عالية، ومغازي معنوية سامية، ونفعل ذلك بأمر من الله وسنّةٍ من رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا عبادة للحجر والمدر والصخور، وما شابه ذلك من مكوّنات تلك الأماكن المقدّسة الطاهرة.

وهل نشرك بالله في أفعالنا العبادية تلك، لا سيما ونحن نترك الأهل والمال والبلاد ونقصد البيت العتيق؛ لنحجّ إلى الله عبادة وطاعة، وتقرّباً إلى جناب قدسه طمعاً بالمغفرة وزيادة الأجر بالجنّة؟!

والأعجب من هذا وذاك في التفكير السلفي الوهابي اعتصامهم برواية عمر ابن الخطاب الذي يحتجّ بها الشيخ عبد العزيز إمام المسجد النبوي الشريف،

_____________________

١ - سورة الإسراء / ٢٤.

٣٤٧

بمحاورة له مع بعض الإخوة الكرام حيث يقول عمر للحجر الأسود بعدما قبّله: (إنّي أعلم أنّك حجر لا تنفع ولا تضرّ، ولولا أنّي رأيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يقبّلك ما قبّلتك)(١) .

ولكن هذا الشيخ ذُهل عن جواب الإمام عليعليه‌السلام لعمر في نفس الموقف حين بيّن له غلط عقيدته، وأعطاه الصحيح ببيانه الفصيح، حين قال له:((نعم والله، إنّه ليضرّ وينفع؛ لأنّه الحجر الذي وضع فيه ميثاق الخلق عندما جمعهم الله في عالم الذرّ، وألقمه لهذا الحجر وكان أبيض من الثلج، وهو من حجار الجنّة، وسوف يشهد لكلّ مَنْ أتاه واستلمه يوم القيامة)) (٢) .

والرواية معروفة ومشهورة، وأقنعت عمر بن الخطاب في حينها، ولكنّها لم تقنع هؤلاء البشر في هذه العصور؛ لأنّهم يرون أنّ السجود والركوع، واستلام الحجر الأسود، والخضوع والتذلّل هو من الشرك الأكبر الذي يخرج من الملّة، أو الأصغر الذي يُفَسَّق صاحبُه ويُعذَّر، وإلاّ فليقتل والعياذ بالله.

فهل يمكن أن يفكّر بمثل هذا التفكير عاقل يا عقلاء الدنيا؟! أين العقل؟! هل هو نائم أو مخدّر تحت تأثير الفضائيات الداعرة أو المخدّرات القاتلة؟ أم أنّه في إجازة طويلة الأمد؟ أم أنّه محكوم عليه بالإعدام قهراً تحت ظلام الدعوات الباطلة؟!

لقد جاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ليثير لكم دفائن العقول منذ أكثر من ١٤٠٠ عام، فلماذا حبستم عقولكم في قمقم معظم، وجلدتم أنفسكم بسياط الجهل القاسية

_____________________

١ - صحيح البخاري ٢ / ٥٧٩ كتاب الحجّ ح ١٥٢٠.

٢ - التفسير الكبير - للفخر الرازي ١٦ / ٣٢ قريب من هذا المعنى.

٣٤٨

من دعوة ضالّة جاءت بتعاليم بعيدة عن الفطرة؟!

اقرؤوا ما كتب إليه أخوه سليمان بن عبد الوهاب وغيره من العلماء الأعلام الغيارى على دين الإسلام الحنيف، وسيأتيكم بعض منه في البحوث القادمة بإذن الله.

العبادة عند النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله

وفي الجملة نقول: ليس مطلق الخضوع عبادة، وإلاّ لكنّا وقعنا جميعاً في الشرك، ووقع معنا حتّى رؤوس الفكر السلفي؛ وذلك لأنّهم يخضعون للآباء والأُمّهات، ويأمرون أولادهم وأزواجهم بالخضوع لهم، ويتذلّلون للأمراء والكبراء ويخضعون لهم بعض الخضوع.

فالتواضع ولين الجانب وسعة الصدر، وبعض الأخلاقيّات التي تشتمل على بعض الخضوع ليست من العبادة في شيء، بل هي أخلاقيّات إنسانيّة رائعة لا يمكن أن نتخلّى عنها.

فالاحترام والتقدير ليس عبادة، وإلاّ فإنّ الله سبحانه أمر المسلمين بعدم رفع الصوت أمام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعدم الجهر له بالقول، وعدم مناداته من وراء الحجرات، وعندما كثرت مناجاتهم لهصلى‌الله‌عليه‌وآله أمرهم بدفع صدقة قبل المناجاة، فلم يعمل بهذا الأمر الإلهي إلاّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام كما هو مشهور في السيرة وكتب التفسير كلّها.

