مقتل العباس (عليه السلام)

مقتل العباس (عليه السلام)15%

مقتل العباس (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 394

  • البداية
  • السابق
  • 394 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 77229 / تحميل: 11576
الحجم الحجم الحجم
مقتل العباس (عليه السلام)

مقتل العباس (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

٨ - واُمّها بنت جحدر بن ضبيعة الأغر بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن ربيعة بن نِزار.

٩ - واُمّها بنت ملك بن قيس بن ثعلبة.

١٠ - واُمّها بنت ذي الرأسين: وهو خشين بن أبي عصم بن سمح بن فزارة. وفي القاموس: خشين بن لاي(١) . وفي تاج العروس: لاي بن عصيم(٢) .

١١ - واُمّها بنت عمر بن صرمة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن الريث بن غطفان.

هذا ما ذكره أبو الفرج في المقاتل(٣) من جدّات اُمّ البنين والدة العبّاسعليه‌السلام ، ومنه عرفنا آباءها وأخوالها، ويُعرّفنا التاريخ أنّهم فرسان العرب في الجاهليّة، ولهم الذكريات المجيدة في المغازي بالفروسيّة والبسالة، مع الزعامة والسّؤدد حتّى أذعن لهم الملوك، وهم الذين عناهم عقيل بن أبي طالب بقوله: ليس في العرب أشجع من آبائها(٤) ولا أفرس.

وذلك مراد أمير المؤمنينعليه‌السلام من البناء على امرأة ولدتها الفحولة من العرب؛ فإنّ الآباء لا بدّ وأنْ تُعرف في البنين ذاتيّاتها وأوصافها، فإذا كان المولود ذكراً بانت فيه هذه الخصال الكريمة، وإنْ كانت اُنثى بانت في أولادها، وإلى هذا أشار صاحب الشريعة الحقّة بقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« الخالُ أحدُ الضَّجيعين؛ فتخيَّروا لِنُطفكُمْ » (٥) .

____________________

(١) القاموس المحيط ٢ / ٢١٨.

(٢) تاج العروس ٨ / ٢٩٨، ولا خلاف بينهما بعد المراجعة.

(٣) مقاتل الطالبيين / ٥٣.

(٤) عمدة الطالب لابن عنبة / ٣٥٧.

(٥) الكافي ٥ / ٣٣٢، ح٢، والحديث:« اختاروا لِنُطفكُمْ؛ فإنّ الخالَ أحدُ الضَّجيعين » .

١٢١

وقد ظهرت في أبي الفضلعليه‌السلام الشجاعتان؛ الهاشمية التي هي الأربى والأرقى، فمن ناحية أبيه سيّد الوصيّينعليه‌السلام ، والعامرية، فمِن ناحية اُمّه اُمّ البنين؛ فإنّ من قومها أبا براء عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب، جدّ ثمامة والدة اُمّ البنين، وهو الجدّ الثاني لاُمّ البنين.

قيل له: ملاعب الأسنّة؛ لفروسيته وشجاعته، لقّبه بذلك حسّان لما رآه يقاتل الفرسان وحده وقد أحاطوا به، قال: ما هذا إلاّ ملاعب الأسنّة. وقيل: إنّ أوس بن حجر قال فيه:

يلاعبُ أطرافَ الأسنَّةِ عامرُ

فَراحَ لَهُ حظُّ الكتائِبِ أجمعُ(١)

وهو الذي استعانه ابنُ أخيه عامر بن الطفيل على منافرة علقمة بن علاثة بن عوف بن الأحوص، لمـّا تفاخرا على أنْ يسوق كُلّ منهما مئة ناقة تكون لمَن يحكم له، ووضع كُلّ منهما رهناً لمنِّ أبنائهم على يد رجل من بني الوحيد؛ فسُمّي الضمين إلى اليوم، وهو الكفيل. ولما استعانه عامر دفع إليه نعليه، وقال له: استعن بهما في منافرتك؛ فإنّي قد ربعتُ بهما أربعين مِرْابعاً(٢) .

والمِرْبَاع: ما يأخذه الرئيس من ربع الغنيمة دون أصحابه خالصاً لنفسه، وذلك عندما كانوا يغزون في الجاهليّة(٣) . وهذان النّعلان من مُختصات الرئيس التي يخرج بها في الأيام الخاصّة، وإلاّ فلا مَزيّة لهما حتّى يستعين بهما على المنافرة.

____________________

(١) تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ٢٦ / ١٠١.

(٢) الأعلام للزرگلي ٣ / ٣٥٥، الإصابة ٣ / ٤٨٥.

(٣) لسان العرب ٧ / ٤١٥، تاج العروس ١١ / ١١٢.

١٢٢

ومنهم عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب، وهو أخو عمرة الجدّة الاُولى لاُمّ البنين.

كان عامر أسود أهل زمانه، وأشهر فرسان العرب بأساً ونجدة، وأبعدها اسماً حتّى بلغ أنّ قيصر إذا قدم عليه قادم من العرب، قال: ما بينك وبين عامر بن الطفيل؟ فإنْ ذكر نسباً عظم عنده وأرفده، وإلاّ أعرض عنه.

[ ومن نافلة القول أنّه ] وفد عليه علقمة بن علاثة فانتسب له، [ فـ ] قال له قيصر: أنت ابنُ عمّ عامر بن الطفيل؟ فغضب علقمة، ثُمّ إنّه دخل على ملك الروم، فقال له: انتسب. فانتسب له، [ فـ ] قال الملك: أنت ابن عمّ عامر بن الطفيل؟ فغضب وخرج عنه(١) .

ومنهم عروة الرحّال بن عتبة بن جعفر بن كلاب، والد كبشة الجدّة الثانية لاُمّ البنين. كان وفّاداً على الملوك وله قدر عندهم؛ ومن هنا سُمّي الرحّال، وهو الذي أجاز لطيمة النّعمان التي كان يبعث بها كُلَّ عام إلى سوق عكاظ، فقتله البراض بن قيس الكناني واستاق العير؛ وبسببه هاجت حرب الفجّار بين حي خندف وقيس(٢) .

ومنهم الطفيل فارس قرزل، وهو والد عمرة الجدّة الاُولى لاُمّ البنين. كان معروفاً بالشجاعة والفروسية، وهو أخو ملاعب الأسنّة وربيعة، وعبيدة ومعاوية بنو جعفر بن كلاب، يُقال لاُمّهم: اُمّ البنين. وإيّاها عَنى لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب لمـّا وفد بنو جعفر على النّعمان بن المنذر، وكان سميره الربيع بن زياد

____________________

(١) قسم من الكلام موجود في الإصابة ٤ / ٤٥٨، وخزانة الأدب ٣ / ٨٠. على أنّ الكلام الوارد بين المعقوفتين هو من أضافات(موقع معهد الإمامَين الحسنَين) .

(٢) الطبقات الكبرى ١ / ١٢٧، الأعلام للزركلي ٢ / ٤٧.

١٢٣

العبسي، فاتّهموه بالسّعي عليهم، فلمـّا غدوا على النّعمان كان معهم لبيد، وهو أصغرهم، فرأوا النّعمان يأكل مع الربيع، فقال لبيد:

يا واهبَ الخيرِ الجزيلِ مِنْ سَعَهْ

نَحنُ بَنو أُمِّ البَنينَ الأَربَعَهْ

ونحنُ خيرُ عامرِ بنِ صَعْصعهْ

المـُطعِمونَ الجَفنَةَ المـُدَعدَعَهْ

وَالضارِبونَ الهامَ تَحتَ الخَيضَعَهْ

إِلَيكَ جاوَزنا بِلاداً مُسبِعَهْ

يُخبِركَ عَن هَذا خَبيرٌ فَاِسمَعَهْ

ممَهلاً أَبَيتَ اللَعنَ لا تَأكُل مَعَهْ

إِنَّ اِستَهُ مِن بَرَصٍ مُلَمَّعَهْ

وَإِنَّهُ يُولجُ فيها إِصبَعَهْ

يُولجُها حَتّى يُواري أَشجَعَهْ

كَأَنَّما يَطلُبُ شَيئاً ضَيَّعَهْ

فلم ينكر عليه النّعمان ولا أحد من العرب؛ لأنّ لهم شرفاً لا يُدافع؛ ولذلك طرد النّعمان الربيع عن مسامرته، وقال له:

شَرّدْ برحلِكَ عَنِّي حَيثُ شئتَ وَلا

تَكثر عَليَّ وَدَعْ عَنكَ الأَباطيلا

قدْ قيل ذلكَ إنْ حقَّاً وإنْ كذباً

فما اعتذارُكَ في شيءٍ إذا قيلا(١)

____________________

(١) معجم البلدان ١ / ٣٨٦، خزانة الأدب ٤ / ١٠.

١٢٤

الزواج:

تزوّج أمير المؤمنينعليه‌السلام من فاطمة ابنة حزام العامرية، إمّا بعد وفاة الصديقة سيّدة النّساءعليها‌السلام كما يراه بعضُ المؤرّخين(١) ، أو بعد أنْ تزوّج باُمامة بنت زينب بنت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كما يراه البعضُ الآخر(٢) . وهذا بعد وفاة الزهراءعليها‌السلام ؛ لأنّ اللّه قد حرّم النّساء على عليٍّعليه‌السلام ما دامت فاطمةُعليها‌السلام موجودة(٣) .

فولدت أربعة بنين وأنجبت بهم: العبّاس وعبد اللّه، وجعفر وعثمان، وعاشت بعده مدّة طويلة ولم تتزوّج من غيره، كما أنّ اُمامة وأسماء بنت عُميس وليلى النّهشلية لم يخرجنَ إلى أحد بعده، وهذه الحرائر الأربع تُوفي عنهنّ سيّد الوصيين (ع)(٤) .

وقد خطب المغيرة بن نوفل اُمامة، ثُمّ خطبها أبو الهياج بن أبي سفيان بن الحارث، فامتنعت، وروت حديثاً عن عليعليه‌السلام : أنّ أزواج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والوصيّعليه‌السلام لا يتزوّجنَ بعده؛ فلم يتزوّجنَ الحرائرُ واُمّهات الأولاد عملاً بالرواية(٥) .

____________________

(١) جواهر المطالب في مناقب الإمام علي / ١٢١، الدر النّظيم للعاملي / ٤١١.

(٢) السّيرة النّبويّة لابن كثير ٤ / ٥٨١، السّيرة الحلبيّة ٢ / ٤٥٢، الكنى والألقاب للقمي ١ / ١١٥.

(٣) مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ٣ / ١١٠، الأمالي للشيخ الطوسي / ٤٣، بشارة المصطفى للطبري / ٣٨١.

(٤) عمدة القارئ ٨ / ٤١، تنقيح التحقيق في أحاديث التعليق / ٣٠٥.

(٥) مناقب آل أبي طالب ٣ / ٩٠.

