الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية

الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية6%

الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية مؤلف:
الناشر: ياس زهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 580

الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية
  • البداية
  • السابق
  • 580 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 194161 / تحميل: 8245
الحجم الحجم الحجم
الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية

الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية

مؤلف:
الناشر: ياس زهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

تحدّثنا عن عداء السلفية لرسول الله محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبيّنا كيف كان يمنع محمد بن عبد الوهاب من الصلاة على الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وربما يعاقب مَنْ يرفع صوته بها.

وتحدّثنا عن عدائهم للإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، وهو ميزان الأعمال، وميزان ما بين الإيمان والكفر بالعقيدة.

وتحدّثنا عن عدائهم ومحاربتهم لأهل البيتعليهم‌السلام عامّة باعتبارهم ذرّية الحبيب المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله وعترته التي اختارها الله، وأوصى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الأُمّة بها، وكانت مودّتهم أجر الرسالة الخاتمة.

وبقي علينا فرع كريم من الأصل العظيم، إنّه الحسين بن عليعليهما‌السلام ومحنته الكبرى في هذه الأُمّة، ودماؤه الزكية وأبناؤه وإخوته وأصحابه من الشهداء الذين كُتب الإسلام بدمائهم على صفحات الوجود.

فما هو موقف السلفية والوهابيّة من هذا الإمام العظيم، وشهادته المفجعة على بطاح كربلاء؟

المولى أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام الذي قال الله عنه الكثير من آيات القرآن المجيد، وقال عنه جدّه الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله الكثير الكثير من الأحاديث التي

٣٨١

تجعل من الإمامعليه‌السلام :((مصباح هدى وسفينة نجاة)) (١) و (سيّد شباب أهل الجنّة)(٢) و (ريحانة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وقرّة عين البتول)(٣) و (الإمام إن قام وإن قعد).

وقد تقدّم في القسم الأوّل - المناقب والأخلاق الحسينيّة - بعض الإشارات التي لاحت لنا من نوره الوضّاء، واستطعنا أن نستفيد منها لا سيما ما يتعلّق بالأخلاق والقيم الإنسانيّة الإسلاميّة التي مثّلها الإمامعليه‌السلام بشخصه الكريم في حياة المسلمين على أرض الواقع.

وأهل الإنصاف من كلِّ نِحلة ودين ودنيا عندما يقرؤون عن الحسين بن عليعليه‌السلام ، وما جرى عليه من مصائب وأهوال حتّى قُتل شهيداً مظلوماً سعيداً، راضياً مرضيّاً عند الله ورسوله، يتأثّرون بتضحياته الجسام ويتّخذونه قدوة وأسوة.

فكم من مسيحي تأثّر بالإمام الحسينعليه‌السلام وكتب عنه الدراسات والمؤلّفات، كأنطون بارا وسليمان الكتاني، وغيرهما من علماء النصارى حتّى قال قائلهم: لو أنّ لنا شخصاً كالإمام الحسينعليه‌السلام لصنعنا له تمثالاً من ذهب نضعه في مدخل كلّ قرية.

وقال آخر: بل لوضعناه في كلّ بيت ولدعونا الناس إلى المسيحيّة باسم

_____________________

١ - موسوعة البحار ٣٦ / ٢٥ ح٨.

٢ - سنن الترمذي ٥ / ٦٥٦ ح٣٧٦٨، باب مناقب الحسن والحسينعليهما‌السلام .

٣ - كنز العمال ١٢ / ١١٣ ح٣٤٢٥١، ينابيع المودة / ١٩٣، الفصول المهمة / ١٥٢.

٣٨٢

الحسينعليه‌السلام المظلوم(١) .

وكم من الثوار استفاد من سيرة وسنّة الإمامعليه‌السلام في تحرير بلدانهم، ألم يقل المهاتما غاندي محرّر الهند من الاستعمار البريطاني: (تعلّمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر)؟!

وأمّا علماء الإسلام من مختلف المذاهب فإنّ حصر الكتب التي كتبوها عن الإمام السبط الشهيد متعذّر وليس بالمقدور؛ ذلك لأنّ ما لم يطبع أكثر من المطبوع، والمجهول منها أكثر من المعلوم، ورغم كلّ ذلك فإنّ المكتبات تضجّ بالكتب عن سيد الشهداء وأبي الأحرار الحسين بن عليعليه‌السلام .

رغم ذلك كلّه ورغم كلّ الآيات التي شملت الإمامعليه‌السلام ، والأحاديث التي رويت في الإمام الشهيد، وأقوال العلماء من كلّ الأديان والأمم وبكلّ لسان، رغم ذلك كلّه فعند السلفية: أنّه قُتل بسيف جدّه!

نعم، إنّها فتوى قاضي القضاة لعشرات السنوات، إنّه شريح القاضي هو الذي أطلق تلك الفتوى ليُرضي سيّده يزيد (لعنة الله عليه)، ويُغضب الربّ الجليل وسيّد الخلقصلى‌الله‌عليه‌وآله حين قال: إنّ الحسين قُتل بسيف جدّه.

وكذلك ذهب القاضي أبو بكر ابن العربي المالكي في كتابه (العواصم من القواصم) إلى أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام قُتل بسيف جدّه وشريعته(٢) .

وكم طبع هذا الكتاب ووزّع في الأسواق بالمجان وبلا أثمان؛ لما فيه من التعصّب المقيت

_____________________

١ - انظر الحسين في الكفر المسيحي / ٢٤.

٢ - راجع: العواصم من القواصم في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله / ٢٢٩، طباعة السلفية، القاهرة ١٣٧١ هـ.

٣٨٣

والتهجّم على أهل البيتعليهم‌السلام وأتباعهم بلا ذنب ولا سبب.

وذلك - على ما يدّعي - لأنّ الإمام الحسينعليه‌السلام خرج على الخليفة الحاكم، وهو لا يستحق الخلافة، وليس للإمامة أهلاً - والعياذ بالله -، فثار على يزيد وسلطانه فقتله؛ لأنّه أراد الفتنة بالأُمّة، وهذا حكمه القتل والتنكيل.

فبالحكم الشرعي الذي ينصّ على وجوب قتل الخارج على الخليفة قُتل الإمام السبط الشهيد (عليه السّلام)، ويزيد لم يفعل إلاّ واجبه بقتل الإمام الحسينعليه‌السلام وأصحابه!

ولن نطيل الكلام في هذا المقام، بل سأنقل لك أيّها القارئ الكريم فقرات وكلمات من شيخ الإسلام السلفي ابن تيمية، رأس الجماعة وعالمهم، وآراءه في النهضة الحسينيّة المباركة، ورموز أعدائها يزيد وجيشه؛ لتعلم مدى تعلّق هؤلاء الناس بالدين الإسلامي الحنيف ورموزه المقدّسة.

فما عساه يقول ابن تيمية في النهضة وقائدها العظيم سيد شباب أهل الجنةعليه‌السلام ؟

بادئ ذي بدء نتذكّر كلمات الإمام الحسينعليه‌السلام التي يعرب فيها عن فلسفته في المسألة وأسبابها ودوافعها وما الذي يريده منها.

قال المولى أبو عبد الله الحسين (صلوات الله وسلامه عليه) في البيان الأوّل للنهضة أمام والي المدينة ووزيره مروان بن الحكم، حين أمر الوليد أن يضرب عنق الإمام إن لم يبايع:((أيّها الأمير، إنّا أهلُ بيت النبوّة، ومعدنُ الرسالة، ومختلف الملائكة، ومحلُّ الرّحمة، بنا فتح الله وبنا يختمُ، ويزيدُ رجلٌ فاسقٌ، شاربُ الخمور، وقاتلُ النّفس

٣٨٤

المحرّمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يُبايع مثله، ولكن نُصبح وتُصبحون، وننظرُ وتنظرون أيُّنا أحقُّ بالخلافة والبيعة)) (١) .

هذا هو البيان النهضوي الأوّل وفيه: رفض البيعة لمثل يزيد الفاسق الفاجر.

والإمام السبط الشهيد عندما أراد الخروج من المدينة قاصداً مكة المكرّمة في أيّام الحجّ، كتب وصيته لأخيه محمد بن الحنفية، ويا لها من وصية نورانيّة رائعة يقول فيهاعليه‌السلام :((وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مُفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي، أُريدُ أن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب، فمَنْ قبلني بقبول الحقِّ فالله أولى بالحقّ، ومَنْ ردَّ عليّ هذا أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقّ وهو خير الحاكمين)) (٢) .

