الشهادة الثالثة

الشهادة الثالثة4%

الشهادة الثالثة مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 420

الشهادة الثالثة
  • البداية
  • السابق
  • 420 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 107193 / تحميل: 6454
الحجم الحجم الحجم
الشهادة الثالثة

الشهادة الثالثة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

٨١

تحليلُ المحطّة الثانية

ويظهر ممّا مرّ: أنّ التأذين بذكر الشهادة الثالثة في فصول الأذان قد وقع في حمص، ومصر، وبغداد قبل ولادة الشيخ الصدوق (١) ، وأنّ في بغداد والعراق كانت الصِدامات مشتدّة ومحتدّة بين الشيعة وسنّة جماعة الخلافة على الشعائر المذهبيّة، بخاصّة الأذان وخُطب الجمعة، وقد كانت الدولة العبيديّة والفاطميّة في مصر والشام تَرفع في أذانها كذلك الشهادة الثالثة كما مرّ، وكذلك دولة الحمدانيين في شمال العراق والشام، والتي كانت أوائل القرن الرابع، وكذا الدولة البويهيّة في جنوب إيران، والعراق، وبغداد.

فيظهر من ذلك: أنّ بلدان الشيعة ودولهم كانت سيرتهم على التأذين بالشهادة الثالثة في الغيبة الصغرى، وطوال القرن الرابع والخامس في فصول الأذان، على نفس الدرجة من تشدّدهم وتقيّدهم بالتأذين بفصل (حيّ على خير العمل) (٢) ، وكانت المصادمات في بغداد بين الشيعة وسنّة جماعة الخلافة على كلّ من الفصلين في الأذان،

____________________

(١) ولِدَ الصدوق في حدود ٣٠٥ هجريّة قمريّة؛ لأنّ وفاته في ثلاثمائة وواحد وثمانين (٣٨١ هجريّة قمريّة)، حيث كانت وفاته في العشر الثامن من عمره، وقد ورد بغداد سنة ٣٥٥ هجريّة قمريّة.

أمّا الدولة العبيديّة في مصر: فقد كانت من ٣٠١ هجريّة قمريّة.

وأمّا الدولة الحمدانيّة: فقد استمرّت ستين سنة، من سنة ٣٢٢ هجريّة قمريّة، وأتت بعدهم الدولة الفاطميّة في حلب. وأمّا الدولة الفاطميّة: فقد بدأت في مصر من سنة ٣٥٦ هجريّة قمريّة، وفي أفريقيا من سنة ٢٩٧ هجريّة قمريّة إلى سنة ٥٦٧ هجري قمري.

(٢) وفي هذا المجال قد ألّف البحّاثة المتتبّع السيّد علي الشهرستاني كتاباً (الأذان بين الأصالة والتحريف)، رصدَ فيه التسلسل الزمني لسيرة الشيعة في رفع الأذان بحيّ على خير العمل.

٨٢

ممّا يُدلّل مجموع ذلك على أنّ كِلا الفصلين على درجة واحدة من الثبوت والارتكاز المتشرّعي لديهم، وسيأتي في الفصل الأوّل بيان الصلة بين حيّ على خير العمل والشهادة الثالثة، كما مرّ في مصحّح محمد بن أبي عمير (١) في قوله (عليه السلام): (وأمّا الباطنة: فإنّ خير العمل الولاية، فأراد من أمْر بترك حيّ على خير العمل من الأذان أن لا يقع حث عليها ودعاءٌ إليها).

وسيأتي ما له صلة أيضاً، وفي ظلّ أجواء هذه السيرة وهو: الارتكاز لدى المتشرّعة، ينبغي دراسة طوائف الروايات التي أشار لها الصدوق في الفقيه في الشهادة الثالثة، وحقيقة موقف الصدوق منها، لاسيّما وأنّ الصدوق له صلةٌ وثيقة بآل بويه، وكذلك الحال في فتوى السيّد المرتضى في الشهادة الثالثة، والتي هي بعين الصيغة المتداولة في عمل الشيعة في هذه البقاع (محمّد وعليّ خير البشر).