١٢٥

وكانت اُمّ البنين من النّساء الفاضلات العارفات بحقّ أهل البيتعليهم‌السلام ، مُخلصة في ولائهم، مُمحّضة في مودّتهم، ولها عندهم الجاه الوجيه والمحلّ الرفيع، وقد زارتها زينب الكبرى بعد وصولها المدينة تُعزّيها بأولادها الأربعة، كما كانت تزورها أيّام العيد.

وبلغ من عظمها ومعرفتها وتبصّرها بمقام أهل البيتعليهم‌السلام ، أنّها لمـّا اُدخلت على أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وكان الحسنانعليهما‌السلام مريضين، أخذت تُلاطف القول معهما، وتُلقي إليهما من طيب الكلام ما يأخذ بمجامع القلوب، وما برحت على ذلك تُحسن السّيرة معهما وتخضع لهما كالاُمّ الحنون.

ولا بِدعَ في ذلك؛ فإنّها ضجيعة شخص الإيمان، قد استضاءت بأنواره، وربت في روضة أزهاره، واستفادت من معارفه، وتأدّبت بآدابه، وتخلّقت بأخلاقه.

١٢٦

الولادة:

لقد أشرق الكون بمولد قمر بني هاشم يوم بزوغ نوره من اُفق المجد العلوي، مُرتضعاً ثدي البسالة، مُتربّياً في حِجر الخلافة، وقد ضربت فيه الإمامةُ بعرقٍ نابضٍ، فترعرع ومزيجُ روحه الشهامة والإباء، والنّزوع عن الدَّنايا، وما شُوهد مُشتدّاً بشبيبته الغضة إلاّ وملء إهابه إيمانٌ ثابت، وحشوُ ردائه حلم راجح، ولبّ ناضج، وعلم ناجع.

فلم يزل يقتصّ أثر السّبط الشهيدعليه‌السلام الذي خُلق لأجله، وكُوّن لأنْ يكون ردءاً له في صفات الفضل ومخائل الرفعة، وملامح الشجاعة والسّؤدد والخطر. فإنْ خطى سلام اللّه عليه فإلى الشرف، وإنْ قال فعَن الهُدى والرشاد، وإنْ رمق فإلى الحقِّ، وإنْ مال فعَن الباطل، وإنْ ترفّع فعَن الضيم، وإنْ تهالك فدون الدِّين.

فكان أبو الفضل جامع الفضل والمثل الأعلى للعبقرية؛ لأنّه كان يستفيد بلجِّ هاتيك المآثر من شمسِ فَلَكِ الإمامة ( حسينُ العلمِ والبأسِ والصلاحِ )، فكان هو وأخوه الشهيدعليهما‌السلام من مصاديق قوله تعالى في التأويل:( وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا ) (١) . فلم يسبقه بقولٍ استفاده منه، ولا بعملٍ أتبعه فيه، ولا بنفسيَّةٍ هي ظلّ نفسيَّته، ولا بمنقبة هي شعاع نوره الأقدس المـُنطبع في مرآة غرائزه الصقيلة.

____________________

(١) سورة الشمس / ١ - ٢.

١٢٧

وقد تابع إمامه في كُلّ أطواره حتّى في بروز هيكله القدسي إلى عالم الوجود، فكان مولد الإمام السّبطعليه‌السلام في ثالث شعبان، وظهور أبي الفضل العبّاس إلى عالم الشهود في الرابع منه(١) سنة ستٍّ وعشرين من الهجرة(٢) .

وممّا لا شكّ فيه أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام لمـّا اُحضر أمامه ولدُهُ المحبوبُ ليُقيم عليه مراسيم السُّنّة النّبويّة التي تُقام عند الولادة، ونظر إلى هذا الولد الجديد الذي كان يتحرّى البناء على اُمّه أنْ تكون من أشجع بيوتات العرب؛ ليكون ولدها ردءاً لأخيه السّبط الشهيد يوم تحيط به عصب الضلال، شاهد بواسع علم الإمامة ما يجري عليه من الفادح الجَلل، فكان بطبع الحال يُطبّق على كُلِّ عضو يُشاهده مصيبةً سوف تجري عليه، يُقلّب كفّيه اللذين سيُقطعان في نُصرة حُجّة وقته، فتهمل عيونُهُ،

____________________

(١) أنيس الشيعة للعلاّمة السيّد محمّد عبد الحسين ابن السيّد محمّد عبد الهادي المـُدارسي الهندي، قال شيخنا الحجّة في الذريعة إلى مصنّفات الشيعة ٢ / ٤٥: رأيت الكتاب في النّجف عند العالم السيّد آقا التستري من أحفاد السيّد نعمة اللّه الجزائري، والكتاب في وقائع الأيّام من موجبات السّرور والأحزان، من مواليد الأئمّةعليهم‌السلام ووفياتهم ومعاجزهم... رتّبه على الأشهر؛ بدأ بربيع الأوّل وختم في شهر صفر، وله مُقدّمة في نسب النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسنة جلوس الوصيِّعليه‌السلام ، وخاتمة في أحوال الحُجّة المـُنتظرعليه‌السلام .

وذكر العلاّمة ميرزا محمّد علي الاُوردبادي أنّه قرأ بخطّ المؤلِّف على ظهر الكتاب: إنّه أهداه إلى السّلطان فتح علي شاه يوم الجُمعة أوّل شعبان سنة ١٢٤٤ هـ. وللمؤلِّف كتب منها: زاد المؤمنين، وتذكرة الطريق، وعناية الرّب.

(٢) المـُجدي، والأنوار النّعمانيّة / ١٢٤، وحكاه في كتاب قمر بني هاشم / ٢٢ عن وقائع الأيّام للشيخ محمّد باقر البيرجندي.

١٢٨

ويُبصر صدرَه عيبةَ العلم واليقين، فيُشاهده منبتاً لسهام الأعداء، فتتصاعد زفرتُهُ، وينظر إلى رأسه المـُطهّر فلا يعزب عنه أنّه سوف يُقرع بعمد الحديد؛ فتثور عاطفتُهُ وترتفعُ عقيرتُه، كما لا يُبارح فاكرته حينما يراه يسقي أخاه الماء ما يكون غداً من تفانيه في سقاية كريمات النّبوّة، ويحمل إليهنّ الماء على عطشه المرمض، وينفض الماء حيث يذكر عطش أخيهعليه‌السلام ؛ تهالكاً في المواساة، ومبالغة في المفادات، وإخلاصاً في الاُخوّة، فيتنفس الصعداء، ويُكثر من قول:« مالي وليزيد! » (١) . وعلى هذا فقس كُلَّ كارثةٍ يُقدّر سوف تلمّ به وتجري عليه.

فكان هذا الولد العزيز على أبويه وحامّته، كُلّما سرّ أباه اعتدالُ خلقتِهِ، أو ملامح الخير فيه، أو سمة البسالة عليه، أو شارة السّعادة منه، ساءه ما يُشاهده هنالك من مصائب يتحمّلها، أو فادحٍ ينوء به؛ من جُرحٍ دامٍ، وعطشٍ مُجهدٍ، وبلاءٍ مُكرب. وهذه قضايا طبيعيّة تشتدّ عليها الحالة في مثل هاتيك الموارد، ممّن يحمل أقلّ شيء من الرّقّة على أقلّ إنسان، فكيف بأمير المؤمنينعليه‌السلام الذي هو أعطف النّاس على البشر عامّة من الأب الرؤوف، وأرقّ عليهم من الاُمّ الحنون!

إذاً فكيف به في مثل هذا الإنسان الكامل (أبي الفضل) الذي لا يقف أحدٌ على مدى فضله، كما ينحسر البيان عن تحديد مظلوميّته واضطهاده.

____________________

(١) مثير الأحزان لابن نما الحلّي / ١٢.

١٢٩

وذكر صاحب كتاب ( قمر بني هاشم ) ص٢١: إنّ اُمّ البنين رأت أمير المؤمنينعليه‌السلام في بعض الأيّام أجلس أبا الفضلعليه‌السلام على فخذه، وشمّر عن ساعديه، وقبَّلهما وبكى، فأدهشها الحال؛ لأنّها لم تكنْ تعهد صبيّاً بتلك الشمائل العلويّة ينظر إليه أبوه ويبكي من دون سبب ظاهر، ولمـّا أوقفها أمير المؤمنينعليه‌السلام على غامض القضاء، وما يجري على يديه من القطع في نصرة الحسينعليه‌السلام ، بكت وأعولت، وشاركها مَن في الدار في الزفرة والحسرة، غير أنّ سيّد الأوصياءعليه‌السلام بشّرها بمكانة ولدها العزيز عند اللّه جلّ شأنه، وما حباه عن يديه بجناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة، كما جعل ذلك لجعفر بن أبي طالب، فقامت تحمل بشرى الأبد، والسّعادة الخالدة.

١٣٠

صفاته:

لقد كان من عطف المولى سبحانه وتعالى على وليّه المـُقدّس، سلالة الخلافة الكبرى، سيّد الأوصياءعليه‌السلام ، أنْ جمع فيه صفات الجلالة؛ من بأس وشجاعة، وإباء ونجدة، وخلال الجمال؛ من سُؤدد وكرم، ودماثة في الخلق وعطف على الضعيف، كُلّ ذلك من البهجة في المنظر، ووضاءة في المـُحيّا من ثغر باسم ووجه طلق، تتموّج عليه أمواه الحسن، ويطفح عليه رواء الجمال، وعلى أسرّة جبهته أنوارُ الإيمان، كما كانت تعبق من أعراقه فوائحُ المجد، متأرّجة من طيب العنصر.

ولمـّا تطابق فيه الجمالان الصوري والمعنوي، قيل له: ( قمر بني هاشم )(١) ؛ حيث كان يشوء بجماله كُلَّ جميل، وينذُّ بطلاوة منظره كُلّ أحد حتّى كأنّه الفذّ في عالم البهاء، والوحيد في دنياه، كالقمر الفائق بنوره أشعة النّجوم، وهذا هو حديث الرّواة: كان العبّاس رجلاً وسيماً جميلاً، يركب الفرس المـُطهّم ورجلاه تخطّان في الأرض، وكان يُقال له: قمر بني هاشم(٢) .

وقد وصفته الرواية المحكيّة في مقاتل الطالبيين، بإنّ ( بين عينيه أثرُ السّجود ). ونصّه:

____________________

(١) كان يُقال لعبد مناف: ( قمرُ البطحاء ). ولعبد اللّه والد النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( قمرُ الحَرَم ).

(٢) مقاتل الطالبيين / ٥٥.