فالإمام الحسينعليه‌السلام خرج على يزيد ليس لأنّه حاكم الدولة الإسلاميّة، لا بل لأنّه فاسق فاجر، ولا يمكن أن يكون مثلُه حاكماً للمسلمين؛ لأنّه بعيد كلّ البعد عن الإسلام وعن أخلاقيّاته وعقائده السمحة.

ولم يخرج نزهة بسبب الترف والرفاهيّة، ولا طمعاً في الحكم والرئاسة، بل كان الهدف سامياً، والغاية نبيلة، والمطلوب عمل دؤوب ودماء زاكيات تسيل، وأجساد طاهرة تُقطّع، وستور وخدور تُنتهك.

_____________________

١ - مقتل الحسين - للمقرّم / ١٣١، مثير الأحزان / ٢٤، مقتل الحسين - للخوارزمي ١ / ١٨٤، الفتوح ٥ / ١٤.

٢ - مقتل الحسين - للمقرّم / ١٣٩، العوالم / ٥٤، مقتل الخوارزمي ١ / ١٨٨، المناقب ٤ / ٨٩، الفتوح ٥ / ٢٣.

٣٨٥

وذلك كلّه لطلب الإصلاح لهذه الأُمّة التي عدلت بها بنو أُميّة عن جادة الصّواب إلى السبل الشيطانيّة المختلفة، وكان التدهور قد وصل إلى أن تسنّم كرسي القيادة العليا مثل يزيد الخارج عن الإسلام، بل هو إلى دين أُمّه أقرب وإلى طباعهم أنسب.

فأُمّة الحبيب المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله غدت مهدَّدة بالاضمحلال، وديانته أصبحت مهدَّدة بالانحلال إذا لم يخرج الحسين مُعلناً الرفض لهذا الحاكم العنيد والطاغية يزيد الذي زاد على كلّ الأعمال الخبيثة التي قام بها أبوه وجدّه من قبل في محاربة الإسلام ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولكنّ المصيبة عند السلفية والوهابيّة تكمن هنا بالضبط، وبالذّات قول الإمامعليه‌السلام : ((وأسيرَ بسيرةِ جدّي وأبي عليّ بن أبي طالب))؛ لأنّهم لا يريدون لسيرة وسنّة علي بن أبي طالبعليه‌السلام أن تكون هي السائدة، ولا لكلمته أن تكون هي العليا في الحياة الإسلاميّة، مع أنّ ذلك لأجل الحقّ تعالى، وهل بعد الحقّ إلاّ الضلال المبين!

وكثيراً ما خطب الإمام الحسينعليه‌السلام خلال مسيرته المظفَّرة ووعظ الناس، ونبّه الأُمّة إلى المخاطر المحدقة بها من حكومة يزيد، وها هي بعض الكلمات التي قالها الإمام الحسينعليه‌السلام أمام جيش يزيد؛ ليعتذر إلى الله بقيام الحجّة عليهم:((أيُّها الناس، إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال: مَنْ رأى سُلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً بعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يعملُ في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر ما عليه بفعلٍ ولا قولٍ كان حقّاً على الله أن يُدخله مدخله، ألا وإنّ هؤلاء (بنو أُميّة وأزلامهم)قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد،

٣٨٦

وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلُّوا حرام الله وحرّموا حلاله، وأنا أحقُّ مَنْ غيّر ...)) (١) .

تنبّه لخطاب المولى أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ؛ فإنّه ينادي الناس، أيّ الذين يتّصفون بالإنسانيّة، وأمّا مَنْ تبلّد قلبه وتجلّد عقله فإنّ هذا النداء لا يخصّه، كاُولئك الخوارج عن الإنسانيّة.

والإمام الحفيد يحدّث عن جدّه الرسول (صلوات الله عليهما وآلهما) مباشرة ودون وسائط كأبي هريرة الدوسي، أو كعب الأحبار اليهودي، أو غيره من المدلّسين، أو الذين وقع عليهم الجرح والتعديل في علم الرجال، بل سيّد شباب أهل الجنّة يروي عن سيّد البشر وخاتم الأنبياءعليهم‌السلام هذه الرواية والتي تضعنا أمام شمس الحقيقة.

إنّ تحكّم سلطان جائر وجب على كلّ حرٍّ أن يكون ثائراً؛ إمّا باليد والسيف، أو الكلمة والقلم، ولا مجال لأضعف الإيمان (بالقلب) إذا كانت بيضة الإسلام وشريعته مهدّدة بالانحراف والضياع.

وهذا بالضبط كان حال الأُمّة الإسلاميّة حين وصل بها السقوط والتسافل؛ ليتسنم الحكم والقيادة السياسية شخص فاسد فاسق منافق كيزيد بن معاوية بن أبي سفيان، ويسلّط زبانيته ورجاله الساقطين على هذه الأُمّة ويستهلكون مقدّراتها؛ ولذا فقد وجب النهوض للإصلاح، وحرم السكوت والخنوع؛ لأنّ الأُمّة

_____________________

١ - الكامل في التاريخ ٤ / ٤٨.

٣٨٧

والملّة يتهدّدها طغيان يزيد وجلاوزته من صبيان أُميّة اللعناء على لسان الوحي وسيّد الأنبياء والرسل (صلوات الله عليهم أجمعين وآله الطاهرين).

فمَنْ ينهض بهذا الواجب إلاّ المؤمن التقيّ؟ ومَنْ يخنع للفاسق إلاّ الفاسق أو الجبان الشقيّ؟ ولكن قد تسأل ماذا فعل صبيان أُميّة وزعيمهم يزيد؟

الجواب يأتيك من بطل التوحيد الإمام الحسين الشهيد (سلام الله عليه) في الخطاب نفسه، فقد كان من أفعال هؤلاء ما يلي:

١ - التزام طاعة الشيطان، وقد أمروا أن يكفروا به( إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ) (١) .

٢ - ترك طاعة الرحمان:( وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) (٢) .

٣ - إظهار الفساد، فالزعيم شاربٌ للخمر، لاعبٌ بالقرد والنرد، معلنٌ بالفسق.

٤ - تعطيل الحدود، كيف يقيمونها وهم جهلاء بها، بل وهم أوّل المستحقين لإقامتها عليهم؟!

٥ - الاستئثار بالفيء، فقد استهلكوا اقتصاد الأُمّة الذي فيه حياتها ورفاهها.

٦ - أحلّوا حرام الله؛ كالخمر، والزنى، والقتل وغيرها.

٧ - حرّموا حلال الله.

ألا تكفي هذه البنود السبعة لمعرفة أحوال الجماعة في الديانة والتدين؟

_____________________

١ - سورة فاطر / ٦.

٢ - سورة الأنبياء / ٩٢.

٣٨٨

بلى والله، إنّها لتكفي واحدة منها لتخرجهم من حظيرة الدين الحنيف وتعيدهم إلى حظائر أجدادهم وما كانوا يعبدونَ، كاللاّت والعزّى ومناة الثالثة الأُخرى التي ما انفك يقسم بها أبو سفيان حتّى آخر أيّام حياته المشحونة بالحقد والحرب لله ولرسوله وللمؤمنين.

ورغم ذلك فقد صار عند هؤلاء من المسلمين الذين حسن إسلامهم، بل ومن المؤمنين الكبار؛ لأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال يوم فتح مكة:((مَنْ دخل دار أبي سفيان فهو آمن)) (١) ، فلم يميّزوا بين الأمن على نفسه من القتل والمؤمن.

تأمّل في كلام الإمام الحسينعليه‌السلام حيث قال في أواخر حياته:((ألا وإنّ الدعيَّ ابن الدَّعي قد ركز بين اثنتين بين السلّة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة؛ يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنين)) (٢) .

فالقوم خيّروه بين السيف والقتل، أو الذلّ والمهانة!

ولكن هيهات؛ إنّه ابن أبيه علي بن أبي طالبعليه‌السلام الذي قال: (لو اجتمعت العرب على قتالي لما وليت)(٣) ، وربما لو اجتمعت الإنس والجنّ على قتاله أو قتال ولدهعليهما‌السلام لما هربا من ساحة المعركة؛ لأنّ الهارب ذليل وحاشاهم من الذلّ.

لماذا هذا الإباء إذن؟

١ - الله يأبى لهم ذلك.

٢ - رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يأبى لهم ذلك.

_____________________

١ - مسند أحمد ٢ / ٢٩٢.

