الامام الحسين (عليه السلام) سيد الشهداء

الامام الحسين (عليه السلام) سيد الشهداء0%

الامام الحسين (عليه السلام) سيد الشهداء مؤلف:
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 236

الامام الحسين (عليه السلام) سيد الشهداء

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد منذر الحكيم
تصنيف: الصفحات: 236
المشاهدات: 155021
تحميل: 6678

توضيحات:

الامام الحسين (عليه السلام) سيد الشهداء
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 236 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 155021 / تحميل: 6678
الحجم الحجم الحجم
الامام الحسين (عليه السلام) سيد الشهداء

الامام الحسين (عليه السلام) سيد الشهداء

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الرّسول (صلّى الله عليه وآله) كانت ثقيلة الوطأة عليها، وبلغت غاية الشدّة أيام تسلّط معاوية على الشّام ومحاربة الإمام عليّ (عليه السّلام)، وبالتالي اضطرار الإمام الحسن (عليه السّلام) لإبرام صلح معه ؛ لأسباب موضوعية كانت تكتنف الاُمّة.

ولكننا نلحظ أنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) لم يغيّر من موقفه المتطابق مع موقف الإمام الحسن (عليه السّلام) تجاه معاوية حتّى بعد استشهاد الإمام الحسن(عليه السّلام)، فلم يعلن ثورته، وما كان ذلك إلاّ لبقاء نفس الأسباب التي دفعت بالإمام الحسن (عليه السّلام) إلى قبول الصلح، فمِنْ ذلك:

١ - حالة الاُمّة الإسلاميّة

كان الوضع النفسي والاجتماعي للاُمّة الإسلاميّة متأزّماً، إذ كانت تتطلّع إلى حالة السّلم بعد أن أرهقها معاوية والمنافقون بحروب دامت طوال حكم الإمام عليّ (عليه السّلام)، فكان رأي الإمام الحسن (عليه السّلام) هو أن يُربّي جيلاً جديداً وينهض بعد حين، فقد قال (عليه السّلام):(( إنّي رأيت هوى أعظم النّاس في الصّلح، وكرهوا الحرب؛ فلم اُحبّ أن أحملهم على ما يكرهون، فصالحت بقياً على شيعتنا خاصّة من القتل، ورأيت دفع هذه الحرب إلى يوم ما، فإنّ الله كلّ يوم هو في شأن )) (١) .

وهو نفسه موقف الإمام الحسين (عليه السّلام)؛ بسبب ما كان يعيه ويدركه من واقع الاُمّة، فكان قوله لمنْ فاوضه في الثورة إذ قعد الإمام الحسن (عليه السّلام) عنها:(( صدق أبو محمّد، فليكن كلّ رجل منكم حلساً من أحلاس بيته ما دام هذا الإنسان حيّاً )) .

وبقي هذا موقفه نفسه بعد استشهاد الإمام الحسن (عليه السّلام)؛ لبقاء نفس

____________________

(١) الأخبار الطوال / ٢٢١.

١٤١

الأسباب، فقد كتب (عليه السّلام) يردّ على أهل العراق حين دعوه للثورة:(( أمّا أخي فأرجو أن يكون الله قد وفّقه وسدّده فيما يأتي، وأمّا أنا فليس رأيي اليوم ذلك، فالصقوا رحمكم الله بالأرض، واكمنوا في البيوت، واحترسوا من الظنّة ما دام معاوية حيّاً )) (١) .

٢ - شخصيّة معاوية وسلوكه المتلوّن

لقد كانت زعامة الاُمّة الإسلاميّة بعد وفاة الرّسول (صلّى الله عليه وآله) بأيدي مسؤولين غير كفوئين لفترة طويلة. ومراجعة بسيطة لأحداث ووقائع تلك الفترة توضّح ذلك.

ولكنّ معاوية كان أشدّ مكراً ومراوغةً ودهاءً؛ إذ كان يتلاعب ببراعة سياسية، ويتوسّل بكلّ وسيلة من أجل أن يبقى زمام السّلطة بيده، متّخذاً من التظاهر بالدين ستراً يُغطّي جرائمه الأخلاقية واللإنسانيّة، والتي منها فتكه بخيار المسلمين، ومخادعة عوام النّاس في مجاراته لعواطفهم ومعتقداتهم، وهو يحمل حقداً لا ينقطع على الإسلام والرسول (صلّى الله عليه وآله)(٢) .

وقد تمكّن معاوية من القضاء على المعارضين له من دون اللجوء إلى القتال والحرب، فهو الذي اغتال الإمام الحسن (عليه السّلام)، وسعد بن أبي وقّاص(٣) ، وقضى على عبد الرحمن بن خالد(٤) ، ومن قبله على مالك الأشتر، وقد أوجز اُسلوبه هذا في كلمته المشهورة: « إنّ لله جنوداً منها العسل »(٥) .

كما إنّ معاوية كان يضع كلّ مَنْ يلمس منه أيّة معارضة أو تحرّك تحت مجهر المراقبة والإرصاد، فتُرفع إليه التقارير عن كلّ ما يحدث فيستعجل في

____________________

(١) المصدر السابق / ٢٢٢.

(٢) شرح النهج - لابن أبي الحديد ٢ / ٣٥٧.

(٣) مقاتل الطالبيين / ٢٩، ومختصر تأريخ العرب / ٦٢.

(٤) التمدن الإسلامي - لجرجي زيدان ٤ / ٧١.

(٥) عيون الأخبار ١ / ٢٠١.

١٤٢

القضاء عليه.

