الشهادة الثالثة

الشهادة الثالثة19%

الشهادة الثالثة مؤلف:
تصنيف: فقه استدلالي
الصفحات: 420

الشهادة الثالثة
  • البداية
  • السابق
  • 420 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 107270 / تحميل: 6462
الحجم الحجم الحجم
الشهادة الثالثة

الشهادة الثالثة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

وقوله تعالى على لسان إبراهيم: ( رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ... رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء ) (١) ، وقال تعالى على لسان إبراهيم وإسماعيل: ( رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ) (٢) .

فهذه الصيغة الواردة في موثّقة أبي بصير - وغيرها من الصلاة على آل محمد - صيغة نَعت وإقرار لهم بالولاية والسؤدد والخيريّة على البريّة، فهي قريبة من أحد الصيغ التي ذكرها الصدوق في الفقيه للشهادة الثالثة وهي: (آل محمّد خير البريّة)، وكذلك قريبة من الصيغة التي أوردها السيّد المرتضى في مسائله المبافارقيات (محمّد وعلي خير البشر).

* السابعة: الفتوى بالشهادة الثالثة بعد تكبيرة الإحرام

الفتوى بالشهادة الثالثة في دعاء التوجّه إلى الصلاة، والذي يؤتى به بعد تكبيرة الإحرام.

منها: فتوى الشيخ الطوسي في كتاب الاقتصاد، قال في فصل فيما يقارن حال الصلاة: (أوّل ما يجب من أفعال الصلاة المقارنة لها النيّة،... ويستفتح الصلاة بقوله: (الله أكبر)،... فإن أراد السنّة في الفضيلة كبّر ثلاث مرات...

____________________

(١) إبراهيم: ٣٧، ٤.

(٢) البقرة: ١٢٨.

٦١

ثُمّ يكبّر تكبيرتين أخريين مثلما قدّمناه ويقول،... ثُمّ يكبّر تكبيرتين أخريين ويقول بعدهما: (وجّهتُ وجهي للذي فطرَ السماوات والأرض على ملّة إبراهيم ودين محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وولاية أمير المؤمنين وما أنا من المشركين، قل إنّ صلاتي ونُسكي ومحياي لله ربّ العالمين لا شريك له، وبذلك أُمرتُ وأنا من المسلمين) (١) ، وقريب منه ما جاء في كتاب النهاية (٢) .

ومنها: فتوى الحَلَبي في الكافي

قال في الكافي: (فأمّا التوجّه فهو ما يُفتتح به الصلاة من التكبير والدعاء وصفته: أن يقول المتوجّه بعد الفراغ من الإقامة ويداه مبسوطتان تجاه وجهه: اللهمّ إنّي أتوجّه إليك وأتقرّب إليك بمَن أوجبتَ حقّهم عليَّ، آدم، ومحمّد، ومَن بينهما من النبيّين، والأوصياء، والحجج، والشهداء، والصالحين، وآل محمّد المصطفى، علي، والحسن، والحسين، وعلي بن الحسين، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، وموسى بن جعفر، وعلي بن موسى، ومحمد بن علي، وعلي بن محمد، والحسن بن علي، والحجّة بن الحسن، اللهمّ فصلِّ عليهم أجمعين، واجعلني بهم وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقرّبين، اللهمّ اجعل صلاتي بهم مقبولة، وعملي بهم مبروراً، وذنبي بهم مغفوراً، وعيبي بهم مستوراً، ودعائي بهم مستجاباً مَننتَ اللهمّ عليَّ بمعرفتهم، فاختِم لي بطاعتهم وولايتهم، واحشرني عليها وجازني على ذلك الفوز بالجنة، والنجاة من النار برحمتك يا أرحم الراحمين، ثُمّ يكبّر ثلاث تكبيرات،... ثُمّ يكبّر تكبيرتين ويدعو بعدهما،... ثُمّ يكبّر تكبيرة، ثُمّ ينوي الصلاة ويكبّر تكبيرة الافتتاح مصاحبة للنيّة ويقول بعدها:

____________________

(١) الاقتصاد: ص٢٦ - ٢٦١، منشورات جامع جهلستون.

(٢) النهاية: ج١، ص٢٩٤.

٦٢

وجّهتُ وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً على ملّة إبراهيم، ودين محمّد، وولاية أمير المؤمنين والأئمّة من ذريتهم الطاهرين.... (١).

منها: فتوى الشيخ المفيد

قال في المقنعة في باب كيفيّة الصلاة وصفتها: وليستفتح الصلاة بالتكبير فيقول: (الله أكبر ويرفع يديه مع تكبيرة،.... ويكبّر تكبيرة أخرى كالأولى و....، ويكبّر ثالثة،... ثُمّ يكبّر تكبيرة رابعة،... ثُمّ يكبّر تكبيرتين أخريين، إحداهما بعد الأخرى، كما قدّمنا ذكره ويقول: (وجّهتُ وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً على ملّة إبراهيم، ودين محمد، وولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وما أنا من المشركين،... أعوذُ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم (بسم الله الرحمن الرحيم ثُمّ يقرأ الحمد...)) (٢) .

منها: فتوى الشيخ الصدوق في كتابه المقنع في أبواب الصلاة قال: (ثُمّ كبِّر تكبيرتين وقل: وجّهتُ وجهي للذي فطرَ السماوات والأرض، عالِم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم على ملّة إبراهيم، ودين محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حنيفاً مسلماً،... (٣).

ومنها: فتوى القاضي ابن البرّاج

قال: (وجّهتُ وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً على ملّة إبراهيم، ودين محمّد، ومنهاج عليّ بن أبي طالب، وما أنا من المشركين، إنّ صلاتي ونُسكي...) (٤) .

____________________

(١) الكافي في الفقه: ص١٢١ - ١٢٢، طبعة مكتبة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).

(٢) المقنعة: ص١٣، طبعة قم، جماعة المدرّسين.

(٣) المقنع: ص٩٣، طبع قم، مؤسّسة الإمام الهادي (عليه السلام).

(٤) المهذّب: ج١، ص ٩٢ كتاب الصلاة، طبعة جماعة المدرّسين، قم.

٦٣

ومنها: فتوى ابن زهرة الحَلَبي

قال: (وأن يقول بعد تكبيرة الإحرام: وجّهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً على ملّة إبراهيم، ودين محمد، وولاية أمير المؤمنين عليّ، والأئمّة من ذرّيتهما وما أنا من المشركين...) (١).

ومنها: الشيخ أبي يعلي حمزة بن عبد العزيز الديلمي المعروف بسلاّر.

قال: (ثُمّ يكبّر تكبيرتين، الثانية منهما تكبيرة الافتتاح ثُمّ يقول: وجّهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً مسلماً على ملّة إبراهيم، ودين محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وولاية أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)...) (٢) .

وغيرها من الفتاوى التي يجدها المتتّبع طبقاً للروايات الواردة في دعاء التوجّه للصلاة، والتي يأتي التعرّض لها لاحقاً، وهي ناصّة على كون الإقرار بالشهادة الثالثة بالصيغة المتقدّمة من أوراد الصلاة الخاصّة، والتي يؤتى بها داخل الصلاة فضلاً عن مقدّماتها الخارجة كالأذان والإقامة، نعم، في بعض فتاوى المتأخّرين تخصيص دعاء التوجّه بما بين الإقامة وتكبيرة الإحرام، وهو الآخر أيضاً نافع في المقام؛ لتوسّطه بين الإقامة وتكبيرة الإحرام فضلاً عن تخلّلها في الإقامة والأذان ذاتيهما.

____________________

(١) غنية النزوع: ص٨٣ كتاب الصلاة، طبعة قم، مؤسّسة الإمام الصادق.

(٢) المراسم العلويّة: ص٧١ كتاب الصلاة، طبعة أمير، قم.

٦٤

ومنها: فتوى الشيخ الصدوق في الفقيه في وصف الصلاة وأدب المصلي قال، قال الصادق: (إذا قمتَ إلى الصلاة فقل... ثُمّ كبّر تكبيرتين وقل: (وجّهتُ وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً على ملّة إبراهيم، ودين محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومنهاج علي، حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، إنّ صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين، لا شريك له وبذلك أُمرتُ وأنا من المسلمين، أعوذُ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم) (١) ، ثُمّ قال الصدوق في ذيلها: (وإن شئتَ كبّرت سبع تكبيرات ولاءً، إلاّ أنّ الذي وصفناه تعبّد، وإنّما جَرت السنّة في افتتاح الصلاة بسبع تكبيرات لمَا روى زرارة).

ومنها: فتوى الشيخ الطوسي في مصباح المتهجّد قال: (فإذا أراد التوجّه قام مستقبل القبلة وكبّر فقال: الله أكبر، يرفع بها يديه إلى شَحمتي أُذنيه لا أكثر من ذلك، ثُمّ يُرسلهما، ثُمّ يكبّر ثانية وثالثة مثل ذلك ويقول،.... ثُمّ يكبّر تكبيرتين أخريين مثل ذلك ويقول،... ثُمّ يكبّر تكبيرتين أخريين على ما وصفناه ويقول: وجّهتُ وجهي للذي فطر السماوات والأرض على ملّة إبراهيم، ودين محمد، ومنهاج علي حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، إنّ صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين لا شريك له، وبذلك أمرتُ وأنا من المسلمين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) (٢).