٢ - موسوعة البحار ٤٥ / ١٠، تاريخ ابن عساكر، ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام / ٢١٦، مقتل الحسين - للخوارزمي ٢ / ٦.

٣ - لعل المؤلّف يقصد قولهعليه‌السلام :((والله، لو تظاهرت العرب على قتالي لما وليت عنها، ولو أمكنت الفرص من رقابها لسارعت إليها)) . راجع شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد ١٦ / ٢٨٩.(موقع معهد الإمامين الحسَنَين)

٣٨٩

٣ - المؤمنون بالله ورسوله يأبون الذلّ لمولاهم وإمامهم.

٤ - حجور طابت وطهرت، وهي فاطمة الزهراءعليها‌السلام وأُمّها خديجة، وغيرهنّ من الطاهرات.

٥ - وأنوف أبيّة، فالإمامعليه‌السلام سيّد أُباة الضيم والأحرار في هذه الدنيا.

كلّ ذلك لماذا؟ من أجل أن لا نؤثر طاعة الشيطان على عبادة الرحمان، فنترك يزيد وجلاوزته يعيثون في الأرض فساداً وفي الأُمّة إفساداً.

فأطلقها مدويّة منذ ذاك اليوم الدامي:((لا والله، لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذلِّيل، ولا أفرُّ فِرار العَبيد)) ، أو((ولا أقرّ لكم إقرار العبيد)) (١) .

النهضة الحسينيّة عند ابن تيمية

هذا بعض ما قاله الإمام الحسينعليه‌السلام ، وتلك هي فلسفته لشرح أسباب نهضته المباركة.

ولكن كيف قرأ السلفيون والوهابيون هذه النهضة العظيمة؟

تلك هي المسألة، وهذا ما نستوضحه في هذه الصفحات نقلاً عن عميدهم وسيّدهم ابن تيمية وليس غيره.

يقول عن شهادة الإمامعليه‌السلام في جملة غاية في الصدق واللطافة: بل تمكّن اُولئك الظَّلمة الطغاة من سبط رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى قتلوه مظلوماً شهيداً(٢) .

ولكن إذا سألته بعد هذه الجملة التي يعترف بها أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام هو

_____________________

١ - إرشاد المفيد / ٢٣٥.

٢ - منهاج السنة النبوية ٢ / ٢٤١.

٣٩٠

سبط رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّه قُتل مظلوماً ليس ظالماً، وأنّ قتلته هم طغاة ظالمون، إذا سألته مَنْ القاتل الظالم، أليس الطاغية يزيد بن معاوية الذي أمر بقتل الإمام ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة؟!

يقول: لا، يزيد بريء من دم الحسين؛ لأنّه أمير المؤمنين! وحاكم سياسي أعلى للدولة، ولذا فإن خروج الحسين على يزيد رأي فاسد؛ لأنّ مفسدته أعظم من مصلحته، وقلَّ مَنْ خرج على إمام ذي سلطان إلاّ كان ما تولّد على فعله من الشرّ أعظم ممّا تولّد من الخير(١) .

وتتعجّب كيف يكون خروج الإمام الحسينعليه‌السلام لا مصلحة ولا خير فيه؟!

وكيف يمكن لإنسان مسلم أن يقول أنّ رأي الإمام الحسينعليه‌السلام فاسد، وأنّ عمله فيه مفسدة للأُمّة الإسلاميّة، وهو الذي خرج لطلب الإصلاح في أُمّة جدّه؟!

اسمعه يقول: ولم يكن في خروجه مصلحة لا في دين ولا في دنيا، وكان في خروجه وقتله من الفساد ما لم يكن يحصل لو قعد في بلده(٢) .

هل يمكن لعاقل أن يتكلّم بهذا، سبحانك هذا بهتان عظيم؟! إذ أنّه كيف لم يرَ هذا الرجل وأتباعه المصلحة المتوخّاة من نهضة الإمامعليه‌السلام ؟ وينفيها من الدنيا والآخرة، كيف ذلك؟ ومن أين له العلم بأحوال الآخرة؟!

ويقول ما هو أدهى وأعظم من ذلك: إنّ ما قصده الحسين من تحصيل الخير

_____________________

١ - منهاج السنة النبوية ٢ / ٢٤١.

٢ - المصدر نفسه.

٣٩١

ودفع الشرّ لم يحصل منه شيء، بل زاد الشرّ بخروجه وقتله، ونقص الخير بذلك وصار سبباً لشرّ عظيم(١) .

لماذا صار الإمام الحسينعليه‌السلام سبباً لشرّ عظيم يابن تيمية المبجّل؟!

يقول: لأنّ خروجه ممّا أوجب الفتن(٢) .

ويعني بالفتن التي كان الإمام الحسينعليه‌السلام سبباً فيها: الثورات المتتالية على بني أُميّة إلى أن أسقطتهم، ورمت بأسطورة معاوية إلى مزابل ونفايات التاريخ، من ثورة المدينة المنوّرة إلى حركة ابن الزبير في مكة المكرّمة مروراً بثورة التوابين، وثورة زيد بن علي بن الحسينعليه‌السلام ، ونهضات تلو نهضات وثورات تعقبها ثورات حتّى أطاح العباسيون ببني أُميّة ودفعوها إلى أرذل ما يمكن.

وهذا ما لا يتمنّاه الجماعة السلفية وشيخهم ابن تيمية الذي كان يريد أن يطول الظلم الأموي، وتدوم الجولة الأمويّة إلى آخر الدهر.

وهذا ما صرّح به مؤسس دولتهم معاوية بن أبي سفيان حين قال للمغيرة بن شعبة نديمة: لا والله، إلاّ دفناً دفناً(٣) . ويقصد الدفن لذكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي يعلن عنه بالأذان خمس مرّات.

ألا تعجب عزيزي القارئ أن يرى الهندوسي مصلحةً بخروج الإمام الحسينعليه‌السلام ويتعلّم منه، والمسيحي يرى كلّ الخير بنهضة الإمام الحسينعليه‌السلام ويتمنّى أن يكون لديهم مثل هذا العظيم؛ ليصنعوا له تماثيل من ذهب، ويدعون

_____________________

١ - منهاج السنة النبوية ٢ / ٢٤٢.

٢ - المصدر نفسه.

٣ - شرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد ٥ / ١٣٠.

٣٩٢

الناس إلى المسيحية باسمه، وقبل هؤلاء جميعاً الله سبحانه وتعالى يقرّر أنّ كلّ المصلحة والخير بنهضة المولى أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ويأمره بالخروج على يزيد.

ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يرى كلّ المصلحة والخير بخروج حفيده الإمام السبط الشهيد فيأمره بالخروج إلى الشهادة؛ لأنّ له مكانة عند الله لا ينالها إلاّ بالشهادة، وأنّ دين الإسلام لن يستمر ويستقيم إلاّ بشهادة سيّد شباب أهل الجنّة.

وأبو الأحرار الحسينعليه‌السلام وكلّ مَنْ معه من آل البيتعليهم‌السلام وأصحابه الكرام يرون الخير والمصلحة بالنهضة، ويأتي ابن تيمية بعد ذلك ليكتشف الحقيقة ويعلنها مدوّيةً على الملأ وكأنّه اكتشف كنزاً من العلم أنّ الإمامعليه‌السلام صار سبباً لشرٍّ عظيم.

لماذا؟! لأنّ خروجه أوجب الفتن(١) !

هل تتصوّر هذا من إنسان يدّعي الانتماء إلى الإسلام والإنسانيّة؟!

ويحتجّ على سبط الرسول وعلينا ببعض تلك الآراء الفاسدة، أو الغير ناضجة ممّن نصح الإمام السبط بعدم الخروج على يزيد، يقول: لذا أشار عليه بعضهم أن لا يخرج، وهم بذلك قاصدون نصيحته، طالبون لمصلحته ومصلحة المسلمين! والله ورسوله إنّما يأمر بالصلاح لا بالفساد(٢) !

_____________________

١ - منهاج السنة النبوية ٢ / ٢٤٢.

٢ - المصدر نفسه ٢ / ٢٤١.

٣٩٣

ولكن الإمامعليه‌السلام لم يخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرج لطلب الإصلاح في أُمّة جدّه، وليسير بسيرة جدّه وأبيه أمير المؤمنين، والله ورسوله قطعاً مع الحسينعليه‌السلام ونهضته، وليس مع يزيد وطغيانه وفساده وتهتّكه.

