الشهادة الثالثة

الشهادة الثالثة14%

الشهادة الثالثة مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 420

الشهادة الثالثة
  • البداية
  • السابق
  • 420 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 105737 / تحميل: 6294
الحجم الحجم الحجم
الشهادة الثالثة

الشهادة الثالثة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الشهادة الثالثة

محمّد السند

١

٢

الشهادة الثالثة

محمّد السند

٣

٤

بسم الله الرحمن الرحيم

٥

٦

تقريظ

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أخذَ الإيمان برسالة خاتم أنبياءه ديناً في ميثاقه على جميع أنبياءه لإعطائهم النبوّة حيث قال: ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ) (١) .

فكان جميع الأنبياء والرُسل على دين محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وقد جعلَ تعالى من أصول هذا الدين والديانة أيضاً ولاية وصيّه عليّاً (عليه السلام) حيث قال: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) (٢) ، وقال تعالى: ( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً ) (٣) ،

____________________

(١) آل عمران: ٨١.

(٢) المائدة: ٦٧.

(٣) المائدة: ٣.

٧

فجعلَ الولاية من الدين الواحد الذي بُعثت به جميع الأنبياء لا من مختصّات الشريعة الأخيرة.

ثُمّ الصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين لكلّ الأزمنة والبيئات البشريّة إلى يوم القيامة، الذي قال تعالى في شأنه: ( وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ) (١) ، فقرنَ ذكرهُ بذكر الله تعالى حيثما يُذكر، فرفعَ ذكرهُ في الأذان مع ذكره تعالى، كما قرنَ اسمه باسمه في العرش وعلى آله المطهّرين الذين أذهبَ عنهم الرجس، والذي قال تعالى في شأنهم: ( مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ... ) (٢)، ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ) (٣) ، ( رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ) (٤).

فرفعَ الله تلك البيوت التي هي رجال معصومون من الرجس مطهّرون، كما رفعَ ذِكر نبيهّ، فقرنَ الشهادة بولايتهم بالشهادتين، فجعلَ حقيقة التشهّد في شريعة الإيمان هي الشهادات الثلاث ونَعت أهل الإيمان بقوله: ( وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ ) (٥) فجمعَ لفظ الشهادة.

وبعد، فهذا الكتاب سفرٌ استدلالي في الآيات، والروايات، والسيرة، وفتاوى المتقدّمين حول الشهادة الثالثة في الأذان وتشهّد الصلاة، قد قام جناب الفهّامة اللوذعي،

____________________

(١) الانشراح: ٤.

(٢) النور: ٣٥.

(٣) النور: ٣٦.

(٤) النور: ٣٧.

(٥) المعارج: ٣٣.

٨

نجم الأفاضل الشيخ علي الشكري (دام توفيقه) بتقريره، بعدما عرضَ لي مجموعة من التساؤلات حول الوجيزة التي كنتُ كتبتها في ذلك وطُبعت عام ٤٨هـ ق، فوجدتُ الإجابة عليها تُكوّن كتاباً مستقلاً، وقد كتبَ التوفيق الإلهي أن وَقفنا على شواهد روائيّة وموارد للاستدلال لم يقف عليها البحث الفقهي من قبل.

فأرجو منه تعالى له المزيد من التوفيق والنجاح لخدمة الدين ومنهاج الحقّ والهدى.

محمّد السند

٥ / ربيع الأول / ١٤٢٦هـ.ق

٩

١٠

المقدّمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتديَ لولا أن هدانا الله، الحمد لله على هدايته إلى حقائق الإيمان، وأنارَ قلوبنا بأنوار العلم والمعرفة بأهل بيته محمّد بقدر ما احتَمَلتهُ قلوبنا ووَعته عقولنا القاصرة، ثُمّ الصلوات الزاكيات على سيّدنا ونبيّنا وشفيع ذنوبنا وحبيب قلوبنا محمّد، الصادع بالدين الحنيف والمبلِّغ لرسالات ربّه، وعلى آله الأطهار والدعاة إلى الله والناشرين لأحكام الله، لاسيّما سيّد العترة المشهود له بالولاية في السماوات والأرضين، المقرون اسمه بنبيّ الرحمة في كلّ عالَم الوجود والإمكان.

وبعد: إنّ من مِنن المولى القدير (جلّ شأنه) ومعونة سيّد المُرسلين وآله الطاهرين، أنْ وفِّقتُ لحضور أبحاث الأستاذ المحقّق آية الله الشيخ محمّد السَند (دامت إفاداته وتأييداته)، والارتواء من منهله الصافي العَذب، وقد امتازت أبحاثه بالدقّة والتحقيقات البكر لاسيّما بحث الشهادة الثالثة في الأذان والإقامة وباقي أفعال الصلاة، إذ إنّني لم أجد أحداً من السابقين ولا المتأخّرين قد بلورَ جزئيّة الشهادة الثالثة بهذه الطريقة، وهذا الفهم الدقيق والواسع والمستفاد من الضوابط العامّة والقواعد الأساسيّة للمذهب والدين، كما قد أمتاز بحثه بالتفحّص الطويل والعميق في روايات وتراث أهل البيت (عليهم السلام)، فلله درّه وعلى الله أجره وألحقهُ الله وجمعهُ مع أئمّتنا المعصومين الطاهرين.

١١

وبعد، فإنّه قد قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) (١) .

فيا تُرى ما هذا الذي أُمرَ الرسول بالنداء به على رؤوس الناس في أُخريات حياته المزامن لآخر سورة نَزلت عليه؟ وما هذا الأمر الذي عَدل بإبلاغه ربُّ العزّة إبلاغ كلّ الرسالة؟ أوَ ما كان رسول الله قد أبلغَ فريضة التوحيد من شهادة أن لا إله إلاّ الله منذ أوّل يوم صدعَ بالرسالة في مكّة، أوَ ما كان رسول الله قد أبلغ الفريضة الثانية بأنّه رسول الله، وأيّ شيء يَعظم خَطبهِ مثل الشهادتين بحيث يُنذر الباري نبيّه بأنّ عدم إبلاغه للناس هو: بمنزلة عدم الإبلاغ للرسالة برمّتها، وما هو هذا الأمر الذي يتخوّف من الناس التمرّد عليه وعدم انصياعهم له، أوَ ما كان الشرك وعبادة الأصنام مستفحلة في قلوبهم، ومع ذلك سارعَ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بإبلاغ التوحيد عندما أُمرَ بالصدع، أوَ ما كانت قريش والعرب والجاهليّة تُنابذ بني هاشم على نبوّة النبي ومع ذلك لم يأبه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من الإنذار والتبشير بنبوّته، فإذاً أيّ شيء هذا الذي يخشى النبي من عصيان وتمرّد الناس عن الاستجابة إليه؟ ثُمّ ما هذا الأمر الذي يوجِب سلب الإيمان عن الناس بتمرّدهم عليه؟

إنّ هذا الأمر تطالعنا الآية الأخرى في سورة المائدة بالإفصاح عنه حيث قال تعالى: ( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً ) (٢) .

____________________

(١) المائدة: الآية ٦٧.

(٢) المائدة: الآية ٣.

١٢

وهذه الآية تُناغم الآية السابقة، وتُفصح عن حدثٍ في ذلك اليوم قد وقعَ به إياس الكفار من إزالة الدين، وبه حَصلت الضمانة الإلهيّة لخلود هذا الدين، كما حَصل به عزّة المسلمين ومنعةُ حوزتهم، فما هو هذا الشيء الذي حدثَ في ذلك اليوم وكُتبَ به إعزازهم، وما هذا الأمر في ذلك اليوم الذي لولاه لم يكمل الدين ولولاه لم يرضَ الربُّ تعالى الإسلام ديناً؟ وهذا التعبير على وزان التعبير في الآية الأولى: من أنّ لولا إبلاغ ذلك لمَا حصلَ إبلاغ الرسالة أي إنّه ثمرة الرسالة وضمان بقائها، وإنّ من أركان الاعتقاد الذي به يتكامل ظاهر الإسلام إلى طور حقيقة الإيمان، إذ إنّه الغاية المرضيُّ بها من ظاهر الإسلام قال تعالى: ( قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنّا قُل لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) (١) .