١٣١

قال المدائني: حدّثني أبو غسّان هارون بن سعد، عن القاسم بن الأصبغ بن نباتة، قال: رأيتُ رجلاً من بني أبان بن دارم، أسود الوجه، وكنتُ أعرفه جميلاً شديدَ البياض، فقلت له: ما كدتُ أعرفك! قال: إنّي قتلتُ شابّاً أمردَ مع الحسين، بين عينيه أثرُ السّجود، فما نمتُ ليلةً - منذ قتلته - إلاّ أتاني، فيأخذ بتلابيبي حتّى يأتي جهنّم فيدفعني فيها، فأصيح فما يبقى في الحيِّ إلاّ سمع صياحي. قال: والمقتول هو العبّاس بن عليعليه‌السلام (١) .

وروى سبط ابن الجوزي عن هشام بن محمّد، عن القاسم بن الأصبغ المجاشعي، قال: لما اُتي بالرؤوس إلى الكوفة، وإذا بفارس أحسن النّاس وجهاً قد علّق في لبب فرسه رأسَ غلامٍ أمردٍ كأنّه القمرُ ليلة تمّه، والفرس يمرح، فإذا طأطأ رأسه لحق الرأسُ بالأرض، فقلتُ: رأسُ مَن هذا؟ قال: رأس العبّاس بن علي. قلتُ: ومَن أنت؟ قال: حرملة بن الكاهل الأسدي(٢) .

قال: فلبثت أيّاماً وإذا بحرملة وجهه أشدّ سواداً من القار، فقلتُ: رأيتك يوم حملت الرأس وما في العرب أنظر وجهاً منك، وما أرى اليوم أقبح ولا أسود وجهاً منك؟! فبكى، وقال: واللّه، منذ حملت الرأس وإلى اليوم ما تمرّ عليَّ ليلةٌ إلاّ واثنان يأخذان بضبعي، ثُمّ ينتهيان بي إلى نارٍ تُؤجّج، فيدفعاني فيها وأنا أنكص، فتسفعني كما ترى، ثُمّ مات على أقبح حال(٣) .

____________________

(١) مقاتل الطالبيين / ٧٩. الأصبغ هنا ابن نباتة؛ لأنّ بني مجاشع بطنٌ من حنظلة من تميم كما في نهاية الإرب للقلقشندي / ٣٣٤، والأصبغ بن نباتة حنظليٌّ تميميٌّ كما نصّ عليه ابن حجر في تهذيب التهذيب ١ / ٣٦٢.

(٢) في تاريخ الطبري ٤ / ٣٥٩: حرملة بن الكاهن، وفي الفصول المـُهمّة لابن الصباغ / ٨٤٥: حرملة بن الكاهل. والأمر سهل.

(٣) تذكرة الخواصّ / ٢٩١.

١٣٢

ويمنع الإذعان بما في الروايتين من تعريف المقتول بأنّه العبّاس بن عليعليه‌السلام ، عدم الالتئام مع كونه شابّاً أمردَ؛ فإنّ للعباس يوم قتله أربعاً وثلاثين سنة، والعادة قاضية بعدم كون مثله أمردَ، ولم ينصّ التاريخ على كونه كقيس بن سعد بن عبادة لا طاقة شعر في وجهه.

وفي دار السّلام للعلاّمة النّوري ج١ ص١١٤، والكبريت الأحمر ج٣ ص٥٢ ما يشهد للاستبعاد، واصلاحه كما في كتاب ( قمر بني هاشم ) ص١٢٦، بأنّه رأس العبّاس الأصغر، بلا قرينة، مع الشكّ في حضوره الطَّفِّ وشهادته، وهذا كاصلاحه بتقدير المقتول: ( أخ العبّاس ) المنطبق على عثمان الذي له يوم قتله إحدى وعشرين سنة، أو محمّد بن العبّاس المـُستشهد على رواية ابن شهر آشوب؛ فإنّ كُلّ ذلك من الاجتهاد البحت.

ولعلّ النّظرة الصادقة فيما رواه الصدوق، مُنضمّاً إلى رواية ابن جرير الطبري، تُساعد على كون المقتول حبيب بن مظاهر.

قال الصدوق: وبهذا الإسناد عن عمرو بن سعيد، عن القاسم بن الأصبغ بن نباتة، قال: قدم علينا رجل من بني أبان بن دارم ممّن شهد قتل الحسينعليه‌السلام ، وكان رجلاً جميلاً شديد البياض، فقلتُ له: ما كدت أعرفك لتغيّر لونك! قال: قتلتُ رجلاً من أصحاب الحسين، يُبصَرُ بين عينيه أثرُ السّجود، وجئت برأسه.

فقال القاسم: لقد رأيتُهُ على فرس له مرح وقد علّق الرأس بلبانه، وهو يُصيبه بركبتيه، قال: فقلت لأبي: لو أنّه رفع الرأس قليلاً، أما ترى ما تصنع به الفرس بيديها؟! فقال: يا بُني، ما يُصنع به أشدّ؛ لقد حدّثني، قال: ما نمتُ ليلةً منذ قتلتُهُ إلاّ أتاني في منامي

١٣٣

حتّى يأخذ بكتفي فيقودني، ويقول: انطلق. فيُنطَلق بي إلى جهنم فيُقذَف بي، فأصيح.

قال: فسمعتُ جارةً له قالت: ما يدعنا ننام شيئاً من الليل من صياحه. قال: فقمتُ في شبابٍ من الحيِّ فأتينا امرأته فسألناها، فقالت: قد أبدى على نفسه، قد صدقكم(١) .

وقد اتّفقت هذه الروايات الثلاث في الحكاية عن القاسم بن الأصبغ بن نباتة بما فُعل بالرأس الطاهر؛ وتُفيدنا رواية الصدوق أنّ المقتول رجلٌ لا شابٌّ، وأنّه من أصحاب الحسينعليه‌السلام ، ولا إشكال فيه، وإذا وافقنا ابن جرير على أنّ الرأس المـُعلّق هو رأس حبيب بن مظاهر - في حين أنّ المؤرّخين لم يذكروا هذه الفعلة بغيره من الرؤوس الطّاهرة - أمكننا أنْ ننسب الاشتباه إلى الروايتين السّابقتين؛ خصوصاً بعد ملاحظة ذلك الاستبعاد بالنّسبة إلى العبّاس، وتوقّفُ التصحيح فيهما على الاجتهاد بلا قرينة واضحة.

قال ابن جرير في ج٦ ص٢٥٢ من التاريخ: وقاتل قتالاً شديد، فحمل عليه رجلٌ من بني تميم فضربه بالسّيف على رأسه فقتله، وكان يُقال له: بديل بن صريم من بني عقفان، وحمل عليه آخر من بني تميم فطعنه فوقع، فذهب ليقوم فضربه الحُصين بن تميم على رأسه بالسّيف فوقع، ونزل إليه التميمي فاحتزّ رأسه، فقال له الحُصين: إنّي لشريكك في قتله. فقال الآخر: واللّه، ما قتله غيري. فقال الحُصين: أعطنيه أعقله في عُنق فرسي كيما يرى النّاس ويعلموا أنّي شركت في قتله، ثُمّ خذه أنت بعدُ فامضِ به إلى

____________________

(١) ثواب الأعمال للشيخ الصدوق / ٢١٩.

١٣٤

عبيد اللّه بن زياد، فلا حاجة لي فيما تُعطاه على قتلك إيّاه. فأبى عليه، فأصلح قومه فيما بينهما على هذا، فرفع إليه رأس حبيب بن مظاهر، فجال به في العسكر، قد علّقه في عُنق فرسه، ثُمّ دفعه بعد ذلك إليه، فلمـّا رجعوا إلى الكوفة أخذ الآخرُ رأسَ حبيبٍ فعلّقه في لبان فرسه، ثُمّ أقبل به إلى ابن زياد في القصر، فبصر به ابنه القاسم بن حبيب - وهو يومئذ قد راهق - فأقبل مع الفارس لا يُفارقه، كُلمـّا دخل القصر دخل معه، وإذا خرج خرج معه، فارتاب به، فقال: ما لك يا بُني تتبعني؟! قال: لا شيء. قال: بلى يا بُني أخبرني. قال له: إنّ هذا الرأس الذي معك رأسُ أبي، أفتُعطينيه حتّى أدفنه؟ قال: يا بُني، لا يرضى الأمير أنْ يُدفن، وأنا اُريد أنْ يُثيبني الأميرُ على قتله ثواباً حسن. قال له الغلام: لكنّ اللّه لا يُثيبك على ذلك إلاّ أسوأ الثواب. أما واللّه، لقد قتلته خيراً منك. وبكى.

فمكث الغلام، حتّى إذا أدرك لم تكنْ له همّةٌ إلاّ اتّباع أثر قاتل أبيه ليجد منه غرّة فيقتله بأبيه، فلمـّا كان زمان مصعب بن الزبير، وغزا مصعب ( باجمير ) دخل عسكر مصعب فإذا قاتل أبيه في فسطاطه، فأقبل يختلف في طلبه والتماس غرّته، فدخل عليه وهو قائل نصف النّهار، فضربه بسيفه حتّى برد(١) .

نعم، في رواية الصدوق أنّ القاسم يسأل أباه عمّا يفعله الفرس بالرأس، فيقول: قلتُ لأبي: لو أنّه رفع الرأس... إلى آخره.

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣٣٥.

١٣٥

وهو يدلّ على حياة الأصبغ ذلك اليوم، وعليه فلَم يعرف الوجه في تأخّره عن حضور المشهد الكريم، مع مقامه العالي في التشيّع، وإخلاصه في الموالاة لأمير المؤمنين وولده المعصومينعليهم‌السلام ! ومشاهدتُه هذا الفعل من الطاغي يدلّ على عدم حبسه عند ابن زياد كباقي الشيعة الخُلّص، ولا مخرج عنه إلاّ بالوفاة قبل تلك الفاجعة العظمى، كما هو الظاهر ممّا ذكره أصحابنا عند ترجمته؛ من الثناء عليه، والمبالغة في مدحه، وعدم الغمز فيه.

فتلك الجملة: ( قلت لأبي ). لا يُعرف من أين جاءت، ولا غرابة في زيادتها بعد طعن أهل السُّنّة فيه كما في اللآلئ المصنوعة ج١ ص٢١٣؛ فإنّه بعد أنْ ذكر حديث الأصبغ بن نباتة عن أبي أيوب الأنصاري، أنّهم اُمروا بقتال النّاكثين والقاسطين والمارقين مع عليعليه‌السلام ، قال: لا يصحّ الحديث؛ لأنّ الأصبغ متروك، لا يساوي فلساً(١) .

وفيه ص١٩٥، ذكر عن ابن عباس حديثَ الرُّكبان يوم القيامة؛ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله وصالح، وحمزة وعليعليهم‌السلام ، قال: رجال الحديث بين مجهول، وبين معروفٍ بعدم الثّقة(٢) .

____________________

(١) اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة للسيوطي ١ / ٣٧٤، ونصّ العبارة: لا يصحُّ، وأصبغ متروكٌ لا يساوي فلساً.