ولكن دعه مع إمامه يزيد، ودعنا وإمامنا الحسينعليه‌السلام ، خير لبني الإنسان ألف مرة أن يكون فيهم خُلقٌ كخُلق الحسين الذي أغضب يزيد بن معاوية، من أن يكون جميع بني الإنسان على ذلك الخُلق الذي يرضى به يزيد(١) .

إنّه كلام حقّ لا يرضى به ابن تيمية وأمثاله من السلفيّة والوهابيّة الذين يرون ويعتقدون بإمامة يزيد الدينيّة والدنيويّة، ويطالبون السبط الشهيدعليه‌السلام بالبيعة والاعتذار عمّا بدر منه في نهضته؛ لأنّه أوجب الفتن على إمامهم يزيد.

وأعجب شيء أن يُطلب الحسين بن علي أن يبايع مثل هذا الرجل، ويزكّيه أمام المسلمين، ويشهد له عندهم أنّه نِعمَ الخليفة المأمول، صاحب الحقّ في الخلافة، وصاحب القدرة عليها!

ولا مناص للحسين من خصلتين: هذه البيعة، أو الخروج؛ لأنّهم لن يتركوه بمعزل عن الأمر لا له ولا عليه.

إنَّ بعض المؤرّخين من المستشرقين وضعاف الفهم من الشرقيين، ينسون هذه الحقيقة ولا يولونها نصيباً من الرجحان في كفّ الميزان.

وكان خليقاً بهؤلاء أن يذكروا أنّ مسألة العقيدة الدينية في نفس الحسين بن

_____________________

١ - أبو الشهداء الحسين بن علي / ١٠٨.

٣٩٤

علي لم تكن مسألة مزاج أو مساومة، وأنّه كان رجلاً يؤمن أقوى الإيمان بأحكام الإسلام، ويعتقد أشدّ الاعتقاد أنّ تعطيل حدود الدين هو أكبر بلاء يحيق به وبأهله وبالأُمّة قاطبةً في حاضرها ومصيرها؛ لأنّه مسلم ولأنّه سبط محمد، فمَنْ كان إسلامه هداية نفس، فالإسلام عند الحسين هداية في نفس وشرف بيت(١) .

ولكنّ السلفية لا ترى الإسلام هداية نفس، ولا يعتقدون بشرف البيت النبوي؛ لأنّهم يحاربون أهله لا سيما ذرية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

يزيد عند ابن تيميّة

ولابن تيميّة فلسفة خاصّة بالنسبة لأميره يزيد بن معاوية؛ فإنّه المدافع العنيد عن سيّده يزيد، ولا شيء يريد من وراء ذلك إلاّ محاربة أهل البيتعليهم‌السلام وشيعتهم؛ لأنّ يزيد إمام ذو سلطان، وابن تيمية يعتقد بإمامة كلّ مَنْ ركب كرسي السلطنة والإمارة.

ومن المعروف أنّ يزيد متهتّك فاجر على المستوى الشخصي قبل أن يتسلّط على هذه الأُمّة بسلطان والده معاوية الذي اعتبر المدافعون عنه أنّ يزيد أحد أهم مخازيه الموبقة، مقرونة بحربه لأمير المؤمنين عليعليه‌السلام وقتله لحجر بن عدي وأصحابه الشهداء.

فيزيد أُمّه ميسون الكلبيّة النصرانيّة التي لم تتحدّث كتب التاريخ أنّها أسلمت، بل تحدّث التاريخ على تربية ولدها يزيد على أخلاقها وعادات أهلها

_____________________

١ - أبو الشهداء الحسين بن علي / ١١٥.

٣٩٥

من الشرك والكفر وكلّ ما يخرج الإنسان من الدين الإسلامي، كشرب الخمور، وركوب الفواحش كلّها، لا سيما الزنا حتّى بالمحرّمات، وضرب الطنبور واللعب بالقرود والفهود وغير ذلك من الرزايا التي تربّى عليها يزيد بين أخواله النصارى.

هذا الذي قاله عنه عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة عندما خرج من عنده بوفد رسمّي من أهل المدينة المنوّرة: (والله ما خرجنا على يزيد حتّى خفنا أن نُرمى بالحجارة من السماء؛ إنّه رجل ينكح أُمّهات الأولاد، والبنات والأخوات، ويشرب الخمر، ويدع الصلاة)(١) .

كانت إمارة يزيد أقل من أربع سنوات ارتكب خلالها من الكوارث الفاجعة التي ما زالت الدّنيا تتحدّث عنها.

فعل هتلر واحدة فقط باليهود وكما يقولون كذباً وافتراء، وذلك بما يسمّى الهولوكوست (أيّ المحرقة) حيث ادّعوا أنّه أحرق اليهود في ألمانيا؛ لأنّهم العنصر الخبيث في أيّ مجتمع نزلوه، فأقاموا الدنيا ولم يقعدوها وما زالوا يتحدّثون بها في كلّ المحافل الدوليّة، ووسائل الاتصالات العالميّة، مظهرين بشاعة أعمال هتلر الذي أصبح لعنة التاريخ المعاصر.

ولكنّ يزيد فعل أكثر من ذلك بكثير بحيث لا يُقاس عمل أيّ مجرم بأعماله مهما بلغت من الهمجية، ومنها:

١ - في السنة الأولى: قتل الحسين بن عليعليه‌السلام وذريّة الرسول الأعظم

_____________________

١ - تاريخ الخلفاء / ١٦٥.

٣٩٦

محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهل فعل بنو إسرائيل بأنبيائهمعليهم‌السلام كهذا الفعل؟!

٢ - في السنة الثانية: قتل أهل المدينة واستباحها ثلاثة أيام لجيشه ففعلوا الأفاعيل، فهل فعلت النازيّة بستالينغراد كهذا؟!

٣ - في السنة الثالثة: أحرق الكعبة المشرّفة بعد أن رماها بالمنجنيق، فهل فعل نيرون الذي أحرق روما أبشع من فعلة الحجّاج؟!

٤ - وفي السنة الرابعة: قيل أنّه تزوّج عمّته - والعياذ بالله -، وهذا لا يفعله الأوادم ولا حتّى الحيوانات، إلاّ الخنازير وأشباهها من البشر.

هذا الذي فعل كلّ ذلك ما شأنه، وما مكانه عند السلفية وشيخها ابن تيمية؟!

نعم، إنّه معذور في أعماله كلّها وذلك لسببين:

١ - لأنّه إمام ذو سلطان ويحقّ له أن يفعل ما يشاء في سلطانه.

٢ - لأنّه متأوّل، فإذا أحسن فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر واحد، فهو مأجور على كلّ حال، فإذا قتل الحسينعليه‌السلام بتأوّله فإنّه يُخطئ إذا كان مخطئاً وله أجر اجتهاده عند الشيخ ابن تيمية!

يقول الشيخ بتأويل يزيد: (وأمّا أهل التأويل المحض فاُولئك مجتهدون مخطئون، خطؤهم مغفورٌ لهم، وهم مثابون على ما أحسنوا فيه من حسن قصدهم واجتهادهم في طلب الحقّ واتّباعه)(١) .

هذا الكلام يقوله ابن تيمية في الجدال عن يزيد، وتبريراً لأخطائه؛ فمن

_____________________

١ - رأس الحسين / ٢٠٤.

٣٩٧

المناسب جدّاً أن يدعمه باتّفاق العلماء على أنّهم لا يكفّرون أهل القبلة بمجرّد الذنوب ولا بمجرّد التأويل، (فلماذا تكفّر السلفية الأُمّة كلّها إذن) وأنّ الشخص الواحد إذا كانت له حسنات وسيئات فأمره إلى الله تعالى(١) !

ويزيد من أين له هذه الحسنات أيّها الشيخ؟!

قلَّب الشيخ أوراق التاريخ فلم يجد إلاّ ما تقدّم من يزيد: تاركاً للصلاة، ملازماً للخمور، ولا تفارقه الأغاني والغانيات، ملاعباً للكلاب والقرود والفهود، لا علاقة له بالدين، وجلّ علاقته من هذه الدنيا نيل كلّ ما استطاع من الشهوات واللذائذ المحرّمة بلا رادعٍ من دين ولا وازعٍ من ضمير.

وهذا ما لا يرضاه الشيخ في إمامه، فغاص في التاريخ إلى قعره فوجد ما يتمسّك به وهو: وكان له موقف في القسطنطينية - وهو أوّل جيش غزاها - ما يعدّ من الحسنات(٢) .

