الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية

الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية6%

الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية مؤلف:
الناشر: ياس زهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 580

الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية
  • البداية
  • السابق
  • 580 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 190223 / تحميل: 8080
الحجم الحجم الحجم
الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية

الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية

مؤلف:
الناشر: ياس زهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

فقال الأعرابي: مال معه مروءة.

فقال الإمام:((فَإنْ أخْطأهُ ذلِك؟)) .

فقال الأعرابي: فقرٌ معه صبر.

فقال الإمام:((فَإنْ أخْطأهُ ذلِكَ؟)) .

فقال الأعرابي: فصاعقة تنزل عليه من السماء فتحرقه؛ فإنّه أهلٌ لذلك.

فضحك الإمام الحسينعليه‌السلام ورمى إليه بصرّة فيها ألف دينار، وأعطاه خاتمه وفيه فصٌّ قيمته مئتا درهم، وقال:((يا أعرابِيّ، أعْطِ الذَّهبَ إلى غُرَمائِك، واصْرِفِ الخاتَمَ في نفَقَتِكَ)) .

فأخذه الأعرابي وانصرف وهو يقول:( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) (١) .

أسمعت بمثل هذا الدرس العملي والعلمي، وهذا الخُلق الرفيع، وهذه الأخلاق العالية، وهذا الأسلوب التربوي؟!

الإمام العظيمعليه‌السلام عَلِم من ذاك الأعرابي الأدب، وتوسّم فيه الفطنة وحسن التربية، فأراد أن يُعلّم الناس ومَنْ هم حوله، أو الأُمّة ومَنْ يأتي بعده، بهذا الأسلوب الحواري البسيط، الكاشف عن شفافيّة الإمامعليه‌السلام ، ومدى كرمه وتواضعه لأبناء أُمّته، لا سيما طالب الحاجة، فأخرج ما عنده من ظرف وأدب، وأعطاه ما طلب منه من مال ومتاع.

لا يُقال: إنّ في ذلك إهانة للسائل، حاشى للإمامعليه‌السلام ؛ وهو الذي يقول في

_____________________

١ - جامع الأخبار / ١٣٧، موسوعة البحار ٤٤ / ١٩٦، وسورة الأنعام / ١٢٤.

٦١

هذا الباب:((صاحبُ الحاجَةِ لَمْ يُكرِمْ وجْهَهُ عَنْ سُؤالِكَ، فَأكرِمْ وَجْهَكَ عَنْ رَدِّهِ)) (١) .

وبهذا الأسلوب وهذه الطريقة أكرم الأعرابي أيّما إكرام حين عرَّف فضله وعلمه على الملأ، وصار حديثه وقصّته من تراث وسنّة الإمام الحسينعليه‌السلام ، وكفاه فخراً، ومن ناحية أُخرى فإنّه أخذ المال عن استحقاق؛ لأنّه عرف الأسئلة الثلاثة، وهذا أيضاً درس من الإمام بأن نجعل كلّ أمورنا علميّاً وثقافيّاً؛ لكي يُقدّر الإنسان بقدر علمه، ومستواه الثقافي والإيماني والروحي.

عطاء المعروف بقدر المعرفة

وهذه حادثة ورواية أُخرى عن الإمام الحسينعليه‌السلام ، ربما تكون أجمل وأكمل من الأولى، أنقلها لك عزيزي القارئ؛ حتّى لا تظنّ أن القصّة واحدة أو الرواية يتيمة.

روي أنّ أعرابياً من البادية قصد الإمام الحسينعليه‌السلام فسلَّم عليه فرَّد عليه السّلام وقال:((يا أعرابِيُّ، فيمَ قَصَدْتَنا؟)) .

قال: قصدتك في دية مسلّمة إلى أهلها.

قالعليه‌السلام :((أقَصدْتَ أحَداً قَبْلي؟)) .

قال: قصدت عتبة بن أبي سفيان فأعطاني خمسين ديناراً فرددتها عليه، وقلت له: لأقصدنَّ مَنْ هو خير منك وأكرم.

قال عتبة: ومَنْ هو خير منّي

_____________________

١ - كشف الغمة ٢ / ٢٠٨، الكلمة / ١٢٣.

٦٢

وأكرم لا أُمَّ لك؟

فقلت: إمّا الحسين بن عليّ، وإمّا عبد الله بن جعفر (ابن أبي طالب)، وقد أتيتك بدءاً لتقيم بها عمود ظهري، وتردّني إلى أهلي.

فقال الحسينعليه‌السلام :((والذي فَلَقَ الحبَّةَ، وبْرَأ النَّسَمَةَ، وَتَجَلّى بالعظَمَةِ، ما في مِلْكِ ابْنِ بنتِ نبيّكَ إلاّ مئِتا دينارِ فأعطِهِ إيّاه يا غلامُ، وإنّي أسْألُكَ عن ثلاثِ خِصالٍ إنْ أنتَ أجبتَني عنْها أتْمَمتُها خَمْسَمئةَ دينارٍ)) .

فقال الأعرابي: أكلّ ذلك احتياجاً إلى علمي، أنتم أهل بيت النُبُوَّة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة؟!

فقال الإمام الحسينعليه‌السلام :((لا، ولكنْ سَمِعتُ جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: أعطوا المعروفَ بقَدَرِ المعْرِفَة)) .

فقال الأعرابي: فسلْ، ولا حول ولا قوةّ إلاّ بالله.

فقال الإمام الحسينعليه‌السلام :((ما أنْجى مِنَ الهَلَكَةِ؟)) .

فقال: التوكّل على الله.

فقالعليه‌السلام :((ما أرْوَحُ للِمُهمِّ؟)) .

فقال: الثّقة بالنفس.

فقالعليه‌السلام :((أيُّ شيءٍ خيرٌ للعبدِ في حياتهِ؟)) .

قال: عقل يزينه حلم.

فقالعليه‌السلام :((فَإنْ خانهُ ذلكَ؟)) .

فقال: مال يزينه سخاء وسعة.

٦٣

فقالعليه‌السلام :((فإنْ أخْطأهُ ذلك؟)) .

قال: الموت والفناء خير له من الحياة والبقاء.

قال الراوي: فناوله الحسين خاتمه وقال:((بعهُ بمئة دينارٍ)) . وناوله سيفه، وقال:((بعْهُ بمئتي دينارٍ، واذهبْ فقدْ أتْممتُ لكَ خمسمئة دينارٍ)) .

فأنشأ الأعرابي يقول:

قلقتُ وما هاجني مقلقُ

وما بي سقامٌ ولا موبقُ

ولكن طربتُ لآلِ الرَّسول

ففاجأني الشعرُ والمنطقُ

فأنتَ الهمامُ وبدرُ الظلام

ومُعطي الأنامَ إذا أملقوا

أبوكَ الذي فازَ بالمكرمات

فقصَّرَ عن وصفهِ السبُّقُ

وأنتَ سبقتَ إلى الطيّبات

فأنتَ الجوادُ وما تلحقُ

بكم فتحَ اللهُ بابَ الهدى

وبابُ الضلالِ بكم مغلَقُ(١)

هذه الدروس يلزم عرضها للعالم؛ لكي يعي منهج أهل البيتعليهم‌السلام .

وهناك رواية أُخرى قريبة من هذه ترويها كتب التاريخ والفضائل لم أنقلها؛ لكفاية هذا الذي نحن فيه من الدلالة التربويّة، والدروس الأخلاقيّة الرائعة للإمام الحسينعليهم‌السلام في تقدير العلم والاهتمام بالثقافة، واحترام الإنسان المتعلّم، وبكلّ تواضع وروح شفّافة وأريحيّة لا مثيل لها، فسلام الله عليك يا أبا عبد الله الحسين المظلوم.

_____________________

١ - إحقاق الحقّ ١١ / ٤٤٠، موسوعة كلمات الإمام الحسين / ٧٦٤.

٦٤

الفصل الثالث: المواقف الإنسانيّة

٦٥

٦٦

الإنسان هو الإنسان في كلّ زمان ومكان، منذ آدم الأوّلعليه‌السلام وحتى آخر نسمة تطأ وجه هذه الأرض، وهو الغاية وله النهاية.

والإنسان يجب أن ينطلق من إنسانيته التي تميّزه عن الحيوانيّة التي تشمله، ولولا العقل والإرادة وإمكانيّة التعلّم والتمييز بين الحسن والقبيح، أو الخير والشرّ، لكان شأنه شأن أيّ حيوان يسرح ويمرح في المكان والزمان الذي يولد فيه.