فكانت بيعة الغدير وميثاق الولاية بالشهادة الثالثة تتلو الشهادتين، وبها كمال الدين لا خصوص الشريعة ورضا الرب للإسلام، ولا مجرّد الشرعة والمنهاج فآلت ركناً اعتقاديّاً ثالثاً في الدين، بل هي شرط حقيقة التوحيد كما في حديث الرضا (عليه السلام) المعروف بالسلسلة الذهبيّة عن آبائه عن رسول الله حيث قال:

(سمعتُ أبي موسى بن جعفر يقول: سمعتُ أبي جعفر بن محمّد يقول: سمعتُ أبي محمّد بن علي يقول: سمعتُ أبي علي بن الحسين يقول: سمعتُ أبي الحسين بن علي بن أبي طالب يقول: سمعتُ أبي أمير المؤمنين يقول: سمعتُ رسول الله يقول: سمعتُ جبرئيل يقول: سمعتُ الله جلّ جلاله يقول: لا إله إلاّ الله حِصني، فمَن دخلَ حِصني أمِنَ من عذابي، قال: فلمّا مرّت الراحلة نادانا: بشروطها وأنا من شروطها) (٢).

____________________

(١) الحجرات: الآية ٤.

(٢) التوحيد للصدوق: ص٢٥، باب ثواب الموحّدين والعارفين، ح ٢٣.

١٣

فآلى بتجريد الشهادتين من الشهادة الثالثة إلى الانخلاع من ربقة الإيمان، وقد جعلَ تعالى من صفات الإيمان في المؤمنين ما أشار إليه في قوله تعالى: ( وَالّذِينَ هُم بِشَهَاداتِهِمْ قَائِمُونَ ) (١).

فجاء بلفظ الجمع؛ ليدلّك على زيادة الشهادات على الاثنتين، وقد تواترت الروايات الواردة عن أهل البيت بل وعن جملة من المصادر العامّة، على أنّ التشهّد حقيقة شرعيّة في الشهادات الثلاث، بل وفي مجمل العقائد الحقّة وذلك بلسان اقتران الشهادات الثلاث في كلّ مراحل نواميس الخلقة الإلهيّة، وسيأتي الإشارة إلى المصادر الروائيّة ومضانّ أبواب تلك الروايات.

كما قد وردَ أنّ التشهّد كحقيقة شرعيّة أُخذت في حقيقة الأذان، وجُعل في مطّلع الأذان للنداء به، فكانت مجموع هذه المقرّرات الشرعيّة بمثابة التقرير الواضح من الشرع على النداء بالشهادة الثالثة في الأذان حيث يُنادى فيه بالتشهّد، بل قد روى اقتران الشهادات الثلاث في حقيقة التشهّد جملة غفيرة من الصحابة (٢) ، كما ورد في روايات الفريقين ممّا يدلّك على تأصّل تشريعها النبوي في الأذان منذ عصر صاحب الرسالة،

____________________

(١) المعارج: الآية ٣٣.

(٢) وسيأتي ذكر هذه الروايات في مطاوي الكتاب.

١٤

كما هو الحال في إبلاغه لميثاق الولاية في بيعة الغدير، هذا مضافاً إلى ما يأتي من الأدلّة الخاصّة على ذلك إلاّ أنّه كما تُنكّر لأصل الولاية ولبيعة الغدير، تُنكّر أيضاً للنداء بالشهادة الثالثة في الأذان، كيف لا وقد جرى بعد وفاة الرسول ما جرى مالا تستوعبه الأسماع، وقد روى الكليني عن علي بن إبراهيم، عن صالح بن السندي، عن جعفر بن بشير، عن عنبسة، عن أبي عبد الله قال: (إيّاكم وذِكر علي وفاطمة، فإنّ الناس ليس شيء أبغض إليهم من ذِكر علي وفاطمة (عليهما السلام) (١).

وقال ابن أبي الحديد المعتزلي في معرض كلامه عن حرب بني أميّة لعلي ولذكره: (إنّ الطِباع تَحرص على ما تُمنع منه وتلحّ فيه، فالناس لمّا مُنعوا من ذِكر فضائله والموالاة له وألزموا سبّه وبغضه، ازدادوا بذلك محبّةً له وإظهاراً لشرفه ولذلك سبّوه بني أميّة ألف شهر على المنابر، فما زاد ذلك ذِكر عليّ إلاّ علوّاً ولا ازدادَ الناس في محبّته إلاّ غلوّاً) (٢).

وأخرجَ مالك في الموطّأ بإسناده: أنّ رجلاً سأل عثمان بن عفّان عن الأختين من مُلك اليمين هل يُجمع بينهما؟ فقال: أحلّتهما آية، فأمّا أنا فلا أحبّ أن أصنع ذلك، قال: فخرجَ من عنده فلقيَ رجلاً من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فسألهُ عن ذلك؟ فقال:

____________________

(١) الكافي: ج٨، ص١٥٩.

(٢) شرح نهج البلاغة: ج١٣، ص٢٢٣.

١٥

لو كان ليس من الأمر شيء ثُمّ وجدتُ أحداً فعلَ ذلك لجعلتهُ نكالاً.

قال ابن شهاب: أراه عليّ بن أبي طالب، وعلّقَ ابن عبد البر في كتاب الاستذكار على هذه الرواية بقوله: (إنّما كنّى قبيصة ابن ذؤيب عن عليّ بن أبي طالب؛ لصحبته عبد الملك بن مروان وكانوا يستثقلون ذِكر عليّ بن أبي طالب) (١).

وكذلك رويَ: أنّه قد أُدخل عَدي بن حاتم الطائي على معاوية وقال له: ما أبقى الدهر من ذِكر علي بن أبي طالب، فقال عدي: فهل رعى الدهر إلاّ ذِكراً وقال: كيف حُبّك له فتنفّس الصَعداء، وقال: حُبّي والله جديد لا يبيد، وقد تمكّن من شغاف الفؤاد إلى يوم المعاد، وقد امتلأ من حُبّه صدري وفاضَ في جسدي وفكري) (٢).

ونَقل ابن أعثم في الفتوح أيضاً: (أنّ معاوية قال له: يا أبا طريف، ما الذي أبقى لك الدهر من ذِكر عليّ بن أبي طالب فقال عدي: وهل يتركني الدهر أن لا أذكره قال: فما الذي بقيَ في قلبك من حُبّه؟ قال عدي: كلّه وإذا ذُكر ازداد، فقال معاوية: ما أريد إلاّ أخلاق ذكره فقال عدي: قلوبنا ليست بيدك يا معاوية، فضحك معاوية.... الحديث) (٣) .

____________________

(١) الموطّأ لمالك بن أنس: ج٢، ص١٠، راجع أيضاً تفسير ابن كثير ج١، ص٤٨٤، وقد ذكرَ الشيخ الأميني تسعة مصادر أخرى فراجع ج٨، ص٢١٥، طبعة طهران.

(٢) أشعّة الأنوار في فضل حيدر الكرار: ص٣١٤، طبعة النجف.

(٣) الفتوح لابن أعثم: ج٣، ص١٣٤.

