حياة علي الأكبر (عليه السلام)

حياة علي الأكبر (عليه السلام)0%

حياة علي الأكبر (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 69

حياة علي الأكبر (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمّد علي عابدين
تصنيف: الصفحات: 69
المشاهدات: 42438
تحميل: 7308

توضيحات:

حياة علي الأكبر (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 69 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 42438 / تحميل: 7308
الحجم الحجم الحجم
حياة علي الأكبر (عليه السلام)

حياة علي الأكبر (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وله نور يعلوه يحسبه من لم يتأمّله أشم(١) ، كثّ اللحية(٢) ، سهل الخدين(٣) ، أدعج، ضليع الفم(٤) ، أشنب مفلج الأسنان(٥) ، دقيق المسرُبة(٦) ، كأن عُنقه جيد دُمية في صفاء الفضة، معتدل الخلق بادناً متماسكاً، سواء البطن والصدر، عريض الصدر... حتّى يقول: خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جُلّ نظره الملاحظة، يسوق أصحابه ويبدر من لقي بالسلام(٧) . تلك بعض أوصافه المقدّسة.

ومن بعض صفاته الجليلة تقرأ: كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليس له راحة، ولا يتكلّم في غير حاجة، طويل السكوت، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه(٨) ، ويتكلّم بجوامع الكلم، فصلاً لا فضولاً ولا قصيراً فيه.

دمثاً(٩) ليس بالجافي ولا بالمهين، يُعظم النعمة وإن دقّت، ولا يذم منها شيئاً، ولا يذم ذوّاقاً ولا يمدحه، ولا تغضبه الدنيا وما كان لها، إذا تعوطي الحق لم يعرفه أحد، ولم يقم لغضبه شيء حتّى ينتصر له، ولا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها، وإذا غضب أعرض وأشاح(١٠) ، وإذا فرح غضّ من طرفه. جُلّ ضحكه التبسّم(١١) . وغير تلك الصفات والأوصاف الشيء الكثير لذلك الرجل الكامل، سيد الكمالات وصاحبها.

على أن ما يروى بهذا الصدد إنما هو محاولة لتقريب شخصه الشريف للأذهان.

____________________

(١) الشمم: ارتفاع في قصبة الأنف مع استواء أعلاه.

(٢) أي كثيف الشعر في اللحية.

(٣) أي قليل اللحم.

(٤) يعني واسع وعظيم الفم.

(٥) أشنب الأسنان: أي أبيضها. ومفلج: أي مفرج بينها.

(٦) المسربة: الشعر وسط الصدر إلى البطن.

(٧) انظر كتاب (مكارم الأخلاق) - للشيخ الطوسي / ١١ - ١٢، ط ٦ بيروت / ١٢٩٢هـ.

(٨) الأشداق: جوانب الفم، ويعني أنه لا يفتح كل فاه. وفي بعض النسخ (بابتدائه) وليس بأشداقه.

(٩) الدماثة: سهولة الخلق.

(١٠) أشاح: بمعنى أظهر الغيرة، والشائح: الغيور.

(١١) للمزيد راجع المصدر نفسه (مكارم الأخلاق).

٢١

وبعد، فلنا أن نؤكّد حقائق هامة قبل أن نختم الموضوع، فنقول: بأنّ حرصنا للوقوف على الأوصاف والصفات، وتأكيد التقاء علي الأكبر بالنبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله) في مميزاته يرجع إلى أسباب هامة ومبررات موضوعية جادّة، منها مثلاً:

١ - إجلاء الشخصيّة الحيوية السامية، لا لأنها منتسبة إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وإنما لما اتّسمت به ممّا توفّر في شخص الرسول (صلّى الله عليه وآله) بالذات، ولمضمون الشخصيّة ومحتواها، وبحكم أنها تشكل المثل الأعلى.

٢ - إنّ الانتساب للرسول (صلّى الله عليه وآله) كان يكفي للاحترام والامتناع عن القتل، ولكن الأوصاف والصفات كانت تشكّل حجة أكبر بجمعها مع النسب الشريف المقدس؛ ومن هنا كان العدو يخشى قتل علي الأكبر أو يتجنّبه كما قيل، لا لأنه سليل الرسول (صلّى الله عليه وآله)، بل لما فيه من اجتماع لمواصفات الرسول (صلّى الله عليه وآله)(١) ، بيد أنهم تناسوا ذلك كله فانتهكوا حرمته.

٣ - إنّ أوصافهم وصفاتهم تعطي إيحاءات راقية، ومفاهيم خلقية، وقيماً ومثلاً نبيلة لها دورها في إبراز مصداقية المعاني السامية الكريمة التي تكمن فيهم والتي يتسربلون بها.

٤ - وأخيراً فمن الضروري جدّاً إدراك هذه الناحية، وهي أنه ليست المميزات المتطابقة مهمة بقدر أهمية تطابق المواقف الرساليّة. وقد شهد التاريخ لعلي الأكبر مواقف جدّه الصلبة الصارمة، وشهد له أنه شبيه جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) خلقاً وخُلقاً ومنطقاً، وموقفاً وعملاً.

فنحن إذ نقف على الخصال الخيرة المتطابقة فليس على حساب تطابق النتائج، لا سيما وأنّ ثمة علاقة بين المميزات المتشابهة كمقدمات وبين المواقف المصيرية كنتائج.

ولنختم هذا الفصل ببيتين لشاعر الرسول (صلّى الله عليه وآله) حسان بن ثابت الذي قالها في علي الأكبر، وهي:

وَأَحسَنُ مِنكَ لَم تَرَ قَطُّ عَيني

وَأَجمَلُ مِنكَ لَم تَلِدِ النِساءُ

خُلِقتَ مُبَرَّأً مِن كُلِّ عَيبٍ

كَأَنَّكَ قَد خُلِقتَ كَما تَشاءُ

____________________

(١) جاء عنه أثناء دخوله ساحة المعركة أنه أخذ يكر عليهم وهم لا يجسرون على قتله؛ لأنه شبيه بجده رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وفيه شجاعة حيدر (عليه السّلام). سفينة النجاة ١ / ٧٤.

٢٢

الفصل الثالث

شخصيته، واعتراف معاوية

أشواق أهل المدينة المنورة

دخل الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) يثرب التي نارت به وتنوّرت بوجوده، فأضحت تدعى (المدينة المنوّرة).