____________________

(١) الفقيه: ج١، ص٣٠٢ - ٣٤ طبعة جماعة المدرّسين.

(٢) مصباح المتهجّد: فصل في سياقه الصلوات الإحدى والخمسين ركعة في اليوم والليلة، ص٤٤ مؤسّسة الأعلمي بيروت.

٦٥

* الثامنة: الفتوى بذكرهم بوصف إمامتهم (عليهم السلام) في خطبة الجمعة

ويراد بذلك: مشروعيّة أو شرطيّة ذِكر أسمائهم بوصف الإمامة في خطبة الجمعة، تضمّن خطبة الجمعة للإمام التي هي عوض ركعتي الظهر، والتي هي شرط في ركعتي صلاة الجمعة، بل هي من الأجزاء الواجبة لتضمنّها لأسماء الأئمّة ففي مفتاح الكرامة (١) قال: وفي الجعفريّة، وكشف الالتباس، وحاشية الإرشاد وجوب الصلاة فيهما على أئمّة المسلمين.

وفي فوائد الشرايع: أنّه أولى واعتمدَ في المدارك والشافية على صحيح محمّد الطويل، وظاهر الدروس أو صحيحها: أنّ الصلاة على أئمّة المسلمين من وظائف الثانية، كالنافع والمعتبر، وكأنّه مالَ إليه في إرشاد الجعفريّات، وفي موضع من السرائر والمنقول عن مصباح السيّد: أنّه يدعو لأئمّة المسلمين في الثانية، وظاهر النهاية: أنّه يدعو لأئمّة المسلمين وقد تضمّنت صحيحة (٢) محمّد بن مسلم الأمر بذكر أسماءهم (عليهم السلام)، وكذا موثّق سماعة (٣).

وقال في الجواهر: (لكنّ ظاهره (الموثّق)، وظاهر صحيح ابن مسلم إيجاب الصلاة على الأئمّة في الثانية، بل في الثاني منهما ذِكرهم (عليهم السلام) تفصيلاً، فمقتضى الجمع بين النصوص ذلك فيهما معاً إلاّ أنّ ندرة الفتوى بها وما سمعتهُ من إجماع الشيخ وغيره على الاجتزاء بدونه، وسوق النصوص للأعم من الواجب والمندوب ونحو ذلك ممّا لا يخفى يمنع من الجرأة على الوجوب، وإن كان الوجوب في الجملة ظاهر ما سمعته في مصباح السيّد، ونهاية الشيخ، والنافع، والمعتبر وغيرها، بل ربّما استُظهرَ من موضع من السرائر إلاّ أنّه استُظهر منه الندب؛ لحصر الواجب في الخطبة في أربعة أصناف (٤).

____________________

(١) مفتاح الكرامة: ج٣، ص١١٤.

(٢) الكافي: ج٣، ص٤٢٢ باب تهيئة الإمام للجمعة وخطبته.

(٣) الوسائل: أبواب صلاة الجمعة ب٢٤، ح١.

(٤) الجواهر: ج١١، ص٢١٥.

٦٦

والحاصل: إنّ مشروعيّة ذِكر الأسماء للأئمّة (عليهم السلام) ورجحانه بالخصوص في خطبة الجمعة، لا خلاف فيه والخُطبة - كما مرّ - عِوض الركعتين وبمنزلة الجزء المقدّم على ركعتي صلاة الجمعة، فهي أدخل في الصلاة من الأذان والإقامة، وقد تضمّنت لكلّ من الشهادات الثلاث وإن كانت بصورة الحمد لله والصلاة على النبي بالتوصيف، والصلاة على الأئمّة بوصف الإمامة، لاسيّما وأنّه قد أُمرَ ندباً ووجوباً بذكر الأسماء تفصيلاً في: صحيح محمد بن مسلم، ومجموعاً في موثّق سماعة.

وهذا التشريع الخاص بذكرهم (عليهم السلام) في خطبة الجمعة يدفع كثيراً من الاستبعادات والإشكاليات التي ذكرها جماعة: من أنّ صورة الأذان لو كانت متضمّنة للشهادة الثالثة على عهد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، لتوفّرت الدواعي لنقلها ونحوه ممّا ذُكر في استبعاد تضمّن الأذان للشهادة الثالثة كفصل؛ فإنّ هذه الاستبعادات بعينها تتأتّى في خطبة صلاة الجمعة، وليس من وجه في الجواب إلاّ تدريجيّة التشريع وبيان الأحكام ولو بسبب عدم استجابة الناس وتقبّلهم لذلك، كما في إبلاغ أصل الولاية بنحو عام لكلّ المسلمين كما في واقعة غدير خم، حيث كان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يخشى تمرّد المنافقين فطمأنَهُ الله تعالى بقوله: ( وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (١).

____________________

(١) المائدة ٦٧.

٦٧

السيرةُ على عهدِ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)

بالرغم من كون تشريع الأحكام وإبلاغها من الله تعالى ورسوله الكريم تدريجيّاً، بل إنّ بعض تفاصيل الأحكام تأخّر إبلاغها إلى عهد أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) بعهدٍ معهود من رسول الله، إذ كمال الدين بنصب رسول الله لعلي (عليه السلام) والمطهّرين من ولده أئمّة، إلاّ أنّه يُطرح السؤال:

عن أنّ تشريع الشهادة الثالثة في الأذان هل وقعَ في عهد رسول الله، أم أنّه تمّ بيانه وإبلاغه على يدي أئمّة أهل البيت، الذين يمسّون الكتاب المكنون واللوح المحفوظ، الذين عهد إليهم النبي العلم الإلهي من بعده، فإنّ الذي يسترعي الانتباه هو ظاهره حذف السلطة بعد رسول الله على عهد الثاني لفصل (حيّ على خير العمل)، فإنّ ظاهره التصرّف في الأذان بالنقيصة أو زيادة (الصلاة خير من النوم)، تثير التساؤل بأنّ الأذان الذي كان على عهد رسول الله قد نقص منه أمور وزيد فيه أموراً أخرى، وهذا التطاول يزيد في احتمال مطروح بدواً، في كون الشهادة الثالثة قد حصلَ التأذين بها في عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، لاسيّما مع الإعلان عنها في واقعة الغدير وقبلها من الوقائع ونزول آية إكمال الدين (١) ، وأنّه ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ... ) (٢) ، وهذا ما يظهر بوضوح من مصحّح ابن أبي عمير الآتي، مع اعتضاد مضمونه وتوافقه مع فتاوى السيّد المرتضى وابن برّاج، وتطابق بعض مضمونه مع بعض الأحاديث النبويّة المرويّة من قِبل الفريقين فهاهنا نقطتان:

____________________

(١) المائدة: آية ٣.

(٢) المائدة: آية ٦٧.

٦٨

الأولى: فتوى كلّ من: السيّد المرتضى، وابن برّاج بجواز (محمّد وعلي خير البشر) بعد قول: (حيّ على خير العمل) في الأذان، كما أفتى بذلك السيّد المرتضى في المسائل المبافارقيّة (١) ، وفتوى (٢) ابن برّاج بجواز قول: (آل محمّد خير البريّة) مرّتين بعد قول: (حيّ على خير العمل) في الأذان والإقامة.

ثُمّ إنّ هاتين الفتويين بَنياها العَلَمان على المتون الروائيّة التي أشار إلى روايتها الصدوق في الفقيه، وقد أشار الشيخ الطوسي في المبسوط والنهاية بورودها، فيستفاد إلى أنّ أحد موضعي الشهادة الثالثة في الأذان بعد فصل (حيّ على خير العمل) مضافاً إلى الموضع الأوّل، والذي هو الشهادة الثانية فبضميمة النقطة الثانية وهي:

الثانية: وهي ما ورد في مصحّحة ابن أبي عمير، أنّه سأل أبا الحسن (عليه السلام) عن (حيّ على خير العمل) لمَ تُركت من الأذان؟ قال: (تريد العلّة الظاهرة أو الباطنة؟ قلت: أريدهما جميعاً، فقال: أمّا العلّة الظاهرة فلئلاّ يدع الناس الجهاد اتّكالاً على الصلاة، وأمّا الباطنة؛ فإنّ خير العمل الولاية، فأراد من أمر بترك حيّ على خير العمل من الأذان: أن لا يقع حثٌ عليها ودعاء إليها).

ومراده (عليه السلام) من العلّة الباطنة: السبب الحقيقي الخفي الذي دفعَ الثاني إلى حذفها من الأذان أنّه لكي لا يُدعى إلى الولاية، مع أنّ متن (حيّ على خير العمل) ليس فيه لفظ الولاية فلا يكون هذا الفصل دعوة إلى الولاية إلاّ بضميمة ما ذُكر في النقطة من وجود (آل محمّد خير البريّة)، أو (محمّد وعلي خير البشر)، وأنّ هذا الفصل كان قد قُرأ به في الأذان في بعض أيّام رسول الله أو فترة من الفترات،

____________________

(١) المسائل المبافارقية: ص٢٥٦.

(٢) المهذّب: ج١، ص٩٢، كتاب الصلاة، طبعة جماعة المدرّسين، قم.

٦٩

وحيث إنّ هذين الفصلين مترابطان، حُذف الفصل الأوّل وهو (حيّ على خير العمل)؛ لئلاّ يُذكر الفصل الثاني وهو (آل محمّد خير البريّة) أو (محمّد وعلي خير البشر)، والذي كان يمارَس في بعض الأحيان في عهد رسول الله، فلكي لا يُذكر هذا الفصل الثاني حُذف الأوّل.