فإنسانيّة الإنسان هي لبّه وأصله وجوهره الذي يعوّل عليه دائماً وأبداً عند التعامل معه؛ ولذا فإنّ غاية الشرائع السماويّة، والرسالات الإلهيّة، وحتى القوانين الوضعيّة، والدساتير الحكوميّة، هي الحفاظ على كرامة الإنسان، على إنسانيّة الإنسان، لتبقى في الحفظ والصوَّن، والدفاع عنها ضدّ العوادي الخارجيّة.

والله سبحانه علّمنا هذا، وأكّد عليه في كتابه حين قال:( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) (١) .

والرُّسل والأنبياءعليهم‌السلام جاؤوا جميعاً لهذه الغاية المقدّسة؛ ولذا

_____________________

١ - سورة الإسراء / ٧٠.

٦٧

ورد [ عن الإمام أبي الحسنعليه‌السلام ]:((حُرمةَ المؤمنِ والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عندَ الله أعظمُ من حُرمةِ الكعبة)) (١) .

وأوصياء الأنبياءعليهم‌السلام هكذا يرون، وعليه يسيرون في حياتهم كلّها؛ لأنّهم قادة المجتمع، ومكلّفون بحفظ كرامة الإنسان، وصيانة إنسانيّته من أن يتعرّض إليها أحد فيُهينها أو يذلّها، والمواقف الإنسانيّة تصبغ حياة الإمام الحسينعليه‌السلام الذي نحن في رحابه الإنساني المميّز.

إذاً، إنسانيّة الإنسان هي جوهره وأصله الذي تبني عليه أعماله ونواياه، تلك هي الطينة أو الخليقة أو السّجيّة في الإنسان التي جاءت الروايات الكثيرة تعبّر عنها وتبلورها؛ لإفهامها للبشر ولذوي الخبرة والنظر.

وفي الحديث:((كلّ يعمل على شاكلته)) (٢) ، أي أصل طينته التي خُلق منها، أو الفطرة التي فطره الله عليها، ولا تبديل لخلق الله، والجوهرة المكنونة المخزونة في أعماق النفس البشرية هي إنسانيته التي تنعكس على مرآة حياته كأفعال أخلاقيّة راقية، يقدِّرها كلّ الناس في كلّ عصر ومصر.

الحسين والمساكين

ومن تلك المواقف التي تفيض بالإنسانيّة، وكلّ حياة الإمام الحسينعليه‌السلام فيّاضة بذلك، ذاك الموقف الذي تحدّثت عنه كتب السيرة، أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام مرَّ بمساكين قد بسطوا (مدّوا) كساءً لهم، وألقوا عليه كسراً من

_____________________

١ - بحار الأنوار ٥٠ / ٢٤٤، وسائل الشيعة ١٤ / ٥٣٧.

٢ - الكافي ٢ / ١٦ و ٨٥، وسائل الشيعة ١ / ٥٠.

٦٨

الخبز اليابس، فقالوا: هلمَّ يابن رسول الله، فأكل معهم، وأجاب دعوتهم، ثمّ تلا:( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ) (١) .

ثمّ قال:((قَدْ أجبتُكمْ فأجيبوني)) .

قالوا: نعم يابن رسول الله، ونُعمى عين، فقاموا معه حتّى أتوا منزله.

فقال للرباب (زوجته):((أخرجي ما كُنتِ تدَّخرين)) .

فأخرجت ما عندها من نقود فناولها لهم(٢) .

وفي حادثة أُخرى ترويها كتب السيرة العطرة للإمام الحسينعليه‌السلام ، والتي تفيض عذوبة ومهابة وأخلاقاً نورانيّة، أنّهعليه‌السلام مرَّ على فقراء يأكلون كسراً (خبزاً يابساً) من أموال الصدقة، فسلَّم عليهم فدعوه إلى طعامهم فجلس معهم، وقال:((لولا أنَّه صدقة لأكلتُ معكم)) . ثمّ دعاهم إلى منزله، فأطعمهم وكساهم، وأمر لهم بدراهم(٣) .

نعم، لقد اقتدى المولى أبو عبد اللهعليه‌السلام بجدّه المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسار بسيرته العطرة، واهتدى بهداه، فكان يخالط الفقراء ويجالسهم، ويفيض عليهم ببرّه وفضله وإحسانه حتّى لا يتأثّر الفقير بفقره، ولا يبطر الغني بماله.

وهذا إن دلَّ على شيء يدلّ على قمَّة التواضع، وهو درس لِمَنْ يريد قيادة الأُمّة نحو الهداية والخلاص، وفي الجانب الإنساني للإمام الحسينعليه‌السلام تتجلّى إنسانيّة الإنسان،

_____________________

١ - سورة النحل / ٢٣.

٢ - تاريخ ابن عساكر ٣ / ٥٤.

٣ - أعيان الشيعة ٤ / ١٤٠.

٦٩

ويصدّق إيمانَه اهتمامُه بالمحتاجين والفقراء في مجتمعه، ومهما بلغ الإنسان من العلم، أو اجتهد في العبادة، فإنّه لن تتحقّق إنسانيته، ولن يصح تدينه إذا ما تجاهل مناطق الضعف في المجتمع. ألم يقل ربّنا سبحانه:( أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ) (١) .

فالذي يهمل الأيتام، ولا يبالي بجوع الفقراء مكذّب بالدين، وغير صادق في ادّعائه التديُّن وإن بالغ في صلاته وعبادته، بل هو مستحق للويل والعذاب:( فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ) (٢) .

والإمام الحسينعليه‌السلام كأهل بيته الطاهرينعليهم‌السلام ، كانوا يعيشون للناس أكثر ممّا يعيشون لأنفسهم، فهم مصداق الآية الكريمة:( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) (٣) ، وفيهم نزلت.

لقد كان الإمام الحسينعليه‌السلام طوال حياته الشريفة ملاذاً للفقراء والمحرومين، وملجأ لِمَنْ جارت عليه الأيام، وكان يثلج صدور وقلوب الوافدين إليه بهباته وعطاياه السنية.

ويقول عنه كمال الدين بن طلحة: وقد اشتهر النقل عنه أنّه كان يُكرم الضيف، ويمنح الطالب، ويصل الرحم، ويُسعف السائل، ويكسي العاري، ويُشبع الجائع، ويعطي الغارم، ويشدُّ من أزر الضعيف، ويشفق على

_____________________

١ - سورة الماعون / ١ - ٢.

٢ - سورة الماعون / ٤ - ٧.

٣ - سورة الحشر / ٩.

٧٠

اليتيم، ويغني ذا الحاجة، وقلَّ أنْ وَصَله مال إلاّ وفرَّقه، وهذه سجيّة الجواد، وشنشنة الكريم، وسمة ذي السماحة، وصفة مَنْ قد حوى مكارم الأخلاق، فأفعاله المتلوَّة شاهدة له بصفة الكرم، ناطقة بأنّه متّصف بمحاسن الشيم(١) .

ويقول المؤرّخون: أنّه كان يحمل في دجى الليل البهيم الجراب، يملؤه طعاماً ونقوداً إلى منازل الأرامل واليتامى والمساكين حتّى أثَّر ذلك في ظهره الشريف، وكان يُحمل إليه المتاع الكثير فلا يقوم حتّى يهب عامَّته(٢) .

زيارته للمرضى وقضاء الدين

ويروى أنّه مرض أُسامة بن زيد مرضاً شديداً، فعاده الإمام الحسينعليه‌السلام ، فلمّا استقرَّ به المجلس سمع أُسامة يقول: واغمَّاه.

فقال له الإمامعليه‌السلام :((وما غمُّكَ يا أخي؟)) .

قال: ديني، وهو ستون ألف درهم.

فقالعليه‌السلام :((هُوَ عليَّ)) .

قال: إنّي أخشى أن أموت.

فقال الإمامعليه‌السلام :((لَنْ تموتَ حتّى أقضيها عنكَ)) (٣) .

وبادر الإمامعليه‌السلام فقضاها عنه قبل موته، غاضّاً طرفه مع أنّ أُسامة كان من

_____________________

١ - حياة الإمام الحسين بن علي ١ / ١٢٨.

٢ - ريحانة الرسول / ٧١.