١٦

وروى أبو الفرج الأصفهاني في الأغاني عن ابن عائشة قال: كان أبو عدي يكره ما يجري عليه بنو أُميّة من ذِكر علي وسبّه على المنابر، ويُظهر الإنكار لذلك فشهدَ عليه قوم من بني أميّة بمكّة بذلك ونهوه عنه، فانتقلَ إلى المدينة وقال:

شَردوا بي عند امتداحي عَليّ

ورأوا ذاك في داءً دوّياً

فَو ربّي ما أبرح الدهر حتّى

تختلي مُهجتي بحبّي عليّاً

وبنيه لحُب أحمد أنّي

كنتُ أحببتهم بحبّ النبيا

حُبّ دين لا حبّ دنيا وشر

الحبّ حبّ يكون دنيوياً (١)

ونقلَ ابن أبي الحديد عن شيخه أبي جعفر الاسكافي قوله: (لولا ما غَلب على الناس من الجهل وحبّ التقليد، لم يُحتج إلى نقض ما احتجّت به العثمانيّة، فقد عَلم الناس كافة أنّ الدولة والسلطان لأَرباب مقالتهم، وعرفَ كلّ أحد على أقدار شيوخهم وعلمائهم وأُمرائهم وظهور كلمتهم وقهر سلطانهم وارتفاع التقيّة عنهم، والكرامة والجائزة لمَن روى الأخبار والأحاديث في فضل أبي بكر، وما كان من تأكيد بني أميّة لذلك، وما رواه المحدِّثون من الأحاديث طلباً لمَا في أيديهم فكانوا لا يألون جهداً في طول ما ملكوا أن يخملوا ذِكر علي (عليه السلام) وولده، ويطفئوا نورهم ويكتموا فضائلهم ومناقبهم وسوابقهم ويحملوا على شتمهم وسبّهم ولَعنهم على المنابر، فلم يزل السيف يقطر من دمائهم مع قلّة عددهم وكثرة عدوّهم، فكانوا بين قتيلٍ وأسير وشريد وهارب ومُستخف وذليل وخائف ومترقّب،

____________________

(١) قاموس الرجال: ج١٠، ص١٣١، المُجدي في أنساب الطالبيين لعلي بن محمد العلوي، ص٣٦٤.

١٧

حتّى أنّ الفقيه والمحدِّث والقاضي والمتكلّم يتقدّم إليه ويتوعّد بغاية الإبعاد وأشدّ العقوبة، ألاَّ يذكروا شيئاً من فضائلهم ولا يرخّصوا لأحد أن يطيف بهم، وحتّى بلغَ من تقيّة المحدِّث أنّه إذا ذَكر حديثاً عن علي (عليه السلام) كنّى عن ذكره فقال: قال رجل من قريش، وفعلَ رجل من قريش، ولا يذكر عليّاً (عليه السلام) ولا يتفوّه باسمه، ثُمّ رأينا جميع المختلفين قد حاولوا نقض فضائله ووجّهوا الحِيل والتأويلات نحوه من: خارجي مارق، وناصب حنق، وثابت مُستبهم، وناشئ معاند، ومنافق مُكذّب، وعثماني حسود يعترض ويطعن...

وقد علمتُ أنّ معاوية ويزيد ومَن كان بعدهما من بني مروان أيّام مُلكهم - وذلك نحو ثمانين سنة - لم يدعوا جهداً في حمل الناس على شتمه ولعنه وإخفاء فضائله وستر مناقبه وسوابقه) (١) .

ثُمّ ذكرَ ابن أبي الحديد روايات مستفيضة من مصادرهم، في السُنن التي أقامها بنو أميّة في النيل من علي (عليه السلام) وشتمه فلاحظ ذلك (٢) .

وكذلك نقلَ ابن أبي الحديد في موضع آخر بقوله: (ولقد كان الحجّاج ومَن ولاّه كعبد الملك والوليد، ومَن كان قبلهما وبعدهما من فراعنة بني أميّة على إخفاء محاسن علي (عليه السلام)، وفضائله وفضائل ولده وشيعته وإسقاط أقدارهم، أحرص منهم على إسقاط قراءة عبد الله وأُبي؛ لأنّ تلك القراءات لا تكون سبباً لزوال مُلكهم وفساد أمرهم وانكشاف حالهم، وفي اشتهار فضل علي (عليه السلام) وولده وإظهار محاسنهم بوارهم، وتسليط حكم الكتاب المنبوذ عليهم،

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج١٣، ص٢١٩.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج١٣، ص٢١٩.

١٨

فحرصوا واجتهدوا في إخفاء فضائله، وحملوا الناس على كتمانها وسترها، وأبى الله أن يزيد أمره وأمرَ ولده إلاّ استنارة وإشراقاً، وحبّهم إلاّ شَغفاً وشدّة، وذِكرهم إلاّ انتشاراً وكثرة، وحجّتهم إلاّ وضوحاً وقوّة، وفضلهم إلاّ ظهوراً، وشأنهم إلاّ علوّاً، وأقدارهم إلاّ إعظاماً حتى أصبحوا بإهانتهم إيّاهم أعزّاء...) (١) الحديث.

ومن هذا يُعلم أنّ ذِكر أهل البيت (عليهم السلام) حاربهُ أعداء الله بهذه الصورة، مع أنّ ذِكرهم لم يكن في أذان أو في صلاة بل كان ذِكر فضائلهم ومحاسنهم - وهم سادة الخلق على رؤوس الأشهاد - من خلال الخُطب ومجالس الذكر، فكيف إذاً لو ذُكر عليٌ وأولاده في الأذان - وهو الحقّ - ماذا كانت تصنع قريش، وماذا كان يصنع معاوية وهو الذي كان يصعب عليه أن يسمع ذِكر خاتم النبيين وسيّد المرسلين - الذي نقلهُ ونَقَلهم من الضلالة إلى الهدى - في الأذان، ولولا خوف الاتّهام بصراحة الكفر والخروج عن الإسلام لأسقطَ ذكرهُ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من الأذان، بل من كلّ شيء في ذِكر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وإلى هذا المعنى أشارت روايات عديدة من مصادرهم أذكر بعضاً منها.

الأولى: ما رواه أحمد بن أبي طاهر في كتاب (أخبار الملوك): أنّ معاوية سمعَ المؤذِّن يقول: (أشهدُ أن لا إله إلاّ الله) فقالها ثلاثاً، فقال: أشهدُ أنّ محمّداً رسول الله فقال: لله أبوك يا بن عبد الله لقد كنتَ عالي الهمّة، ما رضيتَ إلاّ أن يُقرن اسمك باسم ربّ العالمين) (٢) .

____________________

(١) شرح نهج البلاغة: ج١٣، ص٢٢٤.

(٢) شرح ابن أبي الحديد: ج١٠، ص١٠١، طبعة المرعشي النجفي.

١٩

الثانية: (روى الزبير بن بكار في الموفقيات وهو غير متّهم على معاوية، ولا منسوب إلى اعتقاد الشيعة لمَا هو معلوم من حاله من مجانبة علي (عليه السلام) والانحراف عنه، قال المطرف بن المغيرة بن شعبة:

دخلتُ مع أبي على معاوية وكان أبي يأتيه فيتحدّث معه، ثُمّ ينصرف إليّ فيذكر معاوية وعقله ويَعجب بما يرى منه، إذ جاء ذات ليلة فأمسكَ عن العشاء ورأيته مغتمّاً فانتظرتهُ ساعة وظننتُ أنّه لأمرٍ حَدث فينا فقلتُ: مالي أراك مُغتمّاً منذ الليلة؟ فقال: يا بُني، جئتُ من عند أكفر الناس وأخبثهم، قلتُ: وما ذاك؟ قال: قلت له وقد خلوتُ به: إنّك قد بلغتَ سنّاً يا أمير المؤمنين فلو أظهرتَ عدلاً وبسطتَ خيراً فإنّك قد كبرتَ، ولو نظرتَ إلى إخوتك من بني هاشم فوصلتَ أرحامهم فو الله ما عندهم اليوم شيء تخافه، وإنّ ذلك ممّا يبقى لك ذكره وثوابه فقال:

هيهات هيهات! أيّ ذِكر أرجو بقاءه! مَلك أخو تيم فعدلَ وفعل ما فعل، فما عدا أن هلكَ حتى هلكَ ذكره، إلاّ أن يقول قائل: أبو بكر، ثُمّ مَلك أخو عدي، فاجتهدَ وشمّر عشر سنين فما عدا أن هَلك حتّى هلكَ ذكره إلاّ أن يقول قائل: عمر، وإنّ ابن أبي كبشة ليُصاح به كلّ يوم خمس مرّات: (أشهدُ أنّ محمّداً رسول الله) فأيّ عملٍ يبقى؟ وأيّ ذِكر يدوم بعد هذا لا أباً لك! لا والله إلاّ دَفناً دفناً) (١).