في مثل هذا الاُسلوب - أي التصرّف تحت ستار الإسلام - لو قام الإمام الحسين (عليه السّلام) بحركة واسعة، ونشاط سياسي بعد وفاة الإمام الحسن (عليه السّلام) مباشرةً لما كان قادراً على فضح معاوية، وإقناع كلّ الجماهير بشرعيّة ثورته، ولكان معاوية متمكّناً من القضاء عليه من دون ضجيج، وعندها كانت الثورة تموت في مهدها، وتضيع جهود كبيرة كان من شأنها أن تبني في الاُمّة تيّاراً واعياً، ويختنق الصوت الذي كان في مقدوره أن يبقى مدوّياً في تأريخ الإنسانيّة كما حصل في واقعة الطفّ.

وما كان الإمام الحسين (عليه السّلام) ليتمكّن من توضيح كلّ أهدافه وغاياته من الثورة(١) ، المتمثّلة في إنقاذ الاُمّة من الظلم، وصيانة الرسالة الإسلاميّة من التحريف لو كان يسرع بثورته في أيام معاوية.

وأمّا حينما اعتلى يزيد عرش الخلافة، وهو مَنْ قد عرفه النّاس باللهو والفسق، والشغف بالقرود وشرب الخمور، وعدم صلاحيته للخلافة؛ لتجاوزه وعدوانه على كلّ المقاييس الشّرعيّة والعرفيّة لدى المسلمين، فالثورة عليه تعدّ ثورة مشروعة عند عامّة المسلمين، كما أثبت التأريخ ذلك بكلّ وضوح.

٣ - احترام صلح الإمام الحسن (عليه السّلام)

لقد كان العهد والميثاق الذي تمّ بين معاوية وبين الإمام الحسن (عليه السّلام) ورقة رابحة يلوّحها معاوية لكلّ تحرّك فعّال مضاد تجاه تربّعه على مسند السّلطة، صحيح أنّه عهد غير حقيقي، وما كان برضى الإمامين (عليهما السّلام)، وتمّ في ظروف كان لا بدّ من تغييرها، لكنّ المجتمع لم يكن يتقبّل نهضة الإمام الحسين (عليه السّلام) مع وجود هذا العهد، وحتى لو كان هذا العهد صحيحاً فإنّ معاوية نقضه بممارسته العدائية بملاحقة رجال الشّيعة، ولم يرعَ أيَّ حقّ في

____________________

(١) للتفصيل راجع ثورة الحسين، ظروفها الاجتماعية وآثارها النفسية / ١٢٢.

١٤٣

سياسته الاقتصادية.

وقد سارع معاوية لاستغلال هذا العهد في التشهير بالإمام الحسين (عليه السّلام)، وإظهاره بموقف الناقض للعهد، فقد كتب إلى الإمام (عليه السّلام): أمّا بعد، فقد انتهت إليّ اُمور عنك، إن كانت حقاً فإنّي أرغب بك عنها. ولعمر الله، إنّ مَنْ أعطى عهد الله وميثاقه لجدير بالوفاء، وإنّ أحقّ الناس بالوفاء مَنْ كان مثلك في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزلك الله بها، ونفسك فاذكر، وبعهد الله أوفِ؛ فإنّك متى تنكرني أنكرك، ومتى تكدني أكدك، فاتّقِ شقّ عصا هذه الاُمّة(١) .

من هنا لجأ الإمام الحسن (عليه السّلام)، ومن بعده الحسين (عليه السّلام) إلى اُسلوب آخر لنشر الدعوة، والتهيّؤ للثورة التي غذّاها معاوية بظلمه وجوره، وبُعده عن تمثيل الحكم الإسلامي الصحيح، حتّى إذا مات معاوية كان كثير من النّاس، وعامّة أهل العراق - بشكل خاصّ - يرون بغض بني اُميّة وحبّ أهل البيت (عليهم السّلام) لأنفسهم ديناً(٢) .

المواقف من ثورة الحسين (عليه السّلام) قبل انطلاقها

لم تكن نهضة الإمام الحسين (عليه السّلام) وثورته حركةً آنيةً، أو ردّة فعل مفاجئة، بل كان الحسين (عليه السّلام) في الاُمّة يُمثّل بقيّة النبوّة، وكان وريث الرسالة، وحامل راية القيم السّامية التي أوجدها الإسلام في الاُمّة وأرسى قواعدها، كما إنّ العهد قريب برحيل النبيّ (صلّى الله عليه وآله) الذي كان يُكثر الثناء والتوضيح لمقام الإمام الحسين (عليه السّلام)، وفي الوقت نفسه كانت قد ظهرت مقاصد الاُمويّين

____________________

(١) الإمامة والسّياسة ١ / ١٨٨، والأخبار الطوال / ٢٢٤، وأعيان الشّيعة ١ / ٥٨٢.

(٢) الفتنة الكبرى، علي وبنوه - طه حسين / ٢٩٠، وللمزيد من التفصيل راجع ثورة الحسين (عليه السّلام)، ظروفها الاجتماعية وآثارها النفسية / ١٢٧.

١٤٤

الفاسدة تجاه رسالة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) الإسلاميّة واُمّته المؤمنة برسالته.

وقد وقف أهل البيت (عليهم السّلام) بصلابة يدافعون عن الحقّ والعدل وإحياء الرسالة الإسلاميّة، والمحافظة عليها بكلّ وسيلة ممكنة ومشروعة.

وفي عصر الإمام الحسين (عليه السّلام) كان لتراخي وفتور الاُمّة عن نصرة الحقّ إلى جانب تسلّط المنافقين ونفوذهم في أجهزة الدولة دور كبير لإيجاد حالة مَرَضيّة يمكن تسميتها بفقدان الإرادة وموت الضمير، ومن ثمّ تباينت المواقف تجاه اُسلوب الدفاع عن العقيدة الإسلاميّة وصيانتها، وسيادة الحقّ والعدل.

ولكن لم يشكّ أحد في مشروعية وعدالة موقف الإمام الحسين (عليه السّلام) تجاه الانحراف المستشري في كلّ مفاصل الدولة، وتجاه التغيير الحاصل في بنية الاُمّة الإسلاميّة، إلاّ أنّ موقف الاستعداد الكامل للنصرة باتخّاذ قرار ثوريّ يزيح عن الاُمّة الظلم والفساد لم يكن يتكامل بعد لدى الجميع.