وعاش الرسول (صلّى الله عليه وآله) معهم حتّى ألفوه، وما أن رحل عنهم منتقلاً إلى الرفيق الأعلى حتّى اتّخذوا من سبطيه الحسنين (عليهما السّلام) عوضاً عن صورته وأخلاقه الخلاّقة؛ فهم ينظرون إلى الحسن والحسين (عليهما السّلام) فيتذكّرون بهما رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ذلك المنقذ العملاق، سيد المُحرّرين من شتى أشكال العبوديات.

وبعد أن ولد علي الأكبر وتسلّق السنوات، فشبَّ فتىً هاشميّاً محمّديّاً، وظهرت عليه مجمل خصائص النبي (صلّى الله عليه وآله) حتّى راحوا يتشوقون إليه؛ ليستمدوا من ملامحه وشمائله، ومعانيه وجماله ذكرى الرسول (صلّى الله عليه وآله) وذكرياتهم الماضية مع رسولهم الهادي؛ فعلي الأكبر يعكس لهم الصورة الحيوية لسيّد البشرية الراحل؛ فهو صورة طبق الأصل كما تبدو لناظريهم، وبرؤية واضحة ليست غامضة.

وقد روي أنهم إذا اشتاقوا للنظر [إلى] رسول الله (صلّى الله عليه وآله) طفقوا إلى عليّ الأكبر يزورونه ويتزوّدون من طلعته البهية، بحيث أنّ هذا الانعكاس الحيوي للصورة النبوية المقدّسة أقرّها والده الحسين (عليه السّلام)، وهو إذا اشتاق لجدّه (صلّى الله عليه وآله) تطلع إلى ولده.

على أنّ عواطف أهل المدينة وأشواقهم لنبيهم وأهل بيته كانت تقابل بالتجاوب طبعاً، فلم يضن عليهم عليُّ الأكبر بلقاء أو مجالسة في المدينة وأحيائها، أو داخل المسجد النبوي الشريف، أو في بيته الخاص؛ إذ روي أن الإمام الحسين (عليه السّلام) أفرد له بيتاً مستقلاً خاصاً به، فأخذ يستقبل المحبّين، معرباً عن خاصية الكرم، ومترجماً عملياً موقفه من الضيافة.

فمن الناس مَن يفد عليه للتحدّث إليه والتعلم بين يديه، ومن الناس من يزوره نوالاً لجوده وعطاء يده الكريمة، فضلاً عمّا يهدفون إليه من التزوّد من ذكريات الماضي المجيد ويوميات الرسالة والرسول الذي تتجلّى معالمه على سليله علي (عليه السّلام).

٢٣

كان يؤم داره اُناس من جميع الطبقات والمستويات لا سيما الفقراء. كانت داره عبارة عن منتدىً ثقافي للوفود، ومنتجع للكرم والجود.

أمّا الشعراء فلم تفتهم الفرصة لدخول بيت كرمهِ من باب جوده وعلو شرفه حتّى وصفه أحدهم فقال عنه:

لم ترَ عينٌ نظرت مثلَهُ

من محتفٍ يمشي ومن ناعلِ

يغلي بنيّ اللحمِ حتّى إذا

أنضجَ لم يغلُ على الآكلِ

كان إذا شبّت له نارُهُ

أوقدها بالشرف القابلِ

كيما يراها بائسٌ مرملٌ

أو فردُ حيٍّ ليس بالآهلِ

أعني ابنَ ليلى ذا السّدى والندى

أعني ابنَ بنت الحسب الفاضلِ

لا يؤثر الدنيا على دينه

ولا يبيع الحقَّ بالباطلِ

تلك القطعة الأدبيّة والمقطوعة الشعريّة تعتبر وثيقة على حقيقة فتح بابه لكل الطبقات والهيئات والفئات.

والذي نستشفه من تلك الأبيات هو أنّ الشاعر قد شاهد علياً (عليه السّلام) وكان له معاصراً، إنه رآه عياناً بمشيته ومظهره حسبما يوحي البيت الأول. أمّا البيت الثاني فيفيد بأنه كان حريصاً على السخاء والبذل، بحيث أنه يعلن عن موقع الجود؛ وذلك بإيقاد النار فوق المكان العالي المرتفع كعادة الكرام المحسنين، تلك النار التي تدلل على البيت والمضيف. وقد كان الغرباء والفقراء المعسرون يتطلعون دوماً إلى الأماكن التي تتصاعد منها ألسنة النيران؛ كيما ترشدهم إلى صاحب الضيافة، وسيد الكرم حسبما عبّر البيت الثالث والرابع.

ثمَّ يمجّد السيدة ليلى ذات الشرف والحسب الفاضل ليختم ببيت هو في غاية الأهمية؛ إذ يؤكد عقائدية هذهِ الشخصيّة وصرامتها وحدّيتها، بحيث لا قيمة للحياة ولا فائدة من التعامل بالباطل، بل لا معنى للحياة بحضور الباطل.

٢٤

إنّه لا يؤثر الدنيا، كما لا يستعيض عن الحق والحقيقة بالأثمان القليلة الرخيصة؛ لأنه ليس من عشاق الحياة الدنيا، إنه صاحب قضية، فهو صاحب موقف لا يغيره؛ لأنه رائد من رواد الحق، ذلك هو البيت الأخير، وهو أيضاً بيت القصيد.

كان أهل المدينة يرتادون منزله الرحب الواسع بما فيه وبما يحويه، فالبائس بحاجة ماسة إلى من يطعمه، وإنّ مَن ليس له أهل أو لا يملك قوت يومه بحاجة ملحّة إلى تلك النار التي تعلو لتدعو الجائع، ولتعلن مدى كرم من أوقدها وأشعلها... هكذا كان نظير جدّه (صلّى الله عليه وآله) في الخَلق والخُلق والمنطق.

ولا أكتمكم سراً لو قلت بحقيقة: إنّ أهل المدينة ينطلقون في أشواقهم لرؤيا النبي (صلّى الله عليه وآله) بلقاء علي من باب العواطف والذكرى فحسب، لا من باب تجديد عهد بالنبي (صلّى الله عليه وآله)، أو تأكيد ولاء لعلي (عليه السّلام)؛ بدلالة موقفهم من الثورة الحسينيّة المتمثل بالإحجام والتهرّب وعدم الإسهام، إلاّ من عصم ربك من المؤمنين حقاً،( وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ) ، المؤمنون فقط لا غيرهم،( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) (١) .