وكذلك فتوى الشيخ الطوسي، لاسيّما وإنّ الشيخ الطوسي كان شاهداً للمصادمات التي حصلت بين الطرفين على الأذان وغيره من شعائر المذهب، والتي بسببها هاجرَ الشيخ إلى النجف الأشرف، فلابدّ من تفسير فتواه بنحوٍ تكون ناظرة إلى ذلك الوقت الفعلي المُعاش من قِبل الشيعة، وهكذا الحال في فتوى ابن برّاج وغيرهم من أعلام الطائفة.

____________________

(١) الوسائل: أبواب الأذان والإقامة، باب ١٩، ح١٦.

٨٣

* المحطّة الثالثة:

قد اتّضح ممّا مرّ من عبارة الصدوق (١) : أنّ سيرة جملة من الشيعة في زمانه كانوا يؤذِّنون بالشهادة الثالثة في الأذان والإقامة ويمارسون العمل في هذه الروايات، بل الظاهر من عبارته وعبارة الشيخ الطوسي: أنّ هذه الروايات وطوائفها مُتلقاة من أصول الأصحاب، فهي المتداولة رواية وعملاً في الطبقات السابقة زمناً على الصدوق، ومن ثُمّ وَصفَ الصدوق سلسلة رواتها بأنّهم متّهمون بالتفويض، ولم يصف تلك الروايات بأنّها مقطوعة، أو مرسلة، أو مرفوعة، ممّا يُعزِّز اتصال أسانيدها وإن لم يَذكر أسانيدها وحَذفها في عبارة الفقيه، فيظهر من ذلك: أنّ الممارسة العمليّة للشهادة الثالثة مُتقادمة على عصر الصدوق ومثلها عبارة الشيخ الطوسي (٢).

هذا، مضافاً إلى ما تقدّم في المحطّة الثانية: من إثبات أنّ التأذين بالشهادة الثالثة كان من عمل الشيعة في بغداد وآل بويه، وكذلك الحمدانيون في حلب وشمال العراق، فضلاً عن عمل الطالبيين من العبيدين والفاطميين في الشام، ومصر، وغرب أفريقيا قَبل وفي زمان الصدوق (قدِّس سرّه).

____________________

(١) مَن لا يحضره الفقيه: ج١.

(٢) وذَكرَ الذهبي في ميزان الاعتدال، في ترجمة أحمد بن محمد السري بن أبي يحيى بن أبي دارم المحدِّث قال: أبو بكر الرافضي الكذّاب مات في أوّل سنة سبعة وخمسين وثلاثمائة (٣٥٧هـ)، ثُمّ حكى عن ابن حمّاد الكوفي الحافظ أنّه قال فيه: كان مستقيماً عامّة دهره، ثُمّ كان في آخر أيّامه أكثر ما يُقرأ عليه المثالب، وقد حضرتُ ورجل يَقرأ عليه أنّ عمر رَفس فاطمة فأسقَطت المحسن،... ثُمّ إنّه حين أذّن الناس بهذا الأذان، المحدِّث وضعَ حديثاً متنه: (تَخرج نار من قعر عَدن تلتقط مُبغضي آل محمّد)، ووافقتهُ عليه، ويحتجّون به في الأذان. ميزان الاعتدال: ج١، ص١٣٩.

٨٤

* المحطّة الرابعة:

ما يظهر من مسائل السيّد المرتضى (المبافارقيات) (١) ، حيث سأل السائل من مدينة مبافارقي (وهي مدينة كبيرة عند إيل من بلاد الجزيرة التي هي اليوم قريبة من الموصل في العراق) عن وجوب الشهادة الثالثة في الأذان، وهو يُنبئ عن مفروغيّة التأذين بها عند أهل منطقته من الشيعة وممارستهم لها ووضوح مشروعيّتها لديهم؛ وإنّما سؤاله وقعَ عن عزيمة ذلك ولزومه، ولا يخفى أنّ الصدوق يُعد من مشايخ السيّد المرتضى بالرواية، إلاّ أنّ الصدوق حكى عن وجود السيرة في بلدان فارس، والمرتضى حكى عن وجود السيرة في بلدان العراق وهما في أوائل الغيبة الكبرى، فضلاً عمّا نبّهنا عليه أنّ هذه الروايات دالّة على وجود السيرة لدى أصحاب الأصول الروائيّة للطبقات المتقدِّمة.