وقد كانت هذه المواقف تتراوح بين التأييد مع إعلان الاستعداد للثورة مهما كانت النتائج، وبين الحذر من الفشل وعدم نجاح الثورة، وبين التثبيط وفتّ العزائم.

وتبنّى شيعة أهل البيت (عليهم السّلام) الذين اكتووا بجحيم البيت الأموي المتحكّم في رقاب المسلمين موقف التأييد وإعلان الاستعداد، وإن غلب الخوف على بعضهم فيما بعد، واُودع البعض الآخر السجن، أو حوصر من قبل قوّات السّلطة الاُمويّة.

كما تبنّى آخرون من أقرباء الإمام (عليه السّلام) - مثل عبد الله بن عباس ومحمّد ابن الحنفيّة - موقف الحذر، ورجّحوا للإمام الحسين (عليه السّلام) الهجرة إلى اليمن ؛ نظراً لبُعد اليمن عن العاصمة، ولتوفّر جمع من شيعته وشيعة أبيه

١٤٥

فيها(١) .

وتبنّى آخرون موقف التثبيط، وفتّ العزائم والتخويف من مغبّة الثورة على الحاكم، فنصحوا الإمام (عليه السّلام) بالدخول فيما دخل فيه النّاس، والصّبر على الظلم، كما تمثّل ذلك في نصيحة عبد الله بن عمر للإمام الحسين (عليه السّلام)(٢) .

____________________

(١) مقتل الحسين - للخوارزمي ١ / ١٨٧ و ٢١٦، ومروج الذهب ٣ / ٦٤.

(٢) مقتل الحسين - للخوارزمي ١ / ١٩١.

١٤٦

البحث الرابع: توجّه الإمام (عليه السّلام) إلى مكّة

خرج الإمام الحسين (عليه السّلام) من المدينة متوجّهاً إلى مكة بأهله وإخوته، وبني عمومته وبعض الخواصّ من شيعته، ولم يبقَ إلاّ أخوه محمّد بن الحنفيّة، وأفادت بعض المصادر التأريخية بأنّ الإمام (عليه السّلام) أقام في بيت العباس بن عبد المطلب(١) ، فيما تحدّثت مصادر اُخرى عن إقامته (عليه السّلام) في شِعْب عليّ(٢) .

وأقام الإمام (عليه السّلام) في مكة أربعة أشهر وأياماً من ذي الحجّة، كان فيها مهوى القلوب، فالتفّ حوله المسلمون يأخذون عنه الأحكام، ويتعلّمون منه الحلال و الحرام، ولم يتعرّض له أمير مكة يحيى بن حكيم بسوء، وحيث ترك الإمام (عليه السّلام) وشأنَه؛ فقد عزله يزيد بن معاوية عنها، واستعمل عليها عمرو بن سعيد بن العاص.

وفي شهر رمضان من تلك السنة (٦٠ هـ ) ضمّ إليه المدينة، وعزل عنها الوليد بن عتبة؛ لأنّه كان معتدلاً في موقفه من الإمام (عليه السّلام)، ولم يستجب لطلب مروان(٣) .

رسائل أهل الكوفة إلى الإمام (عليه السّلام)

وقد عرف النّاس في مختلف الأقطار امتناع الإمام الحسين (عليه السّلام) عن البيعة، فاتّجهت إليه الأنظار، وبخاصّة أهل الكوفة، فقد كانوا يومذاك من أشدّ النّاس نقمةً على يزيد، وأكثرِهم ميلاً إلى الإمام (عليه السّلام)؛ فاجتمعوا في دار سليمان بن صرد الخزاعي، فقام فيهم خطيباً فقال: إنَّ معاوية قد هلك، وإنّ حسيناً قد تقبّض على القوم ببيعته، وقد خرج إلى مكة، وأنتم شيعته وشيعة أبيه، فإن كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدو عدوّه فاكتبوا إليه وأعلموه، وإنْ خفتم

____________________

(١) تأريخ ابن عساكر ١٣ / ٦٨.

(٢) الأخبار الطوال / ٢٠٩.

(٣) سيرة الأئمّة الاثني عشر٢ / ٥٨.

١٤٧

الفشل والوهن فلا تغرّوا الرجل في نفسه.

قالوا: لا، بل نقاتل عدوّه، ونقتل أنفسنا دونه.

قال: فاكتبوا إليه.

فكتبوا إليه: « للحسين بن عليّ (عليهما السّلام) من سليمان بن صرد، والمسيّب بن نَجَبَة، ورفاعة بن شدّاد البجلي، وحبيب بن مظاهر، وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة. سلام عليك، فإنّا نحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو.

أمَّا بعد، فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبّار العنيد الذي انتزى على هذه الاُمّة فابتزّها أمرها، وغصبها فيئها، وتأمّر عليها بغير رضا منها، ثمّ قتل خيارها واستبقى شرارها، وجعل مال الله دُوْلةً بين جبابرتها وأغنيائها، فبعداً له كما بعدت ثمود! إنّه ليس علينا إمام غيرك، فأقبل لعلّ الله أن يجمعنا بك على الحقّ، وإنّ النعمان بن بشير في قصر الإمارة، وإنّنا لم نجتمع معه في جمعة ولا نخرج معه إلى عيد، ولو قد بلغنا أنّك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتّى نلحقه بالشّام إن شاء الله تعالى ».