(٢) اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة للسيوطي ٤ / ٣٤٤، ونصّ العبارة: رجاله فيهم غير واحد مجهول، وآخرون معروفون بغير الثّقة.

١٣٦

ولقد طعنوا في أمثاله من خواصّ الشيعة بكُلّ ما يتسنّى لهم، وما ذُكر في تراجمهم يشهد لهذه الدعوى، ولا يتحمّل هذا المختصر التبسّط في ذكره، ومراجعة ما كتبه السيّد العلاّمة محمّد بن أبي عقيل في ( العتب الجميل على أهل الجرح والتعديل ) ص٤٠، في الباب الثاني فيه كفاية؛ فإنّه ذكر جملةً من أتباع أهل البيتعليهم‌السلام طعنوا فيهم بلا سبب، إلاّ لموالاة أمير المؤمنين وولدهعليهم‌السلام .

١٣٧

كُنيتُه:

اشتهر أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام بكُنى وألقاب، وُصف ببعضها في يوم الطَّفِّ، والبعض الآخر كان ثابتاً له من قبل؛ فمِن كناه: أبو قَربة(١) ؛ لحمله الماء في مشهد الطَّفِّ غير مرّة، وقد سُدّت الشرائع ومُنع الورود على ابن المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله وعياله، وتناصرت على ذلك أجلاف الكوفة، وأخذوا الاحتياط اللازم، ولكن أبا الفضلِ لم يرعهُ جمعُهم المـُتكاثف، ولا أوقفه عن الإقدام تلك الرِّماح المـُشرَعة، ولا السّيوف المـُجرَّدة، فجاء بالماء وسقى عيال أخيه وصحبه.

ولم ينصّ المؤرّخون وأهلُ النّسب على كُنيته بأبي القاسم؛ إذ لم يذكر أحدٌ أنّ له ولداً اسمه القاسم، نعم خاطبه جابر الأنصاري في زيارة الأربعين بها، قال: السّلام عليك يا أبا القاسم، السّلام عليك يا عباس بن علي(٢) . وبما أنّ هذا الصحابي الكبير المـُتربّي في بيت النّبوّة والإمامة خبيرٌ بالسّبب الموجب لهذا الخطاب، فهو أدرى بما يقول.

____________________

(١) تهذيب الكمال للمزي ٢٠ / ٤٧٩، شرح إحقاق الحقّ ٣٢ / ٦٧٩.

(٢) بحار الأنوار ٩٨ / ٣٣٠.

١٣٨

وقد اشتهر بكُنيتهِ الثالثة ( أبي الفضل )؛ من جهة أنّ له ولداً اسمه الفضل(١) ، وكان حريّاً بها؛ فإنّ فضله لا يخفى، ونورَه لا يطفى.

ومن فضائله الجسام نعرف أنّه ممّن حُبس الفضل عليه ووقف لديه؛ فهو رضيع لبانه، وركنٌ من أركانه، وإليه يُشير شارح ميمية أبي فراس:

بذلتَ أيا عباسُ نفساً نفيسةً

لنصرِ حُسينٍ عزَّ بالنّصر مِنْ مثلِ

أبيْتَ الْتِذاذَ المَاءِ قَبلَ الْتِذاذِهِ

فَحُسنُ فِعالِ المرْءِ فرعٌ عَنِ الأصلِ

فأنتَ أخُو السّبطينِ في يومِ مَفْخرٍ

وفي يومِ بذلِ الماءِ أنْتَ أبو الفضْلِ(٢)

____________________

(١) الجريدة في اُصول أنساب العلويّين / ٣١٨.

(٢) أعيان الشيعة ٩ / ٢٥٩.

١٣٩

اللَّقَب:

اشتُهر بين العامّة والخاصّة بأنّه سلام اللّه عليه باب الحوائج؛ لكثرة ما صدر منه من الكرامات وقضاء الحاجات، ومن هنا قيل فيه(١) :

للشَّوسِ عبّاسٌ يُريهمْ وَجهَهُ

والوفدُ يَنظِرُ باسِماً مُحتاجَها

بابُ الحوائجِ مَا دَعتْهُ مروعةٌ

في حاجةٍ إلاّ ويقضِي حَاجَها

بأبِي أبي الفضْلِ الذِي مِنْ فَضلِهِ الْ

سامِي تَعلَّمتِ الوَرَى مِنهاجَها

وقيل له: ( قمر بني هاشم )(٢) ؛ لوضاءته وجمال هيئته، وأنّ أسرّة وجهه تبرق كالبدر المنير، فكان لا يحتاج في الليلة الظلماء إلى ضياء.

وأمّا ( الشهيد )، فلم ينصّ عليه أحدٌ إلاّ أنّه الظاهر من عبارات أهل النّسب؛ ففي المـُجدي لأبي الحسن العُمري، قال - بعد ذكر أولاده -: هذا آخر نسب بني العبّاس الشهيد السّقا، ابن علي بن أبي طالبعليهما‌السلام (٣) .

____________________

(١) من قصيدة لسيّد الذاكرين السيّد صالح الحلّيرحمه‌الله .

(٢) مقاتل الطالبيين / ٥٦، مناقب آل أبي طالب ٣ / ٢٥٦، بحار الأنوار ٤٥ / ٣٩.

(٣) المـُجدي في أنساب الطالبيين / ٢٤٣.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

هذا.. ولسوف نرى أن أحمد أمين المصري يأخذ برأي ابن القفطي هذا. لكنه ينظر فيه إلى خصوص أئمة أهل البيتعليه‌السلام ، كما سيأتي بيانه، وبيان مدى خلطه وفساده في الفصل التالي.

وفيه دلالة على أن الفضل كان مخدوعاً، وعلى أن المأمون لم يكن مخلصاً فيما أقدم عليه..

د ـ : إنه لا بد لنا من الإشارة هنا إلى أن أكثر ثورات العلويين، التي قامت ضد المأمون ـ قبل البيعة للرضاعليه‌السلام طبعاً ـ كانت من بني الحسن، وبالتحديد من أولئك الذين يتخذون نحلة الزيدية، فأراد المأمون أن يقف في وجههم، ويقضي عليهم، وعلى نحلتهم تلك نهائياً، وإلى الأبد، فأقدم على ما أقدم عليه من البيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد.

هذا.. وقد كانت نحلة الزيدية هذه ـ شائعة في تلك الفترة، وكانت تزداد قوة يوماً عن يوم، وكان للقائمين بها نفوذ واسع، وكلمة مسموعة، حتى إن المهدي قد استوزر يعقوب بن داوود، وهو زيدي، وآخاه، وفوضه جمع أمور الخلافة(١) .

وعلى حد تعبير الشبراوي: (.. فولاه الوزارة، وصارت الأوامر كلها بيديه، واستقل يعقوب حتى حسده جميع أقرانه..)(٢) .

____________

(١) البداية والنهاية ج ١٠ / ١٤٧، وغيره من كتب التاريخ، فراجع فصل: مصدر الخطر على العباسيين.

(٢) الإتحاف بحب الأشراف ص ١١٢.

٢٠١

بل كان: (لا ينفذ للمهدي كتاب إلى عامل، فيجوز، حتى يكتب يعقوب إلى أمينه وثقته بإنفاذه.)(١) .

وقد بلغ من نفوذ يعقوب هذا.. أن قال فيه بشار بن برد أبياته المشهورة، التي قدمناها، والتي يقول فيها: (إن الخليفة يعقوب ابن داوود).

وقد سعي بيعقوب هذا إلى المهدي: وقيل له: (.. إن الشرق والغرب في يد يعقوب، وأصحابه، وإنما يكفيه أن يكتب إليهم ؛ فيثوروا، في يوم واحد، فيأخذوا الدنيا)(٢) .

وذلك لأنه قد: (أرسل يعقوب هذا إلى الزيدية، وأتى بهم من كل أوب، وولاهم من أمور الخلافة في المشرق والمغرب كل جليل، وعمل نفيس، والدنيا كلها في يديه..)(٣) .

وإذا ما عرفنا أن معاوني يعقوب إنما كانوا هم: متفقهة الكوفة، والبصرة، وأهل الشام(٤) .. فإننا نعرف أن الاتجاه الزيدي سوف يؤثر كثيراً، وكثيراً جداً على الثقافة العامة، والاتجاهات الفكرية في ذلك العصر ـ كما حدث ذلك فعلاً.. حتى لقد صرح ابن النديم بأن:

(أكثر علماء المحدثين إلا قليلاً منهم، وكذلك قوم من الفقهاء، مثل: سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة كانوا من الشيعة الزيدية.)(٥) وقد صرح المؤرخون أيضاً: بأن أصحاب الحديث جميعهم، قد

____________

(١) الطبري ج ١٠ / ٤٨٦، والكامل لابن الأثير ج ٥ / ٦٠، ومرآة الجنان ج ١ / ٤١٨.

(٢) الكامل لابن الأثير ج ٥ / ٦٦، ٦٧.

(٣) الطبري ج ١٠ / ٥٠٨، طبع ليدن، والوزراء والكتاب للجهشياري ص ١٥٨، والكامل لابن الأثير ج ٥ / ٦٦.

(٤) الطبري، طبع ليدن ج ١٠ / ٤٨٦.

(٥) الفهرست لابن النديم ص ٢٥٣.

٢٠٢

خرجوا مع إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، أو أفتوا بالخروج معه(١) .

وعلى كل حال.. فإن ما يهمنا بيانه هنا: هو أن المأمون كان يريد

____________

(١) مقاتل الطالبيين ص ٣٧٧، وغيرها من الصفحات، وغيرها من الكتب. ويرى بعض أهل التحقيق: أن المقصود هو جميع أصحاب الحديث في الكوفة. ولكن الظاهر أن المراد: الجميع مطلقاً، كما يظهر من مراجعة مقاتل الطالبيين وغيره.

والأمر الذي تجدر الإشارة إليه هنا: هو أن فرقة من الزيدية، وفرقة من أصحاب الحديث، قد قالوا بالإمامة على النحو الذي يقول به الشيعة الإمامية، عندما جعل المأمون (الرضا)عليه‌السلام ولياً لعهده. لكنهم بعد وفاة الرضاعليه‌السلام رجعوا عن ذلك: قال النوبختي في فرق الشيعة ص ٨٦:

(.. وفرقة منهم تسمى (المحدثة) كانوا من أهل الإرجاء، وأصحاب الحديث، فدخلوا في القول بإمامة موسى بن جعفر، وبعده بإمامة علي بن موسى، وصاروا شيعة، رغبة في الدنيا وتصنعاً. فلما توفي علي بن موسىعليه‌السلام رجعوا إلى ما كانوا عليه.