وكُتب السنن فيها الكثير من الأحاديث التي تحكي عن تعظيم وتقدير المسلمين لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله واحترامه احتراماً يبهر كلّ غريب جاء إليهم، وكانوا يتسابقون إلى أوامره ويطبقونها في كلّ صغيرة وكبيرة، حتّى أنّهم كانوا يتبرّكون

٣٤٩

بفضل وضوئه، ويتطببون بلمسه أو بشمِّ عرفه (عرقه)؛ لأنّه أطيب من المسك والعنبر.

يروى أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خرج إلى البطحاء في وقت الظهيرة فتوضأ وراح يصلّي، فقام الناس (المسلمون) فجعلوا يأخذون يده فيمسحون بها وجوههم، والرواي يقول: فأخذت بيده فوضعتها على وجهي، فإذا هي أبرد من الثلج، وأطيب رائحة من المسك(١) .

هذا فعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه الأوائل، فهل هذا عبادة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من دون الله؟! وفاعله مشرك بالله والعياذ بالله؟! إنّ هذا القول لإفك عظيم!

فالعبادة - عزيزي القارئ - هي الخضوع والخشوع مع اعتقاد جازم بإلهيّة المخضوع له المعبود، أو أنّها الخضوع اللفظي أو العملي الناشئ عن الاعتقاد بألوهيّة المخضوع له.

ومن العلماء مَنْ وضع هذا التعريف في قالب آخر حيث قال: إنَّ العبادة هي الخضوع ممّن يرى نفسه غير مستقل في وجوده وفعله أمام مَنْ يكون مستقلاً بنفسه غنيّاً عن غيره.

والعبادة بهذا المعنى هي نداء الله تعالى وسؤاله والخضوع التامّ أمامه، لاستنزال حاجات الدنيا والآخرة للعبد؛ لأنّ الله هو الفاعل الحقيقي،

_____________________

١ - صحيح البخاري ١ / ١٨٣ كتاب الصلاة ح ٤٧٩، وما يُقارب هذا المعنى راجع الأحاديث رقم: (١٥٨ - ١٨٦ - ١٨٧ - ٣٦٩ - ٣٣٤٧ - ٣٣٤٨ - ٥٣٤٦ - ٥٥٢١ - ٥٩٩١).

٣٥٠

والمتصرّف المختار، والمالك الكلّي لأمور الدنيا والآخرة كلّها، والمتصرّف فيها بالتدبير الحكيم، ولو دعا العبد أو نادى أيّ موجود آخر في هذه الحياة بهذا الوصف تماماً أو بعضاً، فالدعاء والنداء عبادة له وشرك بلا كلام أو نزاع في ذلك.

وعلى ذلك، فلو خضع واحد منّا أمام موجود زاعماً بأنّه مستقل في ذاته أو فعله لصار الخضوع عبادة، بل لو طلب فعل الله من غيره لكان هذا الطلب نفسه عبادة وشركاً(١) .

هذا هو المعنى الحقيقي للعبادة، وليس كلّ ما يذهب إليه أتباع محمد بن عبد الوهاب من أنّ كلّ خضوع أو خشوع، أو دعاء أو استغاثة، أو زيارة هي عبادة لذاك الذي نتوجّه إليه؛ لأنّ التوجّه إلى أيّ شيء أو أحد دون اعتقادٍ جازمٍ بألوهيةٍ، أو جزءٍ من ألوهيةٍ في مَنْ نتوجه إليه، أو أنّه يملك استقلالية ذاتية في تصرّفه، أو تصريف شؤون أو بعض شؤون هذا الكون الفسيح لا يعتبر عبادة أو شركاً.

_____________________

١ - التوحيد والشرك في القرآن الكريم / ٨٨.

٣٥١

٣٥٢

الفصل الرابع: الرسول الأعظم في الفكر الوهابي

٣٥٣

٣٥٤

كُتب الكثير الكثير عن الرسول الأعظم محمد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من أُمّته ومن خارج هذه الأُمّة، منذ أن ظهر إلى الوجود بشخصه المبارك، ولا سيما بعد أن بدأ دعوته الإسلاميّة الميمونة.

فكان القمّة الإنسانيّة التي لا تُرتقى، بل ينظر إليها كما النجوم في السماء، لا بل هو شمس الوجود وقطب دائرتها النوراني.

ولطالما أُعجب به البشر من كلّ صنف ونوع من بني آدم على مختلف الألوان والقوميّات في الدنيا، ومختلف الأديان والانتماءات العقائديّة كذلك، حتّى أنّ الكفّار وأهل الشرك اعترفوا بعظمته وعلوّ مكانته على أقرانه، ولا أقران له كما نعتقد.

ولذا تراهم كلّما كتب كاتب عن الأنبياء والعظماء والمصلحين والأطهار، ترى اسم النبيّ محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله يكون على قمّة الهرم كما يقول الكاتب الغربي المشهور (مايكل هارت) في كتابه (المائة الأوائل).