ثمّ سرّحوا بالكتاب مع عبد الله بن مِسْمَع الهَمْداني، وعبد الله بن وال وأمروهما بالنجاء(١) ، فخرجا مسرعين حتّى قدما على الحسين (عليه السّلام) بمكة لعشر مضين من شهر رمضان، ولبث أهل الكوفة يومين بعد تسريحهم بالكتاب، وأنفذوا قيس بن مُسْهِر الصيداوي، وعبد الله وعبد الرحمن ابني شداد الأرحبي، وعمارة بن عبد السَلولي إلى الحسين (عليه السّلام) ومعهم نحو من مئة وخمسين صحيفةً من الرجل والاثنين والأربعة، ثمّ لبثوا يومين

____________________

(١) النجاء: السرعة.

١٤٨

آخرين وسرّحوا إليه هاني بن هاني السبيعي، وسعيد بن عبد الله الحنفي، وكتبوا إليه:

« للحسين بن علىّ (عليهما السّلام) من شيعته من المؤمنين والمسلمين.

أمَّا بعد، فإنّ النّاس ينتظرونك، لا رأي لهم غيرك، فالعجل العجل، ثمّ العجل العجل، والسّلام ».

ثمّ كتب شبث بن ربعي، وحجّار بن أبجر، ويزيد بن الحارث بن رُوَيْم، وعروة بن قيس، وعمرو بن الحجّاج الزبيدي، ومحمد بن عمير التميمي:

« أمَّا بعد، فقد اخضرّ الجَناب، وأينعت الثمار، فإذا شئت فاقدم على جند لك مجنّدة، والسّلام »(١) .

جواب الإمام (عليه السّلام) على رسائل الكوفيّين

تتابعت كتب الكوفيّين كالسيل إلى الإمام الحسين (عليه السّلام) وهي تدعوه إلى المسير والقدوم إليهم؛ لإنقاذهم من ظلم الاُمويّين وبطشهم، وكانت بعض تلك الرسائل تُحَمِّلُه المسؤولية أمام الله والاُمّة إن تأخّر عن إجابتهم.

ورأى الإمام - قبل كلّ شيء - أنْ يختار للقياهم سفيراً له يُعَرّفُه باتّجاهاتهم وصدق نيّاتهم، وقد اختار ثقته وكبير أهل بيته مسلم بن عقيل، وهو من أمهر السّاسة وأكثرهم قدرةً على مواجهة الظروف الصّعبة، والصمود أمام الأحداث الجسام، وزوّده برسالة رويت بصور متعدّدة، من بينها النصّ الذي رواه صاحب الإرشاد، وهي كما يلي:

____________________

(١) الإرشاد ٢ / ٣٨، وروضة الواعظين / ١٧١، وتذكرة الخواص / ٢١٣، وتأريخ الطبري ٤ / ٢٦٢، والفتوح - لابن أعثم ٥ / ٣٣، ومقتل الحسين - للخوارزمي ١ / ١٩٥.

١٤٩

(( من الحسين بن عليّ إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين. أمّا بعد، فإنّ هانئاً وسعيداً قَدِما عليّ بكتبكم، وكانا آخر مَنْ قَدِمَ عليّ من رسلكم، وقد فهمتُ كلّ الذي اقتصصتم وذكرتم، ومقالة جُلّكم إنّه ليس علينا إمام، فأقبلْ لعلّ الله أن يجمعنا بك على الحقّ والهدى.

وإنّي باعث إليكم أخي وابنَ عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، فإنْ كتب إليّ أنّه قد اجتمع رأيُ ملئكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمتْ به رسلُكم، وقرأتُ في كتبكم فإنّي أقدمُ إليكم وشيكاً إن شاء الله. فلعمري، ما الإمام إلاّ الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحقّ، الحابسُ نَفسه على ذات الله. والسّلام )) (١) .

تحرّك مسلم بن عقيل نحو الكوفة

لقد أكّد المؤرّخون أنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) أرسل مسلم بن عقيل مع قيس بن مسهر الصيداوي، وعمارة بن عبد الله السلولي، وعبد الله وعبد الرحمن ابني شدّاد الأرحبي إلى الكوفة، بعد أنْ أمره بالتقوى وكتمانِ أمرِه واللطف بالناس، فإنْ رأى النّاس مجتمعين مستوسقين عجّلَ إليه بذلك(٢) .

وفي النّصف من شهر رمضان انطلق مسلم من مكة نحو الكوفة، فعرّج على المدينة فصلّى في مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وودّع مَنْ أحَبَّ من أهله وواصل مسيره إلى الكوفة.

وتعدّدت أقوال المؤرّخين بشأن المكان الذي نزل فيه مسلم بن عقيل

____________________

(١) الإرشاد ٢ / ٣٩، وإعلام الورى ١ / ٤٣٦، والفتوح - لابن أعثم ٥ / ٣٥، ومقتل الحسين - للخوارزمي ١ / ١٩٥.

(٢) الفتوح ٥ / ٣٦، ومقتل الحسين - للخوارزمي ١ / ١٩٦.

١٥٠

بعد أنْ وصل إلى الكوفة، فثمّة مَنْ قال: إنّه نزل في دار المختار بن أبي عبيدة(١) ، وقيل: نزل في بيت مسلم بن عوسجة(٢) ، وقيل: في بيت هاني بن عروة(٣) .

وعندما علم الكوفيّون بوصول مبعوث الحسين (عليه السّلام) إلى مدينتهم ازدحموا للقائه وبيعته، وحسب قول بعض المؤرّخين فقد أقبلت الشّيعة تختلف إليه، فلمّا اجتمع إليه منهم جماعة قرأ عليهم كتاب الحسين (عليه السّلام) وهم يبكون، وبايعه النّاس، حتّى بايعه منهم ثمانية عشر ألفاً(٤) .

رسالة مسلم بن عقيل إلى الإمام الحسين (عليه السّلام)

ظلّ مسلم بن عقيل يجمع القواعد الشّعبية ويأخذ البيعة للإمام (عليه السّلام)، وتوالت الوفود تقدّم ولاءها، والجماهير تعلن عن استبشارها. وقد لاحظنا كيف أنّ النّاس كانوا يبكون وهم يسمعون مسلماً يقرأ عليهم رسالة الإمام الحسين (عليه السّلام) التي فيها يحيّيهم، ويعلن استعداده للقدوم إليهم، وقيادة الثورة على الحكم الطاغي.

