الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية

الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية0%

الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية مؤلف:
الناشر: ياس زهراء (عليها السلام)
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 580

الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ جلال معاش
الناشر: ياس زهراء (عليها السلام)
تصنيف: الصفحات: 580
المشاهدات: 177573
تحميل: 6961

توضيحات:

الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 580 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 177573 / تحميل: 6961
الحجم الحجم الحجم
الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية

الامام الحسين (عليه السلام) والوهابية

مؤلف:
الناشر: ياس زهراء (عليها السلام)
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

لُعنتم وأُخزيتم بما قد جَنيتم

فسوفَ تُلاقوا حرَّ نارٍ توقَّد(١)

أهكذا يكون الوفاء؟ أوَ هذه هي الإنسانيّة التي جُبل البشر عليها؟ إنّ فعل الأُباة والكرماء يُنبئك عن طيب طينتهم، والعكس صحيح، ففعل الجفاة الغلاظ من الدناءة والحقارة يخبرك عن خبث طينتهم بأنّها حمئة خبيثة نتنة، فتسافلت بهم إلى أسفل من البهائم العجماء، وذاك أسفل سافلين في الدنيا، ولهم في الآخرة أسفل سافلين في النار، وغضب الجبّار والعياذ بالله.

الذنب الفظيع في قتل الرضيع

وإذا كان لديك شكّ في تلك المسوخات التي كانت تحيط بالإمام الحسينعليه‌السلام على صعيد كربلاء، فإليك ما فعلوه بالطفل الرضيع (عبد الله بن الإمام الحسينعليه‌السلام وأُمّه الرباب)، فإنّ ذلك لن يدع لديك أيّ شكّ من خروج اُولئك من البشرية، وتجرّدهم من صفات الإنسانيّة كلّها.

كان من أفجع وأقسى ما نُكب به الإمام الحسينعليه‌السلام هو رزيته بولده عبد الله الرضيع الذي لم يتجاوز من العمر ستة أشهر، فقد كان الطفل كالبدر في بهائه، وعند عودة الإمام من مصرع العباسعليه‌السلام وقف في باب الخيمة، ونادى ولده علياً وأخته زينب الكبرىعليهما‌السلام وقال:((يا أختاه، اُوصيك بولدي الصغير خيراً)) .

فقالت له: يا أخي إنّ هذا الطفل له ثلاث أيّام ما شرب الماء، (وقد جفَّ اللبن في ثدي أُمّه لشدّة العطش)، فاطلب له شربة من الماء.

_____________________

١ - موسوعة البحار ٤٥ / ٤٠.

٨١

فأخذ منها الطفل (وهو يتلوَّى من شدّة الحرّ والعطش، وكان يُغمى عليه، وقد غارت عيناه، وذبلت شفتاه)، وتوجّه نحو القوم، وقال:((يا قَوم، قَدْ قَتلُتمْ أخي وأولادي وأنصاري، وما بَقِيَ غَيرَ هذا الطفل، وَهوَ يَتلظّى عَطَشاً مِنْ غيرِ ذَنبٍ أتاهُ إليكمُ؛ فاسْقوهُ شَربةً منْ ماء)) .

وفي (نفس المهموم) قالعليه‌السلام :((يا قومَ، إنْ لَمْ ترحَمُوني فارْحَموا هذا الطفل)) .

فاختلف القوم فيما بينهم، فمنهم مَنْ يقول: اسقوه الماء، ومنهم مَنْ يقول: لا تسقوه الماء.

فقال بعضهم: إن كان للكبار ذنب فما ذنب الصغار، وإنّه لطفل رضيع؟!

فصاح بهم الإمام الحسينعليه‌السلام :((وَيَلكُمْ! خُذوهُ وأنتمْ اسْقوُه الماءَ)) .

فالتفت عمر بن سعد إلى حرملة بن كاهل، وقال: اقطع نزاع القوم يا حرملة.

فقال هذا اللعين: أأعطيه شربة ماء؟!

