مقتل العباس (عليه السلام)

مقتل العباس (عليه السلام)15%

مقتل العباس (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 394

  • البداية
  • السابق
  • 394 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 77225 / تحميل: 11575
الحجم الحجم الحجم
مقتل العباس (عليه السلام)

مقتل العباس (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

٨ - واُمّها بنت جحدر بن ضبيعة الأغر بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن ربيعة بن نِزار.

٩ - واُمّها بنت ملك بن قيس بن ثعلبة.

١٠ - واُمّها بنت ذي الرأسين: وهو خشين بن أبي عصم بن سمح بن فزارة. وفي القاموس: خشين بن لاي(١) . وفي تاج العروس: لاي بن عصيم(٢) .

١١ - واُمّها بنت عمر بن صرمة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن الريث بن غطفان.

هذا ما ذكره أبو الفرج في المقاتل(٣) من جدّات اُمّ البنين والدة العبّاسعليه‌السلام ، ومنه عرفنا آباءها وأخوالها، ويُعرّفنا التاريخ أنّهم فرسان العرب في الجاهليّة، ولهم الذكريات المجيدة في المغازي بالفروسيّة والبسالة، مع الزعامة والسّؤدد حتّى أذعن لهم الملوك، وهم الذين عناهم عقيل بن أبي طالب بقوله: ليس في العرب أشجع من آبائها(٤) ولا أفرس.

وذلك مراد أمير المؤمنينعليه‌السلام من البناء على امرأة ولدتها الفحولة من العرب؛ فإنّ الآباء لا بدّ وأنْ تُعرف في البنين ذاتيّاتها وأوصافها، فإذا كان المولود ذكراً بانت فيه هذه الخصال الكريمة، وإنْ كانت اُنثى بانت في أولادها، وإلى هذا أشار صاحب الشريعة الحقّة بقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« الخالُ أحدُ الضَّجيعين؛ فتخيَّروا لِنُطفكُمْ » (٥) .

____________________

(١) القاموس المحيط ٢ / ٢١٨.

(٢) تاج العروس ٨ / ٢٩٨، ولا خلاف بينهما بعد المراجعة.

(٣) مقاتل الطالبيين / ٥٣.

(٤) عمدة الطالب لابن عنبة / ٣٥٧.

(٥) الكافي ٥ / ٣٣٢، ح٢، والحديث:« اختاروا لِنُطفكُمْ؛ فإنّ الخالَ أحدُ الضَّجيعين » .

١٢١

وقد ظهرت في أبي الفضلعليه‌السلام الشجاعتان؛ الهاشمية التي هي الأربى والأرقى، فمن ناحية أبيه سيّد الوصيّينعليه‌السلام ، والعامرية، فمِن ناحية اُمّه اُمّ البنين؛ فإنّ من قومها أبا براء عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب، جدّ ثمامة والدة اُمّ البنين، وهو الجدّ الثاني لاُمّ البنين.

قيل له: ملاعب الأسنّة؛ لفروسيته وشجاعته، لقّبه بذلك حسّان لما رآه يقاتل الفرسان وحده وقد أحاطوا به، قال: ما هذا إلاّ ملاعب الأسنّة. وقيل: إنّ أوس بن حجر قال فيه:

يلاعبُ أطرافَ الأسنَّةِ عامرُ

فَراحَ لَهُ حظُّ الكتائِبِ أجمعُ(١)

وهو الذي استعانه ابنُ أخيه عامر بن الطفيل على منافرة علقمة بن علاثة بن عوف بن الأحوص، لمـّا تفاخرا على أنْ يسوق كُلّ منهما مئة ناقة تكون لمَن يحكم له، ووضع كُلّ منهما رهناً لمنِّ أبنائهم على يد رجل من بني الوحيد؛ فسُمّي الضمين إلى اليوم، وهو الكفيل. ولما استعانه عامر دفع إليه نعليه، وقال له: استعن بهما في منافرتك؛ فإنّي قد ربعتُ بهما أربعين مِرْابعاً(٢) .

والمِرْبَاع: ما يأخذه الرئيس من ربع الغنيمة دون أصحابه خالصاً لنفسه، وذلك عندما كانوا يغزون في الجاهليّة(٣) . وهذان النّعلان من مُختصات الرئيس التي يخرج بها في الأيام الخاصّة، وإلاّ فلا مَزيّة لهما حتّى يستعين بهما على المنافرة.

____________________

(١) تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ٢٦ / ١٠١.

(٢) الأعلام للزرگلي ٣ / ٣٥٥، الإصابة ٣ / ٤٨٥.

(٣) لسان العرب ٧ / ٤١٥، تاج العروس ١١ / ١١٢.

١٢٢

ومنهم عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب، وهو أخو عمرة الجدّة الاُولى لاُمّ البنين.

كان عامر أسود أهل زمانه، وأشهر فرسان العرب بأساً ونجدة، وأبعدها اسماً حتّى بلغ أنّ قيصر إذا قدم عليه قادم من العرب، قال: ما بينك وبين عامر بن الطفيل؟ فإنْ ذكر نسباً عظم عنده وأرفده، وإلاّ أعرض عنه.

[ ومن نافلة القول أنّه ] وفد عليه علقمة بن علاثة فانتسب له، [ فـ ] قال له قيصر: أنت ابنُ عمّ عامر بن الطفيل؟ فغضب علقمة، ثُمّ إنّه دخل على ملك الروم، فقال له: انتسب. فانتسب له، [ فـ ] قال الملك: أنت ابن عمّ عامر بن الطفيل؟ فغضب وخرج عنه(١) .

ومنهم عروة الرحّال بن عتبة بن جعفر بن كلاب، والد كبشة الجدّة الثانية لاُمّ البنين. كان وفّاداً على الملوك وله قدر عندهم؛ ومن هنا سُمّي الرحّال، وهو الذي أجاز لطيمة النّعمان التي كان يبعث بها كُلَّ عام إلى سوق عكاظ، فقتله البراض بن قيس الكناني واستاق العير؛ وبسببه هاجت حرب الفجّار بين حي خندف وقيس(٢) .

