حياة علي الأكبر (عليه السلام)

حياة علي الأكبر (عليه السلام)0%

حياة علي الأكبر (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 69

حياة علي الأكبر (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمّد علي عابدين
تصنيف: الصفحات: 69
المشاهدات: 42576
تحميل: 7322

توضيحات:

حياة علي الأكبر (عليه السلام)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 69 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 42576 / تحميل: 7322
الحجم الحجم الحجم
حياة علي الأكبر (عليه السلام)

حياة علي الأكبر (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ظهر علي بأنه شديد الحرص على السبق للساحة، وعلى أن يكون أول ضحية وقرباناً لله سبحانه وتعالى(١) ، وهذه الظاهرة تحتاج إلى وقفة؛ فلاشك أنّ المسؤوليات الجسام لا تناط إلاّ بأهلها، وخليق بهم تحمل عبئها وما يترتب عليها من مضاعفات؛ لأنهم سدنة الرسالة، وحرّاس المبادئ ذات الأصالة؛ فهم لا يختارون التأخير عن دورهم؛ الأمر الذي يفسر حالات التنافس بين الهاشميِّين والأنصار، وعمليات الرهان على الأسبقية كما أشرنا؛ حيث حسم الإمام ذلك الموقف لرغبة الأنصار المجاهدين على رضا منه.

أمّا وأنّ علياً يسبق إخوته من الهاشميِّين فذلك ما يفسره نفس المعنى. فنظراً لكونه نجل الإمام القائد، المنحدر من صلبه الشامخ، فهو يشعر بخصوصيته، لا لكي يسلم وينعم، بل لكي يبادر ويعمل ويضحّي فيكون المثل الأعلى. وليس هذا من باب المفاضلة والمكابرة بقدر ما هو من باب الإيثار؛ فخليق به أن يتقدّم على الجميع مؤثراً سلامتهم، وعدم نظرهِ لجراحهم أو مواقع مصارعهم.

ولما كانت القضية قضية الإسلام الحسينيّة فلا يحسن به أن ينتظر إلى آخر شوط وآخر دور؛ فهو نجل القائد، ومن باب أولى أن يكون هو المتقدّم.

وهكذا يتجلّى علوّ التربية ورفعة التوجيه، وسمو الآداب وجلال التهذيب المتوفر في شخص علي الأكبر؛ فما كانت تربية أهل البيت تنصّ على معنى يخالفه عملهم، ليس فيهم قوّال غير فعّال، وإنّما جُبلوا على ممارسة تطبيقات مقررات الرسالة والدين الحنيف، وحتّى الآداب والمُثل البسيطة والمفاهيم الخُلقيّة العمليّة.

____________________

(١) وقيل: إنّه ليس الأوّل، بل لقد أدرجه ابن أعثم في الفتوح ٥ / ٢٠٧ فجعله آخر من قُتل، وهذا ما لا شهرة فيه.

٤١

الاستئذان للنزال

اتّجه نحو أبيه الإمام (عليه السّلام) فاتّخذ له موقفاً أمامه، وظل صامتاً مطرقاً برأسه، نظر إليه والده الحسين (عليه السّلام) فأدرك ما يريد، فكلّ ما ظهر عليه من لامة حربه ومدرعته وإسراجه لفرسه يدل على عزمه للمضي على ما مضى عليه مَن سبقوه، يدل على لهفته لمباشرة الجهاد المسلّح.

وراح الحسين (عليه السّلام) ينظر إليه بنظرات ملؤها الرفق والحنان والإشفاق، أخذ يطيل النظر إليه، فاتّخذت عواطف الاُبوة الطاهرة مستقرها بين جوانح الأب العظيم.

دار التفاهم على صعيد الصمت، وتمّ تبادل البيان من خلال مؤشرات موقف الأشجان، ولم يكن الفراق عجيباً ولا غريباً إذا(( خُطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة ))، (( لا محيص عن يوم خُطّ بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه فيوفّينا أجور الصابرين )) كما في خطابه التاريخي بمكّة.

ترى هل عزّ على الحسين (عليه السّلام) فراق حبيبه وريحانته وذكرى رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟ هل يا ترى يمنعه عن التسرع أو يؤجل دوره إلى حين؟ نعم عزّ عليه ولكنه لا يمنعه أو يؤجّل جهاده.

عزّ عليه عزّاً لا حد له، بيد أنّ الحسين يسيطر عليه أمر أكبر وأخطر؛ ذلك هو عزّ القضية التي من أجلها نهض بنهضته وصدع بمبدأ الجهاد. فبعز رسالته هان عليه عزّ الأحبة وآلام الوحدة والغربة؛ فالموقف شجي ومحرج لكنه في غاية التحرّج في قضية الدين، بحيث هوّنت عليه فقد الحياة وحراجة تقديم البنين.

وأخذت الآهات مأخذها في داخل صدره، وراح ينظر إليه، إلى أشبه من وطئ الحصى بجدِّهِ النبي المصطفى (صلّى الله عليه وآله). واغرورقت عيناه بالدموع، وطفق إليه ليضمّه ليحتضنه ويلثمه، ووقف الشباب الهاشمي أمام المشهد الحزين وقد دام العناق طويلاً، فماذا تتصور عن عناق صدق الأشواق، عناق لحظات الفراق؟! أجل إنّها آخر فرصة لتبادل القبلات المنغصة.

٤٢

وفهم علي الأكبر، وأدرك من تلك الإجراءات الأبوية أنه لا مانع من خوض غمار الحرب الرساليّة فوراً، فمال إلى جواده الذي أعدّه وأسرجه؛ فامتطى صهوته واتّجه نحو تأكيد الحقائق، وراحت عيون الهاشميِّين ترمقه بحب عظيم وإشفاق كبير، فكيف بأبيه الحسين (عليه السّلام) الذي أخذت عيناه ترافقه، واستمر يلاحقه بنظراته، وتابعه بقلبه البصير الذي يخفق على النهاية والمصير لهذا الفتى المحمدي؟!

لقد وجدناه يحول طرفه ليرمق السماء وليناجي ربه، رافعاً شيبته الشريفة وقد أرخى عينيه لتسيل الدموع كلّ مسيل:(( اللهمَّ اشهد على هؤلاء القوم، فقد برز إليهم غلام أشبه الناس خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً برسولك محمّد (صلّى الله عليه وآله)، وكنّا إذا اشتقنا إلى وجه رسولك نظرنا إلى وجهه... اللهمَّ فامنعهم بركات الأرض، وفرّقهم تفريقاً، ومزّقهم تمزيقاً، واجعلهم طرائق قدداً، ولا ترضي الولاة عنهم أبداً؛ فإنّهم دعونا لينصرونا ثمّ عدوا علينا يقاتلوننا )) (١) .