فقال ابن سعد: بل، ألا ترى إلى بياض نحر الطفل في حجر والده؟

فوضع حرملة بن كاهل (وقيل: عقبة بن بشير الأزدي) سهماً في قوسه ورماه به، فوقع في نحر الطفل فذبحه من الوريد إلى الوريد، فلما أحسَّ بحرارة السهم أخرج يديه من القماط، وراح يرفرف بهما على صدر والده العظيم كالطير المذبوح، فراحعليه‌السلام يتلقّى دمه الشريف في يديه ويرميه إلى السماء؛ لكي لا يقع إلى الأرض، فلم تسقط منه قطرة، كما يؤكّد الإمام الباقرعليه‌السلام في روايته.

٨٢

والإمام المفجوع يبكي ويقول:((هَوِّنَ عليَّ ما نَزَلَ بِي أنَّهُ بِعَينِ اللهِ تعالى. اللهُمَّ لا يَكُنْ أهوَن عَليكَ مِنْ فَصيلِ ناقة صالح)) .

((إلهي، إنْ كُنتَ حَبَسْتَ عَنَّا النَّصْرَ فَاجْعَلهُ لِما هُوَ خيرٌ مَنهُ، وانْتَقِمْ مِنْ الظَالِمين، وَاجْعلْ مَا حلَّ بِنا في العاجِل ذَخيرةً لنا في الآجلِ)) .

((اللهمَّ أنتَ الشاهِدُ عَلى قَوْمٍ قَتَلوا أشْبَهَ النَّاسِ بِرَسُوِلكَ مُحَّمدٍ (صلّى الله عليه وآله)) (١) .

وبراوية أُخرى:((إنَّهُمْ قَد عمدوا أن لا يُبقوا أحداً من ذريّة رسولك (صلّى الله عليه وآله)) . وهو يبكي بكاءً شديداً، ويناجي ربّه بهذه الكلمات:((اللهمَّ أنت تعلمُ أنّهم دعونا لينصرونا فخذلونا وأعانوا علينا. اللهمّ احبس عنهم قطر السماء، واحرمهم بركاتك، اللهمّ لا تُرضِ عنهم أبداً. اللهمّ إن كنت حبست عنّا النصر في الدنيا فاجعله لنا ذخراً في الآخرة، وانتقم لنا من القوم الظالمين)) (٢) .

_____________________

١ - حياة الإمام الحسينعليه‌السلام ٣ / ٢٧٦.

٢ - ينابيع المودة / ٤١٥، ونفس المهموم / ٣٤٩.

٨٣

٨٤

الفصل الرابع: ومضاتٌ اجتماعية وروحية

٨٥

٨٦

المجتمع: هو أفراد الأُمّة في اجتماعهم، وعلاقاتهم المختلفة، وتشابكاتها المتعدّدة.

والإنسان نفس، وبدن، وروح، قد ذكر القرآن الكريم النفس وجعلها محتملة الأمرين، مثل قوله تعالى:( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا *وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ) (١) .

وقد ذكر البدن بطور حيادي كأنّه لا شأن له، مثل قوله سبحانه:( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) (٢) .

وذكر الروح بالإعظام والإكبار كالآية السابقة وغيرها، فكأنّ البدن السفل، والروح العلو، والنفس بينهما إن مالت إلى الأعلى كانت من العلييّن، وإن مالت إلى الأسفل كانت في سجّين.

والنفس يحيط بها البدن، والبدن في الاجتماع، وتحيط به المدنية أو نحوها،

_____________________

١ - سورة الشمس / ٧ - ١٠.

٢ - سورة الحجر / ٢٩.

٨٧

وحولها المحيط الطبيعي، والنفس قادرة على إصلاح نفسها، ثمّ بدنها، ثمّ الاجتماع ثمّ المحيط الاصطناعي، ثمّ المحيط الطبيعي، وكما أنّ النفس قادرة على التحريك باتجاه البناء هي قادرة على تخريب الكلّ.

والمجتمع إنّما يتولّد من نقطة البدء، فاللازم في علم الاجتماع أن نبدأ من هنا، ونبني الهيكل الاجتماعي الصحيح من النفس النقيّة النظيفة(١) .