وبهاتين النقطتين يتبيّن سند روائي معتبر على تشريع الشهادة الثالثة منذ عهد رسول الله، وأنّ هذه المصحّحة والروايات المشار إليها في النقطة الأولى سند روائي لتاريخ تشريع الشهادة الثالثة، وأنّها تشريع نبوي، وهذا ما تعطيه تصريح الرواية من أنّ السند الحقيقي من إقدام الثاني بحذف (حيّ على خير العمل) والداعي الأصلي لديه هو: لئلاّ يُدعى بالولاية بتوسّط حيّ على خير العمل، ممّا يستلزم أنّ قَبل عهد الثاني - وهو عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - كان يُدعى للولاية بتوسّط (حيّ على خير العمل).

وهذا ما تفسّره الروايات في النقطة الأولى من: أنّ تشريع الشهادة الثالثة قد كان في أصل التشريع الأوّلي للأذان، وأنّ تعبيره (عليه السلام) بالعلّة الباطنة يريد به الوصف للعلّة، أي السبب الخفي الذي حذا بالثاني على أن يَقدِم على حذف (حيّ على خير العمل)، فلا يُتوهم أنّ لفظ الباطن هو وصف للمعنى الخفي لحيّ على خير العمل؛ لأنّه بعيد ممجوج، إذ سؤال الراوي عن سبب ترك وحذف (حيّ على خير العمل) من قِبَل السلطة في الأذان، ولذلك ترك العلّة الظاهرة لهذا الترك والحذف، أي العلّة المُعلنة على السطح من قِبَل السلطة للناس وهو قوله (عليه السلام):

إنّ سلطة الثاني ادّعت (لئلاّ يدع الناس الجهاد اتّكالاً على الصلاة)، إذ المعروف أنّ حذف (حيّ على خير العمل) هي من بِدع الثاني، فهذه المصحّحة منادية بوجوب الدعاء والحثّ على ولاية آل محمّد في الأذان في التشريع الأوّلي من قِبل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، إلاّ أنّ الثاني قام بحذفه.

٧٠

ويَدعم مضمون هذه المصحّحة - بالإضافة إلى الروايات المشار إليها في النقطة الأولى، والتي أفتى بها كلّ من السيّد المرتضى، وابن برّاج -: ما رواه الفريقان مستفيضاً عن النبي، وما هو مجانس لفظاً لمضمون هذه الروايات في ذلك سورة البيّنة أنّ آل محمّد خير البريّة، وأنّ (محمّداً وعليّاً خير البشر)، فقوالب هذه الألفاظ والجُمل هي أحاديث نبويّة مرويّة عند الفريقين، وهو يشاكل ويجانس لفظاً (حيّ على خير العمل)، وهو عين الفصل الثاني الذي أشارت إليه روايات النقطة الأولى، لاسيّما وأنّ الآية في سورة البيّنة: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) (١) ، فلاحظ ما رواه العامّة من تسمية علي بخير البريّة، فكانوا يقولون له على عهد رسول الله: جاء خير البريّة، وذَهب خير البريّة.

فقد روى السيوطي في الدرّ المنثور (٢) في ذيل الآية، قال: وأخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله (قال: كنّا عند النبي (صلّّى الله عليه وآله وسلّم)، فأقبلَ علي (عليه السلام) فقال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (والذي نفسي بيده إنّ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة) ونَزلت: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) ، فكان أصحاب النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إذا أقبل علي (عليه السلام) قالوا: جاء خير البريّة).

وقال السيوطي: وأخرج ابن عدي، وابن عساكر عن أبي سعيد مرفوعاً (علي خير البريّة).

____________________

(١) البيّنة: الآية ٧.

(٢) الدرّ المنثور للسيوطي: ج٦، ص٣٨٩.

٧١

وأخرج ابن عدي عن ابن عبّاس، قال: لمّا نَزلت: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لعلي: (هو أنتَ وشيعتك يوم القيامة راضيين مرضيين).

وأخرجَ ابن مردويه عن علي (عليه السلام) قال: (قال لي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ألم تسمع قول الله: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) أنت وشيعتك وموعدي وموعدكم الحوض إذا جيئت الأمم للحساب، تُدعونَ غرّاً محجّلين) (١).

وروى الطبري ابن جرير، المتوفّى سنة ٣١ هجريّة في تفسيره جامع البيان: وقد حدّثنا ابن حميد قال: حدّثنا عيسى بن فرقد عن أبي الجارود عن محمّد بن علي ( أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ) ، فقال النبي (صلّى الله عليه ((وآله)) وسلّم): (أنت يا علي وشيعتك) (٢).

وقد روى الشوكاني في فتح القدير (٣) هذه الروايات عن تلك المصادر الحديثيّة، وروى الآلوسي في روح المعاني (٤) هذه الروايات أيضاً عن نفس تلك المصادر الحديثيّة.

وروى ابن حسنويه الحنفي في كتابه (دُر بحر المناقب)، ص٥٩ مخطوط فقال: (وعن الإمام فخر الدين الطبري يرفعه إلى جابر بن عبد الله الأنصاري قال: بينما نحن بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يوماً في مسجده بالمدينة، فذُكرَ بعض الصحابة، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):

____________________

(١) الدرّ المنثور للسيوطي: ج٦، ص٣٨٩.

(٢) تفسير الطبري: ج٣٠، ص٣٣٥.

(٣) فتح القدير: ج٥، ص٤٧٧.

(٤) روح المعاني للآلوسي: ج٣، ص٦.

٧٢

(إنّ لله لواءً من نور وعموده من زبرجد، خلقه الله تعالى قبل أن يخلق السماء بألفي عام مكتوب عليه (لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله، آل محمّد خير البشر، وأنت يا علي إمام القوم، فعند ذلك قال علي: الحمدُ لله الذي هدانا وأكرمنا بك وشرّفنا....) الحديث (١).

____________________

(١) إحقاق الحق، ج٤، ص٢٨٤. فقد أورده إمام الحنابلة احمد بن حنبل الشيباني المروزي في فضائل الصحابة ص٤٦ مخطوط كما حكاه في إحقاق الحق ج٤، ص٢٤٩ إلى ص٢٥٨.

وروى مُحب الدين الطبري في ذخائر العقبى: ص٩٦ وفي الرياض النظرة: ج٢، ص٢٢٠ وابن حجر في لسان الميزان: ج٣، ص١٦٦، ج٦، ص٧٨، ج١، ص١٧٥ وأخرجه ابن مردويه في كتابه المناقب وغيرها من المصادر فلاحظ إحقاق الحق.

٧٣

تَقادُم السيرة على الشهادة الثالثة

المحطّةُ الأُولى:

إنّ من أقدم الشهادات التاريخيّة على السيرة في ذِكر الشهادة الثالثة هي: ما ذكرهُ العامّة في كُتب التراجم في ترجمة كدير الضبّي، وهو أحد صحابة النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وإنّه ذَكرها في تشهّد الصلاة حيث صلّى على النبي وعلى الوصي بلفظ الوصي، وهو يُنبئ عن السيرة الموجودة لدى صحابة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ممّن كان يتشيّع لأمير المؤمنين (عليه السلام)، ويظهر من التراجم المشار إليها (١) معروفيّة تضعيفه لأجل ذلك.

وروى محمد بن سليمان الكوفي القاضي، المتوفّى بعد الثلاثمائة هجري قمري في كتابه مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (حدّثنا محمد بن منصور، عن عثمان بن أبي شيبه، عن جرير عن المغيرة، عن سمّاك بن سلمة قال: دخلتُ على كدير الضبّي حين صلّيت الغداة فقالت لي امرأته: ادنوا منه؛ فإنّه يصلّي فسمعته يقول: سلام على النبي والوصي (٢) ، فقلت: لا والله، لا يراني الله عائداً إليك).

بل إنّ هناك روايات أخرى تُعدّ أقدم من ذلك عن جماعة كثيرة من الصحابة وهي: ما روي عن ابن عبّاس في عدّة روايات بسند متّصل عن

____________________

(١) لاحظ التذييل الثالث في خاتمة الفصل الأوّل.

(٢) مناقب الإمام علي أمير المؤمنين: ص٣٨٦ تصحيح المحمودي، والحديث رواه كلّ من: العقيلي، وابن حجر في ترجمة كدير الضبّي من كتاب الضعفاء ولسان الميزان، ج٤، ص٤٨٦.

٧٤

النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (١) ، وسيأتي ذِكرها في الفصل الثاني في الطوائف الروائيّة العامّة، كالطائفة الأولى حيث قرنَ فيها الشهادات الثلاث، وقريب منه ما رواه الصدوق عن ابن عبّاس بسند متصل عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (٢) ، وعن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين - والأصبغ من أوائل التابعين - وهذا ما يُدلّل على أنّ السيرة متقادِمة في الصحابة والتابعين، وكذلك ما رواه الفضل بن شاذان، عن الأعمش، عن جابر، عن مجاهد، عن عبد الله بن العبّاس (٣) ، وستأتي في الفصل الثاني في الطائفة الأولى من طوائف الروايات العامّة، وكذلك ما رواه الفضل بن شاذان عن عبد الله بن مسعود (٤) ، وكذلك روى عنه الفضل بن شاذان (٥) حديث المعراج من اقتران الشهادات الثلاث.