٣ - مناقب ابن شهر آشوب ٤ / ٦٥.

٧١

المتخلّفين عن بيعة أبيه أمير المؤمنين الإمام عليعليه‌السلام ، ولم يجازيه بالمثل وإنّما أغدق عليه الإحسان(١) .

ذاك هو الإمام الحسينعليه‌السلام ، العملاق الذي يفيض إنسانيّة لكلّ مَنْ هم حوله، أو هم من أُمّته، فإذا رأى معسراً رفع عنه عسره وفرّج عنه، وإذا مرَّ بمساكين جلس معهم وواساهم بنفسه الشريفة، وإذا اجتاز بفقراء استأنس بهم ودعاهم إلى مأدبته، فكانعليه‌السلام والد الأيتام، ومعيل الأيامى والأرامل، ومعتق العبيد والأرقّاء لوجه الله تعالى.

موقف الحسينعليه‌السلام مع جيش الحرّ

ومواقف الإمام الإنسانيّة في رحلته إلى الشهادة على صعيد كربلاء هي استثناءات عجيبة غريبة لم تتكرّر إلاّ قليلاً، وبعضها لن يتكرّر أبداً، كقصّته مع الحرّ الرياحي وكتيبة الطليعة التي كانت تعدُّ بألف فارس، حين التقوا بالركب المبارك للإمامعليه‌السلام وقد كاد العطش أن يقتلهم.

فعطف عليهم وهم يريدون قتله وسقاهم عن آخرهم، وليس الرجال فقطّ بل قالعليه‌السلام :((وَرَشِّفوا الخيلَ ترشيفاً)) . أي اسقوها قليلاً من الماء حتّى تقوى على المسير والحركة بمَنْ عليها من الفرسان في ذاك الحرّ الشديد.

وكتب السيرة تروي أنّه كان يسقي بعض الرجال والفرسان بيده الشريفة.

وإليك يا أخي الكريم هذه الرواية العجيبة والغريبة التي كلّما قرأتها تأخذني قشعريرة وحيرة من أمري مثل ذاك الموقف الإنساني، ولا عجب من أخلاقيّات

_____________________

١ - أعيان الشيعة ٤ / ١٠٤.

٧٢

الإمام الحسينعليه‌السلام ، ولكن كلّ العجب من اُولئك الجفاة الغلاظ الذي عاملهم الإمام بكلّ رقّة ولطافة وإنسانيّة فقابلوه بكلّ صلافة وخساسة ودناءة وجحود، ليس للفضل والإنعام، بل لأبسط معاني الأخلاق العربيّة أو الإنسانيّة.

سارَ الإمام الحسينعليه‌السلام مِنْ بطنِ العَقَبةِ حتّى نزلَ شَراف(١) ، فلمّا كانَ السّحر أمرَ فتيانَه فاستقَوا من الماءِ فأكْثروا، ثمّ سارَ منها حتّى انتصفَ النّهارُ، فبينا هو يسيرُ إذ كبَّر رجلٌ مِن أصحابِه، فقالَ له الحسينعليه‌السلام :((الله أكبرُ، لِمَ كَبَّرتَ؟)) .

فقال: رأيتُ النخلَ.

فقالَ له جماعةٌ من أصحابه: والله إنّ هذا المكانَ ما رأينا فيه نخلةً قطُّ.

فقالَ لهم الحسينُعليه‌السلام :((فما تَرَوْنَه؟)) .

قالوا: نراه والله آذانَ الخيل.

قالعليه‌السلام :((أنا واللهِ أرى ذلكَ)) .

ثمّ قالعليه‌السلام :((ما لنا ملجأ نلجأ إليهِ فنَجْعلُهُ في ظهورنا ونستقبلُ القومَ بوجهٍ واحدٍ؟)) .

فقلنا له: بلى، هذا ذو حُسْم إلى جنبكَ، تَميلُ إليهِ عَنْ يَساركَ، فإنْ سبقتَ إليهِ فهو كما تُريدُ، فأخَذَ إليهِ ذاتَ اليسارِ ومِلنا معهُ، فما كان بأسرعَ من أن طلعتْ علينا هوادي الخيل (أعناقها) فتبينّاها وعدلْنا.

_____________________

١ - شراف: موضع بنجد (معجم البلدان ٣ / ٣٣١).

٧٣

فلمّا رأوْنا عدلنا عن الطريق عدلوا إلينا كأنّ أسنّتهم اليعاسيبُ (ذكور النحل)، وكأنّ راياتِهم أجنحةُ الطيرِ، فاستبقْنا إلى ذي حُسْم فسبقْناهم إليه، وأمرَ الحسينُعليه‌السلام بأبنيتهِ (خيامه) فَضُرِبَتْ له خيمةَ، وجاءَ القومُ زُهاءَ ألفِ فارسٍ معَ الحُرَّ بن يزيدَ (الرياحي) التّميمي حتّى وقفَ هو وخيلُه مُقابلَ الحسينعليه‌السلام في حَرِّ الظّهيرةِ، والحسينعليه‌السلام وأصحابُه معتمُّونَ متقلِّدون بأسيافِهم.

فقال الحسينعليه‌السلام لفتيانه:((اسْقوا القومَ، وأرْووهُمْ منَ الماء ِ، ورشِّفوا الخيلَ ترشيفاً)) .

ففعلوا وأقبلوا يملؤون القِصاعَ والطّساس(١) من الماء ثمّ يُدنونها من الفرسِ، فإذا عبَّ فيها ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عُزِلَتْ عنه وسَقَوا آخرَ، حتّى سَقَوها (الخيل) كلَّها.

قالَ عليُّ بنُ الطعَّان المُحاربي: كنتُ معَ الحُرِّ يومئذٍ، فجئتُ في آخرِ مَنْ جاءَ من أصحابهِ، فلمّا رأى الحسينعليه‌السلام ما بي وبفرسي منَ العطشِ، قالَ:((أنِخِ الراوية)) . والراويةُ عندي السِّقاءُ، ثمَّ قالَعليه‌السلام :((يابن أخي، أنخِ الجملَ)) . فأنَخْتُهُ.

فقال:((اشربْ)) . فجعلتُ كلّما شربتُ سالَ الماءُ من السِّقاء (دون فائدة لي).

فقالَ الحسينعليه‌السلام :((اخنِثِ السِّقاءَ)) . أي أعطفْه، فلم أدْرِ كيفَ أفعلُ، فَقامَ

_____________________

١ - الطساس: جمع طسّ، وهو معرّب طست، وهو إناء معروف (مجمع البحرين ٢ / ٢١٠).

٧٤

فَخَنثَه فشربتُ وسقيتُ فرسي(١) .

أرأيت مثل هذا الفعل، أو سمعت بمثله؟!

جيشٌ يأتي إليه ليحاربه وبهذا الحجم الضخم الفخم؛ (لأنّه طليعة الجيش وعادة يكون من أفضل الفرسان والمقاتلين)، يلتقون به وهم على شفا الهلاك والهاوية (هم ودوابّهم) من شدّة العطش وحرِّ الظهيرة، فبدلاً من أن يبيدهم عن آخرهم ويغنم كلّ ما معهم من خيول وجمال ومتاع، وكان ذلك سهلاً عليه، يسقيهم ويرشف خيولهم ليقويهم على نفسه الشريفة، وعلى أصحابه الأفاضل الكرماء، وهم قادمون له ليقتلوه ومَنْ معه جميعاً، مع إنّ الحسين وأهل بيته وأصحابه كانوا بحاجة إلى هذا الماء في تلك الصحراء القاحلة.

وتنقل كتب السيرة أنّ أحد أصحابه قال لهعليه‌السلام : يا مولاي دعنا نقاتل هؤلاء ونغتنم ما هم فيه؛ فإنّ قتالهم علينا أسهل.

فقالعليه‌السلام :((ما كنت لأبدأهم بقتال)) .

إنّ هذا لعجب عجاب!

ولكن، لو تدري يا عزيزي القارئ ما الذي فعله هؤلاء وجيشهم العرموم على بطاح كربلاء، وحين التقوا بالإمام الحسينعليه‌السلام وأهله وأصحابه، وأحاطوه إحاطة السوار بالمعصم، أو القلادة بالجيد؟!

أوَ تدري أنّ أوّل سلاح استخدموه - من خِستِّهم ودناءتهم، وحقارة أنفسهم، وتفاهة قادتهم - هو التعطيش بمنع الماء عن معسكر الإمام الحسينعليه‌السلام ومَنْ معه

_____________________

١ - إرشاد المفيد ٢ / ٧٧ - ٧٨.