وا ويلاه! أيّ حسنة تلك التي وجدتها أيّها الشيخ في ذهاب إمامك يزيد مع الجيش الذي توجّه إلى القسطنطينية، أيّة حسنة ليزيد في ذلك يا عقلاء المسلمين؟!

وربما تزداد عجباً من جعل هذا الفعل حسنة ليزيد إذا علمت يا عزيزي الكريم كيف شارك يزيد في ذلك الجيش، خذها من المؤرّخين!

قال ابن الأثير في أحداث سنة ٤٩ هجرية: (في هذه السنة وقيل سنة خمسين

_____________________

١ - رأس الحسين / ٢٠٦.

٢ - المصدر نفسه / ٢٠٧.

٣٩٨

سيَّر معاوية جيشاً كثيفاً إلى بلاد الروم للغزاة، وجعل عليهم سفيان بن عوف، وأمر ابنه يزيد بالغزاة معهم، فتثاقل واعتلّ، فأمسك عنه أبوه.

قال: فأصاب الناس في غزاتهم جوعٌ ومرض شديد، فأنشأ يزيد يقول:

ما إن أُبالي بما لاقت جموعهمُ

بالفَرقَدونة من حمّى ومن مُومِ

إذا اتكأتُ على الأنماطِ مرتفقا

بدير مُرّانَ عندي أُمّ كلثومِ

وأُمّ كلثوم امرأته بنت عبد الله بن عامر. (هكذا قالوا والحقيقة بضمير الغيب)، فبلغ معاوية شعره، فأقسم عليه ليلحقنّ بسفيان في أرض الروم، فسار معه جمع كثير أضافهم إليه أبوه(١) .

وأنت تقرأ هذه السطور التي لخّص فيها العلماء حسنة يزيد بالخروج إلى أرض الروم، تلك الحسنة التي كانت رغماً عن أنفه، وليس بشجاعته أو صولته وجولته؛ لأنّه لا يصول ويجول إلاّ في أحضان النساء.

إنّ مدى تعلّقه بالجهاد، وحبّه للفتوح الإسلاميّة واضح للعيان، ومدى اهتمامه بذاك الجيش الجرّار من المجاهدين كذلك، فهو (ما إن أبالي بما لاقت جموعهم)، كيف يبالي إذن وهو (بدير مران) ذاك الدير النصراني معتكفاً فيه لحاجاته وديانته يعبد هواه وشيطانه( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ ) (٢) .

حسنة يزيد يا شيخ ما هي إلاّ أتفه سيئة له، فكيف صارت عندك حسنة

_____________________

١ - الكامل في التاريخ ٣ / ٤٥٨.

٢ - سورة الجاثية / ٢٣.

٣٩٩

ترفع عنه موبقة استباحة المدينة وقتل الأصحاب والتابعين لهم بإحسان، لا إله إلاّ الله ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله؟!

هذه الحسنة التي ترفع السيئة عند ابن تيميّة لسيّده ومولاه يزيد، ولكن أين التأويل في بقيّة أعمال يزيد؟

خذها من الشيخ نفسه:

١ - قتل الإمام الحسينعليه‌السلام :

يقول: إنّ يزيد لم يظهر الرضا بقتله، وأنّه أظهر الألم لقتله، والله أعلم بسريرته، وقد عُلم أنّه لم يأمر بقتله ابتداءً، ولكنّه كان مع ذلك ما انتقم من قاتليه، ولا عاقبهم على ما فعلوا إذ كانوا قتلوه لحفظ ملكه، ولا قام بالواجب في الحسين وأهل بيته، ولم يظهر له من العدل وحسن السيرة ما يوجب حمل أمره على أحسن المحامل، ولا نقل أحد أنّه كان على أسوأ الطرائق التي توجب الحدّ(١) .

فيزيد لم يقتل ولا حتّى أمر بالقتل، ولكنّه لم يعاقب القاتل؛ لأنّه فعل ذلك لمصلحته، وهذا أمر عادي في عرف الملوك، وأعظم ما كان منه أنّه لم يحلم عن الإمام الحسينعليه‌السلام ويحمله على العدل وحسن السيرة، إلاّ أنّ ذلك لا يوجب حدّاً وتنكيلاً وهذا بإجماع العلماء، ولست أدري أيّ علماء إلاّ علماء السلفيّة والوهابيّة.

ولا داعي للتعليق على كلّ هذه الدعاوي الباطلة بداية ونهاية، إلاّ أنّني أنقل ما نقله المؤرّخون عن الأمر بقتل سيّد الشهداءعليه‌السلام الذي صدر من يزيد،

_____________________

١ - رأس الحسين / ٢٠٧.

٤٠٠

ولا أتعدّى القاتل المباشر للإمام ألا وهو عبيد الله بن زياد.

قالوا: عاش عبيد الله بن زياد بعد موت يزيد فاضطربت عليه الأحوال في العراق فخرج إلى الشام ومعه مئة رجل من الأزد يحفظونه، وفي بعض الطريق رأوه قد سكت طويلاً، فخاطبه أحدهم ويدعى مسافر بن شريح اليشكري، فقال له: أنائمٌ أنت؟

قال: لا، كنت أحدّث نفسي.

قال له مسافر: أفلا أحدّثك بما كنت تحدّث به نفسك؟

قال: هات.

قال مسافر: كنت تقول: ليتني كنتُ لم أقتل حسيناً.

فقال عبيد الله بن زياد: أمّا قتلي الحسين فإنّه أشار إليّ يزيد بقتله أو قتلي، فاخترتُ قتله(١) .

وكذلك كان أمر يزيد لوالي المدينة بأخذ البيعة أو القتل، وإلى والي مكة بقتل الإمامعليه‌السلام ولو كان متعلّقاً بأستار الكعبة، كلّ ذلك من بديهيات المؤرّخين كما قرأت من قبل، ولكنّ الشيخ ابن تيمية كان يتمنّى لو قاد إمامه يزيد الجيش مباشرة لقتل إمامنا الحسينعليه‌السلام ، وإبادة ذريّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى يرضى، وربما يعدّها من حسناته كذلك.

_____________________

١ - الكامل في التاريخ ٤ / ١٤٠.

٤٠١

٢ - واقعة الحرّة:

واستباحة المدينة لثلاثة أيّام بعد المقتلة العظيمة التي مُني بها أهل الإيمان في مدينة الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله التي قال فيها النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله :((المدينة حرمٌ ما بين عابر إلى ثور (١) ، فمَنْ أحدث فيها حدثاً أو آوى مُحدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً ...)) (٢) .

وكثيرة هي الأحاديث في فضل وحرمة المدينة المنوّرة المباركة، أمّا يزيد فإنّه وجّه إليها جيشاً جرّاراً بقيادة مسرف بن عقبة فقتل الثوّار، وحاصر المدينة واستباحها لمدّة ثلاثة أيّام حتّى ولدت فيها ألف بكر لا يعلم آباؤهم، وكانوا يزوّجون بناتهم ولا يسألون عنها.

ولكن ماذا يقول ابن تيمية: فأمّا أهل الحرّة فإنّهم لمّا خلعوا يزيد وأخرجوا نوّابه أرسل إليهم مرّة بعد مرّة يطلب الطاعة فامتنعوا، فأرسل إليهم مسلم بن عقبة المرّي وأمره إذا ظهر عليهم أن يبيح المدينة ثلاثة أيام، وهذا هو الذي عظم إنكار الناس له من فعل يزيد(٣) .

هكذا كان إمامه معذوراً في وقعة الحرّة، وفي قتل أهلها من الصحابة حتّى لم يكد ينجُ منهم أحد، وهم الصحابة الكبار من المهاجرين والأنصار وأبنائهم؛ لأنّ تأويله وغيرته على ملكه ومحاولة حفظه كان أولى، وهو الذي يقول فيهم: إنّ مَنْ طعن بأحد منهم فهو أضلّ من حمار أهله.

_____________________

١ - هما جبلان؛ الأوّل في المدينة، والآخر في مكة. النهاية ١٠ / ٢٢٩.

٢ - كنز العمال ١٢ ح ٣٤٨٠٥.

٣ - منهاج السنة النبوية ٢ / ٢٥٣.

٤٠٢

ولكنّ الذي لم يكن له حقّ فيه: هو استباحة المدينة وانتهاك أعراض المسلمين؛ ولهذا يُبرر بأسلوبه الساخر: لكنّه - أي يزيد - لم يقتل جميع الأشراف، ولا بلغ عدد القتلى عشرة آلاف، ولا وصلت الدماء إلى قبر النبيّ(١) !