والإنسان خُلق اجتماعياً بالطبع، لا لحاجاته الجسدية فقط، بل لحاجاته النفسية كذلك، حيث الإنسان يستأنس بالإنسان، ويستوحش لفقده، كان الإنسان يؤثر بالإنسان الآخر؛ سواء كانا فردين أو مجتمعين(٢) .

والإسلام يؤمن أنّ بناء المجتمع على أساس القيم الصحيحة والعمل الصالح يُعطيه ديناميكية وحركة في الاتجاه الصحيح، وعكس ذلك صحيح أيضاً، وهذا المفهوم هو عبارة عن واحدة من السنن الطبيعية التي تنطبق على المجتمع البشري عامّة، فالمجتمع مثل النهر يمتلك طاقات هائلة، إذا ما وجِّهت في الاتجاه السليم، وحُفِرت لها قنوات ملائمة، تحرّكت هذه الطاقات عبر القنوات كلّ بقدرها، وغذّت المجتمع، وأعطى بالتالي ثماراً طيّبة، ولكن إذا كانت هذه القنوات غير سليمة ومتناقضة الاتجاهات، فإنّ المجتمع سرعان ما يتحطّم ويموت.

وبكلمة أُخرى: نجد أنّ المجتمع البشري هو عبارة عن جسم حيّ مدرك، له حياته الخاصّة، ولحياته نظامها الخاصّ، وهو يتّصف بالتوازن مثلما يتّصف

_____________________

١ - موسوعة الفقه (الاجتماع) - للإمام الشيرازي ١٠٩ / ٧.

٢ - المصدر نفسه ١٠٩ / ٣٩.

٨٨

بالانحراف في سلوكه، كما يتّصف الفرد الواحد من الناس.

والنظام الاجتماعي العادل: هو الذي يكفل للمجتمع ولأفراده على السواء جميع الحقوق والواجبات، من غير تعدّ ولا تقصير.

فإذا سار المجتمع على ذلك النظام العادل، وطبَّقه على سلوكه وسلوك أفراده، سمُِّي ذلك التوازن منه عدلاً اجتماعياً.

والعدل الاجتماعي: هو أن تسير الأُمّة إلى المثل الأعلى في الحياة وفي الأخلاق، وأن تسعى ما أمكنها السعي إلى السعادة العامّة والكمالات المطلوبة، وأن تعدَّ للأفراد طرق الوصول إلى الخير فتنشئ المؤسسات الكافلة لخير البلاد والحافظة لخيراتها، وتؤسس المعاهد الصالحة لإعداد الرجال، وتثقيفهم بالثقافة الصحيحة، وأن تتمسّك بالأنظمة الشرعية الموجبة لحفظ الحقوق وسلامة النفوس.

على أن تسير في جميع ذلك وفق النظام الصحيح، والحكمة الرشيدة التي يأمر بها العقل، ويقرّها الشرع.

إنّ تعاون أفراد الأُمّة وتضامنهم أعظم موجب لتحقيق هذا العدل، وأبلغ مؤثّر فيه.

يقول المتأخرون من الخلقيين: إنّ المسؤول عن تحقيق هذه الغاية هي الحكومة التي تسيطر على الأُمّة وتتحكّم في مقدّراتها.

أمّا أفراد الأُمّة فيقعون في الدرجة الثانية من هذه المسؤولية، ووظيفة الفرد هي مساعدة الحكومة في تحقيق الغاية بما يمكنه من الوسائل.

وهذا الرأي قد يكون بيِّن النقص؛ لأنَّ العدل الاجتماعي هو التوازن التامّ في سلوك المجتمع وسلوك أفراده، وتعاون الجميع على العمل في سبيل الخير

٨٩

واكتساب الصّفات الخلقية المُثلى، ونيل السعادة العامّة، وهذا كلّه من مختصّات المجتمع نفسه ومختصّات أفراده.

أمّا ما تقوم به الحكومة من إنشاء المؤسسات والمعاهد الصالحة، فهو إحدى مقدّمات العدل الاجتماعي(١) .