٧٥

من ثقل عظيم من نساء وأطفال وبنات آل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟!

يسقيهم ليُقوِّيهم، ويعطِّشونه ليقتلوه! فوا عجباً ماذا يصنع الإيمان والكفر بالإنسان؟!

فهذا السلاح الدنيء الخسيس ورثه جيش ابن سعد الأموي من جدّهم معاوية بن أبي سفيان، حين حاول منع جيش الإمام عليعليه‌السلام من شرب الماء في موقعة صفين الشهيرة، ولم يسقوهم إلاّ عنوة وبحدّ السيف، وبمعركة شنيعة انتصر فيها جيش الإمام عليعليه‌السلام على أصحاب معاوية وجلوهم عن الفرات ومنعوهم منه بالقوّة والقهر.

ولو منعوهم نهائياً من الماء لأنصفوهم؛ لأنّهم أوّل مَنْ بدأ بالإساءة والخساسة، ودفع الشرّ بالشرّ ممكن، ولكنّ مناقب الإمام عليعليه‌السلام وأخلاقه الإيمانية الرائعة أبت عليه أن يُقابل الشرّ إلاّ بالخير، والسيئة إلاّ بالحسنة، والضلال إلاّ بالهُدى، وعندما قال له أصحابه: نمنعهم من الماء يا أمير المؤمنين كما منعوك ومنعونا، فلا حاجة لنا إلى الحرب.

أبى ذلك وقالعليه‌السلام : (دعوهم والماء، فليشربوا وليغسِّلوا وليتوضؤوا، وما لكم إلاّ السيف وساحة المعركة رجالاً نقاتل رجالاً، فاتركوا القوم والماء لنا ولهم على حدِّ سواء)(١) .

وأمّا معاوية وأصحابه فإنّهم قالوا عندما احتلّوا شطّ الفرات: (لا والله، لا ندعهم يشربون حتّى يموتوا عطشاً)(٢) .

_____________________

١ - يبدو أنّ الأخ المؤلّف قد نقل هذا الحديث بالمضمون؛ إذ النص عن الإمامعليه‌السلام هو:(( لا والله، لا اُكافيهم بمثل فعلهم، افسحوا لهم عن بعض الشريعة؛ ففي حدّ السيف ما يُغني عن ذلك)) . (راجع ينابيع المودّة ١ / ٤٥١ ب٥١)(موقع معهد الإمامين الحسَنَين) .

٢ - يراجع مروج الذهب - للمسعودي (صفين)، وتاريخ الأُمم والملوك - للطبري، وشرح نهج البلاغة - لابن أبي الحديد ٣ / ٣١٨، و١٠ / ٢٥٧، وينابيع المودّة - للقندوزي باب ٥١.

٧٦

هذه المناقب العالية هي أمرٌ طبيعي وعادي في سجِّل أهل البيت الأطهارعليهم‌السلام ، وهم كتاب الله الناطق، ألم يقل أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام :((لكلِّ شيءٍ زكاة، وزكاةُ الظفرِ بعَدوِّك العفوُ عنْه)) (١) .

والإمام الحسين هو شبل الأمير عليّعليهما‌السلام ، ويزيد هو جرو معاوية، ورحم الله مَنْ قال: (وكلّ إناء بالذي فيه ينضح).

فالإمام الحسينعليه‌السلام ينضح ويفيض بالخير والنور والهداية؛ لأنّه منبعها وأصلها، فيكون كالشمس الضاحية يستفيد منها كلّ شيء؛ الجماد والنبات والحيوان، وكلّ يأخذ منها حاجته، وتبقى هي في كبد السماء عالية لا تُطال ولا تُنال حتّى بالعين المبصرة؛ لأنّها إذا حدقت فيها عميت تماماً كما أثبت العلم الحديث.

رأفة الحسينعليه‌السلام بالحيوان

ورأفة الإمامعليه‌السلام ورحمته تشمل الحيوانات مع البشر كما مرّ قبل قليل، ولكنّ القصّة العجيبة كانت مع فرسه في أحلك الظروف وأدقّها وأرقّها على قلبه الشريف، وذلك ما ترويه كتب التاريخ والسيرة عنهعليه‌السلام .

يروي أبو مخنف عن الجلودي أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام حمل على الأعور السلمي وعمرو بن الحجّاج الزبيدي، وكانا في أربعة آلاف رجل على الشريعة، وأقحم الفرس على الفرات، فلمّا أولغ (دخل وخاض) الفرس برأسه ليشرب، قالعليه‌السلام :

_____________________

١ - ليالي بيشاور / ٤٦٨.

٧٧

((أنتَ عطشان، وأنا عطشان، والله لا أذوق الماءَ حتّى تشرَب)) . فلمّا سمع الفرس كلام الحسينعليه‌السلام شال (رفع) رأسه ولم يشرب، وكأنّه فَهِمَ الكلام(١) .

الإمام الحسينعليه‌السلام لا يقدِّم نفسه المقدّسة على فرسه الذي يركبه، والفرس ينفض الماء ويرفض أن يشرب قبل سيّده وصاحبه، فيا ويلهم اُولئك الغلاظ كيف كانوا يشربون ويتلذذون بماء الفرات، والإمام الحسينعليه‌السلام ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونساؤه وأطفاله وعيالات أصحابه يصرخون: العطش العطش؟!

كيف فعلوا ذلك؟ لا أدري والله العظيم إلاّ أنّني أُردّد قوله تعالى:( إِنْ هُمْ إِلاّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ) (٢) .

فالفرس أفضل مِن كلّ مَنْ كان هناك، وهم زهاء ثلاثون ألف مقاتل على أقل التقادير، وإلاّ فإنّ بعض التواريخ تنقل مئات الألوف شربوا الماء والإمام الحسينعليه‌السلام عطشان

العباسعليه‌السلام وعطش الأطفال والنساء

ألم يسمعوا ويروا موقف ساقي عطاشى كربلاء أبي الفضل العباس (سلام الله عليه)؟!

إليكم طرفاً من قصّته الطويلة بطول قامته:

في التاريخ الإسلامي العظيم كان العباسعليه‌السلام السَّقاء، قمر بني هشام، صاحب لواء الإمام الحسينعليه‌السلام وهو أكبر إخوته، وأُمّه فاطمة بنت حزام الكلابية،

_____________________

١ - مناقب آل أبي طالب - لابن شهر آشوب ٤ / ٥٨.

٢ - سورة الفرقان / ٤٤.

٧٨

فلمّا رأى وحدة الحسينعليه‌السلام بحيث لم يبقَ معه أحد من أصحابه وأهل بيته، أتاه وقال: هل من رخصة (للبراز والقتال)؟

فبكى الحسينعليه‌السلام - وهو محتضن أخاه أبا الفضل - بكاءً شديداً.

قال:((يا أخي، أنتَ صاحِبَ لُوائي، وإذا مَضَيْتَ تَفرَّق عَسكَري)) .

فقال العباسعليه‌السلام : قد ضاق صدري وسئمت الحياة، وأريد أن أطلب ثأري من هؤلاء المنافقين.

فقال الحسينعليه‌السلام :((إنْ كانَ ولا بدّ فاطْلبْ لِهؤلاءِ الأطفال قليلاً مِنِ الماء)) .