وبعد أن لاحظ مسلم كثرة الأنصار بادر بالكتابة إلى الإمام (عليه السّلام)، ناقلاً إليه صورةً حيّة للأحداث والوقائع التي تجري أمام عينيه في الكوفة، وقيّم له الموقف وأعرب عن تفاؤلهِ وسأله القدوم.

وقد جاء في رسالة مسلم للإمام (عليه السّلام): « أَمّا بعد، فإن الرائد لا يكذب أهله، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشَر ألفاً، فعجّل حين يأتيك كتابي،

____________________

(١) الإرشاد ٢ / ٤١، وإعلام الورى ١ / ٤٣٧.

(٢) الإصابة ١ / ٣٣٢.

(٣) تهذيب التهذيب ٢ / ٣٤٩.

(٤) الإرشاد ٢ / ٤١، ومناقب آل أبي طالب ٤ / ٩٠، وتذكرة الخواص / ٢٢٠.

١٥١

فإنّ النّاس كلَّهُم معك، ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوى »(١) .

رسالة الإمام (عليه السّلام) إلى زعماء البصرة

وذكر المؤرخون أنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) - بعد أن قرّر التوجّه إلى العراق - بعث رسالة إلى زعماء البصرة جاء فيها:(( أمّا بعد، فإنّ الله اصطفى محمّداً (صلّى الله عليه وآله) من خلقه، وأكرمه بنبوّته، واختاره لرسالته، ثمّ قبضه إليه، وقد نصح لعباده، وبلّغ ما اُرسل به، وكنّا أهلَه وأولياءه، وأوصياءه وورثته، وأحقَّ الناس بمقامه، فاستأثر علينا قومنا بذلك، فرضينا وكرهنا الفرقة وأحببنا العافية، ونحن نعلم أنّا أحقُّ بذلك الحقّ المستحقّ علينا ممّن تولاّه. وقد بعثتُ رسولي إليكم بهذا الكتاب، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه؛ فإنّ السنّة قد أُميتت، والبدعة قد أُحييت، فإنْ تسمعوا قولي أهدكم إلى سبيل الرشاد )) (٢) .

وقد بعث (عليه السّلام) عدّة نسخ من هذه الرسالة إلى كلّ من: مالك بن مسمع البكري، والأحنفِ بن قيس، والمنذر بن الجارود، ومسعود بن عمرو، وقيس بن الهيثم، وعمرو بن عبيد بن معمر، ويزيد بن مسعود النهشلي، وأرسل الإمام (عليه السّلام) النسخ مع مولىً له يُقال له: سليمان أبو رزين.

ولم يُجب على رسالة الإمام (عليه السّلام) غيرُ الأحنف بن قيس ويزيد بن مسعود، أمّا المنذر بن الجارود فقد سلّم رسول الحسين إلى ابن زياد - وكان حينها والياً على البصرة - فصلبه عشية الليلة التي خرج في صبيحتها إلى الكوفة(٣) . وكانت ابنة المنذر زوجة ابن زياد فزعم المنذر أنّه كان يخشى أن يكون الرّسول مدسوساً من ابن زياد لكشف نواياه.

____________________

(١) حياة الإمام الحسين ٢ / ٣٤٨، عن تأريخ الطبري ٦ / ٢٢٤.

(٢) مقتل الحسين - للمقرّم / ١٥٩ - ١٦٠، وتأريخ الطبري ٤ / ٢٦٦، وأعيان الشّيعة ١ / ٥٩٠.

(٣) بحار الأنوار ٤٤ / ٣٣٩، وأعيان الشّيعة ١ / ٥٩٠.

١٥٢

جواب الأحنف بن قيس

وأمّا الأحنف بن قيس - وهو أحد زعماء البصرة - فقد أجاب على رسالة الإمام (عليه السّلام) برسالة كتب فيها هذه الآية الكريمة، ولم يزد عليها:( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ) (١) .

وهذا الجواب يعكس مدى تخاذله وتقاعسه في مواجهة الظلم والمنكر.

جواب يزيد بن مسعود النهشلي

واستجاب الزعيم الكبير يزيد بن مسعود النهشلي إلى تلبية نداء الحقّ، فاندفع بوحي من إيمانه وعقيدته إلى نصرة الإمام، فعقد مؤتمراً عامّاً دعا فيه القبائل الموالية له، وهي:

١ - بنو تميم.

٢ - بنو حنظلة.

٣ - بنو سعد.

وانبرى فيهم خطيباً فكان ممّا قال: إنَّ معاوية مات، فأهونْ به واللهِ هالكاً ومفقوداً، ألا إنّه قد انكسر باب الجور والإثم، وتضعضعت أركان الظلم، وكان قد أحدث بيعة عقد بها أمراً ظنّ أنّه قد أحكمه، وهيهات الذي أراد! اجتهد والله ففشل، وشاور فخذل، وقد قام يزيد شارب الخمور ورأس الفجور يدّعي الخلافة للمسلمين، ويتأمرّ عليهم بغير رضىً منهم مع قصر حلم وقلّة علم، لا يعرف من الحقّ موطأ قدميه، فأُقسم بالله قسماً مبروراً لَجِهادُه على الدين أفضل من جهاد المشركين.

وهذا الحسين بن عليّ وابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ذو الشّرف الأصيل، والرأي الأثيل. له فضل لا يوصف، وعلم لا ينزف. وهو أولى بهذا الأمر لسابقته وسنّه، وقِدمه وقرابته من رسول الله (صلّى الله عليه وآله). يعطف على الصغير،

____________________

(١) سير أعلام النبلاء ٣ / ٣٠٠، والآية (٦٠) من سورة الروم.