البعد الاجتماعي في حياة الإمام الحسينعليه‌السلام

وبما أنّنا في رحاب الإمام الحسينعليه‌السلام الواسعة الرائعة، فإنّنا سوف نلحظ كلا الجانبين في المسألة الاجتماعية، وهما:

١ - على مستوى الأفراد، وتربيتهم وأخلاقهم.

٢ - وعلى مستوى الحكومة والأُمّة. وهذا أحد أهم أسباب النهضة الحسينيّة المباركة.

وعلى كلّ حال، فإنّ الإسلام الحنيف قد اهتمَّ اهتماماً مميّزاً بالأشخاص كأفراد مستقلين؛ لأنّ الجنّة مشروع فردي خاص، كما يُقال، وكلّ إنسان ينبغي أن يسلك الطريق الصحيح الذي رسمه له الشرع الحنيف؛ للوصول إلى الله ورضاه ودار السّلام في جواره الأقدس والجنّة.

وللحقيقة نقول: إن يحمل الإنسان أهدافاً كبيرة، أو يمتلك مستوى علمياً متقدّماً، فذلك لا يؤثّر شيئاً في حركة الواقع والحياة ما لم يصاحبه حضور اجتماعي يشقّ الطريق أمام تلك الأهداف الكبرى، ويترجم العلم إلى فعل

_____________________

١ - الأخلاق عند الإمام الصادقعليه‌السلام / ٦٧.

٩٠

ملموس على أرض الواقع.

لذلك كان الأنبياء والأئمّةعليهم‌السلام يعيشون في وسط الناس، ويتفاعلون معهم، ولم يكونوا منعزلين على قمم الجبال، أو في الكهوف والمغارات، ولا كانوا يتعالون ويترفّعون عن الناس في أبراج عاجية.

ومهما كان مستوى المجتمع من حيث التخلّف والجهل، أو من حيث طغيان أجواء الفساد والانحراف، فإنّ ذلك لا يبرّر الهروب والعزوف عن الناس لدى المصلحين الإلهيين.

ويبقى صحيحاً أنّ مخالطة الناس وهم يعيشون حالة الجهل والتخلّف، أو يخضعون لأجواء الفساد والانحراف، قد تسبّب الكثير من الأذى والمعاناة للرجال الإلهيين، لكنّ ذلك هو طريق التغيير والإصلاح، كما أنّه وسيلة لنيل ثواب الله ورضوانه.

والإمام الحسينعليه‌السلام نشأ من بداية حياته الشريفة في عمق الشأن الاجتماعي وفي صميم الأحداث؛ وذلك لأنّ جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان قطب رحى المجتمع وقائده الأعلى، وكان أبوه أمير المؤمنين عليعليه‌السلام وزير النبي ووصيه وساعده الأيمن، بل كان نفسه بنصِّ آية المباهلة(١) .

وأمّا أُمّه فاطمة الزهراءعليها‌السلام سيدة نساء العالمين، ذات الشأن العالي والمكان المرموق في الدين والدنيا، لا سيما مكانها في قلب أبيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهي بضعته وقلبه وأُمّ أبيها.

_____________________

١ - أحاديث في الدين والثقافة والاجتماع ١ / ٩١.

٩١

وممّا يؤكّد حضوره الاجتماعي في المجتمع الإسلامي النامي في ذلك العصر، أنّه كانت له حلقة خاصّة غاصّة بالفضلاء وطلاب العلم والباحثين عن الحقيقة في مسجد جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد سأل رجل من قريش معاوية بن أبي سفيان (العدو اللدود للإمامعليه‌السلام ) أين يجد الحسينعليه‌السلام ؟

فقاله له معاوية: إذا دخلت مسجد رسول الله فرأيت حلقة فيها قوم كأنّ على رؤوسهم الطير فتلك حلقة أبي عبد اللهعليه‌السلام (١) .