ومنهم الطفيل فارس قرزل، وهو والد عمرة الجدّة الاُولى لاُمّ البنين. كان معروفاً بالشجاعة والفروسية، وهو أخو ملاعب الأسنّة وربيعة، وعبيدة ومعاوية بنو جعفر بن كلاب، يُقال لاُمّهم: اُمّ البنين. وإيّاها عَنى لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب لمـّا وفد بنو جعفر على النّعمان بن المنذر، وكان سميره الربيع بن زياد

____________________

(١) قسم من الكلام موجود في الإصابة ٤ / ٤٥٨، وخزانة الأدب ٣ / ٨٠. على أنّ الكلام الوارد بين المعقوفتين هو من أضافات(موقع معهد الإمامَين الحسنَين) .

(٢) الطبقات الكبرى ١ / ١٢٧، الأعلام للزركلي ٢ / ٤٧.

١٢٣

العبسي، فاتّهموه بالسّعي عليهم، فلمـّا غدوا على النّعمان كان معهم لبيد، وهو أصغرهم، فرأوا النّعمان يأكل مع الربيع، فقال لبيد:

يا واهبَ الخيرِ الجزيلِ مِنْ سَعَهْ

نَحنُ بَنو أُمِّ البَنينَ الأَربَعَهْ

ونحنُ خيرُ عامرِ بنِ صَعْصعهْ

المـُطعِمونَ الجَفنَةَ المـُدَعدَعَهْ

وَالضارِبونَ الهامَ تَحتَ الخَيضَعَهْ

إِلَيكَ جاوَزنا بِلاداً مُسبِعَهْ

يُخبِركَ عَن هَذا خَبيرٌ فَاِسمَعَهْ

ممَهلاً أَبَيتَ اللَعنَ لا تَأكُل مَعَهْ

إِنَّ اِستَهُ مِن بَرَصٍ مُلَمَّعَهْ

وَإِنَّهُ يُولجُ فيها إِصبَعَهْ

يُولجُها حَتّى يُواري أَشجَعَهْ

كَأَنَّما يَطلُبُ شَيئاً ضَيَّعَهْ

فلم ينكر عليه النّعمان ولا أحد من العرب؛ لأنّ لهم شرفاً لا يُدافع؛ ولذلك طرد النّعمان الربيع عن مسامرته، وقال له:

شَرّدْ برحلِكَ عَنِّي حَيثُ شئتَ وَلا

تَكثر عَليَّ وَدَعْ عَنكَ الأَباطيلا

قدْ قيل ذلكَ إنْ حقَّاً وإنْ كذباً

فما اعتذارُكَ في شيءٍ إذا قيلا(١)

____________________

(١) معجم البلدان ١ / ٣٨٦، خزانة الأدب ٤ / ١٠.

١٢٤

الزواج:

تزوّج أمير المؤمنينعليه‌السلام من فاطمة ابنة حزام العامرية، إمّا بعد وفاة الصديقة سيّدة النّساءعليها‌السلام كما يراه بعضُ المؤرّخين(١) ، أو بعد أنْ تزوّج باُمامة بنت زينب بنت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كما يراه البعضُ الآخر(٢) . وهذا بعد وفاة الزهراءعليها‌السلام ؛ لأنّ اللّه قد حرّم النّساء على عليٍّعليه‌السلام ما دامت فاطمةُعليها‌السلام موجودة(٣) .

فولدت أربعة بنين وأنجبت بهم: العبّاس وعبد اللّه، وجعفر وعثمان، وعاشت بعده مدّة طويلة ولم تتزوّج من غيره، كما أنّ اُمامة وأسماء بنت عُميس وليلى النّهشلية لم يخرجنَ إلى أحد بعده، وهذه الحرائر الأربع تُوفي عنهنّ سيّد الوصيين (ع)(٤) .

وقد خطب المغيرة بن نوفل اُمامة، ثُمّ خطبها أبو الهياج بن أبي سفيان بن الحارث، فامتنعت، وروت حديثاً عن عليعليه‌السلام : أنّ أزواج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والوصيّعليه‌السلام لا يتزوّجنَ بعده؛ فلم يتزوّجنَ الحرائرُ واُمّهات الأولاد عملاً بالرواية(٥) .

____________________

(١) جواهر المطالب في مناقب الإمام علي / ١٢١، الدر النّظيم للعاملي / ٤١١.

(٢) السّيرة النّبويّة لابن كثير ٤ / ٥٨١، السّيرة الحلبيّة ٢ / ٤٥٢، الكنى والألقاب للقمي ١ / ١١٥.

(٣) مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ٣ / ١١٠، الأمالي للشيخ الطوسي / ٤٣، بشارة المصطفى للطبري / ٣٨١.

(٤) عمدة القارئ ٨ / ٤١، تنقيح التحقيق في أحاديث التعليق / ٣٠٥.

(٥) مناقب آل أبي طالب ٣ / ٩٠.

١٢٥

وكانت اُمّ البنين من النّساء الفاضلات العارفات بحقّ أهل البيتعليهم‌السلام ، مُخلصة في ولائهم، مُمحّضة في مودّتهم، ولها عندهم الجاه الوجيه والمحلّ الرفيع، وقد زارتها زينب الكبرى بعد وصولها المدينة تُعزّيها بأولادها الأربعة، كما كانت تزورها أيّام العيد.

وبلغ من عظمها ومعرفتها وتبصّرها بمقام أهل البيتعليهم‌السلام ، أنّها لمـّا اُدخلت على أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وكان الحسنانعليهما‌السلام مريضين، أخذت تُلاطف القول معهما، وتُلقي إليهما من طيب الكلام ما يأخذ بمجامع القلوب، وما برحت على ذلك تُحسن السّيرة معهما وتخضع لهما كالاُمّ الحنون.

ولا بِدعَ في ذلك؛ فإنّها ضجيعة شخص الإيمان، قد استضاءت بأنواره، وربت في روضة أزهاره، واستفادت من معارفه، وتأدّبت بآدابه، وتخلّقت بأخلاقه.

١٢٦

الولادة:

لقد أشرق الكون بمولد قمر بني هاشم يوم بزوغ نوره من اُفق المجد العلوي، مُرتضعاً ثدي البسالة، مُتربّياً في حِجر الخلافة، وقد ضربت فيه الإمامةُ بعرقٍ نابضٍ، فترعرع ومزيجُ روحه الشهامة والإباء، والنّزوع عن الدَّنايا، وما شُوهد مُشتدّاً بشبيبته الغضة إلاّ وملء إهابه إيمانٌ ثابت، وحشوُ ردائه حلم راجح، ولبّ ناضج، وعلم ناجع.