ومن هذين الروايتين يُعلم عدم تسليم معاوية بالشهادة الثانية، ولله درّ ابن أبي الحديد حيث قال: (وقد طَعن كثير من أصحابنا في دين معاوية، ولم يقتصروا على تفسيقه وقالوا عنه: إنّه كان مُلحداً لا يعتقد النبوّة، ونقلوا عنه في فلتات كلامه وسقطات ألفاظه ما يدلّ على ذلك) (٢).

____________________

(١) شرح ابن أبي الحديد: ج٦، ص١٢٩ - ١٣٠.

(٢) شرح ابن أبي الحديد: ج٦٠، ص١٢٩.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) .

وهذه الآية على ايجازها تشتمل على أمرين ونهيين وبشارتين ، وهي خلاصة قصّة كبيرة وذات أحداث ومجريات ننقلها بصورة مضغوطة :

كانت سلطة فرعون وحكومته الجائرة قد خططت تخطيطا واسعا لذبح «الأطفال» من بني إسرائيل حتى أن القوابل [من آل فرعون] كن يراقبن النساء الحوامل [من بني إسرائيل].

ومن بين هؤلاء القوابل كانت قابلة لها علاقة مودّة مع أمّ موسىعليه‌السلام «وكان الحمل خفيّا لم يظهر أثره على أم موسى» وحين أحست أم موسى بأنّها مقرّب وعلى أبواب الولادة أرسلت خلف هذه القابلة وأخبرتها بالواقع ، وأنّها تحمل جنينا في بطنها وتوشك أن تضعه ، فهي بحاجة ـ هذا اليوم ـ إليها.

وحين ولد موسىعليه‌السلام سطع نور بهيّ من عينيه فاهتزّت القابلة لهذا النور وطبع حبّه في قلبها ، وأنار جميع زوايا قلبها.

فالتفتت القابلة إلى أم موسى وقالت لها : كنت أروم أن أخبر الجهاز الفرعوني بهذا الوليد ليأتي الجلاوزة فيقتلوه «وأنال بذلك جائزتي» ولكن ما عسى أن أفعل وقد وقع حبّه الشديد في قلبي ، وأنا غير مستعدة لأن تنقص ولو شعرة واحدة من رأسه ، فاهتمي بالمحافظة عليه ، وأظنّ أن عدوّنا المتوقع سيكون هذا الطفل أخيرا.

ثمّ خرجت القابلة من بيت أمّ موسى فرآها بعض الجواسيس من جلاوزة فرعون وصمموا على أن يدخلوا البيت ، فعرفت أخت موسى ما أقدموا عليه فأسرعت إلى أمّها وأخبرتها بأن تتهيأ للأمر ، فارتبكت ولم تدر ما ذا تصنع؟! وفي هذه الحالة من الارتباك وهي ذاهلة لفت وليدها «موسى» بخرقة وألقته في التنور فإذا بالمأمورين والجواسيس يقتحمون الدار ، فلم يجدوا شيئا إلّا التنور المشتعل نارا فسألوا أم موسى عن سبب دخول القابلة عليها فقالت : إنّها صديقتي وقد

١٨١

جاءت زائرة فحسب ، فخرجواءايسين.

ثمّ عادت أمّ موسى إلى رشدها وصوابها وسألت «أخت موسى» عن أخيها فأظهرت عدم معرفتها بمكانه ، وإذا البكاء يعلو من داخل التنور ، فركضت إلى التنور فرأت موسى مسالما وقد جعل الله النّار عليه بردا وسلاما «الله الذي نجّى إبراهيم الخليل من نار النمرود» فأخرجت وليدها سالما من التنور.

لكن الأمّ لم تهدأ إذ أن الجواسيس يمضون هنا وهناك ويفتشون البيوت يمنة ويسرة ، وكان الخطر سيقع لو سمعوا صوت هذا الطفل الرضيع.

وفي هذه الحال اهتدت أم موسى بإلهام جديد ، إلهام ظاهره أنّه مدعاة للخطر ، ولكن مع ذلك أحسّت بالاطمئنان أيضا.

كان ذلك من الله ولا بدّ أن يتحقق ، فلبست ثياب عملها وصممت على أن تلقي وليدها في النيل.

فجاءت إلى نجّار مصري «وكان النجار من الأقباط والفراعنة أيضا» فطلبت منه أن يصنع صندوقا صغيرا.

فسألها النجار قائلا : ما تصنعين بهذا الصندوق مع هذه الأوصاف؟ ولكن الأمّ لما كانت غير متعودة على الكذب لم تستطع دون أن تقول الحق والواقع ، وأنّها من بني إسرائيل ولديها طفل تريد إخفاءه في الصندوق.

فلمّا سمع النجّار القبطي هذا الخبر صمم على أن يخبر الجلاوزة والجلّادين ، فمضى نحوهم لكن الرعب سيطر على قلبه فارتج على لسانه وكلّما حاول أن يفهمهم ولو كلمة واحدة لم يستطع ، فأخذ يشير إليهم إشارات مبهمة ، فظن أولئك أنّه يستهزئ بهم فضربوه وطردوه ، ولما عاد إلى محله عاد عليه وضعه الطبيعي ، فرجع ثانية إليهم ليخبرهم فعادت عليه الحالة الأولى من الارتجاج والعيّ ، وأخيرا فقد فهم أن هذا أمر إلهي وسرّ خفي ، فصنع الصندوق وأعطاه لأم موسى.

ولعلّ الوقت كان فجرا والناس ـ بعد ـ نيام ، وفي هذه الحال خرجت أم

١٨٢

موسى وفي يديها الصندوق الذي أخفت فيه ولدها موسى ، فاتجهت نحو النيل وأرضعت موسى حتى ارتوى ، ثمّ ألقت الصندوق في النيل فتلقفته الأمواج وأخذت تسير به مبتعدة عن الساحل ، وكانت أم موسى تشاهد هذا المنظر وهي على الساحل وفي لحظة أحست أن قلبها انفصل عنها ومضى مع الأمواج ، فلو لا لطف الله الذي شملها وربط على قلبها لصرخت ولانكشف الأمر واتضح كل شيء.

ولا أحد يستطيع أن يصور ـ في تلك اللحظات الحساسة ـ قلب الأم بدقّة.

لا يستطيع أيّ أحد أن يصور حال أم موسى وما أصابها من الهلع والفزع ساعة ألقت طفلها في النيل ولكنّ هذه الأبيات المترجمة عن الشاعرة «پروين اعتصامي» ـ بتصرف ـ تحكي صورة «تقريبية» عن ذلك الموقف :

أمّ موسى حين ألقت طفلها

للذي رب السما أوحى لها

نظرت للنيل يمضي مسرعا

آه لو تعرف حقا حالها

ودوي الموج فيه صاخب

وفتاها شاغل بلبالها

* * *

وتناغيه بصمت : ولدي

كيف يمضي بك هذا الزورق

دون ربان ، وإن ينسك من

هو ذو لطف فمن ذا يشفق

فأتاها الوحي : مهلا ، ودعي

باطل الفكر ووهما يزهق

* * *

إن موسى قد مضى للمنزل

فاتق الله ولا تستعجلي

قد تلقينا الذي ألقيته

بيد ترعى الفتى لا تجهلي

وخرير الماء أضحى مهده

في اهتزاز مؤنس إن تسألي

* * *

وله الموج رؤوما حدبا

فاق من يحدب أمّا وأبا

١٨٣

كل نهر ليس يطغى عبثا

إن أمر الله كان السببا

* * *

يأمر البحر فيغدو هائجا

وله الطوفان طوعا مائجا

عالم الإيجاد من آثاره

كل شيء لعلاه عارجا

* * *

أين تمضين دعيه فله

خير ربّ يرتضيه لا هجا

كل هذا من جهة!