في تلك الأثناء كان عليٌّ (سلام الله عليه) يبتعد رويداً رويداً متّجهاً نحو الحشود البشريّة المتراكمة كالغنم النائمة، وقد وبخ الإمام (عليه السّلام) قائدَ الأعداء عمر بن سعد بن أبي وقاص، وتوعّده مؤكّداً له استحالة حصوله على نيل مصالحه من قتال عترة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وإبادتهم وقطع رحمهم، فصاح به:(( ما لَك! قطع الله رحمك، ولا بارك الله لك في أمرك، وسلّط الله عليك مَن يذبحك بعدي على فراشك كما قطعت رحمي، ولم تحفظ قرابتي من محمّد رسول الله )) (٢) .

ثمّ حوّل طرفه إلى ولده الذي دنا من الجيش الهجين وأخذ ينظر إليه، وقد رفع الإمام (عليه السّلام) صوته وهو يتسلّى بتلاوة قول الله تبارك وتعالى(٣) :(( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )) (٤) .

سمع الجميع تلاوة الإمام الحسين (سلام الله عليه)، سمعوا حقيقة كون علي الأكبر ممّن اصطفاه الله سبحانه وارتضاه، وأنه ماضٍ إلى حيث أداء حقِّ الاصطفاء، وحقّ المسؤوليات في ظل العز والإباء.

____________________

(١) الفتوح ٥ / ٢، ٧ / ٢٠٨، ومقتل الحسين (عليه السّلام) - للخوارزمي ٢ / ٣٠ بتفاوت لفظي.

(٢) المصدران نفساهما.

(٣) المصدران نفساهما.

(٤) سورة آل عمران / ٣٣ - ٣٤.

٤٣

محاولة اُمويّة لاستمالته

ساد في العصر الجاهلي البائد صراع وخراب أدى إلى سفك الدماء وإراقتها دونما حساب؛ وذلك بفعل الروح العشائريّة والعصبيّة القبليّة، وقد اشترك في تلك الحروب والمعارك أفراد وجماعات لا ناقة لهم فيها ولا جمل كما يقول المثل. فلا يتأخّرون عن إشعال نار معركة لأدنى سبب تافه وصلة قربى رخيصة، ولربما كانت صلة مصطنعة وهمية أو مجرد استلحاق لا غير.

ويكفينا أن نتذكر أدوار زياد بن أبيه ومهامه الإجراميّة الشنيعة عقيب استلحاق معاوية له بأبيه صخر بن حرب (أبي سفيان)؛ إذ أضحى زياد بن أبي سفيان، وصار أبو سفيان والد زياد بالاستعارة، فكان عليه أن يؤدّي حق النسب والرحم، وقل: حق الاستلحاق والرابطة الوهمية.

وقد جرّت على الاُمّة ويلات ومآسي نتيجة لوهم النسب هذا، ونتيجة لتمكين معاوية لزياد من رقاب المؤمنين؛ فالمعاني الجاهليّة التي عادت لتسود في زمن بني اُميّة كان لها الأثر البالغ في صنع كثير من الأحداث، وفي حرب أهل الحق وآل الرسول (صلّى الله عليه وآله).

ويحدث أحياناً استمالة بعض العناصر من طرف ما إلى طرف آخر من هذا المنطلق، ووفق منطق الصراع القبلي، فما أن يُلاحظ وجود عناصر أو عنصر واحد له صلة رحمية حتّى يعرضوا عليه منطق حمية الجاهليّة. وقد أشرنا إلى أنّ جدّة علي الأكبر لأمهِ، وهي ميمونة، من بني اُميّة؛ (ولهذا دعاه أهل الشام - حسب قول البخاري - إلى الأمان، وقالوا: إنّ لك رحماً بأمير المؤمنين يزيد بن معاوية. يريدون رحم ميمونة بنت أبي سفيان)(١) .

وهذا ما أشار إليه الزبيري، ولم يقل: أهل الشام، أو أن القائل هو شامي، وإنما عراقي: (وكان رجل من أهل العراق دعا عليّ بن الحسين الأكبر إلى الأمان، وقال له: إنّ لك قرابة بأمير المؤمنين - يعني يزيد بن معاوية - ونريد أن نرعى هذا الرحم، فإن شئت أمنّاك)(٢) .

وثمة شيء آخر وهو أن قائد الجيش عمر بن سعد بن أبي وقاص من اُمٍّ اُمويّة، وهي أخت ميمونة، أي من بنات أبي سفيان(٣) .

فللنسب والرحم سلطان على نفوس الناس، يسوقهم حيثما اشتهى مَن بيده زمام اللعبة، كسلطان الطائفيّة اليوم في السياسة الدولية المعاصرة؛ حيث إنّ السُّني أو الشيعي، ثمّ المسيحي أو اليهودي، أو مَن له أدنى رابطة بأيٍّ من تلك الطوائف يمكن أن يُسخّر ويستغل ويستخدم، وهو ما نلاحظه ونلمسه لمس اليد.

٤٤

ولأنّ سلطان العصبيّة مستحوذ على الاُمويِّين وأذنابهم من الشاميِّين والعراقيِّين، ولأنّ سطوة القبلية مهيمنة عليهم، برزت اُطروحة حمية الجاهليّة بلا حياء ولا خجل، وعُرضت على علي الأكبر ظناً منهم بجدواها، وقد كانوا من البلادة والغباء بحيث قارنوا أفذاذ الاُمّة كعلي الأكبر بأنفسهم هم شذّاذ الآفاق ونبذه الكتاب، ونسوا أن علياً ونظائره لا يستجيبون لتلك الدعوات حتّى وإن بلغ السيل الزبى.

فما [هو] موقف علي من تلك الاُطروحة وذلك العرض؟

لا بدّ أن ندرك بأنّ العرض هذا رخيص، وعليٌّ يتجاوب مع العرض الثمين النفيس الذي يكون أقل ما يدفع له الجسد والروح. وقد سبق له أن استجاب لعرض لا يدانيه عَرض آخر، لم يقدّمه شامي ولا عراقي، عرض ليس من أجل يزيد والرحم، وإنّما قدّمه رجل آخر، وأي رجل ذلك الذي هز مهده جبرائيل، سبط المرسلين ونجل سيد الوصيِّين، وابن الصديقة الطاهرة سيدة نساء العالمين!