فمضى العباس بعد الوداع يطلب الماء من الفرات وعليه أربعة آلاف فارس، فحملوا عليه وحمل هو عليهم، وجعل يقول:

لا أرهبُ الموتَ إذا الموتُ رقى

حتّى اُوارى في المصاليتِ لقى

نفسي لنفسِ المصطفى الطّهرِ وقا

إنّي أنا العباسُ أغدو بالسقا

ولا أخافُ الشرَّ يومَ الملتقى

ففرّقهم، حتّى إذا دخل الماء وأراد أن يشرب غرف غرفة من الماء فذكر عطش أخيه الحسين وأهل بيتهعليهم‌السلام ، فرمى الماء على الماء وقال:

يا نفسُ من بعدِ الحسينِ هوني

وبعدهُ لا كنتِ أن تكوني

هذا الحسينُ واردُ المنونِ

وتشربينَ باردَ المعينِ

تاللهِ ما هذا فعالُ ديني

ولا فعالُ صادقِ اليقينِ

ثمّ ملأ القربة وحملها متوجّهاً نحو الخيمة، فقطوا عليه الطريق، وأحاطوا به

٧٩

من كلّ جانب، فكمن له زيد بن ورقاء الجهني من وراء نخلة، وعاونه حكيم بن الطفيل فضربه على يمينه فقدّها، فأخذ السيف بشماله وحمل عليهم، وهو يرتجز:

واللهِ إن قطعتمُ يميني

إنّي أحامي أبداً عن ديني

وعن إمامٍ صادقِ اليقينِ

نجلِ النبي الطاهرِ الأمينِ

فقاتل حتّى ضعف، فكمن له عدّو الله من وراء نخلة فضربه على شماله فقطها كذلك، فقالعليه‌السلام :

يا نفسُ لا تخشي من الكفّارِ

وأبشري برحمةِ الجبّارِ

مع النبي السيّدِ المختارِ

قد قطعوا ببغيهم يساري

فأصلهم يا ربِّ حرَّ النارِ

ثمّ جاء سهم فأصاب القربة وأُريق ماؤها، فوقف متحيّراً؛ لا ماء حتّى يوصله إلى الخيمة، ولا يد حتّى يُحارب بها، وبينما هو كذلك وإذا بسهم أصاب عينه، ثمّ ضربه ظالم لعين بعمود من حديد على رأسه فانقلب عن فرسه، وصاح أخاه الحسينعليه‌السلام قائلاً: يا أخي أدرك أخاك.

فلمّا أتاه الحسينعليه‌السلام ورآه صريعاً على شاطئ الفرات بكى، وقال:((الآن انكَسَرَ ظَهري، وقلَّتْ حيلتي، وشَمَتَ بي عَدوّي)) .

ثمّ توجّه إلى القوم، وأنشأ يقول:

تعدَّيتمُ يا شرًّ قومٍ بفعلكم

وخالفتمُ قولَ النبيِّ محمّد

أما كانَ خيرُ الرُّسلِ وصّاكم بنا

أما نحنُ من نسلِ النبيِّ المسدَّد

أما كانتِ الزَّهراءُ أُمّيَ دونكم

أما كانَ من خيرِ البريّةِ أحمد

٨٠

لُعنتم وأُخزيتم بما قد جَنيتم

فسوفَ تُلاقوا حرَّ نارٍ توقَّد(١)

أهكذا يكون الوفاء؟ أوَ هذه هي الإنسانيّة التي جُبل البشر عليها؟ إنّ فعل الأُباة والكرماء يُنبئك عن طيب طينتهم، والعكس صحيح، ففعل الجفاة الغلاظ من الدناءة والحقارة يخبرك عن خبث طينتهم بأنّها حمئة خبيثة نتنة، فتسافلت بهم إلى أسفل من البهائم العجماء، وذاك أسفل سافلين في الدنيا، ولهم في الآخرة أسفل سافلين في النار، وغضب الجبّار والعياذ بالله.

الذنب الفظيع في قتل الرضيع

وإذا كان لديك شكّ في تلك المسوخات التي كانت تحيط بالإمام الحسينعليه‌السلام على صعيد كربلاء، فإليك ما فعلوه بالطفل الرضيع (عبد الله بن الإمام الحسينعليه‌السلام وأُمّه الرباب)، فإنّ ذلك لن يدع لديك أيّ شكّ من خروج اُولئك من البشرية، وتجرّدهم من صفات الإنسانيّة كلّها.

كان من أفجع وأقسى ما نُكب به الإمام الحسينعليه‌السلام هو رزيته بولده عبد الله الرضيع الذي لم يتجاوز من العمر ستة أشهر، فقد كان الطفل كالبدر في بهائه، وعند عودة الإمام من مصرع العباسعليه‌السلام وقف في باب الخيمة، ونادى ولده علياً وأخته زينب الكبرىعليهما‌السلام وقال:((يا أختاه، اُوصيك بولدي الصغير خيراً)) .

فقالت له: يا أخي إنّ هذا الطفل له ثلاث أيّام ما شرب الماء، (وقد جفَّ اللبن في ثدي أُمّه لشدّة العطش)، فاطلب له شربة من الماء.

_____________________

١ - موسوعة البحار ٤٥ / ٤٠.

٨١

فأخذ منها الطفل (وهو يتلوَّى من شدّة الحرّ والعطش، وكان يُغمى عليه، وقد غارت عيناه، وذبلت شفتاه)، وتوجّه نحو القوم، وقال:((يا قَوم، قَدْ قَتلُتمْ أخي وأولادي وأنصاري، وما بَقِيَ غَيرَ هذا الطفل، وَهوَ يَتلظّى عَطَشاً مِنْ غيرِ ذَنبٍ أتاهُ إليكمُ؛ فاسْقوهُ شَربةً منْ ماء)) .

وفي (نفس المهموم) قالعليه‌السلام :((يا قومَ، إنْ لَمْ ترحَمُوني فارْحَموا هذا الطفل)) .

فاختلف القوم فيما بينهم، فمنهم مَنْ يقول: اسقوه الماء، ومنهم مَنْ يقول: لا تسقوه الماء.

فقال بعضهم: إن كان للكبار ذنب فما ذنب الصغار، وإنّه لطفل رضيع؟!

فصاح بهم الإمام الحسينعليه‌السلام :((وَيَلكُمْ! خُذوهُ وأنتمْ اسْقوُه الماءَ)) .

فالتفت عمر بن سعد إلى حرملة بن كاهل، وقال: اقطع نزاع القوم يا حرملة.

فقال هذا اللعين: أأعطيه شربة ماء؟!

فقال ابن سعد: بل، ألا ترى إلى بياض نحر الطفل في حجر والده؟

فوضع حرملة بن كاهل (وقيل: عقبة بن بشير الأزدي) سهماً في قوسه ورماه به، فوقع في نحر الطفل فذبحه من الوريد إلى الوريد، فلما أحسَّ بحرارة السهم أخرج يديه من القماط، وراح يرفرف بهما على صدر والده العظيم كالطير المذبوح، فراحعليه‌السلام يتلقّى دمه الشريف في يديه ويرميه إلى السماء؛ لكي لا يقع إلى الأرض، فلم تسقط منه قطرة، كما يؤكّد الإمام الباقرعليه‌السلام في روايته.

٨٢

والإمام المفجوع يبكي ويقول:((هَوِّنَ عليَّ ما نَزَلَ بِي أنَّهُ بِعَينِ اللهِ تعالى. اللهُمَّ لا يَكُنْ أهوَن عَليكَ مِنْ فَصيلِ ناقة صالح)) .

((إلهي، إنْ كُنتَ حَبَسْتَ عَنَّا النَّصْرَ فَاجْعَلهُ لِما هُوَ خيرٌ مَنهُ، وانْتَقِمْ مِنْ الظَالِمين، وَاجْعلْ مَا حلَّ بِنا في العاجِل ذَخيرةً لنا في الآجلِ)) .

((اللهمَّ أنتَ الشاهِدُ عَلى قَوْمٍ قَتَلوا أشْبَهَ النَّاسِ بِرَسُوِلكَ مُحَّمدٍ (صلّى الله عليه وآله)) (١) .

وبراوية أُخرى:((إنَّهُمْ قَد عمدوا أن لا يُبقوا أحداً من ذريّة رسولك (صلّى الله عليه وآله)) . وهو يبكي بكاءً شديداً، ويناجي ربّه بهذه الكلمات:((اللهمَّ أنت تعلمُ أنّهم دعونا لينصرونا فخذلونا وأعانوا علينا. اللهمّ احبس عنهم قطر السماء، واحرمهم بركاتك، اللهمّ لا تُرضِ عنهم أبداً. اللهمّ إن كنت حبست عنّا النصر في الدنيا فاجعله لنا ذخراً في الآخرة، وانتقم لنا من القوم الظالمين)) (٢) .

_____________________

١ - حياة الإمام الحسينعليه‌السلام ٣ / ٢٧٦.

٢ - ينابيع المودة / ٤١٥، ونفس المهموم / ٣٤٩.

٨٣

٨٤

الفصل الرابع: ومضاتٌ اجتماعية وروحية

٨٥

٨٦

المجتمع: هو أفراد الأُمّة في اجتماعهم، وعلاقاتهم المختلفة، وتشابكاتها المتعدّدة.

والإنسان نفس، وبدن، وروح، قد ذكر القرآن الكريم النفس وجعلها محتملة الأمرين، مثل قوله تعالى:( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا *وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ) (١) .