نعم، لقد بهر العقول وحيّر الألباب بعظمته وعلوّ همّته، ورسالته التي نعتنق وندين لله بها، وكم كتب النصارى عن شخصيّة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ معبّرين عن مدى إعجابهم وحبّهم لذاك الرمز الخالد الذي جعله الله للبشرية

٣٥٥

قدوة وأسوة بقوله تعالى:( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً ) (١) .

هذا هو البشير النذير والسراج المنير. هذا هو العلم الشامخ والنور الباهر. هذا هو الرسول العظيم والنبي الكريم هو خاتم الأنبياء، وسيد البشر من الأوّلين والآخرين الذي أفرده الله سبحانه بالرسالة الخاتمة، وقال عنه:( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ) (٢) .

إنّ المتأمّل في هذه الجملة النورانيّة، وهذا الوصف الكريم لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يرى أنّه تفرّد به دون غيره من الأنبياء والرسلعليهم‌السلام .

فكلّ نبيّ كان يبشّر قومه بالرسول الذي بعده، وكلّ رسول كان يبشّر بالرسول الذي يليه، وجميعهم كانوا يبشّرون بالرسول الخاتم المصطفى محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمن نوحعليه‌السلام إلى إبراهيم الخليلعليه‌السلام ، ومنه إلى موسى الكليمعليه‌السلام وعيسى المسيحعليه‌السلام الذي قال مبشّراً:( وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) (٣) .

فكلّهم كانوا محطّات نورانيّة وأساسيّة في الحركة التكامليّة والمسيرة الرساليّة في بني البشر، ولكن عندما وصلت إلى المحطّة النهائيّة والرسول الخاتمصلى‌الله‌عليه‌وآله كانت قد وصلت إلى القمّة؛ إذ أنّه ليس بعده نبيّ ولا رسول، وليس بعد

_____________________

١ - سورة الممتحنة / ٦.

٢ - سورة الفتح / ٢٩.

٣ - سورة الصف / ٦.

٣٥٦

رسالته رسالة تنزل من السماء إلى الأرض لتخلّص البشريّة من العذاب والعناء.

فـ (محمد رسول الله) أي أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله هو الذي يستحق أن يُطلق عليه هذا الوصف دون غيره. فمحمد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وكفى به رسولاً، وإذا ذكر هو يذهل الإنسان عن كلّ رسول غيره.

أقول: نعم، إنّ الرسول الحقّ هو محمد دون غيره، رغم أنّ إخوانه من الرسل السابقين كانوا حقائق موجودة، ولكن إذا ذُكر العظيم ذُهل عمَّن هم أقلّ منه عظمة.

فكيف تعامل الفكر السلفي والوهابي مع هذا الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟! كيف تناولوا ذكره ووصفه، والصلاة عليه، وسيرته وسنّته؟!

وكيف بالتالي تعاملوا مع أهله الأطهار الأبرارعليهم‌السلام وذريّته المباركة؟!

تلك هي المعضلة الكبرى، أن تقرأ ما يقولونه أو يطرحونه حول ذاك الحبيب الإلهي وأهل بيته وخاصّته وذريّته الكرام (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).

إنّ أصحاب هذه الدعوة أرادوا أن يصنعوا إسلاماً مشوّهاً على مقاساتهم وأفكارهم، مستفيدين من الدين وسماحته، فراحوا( يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ) (١) ، ويلفِّقون الأحاديث، ويخترعون الأخبار والروايات الكاذبة، ويجتزئون ويقطعون المرويّات الصحيحة والمتواترة في هذه الأُمّة المرحومة.

عمدوا إلى الاُصول فشوَّهوها، وإلى الفروع فحرَّفوها، وإلى السَّنن

_____________________

١ - سورة النساء / ٤٦.

٣٥٧

فبتروها، فكان لديهم مسخ باطل سمّوه ديناً.

يتعلّقون بالقشور ويتركون اللباب، يبهرهم المصباح ولا يسألون عن الكهرباء التي نوّرته، حتّى إنّ أكابرهم وفي أواخر القرن العشرين أنكروا المسلّمات التي عرفها صبياننا، ككروية الأرض ودورانها حول نفسها أو حول الشمس.

فهل سمعت بهذا من قبل؟! أو قرأت كهذا في مثل هذا العصر؟

إنّ هذه الأمّة لم تقدّر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حقّ قدره، وأمّا هؤلاء فسأدع الحكم عليهم إليك عزيزي القارئ، وإليك الكلام وبعض أطرافه فقط.

محمد طارش وليس بسيّد!

سيّدنا رسول الله محمد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله خاتم الأنبياء وسيّد المرسلين.