ولكن تعالوا لنرى ما يجري في قصر فرعون؟!

ورد في الأخبار أنّ فرعون كانت له بنت مريضة ، ولم يكن له من الأبناء سواها ، وكانت هذه البنت تعاني من آلام شديدة لم ينفعها علاج الأطباء ، فلجأ إلى الكهنة فقالوا له : نتكهّن ونتوقع أن إنسانا يخرج من البحر يكون شفاؤها من لعاب فمه حين يدهن به جسدها ، وكان فرعون وزوجه «آسية» في انتظار هذا «الحادث» وفي يوم من الأيّام فجأة لاح لعيونهما صندوق تتلاطمه أمواج النيل فلفت الأنظار ، فأمر فرعون عمّاله أن يأتوا به ليعرفوا ما به؟!

ومثل الصندوق «المجهول» الخفيّ أمام فرعون ، ولم يتمكن أحد أن يفتحه.

بلى كان على فرعون أن يفتحه لينجو موسى على يد فرعون نفسه ، وفتح الصندوق على يده فعلا!.

فلمّا وقعت عين آسية عليه سطع منه نور فأضاء قلبها ، ودخل حبّه في قلوب الجميع ، ولا سيما قلب امرأة فرعون «آسية» وحين شفيت بنت فرعون من لعاب فمه زادت محبّته أكثر فأكثر(١) .

ولنعد الآن إلى القرآن الكريم لنسمع خلاصة القصّة من لسانه! يقول القرآن

__________________

(١) ورد هذا القسم من الرّواية عن ابن عباس في تفسير الفخر الرازي كما هناك روايات آخرها في تفسير «أبو الفتوح» و «مجمع البيان».

١٨٤

في هذا الصدد :( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً ) .

كلمة «التقط» مأخوذة من مادة «التقاط» ومعناها في الأصل الوصول إلى الشيء دون جهد وسعي ، وإنّما سميت الأشياء التي يعثر عليها «لقطة» للسبب نفسه أيضا

وبديهي أنّ الفراعنة لم يجلبوا الصندوق الذي فيه الطفل الرضيع من الماء ليربوه في أحظانهم فيكون لهم عدوا لدودا ، بل أرادوه ـ كما قالت امرأة فرعون ـ قرة عين لهم.

ولكن النتيجة والعاقبة كان ما كان وحدث ما حدث وكما يقول علماء الأدب : إنّ اللام في الآية هنا( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ ) هي «لا العاقبة» ليست «لام العلة» ولطافة التعبير كامنة في أنّ الله سبحانه يريد أن يبيّن قدرته ، وكيف أن هذه الجماعة «الفراعنة» عبّأت جميع قواها لقتل بني إسرائيل ، وإذا الذي أرادوا قتله ـ وكانت كل هذه المقدمات من أجله ـ يتربى في أحضانهم كأعزّ أبنائهم.

والتعبير ـ ضمنا ـ بآل فرعون يدل على أنّ الملتقط لم يكن واحدا ، بل اشترك في التقاط الصندوق جماعة من آل فرعون ، وهذا بنفسه شاهد على أنّهم كانوا ينتظرون مثل هذا الحدث!.

ثمّ تختتم الآية بالقول :( إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ ) .

كانوا خاطئين في كل شيء ، وأي خطأ أعظم من أن يحيدوا عن طريق العدل والحقّ ، وأن يبنوا قواعد حكمهم على الظلم والجور والشرك!.

وأي خطأ أعظم أن يذبحوا آلاف الأطفال ليقتلوا موسىعليه‌السلام ، ولكن الله سبحانه أودعه في أيديهم وقال لهم : خذوا عدوّكم هذا وربّوه ليكبر عندكم؟!(١)

__________________

(١) يقول الراغب في مفرداته : إن الفرق بين «الخاطئ» «والمخطئ» هو أنّ الخاطئ هو من يقدم على عمل لا يخرج من عهدته ويطوي طريق الخطأ بنفسه أمّا المخطي فيقال في من يقدم على عمل ويخرج من عهدته ، إلّا أنّه يخطئ في الأثناء صدفة ، فيتلف العمل.

١٨٥

ويستفاد من الآية التالية أن شجارا حدث ما بين فرعون وامرأته ، ويحتمل أن بعض أتباعه كانوا قد وقفوا عند رأس الطفل ليقتلوه ، لأنّ القرآن الكريم يقول في هذا الصدد :( وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ) .

ويلوح للنظر أنّ فرعون وجد في مخايل الطفل والعلائم الأخرى ومن جملتها إيداعه في التابوت «الصندوق» وإلقاءه بين أمواج النيل ، وما إلى ذلك ـ أن هذا الطفل من بني إسرائيل ، وأن زوال ملكه على يده ، فجثم كابوس ثقيل على صدره من الهم وألقى على روحه ظلّة ، فأراد أن يجري قانون إجرامه عليه.

فأيده أطرافه وأتباعه المتملّقون على هذه الخطة ، وقالوا : ينبغي أن يذبح هذا الطفل ، ولا دليل على أن لا يجري هذا القانون عليه.

ولكن آسية امرأة فرعون التي لم ترزق ولدا ذكرا ، ولم يكن قلبها منسوجا من قماش عمال قصر فرعون ، وقفت بوجه فرعون وأعوانه ومنعتهم من قتله.

وإذا أضفنا قصّة شفاء بنت فرعون بلعاب فم موسى ـ على ما قدمناه ـ فسيكون دليلا آخر يوضح كيفية انتصار آسية في هذه الازمة.

ولكن القرآن ـ بجملة مقتضية وذات مغزى كبير ـ ختم الآية قائلا :( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ! ) .

أجل ، إنّهم لم يشعروا أنّ أمر الله النافذ ومشيئته التي لا تقهر ، اقتضت أن يتربى هذا الطفل في أهم المراكز خطرا ولا أحد يستطيع أن يردّ هذه المشيئة ، ولا يمكن مخالفتها أبدا

* * *

١٨٦

ملاحظة

تخطيط الله العجيب

إظهار القدرة ليس معناه أن الله إذا أراد أن يهلك قوما جبارين ، يرسل عليهم جنود السماوات والأرض ، فيهلكهم ويدمرهم تدميرا.

إظهار القدرة هو أن يجعل الجبابرة والمستكبرين يدمرون أنفسهم بأيديهم ، يلهم قلوبهم بالإلقاء أنفسهم في البئر التي حفروها لغيرهم ، وأن يصنعوا لأنفسهم سجنا يموتون فيه! وأن يرفعوا أعواد المشانق ليعدموا عليها!

وفي قضية الفراعنة الجبابرة المعاندين حدث مثل هذا ، وتمّت تربية موسى ونجاته في جميع المراحل على أيديهم.

فالقابلة التي أولدت موسى كانت من الأقباط.

والنجار الذي صنع الصندوق الذي أخفي فيه موسى كان قبطيّا.

والذين التقطوا الصندوق كانوا من آل فرعون!.

والذي فتح باب الصندوق كان فرعون بنفسه أو امرأته آسية.