وأيضاً يظهر من كلام ابن الجنيد حيث قال: (رويَ عن سهل بن حنيف، وعبد الله بن عمر، والباقر، والصادق (عليهما السلام) أنّهم كانوا يؤذِّنون بـ(حيّ على خير العمل)، وفي حديث ابن عمر أنّه سمعَ أبا محذورة ينادي بـ(حيّ على خير العمل) في أذانه عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وعليه شاهَدنا آل الرسول، وعليه العمل بطبرستان، واليمن، والكوفة ونواحيها، وبعض بغداد) (٢).

أقول: وهو يدلّ على اختلاف المسلمين بحسب البلدان في صورة فصول الأذان الناشئ من اختلاف المذاهب، كما يشير قول الصدوق في الفقيه إلى وجود السيرة عند بعض الطائفة الإماميّة على التأذين بالشهادة الثالثة.

____________________

(١) المبافارقيات: ص٢٥٧.

(٢) الذكرى: ج٣، ص٢١٤ طبعة مؤسّسة أهل البيت (عليهم السلام).

٨٥

ومن ثُمّ قال المجلسي الأول في روضة المتّقين في ذيل كلام الصدوق: (إنّ عَمل الشيعة كان عليه في قديم الزمان وحديثة) (١) .

بل إنّه ممّا تقدّم - في المحطّة الثانية التي تبيّنَ أنّ إصرار الشيعة في البلدان المختلفة: كبغداد، وشمال العراق، وحلب، ومصر من التأذين بالشهادة الثالثة لاسيّما بهذه الصيغة (محمّد وعلي خير البشر)، وكتابتها على أبواب وجدران المساجد، وأنّ الدولة الحمدانيّة في شمال العراق وحلب قد كانت تؤذِّن بهذه الصيغة من الشهادة الثالثة كما مرّ - يرتسم من ذلك بوضوح: أنَّ هذا السائل المُستفتي للسيّد المرتضى من مدينة شماليّة في العراق، عن كون هذه الصيغة في الأذان واجبة أو غير واجبة فارغاً عن مشروعيّتها، يُعزِّز ما تكرّر في المصادر التاريخيّة المتعدّدة من رفع الحمدانيين شعار الأذان بهذه الصيغة من الشهادة الثالثة، والتي مرّ ذِكرها في النصوص التاريخيّة عن سيرتهم.

وهذه الفتوى من السيّد المرتضى - بقوله: (لو قَصد الجزئيّة) في الشق الثاني من فتواه، أنّه (لا شيء عليه) - هو إمضاء ودعم لسيرة الشيعة في شمال العراق، وبغداد، ومصر، وحلب، وأفريقيا، وكذلك جنوب إيران، ممّا كان تحت سيطرة آل بويه، وكذلك فتوى ابن برّاج، لاسيّما وأنّ ابن برّاج قد هاجرَ من بغداد إلى الشام، فيظهر من فتواه أيضاً: مدى مساندة عمل الشيعة في هذه البلدان لتقرير المشروعيّة لهم فيما يمارسوه.

وعلى ضوء ذلك: يتبيّن أنّ فتوى الشيخ الطوسي في النهاية والمبسوط - حيث نفى الإثم عمّن يأتي بها بقصد الجزئيّة، عَملاً بطوائف الروايات التي وَصفها بالشذوذ - تسويغ بالمشروعيّة من الشيخ لعمل الطائفة في زمانه.

____________________

(١) روضة المتّقين: ج٢، ص٢٤٦ طبعة قم، المطبعة العلميّة.

٨٦

* المحطّة الخامسة:

ما ذكرهُ ابن بطّوطة (١) في رحلته حيث قال: ثُمّ سافرنا إلى مدينة القطيف - كأنّه تصغير قطف - وهي مدينة كبيرة حسنة ذات نخل كثير تسكنها طوائف العرب، وهم رافضيّة غلاة يظهرون الرفض جهاراً لا يخافون أحداً، ويقول مؤذِّنهم في أذانه بعد الشهادتين: (أشهدُ أنّ عليّاً وليّ الله)، ويزيد بعد الحيّعلتين: (حيّ على خير العمل)، ويزيد بعد التكبيرة الأخيرة: (محمّد وعلي خير البشر، مَن خالفهما فقد كفر) (٢).

وهذه المحطّة تكشف أيضاً عن سيرة الشيعة في مكان آخر - وهو القطيف - من ممارستهم للتأذين بالشهادة الثالثة، وبأحد الصيَغ التي رواها الصدوق في الفقيه.