أي رجل هذا وأي عرض يحمل! إنّ هذا الرجل بذاته وعظمته يكفي قبل أن يقدّم ما عنده من عرض مبدئي؛ فهو بذاته عرض رسالي نفيس لا يقاس.

أجل إنّ لعلي الأكبر عهداً ووعداً بالمصادقة على ميثاق وقّعه حول ما قُدّم له، حيث اُطروحة الحسين الحرة؛ ولهذا أجاب أهل العرض الرخيص بجواب حدي بقوله: لقرابة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أحقّ أن تُرعى(٤) . ثمّ هجم عليهم.

فلا رحم ولا قرابة أقدس ممّا وصّى القرآن بها وحرص بشدة عليها، فأي يزيد، أم أية رحم اُمويّة هذه؟! (لقرابة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أحقّ أن تُرعى من قرابة يزيد بن معاوية. ثمّ شد عليهم)(٥) .

____________________

(١) كتاب سر السلسلة العلوية - لأبي نصر البخاري / ٣٠، وهو من أعلام القرن الرابع للهجرة، حقق كتابه السيد صادق الصدر - طبعة النجف الأشرف.

(٢) كتاب نسب قريش - للزبيري / ٥٧، وهو من أعلام القرن الثالث للهجرة، حقق كتابه المستشرق أفرنستال.

(٣) وسيلة الدارين - للزنجاني / ٢٩٢.

(٤) نسب قريش - للزبيري / ٥٧.

(٥) سر السلسلة العلوية - للبخاري / ٣٠.

٤٥

وبهذا فقد قابل علي منطق الجاهليّة الرعناء بمنطق الرسالة والقرآن العظيم:( قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (١) .

وأعظم ما في الموقف أنه لم يقل لهم: إنه أبي وأنا ابنه فعليَّ أن اُدافع عنه، ولم يذكّرهم بأنه سليل الرسول ولهذا يراعي رحمه وصلته بالهاشميِّين، وإنّما كان جوابه جواب المؤمن بالرسالة، وحتمية حفظ قربى الرسول.

وقد يكون مستساغاً أن يعلن كونه يراعي نسبه المقدّس، ولم يعلن ذلك، وإنما قرّر بصيغة جوابه الواجب الشرعي على كلِّ فرد مسلم كأمر مفروض لا محيص عنه ولا مناص منه؛ فقرابة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أحق أن ترعى، لا لأنها مجرد قرابة الرسول (صلّى الله عليه وآله) [ فحسب]، وإنما لأنها قد اُنيطت بها الرسالة والدين الحنيف.

أخيراً كان علي في غنى عن تلك البادرة البليدة؛ لأنه أسمى من تلك العروض التافهة، لكن العدو كان مضطرب العقلية مرتبك الموقف. كما أننا في غنى عن الوقوف الطويل هنا لولا الحاجة الماسّة للتأكيد البياني على الأخلاق الجاهليّة، والقيم والمثل الجاهليّة التي حورب بها الإمام الحسين وآله وأنصاره (عليهم السّلام)؛ من حيث عورضت بها الرسالة من قبل، وحورب بها مسبقاً جدّه الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله).

____________________

(١) سورة الشورى / ٢٣.

٤٦

الفصل السابع

المجاهد العنيد

الجولة الاُولى

وامتشق حسامه المهنّد من غمده، ونزل مخترقاً صفوف العدو المتكبّر، فراح الأكبر في كبرياء العزِّ يضرب الأجلاف، ويجندل الجبناء، ويحصد بهم فيوقع أكبر الخسائر في أوساطهم. راح يضربهم فوق الأعناق ويضرب منهم كل بنان.

ظهر تأثيره عليهم حينما دخل دائرتهم وأخذ يخوض في وسطهم العسكري ليمزّق جمعهم، ويفرّق صفوفهم، ويشتت شملهم الشريد؛ فقلب وقوفهم وحالة سكونهم إلى حركة دائمة، وركضٍ وهروبٍ فهزيمة، فالرجل مَن إذا هرب نجا.

وغاب شخص علي الأكبر بينهم غياباً تاماً يتجلى للعيان بما يلعبه فيهم ويؤثر عليهم، فلا يظهر منه غير نشاطه المتمثل بهز العسكر وزعزعة الجيش؛ إذ كان نزاله المسلح بكلِّ طاقاته وقدراته ممّا أعيا الفرسان المدجّجين والكماة الناصبين، واستمر في فعالياته البطولية يخرق الصفوف ويتحدّى السيوف.

نزل فيهم نزول الأسد الجريح، وخاض بهم خوضاً لم يشهدوا له مثيلاً قط؛ فما يترك كتيبة إلاّ وعاد إليها، وما يلبث أن يرجع لمن فرّقهم بسيفه الصقيل، مضى يتصرف بهم حسبما يريد، وقد عجزوا عن وضع حدٍّ له وإيقاف قواه التي تواصل استعراضهم فتكيل لهم الضرب، وتنزل بهم الخسائر الجسيمة؛ (ولهذا حرصوا على أن ينتقموا منه بعد قتله؛ وذلك بتمزيق جسده).

حتّى إذا ما جهلوه، وظنوا أنه علي بن أبي طالب (عليه السّلام) قد خرج إليهم؛ لأنهم لم يصدّقوا أنّ هذه الحملات الشجاعة لغيره، طفق يكشف لهم عن هويته المقدّسة واسمه الشريف كما قيل عن سبب اُرجوزته التالية.

أو أنه أراد توضيح شخصيته ومهمّته المنوطة به، فبادر معلناً لهم، وهو ما زال ماضياً بعزم لا يلين، ينشدهم اُنشودته الخالدة واُرجوزته المجيدة:

٤٧

أنا عليُّ بنُ الحسين بنِ علي

نحنُ وربِّ البيت أولى بالنبي

تالله لا يحكمُ فينا ابنُ الدعي

أضرب بالسيف اُحامي عن أبي

ضربَ غُلامٍ هاشميٍّ علوي(١)

أعلن لهم أنه نجل الحسين حفيد أمير المؤمنين علي (عليهم السّلام)، كما أعلن رفضه لحكم الطلقاء وسياسة إدارة الأدعياء، فلا وفاق عليها مهما بلغ الثمن،(تالله لا يحكمُ فينا ابنُ الدعي).