أقول: فيظهر من هذه الروايات وغيرها، أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حرّضَ على اقتران الشهادات الثلاث في عدّة مواطن؛ لدفع المسلمين على الاعتياد على ذِكر الشهادة الثالثة كلّما ذكروا الشهادتين، وجعلها شعاراً لهم في كلّ المواطن والشعائر العباديّة ومنها الأذان، وقد روى الصدوق بإسناده في كمال الدين (٦) عن أبي الطفيل عامر بن واثلة اقتران الشهادات الثلاث، وهناك روايات أخرى في الفصل الثاني رواها الطبراني،

____________________

(١) الفضائل لابن شاذان: ص٩٣، البحار: ج٣٨، ص٣١٨.

(٢) توحيد الصدوق: ص٢٧٩ - ٢٨٢، ح٤، ح١.

(٣) الفضائل لابن شاذان: ص٨٣، الخصال للصدوق: ج١، ص٣٢٣.

(٤) الفضائل لابن شاذان: ص١٥٢.

(٥) الفضائل لابن شاذان: ص١٥٣.

(٦) كمال الدين: ص٢٩٤ - ٢٩٦، ح٣.

٧٥

والحافظ ابن عساكر، والسيوطي، وابن عدي وغيرهم، عن أنس بن مالك، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وأبي الحمراء خادم الرسول، وغيرهم من الصحابة في اقتران الشهادات الثلاث وكلّها من كُتب ومصادر العامّة (١).

المحطّةُ الثانية:

ما يظهر من سيرة الطالبيين في حلب، والشام، ومصر من التأذين بالشهادة الثالثة، عندما تسلّموا سدّة الحكم في أواخر القرن الثالث الهجري وأوائل القرن الرابع وطواله، وإليك هذه النصوص التاريخيّة:

١ - ما ذكرهُ ابن العديم في كتابه بغية الطلب في تاريخ حلب، روى بسنده عن أبي بكر الصولي: أنّه لمّا أُجلس أحمد بن عبد الله - وهو الخارج بالشام في أيّام المكتفي بالله، وكان ينتمي إلى الطالبيين وهو المعروف بصاحب الخال وقُتل بالدكّة في سنة إحدى وتسعين ومائتين (٢٩١ هجري قمري) - على سدّة الحكم، سار أحمد بن عبد الله إلى حمص ودُعي له بها وبكورها، وأمَرهم بأن يُصلّوا الجمعة أربع ركعات، وأن يَخطبوا بعد الظهر ويكون أذانهم: أشهدُ أنّ محمّداً رسول الله، أشهدُ أنّ عليّاً وليّ المؤمنين، حيّ على خير العمل، وضَربَ الدراهم والدنانير وكُتب عليها: (الهادي المهدي، لا إله إلاّ الله، محمّد رسول الله، ( جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً )) ، وعلى الجانب الآخر: ( قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (٢).

____________________

(١) ملحقات إحقاق الحق: ج١٦، ص٤٦٨ - ٤٩٣.

(٢) بُغية الطلب في أخبار حلب: ج٢، ص٩٤٤.

٧٦

٢ - ما ذكرهُ أبو عبد الله محمّد بن علي بن حمّاد في كتابه (أخبار ملوك بني عبيد)، في ترجمة عبيد الله ابن محمد الطالبي (١) المتوفّى سنة (٣٢٢ هجريّة قمريّة)، مؤسّس الدولة العبيديّة في مصر قال: (وكان ممّا أحدثَ عبيد الله أن: قطعَ صلاة التراويح في شهر رمضان، وأمرَ بالصيام يومين قبله، وقنتَ قبل صلاة الجمعة قبل الركوع، وجهرَ بالبسملة في الصلاة المكتوبة، وأسقطَ من أذان الصبح (الصلاة خير من النوم)، وزاد (حيّ على خير العمل)، (محمّد وعلي خير البشر)، ونصّ الأذان طول مدّة بني عبيد بعد التكبير والتشهدين: حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح مرّتين، حيّ على خير العمل، محمّد وعلي خير البشر مرّتين، لا إله إلاّ الله مرّة) (٢).

٣ - ما رواه القاضي التنوّخي (أبي علي الحسن بن أبي القاسم التنوّخي (المتوفّى ٣٨٤ هجريّة قمريّة)، عن أبي الفرج الأصفهاني المتوفّى سنة (٣٥٦هـ) قال: سمعتُ رجلاً من القطعيّة يؤذِّن: الله أكبر، أشهدُ أن لا إله إلاّ الله، أشهدُ أنّ محمّداً رسول الله، أشهد أنّ عليّاً وليّ الله، محمد وعلي خير البشر فمَن أبى فقد كفر، ومَن رَضي فقد شكر، حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، حيّ على خير العمل، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلاّ الله) (٣).

____________________

(١) وهو عبيد الله بن محمد بن الحسين بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن أبي طالب، كما ذُكر في نسبه وولِد سنة (٢٦٠ هجريّة)، وتوفي يوم الاثنين الرابع عشر من شهر ربيع الأول سنة ثلاثمائة واثنان وعشرون (٣٢٢ هجريّة قمريّة)، كما جاء في أخبار ملوك بني عبيد ج١، ص٤٩.

(٢) أخبار ملوك بني عبيد: ج١، ص٥.

(٣) نشوار المحاضرة للتنوّخي: ج٢، ص١٣٣.

٧٧

٤ - قال المقريزي في (المواعظ والاعتبار): (... وأوّل مَن قال في الأذان بالليل (محمّد وعليّ خير البشر) الحسين المعروف بابن شكنبه، ويقال: اشكنبه، وهو اسم أعجمي معناه: الكرش، وهو: علي بن محمد بن علي بن إسماعيل بن الحسين بن زيد بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب، وكان أوّل تأذينه بذلك في أيّام سيف الدولة بن حمدان بحلب في سنة سبع وأربعين وثلاثمائة (٣٤٧ هجريّة قمريّة)، قاله الشريف محمد بن أسعد الجوباني النسّابة، ولم يزل الأذان بحلب يزاد فيه (حيّ على خير العمل، محمد وعلي خير البشر) إلى أيّام نور الدين محمود) (١).

٥ - ما ذكره المقريزي في حوادث سنة (٣٥٦) ستة وخمسين وثلاثمائة في مصر، قال: (لمّا دخلَ جوهر (٢) القائد لعساكر المُعز لدين الله وقد بنى القاهرة وأظهر مذهب الشيعة، وأذّن في جميع المساجد الجامعة بـ(حيّ على خير العمل)، وأعلن بتفضيل عليّ بن أبي طالب على غيره وجهرَ بالصلاة عليه، وعلى الحسن والحسين وفاطمة الزهراء رضوان الله عليهم....) (٣).

____________________

(١) خطط المقريزي: ج٢، ص٢٧١ - ٢٧٢ (المواعظ والاعتبار في ذِكر الخُطب والآثار).

(٢) وهو جوهر الصيقلي والقائد أبو الحسن، والمعروف بالكاتب الرومي، كان من موالي المُعز بن المنصور.... وفيات الأعيان لابن خلّكان: ج١، ص٣٧٥ وهو الذي فتح مصر للدولة الفاطميّة.

(٣) المواعظ والاعتبار في ذِكر الخُطب والآثار للمقريزي: ج٢، ص٣٤، وذُكرت مصادر أخرى ما هو قريب من ذلك مثل: العِبر في خبر مَن غبر، ج٢، ص٣١٦ - الذهبي: ص٨٦، ومثل: الوفيان لابن خلّكان، ج١، ص٣٧٥ - ٣٨٦، والمنتظم لابن الجوزي في تاريخ الأمم والملوك: ج١٤، ص١٩٧، وكتاب أخبار ملوك بني عبيد: ج١، ص٨٥.

٧٨

وذكرَ ابن العديم في كتابه زبدة الحلب من تاريخ حلب قال: (واستقرّ أمر سعد الدولة بحلب (١) ، وجدّد الحلبيّون عمارة المسجد الجامع بحلب، وزادوا في عمارة الأسوار في سنة سبع وستين وثلاثمائة (٣٦٧هـ)، وغيّر سعدٌ الأذان بحلب وزاد فيه (حيّ على خير العمل، ومحمد وعلي خير البشر) (٢).

وذكرَ أبو الفداء (٣) في (اليواقيت والضرب في تاريخ حلب) نظير ذلك.

٦ - وقال ناصر خسرو في كتابه (سفرنامه)، في عنوان اليمامة التي زارها أثر مُدن سابقة ذكرها سنة ٤٣٣ هجريّة قمريّة: إنّ أمراؤها علويون منذ القديم ولم يَنتزع أحد الولاية منهم، إذ ليس في جوارهم سلطان أو مَلك قاهر، وهؤلاء العلويون ذو شوكة فلديهم ثلاثمائة أو أربعمائة فارس، ومذهبهم الزيديّة وهم يقولون في الإقامة: محمد وعلي خير البشر، وحيّ على خير العمل، وقيل: إنّ سكّان هذه المدينة شريفيّة خاضعون للأشراف....) (٤).

٧ - ما ذكرهُ المؤرِّخون من حوادث كثيرة في أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس في بغداد، بين سنّة جماعة الخلافة والشيعة، ومن مظاهر تلك الخلافات الحاصلة بين الطرفين:

____________________

(١) وهو من ملوك الدولة الحمدانيّة، وهم من الشيعة الاثنى عشريّة، والتي بدأت من سنة ٨٩٢ م إلى ٩٩١ م.