وفرقة كانت من الزيدية الأقوياء، والبصراء، فدخلوا في إمامة علي بن موسىعليه‌السلام ، عندما أظهر المأمون فضله، وعقد بيعته، تصنعاً للدنيا، واستكانوا الناس بذلك دهراً. فلما توفي علي بن موسىعليه‌السلام رجعوا إلى قومهم من الزيدية.) وقد تقدم قول الشيبي: إنه قد التف حول الرضاعليه‌السلام (المرجئة، وأهل الحديث، والزيدية، ثم عادوا إلى مذاهبهم بعد موته..) وغير ذلك. والذي نريد أن نقوله هنا هو: أن (الإرجاء دين الملوك) على حد تعبير المأمون (على ما نقله عنه في ضحى الإسلام ج ٣ / ٣٢٦)، نقلاً عن طيفور في تاريخ بغداد.

وفي البداية والنهاية ج ١٠ / ٢٧٦: أن المأمون قال للنضر بن شميل: ما الإرجاء؟. قال: (دين يوافق الملوك، يصيبون به من دنياهم، وينقصون به من دينهم) قال: صدقت الخ. وليراجع كتاب بغداد ص ٥١، وعمدة القول بالإرجاء (القديم) هو: المغالاة في الشيخين، والتوقف في الصهرين، فالإرجاء والتشيع، وخصوصاً القول بإمامة موسى بن جعفر، وولده علي الرضا على طرفي نقيض ومن هنا كانت المساجلة الشعرية بين المأمون المظهر لحب علي وولده، وابن شكلة المرجي، يقول المأمون معرضا بابن شكلة:

إذا المرجي سرك أن تراه

يموت لحينه من قبل موته

فـجدد عـنده ذكرى علي

وصل على النبي وآل بيته

أما ابن شكلة فيقول معرضاً بالمأمون:

إذا الشيعي جمجم في مقال

فسرك أن يبوح بذات نفسه

فصل على النبي وصاحبيه

وزيـريه وجاريه برمسه

٢٠٣

= راجع: مروج الذهب ج ٣ / ٤١٧، والكنى والألقاب ج ١ / ٣٣١، وبعد هذا. فإنه لمن غرائب الأمور حقاً، الانتقال دفعة واحدة من القول بالإرجاء إلى التشيع، بل إلى الرفض (وهو الغلو في التشيع حسب مصطلحهم، والذي يتمثل بالقول بإمامة الأئمة الاثني عشرعليهم‌السلام ) وأغرب من ذلك العودة إلى الإرجاء بعد موت علي الرضاعليه‌السلام .

وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى تأثير السياسة والمال في هؤلاء الذين أخذوا على عاتقهم ـ بادعائهم ـ مسؤولية الحفاظ على الدين والذود عن العقيدة، فإنهم كانوا في غاية الانحطاط الديني، يتلونون ـ طمعاً بالمال والشهرة ـ ألواناً، حتى إن ذلك يحملهم على القول بعقيدة، ثم القول بضدها، ثم الرجوع إلى المقالة الأولى، إذا رأوا أن الحاكم يرغب في ذلك، ويميل إليه، ولهذا أسموا بـ‍ (الحشوية) يعني: أتباع وحشو الملوك، وأذناب كل من غلب، ويقال لهم أيضاً (وهم في الحقيقة أهل الحديث): (الحشوية، والنابتة، والغثاء، والغثر) على ما في كتاب: تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص ٨٠.

وراجع أيضاً فرق الشيعة، ورسالة الجاحظ في بني أمية، وغير ذلك.

بل لقد أطلق عليهم المأمون نفسه لفظ (الحشوية) في مناقشته المشهورة للفقهاء والعلماء المذكور في العقد الفريد والبحار، وعيون أخبار الرضا وغير ذلك. وقال عنهم الزمخشري في مقام استعراضه للمذاهب والنحل، ومعتنقيها:

وإن قلت من أهل الحديث وحزبه

يـقولون تيس ليس يدري ويفهم

ويقابل كلمة (الحشوية) كلمة (الرافضة) التي شاع إطلاقها على الشيعة الإمامية.

ومعناها في الأصل: جند تركوا قائدهم. فحيث إن الشيعة لم يكونوا قائلين بإمامة أولئك المتغلبين، سموهم ب‍ـ (الرافضة) ولذا جاء في تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ١٦١: أن معاوية كتب إلى عمرو بن العاص:

 (أما بعد. فإنه قد كان من أمر علي وطلحة والزبير ما قد بلغك، فقد سقط إلينا مروان في رافضة أهل البصرة الخ..). ومثل ذلك ما في وقعة صفين لنصر بن مزاحم ص ٣٤، فالمراد بكلمة رافضة هنا هو ذلك المعنى اللغوي الذي أشرنا إليه، فسمي الشيعة بالرافضة، لأنهم ـ كما قلنا ـ رفضوا الانقياد لأولئك الحكام المتغلبين.

٢٠٤

= يقول السيد الحميري على ما جاء في ديوانه وغيره ـ يهجو البعض:

أبـوك ابن سارق عنز النبي

وأمـك بـنت أبـي جحدر

ونحن على رغمك الرافضون

لأهـل الـضلالة والـمنكر

ولكن قد جاء في الطبري، مطبعة الاستقامة ج ٦ ص ٤٩٨، والبداية والنهاية ج ٩ ص ٣٣٠، ومقدمة ابن خلدون ص ١٩٨، ومقالات الإسلاميين ج ١ ص ١٣٠، وغاية الاختصار ص ١٣٤: أن سبب تسمية الشيعة بـ‍ (الرافضة) هو أنهم عندما تركوا نصرة زيد بن علي في سنة ١٢٢ ه‍. قال لهم زيد: رفضتموني، رفضكم الله، وهذا كذب راج على بعض الشيعة أيضاً حيث ذكروا وذكر الطبري في نفس الصفحة المشار إليها آنفاً: أن التسمية كانت من المغيرة بن سعيد، لما رفضته الشيعة.. وكانت قضيته سنة ١١٩ ه‍.

ولكن الحقيقة هي أن التسمية بالرافضة كانت قبل سنتي ١٢٢ ه‍ و ١١٩ ه‍. فقد جاء في المحاسن للبرقي ص ١١٩ طبع النجف، باب الرافضة: أن الشيعة كانوا يشكون إلى الباقر المتوفى سنة ١١٤ أن الولاة قد استحلوا دماءهم وأموالهم باسم: (الرافضة) الخ.

وجاء في ميزان الاعتدال طبع سنة ١٩٦٣ م. ج ٢ ص ٥٨٤ بعد ذكره لإسناد طويل أن الشعبي المتوفى سنة ١٠٤ ه‍. قال لأحدهم: (ائتني بشيعي صغير، أخرج لك منه رافضياً كبيراً).

وفي كتاب: روض الأخبار المنتخب من ربيع الأبرار ص ٤٠، أن الشعبي قال: (أحبب آل محمد ولا تكن رافضياً، وأثبت وعيد الله، ولا تكن مرجئياً.). بل لدينا ما يدل على أن تسمية الشيعة بـ‍ (الرافضة) كان قبل سنة المئة، فقد جاء في المحاسن والمساوي للبيهقي ص ٢١٢، طبع دار صادر وأمالي السيد المرتضى ج ١ ص ٦٨ هامش: أن لما أنشد الفرزدق أبياته المشهورة في الإمام زين العابدين، المتوفى سنة ٩٥ ه‍ قال عبد الملك بن مروان المتوفى سنة ٨٦ ه‍ للفرزدق: (أرافضي أنت يا فرزدق؟!). وعلى كل حال: فإن ذلك كله قد كان قبل قضيتي زيد والمغيرة ابن سعيد بزمان بعيد.

٢٠٥

أن يقضي على الزيدية، ويكسر شوكتهم بالبيعة للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد، ولهذا نرى أنه قد طبق اللقب، الذي طالما دعا إليه الزيدية، واعترف به العباسيون، بل ودعوا إليه في بدء دعوتهم ودولتهم، ألا وهو لقب: (الرضا من آل محمد)، طبقه على علي ابن موسىعليه‌السلام ، فسماه: (الرضا من آل محمد)(١) . فأصبحت بذلك حجته قوية على الزيدية، بل لم يعد لهم حجة أصلاً. وأصبح يستطيع أن ينام قرير العين، إذ قد أصبح (الرضا من آل محمد) موجوداً، فالدعوة إلى غيره ستكون لا معنى لها البتة. ولسوف تكون مرفوضة من الناس جملة وتفصيلا. وكان ذلك بطبيعة الحال السبب الرئيسي في إضعاف الزيدية، وكسر شوكتهم، وشل حركتهم.

والذي ساهم إلى حد كبير في إضعافهم، وشل حركتهم، هو اختياره الإمامعليه‌السلام بالذات، حيث إنه الرجل الذي لا يمكن لأحد كائناً من كان أن ينكر فضله، وعلمه، وتقواه، وسائر صفاته ومزاياه، التي لم تكن لأحد في زمانه على الإطلاق، فليس لهم بعد طريق للاعتراض عليه: بأن الذي اختاره لولاية عهده، والخلافة من بعده، ليس أهلاً لما أهله له. ولو أنهم ادعوا ذلك لما صدقهم أحد، ولكانت الدائرة حينئذ في ذلك عليهم، والخسران لهم دون غيرهم.

____________

(١) راجع: الفخري في الآداب السلطانية، ص ٢١٧، وضحى الإسلام ج ٣ ص ٢٩٤، والبداية والنهاية ج ١٠ ص ٢٤٧، والطبري، وابن الأثير، والقلقشندي وأبو الفرج. والمفيد وكل من تعرض من المؤرخين لولاية العهد. بل لقد صرح نفس المأمون بذلك في وثيقة ولاية العهد، وهذا يكفي في المقام.. ولقد قال دعبل:

أيا عجباً منهم يسمونك الرضا

ويـلقاك منهم كلحة وغضون

وهناك نصوص أخرى مفادها: أنه سمي الرضا، لرضا أعدائه، وأوليائه به، وعزى الشيبي في كتابه: الصلة بين التصوف والتشيع ص ١٣٨: عزا رضا أعدائه به إلى قوة شخصيتهعليه‌السلام .. أما نحن فنقول: إنه ليس من اليسير أبداً، أن تنال شخصية رضا كل أحد، حتى أعدائها. اللهم إلا إذا كان هناك سر إلهي، اختصت به تلك الشخصية، دون غيرها من سائر بني الإنسان..