كم قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :((أنا سيّد ولد آدم ولا فخر)) (١) كما روته كتب السيرة والسنن؟

ومن البديهي المتعارف أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله سيّد البشر من أُمّة ربيعة ومضر، لا بل من كلّ البشر.

فهو السيّد المطاع، والقائد المعظّم، وهذا ما لم يرق لأصحاب الفكر الوهابي السلفي، فقالوا: لا يجوز إطلاق لفظ السيادة على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

لا بل تجرّأ أحد المتأخّرين إلى القول: إنّه يجوز إطلاق لفظ السيادة على أيّ إنسان إلاّ سيّدنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بدعوى أنّ هذا يجرّ إلى عبادته من دون الله تعالى.

_____________________

١ - وسائل الشيعة ٢٥ / ٢٣، بحار الأنوار ٩ / ٢٩٤.

٣٥٨

كيف نعبد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا أطلقنا عليه لفظاً يمكن أن نطلقه على كلّ أحد، وهو الجدير بهذا الوصف دون غيره، هذا الذي لا أدريه ولا أعرف كيف توصّلت عبقرية ذاك الأستاذ إليه؟!

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله سيّد البشر وسيّد ولد آدم، وسيّد الأنبياء والمرسلينعليهم‌السلام ، هذه بديهيات؛ ولذا كان الصحابة ينادونه: (يا سيّدي) كما تشهد كتب السيرة والسنن، فلماذا لا يجوز أن نطلقها على رسولنا الكريم (صلوات الله عليه وآله)، وتطالبنا أن نطلقها عليك؟!

وليس هذا فقط، بل إنّ بعضهم كان ينظر لنفسه على أنّه أفضل أو خير من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله - والعياذ بالله - وأنفع للأُمّة من رسولها؛ لأنّه حيّ ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ميّت!

وذهب آخر إلى القول - وهذا القول منسوب في الحقيقة لابن عبد الوهاب شخصياً -: ما محمّد؟ إنّ عصاي هذه خيرٌ من محمد؛ لأنّها ينتفع بها في قتل الحيّة ونحوها، ومحمّد قد مات ولم يبقَ فيه نفعٌ أصلاً، وإنّما هو طارش وقد مضى!

ولا شكّ أنّ هذا الكلام كفرٌ بالإجماع، وهذه الجملة الأخيرة: (هو طارش) من محمد بن عبد الوهاب كما هو معلوم، وتعني في لغة أهل الشرق: المرسل من قوم إلى آخرين (ساعي بريد)، فيعني بهذا القول أنّه (صلوات الله عليه وآله) حامل كتب (رسائل)، أي غاية أمره أنّه كالطارش الذي يرسله الأمير أو غيره في أمرٍ لأناسٍ؛ ليبلّغهم إيِّاه ثمّ ينصرف(١) .

_____________________

١ - السلفية الوهابيّة / ٧٧، عن روضة المحتاجين لمعرفة قواعد الدين - للشيخ رضوان العدل بيبرس / ٣٨٤.

٣٥٩

وساعي البريد كما هو معلوم شخص مجهول في معظم الأحيان، بل هو مُهان كذلك لدناءة وظيفته عند الجهّال، وتأثيره فيمَنْ يرسل إليهم لا يتعدّى الخبر الذي يحمله، أو الرسالة التي يبلغها إليهم إذا ما عرف فحواها، ويتركهم ويمضي دون ذكر أو تأثير في حياتهم الخاصّة أو العامّة إلاّ أن يذكره ذاكر.

فهل كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كذلك؟( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ) !

ولا أدري وربما لا أفهم من معنى الكلمة غير الذي فهمه وشرحه ذاك الشيخ الجليل؛ لأنّ الطرش تعني ببعض لغات العرب: (الدواب) لا سيما الماشية (الغنم والمِعزَى) خاصة.

ويكون (الطارش) هو صاحب (الطرش) والمسؤول عنه: أي الراعي. وكما هو معلوم فإنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يرعى الغنم في مكة المكرّمة في بدايات شبابه وأوائل صباه، وبالرواية عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله :((ما من نبيّ ولا رسول إلاّ ورعى الغنم، إلاّ إدريس فإنّه كان بزازاً (خياطاً))) (١) .

أعتقد والله العالم أنّهم يعنون أنّ رسول الله كان راعياً للغنم لا أكثر ولا أقل، فما عساه أن تكون قيمته عندهم وهو بهذه الوظيفة!

والأدهى قول أحدهم: إنّ محمّداً رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله زينة كالخاتم في اليد للزينة، إنّه خاتم باليد فقط، وينزع خاتمه من يده للإيضاح أمام مَنْ يسمعه، فهل سمعت بهذا التفسير العجيب الغريب؟!

_____________________

١ - وسائل الشيعة ١٧ / ٤١، مستدرك الوسائل ١٣ / ٢٦.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580