ذلك هو الذي كانت المدينة عامرة به وبأبيه العظيم، كانت عامرة بوجوده وجوده، بكيانه وكرمه، بسموه وسخائه الذي كان موطن حب للمسلمين، والذي عاش وهو محطّ أشواق الناس لنبيهم.

____________________

(١) سورة يوسف / ١٠٣.

٢٥

اعتراف معاوية

ممّا سبق يتّضح جلياً ما لعليّ من شخصيّة ذات مؤهلات وكفاءات عالية رفيعة... وهو ما لم يدركه المحبون والمؤمنون والذين يشتاقون لرؤيته وزيارته فقط، بل يدركه أيضاً اُولئك الكارهون والمعادون؛ وعليه فقد كان علي الأكبر مثار إعجاب الأعداء فضلاً عن الأصدقاء والتابعين بإحسان.

إعجاب يجبرهم عليه شخصه؛ إذ يفرض نفسه فرضاً بما يتمتّع به من مواصفات كبرى، بحيث شهدوا له رغماً عنهم، واعترفوا به وهو غني عنهم، ومدحوه وهم له ولاُسرته كارهون، ولرسالته وأهدافه مبغضون، هكذا هم الأعداء، فما ظنك بما ينبغي أن يقوله الأصدقاء؟!

والعدو يندر أن يتكلّم ويقول الحقيقة، ولكنه يأتي بها مشوّهة نسبياً، وفي حالات ونوبات نفسيّة معينة، وخلال شكّه بنفسه وفقدانه الثقة بشخصه؛ ولهذا قال معاوية - وغيره كثيرون - في الإمام عليّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) وعموم أهل البيت النبوي ما قال وصرح بعظمة علي أمير المؤمنين (عليه السّلام)، ولا يسعنا هنا أن نذكر ذلك.

والآن نذكر الرواية التالية عن أبي الفرج الأصفهاني التي سجّلها في معرض حديثه عن علي الأكبر، فقال: وإيّاه عنى معاوية في الخبر الذي حدّثني به محمّد بن محمّد بن سليمان، قال: حدّثنا يوسف بن موسى القطان، قال: حدّثنا جرير، عن مغيرة قال: قال معاوية: مَن أحقّ الناس بهذا الأمر؟ (أي الخلافة)(٢) .

فأجابه جلساؤه فوراً بأنه هو، هو أحق بهذا الأمر وبالخلافة.

لم تكن الجلسة جلسة مداعبة أو لهو، وبالضبط لم يكن السؤال لمجرد التفكّه كما قد يتوهم الساذج، ولم يطرحه معاوية على سبيل الفكاهة، وقد تتجلى جدّية السؤال من خلال نفي معاوية نفسه للجواب الفوري الذي حصل عليه.

- مَن أحق الناس بهذا الأمر؟ قالوا: أنت... قال: لا(٣) .

____________________

(١) مقاتل الطالبيِّين / ٨١.

(٢) مقاتل الطالبيِّين / ٨٠.

(٣) المصدر نفسه.

٢٦

وهم يعلمون أنّهم أكذب الناس طراً حينما أجابوه فوراً دونما تفكير، ورفض معاوية جوابهم الذي يعرفه ويعرفهم سلفاً. ولم يسكت معاوية؛ إذ أردف بالجواب بعد نفيه، فيبدو أن في خلده شيء، وقد اختلج في صدره شيء فاعتملت فيه واستحوذت عليه، لا سيما وأنّ الحقيقة لا يمكن أن تخفى، بل كل شيء عموماً خاضع للكشف،(( ما أضمر أحد شيئاً إلاّ ظهر في فلتات لسانه )) (١) ، وهكذا اعترف معاوية.

-... لا... إنّ أولى الناس بهذا الأمر علي بن الحسين بن علي؛ جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وفيه شجاعة بني هاشم، وسخاء بني اُميّة! وزهو ثقيف(٢) .( وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا ) (٣) .

لنقف كيما نعقّب، فنقول:

١ - إنّ كلام معاوية قاصر عن تحديد حقيقة مواصفات الخليفة المرجو، وما ينبغي أن يكون عليه من يجب أن يتولى الأمر. فثمة شروط للخلافة لم يذكرها معاوية وهي متوفّرة في علي الأكبر، ترى هل نسيها أو تناساها؟ أم خشي الفضيحة لو ذكرها وهو خلو منها؟!

فقد تجاهل الاعتبارات الكبرى والشرائط العظمى للخليفة وولي الأمر، ذاكراً ثلاث صفات سنعلق عليها.

٢ - وتجنب معاوية إبراز خصوصيات الهاشميِّين ومؤهلاتهم الجليلة، فلم يذكر سوى ما هو مشهور عنهم وهي الشجاعة (وفيه شجاعة بني هاشم)، وكأن ليس لبني هاشم غير الشجاعة! وكأن هذه الصفة ركيزة يعول عليها الخليفة!

٣ - ثمّ إنّ عليّ الأكبر وعموم أهل البيت يتنزهون عن الزهو حتّى يصفه معاوية بأنّ له زهو ثقيف.

٤ - وحاول بكلامه جر مواصفات علي إلى الاُمويّة، وأراد فرض العنصر الاُموي في سلوك عليّ الأكبر؛ لأن جدته لاُمّه من بني اُميّة، فقال عنه: وفيه (سخاء بني اُميّة).

____________________

(١) نهج البلاغة ٤ / ٥٦٩، وهذه قاعدة يخضع لها محبُّ علي (عليه السّلام) وعدوُّه.

(٢) مقاتل الطالبيِّين / ٨٠.

(٣) سورة يوسف / ٢٦.

٢٧

والحق أنّ سبب ربط السخاء بالاُمويّة يرجع إلى شهرة عليّ الأكبر بالجود والكرم والعطاء، وإلى تصنّع معاوية لتلبّس شخصه وحكمه ألبسة براقة؛ فلطالما أخذ مواصفات ومميزات أهل الحق والحقيقة؛ كالحلم والعفو، كالذكاء والدهاء، كالعدل وحسن السيرة. لقد قام معاوية باقتباسها له فتوشّح بها، واستعار أوسمتها دون معانيها، وأسماءها دون مسمّياتها.

٥ - وعلى كل حال فنحن نرى أنّ الزهو ليس ممّا يشترط توفرها عند الخليفة، كما أنّ السخاء ليس ضرورة أو من أوليات صفات الخليفة.