فلم يزل يقتصّ أثر السّبط الشهيدعليه‌السلام الذي خُلق لأجله، وكُوّن لأنْ يكون ردءاً له في صفات الفضل ومخائل الرفعة، وملامح الشجاعة والسّؤدد والخطر. فإنْ خطى سلام اللّه عليه فإلى الشرف، وإنْ قال فعَن الهُدى والرشاد، وإنْ رمق فإلى الحقِّ، وإنْ مال فعَن الباطل، وإنْ ترفّع فعَن الضيم، وإنْ تهالك فدون الدِّين.

فكان أبو الفضل جامع الفضل والمثل الأعلى للعبقرية؛ لأنّه كان يستفيد بلجِّ هاتيك المآثر من شمسِ فَلَكِ الإمامة ( حسينُ العلمِ والبأسِ والصلاحِ )، فكان هو وأخوه الشهيدعليهما‌السلام من مصاديق قوله تعالى في التأويل:( وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا ) (١) . فلم يسبقه بقولٍ استفاده منه، ولا بعملٍ أتبعه فيه، ولا بنفسيَّةٍ هي ظلّ نفسيَّته، ولا بمنقبة هي شعاع نوره الأقدس المـُنطبع في مرآة غرائزه الصقيلة.

____________________

(١) سورة الشمس / ١ - ٢.

١٢٧

وقد تابع إمامه في كُلّ أطواره حتّى في بروز هيكله القدسي إلى عالم الوجود، فكان مولد الإمام السّبطعليه‌السلام في ثالث شعبان، وظهور أبي الفضل العبّاس إلى عالم الشهود في الرابع منه(١) سنة ستٍّ وعشرين من الهجرة(٢) .

وممّا لا شكّ فيه أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام لمـّا اُحضر أمامه ولدُهُ المحبوبُ ليُقيم عليه مراسيم السُّنّة النّبويّة التي تُقام عند الولادة، ونظر إلى هذا الولد الجديد الذي كان يتحرّى البناء على اُمّه أنْ تكون من أشجع بيوتات العرب؛ ليكون ولدها ردءاً لأخيه السّبط الشهيد يوم تحيط به عصب الضلال، شاهد بواسع علم الإمامة ما يجري عليه من الفادح الجَلل، فكان بطبع الحال يُطبّق على كُلِّ عضو يُشاهده مصيبةً سوف تجري عليه، يُقلّب كفّيه اللذين سيُقطعان في نُصرة حُجّة وقته، فتهمل عيونُهُ،

____________________

(١) أنيس الشيعة للعلاّمة السيّد محمّد عبد الحسين ابن السيّد محمّد عبد الهادي المـُدارسي الهندي، قال شيخنا الحجّة في الذريعة إلى مصنّفات الشيعة ٢ / ٤٥: رأيت الكتاب في النّجف عند العالم السيّد آقا التستري من أحفاد السيّد نعمة اللّه الجزائري، والكتاب في وقائع الأيّام من موجبات السّرور والأحزان، من مواليد الأئمّةعليهم‌السلام ووفياتهم ومعاجزهم... رتّبه على الأشهر؛ بدأ بربيع الأوّل وختم في شهر صفر، وله مُقدّمة في نسب النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسنة جلوس الوصيِّعليه‌السلام ، وخاتمة في أحوال الحُجّة المـُنتظرعليه‌السلام .

وذكر العلاّمة ميرزا محمّد علي الاُوردبادي أنّه قرأ بخطّ المؤلِّف على ظهر الكتاب: إنّه أهداه إلى السّلطان فتح علي شاه يوم الجُمعة أوّل شعبان سنة ١٢٤٤ هـ. وللمؤلِّف كتب منها: زاد المؤمنين، وتذكرة الطريق، وعناية الرّب.

(٢) المـُجدي، والأنوار النّعمانيّة / ١٢٤، وحكاه في كتاب قمر بني هاشم / ٢٢ عن وقائع الأيّام للشيخ محمّد باقر البيرجندي.

١٢٨

ويُبصر صدرَه عيبةَ العلم واليقين، فيُشاهده منبتاً لسهام الأعداء، فتتصاعد زفرتُهُ، وينظر إلى رأسه المـُطهّر فلا يعزب عنه أنّه سوف يُقرع بعمد الحديد؛ فتثور عاطفتُهُ وترتفعُ عقيرتُه، كما لا يُبارح فاكرته حينما يراه يسقي أخاه الماء ما يكون غداً من تفانيه في سقاية كريمات النّبوّة، ويحمل إليهنّ الماء على عطشه المرمض، وينفض الماء حيث يذكر عطش أخيهعليه‌السلام ؛ تهالكاً في المواساة، ومبالغة في المفادات، وإخلاصاً في الاُخوّة، فيتنفس الصعداء، ويُكثر من قول:« مالي وليزيد! » (١) . وعلى هذا فقس كُلَّ كارثةٍ يُقدّر سوف تلمّ به وتجري عليه.

فكان هذا الولد العزيز على أبويه وحامّته، كُلّما سرّ أباه اعتدالُ خلقتِهِ، أو ملامح الخير فيه، أو سمة البسالة عليه، أو شارة السّعادة منه، ساءه ما يُشاهده هنالك من مصائب يتحمّلها، أو فادحٍ ينوء به؛ من جُرحٍ دامٍ، وعطشٍ مُجهدٍ، وبلاءٍ مُكرب. وهذه قضايا طبيعيّة تشتدّ عليها الحالة في مثل هاتيك الموارد، ممّن يحمل أقلّ شيء من الرّقّة على أقلّ إنسان، فكيف بأمير المؤمنينعليه‌السلام الذي هو أعطف النّاس على البشر عامّة من الأب الرؤوف، وأرقّ عليهم من الاُمّ الحنون!

إذاً فكيف به في مثل هذا الإنسان الكامل (أبي الفضل) الذي لا يقف أحدٌ على مدى فضله، كما ينحسر البيان عن تحديد مظلوميّته واضطهاده.

____________________

(١) مثير الأحزان لابن نما الحلّي / ١٢.