____________________

(١) وهو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم الطنجي (٧٠٣ - ٧٧٩)، رحّالة وعالِم جغرافي.

(٢) رحلة ابن بطّوطة: ج١، ص٣٠٥.

٨٧

عناوينُ طوائف الروايات

يجدر الإشارة إلى وجود طوائف من الروايات العديدة التي لم يُستدلّ بها من قبل على ذلك، وهي على نَمطين في الدلالة:

منها: ما هو وارد في باب الصلاة أو الأذان، وتُعد دلالتها بالخصوص والمطابقة أو بمنزلة ذلك.

ومنها: ما هو وارد في غير باب الصلاة من الأبواب العباديّة الأخرى، أو الاعتقاديّة الدالّة بنحو الإيماء والإشارة، أو غيرهما من أنحاء الدلالة الالتزاميّة على المطلوب ولو بنحو العموم، فهي ذات دلالة قريبة المرمى من المطلوب، وسيأتي في الفصول اللاحقة الوجوه الفنيّة الفقهيّة في دلالتها، ومن ضمن النمط الثاني أيضاً روايات كثيرة مستفيضة دالّة على استحباب الاقتران مطلقاً في الأذان وغيره بين الشهادة الثالثة والشهادتين، بل تكرارها بتكرارهما، أي أنّ مع البناء على خروجها من الأذان - واستحباب ذِكرها بعد الشهادتين من باب الاستحباب المطلق - يمكن استخراج استحباب إتيانها بصورة وشكل فصول الأذان بالاستحباب المطلق أي إتيانها مكرّراً، وسيأتي تحليل المغزى والغرض من ورود جمّ غفير مستفيض من الروايات الحاكية لاقتران الشهادات الثلاث في مواطن شريفة عديدة، في نشأة التكوين والخِلقة وباب التشريع، وأنّ لبابه هو استثارة الحثّ على الاقتران بين الشهادات الثلاث بلسان ودلالة إشاريّة.

واليك تعداد وطوائف النمط الأول:

٨٨

* النمط الأوّل: وفيه عدّة طوائف:

الأولى: روايات الصدوق الخاصّة التي ذَكر متونها.

الثانية: ما ورد في تطابق التشهّد في الصلاة مع التشهّد في الأذان، بضميمة روايات التشهّد المتضمّنة للشهادة الثالثة.

الثالثة: روايات ذِكر أسمائهم في الصلاة، وأنّها من أذكارها الخاصّة التي أفتى بمضمونها العلاّمة في المنتهى.

الرابعة: الروايات الواردة في ذِكر أسمائهم في القنوت.

الخامسة: الروايات الواردة في ذِكر أسمائهم في خطبة الجمعة.

السادسة: الروايات الواردة في ذِكرها في التشهّد والتسليم.

السابعة: الروايات الواردة في تفسير خير العمل بالشهادة الثالثة، وإنّ ذِكر هذا الفصل من الأذان بمثابة ذِكر الشهادة الثالثة، وإنّه لسان كنائي عنها، ومن ثُمّ حُذفت عند العامّة.

الثامنة: ما ورد في تفسير الأذان أنّه نداء للإسلام والإيمان معاً.

التاسعة: ما ورد في جواز الدعاء والذكر ما بين الأذان والإقامة.

العاشرة: ما ورد في ذِكر الشهادات الثلاث في دعاء التوجّه بعد تكبيرة الإحرام أو بعد الإقامة.

* النمط الثاني: وفيه عدّة طوائف:

الأولى: جملة من الروايات الدالّة بالنصوصيّة والصراحة على استحباب التلازم والتقارب بين الشهادات الثلاث مطلقاً.

الثانية: جملة من الروايات وردت في الشهادة الثالثة مع الشهادتين في الزيارات.

٨٩

الثالثة: ما ورد في مقارنة الشهادة الثالثة مع الشهادتين في تلقين الميّت وعَرض الدين.

الرابعة: ما ورد في نداء الملائكة في طبقات السماوات بالشهادات الثلاث في أوقات الأذان.

الخامسة: ما ورد في جملة من الروايات في تفسير القول الصادق بالشهادات الثلاث.

السادسة: ما ورد في جملة من الروايات بإقرار الأئمّة بالشهادات الثلاث عند ولادتهم.

السابعة: ما ورد من الروايات المستفيضة في ميثاق الأنبياء والرُسل من أخذ الشهادات الثلاث عليهم.