وقد ذكر البدن بطور حيادي كأنّه لا شأن له، مثل قوله سبحانه:( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) (٢) .

وذكر الروح بالإعظام والإكبار كالآية السابقة وغيرها، فكأنّ البدن السفل، والروح العلو، والنفس بينهما إن مالت إلى الأعلى كانت من العلييّن، وإن مالت إلى الأسفل كانت في سجّين.

والنفس يحيط بها البدن، والبدن في الاجتماع، وتحيط به المدنية أو نحوها،

_____________________

١ - سورة الشمس / ٧ - ١٠.

٢ - سورة الحجر / ٢٩.

٨٧

وحولها المحيط الطبيعي، والنفس قادرة على إصلاح نفسها، ثمّ بدنها، ثمّ الاجتماع ثمّ المحيط الاصطناعي، ثمّ المحيط الطبيعي، وكما أنّ النفس قادرة على التحريك باتجاه البناء هي قادرة على تخريب الكلّ.

والمجتمع إنّما يتولّد من نقطة البدء، فاللازم في علم الاجتماع أن نبدأ من هنا، ونبني الهيكل الاجتماعي الصحيح من النفس النقيّة النظيفة(١) .

والإنسان خُلق اجتماعياً بالطبع، لا لحاجاته الجسدية فقط، بل لحاجاته النفسية كذلك، حيث الإنسان يستأنس بالإنسان، ويستوحش لفقده، كان الإنسان يؤثر بالإنسان الآخر؛ سواء كانا فردين أو مجتمعين(٢) .

والإسلام يؤمن أنّ بناء المجتمع على أساس القيم الصحيحة والعمل الصالح يُعطيه ديناميكية وحركة في الاتجاه الصحيح، وعكس ذلك صحيح أيضاً، وهذا المفهوم هو عبارة عن واحدة من السنن الطبيعية التي تنطبق على المجتمع البشري عامّة، فالمجتمع مثل النهر يمتلك طاقات هائلة، إذا ما وجِّهت في الاتجاه السليم، وحُفِرت لها قنوات ملائمة، تحرّكت هذه الطاقات عبر القنوات كلّ بقدرها، وغذّت المجتمع، وأعطى بالتالي ثماراً طيّبة، ولكن إذا كانت هذه القنوات غير سليمة ومتناقضة الاتجاهات، فإنّ المجتمع سرعان ما يتحطّم ويموت.

وبكلمة أُخرى: نجد أنّ المجتمع البشري هو عبارة عن جسم حيّ مدرك، له حياته الخاصّة، ولحياته نظامها الخاصّ، وهو يتّصف بالتوازن مثلما يتّصف

_____________________

١ - موسوعة الفقه (الاجتماع) - للإمام الشيرازي ١٠٩ / ٧.

٢ - المصدر نفسه ١٠٩ / ٣٩.

٨٨

بالانحراف في سلوكه، كما يتّصف الفرد الواحد من الناس.

والنظام الاجتماعي العادل: هو الذي يكفل للمجتمع ولأفراده على السواء جميع الحقوق والواجبات، من غير تعدّ ولا تقصير.

فإذا سار المجتمع على ذلك النظام العادل، وطبَّقه على سلوكه وسلوك أفراده، سمُِّي ذلك التوازن منه عدلاً اجتماعياً.

والعدل الاجتماعي: هو أن تسير الأُمّة إلى المثل الأعلى في الحياة وفي الأخلاق، وأن تسعى ما أمكنها السعي إلى السعادة العامّة والكمالات المطلوبة، وأن تعدَّ للأفراد طرق الوصول إلى الخير فتنشئ المؤسسات الكافلة لخير البلاد والحافظة لخيراتها، وتؤسس المعاهد الصالحة لإعداد الرجال، وتثقيفهم بالثقافة الصحيحة، وأن تتمسّك بالأنظمة الشرعية الموجبة لحفظ الحقوق وسلامة النفوس.

على أن تسير في جميع ذلك وفق النظام الصحيح، والحكمة الرشيدة التي يأمر بها العقل، ويقرّها الشرع.

إنّ تعاون أفراد الأُمّة وتضامنهم أعظم موجب لتحقيق هذا العدل، وأبلغ مؤثّر فيه.

يقول المتأخرون من الخلقيين: إنّ المسؤول عن تحقيق هذه الغاية هي الحكومة التي تسيطر على الأُمّة وتتحكّم في مقدّراتها.

أمّا أفراد الأُمّة فيقعون في الدرجة الثانية من هذه المسؤولية، ووظيفة الفرد هي مساعدة الحكومة في تحقيق الغاية بما يمكنه من الوسائل.

وهذا الرأي قد يكون بيِّن النقص؛ لأنَّ العدل الاجتماعي هو التوازن التامّ في سلوك المجتمع وسلوك أفراده، وتعاون الجميع على العمل في سبيل الخير

٨٩

واكتساب الصّفات الخلقية المُثلى، ونيل السعادة العامّة، وهذا كلّه من مختصّات المجتمع نفسه ومختصّات أفراده.

أمّا ما تقوم به الحكومة من إنشاء المؤسسات والمعاهد الصالحة، فهو إحدى مقدّمات العدل الاجتماعي(١) .

البعد الاجتماعي في حياة الإمام الحسينعليه‌السلام

وبما أنّنا في رحاب الإمام الحسينعليه‌السلام الواسعة الرائعة، فإنّنا سوف نلحظ كلا الجانبين في المسألة الاجتماعية، وهما:

١ - على مستوى الأفراد، وتربيتهم وأخلاقهم.

٢ - وعلى مستوى الحكومة والأُمّة. وهذا أحد أهم أسباب النهضة الحسينيّة المباركة.

وعلى كلّ حال، فإنّ الإسلام الحنيف قد اهتمَّ اهتماماً مميّزاً بالأشخاص كأفراد مستقلين؛ لأنّ الجنّة مشروع فردي خاص، كما يُقال، وكلّ إنسان ينبغي أن يسلك الطريق الصحيح الذي رسمه له الشرع الحنيف؛ للوصول إلى الله ورضاه ودار السّلام في جواره الأقدس والجنّة.

وللحقيقة نقول: إن يحمل الإنسان أهدافاً كبيرة، أو يمتلك مستوى علمياً متقدّماً، فذلك لا يؤثّر شيئاً في حركة الواقع والحياة ما لم يصاحبه حضور اجتماعي يشقّ الطريق أمام تلك الأهداف الكبرى، ويترجم العلم إلى فعل

_____________________

١ - الأخلاق عند الإمام الصادقعليه‌السلام / ٦٧.

٩٠

ملموس على أرض الواقع.

لذلك كان الأنبياء والأئمّةعليهم‌السلام يعيشون في وسط الناس، ويتفاعلون معهم، ولم يكونوا منعزلين على قمم الجبال، أو في الكهوف والمغارات، ولا كانوا يتعالون ويترفّعون عن الناس في أبراج عاجية.

ومهما كان مستوى المجتمع من حيث التخلّف والجهل، أو من حيث طغيان أجواء الفساد والانحراف، فإنّ ذلك لا يبرّر الهروب والعزوف عن الناس لدى المصلحين الإلهيين.

ويبقى صحيحاً أنّ مخالطة الناس وهم يعيشون حالة الجهل والتخلّف، أو يخضعون لأجواء الفساد والانحراف، قد تسبّب الكثير من الأذى والمعاناة للرجال الإلهيين، لكنّ ذلك هو طريق التغيير والإصلاح، كما أنّه وسيلة لنيل ثواب الله ورضوانه.

والإمام الحسينعليه‌السلام نشأ من بداية حياته الشريفة في عمق الشأن الاجتماعي وفي صميم الأحداث؛ وذلك لأنّ جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان قطب رحى المجتمع وقائده الأعلى، وكان أبوه أمير المؤمنين عليعليه‌السلام وزير النبي ووصيه وساعده الأيمن، بل كان نفسه بنصِّ آية المباهلة(١) .

وأمّا أُمّه فاطمة الزهراءعليها‌السلام سيدة نساء العالمين، ذات الشأن العالي والمكان المرموق في الدين والدنيا، لا سيما مكانها في قلب أبيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهي بضعته وقلبه وأُمّ أبيها.

_____________________

١ - أحاديث في الدين والثقافة والاجتماع ١ / ٩١.