١٢٩

وذكر صاحب كتاب ( قمر بني هاشم ) ص٢١: إنّ اُمّ البنين رأت أمير المؤمنينعليه‌السلام في بعض الأيّام أجلس أبا الفضلعليه‌السلام على فخذه، وشمّر عن ساعديه، وقبَّلهما وبكى، فأدهشها الحال؛ لأنّها لم تكنْ تعهد صبيّاً بتلك الشمائل العلويّة ينظر إليه أبوه ويبكي من دون سبب ظاهر، ولمـّا أوقفها أمير المؤمنينعليه‌السلام على غامض القضاء، وما يجري على يديه من القطع في نصرة الحسينعليه‌السلام ، بكت وأعولت، وشاركها مَن في الدار في الزفرة والحسرة، غير أنّ سيّد الأوصياءعليه‌السلام بشّرها بمكانة ولدها العزيز عند اللّه جلّ شأنه، وما حباه عن يديه بجناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة، كما جعل ذلك لجعفر بن أبي طالب، فقامت تحمل بشرى الأبد، والسّعادة الخالدة.

١٣٠

صفاته:

لقد كان من عطف المولى سبحانه وتعالى على وليّه المـُقدّس، سلالة الخلافة الكبرى، سيّد الأوصياءعليه‌السلام ، أنْ جمع فيه صفات الجلالة؛ من بأس وشجاعة، وإباء ونجدة، وخلال الجمال؛ من سُؤدد وكرم، ودماثة في الخلق وعطف على الضعيف، كُلّ ذلك من البهجة في المنظر، ووضاءة في المـُحيّا من ثغر باسم ووجه طلق، تتموّج عليه أمواه الحسن، ويطفح عليه رواء الجمال، وعلى أسرّة جبهته أنوارُ الإيمان، كما كانت تعبق من أعراقه فوائحُ المجد، متأرّجة من طيب العنصر.

ولمـّا تطابق فيه الجمالان الصوري والمعنوي، قيل له: ( قمر بني هاشم )(١) ؛ حيث كان يشوء بجماله كُلَّ جميل، وينذُّ بطلاوة منظره كُلّ أحد حتّى كأنّه الفذّ في عالم البهاء، والوحيد في دنياه، كالقمر الفائق بنوره أشعة النّجوم، وهذا هو حديث الرّواة: كان العبّاس رجلاً وسيماً جميلاً، يركب الفرس المـُطهّم ورجلاه تخطّان في الأرض، وكان يُقال له: قمر بني هاشم(٢) .

وقد وصفته الرواية المحكيّة في مقاتل الطالبيين، بإنّ ( بين عينيه أثرُ السّجود ). ونصّه:

____________________

(١) كان يُقال لعبد مناف: ( قمرُ البطحاء ). ولعبد اللّه والد النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( قمرُ الحَرَم ).

(٢) مقاتل الطالبيين / ٥٥.

١٣١

قال المدائني: حدّثني أبو غسّان هارون بن سعد، عن القاسم بن الأصبغ بن نباتة، قال: رأيتُ رجلاً من بني أبان بن دارم، أسود الوجه، وكنتُ أعرفه جميلاً شديدَ البياض، فقلت له: ما كدتُ أعرفك! قال: إنّي قتلتُ شابّاً أمردَ مع الحسين، بين عينيه أثرُ السّجود، فما نمتُ ليلةً - منذ قتلته - إلاّ أتاني، فيأخذ بتلابيبي حتّى يأتي جهنّم فيدفعني فيها، فأصيح فما يبقى في الحيِّ إلاّ سمع صياحي. قال: والمقتول هو العبّاس بن عليعليه‌السلام (١) .

وروى سبط ابن الجوزي عن هشام بن محمّد، عن القاسم بن الأصبغ المجاشعي، قال: لما اُتي بالرؤوس إلى الكوفة، وإذا بفارس أحسن النّاس وجهاً قد علّق في لبب فرسه رأسَ غلامٍ أمردٍ كأنّه القمرُ ليلة تمّه، والفرس يمرح، فإذا طأطأ رأسه لحق الرأسُ بالأرض، فقلتُ: رأسُ مَن هذا؟ قال: رأس العبّاس بن علي. قلتُ: ومَن أنت؟ قال: حرملة بن الكاهل الأسدي(٢) .

قال: فلبثت أيّاماً وإذا بحرملة وجهه أشدّ سواداً من القار، فقلتُ: رأيتك يوم حملت الرأس وما في العرب أنظر وجهاً منك، وما أرى اليوم أقبح ولا أسود وجهاً منك؟! فبكى، وقال: واللّه، منذ حملت الرأس وإلى اليوم ما تمرّ عليَّ ليلةٌ إلاّ واثنان يأخذان بضبعي، ثُمّ ينتهيان بي إلى نارٍ تُؤجّج، فيدفعاني فيها وأنا أنكص، فتسفعني كما ترى، ثُمّ مات على أقبح حال(٣) .

____________________

(١) مقاتل الطالبيين / ٧٩. الأصبغ هنا ابن نباتة؛ لأنّ بني مجاشع بطنٌ من حنظلة من تميم كما في نهاية الإرب للقلقشندي / ٣٣٤، والأصبغ بن نباتة حنظليٌّ تميميٌّ كما نصّ عليه ابن حجر في تهذيب التهذيب ١ / ٣٦٢.

(٢) في تاريخ الطبري ٤ / ٣٥٩: حرملة بن الكاهن، وفي الفصول المـُهمّة لابن الصباغ / ٨٤٥: حرملة بن الكاهل. والأمر سهل.

(٣) تذكرة الخواصّ / ٢٩١.

١٣٢

ويمنع الإذعان بما في الروايتين من تعريف المقتول بأنّه العبّاس بن عليعليه‌السلام ، عدم الالتئام مع كونه شابّاً أمردَ؛ فإنّ للعباس يوم قتله أربعاً وثلاثين سنة، والعادة قاضية بعدم كون مثله أمردَ، ولم ينصّ التاريخ على كونه كقيس بن سعد بن عبادة لا طاقة شعر في وجهه.

وفي دار السّلام للعلاّمة النّوري ج١ ص١١٤، والكبريت الأحمر ج٣ ص٥٢ ما يشهد للاستبعاد، واصلاحه كما في كتاب ( قمر بني هاشم ) ص١٢٦، بأنّه رأس العبّاس الأصغر، بلا قرينة، مع الشكّ في حضوره الطَّفِّ وشهادته، وهذا كاصلاحه بتقدير المقتول: ( أخ العبّاس ) المنطبق على عثمان الذي له يوم قتله إحدى وعشرين سنة، أو محمّد بن العبّاس المـُستشهد على رواية ابن شهر آشوب؛ فإنّ كُلّ ذلك من الاجتهاد البحت.

ولعلّ النّظرة الصادقة فيما رواه الصدوق، مُنضمّاً إلى رواية ابن جرير الطبري، تُساعد على كون المقتول حبيب بن مظاهر.