الثامنة: ما ورد من أنّ ذِكرهم من ذِكر الله عزّ وجل.

التاسعة: ما ورد من أنّ الصلاة عليهم كهيئة التكبير والتسبيح.

٩٠

٩١

مَنشأُ إعراض الصدوق وجملة من القُدماء

لابدّ من التنبيه إلى اختلاف منشأ إعراض الصدوق وجملة من القدماء عن تلك الروايات الخاصّة، الواردة في الشهادة الثالثة في الأذان والإقامة، وإن كانت هناك جهة اشتراك أيضاً، وهي دعوى معارضة هذه الروايات الخاصّة المتضمّنة للشهادة الثالثة لجملة طوائف أخرى الخالية عنها في موارد الأذان: كصحيحة زرارة، ومعتبرة كليب الأسدي وغيرها، إلاّ أنّ الاختلاف في المنشأ أيضاً موجود، حيث إنّ الصدوق بنى على الإسترابة في أسانيد تلك الروايات كما سيأتي مفصّلاً.

بينما ذَهب: الشيخ الطوسي، ويحيى بن سعيد، والعلاّمة، والشهيد وغيرهم إلى الخَدشة فيها من جهة المعارَضة، وعدم عمل الأصحاب بها فوصفوها بالشذوذ، ومن ثُمّ فتوّقفهم فيها من ناحية المضمون ودواعي جهة البيان، لا من ناحية الصدور وأسانيد تلك الروايات كما سيأتي نقل كلماتهم مفصّلاً.

هذا، مع أنّ جملة من القدماء: كالسيّد المرتضى، وابن برّاج وغيرهما، قد عملوا بهذه الروايات الخاصّة في الجملة، بل سيأتي أنّ الشيخ الطوسي قد أفتى بالجواز بمقتضى تلك الروايات، وكيفيّة استظهار ذلك من عبارته في المبسوط والنهاية، وإن حصلت الغفلة عن مراده عند المتأخّرين، بل سيأتي أنّ الصدوق قد عَدل عمّا ذكرهُ في الفقيه في كتبه الأخرى، كما سيأتي الاستشهاد بعبائره الأخرى على ذلك، وسيأتي أنّ عُمدة إعراض المتأخّرين ومتأخّري المتأخّرين عن تلك الروايات وغيرها - من الطوائف التي لها نحو دلالة على الشهادة الثالثة في الأذان - هو الغفلة في استظهار حقيقة مراد وموقف القدماء من تلك الروايات.

٩٢

٩٣

الشهادةُ الثالثة سببُ الإيمان وشرطُ الأذان

إنّ ما يجدر بالتنبيه والإشارة إليه: أنّ التشهّد بالشهادة الثالثة ليس خطورته وأهميّته في الدين منحصرةً في جزئيّته في الأذان كعمل عبادي، أي كقول مأخوذ كأحد الأعمال التي هي من فروع الدين، بل إنّ مُكمن موقعيّته كقول هو في كونه سبباً لتحقيق الإيمان كما هو مقتضى تعريفه أنّه: (الاعتقاد بالجِنان، والإقرار باللسان، والعمل بالأركان)، كما هو الحال في التشهّد بالشهادتين كقولٍ موجب للدخول في الإسلام، ومفتاح للولوج في الدين، فكذلك قول الشهادة الثالثة مفتاح وأُسٌ ركينٌ لبناء الإيمان، وهو مراد المشهور في تعبيرهم في فصول الأذان:

(أنّها من أحكام الإيمان بلا خلاف لمقتضى المذهب الحق)، بل هي من أعظم أحكامه كقول يتشهّد بها المكلّف في حياته ويقرّ به، كما يتشهّد بالشهادتين للدخول في الإسلام بغضّ النظر عن الأذان والإقامة، وإذا اتّضح ذلك - كما هو مدلول الأدلّة القرآنيّة والروايات المتواترة - فيتبيّن أنّ تحقّق الإيمان متوقف على التلفّظ بالشهادة الثالثة بأيّ صيغة من صيغها، وحيث إنّ الإيمان شرط في صحّة العبادات - كما ذهب إليه المشهور المنصور، أو شرط قبول كما احتمله جملةٌ من الفقهاء، وإن لم يبنوا عليه في الفتوى - فإنّه على كِلا القولين ينتج من هذه القاعدة الشرعيّة:

أنّ الشهادة الثالثة شرط وضعي في الأذان والإقامة كعمل عبادي، غاية الأمر على القول الأوّل: شرط وضعي لزومي في صحّة الأذان والإقامة، وعلى القول الثاني: شرط وضعي كمالي فيهما،

٩٤

وبيان ذلك ملخّصاً - وسيأتي بسط جهات البحث فيه لاحقاً -: أنّه على قول المشهور، الإيمان شرط في صحّة الأعمال، لاسيّما العبادات ومنها: الأذان، والإقامة، والصلاة، وقد مرّت الإشارة إلى أنّ الإيمان لابدّ في تحقّقه من الإقرار باللسان، وهو القول بالشهادة الثالثة، فلا محالة يكون سبب الإيمان شرطاً في صحّة الأعمال والعبادات أيضاً.

وأمّا على القول بأنّ الإيمان شرط في قبول الأعمال والعبادات: فلا محالة يكون الإيمان شرطاً كماليّاً في العمل؛ ليترتّب عليه ملاكه لمصلحته وفائدته المرجوّة وثوابه الأخروي، أي سيكون الإيمان دخيلاً في كمال العمل وأكثر ملائمة في صحّته، وهذا هو معنى الشرط المستحبّ الذي هو شرط وضعي ندبيٌّ في ماهيّة العمل، ودخيلٌ في كماله، وتأكيد صحّته، فكلّ شرط في قبول العمل لابدّ أن يكون منسجماً وملائماً لماهيّة العمل ودخيلاً في كماله، وهذا عين ماهيّة الشرط الوضعي الندبي في العمل المقرّر في بحث المركّبات الاعتباريّة، فلابدّ أن يكون شرطاً وضعيّاً ندبيّاً، فضلاً عن امتناع كونه مانعاً عن صحّته، إذ لا يُعقل أنّ ما هو دخيلٌ في قبول العمل أن يكون مضادّاً لماهيّة العمل وأثره، بل لابدّ أن يكون بينهما تمام الانسجام والملائمة والارتباط والإعداد في تهيئة المصلحة وأثر العمل.

ومن ذلك يتّضح: أنّ الشهادة الثالثة حيث إنّها سببٌ للإيمان - الذي هو شرط وضعي وكمالي في الأعمال والعبادات، ومنهما الأذان والإقامة والصلاة - يُمتنع أن يكون مانعاً عن صحّتها، وبهذا التقريب الملخّص - وسيأتي بسط زواياه لاحقاً - يتبيّن أنّ مشروعيّة الشهادة الثالثة في الأذان والإقامة لا يعتريه الريب والوسوسة، إلاّ مع الغفلة عن هذه الحقيقة الصناعيّة، وهذا شأن آخر.

٩٥

بحثٌ في حقيقة الأذان وبيان الأغراض التشريعيّة له

* كونهُ للإعلام

قال في المعتبر: الأذان في اللغة (الإعلام)، وفي الشرع: (اسم للأذكار الموضوعة للإعلام بدخول أوقات الصلاة)، وهو من وكيد السُنن اتفاقاً (١).

* كونهُ ذِكراً

قال الشيخ في الخلاف في مسألة (لو فرغَ من الصلاة ولم يحكِ الأذان): يؤتى به لا من حيث كونه أذاناً، بل من حيث كونه ذِكراً.

* كونهُ تشهّداً

قال الشهيد الثاني في روض الجنان في مسألة (هل يكون الكافر بتلفّظه بالشهادتين في الأذان أو الصلاة مسلماً) (٢): ونَسبهُ إلى اختيار العلاّمة في التذكرة؛ لأنّ الشهادة صريحة في الإسلام، لكنّه اختار العدم، وقال: ألفاظ الشهادتين ليست موضوعة لأن يَعتقد، بل للإعلام بوقت الصلاة، وإن كان قد يُقارنها الاعتقاد، وكذا تشهّد الصلاة لم يوضع لذلك؛ بل لكونه جزءاً من العبادة، ومن ثُمَّ لو صدرت من غافل عن معناها صحّت الصلاة؛ لحصول الغرض المقصود منها، بخلاف الشهادتين المجرّدتين عنهما المحكوم بإسلام مَن تلفظ بهما، فإنّهما موضوعتان للدلالة على اعتقاد قائلهما.