١٥٣

ويُحسن إلى الكبير، فأكرم به راعي رعية، وإمام قوم وجبت لله به الحجّة، وبلغت به الموعظة. فلا تعشوا عن نور الحقّ، ولا تسكعوا في وهد الباطل... والله لا يُقصِّر أحدكم عن نصرته إلاّ أورثه الله الذلّ في ولده، والقلّة في عشيرته، وها أنا قد لَبَسْتُ للحرب لامَتها، وادَّرَعْتُ لها بِدِرْعِها. مَنْ لم يُقْتَلْ يَمُتْ، ومَنْ يهرب لم يفت، فأحسنوا رحمكم الله ردّ الجواب ».

ولما أنهى النهشلي خطابه انبرى وجهاء القبائل فأظهروا الدعم الكامل له، فرفع النهشلي رسالة للإمام (عليه السّلام) دلّت على شرفه ونبله، وهذا نصّها: « أمّا بعد، فقد وصل إليَّ كتابك، وفهمت ما ندبتني إليه ودعوتني له من الأخذ بحظّي من طاعتك، والفوز بنصيبي من نصرتك، وإنّ الله لم يخلُ الأرض قطّ من عامل عليها بخير، ودليل على سبيل نجاة، وأنتم حجّة الله على خلقه، ووديعتُه في أرضه، تفرّعتم من زيتونة أحمدية، هو أصلها وأنتم فرعها، فأقدم سعدت بأسعد طائر؛ فقد ذلّلت لك أعناق بني تميم، وتركتهم أشدّ تتابعاً في طاعتك من الإبل الضمأى لورود الماء يوم خمسها، وقد ذلّلت لك رقاب بني سعد، وغسلت درن قلوبها بماء سحابة مزن حين استهلّ برقُها فلمع »(١) .

ويقول بعض المؤرّخين: إنّ الرسالة انتهت إلى الإمام (عليه السّلام) في اليوم العاشر من المحرّم بعد مقتل أصحابه وأهل بيته، وهو وحيد فريد قد أحاطت به القوى الغادرة، فلمّا قرأ الرسالة قال (عليه السّلام):(( آمنك الله من الخوف، وأرواك يوم العطش الأكبر )) .

ولما تجهّز ابن مسعود لنصرة الإمام بلغه قتله فَجَزع لذلك، وذابت

____________________

(١) اللهوف / ٣٨، وأعيان الشّيعة ١ / ٥٩٠، وبحار الأنوار ٤٤ / ٣٣٩.

١٥٤

نفسه أسىً وحسرات(١) .

موقف والي الكوفة

كان النعمان بن بشير والياً على الكوفة وقتذاك، ومع أنّه كان عثماني الهوى واُمويّ الرغبة لكنّه لم يكن راضياً عن خلافة يزيد، وبعد موت معاوية انضم إلى عبد الله بن الزبير وقاتل وقُتل معه.

وعليه فإنّه لم يتّخذ موقفاً متشدّداً من نشاطات مسلم بن عقيل في الكوفة، ولم يُنقل عنه في تلك المرحلة الحسّاسة سوى خِطاب ألقاه في جمع الكوفيين، كان - كما يتصوّر - لرفع العتب والتظاهر بأنّه يقوم بواجبه كوال تابع لحكومة الشّام.

وقد ذكر في خطابه: أمّا بعد، فاتّقوا الله عبادَ الله ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة؛ فإنّ فيها تَهلِكُ الرجال، وتُسفَكُ الدماء، وتُغْصَبُ الأموال. إنّي لا اُقاتل مَنْ لا يُقاتلني، ولا آتي على مَنْ لم يأت عليَّ، ولا اُنبّه نائمكم، ولا أتحرّش بكم، ولا آخُذُ بالقرف ولا الظِنَّة ولا التهمة، ولكنّكم إنْ أبديتم صفحتكم لي ونكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم، فوالله الذي لا إله غَيرُه َلأضربنّكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولو لم يكن لي منكم ناصر، أما إنّي أرجو أن يكون مَنْ يعرف الحقّ منكم أكثرَ مِمَّنْ يرديهِ الباطل(٢) .

فقام إليه عبد الله بن مسلم بن ربيعة الحضرمي حليف بني اُميّة فقال: إنَّه لا يُصْلِحُ ما ترى أيّها الأمير إلاّ الغُشْمُ، وإنّ هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوّك رأيُ المستضعفين. فقال له النعمان: لئن أكون من المستضعفين

____________________

(١) اللهوف / ٣٨، وأعيان الشّيعة ١ / ٥٩٠، وبحار الأنوار ٤٤ / ٣٣٩.

(٢) الكامل في التأريخ ٣ / ٢٦٧.

١٥٥

في طاعة الله أحبُّ إليّ مِنْ أن أكون من الأعزّين في معصية الله(١) .

أنصار الاُمويّين يتداركون أُمورهم

كانت الكوفة تضمّ آنذاك فئةً من أنصار الاُمويّين والمعارضين لأهل البيت (عليهم السّلام)، وبين هذه الفئة كان بعض المنافقين الذين يتظاهرون بالتشيّع لأمير المؤمنين (عليه السّلام) فيما كانوا يُبْطِنُونَ محبّة الاُمويّين، الأمر الذي ساعدهم في اختراق صفوف شيعة أهل البيت (عليهم السّلام) والتجسس لصالح الحكم الاُموي، وكان من بين هؤلاء عبد الله الحضرمي الذي عاب على النعمان رأيَه كما لاحظنا قبل قليل؛ فقد كتب رسالةً إلى يزيد جاء فيها: أمّا بعد، فإنّ مسلم بن عقيل قد قَدِمَ الكوفة وبايعته الشّيعة للحسين بن عليّ بن أبي طالب، فإن يكن لك في الكوفة حاجة فابعثْ إليها رجلاً قويّاً ينفذ أمرك، ويعمل مثل عملك في عدوّك؛ فإنّ النعمان بن بشير رجل ضعيف، أو هو يتضَعَّفُ(٢) .