قال الصدوق: وبهذا الإسناد عن عمرو بن سعيد، عن القاسم بن الأصبغ بن نباتة، قال: قدم علينا رجل من بني أبان بن دارم ممّن شهد قتل الحسينعليه‌السلام ، وكان رجلاً جميلاً شديد البياض، فقلتُ له: ما كدت أعرفك لتغيّر لونك! قال: قتلتُ رجلاً من أصحاب الحسين، يُبصَرُ بين عينيه أثرُ السّجود، وجئت برأسه.

فقال القاسم: لقد رأيتُهُ على فرس له مرح وقد علّق الرأس بلبانه، وهو يُصيبه بركبتيه، قال: فقلت لأبي: لو أنّه رفع الرأس قليلاً، أما ترى ما تصنع به الفرس بيديها؟! فقال: يا بُني، ما يُصنع به أشدّ؛ لقد حدّثني، قال: ما نمتُ ليلةً منذ قتلتُهُ إلاّ أتاني في منامي

١٣٣

حتّى يأخذ بكتفي فيقودني، ويقول: انطلق. فيُنطَلق بي إلى جهنم فيُقذَف بي، فأصيح.

قال: فسمعتُ جارةً له قالت: ما يدعنا ننام شيئاً من الليل من صياحه. قال: فقمتُ في شبابٍ من الحيِّ فأتينا امرأته فسألناها، فقالت: قد أبدى على نفسه، قد صدقكم(١) .

وقد اتّفقت هذه الروايات الثلاث في الحكاية عن القاسم بن الأصبغ بن نباتة بما فُعل بالرأس الطاهر؛ وتُفيدنا رواية الصدوق أنّ المقتول رجلٌ لا شابٌّ، وأنّه من أصحاب الحسينعليه‌السلام ، ولا إشكال فيه، وإذا وافقنا ابن جرير على أنّ الرأس المـُعلّق هو رأس حبيب بن مظاهر - في حين أنّ المؤرّخين لم يذكروا هذه الفعلة بغيره من الرؤوس الطّاهرة - أمكننا أنْ ننسب الاشتباه إلى الروايتين السّابقتين؛ خصوصاً بعد ملاحظة ذلك الاستبعاد بالنّسبة إلى العبّاس، وتوقّفُ التصحيح فيهما على الاجتهاد بلا قرينة واضحة.

قال ابن جرير في ج٦ ص٢٥٢ من التاريخ: وقاتل قتالاً شديد، فحمل عليه رجلٌ من بني تميم فضربه بالسّيف على رأسه فقتله، وكان يُقال له: بديل بن صريم من بني عقفان، وحمل عليه آخر من بني تميم فطعنه فوقع، فذهب ليقوم فضربه الحُصين بن تميم على رأسه بالسّيف فوقع، ونزل إليه التميمي فاحتزّ رأسه، فقال له الحُصين: إنّي لشريكك في قتله. فقال الآخر: واللّه، ما قتله غيري. فقال الحُصين: أعطنيه أعقله في عُنق فرسي كيما يرى النّاس ويعلموا أنّي شركت في قتله، ثُمّ خذه أنت بعدُ فامضِ به إلى

____________________

(١) ثواب الأعمال للشيخ الصدوق / ٢١٩.

١٣٤

عبيد اللّه بن زياد، فلا حاجة لي فيما تُعطاه على قتلك إيّاه. فأبى عليه، فأصلح قومه فيما بينهما على هذا، فرفع إليه رأس حبيب بن مظاهر، فجال به في العسكر، قد علّقه في عُنق فرسه، ثُمّ دفعه بعد ذلك إليه، فلمـّا رجعوا إلى الكوفة أخذ الآخرُ رأسَ حبيبٍ فعلّقه في لبان فرسه، ثُمّ أقبل به إلى ابن زياد في القصر، فبصر به ابنه القاسم بن حبيب - وهو يومئذ قد راهق - فأقبل مع الفارس لا يُفارقه، كُلمـّا دخل القصر دخل معه، وإذا خرج خرج معه، فارتاب به، فقال: ما لك يا بُني تتبعني؟! قال: لا شيء. قال: بلى يا بُني أخبرني. قال له: إنّ هذا الرأس الذي معك رأسُ أبي، أفتُعطينيه حتّى أدفنه؟ قال: يا بُني، لا يرضى الأمير أنْ يُدفن، وأنا اُريد أنْ يُثيبني الأميرُ على قتله ثواباً حسن. قال له الغلام: لكنّ اللّه لا يُثيبك على ذلك إلاّ أسوأ الثواب. أما واللّه، لقد قتلته خيراً منك. وبكى.

فمكث الغلام، حتّى إذا أدرك لم تكنْ له همّةٌ إلاّ اتّباع أثر قاتل أبيه ليجد منه غرّة فيقتله بأبيه، فلمـّا كان زمان مصعب بن الزبير، وغزا مصعب ( باجمير ) دخل عسكر مصعب فإذا قاتل أبيه في فسطاطه، فأقبل يختلف في طلبه والتماس غرّته، فدخل عليه وهو قائل نصف النّهار، فضربه بسيفه حتّى برد(١) .

نعم، في رواية الصدوق أنّ القاسم يسأل أباه عمّا يفعله الفرس بالرأس، فيقول: قلتُ لأبي: لو أنّه رفع الرأس... إلى آخره.

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣٣٥.

١٣٥

وهو يدلّ على حياة الأصبغ ذلك اليوم، وعليه فلَم يعرف الوجه في تأخّره عن حضور المشهد الكريم، مع مقامه العالي في التشيّع، وإخلاصه في الموالاة لأمير المؤمنين وولده المعصومينعليهم‌السلام ! ومشاهدتُه هذا الفعل من الطاغي يدلّ على عدم حبسه عند ابن زياد كباقي الشيعة الخُلّص، ولا مخرج عنه إلاّ بالوفاة قبل تلك الفاجعة العظمى، كما هو الظاهر ممّا ذكره أصحابنا عند ترجمته؛ من الثناء عليه، والمبالغة في مدحه، وعدم الغمز فيه.

فتلك الجملة: ( قلت لأبي ). لا يُعرف من أين جاءت، ولا غرابة في زيادتها بعد طعن أهل السُّنّة فيه كما في اللآلئ المصنوعة ج١ ص٢١٣؛ فإنّه بعد أنْ ذكر حديث الأصبغ بن نباتة عن أبي أيوب الأنصاري، أنّهم اُمروا بقتال النّاكثين والقاسطين والمارقين مع عليعليه‌السلام ، قال: لا يصحّ الحديث؛ لأنّ الأصبغ متروك، لا يساوي فلساً(١) .