أما قوله (جدّه رسول الله) فهذا صحيح، ولكنه لا يكفي مبرراً لتولّي الأمر حسبما علّمنا أهل البيت أبناء الرسول (صلّى الله عليه وآله) وأحفاده، فبعد النسب لآل الرسول يجب حضور الشرائط والكفاءات، فلماذا لم يذكر معاوية أهم تلك الشرائط وأولويات صفات ولي الأمر؟

٦ - لماذا تجاهل معاوية والد علي وهو الإمام الحسين بن علي (عليه السّلام)؟ لا بدّ أنّ تجاهله الإمام (عليه السّلام) لأنه في مقام الندِّ له، والواقف له بالمرصاد، بحيث لو تحرّك لحرب الاُمويّة بنفسه لكان هناك مستساغاً حتّى عند معاوية وجلسائه، بينما ذكره لعلي الأكبر أهون وأخف؛ لأنّ علياً لا يخرج لحرب معاوية لوحده.

٧ - وسواء كان أولى الناس هو علي الأكبر أو والده الإمام الحسين أو أهل البيت (عليهم السّلام)، فما المبرر الذي يبقي معاوية على عرش الملك بصفة ولي الأمر وخليفة رسول الله، وأبناء رسول الله (صلّى الله عليه وآله) محكومون مهددون؟!

يبدو أنّ مجلسه يخلو من رجل صريح يسأله عن سبب قعوده وعدم تسليمه الحكم لبني هاشم أو لعلي!

٨ - وإنّما سجّلنا الرواية مع وقفة وتأمّل، فليس [ذلك معناه] أنّ الرواية تزيد إيماننا بقضايانا، كلاّ فنحن على إيمان راسخ بحقيقة الخلافة والإمامة ولمَن تجب. ولو أنّ معاوية وأبناءه وأمثالهم قد كذبوا الحق وحاربوه، ومهما عملوا كما قد فعلوا لما ارتبك القلب واضطرب الفؤاد أو ضعف الإيمان.

٢٨

وليس كلام معاوية بمفرح مبهج لنا بقدر ما هو برهان ودليل وحجة، هكذا نأخذه، لا كلام نفرح به ونتسلى به، أو ندهش ونعجب له،(والفضل ما شهدت به الأعداءُ).

ذلك هو علي الأكبر في شخصيّته الفذة العظيمة، ذلك هو الشاب المبدئي صاحب المواقف الجريئة والملامح المضيئة الذي أضحى ملء العين رضاً لله وعطاءً للاُمّة.

وأخيراً فقد أطلقنا لفظة ( اعتراف) ولم نقل: شهادة معاوية، فلأسباب موضوعية، منها:

١ - أننا لا نحتاج لشاهد على ما نقول، ولا نحتاج لشهادة العدو.

٢ - أنه اعتراف بمعنى الكلمة على:

أ - الشخصيّة الفذة لعلي.

ب - عدم جدارته هو - معاوية -، وافتقاره للكفاءة في منصبه.

هذا الفهم وهذه الإفادة ليست مجرد شهادة، وإنما اعتراف،( وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ) (١) .

____________________

(١) سورة يوسف / ٢١.

٢٩

الفصل الرابع

الأحداث التي عاصرها على الأكبر

ما قبل العهد الاُموي

يمكن الإحاطة بما عاصره علي من أحداث ووقائع؛ وذلك من حيث إمكانية الوقوف على زمن ولادته وعمره الشريف. وقد سبق لنا القول بأنه ولد في مدة خلافة عثمان بن عفان، وعلى هذا الأساس فإنه يكون معاصراً للأحداث الممتدة من تلك المدة حتّى سنة ستّين للهجرة، حين إسهامه الكبير بالحدث الجهادي الجليل المتمثّل بثورة أبيه (عليه السّلام) وجهاده [من أجل] الإسلام على بطحاء كربلاء.

ولا يخفى على اللبيب إدراك أنّ عليّاً لم يجهل الأحداث الماضية والوقائع السابقة لميلاده؛ نظراً لكونها مقدّمات لما يجري ممّا يعاصره، ولكونها تتكفّل استيعابه لما يعيشه ويشهده، فما يقع أيام حياته إنّما هو امتداد لحلقات الحوادث المنصرمة.

هذا وإنّ معلوماته لمجريات الاُمور ومشكلات الماضي ما هي إلاّ دروس تاريخيّة قيّمة، ما هي إلاّ أحد مواضيع تربيته وتهيئته وإعداده. وعليه فهو - لا سيما في شبابه - على بينة ممّا قد حدث؛ الأمر الذي يزيده وعياً ويقظة لما يعاصره.

ولنحاول أن نمر سريعاً بما عاصره علي الأكبر:

أولاً: لقد عاصر أزمة الخلافة الثالثة والمعضلات التي تراكمت على عثمان حتّى تبلورت الاُمور، فاشتدت مناوأته ومناهضته؛ فتألب المسلمون عليه، وجرت مشاكل مزعجة واضطرابات سياسية واجتماعية، وبرزت المشكلة الاقتصاديّة فانكشفت مسألة التمايز عند بعض واستئثارهم بأموال المسلمين.

ولم يتمكّن عثمان من وضع حدّ للاضطرابات، فأودت بحياته؛ حيث قتله بعض الثوار، ومضى دون أن يلبي المطالب الإيجابية التي اُريدت منه. كان ذلك أيام صغره، أي علي الأكبر.

٣٠

ثانياً: ثمّ شهد وهو صبي جدّه الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام) وهو أحرص الناس على الدين، وأحوطهم على الإسلام. فحينما قُتل عثمان، وحينما انتهى عهد الخلفاء الثلاثة تجلّت حالة الاُمّة وهي في حالة يرثى لها، في وضع منهار، متردية متداعية، والأنكى من ذلك أن عثمان ترك على الأمصار عمالاً وولاة لا همَّ لهم سوى أنفسهم وتوسيع نطاق الانهيار والتردي الاجتماعي.

شهد جده (عليه السّلام) وهو يتجنب قيادة مسيرة الاُمّة؛ بناءً على ما أصاب الاُمّة من تفكك وثغرات يصعب تلافيها، ولا تزول إلاّ بوقت وزمان. شهد جدّه الإمام (عليه السّلام) وقد أضحى خليفة وإماماً اُنيطت به عمليات النقد النظري، ومباشرة التصحيح العملي التي تمخّض عنها حروب ثلاثة. فكأن أعداء الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) لم يرغبوا به خليفة، وإنما رغبوا بالخلافة لهم؛ ولهذا رغبوا بالحرب وسيلة بلوغ رغبتهم، فكانت معركة الجمل في البصرة.