٢٠٦

فذلكة لا بد منها:

هذا.. ولا يسعنا هنا إلا أن نشير إلى أن المأمون، لم يخترع أسلوباً جديداً للتصدي للزيدية، والحد من نفوذهم، وكسر شوكتهم، ببيعته للرضاعليه‌السلام ، إذ أنه كان قد استوحى هذه الفكرة من سلفة المهدي، الذي كان قد استوزر يعقوب بن داوود الزيدي، ليحد من نشاط الزيدية، ويكسر شوكتهم. وكان قد نجح في ذلك إلى حد ما: إذ لا يحدثنا التاريخ عن تحركات زيدية خطيرة ضد المهدي، بعد استيزاره ليعقوب، وتقريبه للزيدية، كتلك الأحداث التي حدثت ضد المنصور، وخصوصاً ثورة محمد وإبراهيم ابني عبد الله. كما يلاحظ أن تقريب العباسيين للزيدية في عصر المهدي، وتسليطهم على شؤون الدولة وإداراتها، لم يؤثر في الوضع العام أثراً يخشاه العباسيون، وذلك بلا شك مما يشجع المأمون على الإقدام على ما كان قد عقد العزم عليه، بجنان ثابت وإرادة راسخة.

يضاف إلى ذلك: أن سهولة إبعاد العباسيين لهم عن مراكز القوة، ومناصب الحكم على يد المهدي نفسه، الذي نكب يعقوب بن داوود، الوزير الزيدي، حيث لم تصاحبه ردة فعل، ولا نتج عنه أية حادثة تذكر ضد العباسيين، لا حقيرة، ولا خطيرة.. هو الذي شجع المأمون على أن يستوحي نفس الفكرة، ويلعب نفس اللعبة، ويتبع نفس طريقة المهدي. في مواجهتهم، وكسر شوكتهم، بالبيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد بعده. وعلى كل حال، فإن هذا أسلوب قديم اتبعه العباسيون في دعوتهم الأولى أيضاً، حيث بايعوا للعلويين، وأظهروا أن الدعوة لهم وباسمهم..

ثم كانت النتيجة هي ما يعلمه كل أحد، حيث انقلبوا عليهم يوسعونهم قتلاً وعسفاً، وتشريداً عندما خافوهم. فلم يعودوا بحاجة إليهم.

ه‍ ـ : أضف إلى ذلك ما تقدم أن المأمون كان يعلم قبل أي شخص آخر بطبيعة العلاقات التي كانت قائمة بين الأئمةعليهم‌السلام ، وبين الزيدية، حيث إنها كانت على درجة من السوء والتدهور. وكان عدم التفاهم، والانسجام فيما بينهم واضحاً للعيان..

٢٠٧

حتى لقد شكى الأئمةعليهم‌السلام منهم، وصرحوا: بأن الناس قد نصبوا العداوة لشيعتهم، أما الزيدية فقد نصبوا العداوة لهم أنفسهم(١) ، وفي الكافي رواية مفادها: إنه عليه‌السلام قال إنهم قبل أن يصلوا إلى الحكم كانوا لا يطيعونهم فكيف تكون حالهم معهم لو أنهم وصلوا إلى الحكم وتبوءوا كرسي الرئاسة.

وقد رأينا: أن عبد الله بن الحسن، عندما جاء يعرض على الإمام الصادقعليه‌السلام كتاب أبي سلمة، الذي يدعوه فيه للقدوم إلى الكوفة، لتكون الدعوة له، وباسمه، فنهاه الإمامعليه‌السلام عن ذلك ـ رأيناه ـ ينازع الإمام الصادق الكلام، حتى قال له:

____________

(١) راجع: الوافي للفيض ج ١ ص ١٤٣، باب: الناصب ومجالسته.

هذا. ولا يمنع ذلك ما ورد عنهم عليهم‌السلام من أن خروج الزيدية وغيرهم على الحكام يدرؤا به عنهم، وعن شيعتهم: فقد جاء في السرائر قسم المستطرفات ص ٤٧٦ أنه: (ذكر بين يدي أبي عبد الله من خرج من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال عليه‌السلام : ((لا أزال أنا وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمد ..)) إلخ وذلك لأن اصطدامهم مع الحكام كان يصرف أنظار الحكام إليهم، ويفسح المجال أمام أهل البيت وشيعتهم إلى حد ما. ولم يكن هناك مجال لاتهام الأئمة وشيعتهم بالتواطؤ معهم، مع ما كان يراه الحكام من عدم الانسجام الظاهر بين الأئمة وبين الزيدية، وغيرهم من الثائرين وسلبية كل فريق منهما تجاه الآخر..

وأخيراً.. فلا بد لنا هنا من الإشارة إلى أن ثورات العلويين، سواء على الحكم الأموي، أو الحكم العباسي، قد ساهمت في أن يبقى حق العلويين في الحكم متحفظاً بقوته وحيويته في ضمير الأمة، ووجدانها. ولم تؤثر عليه حملات القمع والتضليل، التي كان الحكم القائم آنذاك يمارسها ضدهم، وضد هذا الحق الثابت لأهل البيتعليهم‌السلام بالنص.

٢٠٨

(والله، ما يمنعك من ذلك إلا الحسد) إلخ وقد انصرف عبد الله آخر الأمر مغضباً(١) .

ورأينا أيضاً أنه في موقف آخر له مع الإمام الصادقعليه‌السلام يتهمه بنفس هذه التهمة، ويصمه بعين هذه الوصمة، وذلك عندما أرادوا البيعة لولده محمد، وأبدى الإمامعليه‌السلام رأيه في ذلك. ذلك الرأي الذي كشفت الأيام عن صحته وسداده(٢) .

بل لقد كان عيسى بن زيد يقول لمحمد بن عبد الله: (.. من خالفك من آل أبي طالب، فأمكني أضرب عنقه.)(٣) وقد تجرأ عيسى هذا أيضاً على الإمام الصادق بكلام لا نحب ذكره.

وأما موقف محمد بن عبد الله نفسه مع الإمام الصادقعليه‌السلام ، فأشهر من أن يذكر، حيث إنه سجن الإمامعليه‌السلام ، واستصفى أمواله، وأسمعه كلاماً قاسياً، لا يليق بمقام الإمام وسنه(٤) .

إلى آخر ما هنالك مما يدل على كرههم، وحقدهم على الأئمةعليهم‌السلام . أو بالأحرى حسدهم لهم..

____________

(١) راجع: مروج الذهب ج ٣ ص ٣٥٤، ٣٥٥، وغيره من المصادر.

(٢) الصواعق المحرقة ص ١٢١، وينابيع المودة للحنفي ص ٣٣٢، ٣٦١، ومقاتل الطالبيين ص ٢٥٥، ٢٥٦، ٢٧٠، وغير ذلك.. وفي هذا الأخير: أن عبد الله ابن الحسن لم يرض باستدعاء الإمام، ولا وافق عليه، عندما أرادوا البيعة لولده محمد، وبعد أن أقنعوه، وحضر الإمام، جرى بينهما ما جرى.

(٣) قاموس الرجال ج ٧ ص ٢٧٠.

(٤) قاموس الرجال ج ٧ ص ٢٧٠، و ج ٨ ص ٢٤٢، ٢٤٣ والبحار ج ٤٧ ص ٢٨٤، ٢٥٨.

٢٠٩

والمأمون.. كان يعلم بذلك كله، ويدركه كل الإدراك، ولهذا فإننا لا نستبعد أنه ـ وهو الداهية الدهياء ـ قد أراد أيضاً في جملة ما أراد: أن يوقع الفتنة بين آل علي أنفسهم. أي: بين الأئمة، والمتشيعين لهم، وبين الزيدية، ويقف هو في موقف المتفرج المتربص حتى إذا أضعف كل واحد من الفريقين الفريق الآخر، ولم يعد فيهما بقية.. انقض هو عليهما، وقضى عليهما بأهون سبيل.

بل إن بعض الباحثين يرى: أنه أراد من لعبته هذه: (.. ضرباً للثائرين العلويين من إخوة علي بن موسى بأخيهم.)(١) .

ولو أننا استبعدنا كل ذلك، فلا أقل ـ كما قلنا ـ من أن حجته أصبحت قوية على الزيدية، وعلى كل من يدعو إلى (الرضا من آل محمد)، ولم يعد يخشى أحداً منهم، بعد أن أصبح (الرضا من آل محمد) موجوداً.

الهدف التاسع:

كما أنه ببيعته للإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد، وقبول الإمامعليه‌السلام بذلك.. يكون قد حصل على اعتراف من العلويين، على أعلى مستوى بشرعية الخلافة العباسية، ولقد صرح المأمون بأن ذلك، كان من جملة أهدافه، حيث قال: (.. فأردنا أن نجعله ولي عهدنا، ليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالملك والخلافة لنا..) وسنتكلم حول تصريحات المأمون هذه بنوع من التفصيل في فصل: مع بعض خطط المأمون، وغيره إن شاء الله تعالى.

نعود إلى القول: إن تصريح المأمون هذا يعطينا: أن قبول الإمام بأن يكون ولي عهد المأمون، إنما يعني بالنسبة للمأمون: أن الإمام يكون قد أقر بأن الخلافة ليست له دون غيره، ولا في العلويين دون غيرهم، وأنه كما يمكن أن يكون هو جديراً بها، وأهلا لها، وكذلك غيره يمكن أن يكون كذلك. وليتمكن المأمون بذلك من محاربة العلويين بنفس السلاح الذي بأيديهم، وليصير ـ من ثم ـ من الصعب استجابة الناس لهم، إذا دعوا لأية ثورة ضد حكم اعترفوا هم بشرعيته، وأيدوه، وتعاونوا معه من قبل، وعلى أعلى مستوى ومن أعظم شخصية فيهم.

____________

(١) هو الدكتور كامل مصطفى الشيبي في كتابه: الصلاة بين التصوف والتشيع ص ٢١٩.

٢١٠

بل لقد كان يريد أن يحصل من العلويين على اعتراف بأن الحكم حق للعباسيين فقط. أما هم، فليس لهم فيه أدنى نصيب، وما فعله المأمون من إسناد ولاية العهد لواحد منهم، ما كان إلا تفضلاً وكرماً، ومن أجل أن يجمع شمل البيتين العلوي والعباسي، وتصفو القلوب ويمحو ما كان من أمر الرشيد وغيره من أسلافه مع العلويين.

ولقد حاول المأمون أن ينتزع من الإمام اعترافا بأن الخلافة حق للعباسيين، شفاهاً أيضاً فكانت النتيجة عكس ما أراد المأمون، وذلك عندما عرض بالمن على الإمام بأن جعله ولي عهده، فأجابه الإمامعليه‌السلام : بأن هذا الأمر لم يزده في النعمة شيئاً، وأنه وهو في المدينة كانت كتبه تنفذ في المشرق والمغرب.

كما أن المأمون قد قال لحميد بن مهران، وجمع من العباسيين: (.. وليعتقد فيه المفتونون به، بأنه ليس مما ادعى في قليل، ولا كثير، وأن هذا الأمر لنا دونه.) ولسوف يأتي الكلام عن هذه التصريحات إن شاء الله كما قلنا.