وفيه ص١٩٥، ذكر عن ابن عباس حديثَ الرُّكبان يوم القيامة؛ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله وصالح، وحمزة وعليعليهم‌السلام ، قال: رجال الحديث بين مجهول، وبين معروفٍ بعدم الثّقة(٢) .

____________________

(١) اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة للسيوطي ١ / ٣٧٤، ونصّ العبارة: لا يصحُّ، وأصبغ متروكٌ لا يساوي فلساً.

(٢) اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة للسيوطي ٤ / ٣٤٤، ونصّ العبارة: رجاله فيهم غير واحد مجهول، وآخرون معروفون بغير الثّقة.

١٣٦

ولقد طعنوا في أمثاله من خواصّ الشيعة بكُلّ ما يتسنّى لهم، وما ذُكر في تراجمهم يشهد لهذه الدعوى، ولا يتحمّل هذا المختصر التبسّط في ذكره، ومراجعة ما كتبه السيّد العلاّمة محمّد بن أبي عقيل في ( العتب الجميل على أهل الجرح والتعديل ) ص٤٠، في الباب الثاني فيه كفاية؛ فإنّه ذكر جملةً من أتباع أهل البيتعليهم‌السلام طعنوا فيهم بلا سبب، إلاّ لموالاة أمير المؤمنين وولدهعليهم‌السلام .

١٣٧

كُنيتُه:

اشتهر أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام بكُنى وألقاب، وُصف ببعضها في يوم الطَّفِّ، والبعض الآخر كان ثابتاً له من قبل؛ فمِن كناه: أبو قَربة(١) ؛ لحمله الماء في مشهد الطَّفِّ غير مرّة، وقد سُدّت الشرائع ومُنع الورود على ابن المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله وعياله، وتناصرت على ذلك أجلاف الكوفة، وأخذوا الاحتياط اللازم، ولكن أبا الفضلِ لم يرعهُ جمعُهم المـُتكاثف، ولا أوقفه عن الإقدام تلك الرِّماح المـُشرَعة، ولا السّيوف المـُجرَّدة، فجاء بالماء وسقى عيال أخيه وصحبه.

ولم ينصّ المؤرّخون وأهلُ النّسب على كُنيته بأبي القاسم؛ إذ لم يذكر أحدٌ أنّ له ولداً اسمه القاسم، نعم خاطبه جابر الأنصاري في زيارة الأربعين بها، قال: السّلام عليك يا أبا القاسم، السّلام عليك يا عباس بن علي(٢) . وبما أنّ هذا الصحابي الكبير المـُتربّي في بيت النّبوّة والإمامة خبيرٌ بالسّبب الموجب لهذا الخطاب، فهو أدرى بما يقول.

____________________

(١) تهذيب الكمال للمزي ٢٠ / ٤٧٩، شرح إحقاق الحقّ ٣٢ / ٦٧٩.

(٢) بحار الأنوار ٩٨ / ٣٣٠.

١٣٨

وقد اشتهر بكُنيتهِ الثالثة ( أبي الفضل )؛ من جهة أنّ له ولداً اسمه الفضل(١) ، وكان حريّاً بها؛ فإنّ فضله لا يخفى، ونورَه لا يطفى.

ومن فضائله الجسام نعرف أنّه ممّن حُبس الفضل عليه ووقف لديه؛ فهو رضيع لبانه، وركنٌ من أركانه، وإليه يُشير شارح ميمية أبي فراس:

بذلتَ أيا عباسُ نفساً نفيسةً

لنصرِ حُسينٍ عزَّ بالنّصر مِنْ مثلِ

أبيْتَ الْتِذاذَ المَاءِ قَبلَ الْتِذاذِهِ

فَحُسنُ فِعالِ المرْءِ فرعٌ عَنِ الأصلِ

فأنتَ أخُو السّبطينِ في يومِ مَفْخرٍ

وفي يومِ بذلِ الماءِ أنْتَ أبو الفضْلِ(٢)

____________________

(١) الجريدة في اُصول أنساب العلويّين / ٣١٨.

(٢) أعيان الشيعة ٩ / ٢٥٩.

١٣٩

اللَّقَب:

اشتُهر بين العامّة والخاصّة بأنّه سلام اللّه عليه باب الحوائج؛ لكثرة ما صدر منه من الكرامات وقضاء الحاجات، ومن هنا قيل فيه(١) :

للشَّوسِ عبّاسٌ يُريهمْ وَجهَهُ

والوفدُ يَنظِرُ باسِماً مُحتاجَها

بابُ الحوائجِ مَا دَعتْهُ مروعةٌ

في حاجةٍ إلاّ ويقضِي حَاجَها

بأبِي أبي الفضْلِ الذِي مِنْ فَضلِهِ الْ

سامِي تَعلَّمتِ الوَرَى مِنهاجَها

وقيل له: ( قمر بني هاشم )(٢) ؛ لوضاءته وجمال هيئته، وأنّ أسرّة وجهه تبرق كالبدر المنير، فكان لا يحتاج في الليلة الظلماء إلى ضياء.

وأمّا ( الشهيد )، فلم ينصّ عليه أحدٌ إلاّ أنّه الظاهر من عبارات أهل النّسب؛ ففي المـُجدي لأبي الحسن العُمري، قال - بعد ذكر أولاده -: هذا آخر نسب بني العبّاس الشهيد السّقا، ابن علي بن أبي طالبعليهما‌السلام (٣) .

____________________

(١) من قصيدة لسيّد الذاكرين السيّد صالح الحلّيرحمه‌الله .

(٢) مقاتل الطالبيين / ٥٦، مناقب آل أبي طالب ٣ / ٢٥٦، بحار الأنوار ٤٥ / ٣٩.

(٣) المـُجدي في أنساب الطالبيين / ٢٤٣.

١٤٠

إن كان حسناً ، ولا يوحشك إلاّ هو إن كان قبيحاً .

واعلم أنّك إن تنصر الله ينصرك ويثبّت أقدامك ، فإنّ الله تعالى ضمن إعزاز مَن يعزّه ، ونصر مَن ينصره ، وقال سبحانه :( إن تنصروا الله ينصركم ويثبّت أقدامكم ) (١) .