أمّا صفّين فهي معركة مع معاوية الذي كان من أكثر الناس ولعاً بالدم، وأوّل الناس سفكاً للدم الحرام. وأعقبتها معركة النهروان التي كان طرفها المقابل فئة الخوارج الحمقى الذين امتازوا بالرعونة والتطفل على فهم القرآن الكريم، والتعالي على علي أمير المؤمنين (عليه السّلام).

وقد فرّقوا بين علي (عليه السّلام) والقرآن، وتكابروا عليهما في نفس الأوان، وكأن ليس(( عليٌّ مع القرآن والقرآن مع عليٍّ، وعليٌّ مع الحقِّ والحقُّ مع عليٍّ يدور معه حيثما دار )) !

ثالثاً: عاش عليّ الأكبر مأزق عمهٍ الإمام الحسن (عليه السّلام)، حيث قاد مجتمعاً هجيناً يحتوي على الضعفاء في الدين والإيمان؛ فهو لم يتمّ نقده وتصحيحه جيداً خلال خلافة الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) المشهورة بأنها قصيرة.

فمجتمع الكوفة كان بأمس الحاجة إلى التربية والتصفية قبل الخوض به من أجل مستقبله، بيد أن مباغتات العدو ومواقفه تجبر القائد على أن يسرع في إعلان الموقف المناسب؛ فخرج الإمام الحسن (عليه السّلام) بهم وهم يحملون بذور الهزيمة؛ الأمر الذي يفسّر مواقف الجبن والخيانة التي أظهرها بعضهم بحيث عصفت بالموقف الجهادي الصارم، وأجبرت الإمام (عليه السّلام) - وبعد أن انتظر ولم يرجُ منهم خيراً، وأحب أن يكون الخير منه - على ما حدث من اتفاق مشروط لا يقبل التزييف والمراوغة، وقد وقّع عليه معاوية كميثاق وعهد يجب عليه الالتزام بكل مواده ومقرراته.

ولكن معاوية خان العهد وخاس به، فنقضه دونما استثناء لمادة واحدة.

٣١

في عهد بني اُميّة

فاستهل معاوية حكمه وافتتح عهد الاُمويِّين بالخيانة العظمى، ثمّ لم يكتفِ بذلك؛ فقد خطط لعملية التخلص من الإمام الحسن (عليه السّلام) بالقتل؛ وذلك بواسطة جنود له من عسل على حد تعبير معاوية نفسه، فدسّ له السمَّ ليقتله.

وهكذا شهد علي الأكبر - وهو في ربيع عمره - استشهاد عمه الحسن (عليه السّلام)، وساعات احتضاره حتّى انتقاله إلى جوار ربه (صلوات الله وسلامه عليه)، وهو حدث له وقع شديد عليه، ويترك في نفسه أثراً وآثاراً غير هينة.

هذا وقد سبق أن عاش الصدمة الكبرى للأُمة كلها، وهي استشهاد جده الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، حيث نفذت مؤامرة وقحة وجريئة ضدّه هزت العالم، وأحدثت ضجة ذات أصداء وانعكاسات.

هذه الواقعة والتي أعقبها استشهاد عمه الحسن (عليه السّلام) وغيرها مما سبقها أو يلحقها تحتاج إلى عمق في الدراسة، وقبل أن نستطرد من الضروري جداً أن نفهم ما يلي:

١ - أننا نمر بما يعاصره علي مروراً سريعاً، ولا نلم أو نذكر متعلقات الحادث.

٢ - نحرص على إدراج أبرز الحوادث وأكبرها.

٣ - يجب أن لا نحدد وعي علي الأكبر بمحدوديتنا وبعقليتنا؛ فالذي يعاصر الوقائع أدرى وأعمق تأثراً ووعياً منّا نحن الذين نطالع أو ندرس نتفاً موجزة عن حقب طويلة.

فبعد الخيانة ومقتل الإمام الحسن (عليه السّلام) هناك حدث أو أحداث متسلسلة متصلة ومستمرة من الإرهاب والاضطهاد الذي كان يستهدف الشيعة الموالين لآل الرسول (صلّى الله عليه وآله)، فضلاً عن استهدافه لآل الرسول بالذات.

وأوّل مسعى لفتح باب الإرهاب هو شتم الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) علناً، وسبّهِ من فوق المنابر، وبهذا فقد أضحى شيعة أهل البيت في خطر. وفعلاً كتب معاوية إلى عماله أن أسقطوا كلَّ شيعي واحرموه من العطاء، بل عمم طلبه بملاحقتهم وقتلهم.

ومن أبرز الاُمور تنصيب معاوية جملة من الولاة القساة القتلة، سافكي الدماء، كما أن من أبرز الأحداث تهجير آلاف الشيعة من إقليم الكوفة إلى خراسان، وقد أجلاهم واليه على الكوفة زياد بن أبيه تحت ألوان من العسف وأساليب التنكيل؛ خوفاً من بقائهم الذي يهدد بقاء حكم بني اُميّة.

٣٢

وخلال تلك الفترة قتل جملة من زعماء الإسلام الشيعة، وأبرزهم كما هو معروف حجر بن عدي الكندي وثلة من رفاقه في الجهاد، فضلاً عن مجاهدين آخرين حرص معاوية على تصفيتهم رغم جلال مكانتهم وسمو منزلتهم وإيمانهم؛ فقد كان حجر بن عدي صحابياً أدرك الرسول (صلّى الله عليه وآله).

عاش علي الأكبر هذه الأحداث وسمع الأخبار التي تصل إلى أبيه، والمشاكل التي يطرحها بعض المسلمين والمجاهدين، وشهد والده وهو في حيرة من أمرهِ لا لشيء سوى أن الناس ضعفاء لا يوثق منهم أثناء نهضة جهادية.

ومن أبرز ما عاصره عليّ هو محاولة معاوية لإقرار الناس على أنّ ولي عهده يكون ولده يزيد، وقد أعد لهذه المحاولة طريقة توهم بأنّها ناجحة تماماً، ولا نريد أن نطيل.