وا ويلاه من هذا الكلام! وكأنّك تحسّ من كلام الشيخ أسفه وحسرته إذ لم يقتل الجميع، وتصل الدماء إلى قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا حول ولا قوّة إلاّ بالله على هذا الكلام!

فيزيد متأوّل وإمام مُخطئ، ولكنّ أهل المدينة هم المعتدون لشقّ عصا الطاعة والخروج على الإمام يزيد؛ ولذا فهم يستحقّون ما وقع لهم، ولذا أخذ مسلم بن عقبة البيعة ممّن بقي من أهل المدينة على أنّهم عبيد أرقّاء ليزيد بن معاوية، ولكن كيف ذلك وما تأويلها عند ابن تيمية، علمه عنده؟

٣ - إحراق الكعبة المشرَّفة:

أمّا عن إحراق الكعبة ورميها بالمنجنيق حتّى تهدمّت بقيادة طاغية بني أُميّة (الحجّاج بن يوسف الثقفي) فقد قال المؤرّخون: إنّ جيش يزيد لما قضى على حركة أهل المدينة في وقعة الحرّة توجّه إلى مكة قاصداً ابن الزبير الذي كان معتصماً بها، فحاصروه ورموه بالمنجنيق حتّى أحرقوا الكعبة، فصعد قاضي ابن الزبير ينادي: يا أهل الشام، هذا حرم الله الذي كان مأمناً في الجاهليّة فاتقوا الله.

_____________________

١ - منهاج السنة النبوية ٢ / ٢٥٣.

٤٠٣

فيصيح الشاميّون: الطاعة الطاعة! الكرّة الكرّة! الرواح قبل المساء!

فلم يزالوا على ذلك حتّى احترقت الكعبة، وقال أهل الشام: إنّ الحرمة والطاعة اجتمعتا، فغلبت الطاعة الحرمة(١) .

ولكن ماذا يقول ابن تيمية: إنّ حريق الكعبة لم يقصده يزيد، وإنّما كان مقصوده حصار ابن الزبير، والضرب بالمنجنيق كان له (لابن الزبير) لا للكعبة، ويزيد لم يهدم العكبة ولم يقصد إحراقها، لا هو ولا نوّابه باتّفاق المسلمين(٢) !

هل تضحك أم تبكي عزيزي القارئ من هذا الكلام؟! هل قرأت مثل هذا التبرير السلفي لأفعال يزيد؟!

ابن تيمية ولعن يزيد

بعد كلّ الذي تقدم، وكلّ هذا الدفاع المستميت عن يزيد، هل تتوقّع من الشيخ أن يسمح بلعن يزيد الذي صارت لعنته كلعنة الشيطان، أصبحت مضرباً للأمثال عند الأُمّة الإسلاميّة حتّى يُقال: العن يزيد ولا تزيد.

ومعنى القول: إنّ يزيد هو الوحيد الذي يستحق اللعنة من هذه الأُمّة المرحومة، أو أنّه من أوائل مَنْ يستحقّون ذلك، ولكن لعنته المتّفق عليها بين علماء الأُمّة وعوامها على حدّ سواء هي باطلة عند ابن تيمية.

إنّ الشيخ ابن تيمية ألّف كتاباً سمّاه (فضائل معاوية ويزيد وأنّه لا يُسبّ)

_____________________

١ - ابن تيمية حياته وعقائده / ٣٧٩.

٢ - منهاج السنة النبوية ٢ / ٢٥٤.

٤٠٤

وكانت دعواه من حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :((لا يكون المؤمن لعّاناً)) (١) .

وإليك أوّلاً رأي الإمام أحمد بن حنبل بلعن يزيد بن معاوية:

قيل للإمام أحمد: أتكتب حديث يزيد؟

فقال: لا، ولا كرامة، أوَ ليس هو الذي فعل بأهل الحرّة ما فعل؟!

وقيل له: إنَّ قوماً يقولون: إنّا نحبّ يزيد.

فقال: وهل يحبّ يزيداً أحد يؤمن بالله واليوم الآخر؟!

فقال له ابنه صالح: فلماذا لا تلعنه؟

فقال الإمام أحمد: ومتى رأيت أباك يلعن أحداً ...، وكيف لا يُلعن مَنْ لعنه الله تعالى في كتابه؟!

فقيل له: وأين لعن الله يزيد في كتابه؟

فقال: في قوله تعالى:( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * اُولئك الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ) (٢) .

وهل يكون فساد أعظم من قتل الحسينعليه‌السلام ؟!

وقد قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ) (٣) .

وأيّ أذى أشدّ على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله من قتل الحسين الذي هو له ولابنته البتول

_____________________

١ - سنن الترمذي ٣ / ٢٥٠ ب ٧١ ما جاء في اللعن والطعن ح٢٠٨٨.

٢ - سورة محمد / ٢٣.

٣ - سورة الأحزاب / ٥٧.

٤٠٥

قرّة عين(١) .

وهل تعلم عزيزي القارئ أنّ ابن تيمية ينقل هذا الحديث إلاّ أنّه يختصره كعادته عندما ينقل مثل هذه الروايات، ويقف عند قول الإمام أحمد لولده متى رأيت أباك يلعن أحداً، فيكتب في آخر الرواية (انتهى)؛ لإشعار القارئ بانتهاء الرواية إلاّ أنّها لم تنتهِ، ولكنّ التعصّب هو الذي ينهي الرواية حيث يشاء الشيخ.

واللطيف في القضية أنّ شيخاً من تلاميذ الشيخ ابن تيمية هو أبو الفرج ابن الجوزي الفقيه الحنبلي، يؤلّف كتاباً يردّ به على كتاب ابن تيمية أسماه (الردّ على المتعصّب العنيد) يقول فيه: إنّ إنكار (ابن تيمية) على مَنْ استجاز ذمّ المذموم، ولعن الملعون من جهلٍ صراحٍ، فقد استجازه كبار العلماء منهم الإمام أحمد بن حنبل، وقد ذكر أحمد في حقّ يزيد ما يزيد على اللعنة(٢) . ويقصد طبعاً الحديث المتقدّم.

فناصر السنّة والمكافح عن السلف والمدافع عن يزيد وأبيه معاوية هو الشيخ ابن تيمية؛ وذلك لحبّه وتعلّقه الشديد بهما. ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول:((المرء يحشر مع مَنْ أحبّ)) (٣) .

حشره الله معهما هو وجميع مَنْ يتولّونه.

قال ابن العماد الحنبلي، قال التفتازاني في (شرح العقائد النسفية): اتفقوا (العلماء) على جواز اللعن على مَنْ قتل الحسين، أو أمر به، أو أجازه، أو

_____________________

١ - الإتحاف بحبّ الأشراف / ٦٤.

٢ - الردّ على المتعصّب العنيد / ١٣.

٣ - تفسير ابن عربي ١ / ٤٢ تفسير آية ٢٤ من سورة البقرة.

٤٠٦

رضي به.

والحقّ إنّ رضا يزيد بقتل الحسين، واستبشاره بذلك وإهانته أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ممّا تواتر معناه، وإن كان تفصيله آحاداً فنحن لا نتوقّف في شأنه، بل في كفره وعدم إيمانه، لعنة الله عليه وعلى أنصاره وأعوانه(١) .

والشبراوي يقول: ولا يشكّ عاقل أنّ يزيد بن معاوية هو القاتل للحسينعليه‌السلام ؛ لأنّه هو الذي ندب عبيد الله بن زياد لقتل الحسين(٢) .

ماذا تحكم على ابن تيمية بعد هذه الأقوال، وهو ممّن رضي بقتل الإمام الحسين بن عليعليه‌السلام ودافع عن قاتله، وبرّر أعماله وأجازه في كلّ ما فعل؟!

موضوعية اللعن في القرآن الكريم

يطول ويكثر الطعن علينا نحن شيعة أهل البيتعليهم‌السلام ويتّهموننا بلعن أو سب الصحابة أو غيرهم من المسلمين. والمسألة تطول إلاّ أنّني سأوجزها بأسطر قليلة وآيات من الذكر الحكيم فقط؛ نتبيّن من خلالها رأي الإسلام الحنيف بمسألة اللعن.

إنّ المعنى المتعارف لللّعن: هو الطرد والإبعاد من رحمة الله، فهي إلى الدعاء أقرب منها إلى السباب أو الشتائم؛ لذا تراك إذا كنت تريد أن تلعن أحداً تقول: اللهم العن فلاناً، أو العنه، أي اطرده من رحمتك، وأبعده من ساحة قدسك، فهي إذن أمر عادي لِمَنْ يستحقّه.