(٢) زبدة الحلب من تاريخ حلب لابن العديم: ج١، ص١٥٩ - ١٦٠.

(٣) اليواقيت والضرب في تاريخ حلب: ص١٣٤.

(٤) سفرنامه: ناصر خسرو، ص١٤١ - ١٤٢.

٧٩

التأذين بحيّ على خير العمل بالأذان من قِبل الشيعة، وبالصلاة خير من النوم في أذان سنّة الجماعة والخلافة، وبالكتابة على أبواب المساجد والدور والدروب (محمّد وعلي خير البشر)، فلاحظ المصادر التاريخيّة في ذلك (١).

____________________

(١) الكامل في التاريخ: ج٨، ج٩، من سنة ٣٦٢ هـ.ق إلى سنة ٤٥ هـ.ق، والبداية والنهاية لابن كثير، تاريخ الخلفاء للسيوطي، السيرة الحلبيّة، تاريخ أبي الفداء، المنتظم لابن الجوزي، النجوم الزاهرة، الشذرات لابن عماد الحنبلي.

ومن باب النموذج: لاحظ ما وقعَ قبل سنة ٣٥٦ هجريّة قمريّة، كالذي مرّ في الإشارة إليه في كتابه نشوار المحاضرة برواية القاضي التنوّخي عن أبي الفرج الأصفهاني، وكذلك سنة ٤٤١ هجريّة قمريّة، و٤٤٢ هجريّة قمريّة، لاحظ: الكامل في التاريخ، والمنتظم، وتاريخ أبي الفداء، والنجوم الزاهرة، وكذلك سنة ٤٤٣ هجريّة قمريّة، لاحظ المصادر السابقة، وكذلك سنة ٤٤٤ هجريّة، ٤٤٥ هجريّة، وسنة ٤٤٨ هجريّة قمريّة وهي السنة التي تركَ فيها الشيخ بغداد وهاجر إلى النجف بسبب تلك الفتنة، ولاحظ: البداية والنهاية، والسيرة الحلبيّة، وكذلك سنة ٤٥٠هـ ق، وموقف البساسيري (*)، ونهاية الأرب في فنون الأدب، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي.

(*) البساسيري: وهو قائد تركي الأصل، كان من مماليك بني بويه، وقد حكمَ آل بويه من سنة ٣٢٠ هجريّة قمريّة إلى سنة ٤٤٨ هجريّة قمريّة جنوب إيران والعراق، وأمّا بغداد فقد حكموها من سنة ٣٣٤ هجريّة قمريّة.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

قال أبو عمر:و أخبرنا أبو القاسم خلف بن قاسم بن سهل،قال:حدثنا أبو الحسن علي بن محمد بن إسماعيل الطوسي،قال:أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحاق بن إبراهيم السراج،قال:حدثنا محمد بن مسعود،قال:أخبرنا عبد الرزاق،قال:أخبرنا معمر عن قتادة عن الحسن،قال:أسلم علي و هو أول من أسلم،و هو ابن خمس عشرة سنة أو ست عشرة سنة.قال أبو عمر:قال ابن وضاح:و ما رأيت أحدا قط أعلم بالحديث من محمد بن مسعود،و لا بالرأي من سحنون.قال أبو عمر:قال ابن إسحاق:أول ذكر آمن بالله و رسوله علي بن أبي طالب(عليه‌السلام )،و هو يومئذ ابن عشر سنين.قال أبو عمر:و الروايات في مبلغ سنه(عليه‌السلام )مختلفة،قيل:أسلم و هو ابن ثلاث عشرة سنة،و قيل:ابن اثنتي عشرة سنة،و قيل:ابن خمس عشرة سنة،و قيل:ابن ست عشرة،و قيل:ابن عشر،و قيل:ابن ثمان.قال أبو عمر:و ذكر عمر بن شبة عن المدائني،عن ابن جعدة،عن نافع،عن ابن عمر قال:أسلم علي و هو ابن ثلاث عشرة سنة.قال:و أخبرنا إبراهيم بن المنذر الحرامي،قال:حدثنا محمد بن طلحة،قال:حدثني جدي إسحاق بن يحيى عن طلحة،قال:كان علي بن أبي طالب(عليه‌السلام )،و الزبير بن العوام،و طلحة بن عبيد الله،و سعد بن أبي وقاص أعمارا واحدة.قال:و أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن،قال:حدثنا إسماعيل بن علي الخطبي،قال:حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل،قال:حدثني أبي قال:حدثنا حجين أبو عمر قال:حدثنا حبان عن معروف،عن أبي معشر قال:كان علي(عليه‌السلام )،و طلحة،و الزبير في سن واحدة.

١٢١

قال:و روى عبد الرزاق عن الحسن و غيره:أن أول من أسلم بعد خديجة علي بن أبي طالب(عليه‌السلام )،و هو ابن خمس عشرة سنة أو ست عشرة.قال أبو عمر و روى أبو زيد عمر بن شبة،قال:حدثنا شريح بن النعمان،قال:حدثنا الفرات بن السائب،عن ميمون بن مهران،عن ابن عمر قال:أسلم علي و هو ابن ثلاث عشرة سنة،و توفي و هو ابن ثلاث و ستين سنة.قال أبو عمر:هذا أصح ما قيل في ذلك،و الله أعلم.انتهى حكاية كلام أبي عمر في كتاب الإستيعاب.و اعلم أن شيوخنا المتكلمين لا يكادون يختلفون في أن أول الناس إسلاما علي بن أبي طالب(عليه‌السلام )،إلا من عساه خالف في ذلك من أوائل البصريين،فأما الذي تقررت المقالة عليه الآن،فهو القول بأنه أسبق الناس إلى الإيمان،لا تكاد تجد اليوم في تصانيفهم و عند متكلميهم و المحققين منهم خلافا في ذلك.و اعلم أن أمير المؤمنين(عليه‌السلام )ما زال يدعي ذلك لنفسه،و يفتخر به و يجعله في أفضليته على غيره،و يصرح بذلك و قد قال غير مرة أنا الصديق الأكبر و الفاروق الأول أسلمت قبل إسلام أبي بكر،و صليت قبل صلاته.و روى عنه هذا الكلام بعينه أبو محمد بن قتيبة في كتاب المعارف،و هو غير متهم في أمره.و من الشعر المروي عنه(عليه‌السلام )في هذا المعنى الأبيات التي أولها:

محمد النبي أخي و صهري

و حمزة سيد الشهداء عمي

و من جملتها:

سبقتكم إلى الإسلام طرا

غلاما ما بلغت أوان حلمي

١٢٢

و الأخبار الواردة في هذا الباب كثيرة جدا لا يتسع هذا الكتاب لذكرها،فلتطلب من مظانها.و من تأمل كتب السير و التواريخ عرف من ذلك ما قلناه.فأما الذاهبون إلى أن أبا بكر أقدمهما إسلاما،فنفر قليلون و نحن نذكر ما أورده ابن عبد البر أيضا في كتاب الإستيعاب في ترجمة أبي بكر.قال أبو عمر:حدثني خالد بن القاسم،قال:حدثنا أحمد بن محبوب،قال:حدثنا محمد بن عبدوس،قال:حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة،قال:حدثنا شيخ لنا قال:أخبرنا مجالد عن الشعبي،قال:سألت ابن عباس أو سئل أي الناس كان أول إسلاما ؟ فقال:أما سمعت قول حسان بن ثابت:

إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة

فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا

خير البرية أتقاها و أعدلها

بعد النبي و أوفاها بما حملا

و الثاني التالي المحمود مشهده

و أول الناس منهم صدق الرسلا

و يروى أن النبي(صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )قال لحسان:هل قلت في أبي بكر شيئا ؟ قال:نعم،و أنشده هذه الأبيات و فيها بيت رابع:

و ثاني اثنين في الغار المنيف و قد

طاف العدو به إذ صعدوا الجبلا

فسر بذلك رسول الله(صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )و قال:أحسنت يا حسان،و قد روي فيها بيت خامس:

و كان حب رسول الله قد علموا

من البرية لم يعدل به رجلا

١٢٣

و قال أبو عمر:و روى شعبة عن عمرو بن مرة عن إبراهيم النخعي،قال:أول من أسلم أبو بكر.قال:و روى الجريري عن أبي نصر،قال:قال أبو بكر لعلي(عليه‌السلام )،أنا أسلمت قبلك في حديث ذكره فلم ينكره عليه.قال أبو عمر:و قال فيه أبو محجن الثقفي:

و سميت صديقا و كل مهاجر

سواك يسمى باسمه غير منكر

سبقت إلى الإسلام و الله شاهد

و كنت جليسا بالعريش المشهر

و بالغار إذ سميت خلا و صاحبا

و كنت رفيقا للنبي المطهر

قال أبو عمر:و روينا من وجوه عن أبي أمامة الباهلي،قال:حدثني عمرو بن عبسة،قال:أتيت رسول الله(صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )،و هو نازل بعكاظ،فقلت:يا رسول الله(صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )من اتبعك على هذا الأمر ؟ فقال:حر و عبد أبو بكر و بلال،قال:فأسلمت عند ذلك و ذكر الحديث.هذا مجموع ما ذكره أبو عمر بن عبد البر في هذا الباب في ترجمة أبي بكر،و معلوم أنه لا نسبة لهذه الروايات إلى الروايات التي ذكرها في ترجمة علي(عليه‌السلام )الدالة على سبقه،و لا ريب أن الصحيح ما ذكره أبو عمر،أن عليا(عليه‌السلام )كان هو السابق،و أن أبا بكر هو أول من أظهر إسلامه،فظن أن السبق له.و أما زيد بن حارثة،فإن أبا عمر بن عبد البر رضي الله تعالى عنه ذكر في كتاب الإستيعاب أيضا في ترجمة زيد بن حارثة قال:ذكر معمر بن شبة في جامعه عن الزهري أنه قال:ما علمنا أحدا أسلم قبل زيد بن حارثة.