وقال سبحانه :( ولينصرنّ الله مَن ينصره ) (٢) .

وقال : كيف أنتم إذا ظهر فيكم البدع حتّى يربوا فيها الصغير ، ويهرم الكبير ، ويسلم عليها الأعاجم ، فإذا ظهرت البدع قيل سنّة ، وإذا عمل بالسنّة قيل بدعة ، قيل : ومتى يكون ذلك ؟ قال : إذا ابتعتم الدنيا بعمل الآخرة .

وقال ابن عباس : لا يأتي على الناس زمان إلاّ أماتوا فيه سنّة ، وأحيوا فيه بدعة حتّى تموت السنن ، وتحيى البدع ، وبعد فو الله ما أهلك الناس وأزالهم عن المحجّة قديماً وحديثاً إلاّ علماء السوء ، قعدوا على طريق الآخرة فمنعوا الناس سلوكها والوصول إليها ، وشكّكوهم فيها .

مثال ذلك مثل رجل كان عطشاناً فرأى جرّة مملوءة فيها ماء ، فأراد أن يشرب منها فقال له الرجل : لا تدخل يدك فيها فإنّ فيها أفعى يلسعك وقد ملأها سمّاً ، فامتنع الرجل من ذلك ، ثم إنّ المخبر بذلك أخذ يدخل يده فيها ، فقال العطشان : لو كان فيها سّماً لما أدخل يده .

وكذلك حال الناس مع علماء السوء ، زهّدوا الناس في الدنيا ورغبوا هم فيها ، ومنعوا الناس من الدخول إلى الولاة والتعظيم لهم ودخلوا هم إليهم ، وعظّموهم ومدحوهم ، وحسّنوا إليهم أفعالهم ، ووعدوهم بالسلامة ، لا بل قالوا لهم : قد رأينا لكم المنامات بعظيم المنازل والقبول ، ففتنوهم وغرّوهم ، ونسوا قول

____________

(١) محمد : ٧ .

(٢) الحج : ٤٠ .

١٤١

الله تعالى :( إنّ الأبرار لفي نعيم * وإنّ الفجّار لفي جحيم ) (١) .

وقوله تعالى :( ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع ) (٢) .

وقوله تعالى :( يوم يعضّ الظالم على يديه ) (٣) .

وقوله تعالى :( يوم لا يغني مولىً عن مولىً شيئاً ) (٤) .

وقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :الجنّة محرّمة على جسد غذّي بالحرام (٥) .

وقول أمير المؤمنينعليه‌السلام :ليس من شيعتي مَن أكل مال امرء حرام (٦) .

وقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :لا يشمّ ريح الجنّة جسد نبت على الحرام .

وقالعليه‌السلام :إنّ أحدكم ليرفع يده إلى السماء فيقول : يا رب يا رب ، ومطعمه حرام ، وملبسه حرام ، فأيّ دعاء يُستجاب له ؟! وأيّ عمل يُقبل منه ؟! وهو ينفق من غير حلٍّ ، إن حجّ حجّ بحرام ، وإن تزوّج تزوّج بحرام ، وإن صام أفطر على حرام ، فيا ويحه ، أما علم أنّ الله تعالى طيّب لا يقبل إلاّ الطيّب ، وقد قال في كتابه : ( إنّما يتقبّل الله من المتقين ) (٧) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ليكون عليكم أُمراء سوء ، فمَن صدّقهم في قولهم ، وأعانهم على ظلمهم ، وغشى أبوابهم ، فليس منّي ولست منه ، ولن يرد عليّ الحوض .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لحذيفة :كيف أنت يا حذيفة إذا كانت أُمراء إن

____________

(١) الإنفطار : ١٣ ـ ١٤ .

(٢) غافر : ١٨ .

(٣) الفرقان : ٢٧ .

(٤) الدخان : ٤١ .

(٥) كنز العمال ٤ : ١٤ ح٩٢٦١ .

(٦) البحار ١٠٤ : ٢٩٦ ح١٧; عن مجموعة ورام .

(٧) المائدة : ٢٧ .

١٤٢

أطعتموهم أكفروكم ، وإن عصيتموهم قتلوكم ؟! ، فقال حذيفة : كيف أصنع يا رسول الله ؟ قال :جاهدهم إن قويت ، واهرب عنهم إن ضعفت .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :صنفان من أُمّتي إذا صلحا صلح الناس ، وإذا فسدا فسد الناس : الأُمراء والعلماء (١) .

وقال الله تعالى :( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار ) (٢) .

وقال :( ولا تطغوا فيحلّ عليكم غضبي ) (٣) ، والله ما فسدت أمور الناس إلاّ بفساد هذين الصنفين ، وخصوصاً الجائر في قضائه ، والقابل الرشا في الحكم .

ولقد أحسن أبو نواس في قوله :

إذا خان الأمير وكاتباه

وقاضي الأمر داهن في القضاءِ

فويل ثمّ ويلٌ ثمّ ويل

لقاضي الأرض من قاضي السماءِ

وجاء في تفسير قوله تعالى :( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ . ) (٤) الآية ، نزلت فيمن يخالط السلاطين والظلمة .

وقالعليه‌السلام :الإسلام علانية باللسان ، والإيمان سرّ بالقلب ، والتقوى عمل بالجوارح ، كيف تكون مسلماً ولا تسلم الناس منك ؟ وكيف تكون مؤمناً ولا تأمنك الناس ؟ وكيف تكون تقيّاً والناس يتّقون من شرّك وأذاك ؟ .

وقال :إنّ مَن ادعى حبّنا وهو لا يعمل [عملنا ولا يقول] (٥) بقولنا ، فليس منّا ولا نحن منه ، أما سمعوا قول الله تعالى يقول مخبراً عن نبيّه : ( قل إن كنتم تحبّون الله فاتبعوني يحببكم الله ) (٦) .

____________

(١) الخصال : ٣٦ ح١٢ باب الاثنين ، عنه البحار ٢ : ٤٩ ح١٠ .

(٢) هود : ١١٣ .

(٣) طه : ٨١ .

(٤) المجادلة : ٢٢ .

(٥) أثبتناه من ( ب ) .

(٦) آل عمران : ٣١ .

١٤٣

ولمّا بايع أصحابه أخذ عليهم العهد والميثاق بالسمع لله تعالى وله بالطاعة في العسر واليسر ، وعلى أن يقولوا الحق أينما كانوا ، وأن لا تأخذهم في الله لومة لائم ، وقال : إنّ الله تعالى ليحصي على العبد كل شيء حتّى أنينه في مرضه ، والشاهد على ذلك قوله تعالى :

( ما يلفظ من قول إلاّ لديه رقيب عتيد ) (١) .