أبلغهم أنه سيواصل سيره بسيفه المصلت فوق رؤوسهم، ذاباً عن الدين الحنيف، ومحامياً لأبيه سيد الاُمّة. نبّههم أن صرامته وتصلبه وضرباته الفتّاكة لها ما وراءها من رصيد هاشمي؛ فقوة ضربته وعزيمة ساعده، وتحمّله لمشاق المعارك وهول الحروب إنّما له أصالته، بدءاً من هاشم خير الكيان القرشي. تلك المعاني السامية والإيحاءات الجدية تصك أسماع الأعداء، وهو يكرر اُنشودته ويكرّ عليهم كرّات جدِّه الكرار، فلا يعرف أي معنى للفرار.

(فلم يزل يقاتل حتّى ضجّ أهل الكوفة لكثرة مَن قُتل منهم، حتّى روي أنه على عطشه قتل مئة وعشرين رجلاً)(٢) .

____________________

(١) الإرشاد - للشيخ المفيد، وغيره كالمقتل للخوارزمي، وأعيان الشيعة، وفي الفتوح بعض الزيادة عن هذا، وفي الطبري والكامل نقصان عنه، وهكذا بتفاوت جلي.

(٢) مقتل الحسين (عليه السّلام) - للخوارزمي ٢ / ٣٠، وفي الفتوح ٥ / ٢٠٩ جاء (فلم يزل يقاتل حتّى ضجّ أهل الشام من كثرة مَن قُتل منهم، فرجع إلى أبيه وقد أصابته جراحات كثيرة)، بمعنى أن ثمة تسليمٌ بوجود بعض الشاميِّين.

لم يفت في عضده العطش، بل حتّى الجراح المعضلة، يسمو، يحدق فيهم متعالياً فوق الجواد الناهض، وإذا ما تحاوموه بجمع وكتائب يردّهم ويجبرهم على التقهقر والنكوص قسراً.

يرمي الكتائبَ والفلا غصّت بها

في مثلها من بأسه المتوقّدِ

فيردّها قسراً على أعقابها

في بأس عرنينِ العرينة ملبدِ

وما همّ بالعجز، وهو شامخ على صهوة جواده بجراحه الدامية المتدفقة دماً عبيطاً، حتّى إذا زاد ألم العطش وأخذ منه مأخذاً إلى جانب الجراح والدماء السائلة، رجع وهو يأمل أن ينال شربة من الماء لو وصل إلى المخيّمات.

٤٨

العودة المؤقتة

وعاد ولكن ليرجع، عاد كيما يعود إليهم؛ إذ توعدهم، ثمّ إنّه على موعد مع الله سلفاً، موعد لا يخلفه في مكان وزمان سوى، غير أنه الآن عطشان لحدٍّ قد يمكّن العدو منه، فهو ظمآن إلى درجة تفقده الرؤية الجيدة، فلا يرى الأوباش ولا يميّز الأشياء.

عاد.. عاد وهو يحمل رأس أحد فرسان الاُمويّة المدعو بكر بن غانم الذي تحدّى عليّاً وصمم على قتله بقوله: لأثكلن أباه. لكن علي الأكبر تلقّاه فبارزه حتّى صرعه وأرداه، وحمل رأسه وهو يحس بالجهد الشديد الوطأة، فوصل المخيم الحسيني وقد رمى بالرأس وهو يردد:

صيدُ الملوكِ أرانبٌ وثعالبُ

وإذا برزت فصيديَ الأبطالُ

هذا ما جاء في رواية، بينما أجمعت الروايات حول عودته المؤقّتة على جفاف حشاشته، ويبوسة فمه، وذبول شفتيه، حتّى بلغ لسانه أقصى حدود الذبول بعظم الظمأ الذي ناله.

فهل كان متيقناً أو معتقداً حصوله على جرعة ماء يطفي بها لهيب العطش؟ فحن نقرأ له كونه طلب من أبيه شربة من الماء: يا أبه، العطش قد قتلني، وثقل الحديد قد أجهدني، فهل إلى شربة من الماء سبيل أتقوى بها على الأعداء(١) ؟

فترقرقت واغرورقت عينا أبيه.

وأي سبيل هذا يا سيدي، أم كيف؟! ليت شعري! أومَا يرى عليٌّ حال أهله وذويه، ويبوس حتّى شفتي أبيه، وإنّ فاقد الشيء لا يعطيه؟!

وكأني به يجيب فيقول: أجل، وهو كذلك، فأنا أدرى بسر الحال، ولكن الأمل.. إنه الأمل في إطفاء غائلة الظمأ.

إنّه يعلم جيداً، بيد أنّ أمله كان قويّاً، وأراد أن يقتنع أو يقنع نفسه فقط؛ فهي حالة نفسيّة ألحّت عليه بالعودة، وإلاّ فالماء غير موجود،( إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قضاها ) (٢) .

وهذا الحدّ الأدنى من أمل الارتواء النسبي لم يتحقق؛ ولذا دمعت عينا أبيه الحسين (عليه السّلام)، ولا أدري كيف دمعت وسالت الدموع حينما أجاب الأب العطشان ولده بقوله:(( وا غوثاه! ما أسرع الملتقى بجدك فيسقيك بكأسِه شربة لا تظمأ بعدها أبداً )) .

____________________

(١) الفتوح ٥ / ٢٠٩، مقتل الحسين (عليه السّلام) - للخوارزمي ٢ / ٣٠ - ٣١.

(٢) سورة يوسف / ٦٨.

٤٩

وفي رواية أنه أجابه بقوله:(( يا بُني، قاتل قليلاً، فما أسرع ما تلقى جدك محمّداً (صلّى الله عليه وآله) فيسقيك بكأسه الأوفى )) (٣) .

وعن الخوارزمي: فبكى الحسين وقال:(( يا بُني، عزّ على محمّد وعلى علي وعلى أبيك أن تدعوهم فلا يجيبونك، وتستغيث بهم فلا يغيثونك. يا بُني، هات لسانك )) . فأخذ لسانه فمصّه، ودفع إليه خاتمه وقال له:(( خُذ هذا الخاتم في فيك وارجع إلى قتال عدوك؛ فإنّي أرجو أن لا تُمسي حتّى يسقيك جدّك بكأسه الأوفى شربة لا تظمأ بعدها أبداً )) (٤) .