١٢٤

قال عبد الرزاق:و ما أعلم أحدا ذكره غير الزهري.و لم يذكر صاحب الإستيعاب ما يدل على سبق زيد إلا هذه الرواية و استغربها،فدل مجموع ما ذكرناه أن عليا(عليه‌السلام )أول الناس إسلاما،و أن المخالف في ذلك شاذ و الشاذ لا يعتد به.

فصل فيما ذكر من سبق علي إلى الهجرة

المسألة السابعة أن يقال:كيف قال إنه سبق إلى الهجرة ؟ و معلوم أن جماعة من المسلمين هاجروا قبله:منهم عثمان بن مظعون و غيره،و قد هاجر أبو بكر قبله ؛ لأنه هاجر في صحبة النبي(صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )،و تخلف علي(عليه‌السلام )عنهما،فبات على فراش رسول الله(صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )،و مكث أياما يرد الودائع التي كانت عنده،ثم هاجر بعد ذلك.و الجواب:أنه(عليه‌السلام )لم يقل،و سبقت كل الناس إلى الهجرة،و إنما قال:و سبقت فقط و لا يدل ذلك على سبقه للناس كافة،و لا شبهة أنه سبق معظم المهاجرين إلى الهجرة و لم يهاجر قبله أحد،إلا نفر يسير جدا.و أيضا:فقد قلنا إنه علل أفضليته،و تحريم البراءة منه مع الإكراه بمجموع أمور:منها ولادته على الفطرة،و منها سبقه إلى الإيمان،و منها سبقه إلى الهجرة،و هذه الأمور الثلاثة لم تجتمع لأحد غيره،فكان بمجموعها متميزا عن كل أحد من الناس.و أيضا:فإن اللام في الهجرة يجوز ألا تكون للمعهود السابق،بل تكون للجنس و أمير المؤمنين(عليه‌السلام )سبق أبا بكر و غيره إلى الهجرة التي قبل هجرة المدينة،فإن النبي(صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )هاجر عن مكة مرارا يطوف على أحياء العرب،و ينتقل من

١٢٥

أرض قوم إلى غيرها،و كان علي(عليه‌السلام )معه دون غيره.أما هجرته إلى بني شيبان فما اختلف أحد من أهل السيرة،أن عليا(عليه‌السلام )كان معه هو و أبو بكر،و أنهم غابوا عن مكة ثلاثة عشر يوما،و عادوا إليها لما لم يجدوا عند بني شيبان ما أرادوه من النصرة.و روى المدائني في كتاب الأمثال عن المفضل الضبي:أن رسول الله(صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )لما خرج عن مكة يعرض نفسه على قبائل العرب،خرج إلى ربيعة و معه علي(عليه‌السلام )و أبو بكر،فدفعوا إلى مجلس من مجالس العرب،فتقدم أبو بكر و كان نسابة،فسلم فردواعليه‌السلام ،فقال:ممن القوم ؟ قالوا:من ربيعة.قال:أمن هامتها أم من لهازمها ؟ قالوا:من هامتها العظمى،فقال:من أي هامتها العظمى أنتم ؟ قالوا:من ذهل الأكبر.قال:أفمنكم عوف الذي يقال له لا حر بوادي عوف ؟ قالوا:لا.قال:أفمنكم بسطام ذو اللواء و منتهى الأحياء ؟ قالوا:لا.قال:أفمنكم جساس حامي الذمار و مانع الجار ؟ قالوا:لا.قال:أفمنكم الحوفزان قاتل الملوك و سالبها أنفسها ؟ قالوا:لا.قال:أفمنكم المزدلف صاحب العمامة الفردة ؟ قالوا:لا.قال:أفأنتم أخوال الملوك من كندة ؟ قالوا:لا.قال:فلستم إذن ذهلا الأكبر أنتم ذهل الأصغر،فقام إليه غلام قد بقل وجهه اسمه دغفل فقال:

إن على سائلنا أن نسأله

و العب‏ء لا تعرفه أو تحمله

١٢٦

يا هذا،إنك قد سألتنا فأجبناك و لم نكتمك شيئا فممن الرجل قال:من قريش.قال:بخ،بخ أهل الشرف و الرئاسة،فمن أي قريش أنت ؟ قال:من تيم بن مرة،قال:أمكنت و الله الرامي من الثغرة،أمنكم قصي بن كلاب الذي جمع القبائل من فهر،فكان يدعى مجمعا.قال:لا.قال:أفمنكم هاشم الذي هشم لقومه الثريد ؟ قال:لا.قال:أفمنكم شيبة الحمد مطعم طير السماء ؟ قال:لا.قال:أفمن المفيضين بالناس أنت ؟ قال:لا.قال:أفمن أهل الندوة أنت ؟ قال:لا.قال:أفمن أهل الرفادة أنت ؟ قال:لا.قال:أفمن أهل الحجابة أنت ؟ قال:لا.قال:أفمن أهل السقاية ؟ قال:لا.قال:فاجتذب أبو بكر زمام ناقته و رجع إلى رسول الله(صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )هاربا من الغلام،فقال دغفل:صادف درء السيل درء يصدعه،أما و الله لو ثبت لأخبرتك أنك من زمعات قريش،فتبسم رسول الله(صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )،و قال علي(عليه‌السلام )لأبي بكر:لقد وقعت يا أبا بكر من الأعرابي على باقعة.قال:أجل إن لكل طامة طامة و البلاء موكل بالمنطق فذهبت مثلا.و أما هجرته(صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )إلى الطائف،فكان معه علي(عليه‌السلام )و زيد بن

١٢٧

حارثة في رواية أبي الحسن المدائني،و لم يكن معهم أبو بكر،و أما رواية محمد بن إسحاق،فإنه قال:كان معه زيد بن حارثة وحده،و غاب رسول الله(صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )عن مكة في هذه الهجرة أربعين يوما،و دخل إليها في جوار مطعم بن عدي.و أما هجرته(صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )إلى بني عامر بن صعصعة و إخوانهم من قيس عيلان،فإنه لم يكن معه إلا علي(عليه‌السلام )وحده،و ذلك عقيب وفاة أبي طالب أوحي إليه(صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )أخرج منها،فقد مات ناصرك فخرج إلى بني عامر بن صعصعة،و معه علي(عليه‌السلام )وحده،فعرض نفسه عليهم و سألهم النصر،و تلا عليهم القرآن فلم يجيبوه،فعادا ع إلى مكة و كانت مدة غيبته في هذه الهجرة عشرة أيام،و هي أول هجرة هاجرها(صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )بنفسه.فأما أول هجرة هاجرها أصحابه و لم يهاجر بنفسه،فهجرة الحبشة هاجر فيها كثير من أصحابه(عليه‌السلام )إلى بلاد الحبشة في البحر،منهم جعفر بن أبي طالب(عليه‌السلام )فغابوا عنه سنين،ثم قدم عليه منهم من سلم و طالت أيامه،و كان قدوم جعفر عليه عام فتح خيبر،فقال(صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )ما أدري بأيهما أنا أسر،أبقدوم جعفر أم بفتح خيبر.

١٢٨

57.و من كلام له(عليه‌السلام )كلم به الخوارج

) َصَابَكُمْ حَاصِبٌ وَ لاَ بَقِيَ مِنْكُمْ آبِرٌ آثِرٌ [ آبِرٌ ] أَبَعْدَ إِيمَانِي بِاللَّهِ وَ جِهَادِي مَعَ رَسُولِ اَللَّهِ(صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )أَشْهَدُ عَلَى نَفْسِي بِالْكُفْرِ لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَ مَا أَنَا مِنَ اَلْمُهْتَدِينَ فَأُوبُوا شَرَّ مَآبٍ وَ اِرْجِعُوا عَلَى أَثَرِ اَلْأَعْقَابِ أَمَا إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي ذُلاًّ شَامِلاً وَ سَيْفاً قَاطِعاً وَ أَثَرَةً يَتَّخِذُهَا اَلظَّالِمُونَ فِيكُمْ سُنَّةً)،قال الرضيرحمه‌الله قوله(عليه‌السلام ):و لا بقي منكم آبر يروى على ثلاثة أوجه:أحدها:أن يكون كما ذكرناه آبر بالراء من قولهم رجل آبر للذي يأبر النخل،أي:يصلحه.و يروى آثر بالثاء بثلاث نقط يراد به الذي يأثر الحديث،أي:يرويه و يحكيه،و هو أصح الوجوه عندي،كأنه(عليه‌السلام )قال:لا بقي منكم مخبر.و يروى آبز بالزاي المعجمة و هو الواثب و الهالك،أيضا يقال له:آبز