ثمّ دارت عجلة الزمن لتسحق رأس معاوية، فهلك ومضى مستوزراً بأوزاره، وأعلن يزيد بأنه ورث العرش والملك، وورث بيت مال المسلمين، وحتّى المسلمين أنفسهم.

وبعد، فإن لعلي الأكبر موقفاً من كلِّ حدث يجري، له مواقف ومواقف من معاوية وحكمه وأعمالِه؛ ذلك لأنّ علياً من أهل بيت المواقف الشجاعة الرساليّة التي لا تهاب الموت، ولا تأبه لسيف، وله أن يعلن موقفه وينشر قراره في بلاغ له.

أجل، بيد أنّ موقفه وقراره إنّما لم يبرز ولم يعلنه شخصياً؛ [وذلك] بحكم انضمامه إلى الموقف الأشمل لأبيه الحسين (عليه السّلام)، وبحكم انضوائه تحت القرار الأعم الأكمل لوالده (صلوات الله وسلامه عليه).

لم يعد الصمت ممكناً، وليس بعد كل الذي ساد وجرى مبرر أو مسوّغ للسكوت، وهكذا تحرّك الإمام سبط سيد المرسلين (صلوات الله وسلامه عليه) في ثورته المجيدة الخالدة، لا ليحارب يزيد فحسب، بل ليقوّض الاُمويّة الرعناء.

٣٣

الفصل الخامس

الصلابة والبأس الشديد

في مسيرة الركب التاريخيّة

انطلق الركب الحسيني بمسيرته التاريخيّة من المدينة المنورة إلى مكّة المكرمة، البلد الأمين، دار السلام والاطمئنان. وبعدما أضحت مكّة غير ذات أمان مهتوكة الحرمة، ولأسباب متظافرة اتجهت المسيرة العملاقة نحو الشمال إلى العراق حيث إقليم الكوفة فكربلاء.

وأخذ الركب يلفّ الصحراء ويطوي البيداء، ويعبر ويصعد الهضاب، ويقطع السهول، متجاوزاً التلال والمرتفعات، يحثّ خطى السير لا يلوي على شيء، قد حملت الجمال معدات السفر والعتاد ومحامل النساء، فيما امتطى الفرسان صهوات جيادهم.

وقد لحقهم مئات من الرجال النفعيّين الذين ظنوا بإقبال الدنيا على الحسين (عليه السّلام)، وقد أدرك الإمام (عليه السّلام) دوافعهم؛ فسلك معهم عدة أساليب لإرجاعهم وإبعادهم عن جهاده النقي، وللإبقاء على صفوة الرجال وخلاصة الرساليِّين الأبطال ممّن لا منفعة دنيوية تحدوهم، ولا مصلحة شخصيّة تدعوهم إلاّ إعلاء كلمة الله بإظهار الحق ودمغ الباطل(١) .

مرّ الركب بعدة مناطق في الطريق؛ كمنطقة الصفاح، وزرود، والخزيميّة، ومنطقة الثعلبيّة... إلخ.

وهنا في هذه المنطقة بالذات حيث بلغها الركب في المساء، وعليّ الأكبر يسير معهم ليلاً نهاراً، يسير كلّما ساروا، ويقف كلما وقفوا، ويحثّ جواده كلما حثوا الجياد حتّى بلغ منهم النصب وأخذهم التعب.

وفي ذلك المساء بتلك المنطقة غفا الإمام الحسين (عليه السّلام) وأخذه الكرى، فرأى في نومه المؤقت رؤيا أزالت عنه الكرى، وفتح عينيه على أثرها، وأخذ يسترجع:(( إنّا لله وإنّا إليه راجعون )) (٢) . وهذا عبارة عن تعقيب على مضمون الرؤيا ومعناها.

فانتبه نجله علي الأكبر الذي كان يسير على مقربة منه، فالتفت حالما سمعه ليستفسر من والده العظيم عمّا دعاه للاسترجاع، فأجابه الأب القائد:(( رأيت فارساً وقف عليّ وهو يقول: أنتم تسيرون والمنايا تسرع بكم إلى الجنّة. فعلمت أن أنفسنا قد نعيت إلينا )) . وفي رواية لا توجد عبارة (إلى الجنّة).

٣٤

فبادر ولده علي قائلاً بصرامة المؤمن القوي: يا أبة، أفلسنا على الحق؟!.

قال إمام الحق:(( بلى يا بني والذي إليه مرجع العباد )) .

فردّ علي بكلمة نابعة من العزة والإباء: يا أبة، إذاً لا نبالي بالموت.

وفي الأعيان أنه قال: فإننا إذاً لا نبالي أن نموت محقّين.

فعقّب والده الإمام (عليه السّلام) بكلمة التقدير العالية الرفيعة التي جاءت بصيغة الدعاء، وأي دعاء من أب لولده، أم أي كلمة هذه التي ينطق بها الإمام الحسين (عليه السّلام) شخصياً لولده عليّ الأكبر بالذات:(( جزاك الله يا بني عنّي خير ما جزى به ولداً عن والده )) (٣) .

وهكذا هي تحية الإجلال لموقف الصلابة الشجاع، أكرم بهذه الاُبوة وتلك البنوة الممتدين من اُصول الأنبياء وخاتم النبوة!

لقد تحدّى كل العقبات والمعوقات التي تحول دون تحقيق أهداف الحق؛ فطالما نحن على حقٍّ ينبغي أن لا نهاب الموت، الموت الذي حتّى لو أيقنّا قربه ودنوه منا، الموت المؤكّد في الموقف المعين بالذات، الموت على الإيمان واليقين.

واليقين من أسماء الموت،(( أشهد أنك قد أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، وأطعت الله ورسوله حتّى أتاك اليقين... )) .

فلا بدّ من نصب الموت أمام الأعين في السلم والحرب، ولا بدّ للمؤمن من حمل الكفن إن لم يحمل معه خشبة الصَلب، فلا يقول أحد: إنّ منيته وأجله في غير هذه الحادثة الجهادية، أو هذه الحرب؛ لأنّ ذلك معناه سابق نية على التهرب والانسلال، وعدم الرغبة في تمام التحرير وكامل الاستقلال.

إنّ هذه الرواية وحديث علي مع أبيه (عليهما السّلام) لا بدّ أن نستفيد منه، ولنتعرّف على حقيقة شخصيّة علي من خلاله، (وفي الحديث من الدلالة على جلالة علي بن الحسين الأكبر، وحسن بصيرته، وشجاعته ورباطة جأشه، وشدة معرفته بالله تعالى ما لا يخفى)(٤) .