وأخيرا فإن المكان الآمن والهادىء الذي تربّى فيه موسى ـ البطل الذي قهر فرعون ـ هو قصر فرعون ذاته.

وبهذا الشكل يظهر الله تعالى قدرته.

* * *

١٨٧

الآيات

( وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) )

التّفسير

عودة موسى إلى حضن أمّه :

في هذه الآيات تتجسد مشاهد جديدة فأمّ موسى التي قلنا عنها : إنّها ألقت ولدها في أمواج النيل ، بحسب ما فصّلنا آنفا اقتحم قلبها طوفان شديد من الهمّ على فراق ولدها ، فقد أصبح مكان ولدها الذي كان يملأ قلبها خاليا وفارغا منه.

فأوشكت أن تصرخ من أعماقها وتذيع جميع أسرارها ، لكن لطف الله تداركها ، وكما يعبّر القرآن الكريم( وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) .

١٨٨

«الفارغ» معناه الخالي ، والمقصود به هنا أن قلب أم موسى أصبح خاليا من كل شيء إلّا من ذكر موسى وإن كان بعض المفسّرين يرون أن المقصود به هو خلوّ القلب من الهمّ والغمّ ، أو أنّه خال من الإلهام والبشائر التي بشرت بها أم موسى من قبل ، ولكن مع الالتفات لهذه الجمل والتدقيق فيها يبدوا هذا التّفسير غير صحيح.

وطبيعيّ تماما أنّ أمّا تفارق ولدها بهذه الصورة يمكن أن تنسى كل شيء إلّا ولدها الرضيع ، ويبلغ بها الذهول درجة لا تلتفت معها إلى ما سيصيبها وولدها من الخطر لو صرخت من أعماقها وأذاعت أسرارها.

ولكن الله الذي حمّل أم موسى هذا العبء الثقيل ربط على قلبها لتؤمن بوعد الله ، ولتعلم أنّه بعين الله ، وأنّه سيعود إليها وسيكون نبيّا.

كلمة «ربطنا» من مادة «ربط» ومعناها في الأصل شدّ وثاق الحيوان أو ما أشبهه بمكان ما ليكون محفوظا في مكانه ، ولذلك يدعى هذا المحلّ الذي تربط فيه الحيوانات بـ «الرباط» ثمّ توسعوا في اللغة فصار معنى الربط : الحفظ والتقوية والاستحكام ، والمقصود من «ربط القلب» هنا تقويته أي تثبيت قلب أم موسى ، لتؤمن بوعد الله وتتحمل هذا الحادث الكبير.

وعلى أثر لطف الله أحست أم موسى بالاطمئنان ، ولكنّها أحبت أن تعرف مصير ولدها ، ولذلك أمرت أخته أن تتبع أثره وتعرف خبره( وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ) .

كلمة «قصّيه» مأخوذة من مادة «قصّ» على زنة «نصّ» ومعناها البحث عن آثار الشيء ، وإنّما سميّت القصّة قصّة لأنّها تحمل في طياتها أخبارا مختلفة يتبع بعضها بعضا.

فاستجابت «أخت موسى» لأمر أمّها ، وأخذت تبحث عنه بشكل لا يثير الشبهة ، حتى بصرت به من مكان بعيد ، ورأت صندوقه الذي كان في الماء يتلقفه

١٨٩

آل فرعون ويقول القرآن في هذا الصدد :( فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ ) .

ولكن أولئك لم يلتفتوا إلى أن أخته تتعقبه( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) .

قال البعض : إن خدم فرعون كانوا قد خرجوا بالطفل من القصر بحثا عن مرضعة له ، فرأتهم أخت موسى.

ويبدوا أنّ التّفسير الأوّل أقرب للنظر ، فعلى هذا بعد رجوع أم موسى إلى بيتها أرسلت أخته للبحث عنه ، فرأت ـ من فاصلة بعيدة ـ كيف استخرجه آل فرعون من النيل لينجو من الخطر المحدق.

هناك تفاسير أخرى لجملة( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) أيضا.

فالعلامة «الطبرسي» لا يستعبد أن يكون تكرار هذه الجملة في الآية السابقة والآيات اللاحقة إشارة إلى هذه الحقيقة ، وهي أن فرعون جاهل بالأمور الى هذه الدرجة فكيف يدعي الرّبوبية؟ وكيف يريد أن يحارب مشيئة الله التي لا تقهر!؟.

وعلى كل حال ، فقد اقتضت مشيئة الله أن يعود هذا الطفل إلى أمّه عاجلا ليطمئن قلبها ، لذلك يقول القرآن الكريم :( وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ ) (١) .

وطبيعي أن الطفل الرضيع حين تمر عليه عده ساعات فإنه يجوع ويبكي ولا يطيق تحمل الجوع ، فيجب البحث عن مرضع له ، ولا سيما أن ملكة مصر «امرأة فرعون» تعلق قلبها به بشدّة ، وأحبّته كروحها العزيزة.

كان عمال القصر يركضون من بيت لآخر بحثا عن مرضع له ، والعجيب في الأمر أنّه كان يأبى أثداء المرضعات.

لعل ذلك آت من استيحاشه من وجوه المرضعات ، أو أنّه لم يكن يتذوق

__________________

(١) «المراضع» جمع «مرضع» على زنة «مخبر» ومعناها المرأة التي تسقي الطفل لبنها من ثديها ، وقال البعض : (المراضع) جمع (مرضع) على زنة (مكتب) أي مكان الإرضاع ، أي ، «الأثداء» وقال البعض : يحتمل أن تكون الكلمة جمعا للمصدر الميمي «مرضع» بمعنى الرضاع ، ولكن المعنى الأوّل أنسب كما يبدو

١٩٠

ألبانهن ، إذ يبدو لبن كلّ منهن مرّا في فمه ، فكأنّه يريد أن يقفز من أحضان المراضع ، وهذا هو التحريم التكويني من قبل الله تعالى إذ حرّم عليه المراضع جميعا.

ولم يزل الطفل لحظة بعد أخرى يجوع أكثر فأكثر وهو يبكي وعمال فرعون يدورون به بحثا عن مرضع بعد أن ملأ قصر فرعون بكاء وضجيجا ، وما زال العمال في مثل هذه الحال حتى صادفوا بنتا أظهرت نفسها بأنّها لا تعرف الطفل ، فقالت :( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ ) .

إنّني أعرف امرأة من بني إسرائيل لها ثديان مملوءان لبنا ، وقلب طافح بالمحبّة ، وقد فقدت وليدها ، وهي مستعدة أن تتعهد الطفل الذي عندكم برعايتها.

فسّر بها هؤلاء وجاءوا بأمّ موسى إلى قصر فرعون ، فلمّا شمّ الطفل رائحة أمّه التقم ثديها بشغف كبير ، وأشرقت عيناه سرورا ، كما أن عمّال القصر سرّوا كذلك لأنّ البحث عن مربية له أعياهم ، وامرأة فرعون هي الأخرى لم تكتم سرورها للحصول على هذه المرضع أيضا.

ولعلهم قالوا للمرضع : أين كنت حتى الآن ، إذ نحن نبحث عن مثلك منذ مدّة فليتك جئت قبل الآن ، فمرحبا بك وبلبنك الذي حلّ هذه المشكلة.

تقول بعض الرّوايات : حين استقبل موسى ثدي أمّه ، قال هامان وزير فرعون لأم موسى : لعلك أمّه الحقيقية ، إذ كيف أبى جميع هذه المراضع ورضي بك ، فقالت : أيّها الملك ، لأنّي امرأة ذات عطر طيب ولبني عذب ، لم يأتي طفل رضيع إلّا قبل بي ، فصدّقها الحاضرون وقدموا لها هدايا ثمينة(١) .