وبعد.. فإنه لا يكون من المبالغة في شيء لو قلنا: إن حصول المأمون على اعتراف من العلويين، ومن الإمام الرضاعليه‌السلام خاصة، بشرعية خلافته، وخلافة، بني أبيه أخطر على العلويين من الأسلوب الذي انتهجه أسلافه من أمويين وعباسيين ضدهم،: من قتلهم، وتشريدهم، وسلب أموالهم، إلى غير ذلك مما هو معروف ومشهور.

الهدف العاشر:

يضاف إلى ذلك، أنه يكون قد حصل على اعتراف ضمني من الإمام بشرعية تصرفاته، طيلة فترة ولاية العهد، وليعطي الناس ـ من ثم ـ الصورة التي يريدها عن الحكم والحاكم، وليؤكد للملأ أجمع: أن الحاكم هذا هو سلوكه، وهذه هي تصرفاته: من كان، ومهما كان، وإذن فليس لهم بعد حق في أن يتطلعوا إلى حكومة أحد على أن بها شيئاً جديداً، ولا أن ينظروا إلى جهة على أنها يمكن أن يكون بها المنقذ لهم، والمخرج من الظلمات إلى النور، حتى ولو كانت تلك الجهة هي آل بيت نبيهم، فإنه من الطبيعي أن يتبع السياسيون أساليب، ويتكلموا بأشياء كثيرة، ينسبونها بمجرد وصولهم إلى الحكم، وتسلمهم لازمة السلطة، فإن تلك لا تعدو كونها تكتيكات، ووعودا انتخابية، يحتاجون إليها في ظروف معينة، ثم يستغنون عنها.. كما كانت الحال في وعود المأمون، التي أشرنا إليها فيما تقدم.

٢١١

وهكذا.. فيكون سكوت الإمام في فترة ولاية العهد، عن تصرفات الهيئة الحاكمة، دالا على رضاه بها، ويعتبر إمضاء لها.. وبعد هذا.

فلا يجب أن يكون من العسير على الناس أن يتصوروا طبيعة وماهية حكم الإمام، وكل من يقدر له أن يصل الحكم والسلطان، سواء من العلويين، أو من غيرهم.

وإذا كانت الصورة واحدة، والجوهر واحد، والاختلاف إنما هو فقط في الاسم والعنوان، فليس لهم بعد حق، أو على الأقل ما الداعي لهم، لأن يطلبوا حكماً أفضل، أو حكاماً أعدل، فإنه طلب لغير موجود، وسعي وراء مفقود.

الهدف الحادي عشر:

هذا.. وبعد أن يكون المأمون قد حصل على كل ما قدمناه، وحقن دماء العباسيين، واستوثقت له الممالك، ولم يعد هناك ما يعكر صفو حياته(١) ، وقوي مركزه، وارتفع بالخلافة من الحضيض المهين، الذي أوصلها إليه أسلافه إلى أوج العظمة، والتمكن والمجد. وأعطاها من القوة والمنعة، ووهبها من الحياة في ضمير الأمة ووجدانها ما هي بأمس الحاجة إليه.. ولتتمكن من ثم من الصمود في وجه أية عاصفة، وإخماد أية ثورة، ومقاومة كل الأنواء، وذلك هو حلمه الكبير، الذي طالما جهد في تحقيقه إنه بعد أن يكون قد حصل على كل ذلك وسواه مما قدمناه:

____________

(١) لقد صرح الذهبي في الجزء الأول من كتابه (العبر) بأنه في سنة ٢٠٠ ه‍. استوثقت الممالك للمأمون. وهذه هي نفس السنة التي أتي فيها بالإمامعليه‌السلام من المدينة إلى مرو.. ولكن اليافعي في مرآة الجنان ج ٢ ص ٨: قد جعل ذلك في سنة ٢٠٣: أي في السنة التي تخلص فيها المأمون من الإمام الرضاعليه‌السلام بواسطة السم الذي دسه إليه.. وفي اليعقوبي ج ٢ ص ٤٥٢ طبع صادر: أنه في السنة التي غادر فيها المأمون خراسان: (لم تبق ناحية من نواحي خراسان يخاف خلافها).

٢١٢

يكون قد أفسح لنظام حكمه المجال ـ تلقائيا ـ لتصفية حساباته مع خصومه، أياً كانوا. وبأي وسيلة كانت، وبهدوء، وراحة فكر واطمئنان إن اقتضى الأمر ذلك.

كما أنه يكون قد مهد الطريق لتنفيذ الجزء الثاني ـ ولعله الأهم ـ من خطته الجهنمية، بعيداً عن الشبهات، ودون أن يتعرض لتهمة أحد، أو شك من أحد..

ألا وهو: القضاء على العلويين بالقضاء على أعظم شخصية فيهم. وليكون بذلك قد قضى نهائياً، وإلى الأبد، على أكبر مصدر للخطر، يمكن أن يتهدده، ويتهدد خلافته ومركزه.

إنه يريد زعزعة ثقة الناس بهم، واستئصال تعاطفهم معهم، وليحوله ـ إن استطاع ـ إلى كره ومقت، بالطرق التي لا تمس العواطف والمشاعر، ولا تثير الكثير من الشكوك والشبهات.

يظهر ذلك في محاولاته إسقاط الإمام إجتماعياً، والوضع منه قليلاً قليلاً، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر، وليدبر فيه في نهاية الأمر بما يحسم عنه مواد بلائه.. كما صرح لحميد بن مهران، وجمع من العباسيين، وسنتكلم بنوع من التفصيل عن محاولات المأمون هذه، التي باءت كلها بالفشل الذريع، وعادت عليه بالخسران، لأن الإمامعليه‌السلام كان قد أحبطها عليه، بل لقد كان لها من النتائج العكسية بالنسبة إليه ما جعله يتعجل بتصفية الإمام جسديا، بعد أن أشرف هو منهعليه‌السلام على الهلاك.. بالطريقة التي حسب أنها سوف لا تثير الكثير من الشكوك والشبهات.

ملاحظة لا بد منها:

ومن الأمور الجديرة بالملاحظة هنا: أن المأمون كان يقدر أن مجرد جعل ولاية العهد للإمام، سوف يكون كافيا لتحطيمه إجتماعياً، وإسقاطه نهائياً من أعين الناس، حيث يظهر لهم بالعمل ـ لا بالقول: أن الإمام رجل دنيا فقط، وأن تظاهره بالزهد والتقوى ما هو إلا طلاء زائف، لا واقع له، ولا حقيقة وراءه. ولسوف تكون النتيجة هي تشويه سمعة الإمامعليه‌السلام ، وزعزعة ثقة الناس به، وذلك بسبب الفارق الكبير بالسن، بين الخليفة الفعلي، وبين ولي عهده، إذ إن ولي العهد لا يكبر الخليفة الفعلي بسنتين، أو ثلاثة، أو خمسة، لا.. بل أكثر من ذلك بكثير، إنه يكبره بـ‍(٢٢) سنة،

٢١٣

وإنه لمن الأمور غير الطبيعية أبداً: أن يقبل ولاية العهد، وهو يكبر الخليفة الفعلي بهذا المقدار الكبير من السنين، ولسوف يكون قبوله لها ـ مع هذا الفارق بينهما ـ موجبا لجعله عرضة لشكوك الناس، وظنونهم، ولسوف يتسبب بوضع علامات استفهام كبيرة حوله.. كما كان الحال، بالنسبة لسؤال محمد بن عرفة، وكلام الريان المتقدم.. ولسوف يفسر(١) ذلك من أولئك الذين لا يدركون حقيقة ما يجري، وما يحدث، ـ وما أكثرهم ـ بتفسيرات تنسجم مع رغائب المأمون، وأهدافه. لأنهم سوف يرون أن زهدهعليه‌السلام بالدنيا، ليس إلا ستاراً تختفي وراءه مطامعه فيها، وحبه المستميت لها، حتى إنه ليطمع أن يعيش إلى ما بعد الخليفة الفعلي، الذي هو أصغر من ولده، ويصل إلى الحكم.. وباختصار نقول:

إنه يريد أن: (.. يعتقد فيه المفتونون به بأنه: ليس ما ادعى في قليل ولا كثير.) حسبما صرح به هو نفسه.. وعلى حد قول الإمام نفسه، الذي كان يدرك خطة المأمون هذه: (.. أن يقول الناس: إن علي بن موسى، لم يزهد في الدنيا، بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعا بالخلافة؟!.). كما سيأتي.

____________

(١) ولكنا، مع ذلك نجد: أن قسما من أصحاب الرضاعليه‌السلام ، ممن كانوا يراقبون الأحداث بوعي ودراية، كانوا يدركون نوايا المأمون وأهدافه هذه ففي البحار ج ٤٩ ص ٢٩٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٩: أنه قد سئل أبو الصلت: (كيف طابت نفس المأمون بقتل الرضا مع إكرامه ومحبته له، وما جعل له من ولاية العهد بعده؟! فقال: إن المأمون كان يكرمه ويحبه لمعرفته بفضله، وجعل له ولاية العهد من بعده، ليري الناس أنه راغب في الدنيا، فلما لم يظهر منه إلا ما ازداد به فضلاً عندهم، ومحلاً في نفوسهم، جلب عليه إلخ.).

٢١٤

وعن الريان قال: دخلت على الرضا، فقلت: يا ابن رسول الله، إن الناس يقولون: إنك قبلت ولاية العهد، مع إظهارك الزهد في الدنيا؟!، فقالعليه‌السلام :((قد علم الله كراهتي..)) (١) وقد أشرنا إلى سؤال محمد بن عرفة، وكلام الريان فيما تقدم.

وعلى أي شيء يبكي المأمون، ومن أجل أي شيء يشقى ويتعب، ويسهر الليالي، ويتحمل المشاق.. إلا على هذا.. إن هذا هو أجل أمنياته وأغلاها.

سؤال وجوابه:

قد يدور بخلد القارئ أن ما ذكرناه هنا: فيما يتعلق بالفارق الكبير بالسن، ينافي ما تقدم من أن المأمون كان يريد الحصول على قاعدة شعبية، والارتفاع بالخلافة من الحضيض الخ.

ولكن الحقيقة هي:

أنه لا منافاة هناك.. ويمكن للمأمون أن يقصد كل ذلك من البيعة، لأن مقدار التفاوت بالسن بين الإمامعليه‌السلام والمأمون، لم يكن مما يعرفه الكثيرون، ولا مما يلتفت إليه عوام الناس في بادئ الأمر، لأنهم يأخذون الأمور على ظواهرها، ولا يتنبهون إلى مثل ذلك، إلا بعد تنبيه وتذكير، فللوهلة الأولى تجوز عليهم الخدعة، ويقدرون خطوة المأمون هذه، وتنتعش الآمال في نفوسهم بالحياة الهنيئة السعيدة، تحت ظلم حكم بدا أنه يتخذ العدل ديدنا، والإنصاف طريقة..

____________

(١) علل الشرايع ص ٢٣٨، والبحار ج ٤٩ ص ١٣٠، وأمالي الصدوق ص ٤٤، ٤٥.