____________________

(١) وقد سبق لنا دراسة هذه الحالة وعمليات التصفية والتمحيص الحسيني لذوي الدوافع الرخيصة والبواعث اللاعقائديّة، وذلك في القسم الثاني من كتاب (الدوافع الذاتية لأنصار الحسين).

(٢) في رواية أنه قال:(( إنّا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله ربّ العالمين )) . أعيان الشيعة - للسيد الأمين ٤١ / ١٧١.

(٣) الفتوح لابن أعثم ٥ / ١٢٣، وبحار الأنوار - للمجلسي ٤٤ / ٣٧٩ - ٣٨٠، وتاريخ الإسلام - للذهبي ٢ / ٣٤٦، والأعيان، وغيرها بتفاوت ملحوظ في صيغ الروايات المدونة.

(٤) السيد الأمين في الأعيان.

٣٥

لقد كان حواراً جهادياً عظيماً يذكّرنا بحوار نبي الله إبراهيم مع نجله النبي إسماعيل (عليهما السّلام)، فحينما قصّ إبراهيم (عليه السّلام) الرؤيا،( يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ ) ، أجابه ابنه إسماعيل (عليه السّلام) بقوله:( يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) (١) .

فثمة تشابه من حيث الغرض، وهو الفداء والتضحية، غير أنّ ثمة فوارق؛ فجواب إسماعيل (عليه السّلام) كان مفروضاً عليه بحكم طبيعة الرؤيا؛ فهو مطالب بالرد المناسب، ومطلوب للتضحية بذاته دون سواه، بينما لم يكن مفروضاً على علي الأكبر أن يجيب، وليس الرد مطلوباً منه، ولم يك مطلوباً للتضحية بذاته ولوحده، وكان بمقدوره أن لا يجيب على ما ذكره أبوه من رؤيا، لكنه أجاب بنبرات الصارم وعزيمة الصابر الصامد الذي لا يلين.

ولا نريد أن نعقد مقارنة بين الحوارين؛ فلا تفاضل بين النجلين الطاهرين بحصول الفرق بين الموقفين وطبيعة القضيتين.

وبعد، فقد تقدّم إسماعيل صابراً ليقدّمه والده قرباناً ويبقى هو - والده - حياً، ثمّ غيّر الله سبحانه قضاءه؛ إذ بدا له أن ينزل كبشاً كبديل( فَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) ، فنجا إسماعيل من مذبحة كادت تنهيه.

بينما تقدّم علي الأكبر مع والده وكوكبة الرجال والشبّان صفوة الاُمّة المسلمة، تقدم بأقدام ثابتة وخطوات لا تثنيها أي قوة مضادة إلى حيث مذبحة التي ذُبح عليها، وقُطّع تقطيعاً هو ومَن سبقه بمرأى [من] والده، بل مضى حتّى والده قرباناً وضحية. أجل ذلك بحكم اختلاف القضية، ويا لها من قضية عظيمة لا كبش - مهما كان عظيماً - يعوّضها أو يعادلها.

أجل سار علي وواصل مع الركب المجيد، سار والحق يحدوه، وأمامه نُصبت صخرة الذبح من أجل أقدس قضية حَتَمَت أرقى فداء وتفانٍ وتضحية.

____________________

(١) سورة الصافات / ١٠٢.

٣٦

علي يرابط في كربلاء مع المرابطين

حتّى إذا وصل الركب في مسيرته ربى الطفِّ وتلاع شاطئ الفرات، وقف الإمام الحسين (عليه السّلام) ليتعرّف على اسم المنطقة، وما هي إلاّ برهة زمنيّة حتّى أعلن بأنها موعده ومستودعه، ومنازل الأبطال ومقابر الشهداء.

- (( ها هنا والله مناخ ركابنا، وهنا هنا قَتلُ رجالنا... حتّى قال: وها هنا تُزار قبورنا، بهذه التربة وعدني جدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ولا خلف )).

فنزلها الرجال والشباب، وقد انطلق الصبيان يلعبون ويرتعون، بينما أخذ الرجال يبنون البيوت وينصبون الفساطيط والخيام، فبانت أطناب الخيام، وظهرت مواقعها بأهلها المرابطين على الحق. ورابط علي الأكبر في بطحاء كربلاء منذ اليوم الثاني حتّى العاشر من شهر محرم.

أمّا الجيش المعادي الذي يرابط على شط الفرات فقد أخذ يتكاثر كلّ ضحى، وكلّ يوم حتّى كملت عدته يوم تاسوعاء؛ إذ كانت الكتائب تتوافد لترابط قِبالة الجبهة الحسينيّة؛ ولكثرتها تسنّى لها تنفيذ أوامر منع الماء الصادرة من ابن زياد؛ حيث ضربوا على نهر الفرات حصاراً يحول دون بلوغ ضفافه أي ضام عطشان.

وظل علي في انتظار دوره وأداء مهامه، فهو يترقب بدء القتال مع الأعداء، وبدء دوره خصوصاً؛ إذ كان في رأيه أن يكون هو أول قتيل وشهيد. لقد وقف إلى جانب ثلة الهاشميِّين تحت لواء عمّه العملاق العباس بن علي (عليهما السّلام)، ليطالب بأن يكونوا هم - بنو هاشم - أول من يبرز للميدان.

بيد أن عصبة الأنصار ترى أنها هي الأوّل دخولاً للميدان، وقد تجمّعوا تحت لواء المجاهد حبيب بن مظاهر الأسدي وهم يطالبون بعدم سبق الهاشميِّين للجهاد والقتل.

وتدور بين الطرفين مباراة كلامية، ويستمر تنافس الجناحين على الظفر بالأولوية لخوض غمار الحرب العادلة، ولا أحد يرضى بأن يكون ثانياً، كلٌّ يؤثر نفسه على الموت قبل غيره، وبطبيعة الحال فإنّ علياً كان أكثر عزماً وأشد رغبة في إحراز تلك الأسبقية والأولوية؛ فهو من جناح الهاشميِّين الذي يقول بضرورة تَقَدّم بني هاشم؛ لأنهم حَمَلة الرسالة، وثقل الحديد لا يحمله إلاّ أهله.