وردت هذه المادة (لَعْنْ) في القرآن الكريم (٤٠) مرّة بمختلف الصيغ

_____________________

١ - شذرات الذهب ١ / ٦٩.

٢ - الإتحاف بحبّ الإشراف / ٦٢.

٤٠٧

والاشتقاقات اللغوية والتي بلغت (١٧) اشتقاقاً أكثرها كان:

(لَعْنَة) ١٣ مرّة.

(لعنهم) ٧ مرّات.

(لَعنهُ) ٣ مرّات.

(يَلعنُ) و (يلعنهم) و (لُعنوا) كلّ واحدة مرّتين.

وباقي الاشتقاقات، وهي لَعَنَ، لَعَنَتْ، لَعنَاً، لعنَّاهم، نَلعنهم، إلعنهُمْ، لُعِن، لَعْنَتي، اللاّعنون،، مَلعونين، الملعونة، وردت مرّة واحدة فقط.

فمَنْ الذين لعنهم الله في كتابه العزيز؟

أ) الشيطان اللعين الرجيم. ولعنته من البديهيات الإسلاميّة بقوله تعالى:( إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاّ شَيْطَاناً مَرِيداً * لَعَنَهُ اللهُ ) (١) .

وقال تعالى:( قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ) (٢) .

فهو ملعون مطرود من رحمة الله إلى يوم البعث والحساب.

ب) أصناف من البشر، لعنهم الله بصفاتهم وأعمالهم مثل:

١ - الكافرون، بقوله تعالى:( إنَّ اللهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً ) (٣) .

_____________________

١ - سورة النساء / ١١٦ - ١١٧.

٢ - سورة ص / ٧٧ - ٧٨.

٣ - سورة الأحزاب / ٦٤.

٤٠٨

( فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ) (١) .

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ اُولئك عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) (٢) .

٢ - الظالمون، بقوله تعالى:

( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) (٣) .

( وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) (٤) .

( يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ) (٥) .

٣ - الكاذبون، بقوله تعالى:

( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (٦) .

( وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ) (٧) .

_____________________

١ - سورة البقرة / ٨٩.

٢ - سورة البقرة / ١٦١.

٣ - سورة الأعراف / ٤٤.

٤ - سورة هود / ١٨.

٥ - سورة غافر / ٥٢.

٦ - سورة آل عمران / ٦١.

٧- سورة النور / ٧.

٤٠٩

٤ - المفسدون في الأرض، بقوله تعالى:

( وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ اُولئك لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ) (١) .

٥ - الذين يرومون المحصنات ويقذفونهنّ ببهتان، والعياذ بالله، قال تعالى:

( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (٢) .

٦ - الذين يؤذون الله ورسوله، بقوله تعالى:

( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً ) (٣) .

٧ - المنافقون، في قوله تعالى:

( وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً ) (٤) .

٨ - علماء السوء ووعّاظ السلاطين، وذلك بقوله تعالى:

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ

_____________________

١ - سورة الرعد / ٢٥.

٢ - سورة النور / ٢٣.

٣ - سورة الأحزاب / ٥٧.

٤ - سورة الفتح / ٦.

٤١٠

وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً * اُولئك الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً ) (١) .

ج) هناك اليهود، من اللعناء الذين تكرّرت لعنتهم في القرآن الكريم بالتصريح بالاسم، أو الصفات التي كانت تلازمهم كأصحاب السبت، والذين مسخوا قردة وخنازير وعبدوا الطاغوت، وغير ذلك من الصفات من ذلك:

١ - اليهود، في قوله تعالى:

( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ) (٢) .

٢ - أصحاب السبت، بقوله تعالى:

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً ) (٣) .

٣ - المسوخات منهم، بقوله تعالى:

( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ اُولئك شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ) (٤) .

_____________________

١ - سورة النساء / ٥١ - ٥٢.

٢ - سورة المائدة / ٦٤.

٣ - سورة النساء / ٤٧.

٤ - سورة المائدة / ٦٠.

٤١١

٤ - ناقضوا الميثاق، لقوله تعالى:

( فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ) (١) .

٥ - الكافرون منهم، بقوله تعالى:

( وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ ) (٢) .

( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ) (٣) .

بعد هذا الاستعراض السريع للآيات المباركات دون تعليق؛ لأنّني سأترك ذلك للأخ القارئ الكريم.

بقيت لدينا مسألتان هما:

الأولى: وردت في القرآن كلمة (الشجرة الملعونة)، وذلك بقوله تعالى:( وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاّ طُغْيَاناً كَبِيراً ) (٤) .

ذهب المفسّرون وأهل العلم والإنصاف إلى أنّها نزلت بحقّ بني أُميّة، فهم الشجرة المعلونة في القرآن بقصّة ترويها كتب التفسير والسنن، وأنّ تلك الرؤيا التي رآها الحبيب المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله هي رؤيته أنّ صبيان بني أُميّة ينزون على منبره

_____________________

١ - سورة المائدة / ١٣.

٢ - سورة البقرة / ٨٨.

٣ - سورة المائدة / ٧٨.

٤ - سورة الإسراء / ٦٠.

٤١٢

نزو القردة، فأخبر الأُمّة وحذّرها فتنتهم.

وقال بحقّ زعيمهم:((إذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا كرشه، ولن تفعلوا)) .

بروايات مختلفة يعلمها المتتبّعون للسيرة النبويّة المباركة.

وقال كذلك:((اللهمّ العن القائد والسائق والراكب)) (١) عندما رأى أبا سفيان يركب على بعير ويزيد يقوده ومعاوية يسوقه.

الثانية: فهي مكانة اللعن واللاعن لِمَنْ يستحقّ اللعن في كتاب الله العزيز.

والمسألة دقيقة وتحتاج إلى تمحيص وتدقيق، وسأتطرق إليها لأنّها تُهمة شنيعة يلصقها بعض الجهّال بالشيعة، من أنّهم يسبّون ويلعنون، وأنّ المؤمن لا يكون لعّاناً.

أقول وبالله العون: إنّ المؤمن حقّ الإيمان يجب أن يكون لعّاناً لأعداء الله وأعداء رسوله الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله . ولنرى ماذا يقول القرآن الكريم، وهو كلام ربّ العالمين في هذا الخصوص.

جاء في سورة البقرة المباركة الآيات التالية:( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ اُولئك يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ إِلاّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَاُولئك أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ اُولئك عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ

_____________________

١ - بحار الأنوار ٣٠ / ٢٩٥، الاحتجاج ١ / ٢٧٤، شرح نهج البلاغة ٦ / ٢٨٨.

٤١٣

أَجْمَعِينَ ) (١) .

بالتدبر في هذه الآيات المباركة تجد:

- إنّ كتمان الرسالة وبيّنات الهدى يستوجب اللعنة، ويُستثنى منها التائب توبة نصوحاً لوجه الله تعالى.

- إنّ الكفّار والذين ماتوا على الكفر يستحقّون اللعنة كذلك، ولا توبة لهم.

ولكن اللعنة مِمَّن؟ وهنا الشاهد على كلامي.

١ - من الله عزّ وجلّ.

٢ - من الملائكة الكرام.

٣ - من اللاعنين. وقيل: هم الملائكة، ولكنّ الواقع أنّهم المؤمنون؛ لأنّ الملائكة مذكورون.

٤ - من الناس. وهم جميع الناس الذين يمكن أن يلعنوا الكفّار، فلهم ذلك ويؤجرون على عملهم ذاك.

إلاّ أنّه يجب أن لا تخفى عليك هذه المسألة: وهي أنّ اللعنة على الذين يكتمون الآيات من بعد ما عرفوها هي من الله واللاعنين، أي المؤمنين.

أمّا اللعنة على الكفّار، لا سيما الميّتون منهم فهي من الله والملائكة والناس أجمعين؛ لأنّهم أعمّ وأشمل بالكفر من اُولئك الذين يشملهم الصنف الأوّل.

أمّا الذين في الصنف الأوّل فهم أخصّ وألعن؛ ولذا لا تصيبهم إلاَّ اللعنة المجابة

_____________________

١ - سورة البقرة / ١٥٩ - ١٦١.

٤١٤

من الله واللاعنين.

وجاء في آيات سورة آل عمران المباركة ما هو قريب من ذلك من الآيات:( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ * كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * اُولئك جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) (١) .