ثمَّ إنّه (عليه السّلام) انتزع الخاتم ليضعه عليٌّ في فمه تحت لسانه، وهذه عملية إسعافيّة قد تفيد أن للخاتم أو أي شيء بنفس حجمه دور في إثارة الغدد لتفرز ما يسعف الحال(٥) .

وبعُدَ أقلُّ القليل من الماء، فعطف ليودّع اُمّه التي روي عنها أنها كانت شديدة القلق عليه حتّى اُغمي عليها، وأفاقت ورأسها في حجر ولدها العائد من الجولة الاُولى، والذي لا بدّ له من جولة ثانية كيما ينال شرف الشهادة المقدّسة.

وراح يودّع الجميع ليواصل المسيرة الفردية المسلّحة رغم مكابدته لوطأة العطش وضنى الظمأ، وقد كتب في حالته هذه أحد الشعراء المؤمنين قائلاً فيه:

ويؤوبُ للتوديع وهو مكابد

لظما الفؤاد وللحديد المجهدِ

صادي الحشا وحسامُه ريّان من

ماءِ الطّلى وغليلُه لم يبردِ

يشكو لخير أبٍ ظماه وما اشتكى

ظمأ الحشا إلاّ إلى الظامي الصدي

كانت حشاشتُه كصالية الغضا

ولسانُه ظمأٌ كشقة مبردِ

فانصاع يؤثره عليه بريقِهِ

لو كان ثمة ريقُه لم يجمدِ

ومذ انثنى يلقى الكريهةَ باسما

والموتُ منه بمسمعٍ وبمشهدِ

لفَّ الوغى وأجالها جولَ الرحى

بمثقفٍ من بأسهِ ومهنّدِ

____________________

(١) الفتوح ٥ / ٢٠٩، مقتل الحسين (عليه السّلام) - للخوارزمي ٢ / ٣٠ - ٣١.

(٢) سورة يوسف / ٦٨.

(٣) الفتوح - لابن أعثم ٥ / ٢٠٩.

(٤) مقتل الحسين (عليه السّلام) - للخوارزمي ٢ / ٣١.

(٥) مقتل الحسين (عليه السّلام) - للسيّد المقرّم - هامش / ٣١٣.

٥٠

الجولة الثانية

-(( ما أسرع الملتقى بجدّك فيسقيك بكأسه الأوفى شربة لا تظمأ بعدها أبداً )) .

وما أروع هذا الارتواء الروحي والشربة المعنوية والجرعة المشبعة بالمعاني الجليلة، وقد عملت عملها في نفس علي الأكبر، فغدا إلى الحلبة في جولته هذه وهو أشد اشتياقاً للارتواء الأبدي بماء الكأس الأوفى لجدّه المصطفى (صلّى الله عليه وآله) من حوض الكوثر وجنة عدن! إنها لبشارة مبهجة لا يعيها أو يستوعبها فيتأثّر بها إلاّ ذوو العلم والإيمان واليقين بما ينتظرهم من نعيم الفردوس، ويفيض من على موائدها أو ضفاف أنهارها.

وتقدّم البطل العملاق العطشان، الراوي من الإيمان، وامتشق حسامه فرنّ رنينه إيذاناً ببدء فعالياته، وشقَّ الرمال معتلياً صهوة جواده الذي خلّف وراءه غبرة غليظة ممتدة، شدّ عليهم ليكتسحهم كسحاً، ويكرد جحافلهم كرداً.

(فزحف فيهم زحفة العلوي السابق، وغبّر في وجوه القوم، ولم يشعروا أهو (الأكبر) يطرد الجماهير من أعدائه، أم أنّ (الوصي) (عليه السّلام) يزأر في الميدان، أم أن الصواعق تترى في بريق سيفه، فأكثر القتلى في أهل الكوفة حتّى أكمل المئتين)(١) .

هذا وهو يؤكّد لهم بأنّ ثمة حقائق قد تجلب للحرب هذه، وهي حقائق ثابتة، ولا مجال للتفريط في حقِّ تلك الحقائق ذات البراهين والمصاديق الواضحة البيّنة على الساحة؛ فأثناء شنّهِ لحملاته صرّح لهم مؤكّداً، وباُسلوبه الجميل من خلال اُرجوزة جميلة واُنشودة ثانية جليلة كرّرها على مسامعهم بمنطقة المسدد:

الحربُ قد بانت لها حقائقُ

وأظهرت من بعدها مصادقُ

واللهِ ربِّ العرش لا نفارقُ

جموعَكم أو تُغمد البوارقُ

فبناء على تلك الحقائق وما تبعها من مصاديق عملية، فهو يواصل دورَه أبداً دون أن يترك الساحة، كيما يقوم بتدعيم المصاديق، ولن يفارق مهمته قط؛ لأنه سليل أهل الحق وسادة الحقيقة، وربّان الحقائق التي بدأت جلية على أيديهم، وواصلوا الكفاح من أجلها والجهاد خلال الصراع في خضمّ التنازع على البقاء والإبقاء، وأنه سيبقى وسيثابر على ثباته، ويكرّر وثباتهِ بتحدٍّ وصرامة وغلظة،(واللهِ ربِّ العرش لا نفارقُ) .

٥١

فأضمروا له الكيد، وبيّتوا له المكر؛ إذ أوغر صدورهم وملأها رعباً، وقلّل من شأن شجعانهم، مستصغراً فرسانهم. مضى بلا ملل يؤدي أعماله في ضوء أقواله، ويحقق منطق اُنشودته الخطيرة، وليبرّ بقسمه براً لا حدّ له عبر صولاته المحمدية، صولة إثر صولة وسط الحلبة في آخر جولة، زاحفاً زحفه الجهادي، باطشاً بطش الأسد الغاضب.

ويكاد ينهار البطل العقائدي العطشان؛ فقد تقاسمت طاقاته كلٌّ من التعب والإرهاق، والظمأ الشديد، والجراح التي توزّعت على جسده الشريف، فأخذ الدم يتدفق وينساب من جراح جسمه كالميزاب، لكنه ظل شامخاً بجراح جسده، يقاتل قتالاً شديداً؛ إذ بلغت فيه روح التفاني حدّ الاستهانة بالدنيا واستصغار شأن الحياة. قتال مَن ليس لسلامته أدنى أمل.