ونقرأ في هذا الصدد حديثا قال الراوي : فقلت للإمام الباقرعليه‌السلام ؛ فكم مكث موسى غائبا من أمّه حتى ردّه الله؟ قال «ثلاثة أيّام»(٢) .

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٤ ، ص ٢٣١.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٦.

١٩١

وقال بعضهم : هذا التحريم التكويني لأنّ الله لم يرد لموسى أن يرتضع من الألبان الملوثة بالحرام الملوّثة بأموال السرقة ، أو الملوّثة بالإجرام والرشوة وغصب حقوق الآخرين ، وإنّما أراد لموسى أن يرتضع من لبن طاهر كلبن أمّه ليستطيع أن ينهض بوجه الأرجاس ويحارب الآثمين.

وتم كل شيء بأمر الله( فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (١) .

هنا ينقدح سؤال مهم وهو : هل أودع آل فرعون الطفل «موسى» عند أمّه لترضعه وتأتي به كل حين ـ أو كل يوم ـ إلى قصر فرعون لتراه امرأة فرعون؟!

أم أنّهم أودعوا موسى في القصر وطلبوا من المرضع «أم موسى» أن تأتي بين فترات متناسبة إلى القصر لترضعه؟!

لا يوجد دليل قوي لأيّ من الاحتمالين ، إلّا أن الاحتمال الأوّل أقرب للنظر كما يبدو!

وهناك سؤال آخر أيضا ، وهو : هل انتقل موسى إلى قصر فرعون بعد إكماله فترة الرضاعة ، أم أنّه حافظ على علاقته بأمّه وعائلته وكان يتردد ما بين القصر وبيته؟!

قال بعضهم : أودع موسى بعد فترة الرضاعة عند فرعون وامرأته ، وتربى موسى عندهما ، تنقل في هذا الصدد قصص عريضة حول موسى وفرعون ، ولكن هذه العبارة التي قالها فرعون لموسىعليه‌السلام بعد بعثته( أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ؟! ) (٢) ، تدل بوضوح على أن موسى عاش في قصر فرعون مدة ، بل مكث هناك سنين طويلة.

ويستفاد من تفسير علي بن إبراهيم أن موسىعليه‌السلام بقي مع كمال الاحترام في

__________________

(١) تحدثنا عن الجذر اللغوي لمادة «تقرّ عينها» في ذيل الآية «٧٤» من سورة الفرقان ـ فيراجع هناك.

(٢) الشعراء ، الآية ١٨.

١٩٢

قصر فرعون حتى مرحلة البلوغ ، إلّا أنّ كلامه عن توحيد الله أزعج فرعون بشدة إلى درجة أنّه صمّم على قتله ، فترك موسى القصر ودخل المدينة فوجد فيها رجلين يقتتلان ، أحدهما من الأقباط والآخر من الأسباط ، فواجه النزاع بنفسه «وسيأتي تفصيل ذلك في شرح الآيات المقبلة إن شاء الله»(١) .

* * *

__________________

(١) لاحظ تفسير علي بن إبراهيم طبقا لما ورد في نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٧.

١٩٣

الآيات

( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) )

التّفسير

موسىعليه‌السلام وحماية المظلومين :

في هذه الآيات نواجه المرحلة الثّالثة من قصّة موسىعليه‌السلام وما جرى له مع فرعون ، وفيها مسائل تتعلق ببلوغه ، وبعض الأحداث التي شاهدها وهو في مصر قبل أن يتوجه إلى «مدين» ثمّ سبب هجرته إلى مدين.

تقول الآيات في البداية( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً

١٩٤

وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) .

كلمة «أشدّ» مشتقّة من مادة «الشدّة» وهي القوّة.

وكلمة «استوى» مشتقة من «الاستواء» ومعناها كمال الخلقة واعتدالها.

وهناك كلام بين المفسّرين في الفرق بين المعنيين :

فقال بعض المفسّرين : المقصود من بلوغ الأشد هو أن يصل الإنسان الكمال من حيث القوى الجسمانية ، وغالبا ما يكون في السنة الثامنة عشرة من العمر أمّا الإستواء فهو الاستقرار والاعتدال في أمر الحياة ، وغالبا ما يحصل ذلك بعد الكمال الجسماني.

وقال بعضهم : إنّ المقصود من بلوغ الأشد هو الكمال الجسماني ، وأمّا الاستواء فهو الكمال العقلي والفكري.

ونقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام في كتاب معاني الأخبار قال : فلمّا بلغ أشدّه واستوى قال : «أشدّه ثمان عشر سنة واستوى ، التحى»(١) .

وليس بين هذه التعابير فرق كبير ، ومن مجموعها ـ مع ملاحظة المعنى اللغوي للكلمتين «الأشدّ والاستواء» ـ يستفاد منهما أنّهما يدلان على التكامل في القوى الجسمية والعقلية والروحية.

ولعل الفرق بين «الحكم» و «العلم» هو أنّ الحكم يراد منه العقل والفهم والقدرة على القضاء الصحيح ، والعلم يراد به العرفان الذي لا يصحبه الجهل.

أمّا التعبير( كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) فيدل بصورة جليّة على أن موسىعليه‌السلام كان جديرا بهذه المنزلة ، نظرا لتقواه وطهارته وأعماله الصالحة ، إذ جازاه الله «بالعلم والحكم» وواضح أنّ المراد بالحكم والعلم هنا ليس النبوّة والوحي وما إليهما لأنّ موسىعليه‌السلام يومئذ لم يبعث بعد ، وبقي مدّة بعد ذلك حتى بعث نبيّا.

بل المقصود والمراد من الحكم والعلم هما المعرفة والنظرة الثاقبة والقدرة

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٧.

١٩٥

على القضاء الصحيح وما شابه ذلك ، وقد منح الله هذه الأمور لموسىعليه‌السلام لطهارته وصدقه وأعماله الصالحة كما ذكرنا آنفا.

ويفهم من هذا التعبير ـ إجمالا ـ أنّ موسىعليه‌السلام لم يتأثر بلون المحيط الذي عاشه في قصر فرعون ، وكان يسعى إلى تحقيق العدل والحق ما استطاع إلى ذلك سبيلا رغم أنّ جزئيات تلك الأعوام غير واضحة.

وعلى كل حال فإن موسى( دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها ) .

فما هي المدينة المذكورة في الآية المتقدمة؟ لا نعرفها على وجه التحقيق لكن الاحتمال القوي أنّها عاصمة مصر وكما يقول بعض المفسّرين فإنّ موسىعليه‌السلام على أثر المشاجرات بينه وبين فرعون ، ومخالفاته له ولسلطته التي كانت تشتدّ يوما بعد يوم حتى بلغت أوجها ، حكم عليه بالتبعيد عن العاصمة لكنّه برغم ذلك فقد سنحت له فرصة خاصّة والناس غافلون عنه أن يعود إلى المدينة ويدخلها.

ويحتمل أيضا ، أنّ المقصود دخوله المدينة من جهة قصر فرعون لأنّ القصور يومئذ كانت تشاد على أطراف المدينة ليعرف الداخل إليها والخارج منها.

والمقصود من جملة( عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها ) هو الزمن الذي يستريح الناس فيه من أعمالهم ، ولا تراقب المدينة في ذلك الحين بدقّة ، ولكن أي حين وأي زمن هو؟!

قال بعضهم : هو أوّل الليل ، لأنّ الناس يتركون أعمالهم ويعطلون دكاكينهم ومحلاتهم ابتغاء الراحة والنوم ، وجماعة يذهبون للتنزه ، وآخرون لأماكن أخرى هذه الساعة هي المعبر عنها بساعة الغفلة في بعض الرّوايات الإسلامية.

وهناك حديث شريف عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في هذا الشأن يقول : «تنفّلوا في ساعة الغفلة ولو بركعتين خفيفتين».