وبالتدبّر في الآيات نجد:

١ - الدين المقبول عند الله هو الإسلام، ولا يقبل أي دين غيره أبداً.

٢ - مَنْ يترك الإسلام رغبة منه إلى غيره فإنّه يخسر الدنيا والآخرة.

٣ - الله سبحانه لا يهدي المستكبرين الذين يعلمون علم اليقين أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله صادق وأمين، وأنّ القرآن هو من عند الله الحقّ، إلاّ أنّهم ينكرون ويصرّون على ذلك.

٤ - وهؤلاء يستحقّون اللعنة. ومِمَّن هي؟

- من الله تعالى.

- والملائكة الكرام.

- والناس أجمعين.

فالملاحظ في الآيات الآنفة الذكر أنّ اللعن هو مقام عظيم، وأحياناً يكون واجباً على أهل الإيمان والتقى؛ لأنّ أهل العربية يستنبطون ذلك من العطف

_____________________

١ - سورة آل عمران / ٨٥ - ٨٧.

٤١٥

الوارد في الآيات المباركة.

( يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُون ) ، وعليهم( لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) في الموردين، وهذا العطف بالواو على الذّات المقدّسة تعني قدسيّة المعطوف لقداسة المعطوف عليه، وهذا يجب أن لا يخفى عليك أخي العزيز.

وهنا يجب أن نتذكّر مسألة التولّي لأولياء الله والتبرِّي من أعدائهم.

والولاية تعني: الالتزام بعد الإيمان بنهج أولياء الله. وأمّا البراءة فتعني: التبرّي اللساني والقلبي والفعلي من أعداء الله ورسوله والأئمّة الأطهار (صلوات الله وسلامه عليهم).

ولهذا نقرأ في آية الكرسي:( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (١) .

فالكفر بالطاغوت يجب أن يسبق الإيمان كما في الآية المباركة؛ لأنّ الإنسان إذا لم يكفر بالطاغوت وينزعه من قلبه تماماً فإنّه لن يخلص في إيمانه بالله تعالى، وهذا واضح من التشهّد بـ (لا إله إلاّ الله) فالنفي يسبق الإثبات للوحدانية.

ولكن، أسألك عزيزي القارئ ما هي نتيجة هذا البحث؟ هل وجدت أنّ يزيد وأشباهه وأنصاره يستحقّون اللعنة أم لا؟

وإذا كان الشخص تنطبق عليه صفة من الصفات التي تستحق اللعن، فهل سوف تلعنه أم لا؟

_____________________

١ - سورة البقرة / ٢٥٦.

٤١٦

ومَنْ يلعنه الله ورسوله والملائكة، واللاعنون والناس فهل ستوافق على لعنه؟

هذا والأحاديث المرويّة عن رسول الله في السنّة النبويّة الشريفة تؤكّد أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعن الكثير من اللعناء؛ اعتباراً من المستهزئين والمشركين والمنافقين، لا سيما بني أُميّة (الشجرة الملعونة في القرآن)، والشجرة المروانيّة التي قال عنها:((الوزغ ابن الوزغ، الملعون ابن الملعون، عليه اللعنة وعلى مَنْ يخرج من صلبه إلى يوم الدين)) (١) . وعائشة كانت تسميه (فضضٌ من لعنة نبي الله)(٢) .

الصحابة يلعنون بعضهم بعضاً

وكثير من الصحابة لعن بعضهم بعضاً، وصحاح المسلمين مليئة بمثل هذه الأحاديث والأحداث، وإليك واحدة نأخذها من البخاري وشيخه:

قال الحميدي (شيخ البخاري وأستاذه): حدّثنا سفيان، حدّثنا عمرو بن دينار قال: أخبرني طاووس سمع ابن عباس يقول: بلغ عمر بن الخطاب أنّ سمرة بن جندب باع خمراً.

فقال: قاتل الله سمرة، ألم يعلم أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال:((لعن الله اليهود، حرّمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها)) (٣) أي: أذابوها.

ولا يهولنك إذا قرأت في صحيح البخاري كلمة (فلاناً) مكان اسم سمرة بن

_____________________

١ - مقتل الحسينعليه‌السلام - للخوارزمي ١ / ١٨٤.

٢ - الكامل في التاريخ ٤ / ٥٠٧.

٣ - صحيح البخاري ١ / ٩ ح ١٣ من أحاديث عمر.

٤١٧

جندب؛ لأنّه كان يريد أن يُغطّي على عورة هذا الصحابي المفضوحة على الملأ كعورة عمرو بن العاص في صفين.

وهذا ديدن البخاري وعادته في محاولة التغطية والتمويه؛ لأنّه يعتقد بعدالة الصحابة جميعاً دون استثناء، وأنّهم كالنجوم ولا يتطرّق إلى أحدهم الشك، (ومَن طعن بأحد منهم فهو أضلّ من حمار أهله) كما يقول شيخ السلفية ابن تيمية!

ولكن، أسأله وأمثاله، ما رأيه بهذا الصحابي (سمرة بن جندب)، وهذا الطعن واللعن له من الصحابي الثاني عمر بن الخطاب؟!

صحابي يبيع الخمر في عهد عمر، وعمر يلعنه، فهل كان أهلاً للعنة؟ أم أنّ عمر كان كما وصف ابن تيمية؟!

وهذا الصحابي الذي يبيع الخمر هو من أهل النار بنصّ حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما في (سير أعلام النبلاء) للذهبي.

والمشهور أنّه وقع في قدر مملوء بالماء الحار جدّاً فمات بالنار في الدنيا، وله نار الآخرة كما أخبر الصادق الأمينصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ وذلك لكثرة الدماء التي سفكها في عهد بني أُميّة، فكان زياد يستخلفه ستة أشهر على البصرة وعلى الكوفة مثلها.

قال الذهبي: وقتل سَمُرَةُ بشراً كثيراً، وما في الأرض بقعةٌ نشفَتْ من الدم ما نَشفَتْ هذه - يعنون دار الأمارة - قتل بها سبعون ألفاً.

قيل: مَنْ فعل ذلك؟ قال: زيادٌ وابنه (عبيد الله) وسَمُرة (بن جندب)(١) .

_____________________

١ - انظر سير أعلام النبلاء ٣ / ١٨٥ ترجمة ٣٥.

٤١٨

ولا تظنّ أنّ هذا الصحابي الذي يدافع عنه الناس كان يبيع الخمرة ولا يشربها، لا بل كانت لا تفارقه أبداً.

ويحدّث ابن أبي الحديد قائلاً: جاء رجل من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فأتياه فإذا هو سمرة بن جندب، وإذا عند إحدى رجليه خمر وعند الأُخرى ثلج.

فقلنا: ما هذا؟! قالوا: به النقرس.

وإذا القوم قد أتوه، فقالوا: يا سمرة ما تقول لربّك غداً؟ تؤتى بالرجل فيقال لك: هو من الخوارج فتأمر بقتله، ثمّ تؤتى بآخر فيقال لك: ليس الذي قتلته بخارجي ذاك فتى وجدناه ماضياً في حاجته فشبّه علينا، وإنّما الخارجي هذا فتأمر بقتل الثاني؟

فقال سمرة: وأيّ بأس في ذلك؟! إن كان من أهل الجنّة مضى إلى الجنّة، وإن كان من أهل النار مضى إلى النار(١) !

هذا الصحابي الذي رفض نخل الجنّة بضمانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، هو الذي قال بحقّه محمد بن سليم: سألت أنس بن سيرين، هل كان سمرة قتل أحداً؟

قال: وهل يُحصى مَنْ قتل سمرة بن جندب؟! استخلفه زياد على البصرة وأتى إلى الكوفة، فجاء وقد قتل ثمانية آلاف من الناس، فقال له: هل تخاف أن تكون قد قتلت أحداً بريئاً؟

_____________________

١ - سير أعلام النبلاء ٣ / ٧٧، شرح نهج البلاغة مجلد ٣ ج٥ / ١٢١.

٤١٩

قال: لو قتلت إليهم مثلهم ما خشيت(١) !

ويشهد أبو سوار العدوي قائلاً: قتل سمرة من قومي في غداة سبعة وأربعين رجلاً قد جمع القرآن(٢) (أي حفظه)!

أهكذا تكون الصحبة؟!

أو هكذا يكون الصحابة؟! وهكذا تكون العدالة؟!

_____________________

١ - سير أعلام النبلاء ٣ / ٧٧، شرح نهج البلاغة مجلد ٣ ج٥ / ١٢١.

٢ - المصدر نفسه.

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580