____________________

(١) المعتبر: ج٢، ص١٢١.

(٢) روض الجنان: ص٢٤٢.

٩٦

فنلاحظ: أنّ الشهيد الثاني يستدلّ على مشروعيّة الأذان بمطلق مشروعيّة ذِكر الله، كما أنّه يبيّن تنوّع الأذان بحسب الغاية المشروعة الراجحة، فتارة هي الإعلام، وتارة هي الذِكر والإعظام، كما أُشير إلى ذلك في رواية تعليل الأذان للإمام الرضا (عليه السلام) الآتية كما في صدرها.

وقال الشهيد الأوّل في الذكرى (١) : روى عبد الله بن سنان عنه (عليه السلام): (يجزيكَ إذا خلوتَ في بيتك إقامة بغير أذان)، وروى الحلبي عنه (عليه السلام): (إذا كان صلّى وحده في البيت أقام إقامة ولم يؤذِّن)، قال في التهذيب: إنّما يكون للمنفرد غير المصلّي جماعة، قلتُ: في هذين الخبرين دلالة على أنّه لا يتأكّد الأذان للخالي وحده، إذ الغرض الأهم من الأذان هو الإعلام، وهو منفي هنا، أمّا أصل الاستحباب، فإنّه قائم لعموم مشروعيّة الأذان، ويكون الأذان هنا لذكر الله تعالى ورسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

أقول: يظهر من كلامهم (قُدِّس سرّهم): أنّ الأغراض التشريعيّة للأذان متعدّدة عُمدتهما الإعلام، ومنها ذِكر الله تعالى ورسوله.

وممّا ينبغي الالتفات إليه في صور فصول الأذان والإقامة: جواز الإتيان بها واحدة واحدة لا مثنى مثنى، فالصورة المشروعة تتحقّق أدنى مراتبها بذلك، والمَثنى مثنى إنّما هي صورة كمال الأذان، وقد ورد الإذن بالاجتزاء واحدة واحدة في موارد كما في المسافر، ومَن تعجّلت به حاجته وفي المرأة، بل قد ورد فيهم الاكتفاء بالتكبير والشهادتين دون الحيّعلات (٢) ،

____________________

(١) الذكرى: ج٣، ص٢٣٥.

(٢) كما في أبواب الأذان والإقامة: ب١٤.

٩٧

وفي بعض الروايات الاكتفاء بالشهادتين فقط، وهو يعطي أنّ الصورة الأصليّة في الأذان والإقامة هي الواحدة، وإنّ العمدة فيها هو التشهّد بالشهادتين، ومثله ما ورد (١) في مَن يصلي مع القوم ولا يمهله يؤذِّن ويُقيم، فإنّه يكتفي ببعض فصول الإقامة الأخيرة المتضمّنة لقيام الصلاة والتهليل، كما قد ورد أنّ المرأة تُسرّ في الأذان وهو يُعطي أنّ الإسرار هو بعض حالات الأذان والإقامة، كما أنّ مَن نفى الأذان والإقامة عن النساء يستفاد منهم أنّ من بعض أفراد الأذان ما يسقط، وإن كان مشروعاً.

* مشروعيّته في الصلاة:

قال الشيخ في المبسوط: ولو قاله في الصلاة (الأذان) لم تبطل صلاته، إلاّ في قوله (حيّ على الصلاة)، فإنّه متى قال ذلك مع العلم بأنّه لا يجوز فَسدت صلاته؛ لأنّه ليس بتحميد ولا تكبير، بل هو كلام الآدميين، فإن قال بدلاً من ذلك (لا حول ولا قوة إلاّ بالله) لم تبطل صلاته.

* شعاريّته للإسلام وللإيمان:

قال في التذكرة: مسألة: لا يجوز الاستيجار في الأذان وشبهه من شعائر الإسلام غير المفروضة شعاريّته،... إلى أن قال: وللشافعيّة في الأجر على الشعائر غير المفروضة في الأذان تفريعاً على الأصحّ عندهم ثلاثة أوجه، فإن جوّزوه فثلاث أوجه في أنّ المؤذِّن يأخذ بالأجرة، إحداها: أنّه يأخذ على رعاية المواقيت، والثاني: على رفع الصوت، والثالث: على الحيّعلتين؛ فإنّهما ليستا من الأذان.