٢١٥

ثم.. وبعد أن يجند المأمون أجهزة إعلامه، من أجل تسميم الأفكار، يجد أن نفوس الناس مهيأة ومستعدة لتقبل ما يلقى إليها. ويكون لديه ـ باعتقاده ـ من الحجج ما يكفي لإسقاط الإمام، وزعزعة ثقة الناس به. ولا يؤثر ذلك بعد ذلك على الحكم، فإن الحكم يكون قد استنفذ أغراضه من البيعة. وحصل على ما يريد الحصول عليه منها.. هذا ولا بد لنا هنا من ملاحظة أن المأمون وأجهزة إعلامه كانوا في مقابل وصم الإمام بالرغبة بالدنيا والتفاني في سبيلها.. يشيعون بين الناس عن المأمون عكس ذلك تمام، فيطلب المأمون من وزيره أن يشيع عنه الزهد، والورع والتقوى(١) .. وأنه لا يريد مما أقدم عليه الأخير الأمة ومصلحتها، حيث قد اختار لولاية عهده أفضل رجل قدر عليه، رغم أن ذلك الرجل هو من ذلك البيت الذي لا يجهل أحد موقفه من حكم العباسيين، وموقف العباسيين منه كما يتضح ذلك من وثيقة ولاية العهد، وغيرها.

رأي الناس فيمن يتصدى للحكم:

لعل من الواضح أن كثيراً من الناس كانوا يرون ـ في تلك الفترة من الزمن ـ لقصر نظرهم، وقلة معرفتهم: أن هناك منافاة بين الزهد والورع، والتقوى، وبين المنصب، وأنهما لا يتفقان، ولا يجتمعان.

____________

(١) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٤ ص ٢٦١.

٢١٦

وقد رأينا الكثيرين يمتنعون على تولي المناصب للحكام، لما يرونه من المنافاة المشار إليها.

ولعل سر فهمهم هذا: هو أنهم كانوا قد اعتادوا من الحكام التجاوز على الحقوق، والدماء، والأموال، وعلى أحكام الدين، والنواميس الإنسانية، بشكل عام. والزهد والورع لا يتلائم مع ذلك كله، ولا ينسجم معه.

ولكن الحقيقة هي: أن لا منافاة بينهما أبداً، فإن الحكم إذا كان وسيلة لإيصال الخير إلى الآخرين، ورفع الظلم عنهم، وإشاعة العدل، إقامة شريعة الله تعالى، فيجب السعي إليه، والعمل من أجله، وفي سبيله.. بل إذا لزم من ترك السعي إليه، تضييع الحقوق، وانهيار صرح العدل، والخروج على أحكام الدين، فإن ترك السعي هذا، يكون هو المنافي للزهد والورع والتقوى..

ولقد قاد النبيعليه‌السلام الأمة، وقبله قادها سليمان بن داوود، وغيره، وبعده الإمام علي بن أبي طالب، وولده الحسن، ثم الحسين، وهكذا..

وحال هؤلاء في الزهد والورع، لا يحتاج إلى مزيد بيان، وإقامة برهان، بل لم يكن على ظهرها أزهد، ولا أتقى، ولا أفضل، ولا أورع منهم، عدوهم يعرف منهم ذلك تماماً كما يعرفه منهم صديقهم. فعدا عن الأنبياء الذين كانوا القمة في الورع والزهد والتقوى، نرى الإمام عليعليه‌السلام قمة في ذلك أيضاً، وقد رقع مدرعته حتى استحيا من راقعها، وكان راقعها هو ولده (الإمام الحسنعليه‌السلام )(١) . وكان يصلي في بيت المال ركعتين شكراً لله، بعد فراغ المال منه. وكان يقول:((إليك عني يا دنيا غري غيري، أبي تعرضت؟!..)) الخ وهو الذي قال فيه عدوه معاوية: (لو كان له بيتان: بيت من تبر، وآخر من تبن، لأنفق تبره قبل تبنه.). إلى غير ذلك مما لا مجال لنا لتتبعه واستقصائه..

____________

(١) راجع: الدرة النجفية ص ٣٠٣، طبعة حجرية.

٢١٧

العلويون يدركون نوايا المأمون:

إن نوايا المأمون تجاه العلويين، ومحاولاته لإسقاطهم إجتماعياً، وابتزازهم سياسياً.. حتى إذا أخفق في ذلك راح يختلهم واحداً فواحداً، كلما واتاه الظرف، وسنحت له الفرصة.. لم يكن العلويون يجهلونها، بل كانوا يدركونها كل الإدراك، ولم تكن تخدعهم تلك الشعارات والأساليب المبهرجة. وحسبنا هنا أن نذكر في مقام التدليل على هذا: أن المأمون كتب لعبد الله بن موسى، بعد وفاة الرضا، يعده بأنه يجعله ولي عهده، ويقول له: (ما ظننت أن أحداً من آل أبي طالب يخافني بعد ما عملته بالرضا).

فأجابه عبد الله يقول: (وصل إلي كتابك، وفهمته، تختلني فيه عن نفسي مثل القانص، وتحتال علي حيلة المغتال، القاصد لسفك دمي. وعجبت من بذلك العهد، ولايته لي بعدك، كأنك تظن: أنه لم يبلغني ما فعلته بالرضا؟! ففي أي شيء ظننت أني أرغب من ذلك؟ أفي الملك الذي غرتك حلاوته؟!.

إلى أن يقول: أم في العنب المسموم الذي قتلت به الرضا؟!).

ويقول له أيضاً ـ والظاهر أنه نص آخر للرسالة ـ: (هبني لا ثأر لي عندك، وعند آبائك المستحلين لدمائنا الآخذين حقنا، الذين جاهروا في أمرنا، فحذرناهم. وكنت ألطف حيلة منهم، بما استعملته من الرضا بنا، والتستر لمحننا، تختل واحداً،

____________

(١) ترجمة الإمام عليعليه‌السلام من تاريخ ابن عساكر بتحقيق المحمودي ج ٣ ص ٥٨ ـ ٦٠.

٢١٨

فواحداً منا الخ..)(١) .

ولا بد من ملاحظة: منافاة وعده هذا لعبد الله بن موسى بأن يجعل له ولاية العهد.. للرسالة التي أرسلها إلى العباسيين في بغداد، فور وفاة الرضاعليه‌السلام ، ويعدهم فيها بأن يجعل ولاية العهد فيهم، وسنشير إلى رسالته لهم في فصل: مع بعض خطط المأمون إن شاء الله وعلى كل حال.. فإننا نستطيع أن نفهم من هذه الرسالة التي لعبد الله بن موسى أموراً، نشير إلى بعضها:

أولاً: إن المأمون كان قد جعل ولاية العهد وسيلة لختل الشخصيات التي كان يخشاها، والغدر بها، إذ إن من المقبول والطبيعي ـ كما يرى البعض ـ أن يكون ولي العهد هو الذي يتآمر، ويدبر للتخلص من الخليفة الفعلي، ليختصر المسافة، ويصل إلى الحكم، الذي ينتظر الوصول إليه، والحصول عليه بفارغ الصبر. وليس من الطبيعي، ولا من المقبول أن يتآمر الخليفة على ولي عهده، إلا إذا كان يريد أن يجعل الخلافة لمن هو أعز عليه منه، وهذا ما نفاه المأمون عن نفسه في أكثر من مناسبة.

وهكذا.. فإن النتيجة تكون: أن الخليفة الفعلي يكون آخر من يتهم في ولي العهد، إذا ما راح ضحية التآمر والاغتيال، وعرف الناس ذلك. وهذا بلا شك من جملة ما كان يريده المأمون، ويسعى إليه.

ثانياً: إن المأمون رغم الصعوبات التي واجهها في فترة تولية الرضاعليه‌السلام العهد.. يبدو أنه كان يعتبر نفسه منتصراً وناجحاً في لعبته تلك، ولذلك نرى أنه قد حاول تكرار نفس اللعبة مع عبد الله بن موسى. ولكن يقظة هذا الأخير، الذي كانت ظروفه تختلف عن ظروف الإمامعليه‌السلام قد فوتت عليه الفرصة، وأعادته. بخفي حنين.

____________

(١) مقاتل الطالبيين للأصفهاني ص ٦٢٨، إلى ص ٦٣١، وسنورد الرسالة في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله.

٢١٩

كما أننا لا نستبعد أن المأمون قد أراد بالإضافة إلى ذلك التستر على غدره بالرضاعليه‌السلام ، بعد أن كان قد افتضح واشتهر، رغم محاولاته الجادة للتستر والكتمان.

ثالثاً: ما تقدمت الإشارة إليه من أن إكرامه للعلويين، والرضا بهم، والتستر لمحنهم، ما كان منه إلا ضمن خطة مرسومة، وإلا سياسة منه ودهاء، من أجل أن يأمن العلويون جانبه، ويطمئنوا إليه، كما يدل عليه قوله لعبد الله بن موسى: (ما ظننت أحداً من آل أبي طالب يخافني بعد ما عملته بالرضا) وقد قدمنا أنه أشار إلى ذلك أيضاً في كتابه للعباسيين، فلا نعيد..

رابعاً: أنه لم يستطع أن يخفي عن العلويين ـ كما لم يستطع أن يخفي عن غيرهم ـ غدره بالإمام الرضاعليه‌السلام ، وسمه له بالعنب، وكذلك غدره بغيره من العلويين. وسر ذلك واضح، فإن جميع الدلائل والشواهد كانت متوفرة على ذلك، كما سيأتي بيان جانب من ذلك في فصول هذا الكتاب بنوع من التفصيل.

موقف الإمام في مواجهة مؤامرات المأمون:

لقد رأينا كيف أن المأمون أراد من لعبته تلك، التغلب على المشاكل التي كان يواجهها، والاستفادة في تقوية دعائم خلافته، وخلافة العباسيين بشكل عام.. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما هو موقف الإمامعليه‌السلام نفسه من لعبة المأمون تلك، وخططه، وأهدافه؟، وهل أفسح المجال للمأمون ليحقق كل ما يريد تحقيقه، ويصل إلى ما

كان يريد الوصول إليه؟.. وهل كانت لديه خطط من نوع معين، وأهداف معينة كان يسعى من أجل الوصول إليها، والحصول عليها؟!.

الحقيقة هي: أن الإمامعليه‌السلام قد استطاع، بما اتبعه من خطة حكيمة، وسلوك مثالي: أن يضيع على المأمون كافة الفرص، ويجعله يبوء بالخيبة والخسران، ويمنى بالفشل الذريع، حتى لقد أشرف المأمون منه على الهلاك، وبدا الارتباك واضحاً في كل تصرفاته، وأقواله، وأفعاله..

وسيأتي في الفصول الآتية في القسمين: الثالث، والرابع بيان بعض ما يتعلق بذلك إن شاء الله.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394