١٢٩

الحاصب الريح الشديدة التي تثير الحصباء،و هو صغار الحصى،و يقال لها أيضا:حصبة،قال لبيد:

جرت عليها إذ خوت من أهلها

أذيالها كل عصوف حصبه

فأما التفسيرات التي فسر بها الرضيرحمه‌الله تعالى قوله(عليه‌السلام ):آبر فيمكن أن يزاد فيها،فيقال:يجوز أن يريد بقوله و لا بقي منكم آبر،أي:نمام يفسد ذات البين و المئبرة النميمة،و أبر فلان،أي:نم و الآبر أيضا من يبغي القوم الغوائل خفية مأخوذ من أبرت الكلب إذا أطعمته الإبرة في الخبز،و في الحديث المؤمن كالكلب المأبور و يجوز أن يكون أصله هابر،أي:من يضرب بالسيف فيقطع،و أبدلت الهاء همزة كما قالوا:في آل أهل،و إن صحت الرواية الأخرى آثر بالثاء بثلاث نقط،فيمكن أن يريد به ساجي باطن خف البعير،و كانوا يسجون باطن الخف بحديدة ليقتص أثره رجل آثر و بعير مأثور.و قوله(عليه‌السلام ):فأوبوا شر مآب،أي:ارجعوا شر مرجع و الأعقاب جمع عقب بكسر القاف،و هو مؤخر القدم،و هذا كله دعاء عليهم،قال لهم:أولا أصابكم حاصب،و هذا من دعاء العرب قال تميم بن أبي مقبل:

فإذا خلت من أهلها و قطينها

فأصابها الحصباء و السفان

ثم قال لهم ثانيا:لا بقي منكم مخبر،ثم قال لهم ثالثا:ارجعوا شر مرجع،ثم قال لهم رابعا:عودوا على أثر الأعقاب،و هو مأخوذ من قوله تعالى:( وَ نُرَدُّ

١٣٠

عَلى‏ أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اَللَّهُ ) ،و المراد انعكاس حالهم و عودهم من العز إلى الذل،و من الهداية إلى الضلال.و قوله(عليه‌السلام ):و أثرة يتخذها الظالمون فيكم سنة فالأثرة هاهنا الاستبداد عليهم بالفي‏ء و الغنائم،و اطراح جانبهم،و قال النبي(صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )للأنصار ستلقون بعدي أثرة،فاصبروا حتى تلقوني.

١٣١

أخبار الخوارج و ذكر رجالهم و حروبهم

و اعلم أن الخوارج على أمير المؤمنين(عليه‌السلام )كانوا أصحابه و أنصاره في الجمل و صفين قبل التحكيم،و هذه المخاطبة لهم،و هذا الدعاء عليهم،و هذا الإخبار عن مستقبل حالهم،و قد وقع ذلك،فإن الله تعالى سلط على الخوارج بعده الذل الشامل،و السيف القاطع و الأثرة من السلطان،و ما زالت حالهم تضمحل حتى أفناهم الله تعالى و أفنى جمهورهم،و لقد كان لهم من سيف المهلب بن أبي صفرة،و بنيه الحتف القاضي و الموت الزؤام.و نحن نذكر من أخبار الخوارج و حروبهم هاهنا طرفا.

عروة بن حدير

فمنهم عروة بن حدير أحد بني ربيعة بن حنظلة من بني تميم،و يعرف بعروة بن أدية و أدية جدة له جاهلية،و كان له أصحاب و و أتباع و شيعة،فقتله زياد في خلافة معاوية صبرا.

نجدة بن عويمر الحنفي

و منهم نجدة بن عويمر الحنفي كان من رؤسائهم،و له مقالة مفردة من مقالة الخوارج

١٣٢

و له أتباع و أصحاب،و إليهم أشار الصلتان العبدي بقوله:

أرى أمة شهرت سيفها

و قد زيد في سوطها الأصبحي

بنجدية أو حررية

و أزرق يدعو إلى أزرقي

فملتنا أننا مسلمون

على دين صديقنا و النبي

أشاب الصغير و أفنى

الكبير مر الغداة و كر العشي

إذا ليلة أهرمت يومها

أتى بعد ذلك يوم فتي

نروح و نغدو لحاجاتنا

و حاجة من عاش لا تنقضي

تموت مع المرء حاجاته

و تبقى له حاجة ما بقي

و كان نجدة يصلي بمكة بحذاء عبد الله بن الزبير في جمعة [ في كل جمعة ]،و عبد الله يطلب الخلافة،فيمسكان عن القتال من أجل الحرم.و قال الراعي يخاطب عبد الملك:

إني حلفت على يمين برة

لا أكذب اليوم الخليفة قيلا

ما إن أتيت أبا خبيب وافدا

يوما أريد لبيعتي تبديلا

و لما أتيت نجيدة بن عويمر

أبغي الهدى فيزيدني تضليلا

من نعمة الرحمن لا من حيلتي

أنى أعد له علي فضولا

و استولى نجدة على اليمامة و عظم أمره حتى ملك اليمن،و الطائف،و عمان،و البحرين،و وادي تميم،و عامر،ثم إن أصحابه نقموا عليه أحكاما أحدثها في مذهبهم،منها قوله:إن

١٣٣

المخطئ بعد الاجتهاد معذور،و إن الدين أمران معرفة الله،و معرفة رسوله،و ما سوى ذلك،فالناس معذورون بجهله إلى أن تقوم عليهم الحجة،فمن استحل محرما من طريق الاجتهاد،فهو معذور حتى أن من تزوج أخته أو أمه مستحلا لذلك بجهالة،فهو معذور و مؤمن فخلعوه و جعلوا اختيار الإمام إليه،فاختار لهم أبا فديك أحد بني قيس بن ثعلبة،فجعله رئيسهم،ثم إن أبا فديك أنفذ إلى نجدة،بعد من قتله،ثم تولاه بعد قتله طوائف من أصحابه بعد أن تفرقوا عليه،و قالوا قتل مظلوما.

المستورد بن سعد التميمي

و منهم المستورد بن سعد أحد بني تميم كان ممن شهد يوم النخيلة،و نجا بنفسه فيمن نجا من سيف علي(عليه‌السلام )،ثم خرج بعد ذلك بمدة على المغيرة بن شعبة،و هو والي الكوفة لمعاوية بن أبي سفيان في جماعة من الخوارج،فوجه المغيرة إليه معقل بن قيس الرياحي،فلما تواقفا دعاه المستورد إلى المبارزة و قال له:علام تقتل الناس بيني و بينك ؟ فقال معقل:النصف سألت فأقسم عليه أصحابه،فقال:ما كنت لآبى عليه،فخرج إليه فاختلفا ضربتين خر كل واحد منهما من ضربة صاحبه قتيلا.و كان المستورد ناسكا كثير الصلاة،و له آداب و حكم مأثارة.

حوثرة الأسدي

و منهم حوثرة الأسدي خرج على معاوية في عام الجماعة في عصابة من الخوارج،فبعث إليه معاوية جيشا من أهل الكوفة،فلما نظر حوثرة إليهم.قال لهم:يا أعداء الله،أنتم بالأمس تقاتلون معاوية لتهدوا سلطانه،و أنتم اليوم تقاتلون معه لتشدوا سلطانه،فلما

١٣٤

التحمت الحرب قتل حوثرة قتله رجل من طيئ و فضت جموعه.

قريب بن مرة و زحاف الطائي

و منهم قريب بن مرة الأزدي و زحاف الطائي كانا عابدين مجتهدين من أهل البصرة،فخرجا في أيام معاوية في إمارة زياد،و اختلف الناس أيهما كان الرئيس،فاعترضا الناس،فلقيا شيخا ناسكا من بني ضبيعة من ربيعة بن نزار فقتلاه،و كان يقال له رؤبة الضبعي،و تنادى الناس فخرج رجل من بني قطيعة من الأزد،و في يده السيف فناداه الناس من ظهور البيوت الحرورية أنج بنفسك،فنادوه لسنا حرورية نحن الشرط فوقف فقتلوه،فبلغ أبا بلال مرداس بن أدية خبرهما،فقال قريب:لا قربه الله و زحاف لا عفا الله عنه ركباها عشواء مظلمة يريد اعتراضهما الناس،ثم جعلا لا يمران بقبيلة إلا قتلا من وجدا حتى مرا على بني علي بن سود من الأزد،و كانوا رماة كان فيهم مائة يجيدون الرمي،فرموهم رميا شديدا،فصاحوا:يا بني علي البقيا لا رماء بيننا،فقال رجل من بني علي بن سود:

لا شي‏ء للقوم سوى السهام

مشحوذة في غلس الظلام

فعرد عنهم الخوارج و خافوا الطلب،و اشتقوا مقبرة بني يشكر حتى نفذوا إلى مزينة ينتظرون من يلحق بهم من مضر و غيرها،فجاءهم ثمانون و خرجت إليهم بنو طاحية من بنو سود و قبائل من مزينة،و غيرها فاستقتلت الخوارج،و حاربت حتى قتلت عن آخرها،و قتل قريب و زحاف.

١٣٥

و منهم أبو بلال مرداس بن أدية،و هو أخو عروة بن حدير الذي ذكرناه أولا خرج في أيام عبيد الله بن زياد،و أنفذ إليه ابن زياد عباس بن أخضر المازني فقتله،و قتل أصحابه و حمل رأسه إلى ابن زياد،و كان أبو بلال عابدا ناسكا شاعرا،و من قدماء أصحابنا من يدعيه لما كان يذهب إليه من العدل،و إنكار المنكر و من قدماء الشيعة من يدعيه أيضا.