وعلى هذا الأساس ومن هذا المقياس عليك أن تتأمّل وتحسن تقدير موقف هذه الشخصيّة الشابة، الشخصيّة العقائدية العملاقة؛ فالتضحية من أجل القضايا العادلة، والثبات الدائم، والمثابرة والتوثب على العدو ممّا لا غنى عنه؛ إذ إنّ الصمود قوة نستمدها من الصامدين، والصبر نستلهمه مفهوماً حركياً لا مفهوماً انهزامياً، مفهوماً إيجابياً حساساً لا سلبياً رديئاً. والصبر مفهوم حركي علينا أن نستلهم من رواده أبعاده ومراميه، ومنهم نحدد معانيه.

ما برح علي يجول في أوساط معسكرهم يلقّنهم أقسى الدروس، ولا يكادون يحددون له ساحة أو موقعاً كيما يضيقوا عليه حتّى يوسعها عليهم بشنّه للهجمات. وشاهد بعضهم جسده الذي سالت منه الدماء كل مسيل، فأدركوا أنه قد ضعف عن القتال أو يكاد، ولاحظوا وهم في رعب وذعر وانهزام أنه قد يجفّ جسده من الدم كما جفّ من الماء، وعندها سيشفون به صدورهم الموغرة.

____________________

(١) مقتل الحسين (عليه السّلام) - للمقرّم /٣١٣.

٥٢

الانتقام

(عليَّ آثام العرب، إن مرّ بي وهو يفعل مثل ما كان يفعل إن لم أثكله أباه)(١) .

هذا ما قاله أحد المرتزقة في معسكر العدو، وقد التاع وتعذّب من شدة حملات علي الأكبر وصولاته، حتّى بلغ من البغض له والحنق عليه والحقد بحيث صمّم على التصدّي لهذا المجاهد العطشان.

ولا شك أنّ هذا المرتزق قد ذاق أنواع العذاب من هروب وهزيمة وجبن من سيف علي الأكبر، ولكنه حينما لاحظ تعب عليّ وإرهاقه تجرّد من جبنه، واستجمع جرأته، وقال قولته تلك. إنّه المدعو (مرة بن منقذ بن النعمان العبدي) الذي تتضح روحه الجاهليّة من كلماته ومنطقه: (عليَّ آثام العرب...).

والحق أن آثام العرب يستحقها، وهي عليه وهو بمستواها؛ إذ إنه كاره ومعادٍ وقاتل لأشبه الناس بسيد العرب والعجم. وبالرغم من المنطق القرآني الناهي لمثل ذلك المعنى:( وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) (٢) نجد أن ذلك الجندي الجاهلي مصمم على تحمّل أوزار العرب، مع أنه مستوزر كثيراً من الأوزار.

وهكذا أحب أن يحمل على ظهره هو ومَن على شاكلته أوزاراً ثقيلة لا طاقة لهم ببعضها،( وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ ) (٣) .

ولولا العار عليه من قبل رفاقه لصمّم ولأقسم باللات والعزى ومناة الثالثة الاُخرى، لكن صيغة تصميمه تلك أقل كشفاً لمضمونه الجاهلي كما يتوهم. وعلى كلِّ حال فإنّ الأهداف والدوافع الدفينة قد انكشفت، وتكشّفت عن الحرب الجارية هذه حقائق لم تخف أو تنطمس.

الحربُ قد بانت لها حقائقُ

وأظهرت من بعدها مصادقُ

ولكي لا نهمل النص السابق علينا أن نلاحظ ما فيه، ونرى ما يمكن أن نستوحيه. قال: (... إن مرّ بي)، كما قال: (... وهو يفعل مثل ما كان يفعل).

٥٣

يبدو جليّاً أنّ علياً كان لا يترك لهم جمعاً إلاّ ومر به، ولا كتيبة إلاّ وهاجمها، وكأنه كان يستعرضهم بحملاته استعراضاً عسكرياً مرعباً، بحيث إنّه ما إن يترك كتيبة إلى غيرها حتّى يعود إليها وإلى غيرها، وهكذا دواليك بنشاط منقطع النظير، بحيث إنهم يتوقعون معاودته وكرّته عليهم ثانية؛ لهذا توقّع ذلك الجندي فقال (... إن مرّ بي).

ويبدو أنه كان يفعل بهم فعلاً لم يشهدوه طوال حياتهم العسكرية من شاب مسلّح بمفرده؛ فكان استعراضه للجيش رهيباً. إنّ مرّة العبدي لاحظ حرص علي الأكبر على تلقين جموعهم دروساً قاسية، وتعليم جحافلهم حقائق بطولية رساليّة لا تنسى. لاحظ حرصه على عدم إهمال أي كتيبة دون أن يطعمها بالقتلى والجرحى، ويختم لها بالهزيمة المنكرة؛ فحقد حقداً قوياً. (عليَّ آثام العرب، إن مرّ بي وهو يفعل مثل ما كان يفعل إن لم أثكله أباه).

فانتظر دور الكرّة العلوية على كتيبته الاُمويّة، وقد نزع منه لباس الهروب والهزيمة، وكأنه نسي أنه جبان جلف جافٍ، فراح يتربص ويلتمس الفرص ليطعنه ولو عن بُعد منه، وبينما كان الشجاع العطشان يستعرضهم رغم ضعف بدنه ذي الجراح المثخنة المكثفة، ويزحف على جموعهم بالتتابع، كأنما هو زحف منتظم.

وبينما كان يشق طريقه مقاتلاً بقواه الباقية، دنا الجندي المرتزق فتأهّب مستجمعاً جرأته على الله ورسوله، وجسارته على الحقائق، مسدداً رمحه الطويل في ظهر عليٍّ(٢) (سلام الله عليه)، فغرز الرمح أو السهم فيه، فانحنى عليٌّ على جواده، ثمّ ثنّى له العدو بضربة على رأسه الشريف ففجّه، حينها أطلق علي الأكبر صوته بالسلام على أبيه: يا أبتاه! عليك مني السلام، هذا جدّي يُقرئك السلام ويقول لك:(( عجّل القدوم إلينا )) . ثمّ شهق شهقة فاضت إثرها روحه الزكية.

لكنهم لم يتركوه، فثمة دور ومهمة لهم، ترى ماذا فعلوا به وبجسده الذي أذاقهم مرّ طعم المواقف المسلحة؟

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣٤٠.

(٢) سورة الأنعام / ١٦٤.

(٣) سورة النحل / ٢٥.

(٤) وفي كتاب اللهوف - لابن طاووس أنه سدد له سهماً قائلاً...