____________________

(١) أبواب الأذان والإقامة: باب ٣٤، الحديث ١.

٩٨

والأصحّ عندهم وجه رابع: أنّه يأخذ على الأذان بجميع صفاته، ولا يبعد استحقاق الأجرة على ذِكر الله تعالى، كما لا يبعد استحقاقها على تعليم القرآن، وإن اشتملَ على تعليم القرآن.

وقال الشهيد الثاني في الروضة البهيّة - بعدما ذَكر أنّ التشهّد بالولاية لعلي (عليه السلام)، وأنّ محمّداً وآله خير البريّة، أو خير البشر، ليس من جزء الأذان، وإن كان الواقع كذلك -: (وبالجملة فذلك من أحكام الإيمان، لا من فصول الأذان)، وقال بعدما نقل كلام الصدوق: لو فعلَ هذه الزيادة لا حرج (١).

ومثله قول صاحب المدارك (٢).

وقال صاحب الرياض - بعدما حكى القول بأنّها من أحكام الإيمان وليست من فصول الأذان -: (ومنه يظهر جواز زيادة أنّ محمّداً وآله - إلى آخره -، وكذا عليّاً وليّ الله مع عدم قصد الشرعيّة في خصوص الأذان، وإلاّ يحرم شرعاً ولا أظنّهما من الكلام المكره أيضاً؛ للأصل، وعدم انصراف إطلاق النهي عنه إليهما بحكم عدم التبادر، بل يستفاد من بعض الأخبار استحباب الشهادة بالولاية بعد الشهادة بالرسالة) (٣).

وقال السيّد الحكيم في المستمسك: (بل ذلك - أي ذِكره الشهادة الثالثة في الأذان - في هذه الأعصار معدود من شعائر الإيمان، ورمز إلى التشيّع فيكون من هذه الجهة راجحاً شرعاً) (٤) .

____________________

(١) الروضة البهيّة: بحث الأذان.

(٢) المدارك: ج٣، ص٢٩.

(٣) رياض المسائل: ج٣، ص٩٧ - ٩٨.

(٤) مستمسك العروة الوثقى: ج٥، ص٥٤٥.

٩٩

وقال السيّد الخوئي (قدِّس سرّه) في إثبات شعاريّة الأذان: (وممّا يهوِّن الخَطب أنّنا في غِنى من ورود النص، إذ لا شبهة في رجحان الشهادة الثالثة بعد أن كانت الولاية من مُتممات الرسالة، ومقوّمات الإيمان، ومن كمال الدين بمقتضى قوله تعالى: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) ، بل من الخمس التي بُني عليها الإسلام، لاسيّما وقد أصبحت في هذه الأعصار من أجلى أنحاء الشعائر، وأبرز رموز التشيّع وشعائر مذهب الفرقة الناجية، فهي إذاً أمر مرغوب فيه شرعاً وراجح قطعاً في الأذان وغيره....) (١) .

* الولايةُ فيه:

وقال الصدوق - في ذيل خبر في الأذان تركَ الراوي فيه ذِكر (حيّ على خير العمل) - (إنّما تَرك الراوي لهذا الحديث ذِكر (حيّ على خير العمل) للتقيّة.

وقد رويَ في خبرٍ آخر، أنّ الصادق (عليه السلام) سُئل عن معنى (حيّ على خير العمل) فقال: (خيرُ العمل الولاية)، وفي خبر (العملُ برّ فاطمة وولدها (عليهم السلام)) (٢) ، وذكر نظير ذلك في كتاب التوحيد (٣) في ذيل نفس الخبر، وقد أشار إلى هاتين الروايتين السيّد ابن طاووس في فلاح السائل (٤).

وقال المجلسي الأوّل في روضة المتّقين - في ذيل رواية متضمّنة لمدح أمير المؤمنين لمؤذِّنه ابن النباح على قوله (حيّ على خير العمل) -: (وروي عن أبي الحسن (عليه السلام) أنّ تفسيرها الباطن الولاية،

____________________

(١) مستند العروة الوثقى: ج١٣، ص٢٥٩ - ٢٦٠.

(٢) معاني الأخبار: ص٤١، طبعة جامعة المدرّسين - قم.

(٣) التوحيد: ص٢٤١، طبعة جماعة المدرّسين - قم.

(٤) فلاح السائل: ص١٤٨، ص١٥.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420