نافع بن الأزرق الحنفي

و منهم نافع بن الأزرق الحنفي،و كان شجاعا مقدما في فقه الخوارج،و إليه تنسب الأزارقة،و كان يفتي بأن الدار دار كفر و أنهم جميعا في النار،و كل من فيها كافر إلا من أظهر إيمانه،و لا يحل للمؤمنين أن يجيبوا داعيا منهم إلى الصلاة،و لا أن يأكلوا من ذبائحهم،و لا أن يناكحوهم و لا يتوارث الخارجي و غيره،و هم مثل كفار العرب و عبدة الأوثان لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف و القعد بمنزلتهم و التقية لا تحل ؛ لأن الله تعالى يقول:( إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ اَلنَّاسَ كَخَشْيَةِ اَللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ) ،و قال فيمن كان على خلافهم:( يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ) ،فتفرق عنه جماعة من الخوارج منهم نجدة بن عامر،و احتج نجدة بقول الله تعالى:( وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ ) ،فسار نجدة و أصحابه إلى اليمامة،و أضاف نافع إلى مقالته التي قدمناها استحلاله الغدر بأمانته لمن خالفه،فكتب نجدة إليه:

١٣٦

أما بعد،فإن عهدي بك و أنت لليتيم كالأب الرحيم،و للضعيف كالأخ البر تعاضد قوى المسلمين،و تصنع للأخرق منهم لا تأخذك في الله لومة لائم،و لا ترى معونة ظالم كذلك كنت أنت و أصحابك،أو لا تتذكر قولك:لو لا أني أعلم أن للإمام العادل مثل أجر رعيته ما توليت أمر رجلين من المسلمين،فلما شريت نفسك في طاعة ربك ابتغاء مرضاته،و أصبت من الحق فصه،و صبرت على مره تجرد لك الشيطان،و لم يكن أحد أثقل عليه وطأة منك و من أصحابك،فاستمالك و استهواك و أغواك،فغويت و أكفرت الذين عذرهم الله تعالى في كتابه من قعدة المسلمين و ضعفتهم،قال الله عز و جل و قوله الحق و وعده الصدق:( لَيْسَ عَلَى اَلضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى اَلْمَرْضى‏ وَ لا عَلَى اَلَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ ) ،ثم سماهم تعالى أحسن الأسماء فقال:( ما عَلَى اَلْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) ،ثم استحللت قتل الأطفال،و قد نهى رسول الله(صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )عن قتلهم،و قال الله جل ثناؤه:( وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) ،و قال سبحانه في القعدة خيرا فقال:( وَ فَضَّلَ اَللَّهُ اَلْمُجاهِدِينَ عَلَى اَلْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً ) ،فتفضيله المجاهدين على القاعدين لا يدفع منزلة من هو دون المجاهدين أو ما سمعت قوله تعالى:( لا يَسْتَوِي اَلْقاعِدُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي اَلضَّرَرِ ) ،فجعلهم من المؤمنين و فضل عليهم المجاهدين بأعمالهم،ثم إنك لا تؤدي أمانة إلى من خالفك،و الله تعالى قد أمر أن تؤدى الأمانات إلى أهلها،فاتق الله في نفسك و اتق يوما لا يجزى فيه والد عن ولده،و لا مولود هو جاز عن والده شيئا،فإن الله بالمرصاد و حكمه العدل،و قوله الفصل و السلام.

١٣٧

فكتب إليه نافع:أما بعد،أتاني كتابك تعظني فيه،و تذكرني،و تنصح لي و تزجرني،و تصف ما كنت عليه من الحق،و ما كنت أوثره من الصواب،و أنا أسأل الله أن يجعلني من القوم الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.و عبت علي ما دنت به من إكفار القعدة،و قتل الأطفال،و استحلال الأمانة من المخالفين،و سأفسر لك إن شاء الله.أما هؤلاء القعدة فليسوا كمن ذكرت ممن كان على عهد رسول الله(صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )؛ لأنهم كانوا بمكة مقهورين محصورين لا يجدون إلى الهرب سبيلا،و لا إلى الاتصال بالمسلمين طريقا و هؤلاء قد تفقهوا في الدين،و قرءوا القرآن،و الطريق لهم نهج واضح،و قد عرفت ما قال الله تعالى فيمن كان مثلهم إذ قالوا:( كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي اَلْأَرْضِ فقال أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اَللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها ) ،و قال سبحانه:( فَرِحَ اَلْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اَللَّهِ وَ كَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ ) ،و قال:( وَ جاءَ اَلْمُعَذِّرُونَ مِنَ اَلْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ ) ،فخبر بتعذيرهم و أنهم كذبوا الله و رسوله،ثم قال:( سَيُصِيبُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) ،فانظر إلى أسمائهم و سماتهم.و أما الأطفال،فإن نوحا نبي الله كان أعلم بالله مني و منك،و قد قال:( رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى اَلْأَرْضِ مِنَ اَلْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَ لا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً ) ،فسماهم بالكفر و هم أطفال و قبل أن يولدوا،فكيف كان ذلك

١٣٨

في قوم نوح و لا تقوله في قومنا،و الله تعالى يقول:( أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي اَلزُّبُرِ ) ،و هؤلاء كمشركي العرب لا يقبل منهم جزية و ليس بيننا و بينهم إلا السيف أو الإسلام.و أما استحلال أمانات من خالفنا،فإن الله تعالى أحل لنا أموالهم كما أحل دماءهم لنا،فدماؤهم حلال طلق و أموالهم في‏ء للمسلمين،فاتق الله و راجع نفسك،فإنه لا عذر لك إلا بالتوبة،و لن يسعك خذلاننا و القعود عنا،و ترك ما نهجناه لك من مقالتنا،و السلام على من أقر بالحق و عمل به.و كتب إلى من بالبصرة من المحكمة:أما بعد،فإن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا و أنتم مسلمون،إنكم لتعلمون أن الشريعة واحدة،و الدين واحد،ففيم المقام بين أظهر الكفار،ترون الظلم ليلا و نهارا،و قد ندبكم الله عز و جل إلى الجهاد،فقال:( وَ قاتِلُوا اَلْمُشْرِكِينَ كَافَّةً ) ،و لم يجعل لكم في التخلف عذرا في حال من الأحوال،فقال:( اِنْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالاً ) ،و إنما عذر الضعفاء و المرضى و الذين لا يجدون ما ينفقون،و من كانت إقامته لعلة،ثم فضل عليهم مع ذلك المجاهدين،فقال:( لا يَسْتَوِي اَلْقاعِدُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي اَلضَّرَرِ وَ اَلْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ ) ،فلا تغتروا و تطمئنوا إلى الدنيا،فإنها غرارة مكارة لذتها نافدة،و نعيمها بائد حفت بالشهوات اغترارا،و أظهرت حبرة،و أضمرت عبرة،فليس آكل منها أكلة تسره،و لا شارب منها شربة تؤنقه إلا و دنا بها درجة إلى أجله،و تباعد بها مسافة من أمله،و إنما جعلها الله دار المتزود منها إلى النعيم المقيم،و العيش السليم فليس يرضى بها حازم دارا،و لا حكيم قرارا،فاتقوا الله و تزودوا

١٣٩

فإن خير الزاد التقوى،و السلام على من اتبع الهدى.فلما أظهر نافع مقالته هذه و انفرد عن الخوارج بها أقام في أصحابه بالأهواز يستعرض الناس،و يقتل الأطفال،و يأخذ الأموال،و يجبي الخراج،و فشا عماله بالسواد،فارتاع لذلك أهل البصرة،و اجتمع منهم عشرة آلاف إلى الأحنف،و سألوه أن يؤمر عليهم أميرا يحميهم من الخوارج و يجاهد بهم،فأتى عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب،و هو المسمى ببة،فسأله أن يؤمر عليهم و ببة يومئذ أمير البصرة من قبل ابن الزبير،فأمر عليهم مسلم بن عبيس بن كريز،و كان دينا شجاعا،فلما خرج بهم من جسر البصرة أقبل عليهم،و قال:أيها الناس،إني ما خرجت لامتيار ذهب و لا فضة،و إني لأحارب قوما إن ظفرت بهم،فما وراءهم إلا السيوف و الرماح،فمن كان شأنه الجهاد فلينهض،و من أحب الحياة فليرجع.فرجع نفر يسير و مضى الباقون معه،فلما صاروا بدولاب خرج إليهم نافع و أصحابه فاقتتلوا قتالا شديدا،حتى تكسرت الرماح و عقرت الخيل،و كثر الجراح و القتل،و تضاربوا بالسيوف و العمد فقتل ابن عبيس أمير أهل البصرة،و قتل نافع بن الأزرق أمير الخوارج،و ادعى قتله سلامة الباهلي،و كان نافع قد استخلف عبيد الله بن بشير بن الماحوز السليطي اليربوعي،و استخلف ابن عبيس الربيع بن عمرو الأجذم الغداني اليربوعي،فكان الرئيسان من بني يربوع فاقتتلوا بعد قتل ابن عبيس و نافع قتالا شديدا نيفا،و عشرين يوما حتى قال الربيع لأصحابه إني رأيت البارحة،كأن يدي

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420