ويضيف المؤرّخون أنّه كتب إليه - يعني إلى يزيد - عمارة بن عقبة بنحو كتابه - يعني كتاب الحضرمي -، ثمّ كتب إليه عمر بن سعد بن أبي وقّاص مثلَ ذلك(٣) .

قلق يزيد واستشارة السيرجون (٤)

قَلِقَ يزيد كثيراً من الأخبار التي وصلته من الكوفة،

____________________

(١) الإرشاد ٢ / ٤٢، وأنساب الأشراف / ٧٧، والفتوح ٥ / ٧٥، والعوالم - للبحراني ١٣ / ١٨٢.

(٢) الإرشاد ٢ / ٤٢، وإعلام الورى ١ / ٢٣٧.

(٣) المصدر السابق.

(٤) السيرجون: غلام نصراني كان معاوية قد اتخذه كاتباً ومستشاراً له، واستمر في منصبه الخطير في عهد يزيد الذي كان قد نشأ على التربية النصرانية، وكان أقرب منها إلى غيرها.

وليس هذا أوّل مورد نلاحظ فيه بصمات أصابع أهل الكتاب في صنع مواقف هؤلاء الحكّام تجاه الرسالة والعقيدة، والاُمة الإسلاميّة وقادتها الاُمناء عليها؛ لقد كان لكلّ من تميم الداري ( الراهب النصراني ) وكعب الأحبار ( اليهودي ) موقع متميّز عند عمر؛ حيث كان يحترمهما ويستشيرهما، ويسمح لهما بالتحدّث كلّ أُسبوع قبل صلاة الجمعة، فضلاً عن تدريس التوراة وتفسير القرآن الكريم، في وقت كان لا يسمح للصحابة بكتابة حديث الرّسول (صلّى الله عليه وآله) ولا التحديث به، بل كان يحبسهم في المدينة لئلاّ ينشروا حديث الرّسول (صلّى الله عليه وآله). ( راجع كنز العمّال / الحديث رقم ٤٨٦٥، وتذكرة الحفاظ / بترجمة عمر، وتاريخ ابن كثير ٨ / ١٠٧ ). =

١٥٦

وهي تتحدّث عن موقف الكوفيّين من الحكم الاُموي ومبايعتهم للإمام الحسين (عليه السّلام)؛ فدعا يزيد السيرجون الذي كان يعدّ غلاماً لمعاوية، فقال له: ما رأيك؟ إنّ حسيناً قد أنفذ إلى الكوفة مسلم بن عقيل يبايع له، وقد بلغني عن النعمان ضعف وقول سيّئ، فَمَنْ ترى أن أستعمل على الكوفة؟ وكان يزيد عاتباً على عبيد الله بن زياد(١) .

فقال له السيرجون: أَرأيت لو [يُنشر] إليك معاوية حيّاً هل كنتَ آخذاً برأيه؟

قال: بلى.

فأخرج السيرجون عهد عبيد الله بن زياد على الكوفة، وقال: هذا رأي معاوية، مات وقد أمر بهذا الكتاب، فضُمّ المصرَيْن ( يعني

____________________

= وقد عظم نفوذ هؤلاء القصّاصين بعد عمر، وتعاظم في عهد الاُمويّين، واستمر في عهد العباسيين، بالرغم من أنّ الإمام عليّاً (عليه السّلام) كان قد طردهم من مساجد المسلمين.

ولا يبعد أن يكون دخول عقائد منحرفة كالتجسيم، وعدم عصمة الأنبياء وغيرها من المفاهيم المنحرفة إلى مصادر المسلمين نتيجة هذا الحضور الفاعل منهم في السّاحة الإسلاميّة وتحت شعار الإسلام ونصح الحكّام.

وقد تميّز معاوية باتخاذ بطانة واسعة من أهل الكتاب؛ حيث تلاحظ أنّ كاتبه ومستشاره نصراني، وهو (السيرجون )، كما أنّ طبيبه كان نصرانياً وهو (أثال)، وشاعره أيضاً كان نصرانياً وهو (الأخطل)، والشّام هي عاصمة نصارى الروم البيزنطيين قبل دخول الإسلام إليها. (راجع معالم المدرستين ٢ / ٥١ - ٥٣ ).

(١) لأنّ عبيد الله بن زياد كان معارضاً لمعاوية في تولية العهد ليزيد، انظر البداية والنهاية ٨ / ١٥٢.

١٥٧

الكوفة والبصرة والتي كان والياً عليها أيام معاوية ) إلى عبيد الله.

فقال له يزيد: أفعلُ. ابعث بعهد عبيد الله بن زياد إليه...

ثمّ دعا مسلم بن عمرو الباهلي وكتب إلى عبيد الله معه كتاباً جاء فيه: أمّا بعد، فإنّه كتب إليَّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابن عقيل فيها، يجمع الجموع ليشق عصا المسلمين، فسر حين تقرأ كتابي هذا حتّى تأتيَ الكوفة فتطلب ابنَ عقيل طَلَب الخِرزةِ حتّى تثقفه فتُوثِقَه، أو تقتله أو تنفيَهُ، والسّلام(١) .

توجّه عبيد الله بن زياد إلى الكوفة

استلم عبيد الله بن زياد كتاب يزيد بن معاوية، فانطلق في اليوم الثاني نحو الكوفة ومعه مسلم بن عمرو الباهلي، وشريك بن الأعور الحارثي وحشمه وأهل بيته(٢) ، حيث ينتظر أهلُها قدومَ الإمام الحسين (عليه السّلام) ومعظمهم لا يعرف شخصية الإمام ولم تكن قد التقته من قبل، وقد تعجّل ابن زياد الانتقال إلى الكوفة ليصلها قبل الإمام الحسين (عليه السّلام).