كان مجلسهعليه‌السلام مجلس علم ووقار، قد ازدان بأهل العلم من الصحابة، وهم يأخذون عنه ما يلقيه عليهم من الأدب والحكمة، ويسجّلون ما يروون عنه من أحاديث جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ويقول المؤرّخون: إنّ الناس كانوا يجتمعون إليه ويحفّون به وكأنّ على رؤوسهم الطير، يسمعون منه العلم الواسع والحديث الصادق(٢) .

وبالفعل كان مجلسه مهوى الأفئدة، ومتراوح الأملاك، يشعر الجالس بين يديه أنّه ليس في حضرة إنسان من عمل الدنيا وصنيعة الدنيا، تمتد أسبابها برهبته وجلاله وروعته، بل في حضرة طفاح بالسكينة كأنّ الملائكة تروح فيها وتغدو(٣) .

لقد جذبت شخصية الإمام الحسينعليه‌السلام ، وسموّ مكانته الروحيّة قلوبَ المسلمين ومشاعرهم، فراحوا يتهافتون على مجلسه (تهافت الفراش على منابع

_____________________

١ - تاريخ ابن عساكر ٤ / ٢٢٢.

٢ - الحقائق في الجوارح والفوارق / ١٠٥، حياة الإمام الحسين ١ / ١٣٧.

٣ - أشعة من حياة الحسينعليه‌السلام / ٩٣.

٩٢

النور)، ويستمعون لأحاديثه وهم في منتهى الإجلال والخضوع(١) .

وبعد هذه المقدّمة التوضيحية نعود إلى التقسيم الذي قدّمناه أوّلاً:

العمل على مستوى الفرد:

الإسلام يعمل على تربية الإنسان المؤمن المسؤول في المجتمع، والمؤمن عزيز بعزّة الله ورسوله، وذلك من قوله تعالى:( وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) (٢) .

فالعزّة إنّما تكون بالإسلام والالتزام برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعترته الأطهارعليهم‌السلام ، والعزّة للعبد المؤمن بعد ذلك.

الحسينعليه‌السلام وعزّة الإنسان المسلم

وتروي كتب التاريخ هذه الحادثة والرواية عن الإمام الحسينعليه‌السلام ، إذ دخل عليه رجل من العرب متلثّماً، أسمر شديد السّمرة، فسلَّم وردَّ عليه الإمامعليه‌السلام فقال: يابن رسول الله، مسالة.

قالعليه‌السلام :((هات)) .

فقال: كم بين الإيمان واليقين؟

قالعليه‌السلام :((أربَعُ أصابِع)) .

فقال: كيف؟

قالعليه‌السلام :((الإيمانُ ما سَمِعناهُ، واليقينُ ما رأيناهُ، وبين السمعِ والبصرِ أربعُ

_____________________

١ - حياة الإمام الحسين ١ / ١٣٧.

٢ - سورة المنافقون / ٨.

٩٣

أصابع)) .

فقال: فكم بين السماء والأرض؟

قالعليه‌السلام :((دعوةٌ مستجابةٌ)) .

فقال: فكم بين المشرق والمغرب؟

قالعليه‌السلام :((مسيرةُ يومٍ للشمس)) .

فقال: فما عزُّ المرء؟

قالعليه‌السلام :((استغناؤه عن الناس)) .

فقال: فما أقبح شيء؟

قالعليه‌السلام :((الفسقُ في الشيخِ قبيحٌ، والحدةُ في السلطانِ قبيحةٌ، والكذبُ في ذي الحسبِ قبيحٌ، والبُخلُ في ذي الغناء، والحرص في العالم)) .

فقال: صدق يابن رسول الله، فأخبرني عن عدد الأئمّة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

قالعليه‌السلام :((اثنا عشر عدد نقباء بني إسرائيل)) .

فقال: فسمهم لي.

قال: فأطرق الإمام الحسينعليه‌السلام ملياً، ثمّ رفع رأسه فقال:((نعم، أُخبرك يا أخا العرب، إنّ الإمام والخليفة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أبي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام والحسن وأنا وتسعة من ولدي، منهم علي ابني، وبعده محمد ابنه، وبعده جعفر ابنه، وبعده موسى ابنه، وبعده علي ابنه، وبعده محمد ابنه، وبعده علي ابنه، وبعده الحسن ابنه، وبعده الخلف المهدي، هو التاسع من ولدي، يقوم بالدين في آخر الزمان)) .