٩١

وممّا يؤكّد حضوره الاجتماعي في المجتمع الإسلامي النامي في ذلك العصر، أنّه كانت له حلقة خاصّة غاصّة بالفضلاء وطلاب العلم والباحثين عن الحقيقة في مسجد جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد سأل رجل من قريش معاوية بن أبي سفيان (العدو اللدود للإمامعليه‌السلام ) أين يجد الحسينعليه‌السلام ؟

فقاله له معاوية: إذا دخلت مسجد رسول الله فرأيت حلقة فيها قوم كأنّ على رؤوسهم الطير فتلك حلقة أبي عبد اللهعليه‌السلام (١) .

كان مجلسهعليه‌السلام مجلس علم ووقار، قد ازدان بأهل العلم من الصحابة، وهم يأخذون عنه ما يلقيه عليهم من الأدب والحكمة، ويسجّلون ما يروون عنه من أحاديث جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ويقول المؤرّخون: إنّ الناس كانوا يجتمعون إليه ويحفّون به وكأنّ على رؤوسهم الطير، يسمعون منه العلم الواسع والحديث الصادق(٢) .

وبالفعل كان مجلسه مهوى الأفئدة، ومتراوح الأملاك، يشعر الجالس بين يديه أنّه ليس في حضرة إنسان من عمل الدنيا وصنيعة الدنيا، تمتد أسبابها برهبته وجلاله وروعته، بل في حضرة طفاح بالسكينة كأنّ الملائكة تروح فيها وتغدو(٣) .

لقد جذبت شخصية الإمام الحسينعليه‌السلام ، وسموّ مكانته الروحيّة قلوبَ المسلمين ومشاعرهم، فراحوا يتهافتون على مجلسه (تهافت الفراش على منابع

_____________________

١ - تاريخ ابن عساكر ٤ / ٢٢٢.

٢ - الحقائق في الجوارح والفوارق / ١٠٥، حياة الإمام الحسين ١ / ١٣٧.

٣ - أشعة من حياة الحسينعليه‌السلام / ٩٣.

٩٢

النور)، ويستمعون لأحاديثه وهم في منتهى الإجلال والخضوع(١) .

وبعد هذه المقدّمة التوضيحية نعود إلى التقسيم الذي قدّمناه أوّلاً:

العمل على مستوى الفرد:

الإسلام يعمل على تربية الإنسان المؤمن المسؤول في المجتمع، والمؤمن عزيز بعزّة الله ورسوله، وذلك من قوله تعالى:( وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) (٢) .

فالعزّة إنّما تكون بالإسلام والالتزام برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعترته الأطهارعليهم‌السلام ، والعزّة للعبد المؤمن بعد ذلك.

الحسينعليه‌السلام وعزّة الإنسان المسلم

وتروي كتب التاريخ هذه الحادثة والرواية عن الإمام الحسينعليه‌السلام ، إذ دخل عليه رجل من العرب متلثّماً، أسمر شديد السّمرة، فسلَّم وردَّ عليه الإمامعليه‌السلام فقال: يابن رسول الله، مسالة.

قالعليه‌السلام :((هات)) .

فقال: كم بين الإيمان واليقين؟

قالعليه‌السلام :((أربَعُ أصابِع)) .

فقال: كيف؟

قالعليه‌السلام :((الإيمانُ ما سَمِعناهُ، واليقينُ ما رأيناهُ، وبين السمعِ والبصرِ أربعُ

_____________________

١ - حياة الإمام الحسين ١ / ١٣٧.

٢ - سورة المنافقون / ٨.

٩٣

أصابع)) .

فقال: فكم بين السماء والأرض؟

قالعليه‌السلام :((دعوةٌ مستجابةٌ)) .

فقال: فكم بين المشرق والمغرب؟

قالعليه‌السلام :((مسيرةُ يومٍ للشمس)) .

فقال: فما عزُّ المرء؟

قالعليه‌السلام :((استغناؤه عن الناس)) .

فقال: فما أقبح شيء؟

قالعليه‌السلام :((الفسقُ في الشيخِ قبيحٌ، والحدةُ في السلطانِ قبيحةٌ، والكذبُ في ذي الحسبِ قبيحٌ، والبُخلُ في ذي الغناء، والحرص في العالم)) .

فقال: صدق يابن رسول الله، فأخبرني عن عدد الأئمّة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

قالعليه‌السلام :((اثنا عشر عدد نقباء بني إسرائيل)) .

فقال: فسمهم لي.

قال: فأطرق الإمام الحسينعليه‌السلام ملياً، ثمّ رفع رأسه فقال:((نعم، أُخبرك يا أخا العرب، إنّ الإمام والخليفة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أبي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام والحسن وأنا وتسعة من ولدي، منهم علي ابني، وبعده محمد ابنه، وبعده جعفر ابنه، وبعده موسى ابنه، وبعده علي ابنه، وبعده محمد ابنه، وبعده علي ابنه، وبعده الحسن ابنه، وبعده الخلف المهدي، هو التاسع من ولدي، يقوم بالدين في آخر الزمان)) .

٩٤

قال الراوي: فقام الأعرابي وهو يقول:

مسحَ النبي جبينه

فله بريقٌ في الخدودِ

أبواهُ من أعلى قريـ

ـش جدّهُ خيرُ الجدود(١)

فالعزّ للعبد أن يكون مستغنياً عن الناس، وربما الناس بحاجة إليه، ولقد جاء بكلمة رائعة لأمير المؤمنين عليعليه‌السلام يقول فيها:((احتج إلى مَنْ شئت تكن أسيره، واستغن عمَنْ شئت تكن نظيره، وأحسن (امنن) إلى مَنْ شئت تكن أميره)) (٢) .

فإذا احتجت تكون أسيراً، وأمّا إذا أحسنت وأعطيت كنت أميراً، وكم هو الفرق ما بين الأمير والأسير، وأرجو لك عزيزي القارئ الإمارة دائماً وأبداً، وهذا لا يتحقّق إلاّ بانقطاعك إلى الله الغني الحميد، واتّباعك للمولى أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام في منهجه.

الحسينعليه‌السلام والتوكّل على الله

وبكلمة نورانية حسينيّة يقول فيها:((إنّ العزّ والغنى خرجا يجولان، فلقيا التوكّل فاستوطنا)) (٣) .

ومعنى ذلك: إنّ عزّة النفس مقارنة وملازمة للغنى والاستغناء عن الناس، وهذان لا يستوطنان إلاّ عند مَنْ يتوكّل على الله في كلّ أموره، وجميع شؤونه

_____________________

١ - كفاية الأثر / ٢٣٢، موسوعة البحار ٣٦ / ٣٨٤.

٢ - موسوعة البحار ٧٧ / ٤٠٢ باب (١٥) مواعظه وحكمه.

٣ - مستدرك الوسائل ١١ / ٢١٨ ح١٢٧٩٣.

٩٥

وشجونه.

ورحم الله أبا فراس الحمداني الشاعر الذي يقول:

إنّ الغني هو الغني بنفسه

ولو انّه عارِ المناكبِ حافي

والتوكّل على الله، هو تفويضك أمر التدبير والتقدير إلى العزيز القدير.

وقيل ذات يوم للإمام الحسينعليه‌السلام : إنّ أبا ذر يقول: الفقر أحبّ إليَّ من الغنى، والسَّقم أحبّ إليَّ من الصحّة.

فقالعليه‌السلام :((رَحِمَ اللهُ تعالى أبا ذرّ. أمّا أنا فأقول: مَنْ اتّكل على حسن اختيار الله تعالى له لم يتمنّ غير ما اختاره الله عزّ وجلّ له)) (١) .

فلا تشرط على الله إذا كنت متوكّلاً عليه ولا حتّى تتمنّى، وكلّ منَّا يتمنّى حوائجه، ولكن إذا كنت في المقام الذي يتحدّث عنه الإمام الحسينعليه‌السلام ، فإنّك عند ذلك تدع أمرك إلى الله الحكيم العليم، وهذا يكون نابعاً من أعماق إيمانك بأنّ الله حكيم، والحكيم هو الذي يضع الأشياء في مواضعها.

وأنت أخي المؤمن، إذا أيقنت بهذه الحكمة الإلهية، فإنّك تدع التدبير له، وتترك نفسك في الدنيا، وتشتغل بالطاعة والعبادة، ولا تشغل نفسك بأمور الدنيا وتدبيرها ما دام مولاك (عزَّ وجلّ) الحكيم قد تكفَّل بها.