٥٤

الفصل الثامن

الشهيد

المنتقمون

ما إن تناهى إلى مسامع أبيه الحسين (عليه السّلام) صوتُ حبيبه وسلامُ ريحانته حتّى طفق نحو الساحة معتلياً جواده، كأنه في سرعته طائر ينقضّ من علو الفضاء. ولكن بأي حال وجده، أم بأي وضعية رآه! لقد وجده جسداً ممزّقاً، مبعثر الأشلاء، متناثر الأعضاء، تتدلى بعضُ أوصاله من جانبي جواده الذي كساه الدم الزاكي حلة حمراء، هكذا تركوه!

فلم يتركوه إلاّ بعد أن مثّلوا به سريعاً؛ إذ احتوشوه من كل جهة، وما أسرع ما وضعوا سيوفهم وحرابهم وسكاكينهم ليقطّعوه تقطيعاً، ويمزّقوا جسمه تمزيقاً؛ ليشفوا غيظ صدورهم، ويرووا حقد قلوبهم ممّا أدخله عليهم من عذابٍ دنيوي هذا الشاب العطشان الشجاع الذي شكّل جيشاً يقابلهم بمفرده، وعسكراً لوحده، وأُمّة بذاته.

كان (سلام الله عليه) صلباً صابراً في البأساء، شديداً في الله، غليظاً على الأعداء؛ الأمر الذي يفسّر شوق ابن العبدي للانتقام منه، ثمّ أشواق اُولئك المرتزقة الذين آلوا إلاّ أن يشبعوا غريزة الانتقام، وكان كل منهم أراد أن يتبرّك بجسده، ويتزلف للشيطان بطعنه وغرز حربته بعضو من أعضائه الشامخة التي أذاقتهم مرّ الحياة، وحنظل المواقف العسكرية.

ولولا مجيء الإمام الحسين (عليه السّلام) لأكلوه، لأكلوا كبده وقلبه، وما يدريك؟ ولِم العجب؟! ألم تلك (آكلة الأكباد) هند الاُمويّة كبد عمّه حمزة الذي كان يجول في بطحاء الجزيرة؟! أجل لولا إسراع الحسين (عليه السّلام) لأتوا على أشلائه بأنيابهم فضلاً عن حرابهم، ولكان أثراً بعد عين، وتلك سجية الأجلاف.

وصل الإمام (عليه السّلام) إليه، وأخذ يطيل النظر إليه، ثمّ التحق به شباب هاشم، فأخذوا مواقعهم حول الجسد الصريع وهم يقرؤون آيات البطولة الرساليّة والعظمة على صفحات جسده وعظامه المهشّمة.

وهدأ جيش الأعداء بعد ضجيج دام خلال الجولتين، وسكن العسكر بعد اضطراب طويل؛ فتنفسوا الصعداء، وانشغل بعضهم بجرّ القتلى مع أوزارهم، ودفن الجثث البالية، فيما انشغل الجرحى بدمل جراحهم وأنين الشقاء يصدر منهم، بينما انشغل الباقي بتراشق التهم والعيوب، وكلّ منهم يعيّر صاحبه بالهزيمة، ويتبرأ كذباً من الهروب.

٥٥

الإمام الحسين (عليه السّلام) مع أشلاء الشهيد

لا نفهم لماذا وضع الإمام (عليه السّلام) خدّه على خدِّ ولده المجاهد العظيم؟! وبالأحرى نحن لا نفهم ما رتّله الإمام (عليه السّلام) وتلاه حينذاك، فلم ندرك سر هذا الإجراء الذي لا يخلو من معنى. غير أننا نفهم بأنّ الآلام قد ألمّت بالإمام نتيجة التنكيل وشدة الانتقام بهذا الجسد الشريف، وقد ضاق به مشهد ولده سليل المصطفى (صلّى الله عليه وآله)؛ فهو عبارة عن أشلاء موزّعة وأعضاء مقطّعة.

ثمّ تزداد حسرات الإمام وآهاته لما يدركه عميقاً من منزلة لهذا القتيل، ومن شأنٍ وحرمةٍ عند الله وعند رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؛ لذلك تمتم:(( قتل الله قوماً قتلوك يا بُني، ما أجرأهم على الرحمان وعلى انتهاك حرمة الرسول! على الدنيا بعدك العفا )) (١) .

فصغرت الدنيا بعين الإمام (عليه السّلام)، ثمّ إنّه قال وآثار الشجون قد تجلّت على سحنته الشريفة:

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣٤٠، واللهوف / ٤٤، وابن الأثير ٣ / ٢٩٣.

٥٦

(( أمّا أنت يا ولدي فقد استرحت من همِّ الدنيا وغمِّها، وسرت إلى رَوحٍ وريحان وجنّة ورضوان، وبقي أبوك لهمِّها وغمِّها، فما أسرع لحقوه بك! )) .

ونزلت بالحسين (عليه السّلام) آلام ظهرت معالمها على كيفية قيامه من الأرض، كأنه العجوز المتعب، وظهرت معالمها حينما اعتذر من حمل ولده بنفسه؛ فطلب من الشبيبة الهاشميّة أن تتبنى حمله؛ لأنه قد صرّح:(( والله، لا طاقة على حمله )) (١) .

قام الحسين (عليه السّلام)، ونهض الشباب الهاشمي وقد حملوا الشهيد العظيم، قام الحسين (عليه السّلام) وهو مختنق بعبرته، يحبس حسراته وآهاته في صدره، قام وهو يكفكف بقايا دموعه محتسباً صابراً.

وأخذ يطيل النظر إلى الشهيد المحمول، فكما تابعه حينما خرج للحرب وودّعه يتابعه الآن بطرفه، ويلاحقه بالنظر إلى جثمانه الممزّق وهو يقطر ويسيل دماً، تحمله أكفّ الشباب بمطارف حمراء ناقعة بالدم، شباب لا يخيفهم الموقف ولا يرهبهم المنظر، كما لا يخشون نفس المصير الذي آل إليه هذا المحمول.

شباب ينتظرون مهامهم وأدوارهم، يتنافسون ويتسابقون وكأنما هم يتسلّون، وفي الحلبات يمرحون، وكأني بهم لا يحملونه فحسب، بل يحملون الثأر له ولمَن سبقه، يحملون فكره وعقيدته.