٩٤

قال الراوي: فقام الأعرابي وهو يقول:

مسحَ النبي جبينه

فله بريقٌ في الخدودِ

أبواهُ من أعلى قريـ

ـش جدّهُ خيرُ الجدود(١)

فالعزّ للعبد أن يكون مستغنياً عن الناس، وربما الناس بحاجة إليه، ولقد جاء بكلمة رائعة لأمير المؤمنين عليعليه‌السلام يقول فيها:((احتج إلى مَنْ شئت تكن أسيره، واستغن عمَنْ شئت تكن نظيره، وأحسن (امنن) إلى مَنْ شئت تكن أميره)) (٢) .

فإذا احتجت تكون أسيراً، وأمّا إذا أحسنت وأعطيت كنت أميراً، وكم هو الفرق ما بين الأمير والأسير، وأرجو لك عزيزي القارئ الإمارة دائماً وأبداً، وهذا لا يتحقّق إلاّ بانقطاعك إلى الله الغني الحميد، واتّباعك للمولى أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام في منهجه.

الحسينعليه‌السلام والتوكّل على الله

وبكلمة نورانية حسينيّة يقول فيها:((إنّ العزّ والغنى خرجا يجولان، فلقيا التوكّل فاستوطنا)) (٣) .

ومعنى ذلك: إنّ عزّة النفس مقارنة وملازمة للغنى والاستغناء عن الناس، وهذان لا يستوطنان إلاّ عند مَنْ يتوكّل على الله في كلّ أموره، وجميع شؤونه

_____________________

١ - كفاية الأثر / ٢٣٢، موسوعة البحار ٣٦ / ٣٨٤.

٢ - موسوعة البحار ٧٧ / ٤٠٢ باب (١٥) مواعظه وحكمه.

٣ - مستدرك الوسائل ١١ / ٢١٨ ح١٢٧٩٣.

٩٥

وشجونه.

ورحم الله أبا فراس الحمداني الشاعر الذي يقول:

إنّ الغني هو الغني بنفسه

ولو انّه عارِ المناكبِ حافي

والتوكّل على الله، هو تفويضك أمر التدبير والتقدير إلى العزيز القدير.

وقيل ذات يوم للإمام الحسينعليه‌السلام : إنّ أبا ذر يقول: الفقر أحبّ إليَّ من الغنى، والسَّقم أحبّ إليَّ من الصحّة.

فقالعليه‌السلام :((رَحِمَ اللهُ تعالى أبا ذرّ. أمّا أنا فأقول: مَنْ اتّكل على حسن اختيار الله تعالى له لم يتمنّ غير ما اختاره الله عزّ وجلّ له)) (١) .

فلا تشرط على الله إذا كنت متوكّلاً عليه ولا حتّى تتمنّى، وكلّ منَّا يتمنّى حوائجه، ولكن إذا كنت في المقام الذي يتحدّث عنه الإمام الحسينعليه‌السلام ، فإنّك عند ذلك تدع أمرك إلى الله الحكيم العليم، وهذا يكون نابعاً من أعماق إيمانك بأنّ الله حكيم، والحكيم هو الذي يضع الأشياء في مواضعها.

وأنت أخي المؤمن، إذا أيقنت بهذه الحكمة الإلهية، فإنّك تدع التدبير له، وتترك نفسك في الدنيا، وتشتغل بالطاعة والعبادة، ولا تشغل نفسك بأمور الدنيا وتدبيرها ما دام مولاك (عزَّ وجلّ) الحكيم قد تكفَّل بها.

ولهذا وذاك يقول الإمام الحسينعليه‌السلام :((مَنْ عبد الله حقّ عبادته آتاه الله فوق أمانيه وكفايته)) (٢) .

فعليك الطاعة والانقياد لله، وعليه العطاء والرزق، وهو أكرم الأكرمين، فكن على يقين أنّه سيعطيك حتّى يغنيك، وفوق كلّ أمانيك.