ولهذا وذاك يقول الإمام الحسينعليه‌السلام :((مَنْ عبد الله حقّ عبادته آتاه الله فوق أمانيه وكفايته)) (٢) .

فعليك الطاعة والانقياد لله، وعليه العطاء والرزق، وهو أكرم الأكرمين، فكن على يقين أنّه سيعطيك حتّى يغنيك، وفوق كلّ أمانيك.

_____________________

١ - إحقاق الحقّ ١١ / ٥٩١.

٢ - تفسير الإمام العسكريعليه‌السلام / ٣٢٧، موسوعة البحار ٧١ / ١٨٤.

٩٦

أنواع العبادة عند الحسين بن عليعليهما‌السلام

ولكن ما هي العبادة التي ترغب فيها؟

وربما تسأل مقابل هذا السؤال وتقول: هل هناك أنواع للعبادة؟!

الإمام الحسينعليه‌السلام يجيبك بقوله الرائع:((إنّ قوماً عبدوا الله رغبةً فتلك عبادة التجّار، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبةً فتلك عبادة العبيد، وإنّ قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار، وهي أفضل العبادة)) (١) .

فالعبادة ثلاثة، والعبَّاد ثلاث:

١ - عبادة الرغبة والطمع: وهي عبادة التجارة، يريد أن يجمع الأموال الطائلة ويطمع بالزيادة دائماً وأبداً.

والعابد يطمع بالجنّة ويحقّ له الطمع فيها، وبما فيها من حور وقصور، وأنواع الخيرات الحسان، والتي جاء بها أنّها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

٢ - عبادة الرهبة والخوف: وهي عبادة العبيد الذين يخافون من السيد ويحذرون مخالفته؛ لأنّهم يتعرّضون لغضبه وعقابه الشديد.

والعُبّاد يخافون المخالفة ويخشون النار، ويحقّ لهم كلّ ذلك؛ فالخوف من النار وأنواع العذاب فيها يدعو العاقل إلى التوخّي والاحتراز عنها، فالإنسان ضعيف ولن يحتمل غضب الجبّار.

٣ - عبادة الحبّ: وهي عبادة الأحرار الذين علموا عن الله بعض الحقائق

_____________________

١ - تحف العقول / ١٧٧، موسوعة البحار ٧٨ / ١١٧، أعيان الشيعة ١ / ٦٢٠.

٩٧

التي أفاضها عليهم، فتعلّقت قلوبهم بربّهم؛ لأنّه يستجمع صفات الكمال والجلال، ويستحق العبادة؛ لأنّه المنعم الذي هو أهلٌ للشكر على أفعاله.

وهذه العبادة هي أرفع العبادات وأجلُّها وأجملها؛ لأنّها نابعة من معرفة حقيقية بالمعبود والعابد، وهذه بالحقيقة عبادة الخُلَّص من عباد الله، كالإمام الحسينعليه‌السلام والمعصومين من آله الكرامعليهم‌السلام .

الإيمان والمؤمن عند الإمام الحسينعليه‌السلام

الإيمان: هو ذلك النور الذي يقذفه الله في قلوب أوليائه وأصفيائه من الناس.

وفي الرواية: أنّه إقرار باللسان وعمل بالأركان، وأنّه أخصُّ من الإسلام الذي يعني التسليم والنطق بالشهادتين، وبه تُحقن الدماء وتجري المناكح والمواريث.

والإيمان أرفع درجة، وأعلى مقاماً من الإسلام. وهو إمّا أن يكون ثابتاً، أو مشككاً متذبذباً، وإمّا أن يكون أصلياً ذاتياً، أو يكون مستعاراً ومستودعاً، والذي يميّز ذلك كلّه هو الامتحان والاختبار الإلهي للعبد.

في رواية عن الحسين بن عليعليهما‌السلام أنّه قال:((سُئل أمير المؤمنين (صلواتُ الله عليه) ما ثبات الإيمانِ؟ فقال: الورع. فقيل له: ما زواله؟ قال: الطمع)) (١) .

فثبات الإيمان في القلب يتمّ عن طريق الورع عن محارم الله، وتكون هذه الصّفة النورانيّة ملكة شخصيّة للعبد، وهي في الحقيقة التقوى الرادعة من انتهاك المحارم أو فعل المآثم.

_____________________

١ - موسوعة البحار ٧٠ / ٣٠٥.

٩٨

وعكس الورع يكون الطمع، فالطمع في أي شيء من متاع الدنيا ولذّائذها وشهواتها، وإن كانت حلالاً، يخرجها إلى حدِّ الإفراط فيها فينقلب إلى الحرام، ويسبّب فعلها اللوم والعقاب؛ ولهذا فإنّ العبد المؤمن دأبه مراقبة نفسه واتّهامها على الدوام.

يقول الإمام الحسينعليه‌السلام :((إنّ المؤمن اتّخذ الله عصمتهُ، وقولهُ مرآته، فمرةٌ ينظرُ في نعتِ المؤمنين، وتارةً ينظر في وصف المتُجبّرين، فهو منه في لطائف، ومن نفسه في تعارفٍ، ومن فطنته في يقين، ومن قدسه على تمكين)) (١) .

فالعبد المؤمن يعتصم بالله لا بسواه، ويجعل مرآته في كلّ حركاته وسكناته، كتاب الله وآياته في القرآن الكريم.

فمرّة ينظر في آيات القرآن باحثاً عن الآيات التي تصف المؤمنين، فيجمعها ويلتزم بها قدر الإمكان، لا سيما آيات سورة المؤمنون، وأواخر سورة الفرقان وغيرها من آيات الذكر الحكيم التي تصف المؤمنين، ويبحث عن نداءات أهل الإيمان( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ) ، وقد بلغت (٨٩) مورداً في القرآن، ويتدبّر فيها؛ ليعلم ماذا يريد ربّنا سبحانه منّا، فيفعله إذا كان أمراً، أو يرتدع عنه إذا كان نهياً وزجراً.

ومرّة أُخرى يبحث في الكتاب العزيز عن وصف المتجبّرين، كالفراعنة والقوارين - جمع قارون - وجنودهم وأذنابهم، ويدرس صفاتهم ويحاول قدر المستطاع أن يطهِّر نفسه من تلك الرذائل اللعينة، والفيروسات الروحيّة القاتلة.

_____________________

١ - تحف العقول / ١٧٨، موسوعة البحار ٧٨ / ١١٩ حديث ١٥.

٩٩

ويبحث في القرآن الكريم عن لطائف الحكمة، وروائع الآيات الروحانيّة، متنسّماً لتلك النسائم العبقة التي تهبّ على روحه ونفسه من خلال تنقّله في رياض الآيات القرآنيّة الكريمة، ويتعرّض إلى نفحات ربّ العالمين الرحمانيّة.

وأمّا نفسه فإنّه دائماً وأبداً يتّهمها؛ فهي أمارة بالسوء، وهو يعرفها حقّ المعرفة، وربّنا سبحانه يقول:( بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) (١) .

فلا أحد أعلم بك منك إلاّ الذي خلقك ورزقك وسوّاك وعدلك؛ ولهذا يكون الإنسان على يقين من أعماله التي عملها، وهو على إصلاح نفسه وتقديسها وتزكيتها قادر قوي متمكّن؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى ألطف وأرحم بنا من أنفسنا، ولن يحاسبنا على شيء لا نقدر عليه.

وبهذا المعنى يقول الإمام الحسينعليه‌السلام :((ما أخذ الله طاقةَ أحدٍ إلاّ وضع عنه طاعتهُ، ولا أخذ قُدرتهُ إلاّ وضع عنه كُلفته)) (٢) .

وهذا يكون أجمل تفسير لقوله تعالى:( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا ) (٣) ، وقوله تعالى:( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاّ مَا آتَاهَا ) (٤) .

والقاعدة التي تقول: إذا أخذ ما أوهب أسقط ما أوجب.

فالتكليف يكون بالقدرة والقدر والسعة وليس زائداً؛ لأنّه يكون ظلماً وجوراً وتكليف بما لا يُطاق، وحاشا لله أن يفعل بعباده مثل هذا.

_____________________

١ - سورة القيامة / ١٤.

٢ - تحف العقول / ١٧٦.

٣ - سورة البقرة / ٢٨٦.

٤ - سورة الطلاق / ٧.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580