وأخيراً احتكم الجناحان إلى الإمام الحسين (عليه السّلام)، فحكم الإمام القائد للأنصار بالسبق لدخول الساحة. وظل الهاشميّون في ترقب لدورهم، وظل علي الأكبر خصوصاً أشد شوقاً لساعته ولحظات سعادته.

٣٧

على مصارع الأنصار، ومصرع الحرِّ الرياحي

حمى الوطيس، واحتدم الصراع؛ إذ دارت رحى حرب ضروس، جالت خلالها الخيل، واشتد اشتباك الأسنة واختلاف السيوف، فما انجلت الغبرة إلاّ عن جمع من القتلى. كانت تلك هي الحملة الأولى في صبيحة عاشوراء التي اشترك فيها الجميع، وتمخّضت عن قتل عشرات ومئات الاُمويِّين، كما أسفرت عن خمسين قتيلاً شهيداً من رجالات الإسلام الحسينيِّين (عليهم سلام الله ورضوانه).

ثم آب كلٌّ إلى موقعه، وبدأت عصبة الأنصار - أي ممّن تبقّى منهم - يستأذنون الإمام الحسين (عليه السّلام) للجهاد مثنى وفرادى وهو يأذن لهم. وكان عاشوراء يوماً مشهوداً؛ حيث صعدوا مسرح الجهاد والاستشهاد وهم لا يلوون على شيء، ولا يفكّرون بشيء سوى الفداء والفناء من أجل مجد الإسلام والبقاء الرسالي.

ظل علي يرمق ببصره البعيد أطراف الميدان، مكبراً تفاني الأنصار البواسل الشجعان؛ فقد كان قوي العزيمة، لا تخونه إرادته ولا تلين عزيمته أو تضعف شكيمته، قوي البأس، ثابت الجنان، صلب صامد على مصارع عصبة الأنصار، حتّى إنّه شهد مصارعهم وكان يرثيهم ويؤبّنهم، مشتاقاً لما آلوا إليه.

كما وقف على جسد أحدهم وهو يرثيه بأبيات نفيسة؛ إذ أشرف علي الأكبر على جسد البطل المجاهد الحر بن يزيد الرياحي، وقد سبقه والده الحسين (عليه السّلام) الذي أبّنه بقوله:(( بخ بخ لك يا حر! أنت الحر كما سمّتك اُمّك، وأنت الحر في الدنيا والآخرة )) أو(( سعيد في الآخرة )) .

فعقّب علي الأكبر قائلاً:

لَنعمَ الحرُّ حرَّ بني رياحِ

صبورٌ عند مشتبك الرماحِ

ونعم الحرُّ إذ نادى حسيناً

فجاد بنفسه عند الصباحِ(١)

____________________

(١) مقتل الحسين - للخوارزمي ٢ / ١١، ومقتل العوالم / ٨٥، ورويت الأبيات مع إضافات، كما وقيل: إنها للإمام الحسين (عليه السّلام):

لنعمَ الحرُّ حرَّ بني رياحِ

صبورٌ عند مشتبكِ الرماحِ

ونعمَ الحرُّ في وهج المنايا

إذ الأبطالُ تخطر بالصفاحِ

ونعم الحرُّ إذ واسى حسيناً

وجاد بنفسه عند الصباحِ

فيا ربّي أضفه في جنانٍ

وزوجه من الحور الملاحِ

لقد فاز الاُلى نصروا حسيناً

وفازوا بالكرامة والفلاحِ

٣٨

إنّه يقرر بأبياته أنّ للحر صبراً، فيقرر أنّ له إيماناً قوياً بحيث أنه تحمل المخاطر، وصبر - لكي ينجز مهمته - رغم اشتداد اشتباك الأسنة والسيوف وكلّ الأسلحة،(صبورٌ عند مشتبك الرماح) .

كما ويقرر أنه قدّم أغلى ما لديه، وسخا بما عنده، وجاد بما يملك من ثمين ونفيس، وهل أثمن من النفس والحياة؟!(فجاد بنفسه عند الصباحِ) ، والحق أنّ(الجود بالنفس أقصى غاية الجود).

فضلاً عما نلمسه من إكبار وافتخار بمن هو نعم الرجل، نعم الشخصيّة الفاضلة، ونعم الحر، بحيث أبى التقيّد بالذل والارتهان بالعبودية، ورنا إلى نعماء العز والحرية دونما خوف من دفع الضريبة الباهضة لتلك النعمة، وهي ضريبة الدم والروح، وهكذا تكون سجية الأبطال.

وبقي علي الأكبر يرقب الميدان عن كثب، معرباً عن روعة صمود الصابرين المجاهدين، ومكبراً جهادهم، متشوقاً إلى دوره ونزوله للساحة بعد أن مضى مَن مضى وبقي مَن بقي،( رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) (١) . صدق الله العلي العظيم

____________________

(١) سورة الأحزاب / ٢٣.

٣٩

الفصل السادس

السبق للجهاد

المبادرة الفورية

لقد أدّى الأنصار أدوارهم على أحسن ما يرام، فمضوا إلى حيث نعم الله ورضوان ربهم، وجنان وعدهم إياها، إنه لا يخلف الميعاد.

ولم يدع علي واحداً يسبقه بعد إذ انفرد الإمام وأهل بيته (عليهم السّلام)، فكانوا البقية الباقية من الشجرة المحمّديّة، والوحيدون على وجه الأرض من آل الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، فطفق بعضهم يودع بعضاً، ومال أحدهم على الآخر يعانقه بحرارة وشوق.

وصف المؤرّخون ذلك المشهد الرهيب، واتّفقوا على هذا المعنى: لمّا قُتل أصحاب الحسين (عليه السّلام) ولم يبقَ معه إلاّ أهل بيته خاصة، وهم وُلد علي بن أبي طالب (عليه السّلام)، وولد جعفر، وولد عقيل، اجتمعوا يودّع بعضهم بعضاً، وعزموا على الحرب؛ فتقدّم علي بن الحسين (عليه السّلام)، وكان من أصبح الناس وجهاً وأحسنهم خَلقاً وخُلقاً.

أمّا وداع علي لأهله من النساء؛ كاُمّه وأخواته وعمّاتهِ، لا سيما عمّته الحوراء زينب (عليها السلام)، فقد حفل بالآلام والأشجان؛ فقد آن فراق ذكرى المصطفى (صلّى الله عليه وآله)، هكذا شعرن وأحسّت كلٌّ منهنّ.

٤٠