وإذ هم يضعونه في مخيم الشهداء فلا ليبقوا معه؛ هم جاؤوا به لا ليجلسوا حوله، وإنّما لكي يواصلوا دوره، أو يجدّدوا صولاته في الميدان. وفعلاً كانوا يحملونه ليرجعوا، ولولا الأوامر الحسينيّة بحمله إلى المخيم لما عاد الشباب المؤمن العقائدي إليها، ولباشروا وشهروا السيوف من هناك؛ ذلك لأنّ الشهيد عندهم يغري الآخرين بالشهادة ولا يخيفهم منها، يشوّقهم ويجعلهم يتلهفون لها ولا يرهبونها.

تبقى في ذهن الحسين (عليه السّلام)، هذا الأب الكبير، ذكرى ولده علي الأكبر، ويبقى في تصوره صوتُ علي، وصورةُ علي، ومنطقُ علي، وخلقُ علي، ومجملُ مواصفات النبي (صلّى الله عليه وآله). وإذ كان هو ذكرى الرسول (صلّى الله عليه وآله) ومنعكس صورة النبي، فقد فقده وفقدوه جميعاً.

٥٧

ويتذكّر الأب العظيم علويّات ولده ومحمديّات ابنه، أقواله الصارمة وكلماته الصلبة الكثار التي لا نملك منها إلاّ أقل القليل. يتذكّره جيداً وهو أدرى بما قاله ولده بمنطقه الجميل واُسلوبه الجليل؛ فهو يتصوره متكلماً مرة:

- لَقرابة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أحق أن ترعى.

-نحن وربِّ البيت أولى بالنبي .

- يا أبه، أفلسنا على الحق؟

- إذاً لا نبالي بالموت.

-والله لا يحكم فينا ابن الدعي.

-الحرب قد بانت لها حقائقُ.

- يا أبتاه! عليك مني السلام.

آه! ذكريات أيام وساعات مضت،(( جزاك الله يا ولدي خير ما جزى به ولد عن والده )) ،(( ما أجرأهم على الرحمان وانتهاك حرمة الرسول! )) .

____________________

(١) وسيلة الدارين / ٢٩١.

٥٨

آثار المصرع

تناهى إلى مسامع الفاطميات خبرُ مصرع علي الأكبر، ووصول جثمانه الموزّع والمقطّع بالحراب والأسنّة، فكان للحادث وقعه العميق على النساء المخدّرات، وأي وقع أم أي عمق وهنّ ينظرن إلى شبيه جدهنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) محمولاً وقد فارقت روحه الطاهرة جسده الزكي! هذا الذي كنّ يجدن أسعد ما هنّ فيه ساعات اللقاء به والتحدث إليه، وإذا به قد آثر الصمت والرحيل إلى حيث لا عودة أو رجوع.

إنّه لَمصاب جليل على أُمّه، أخواته، عماته، وأعظمهن مصاباً عمّته الكبرى عقيلة بني هاشم، حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) الحوراء زينب (عليها السّلام)؛ إذ التاعت ألماً، وازدادت أسىً وتفجّعاً، وقيل: إنّها خرجت تندبه وتنادي باسمه.

فعن أبي جعفر الطبري، عن شاهد عيان - حميد بن مسلم الأزدي - جاء هذا القول: وكأني انظر إلى امرأة خرجت مسرعة كأنها الشمس الطالعة، تنادي يا: أُخيّاه! ويابن أخاه! قال: فسألت عنها، فقيل لي: هذه زينب ابنة فاطمة ابنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)(١) .

زينب التي إذا خرجت هرعت خلفها النساء من داخل خدورهنّ وخيامهنّ، وإذا قالت قلن معها، وإذا سكتت سكتن، وإن عادت عُدن؛ اقتداءً بها، ومواساةً لها، وهكذا بدأ رثاء المجاهد الكبير الشهيد العظيم.

ولمّا كان موكب النسوة يولّد موقفاً سلبياً؛ لأنه سيُشمت الأعداء، ويسرهم ويبهجهم، ولمّا كان الإمام الحسين (صلوات الله عليه) شديد الحرص على ألاّ يدخل السرور على الأعداء، وألاّ يشمتوا بأهل الحق، فقد رأى أن ترجع جميع النساء فوراً، ولكن من يستطيع إرجاعهنّ، أو يقدر أن يسيطر على موقف العواطف المتدفقة ساعات الأسى العميق واللوعة الكبيرة؟!

فمن الصعب أن يصغين لدعوة الرجوع من أحد سوى الإمام الحسين (عليه السّلام) الذي وجد في شقيقته الحوراء زينب أوّل من ينبغي أن تعود؛ لأنّ الباقيات الصالحات سيتبعنها بالتأكيد. فأخذ الإمام (عليه السّلام) بيدها وأرجعها إلى الخيمة(٢) .

ورجعن جميعهن إلى خيامهن كسرب طيور تؤوب إلى أوكارها، رجعن كيلا يشمتن الأعداء، فلم يظهر منهنّ صوت حزن عالياً، لا سيما ولهنّ فيما بعد أوقات طويلة للبكاء والنحيب، يروّحن بها عن أنفسهن، وجراح صدورهن، وتصدعات قلوبهن، وهو ما أشار إليه الإمام (عليه السّلام) ورجاهنّ الصبر:(( أن اسكتن؛ فإنّ البكاء أمامكن )) .

٥٩

أو كما كلّم ابنته وحبيبته السيدة سكينة فيما بعد، فمما قال لها:

سيطولُ بعدي يا سكينة فاعلمي

منك البكاءُ إذا الحمام دهاني

أجل هكذا، فنحن لا نطالب النساء مهما كان إيمانهن كبيراً، وحتّى نسائنا اليوم أن لا يبكين ويندبن ويرثين؛ فهو أمر لا مفرّ منه. وهل نريد منهنّ أن يتحملن الألم، ألم فقدنا ثمّ يسكتن؟!

إننا نطالبهن بأن يقدّرن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن لا ينهين الإخوان والأبناء عن المعروف، ويثبطنهم عن العمل والسعي في سبيل الله، كما نطالب من يبرّر قعوده عن الجهاد من أجل إعلاء كلمة الله بثكل اُمّه وتدهور أحوال أهله أن يقلع عن هذه الشيطانيات، ولا يكون أسير الشيطنة، رهين ضيق الاُفق.

فلتبك النساء، ولتمت الاُم والاُمّهات، وتلتاع الأخوات، كل ذلك مع سفك الدم والتضحية بالروح بعد كمال الفداء والتفاني من أجل مبادئ الإسلام الخلاّقة.

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣٤١.

(٢) مقتل الحسين (عليه السّلام) - للخوارزمي ٢ / ٣١ وغيره.

٦٠