_____________________

١ - إحقاق الحقّ ١١ / ٥٩١.

٢ - تفسير الإمام العسكريعليه‌السلام / ٣٢٧، موسوعة البحار ٧١ / ١٨٤.

٩٦

أنواع العبادة عند الحسين بن عليعليهما‌السلام

ولكن ما هي العبادة التي ترغب فيها؟

وربما تسأل مقابل هذا السؤال وتقول: هل هناك أنواع للعبادة؟!

الإمام الحسينعليه‌السلام يجيبك بقوله الرائع:((إنّ قوماً عبدوا الله رغبةً فتلك عبادة التجّار، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبةً فتلك عبادة العبيد، وإنّ قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار، وهي أفضل العبادة)) (١) .

فالعبادة ثلاثة، والعبَّاد ثلاث:

١ - عبادة الرغبة والطمع: وهي عبادة التجارة، يريد أن يجمع الأموال الطائلة ويطمع بالزيادة دائماً وأبداً.

والعابد يطمع بالجنّة ويحقّ له الطمع فيها، وبما فيها من حور وقصور، وأنواع الخيرات الحسان، والتي جاء بها أنّها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

٢ - عبادة الرهبة والخوف: وهي عبادة العبيد الذين يخافون من السيد ويحذرون مخالفته؛ لأنّهم يتعرّضون لغضبه وعقابه الشديد.

والعُبّاد يخافون المخالفة ويخشون النار، ويحقّ لهم كلّ ذلك؛ فالخوف من النار وأنواع العذاب فيها يدعو العاقل إلى التوخّي والاحتراز عنها، فالإنسان ضعيف ولن يحتمل غضب الجبّار.

٣ - عبادة الحبّ: وهي عبادة الأحرار الذين علموا عن الله بعض الحقائق

_____________________

١ - تحف العقول / ١٧٧، موسوعة البحار ٧٨ / ١١٧، أعيان الشيعة ١ / ٦٢٠.

٩٧

التي أفاضها عليهم، فتعلّقت قلوبهم بربّهم؛ لأنّه يستجمع صفات الكمال والجلال، ويستحق العبادة؛ لأنّه المنعم الذي هو أهلٌ للشكر على أفعاله.

وهذه العبادة هي أرفع العبادات وأجلُّها وأجملها؛ لأنّها نابعة من معرفة حقيقية بالمعبود والعابد، وهذه بالحقيقة عبادة الخُلَّص من عباد الله، كالإمام الحسينعليه‌السلام والمعصومين من آله الكرامعليهم‌السلام .

الإيمان والمؤمن عند الإمام الحسينعليه‌السلام

الإيمان: هو ذلك النور الذي يقذفه الله في قلوب أوليائه وأصفيائه من الناس.

وفي الرواية: أنّه إقرار باللسان وعمل بالأركان، وأنّه أخصُّ من الإسلام الذي يعني التسليم والنطق بالشهادتين، وبه تُحقن الدماء وتجري المناكح والمواريث.

والإيمان أرفع درجة، وأعلى مقاماً من الإسلام. وهو إمّا أن يكون ثابتاً، أو مشككاً متذبذباً، وإمّا أن يكون أصلياً ذاتياً، أو يكون مستعاراً ومستودعاً، والذي يميّز ذلك كلّه هو الامتحان والاختبار الإلهي للعبد.

في رواية عن الحسين بن عليعليهما‌السلام أنّه قال:((سُئل أمير المؤمنين (صلواتُ الله عليه) ما ثبات الإيمانِ؟ فقال: الورع. فقيل له: ما زواله؟ قال: الطمع)) (١) .

فثبات الإيمان في القلب يتمّ عن طريق الورع عن محارم الله، وتكون هذه الصّفة النورانيّة ملكة شخصيّة للعبد، وهي في الحقيقة التقوى الرادعة من انتهاك المحارم أو فعل المآثم.

_____________________

١ - موسوعة البحار ٧٠ / ٣٠٥.