١٩٦

وقد ورد في ذيل هذا الحديث الشريف هذه العبارة «وساعة الغفلة ما بين المغرب والعشاء»(١) .

والحق أنّ هذه الساعة ساعة غفلة وكثيرا ما تحدث الجنايات والفساد والانحرافات الأخلاقية في مثل هذه لساعة من أوّل الليل فلا الناس مشغولون بالكسب والعمل ، ولا هم نائمون ، بل هي حالة غفلة عمومية تغشى المدينة عادة ، وتنشط مراكز الفساد أيضا في هذه الساعة.

واحتمل البعض أن ساعة الغفلة هي ما بعد نصف النهار ، حيث يستريح الناس من أعمالهم استراحة مؤقتة ، ولكن التّفسير الأوّل أقرب للنظر كما يبدو.

وعلى كل حال ، موسى دخل المدينة ، وهنالك واجه مشادّة ونزاعا ، فاقترب من منطقة النزاع( فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ ) .

والتعبير بـ «شيعته» يدل على أن موسى قبل أن يبعث كان له أتباع وأنصار وشيعة من بني إسرائيل ، وربّما كان قد اختارهم لمواجهة فرعون وحكومته كنواة اساسية.

فلمّا بصر الإسرائيلي بموسى استصرخه( فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ) .

فجاءه موسىعليه‌السلام لاستنصاره وتخليصه من عدوّه الظالم الذي يقال عنه أنّه كان طباخا في قصر فرعون ، وكان يريد من الإسرائيلي أن يحمل معه الحطب إلى القصر ، فضرب موسى هذا العدو بقبضة يده القوية على صدره ، فهوى إلى الأرض ميتا في الحال تقول الآية :( فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ ) (٢) .

وممّا لا شك فيه ، فإنّ موسى لم يقصد أن يقتل الفرعوني ، ويتّضح ذلك من خلال الآيات التالية أيضا ولا يعني ذلك أن الفراعنة لم يكونوا يستحقون القتل ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٥ ، ص ٢٤٩ [باب ٢٠ من أبواب الصلوات المندوبة].

(٢) «وكز» مأخوذ من «الوكز» على زنة «رمز» ومعناه الضرب بقبضة اليد ، وهناك معان اخرى لا تناسب المقام

١٩٧

ولكن لاحتمال وقوع المشاكل والتبعات المستقبلية على موسى وجماعته.

لذلك فإنّ موسىعليه‌السلام أسف على هذا الأمر( قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ) .

وبتعبير آخر : فإنّ موسىعليه‌السلام كان يريد أن يبعد الفرعوني عن الرجل الإسرائيلي ، وإن كان الفرعونيون يستحقون أكثر من ذلك. لكن ظروف ذلك الوقت لم تكن تساعد على مثل هذا العمل ، وكما سنرى فإن ذلك الأمر دعا موسىعليه‌السلام إلى أن يخرج من مصر إلى أرض مدين وحرمه من البقاء في مصر.

ثمّ يتحدث القرآن عن موسىعليه‌السلام فيقول :( قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) .

ومن المسلم به أنّ موسىعليه‌السلام لم يصدر منه ذنب هنا ، بل ترك الأولى ، فكان ينبغي عليه أن يحتاط لئلا يقع في مشكلة ، ولذلك فإنّه استغفر ربّه وطلب منه العون ، فشمله اللطيف الخبير بلطفه.

لذلك فإنّ موسىعليه‌السلام حين نجا بلطف الله من هذا المأزق( قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ ) من عفوك عني وانقاذي من يد الأعداء وجميع ما أنعمت علي منذ بداية حياتي لحدّ الآن( فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ) . ومعينا للظالمين.

بل سأنصر المؤمنين المظلومين ، ويريد موسىعليه‌السلام أن يقول : إنّه لا يكون بعد هذا مع فرعون وجماعته أبدا بل سيكون إلى جانب الإسرائيليين المضطهدين ..».

واحتمل بعضهم أن يكون المقصود بـ «المجرمين» هو هذا الإسرائيلي الذي نصره موسى ، إلّا أن هذا الاحتمال بعيد جدّا ، حسب الظاهر.

* * *

١٩٨

مسألتان

١ ـ ألم يكن عمل موسى هذا مخالفا للعصمة!

للمفسّرين أبحاث مذيّلة وطويلة في شأن المشاجرة التي حدثت بين القبطي والإسرائيلي وقتل موسى للقبطي.

وبالطبع فإنّ أصل هذا العمل ليس مسألة مهمّة لأنّ الظلمة الأقباط والفراعنة المفسدين الذين قتلوا آلاف الأطفال من بني إسرائيل ولم يتأبّوا يحجموا عن أية جريمة ضد بني إسرائيل ، لم تكن لهم حرمة عند بني إسرائيل.

إنّما المهم عند علماء التّفسير هو تعبيرات موسىعليه‌السلام التي ولّدت إشكالات عندهم.

فهو تارة يقول :( هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) .

وفي مكان آخر يقول :( رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ) .

فكيف تنسجم أمثال هذه التعابير مع عصمة الأنبياء حتى قبل بعثتهم ورسالتهم.

ولكن هذه الإشكالات تزول بالتوضيح المتقدم في تفسير الآية الآنفة ، وهو أن ما صدر من موسىعليه‌السلام هو من قبيل «ترك الأولى» لا أكثر ، إذ كان عليه أن يحتاط قبل أن يضرب القبطي ، فلم يحتط ، فأوقع نفسه في مشاكل جانبية ، لأنّ قتل القبطي لم يكن أمرا هينا حتى يعفو عنه الفراعنة.

ونعرف أن ترك الأولى لا يعني أنّه عمل حرام ذاتا ، بل يؤدي الى ترك عمل أهم وأفضل ، دون أن يصدر منه عمل مخالف ومناف لذلك العمل!.

ونظير هذه التعابير ما ورد في بعض قصص الأنبياء من جملتهم أبو البشر آدمعليه‌السلام التي تقدم شرحه في ذيل الآية (١٩) من سورة الأعراف.

ونقرأ في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام في تفسير الآيات

١٩٩

المتقدمة :

«قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ » يعنى الاقتتال الذي وقع بين الرجل لا ما فعله موسىعليه‌السلام من قتله «إنه» يعنى الشيطان «عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ » ـ وأمّا المراد من جملة ـ «رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي » يعنى ان موسى يريد أن يقول وضعت نفسي غير موضعها بدخول هذه المدينة «فَاغْفِرْ لِي » أي استرني من أعدائك لئلا يظفروا بي فيقتلوني ...».(١)

٢ ـ دعم المجرمين وإسنادهم من أعظم الآثام :

هناك باب مفصل في الفقه الإسلامي فيه أحاديث وافرة تتحدث حول «الإعانة على الإثم» و «معاونة الظلمة» وتدل على أن واحدا من أسوأ الآثام إعانة الظالمين والمجرمين ، وتكون سببا لأن يشترك المعين في مصيرهم الأسود.

وأساسا فإنّ الظلمة والمجرمين ـ أمثال فرعون ـ في المجتمع أيّا كان هم أفراد معدودون ، وإذا لم يساعد المجتمع هؤلاء لم يكونوا فراعنة ، فهؤلاء القلّة المتفرعنون إنّما يعتمدون على الناس الضعاف أو الانتهازيين وعبدة الدنيا ، الذين يلتفّون حولهم ويكونون لهم أجنحة وأذرعا ، أو على الأقل يكثّرون السواد ليوفروا لهم القدرة الشيطانية.

وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تشير إلى هذا الأصل الإسلامي ، فنحن نقرأ في الآية الثّانية من سورة المائدة قوله تعالى :( وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ) .

كما أنّ القرآن يصرّح في بعض آياته بالقول :( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا

__________________

(١) عيون أخبار الرضا طبقا لما ورد في تفسير نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ١١٩.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420