باغت ابن زياد جماهير الكوفة وهو يُخفي معالم شخصيتِه، ويتستّر على ملامحه، فقد تلثّم ولبس عمامةً سوداء، وراح يخترق الكوفة والناس ترحّب به وتسلِّمُ عليه، وتردِّد: مرحباً بك يابن رسول الله، قدمت خير مقدم(٣) .

فساءه ما سمع وراح يواصل السير نحو قصر الإمارة، فاضطرب النعمان وأطلّ من شرفات القصر يخاطب عبيد الله بن زياد، وكان هو أيضاً قد ظنّ أنّه الإمام، فخاطبه: اُنشدك الله إلاّ ما تنحّيتَ، واللهِ ما أنا بمسلِّم إليك أمانتي، وما لي

____________________

(١) الإرشاد ٢ / ٤٢ - ٤٣، وإعلام الورى ١ / ٤٣٧، وسير أعلام النبلاء ٣ / ٢٠١.

(٢) إعلام الورى ١ / ٤٣٧.

(٣) الإرشاد ٢ / ٤٣، وإعلام الورى ١ / ٤٣٨.

١٥٨

في قتالك من إرب...(١) .

صمت ابن زياد وراح يقترب من باب القصر، حتّى شخّص النعمان أنّ القادم هو ابن زياد، ففتح الباب ودخل ابن زياد القصر وأغلق بابه وباتَ ليلته، وباتت الكوفة على وجل وترقّب، وفي منعطف سياسي خطير.

محاولات ابن زياد للسيطرة على الكوفة

فوجئ أهل الكوفة بابن زياد عند الصّباح وهو يحتلّ القصر بالنداء: الصلاة جامعةً، فقام خطيباً في الجموع المحتشدة، وراح يُمنّي المطيع والسّائر في ركب السّياسة القائمة بالأماني العريضة، ويهدّد ويتوعّد المعارضة والمعارضين والرافضين لحكومة يزيد، حتّى قال:... سوطي وسيفي على مَنْ ترك أمري وخالف عهدي(٢) .

ثمّ فرض على الحاضرين مسؤولية التجسّس على المعارضين، وهدّد مَنْ لَمْ يُساهم في هذه العملية ويُنَفِّذْ هذا القرار بالعقوبة وقطع المخصّصات المالية، فقال:... فمَنْ يجيء لنا بهم فهو بريء، ومَنْ لم يكتب لنا أحدٌ فليضمن لنا في عَرافته أن لا يخالِفَنا منهم مخالف، ولا يبغي علينا منهم باغ، فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ برئت منه الذمّة وحلال لنا دمُه ومالُه. وأيُّما عريف وجد في عرافته مَنْ بُغية أمير المؤمنين أحد لم يرفعه إلينا صُلب على باب داره، واُلغيت تلك العرافة من العطاء(٣) .

وقد كان ابن زياد معروفاً في أوساط الكوفيّين بالقسوة والشدّة، فكان

____________________

(١) الإرشاد ٢ / ٤٣، وروضة الواعظين / ١٧٣، ومقتل الحسين - للخوارزمي / ١٩٨، وتهذيب التهذيب ٢ / ٣٠٢.

(٢) مقاتل الطالبيّين / ٩٧، وإعلام الورى ١ / ٤٣٨.

(٣) الإرشاد ٢ / ٤٥، والفصول المهمّة / ١٩٧، والفتوح - لابن أعثم ٥ / ٦٧.

١٥٩

من الطبيعي أن يُحْدِثَ قدومُه وخطابُه الشديد اللهجة هزّةً عند المعارضين لسياسته، فلاحت بوادر النكوص والتخاذل والإرجاف تظهر على الكوفيّين وقياداتهم؛ من هنا اعتمد مسلم بن عقيل وسيلةً جديدة للسير في حركته نحو الهدف المطلوب. فانتقل إلى دار هانئ بن عروة وجعل يتستّر في دعوته وتحركاته إلاّ عن خلّص أصحابه، وهانئ يومذاك سيّد بني مراد وصاحب الكلمة المسموعة في الكوفة والرأي المطاع(١) .

موقف مسلم من اغتيال ابن زياد

لقد كان مسلم بن عقيل (رضوان الله تعالى عليه) يحمل رسالةً ساميةً، وأخلاقاً فاضلة اكتسبها من بيت النبوّة، كما كان يملك درايةً بكلّ تقاليد وأعراف المجتمع الذي كان يتحرّك فيه، ففي موقف كان يمكن فيه لمسلم بن عقيل أن يغتال ابن زياد رفض ذلك لاعتبارات شتّى.

فقد روي أنّ شريك بن الأعور حين نزل في دار هانئ بن عروة مرض مرضاً شديداً، وحين علم عبيد الله بن زياد بذلك قدم لعيادته، وهنا اقترح شريك على مسلم أن يغتال ابن زياد، فقال: إنّما غايتك وغاية شيعتك هلاك هذا الطاغية، وقد أمكنك الله منه، وهو صائر إليّ ليعودني، فقم وادخل الخزانة حتّى إذا اطمأنّ عندي فاخرج إليه فاقتله، ثمّ صر إلى قصر الإمارة فاجلس فيه؛ فإنّه لا ينازعنّك فيه أحد من النّاس.

ولمس مسلم كراهية هانئ أن يُقتل عبيد الله في داره، ولم يأخذ مسلم باقتراح شريك، وحين خرج عبيد الله قال شريك بحسرة وألم لمسلم: ما منعك من قتله؟

قال مسلم: منعني منه خلّتان؛ أحدهما كراهية هانئ لقتله في

____________________

(١) مروج الذهب ٢ / ٨٩، والأخبار الطوال / ٢١٣، وإعلام الورى ١ / ٤٣٨.

١٦٠