٩٨

وعكس الورع يكون الطمع، فالطمع في أي شيء من متاع الدنيا ولذّائذها وشهواتها، وإن كانت حلالاً، يخرجها إلى حدِّ الإفراط فيها فينقلب إلى الحرام، ويسبّب فعلها اللوم والعقاب؛ ولهذا فإنّ العبد المؤمن دأبه مراقبة نفسه واتّهامها على الدوام.

يقول الإمام الحسينعليه‌السلام :((إنّ المؤمن اتّخذ الله عصمتهُ، وقولهُ مرآته، فمرةٌ ينظرُ في نعتِ المؤمنين، وتارةً ينظر في وصف المتُجبّرين، فهو منه في لطائف، ومن نفسه في تعارفٍ، ومن فطنته في يقين، ومن قدسه على تمكين)) (١) .

فالعبد المؤمن يعتصم بالله لا بسواه، ويجعل مرآته في كلّ حركاته وسكناته، كتاب الله وآياته في القرآن الكريم.

فمرّة ينظر في آيات القرآن باحثاً عن الآيات التي تصف المؤمنين، فيجمعها ويلتزم بها قدر الإمكان، لا سيما آيات سورة المؤمنون، وأواخر سورة الفرقان وغيرها من آيات الذكر الحكيم التي تصف المؤمنين، ويبحث عن نداءات أهل الإيمان( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ) ، وقد بلغت (٨٩) مورداً في القرآن، ويتدبّر فيها؛ ليعلم ماذا يريد ربّنا سبحانه منّا، فيفعله إذا كان أمراً، أو يرتدع عنه إذا كان نهياً وزجراً.

ومرّة أُخرى يبحث في الكتاب العزيز عن وصف المتجبّرين، كالفراعنة والقوارين - جمع قارون - وجنودهم وأذنابهم، ويدرس صفاتهم ويحاول قدر المستطاع أن يطهِّر نفسه من تلك الرذائل اللعينة، والفيروسات الروحيّة القاتلة.

_____________________

١ - تحف العقول / ١٧٨، موسوعة البحار ٧٨ / ١١٩ حديث ١٥.

٩٩

ويبحث في القرآن الكريم عن لطائف الحكمة، وروائع الآيات الروحانيّة، متنسّماً لتلك النسائم العبقة التي تهبّ على روحه ونفسه من خلال تنقّله في رياض الآيات القرآنيّة الكريمة، ويتعرّض إلى نفحات ربّ العالمين الرحمانيّة.

وأمّا نفسه فإنّه دائماً وأبداً يتّهمها؛ فهي أمارة بالسوء، وهو يعرفها حقّ المعرفة، وربّنا سبحانه يقول:( بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) (١) .

فلا أحد أعلم بك منك إلاّ الذي خلقك ورزقك وسوّاك وعدلك؛ ولهذا يكون الإنسان على يقين من أعماله التي عملها، وهو على إصلاح نفسه وتقديسها وتزكيتها قادر قوي متمكّن؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى ألطف وأرحم بنا من أنفسنا، ولن يحاسبنا على شيء لا نقدر عليه.

وبهذا المعنى يقول الإمام الحسينعليه‌السلام :((ما أخذ الله طاقةَ أحدٍ إلاّ وضع عنه طاعتهُ، ولا أخذ قُدرتهُ إلاّ وضع عنه كُلفته)) (٢) .

وهذا يكون أجمل تفسير لقوله تعالى:( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا ) (٣) ، وقوله تعالى:( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاّ مَا آتَاهَا ) (٤) .

والقاعدة التي تقول: إذا أخذ ما أوهب أسقط ما أوجب.

فالتكليف يكون بالقدرة والقدر والسعة وليس زائداً؛ لأنّه يكون ظلماً وجوراً وتكليف بما لا يُطاق، وحاشا لله أن يفعل بعباده مثل هذا.

_____________________

١ - سورة القيامة / ١٤.

٢ - تحف العقول / ١٧٦.

٣ - سورة البقرة / ٢٨٦.

٤ - سورة الطلاق / ٧.

١٠٠