وقوله تعالى :( إنّ عليكم لحافظين * كراماً كاتبين * يعلمون ما تفعلون ) (٢) .

وقوله تعالى :( إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ) (٣) .

____________

(١) ق : ١٨ .

(٢) الانفطار : ١٠ ـ ١٢ .

(٣) البقرة : ٢٨٤ .

١٤٤

الباب الثامن عشر : في عقاب الزّنا والربا

قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إنّ لأهل النار صرخة من نتن فروج الزناة ، فإيّاكم والزنا فإنّ فيه ست خصال ، ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة فأمّا التي في الدنيا : فإنّه يذهب ببهاء الوجه ، ويورث الفقر ، وينقص العمر ، وأمّا التي في الآخرة : يوجب سخط الله ، وسوء الحساب ، وعظم العذاب ، إنّ الزناة يأتون يوم القيامة تشتعل فروجهم ناراً ، يعرفون بنتن فروجهم (١) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إنّ الله مستخلفكم في الدنيا فانظروا كيف تعملون ، فاتقوا الزنا والربا والرياء (٢) .

قيل : قالت المعتزلة يوماً في مجلس الرضاعليه‌السلام :إنّ أعظم الكبائر القتل ، لقوله تعالى : ( ومَن يقتل مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنّم خالداً فيها . ) (٣) .

____________

(١) الكافي ٥ : ٥٤١ ح٣ ، مَن لا يحضره الفقيه ٣ : ٥٧٣ ح٤٩٦٠ باختلاف ، وفي معالم الزلفى : ٣٣٧ .

(٢) الرياء ، لم يرد في ( ب ) و ( ج ) .

(٣) النساء : ٩٣ .

١٤٥

قال الرضاعليه‌السلام :أعظم من القتل عندي إثماً ، وأقبح منه بلاءً الزنا وأدوم ؛ لأنّ القاتل لم يفسد بضرب المقتول غيره ، ولا بعده فساد ، والزاني قد أفسد النسل إلى يوم القيامة ، وأحلّ المحارم فلم يبق في المجلس فقيه إلاّ قبّل يده وأقرّ بما قال .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إذا كانت خمس منكم رميتم بخمس : إذا أكلتم الربا رميتم بالخسف ، وإذا ظهر فيكم الزنا أُخذتم بالموت ، وإذا جارت الحكّام ماتت البهائم ، وإذا ظلم أهل الملّة ذهبت الدولة ، وإذا تركتم السنّة ظهرت البدعة .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ما نقض قوم عهدهم إلاّ سلّط عليهم عدوّهم ، وما جار قوم إلاّ كثر القتل بينهم ، وما منع قوم الزكاة إلاّ حبس القطر عنهم ، ولا ظهرت فيهم الفاحشة إلاّ نشأ فيهم الموت ، وما بخس قوم المكيال والميزان إلاّ أُخذوا بالسنين .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إذا عملت أُمّتي خمس عشرة خصلة حلّ بهم البلاء : إذا كان الفيء دولاً ، والأمانة مغنماً ، والصدقة مغرماً ، وأطاع الرجل امرأته ، وعصى أُمّه ، وبرّ صديقه ، وجفا أباه ، وارتفعت الأصوات في المساجد وأُكرم الرجل مخافة شرّه ، وكان زعيم القوم أرذلهم ، ولبسوا الحرير ، واتخذوا القينات والمعازف (١) ، وشربوا الخمور ، وكثر الزنا ، فارتقبوا عند ذلك ريحاً حمراء ، وخسفاً ومسخاً ، وظهور العدو عليكم ثم لا تنصرون (٢) .

____________

(١) في ( ج ) : المغنّيات .

(٢) عنه الوسائل ١٢ : ٢٣١ ح٣١ .

١٤٦

الباب التاسع عشر : [ وصايا وحكم بليغة ]

وصيّة لقمان لابنه بعلوم وحكمة ، قال : يا بني ! لا يكن الديك أكيس منك وأكثر محافظة على الصلوات ، ألا تراه عند كلّ صلاة يؤذّن لها ، وبالأسحار يعلن بصوته وأنت نائم .

وقال : يا بني ! مَن لا يملك لسانه يندم ، ومَن يكثر المراء يشتم ، ومَن يدخل مداخل السوء يُتّهم ، ومَن يُصاحب صاحب السوء لا يسلم ، ومَن يجالس العلماء يغنم ، يا بني ! لا تؤخّر التوبة فإنّ الموت يأتي بغتة ، يا بني ! اجعل غناك في قلبك ، وإذا افتقرت فلا تحدّث الناس بفقرك فتهون عليهم ، ولكن اسأل الله من فضله .

يا بني ! كذب مَن يقول : الشرّ يقطع بالشرّ ، ألا ترى إنّ النار لا تطفئ بالنار ولكن بالماء ، وكذلك الشرّ لا يطفئ إلاّ بالخير ، يا بني ! لا تشمت بالمصائب ، ولا تعيّر المبتلي ، ولا تمنع المعروف فإنّه ذخيرة لك في الدنيا والآخرة .

يا بني ! ثلاثة تجب مداراتهم : المريض والسلطان والمرأة ، وكن قنعاً تعش غنيّاً ، وكن متّقياً تكن عزيزاً ، يا بني ! إنّك من حين سقطت من بطن أُمّك استدبرت

١٤٧

الدنيا واستقبلت الآخرة ، وأنت كل يوم إلى ما استقبلت أقرب منك ممّا استدبرت ، فتزوّد لدار أنت مستقبلها ، وعليك بالتقوى فإنّه أربح التجارات ، وإذا أحدثت ذنباً فأتبعه بالاستغفار والندم والعزم على ترك العود لمثله .

واجعل الموت نصب عينيك ، والوقوف بين يدي خالقك ، وتمثّل شهادة جوارحك عليك بعملك ، والملائكة الموكّلين بك تستحي(١) منهم ومن ربّك الذي هو مشاهدك ، وعليك بالموعظة فاعمل بها ، فإنّها عند العاقل أحلى من العسل الشهد ، وهي في السفيه أشقّ من صعود الدرجة على الشيخ الكبير ، ولا تسمع الملاهي فإنّها تنسك الآخرة ، ولكن احضر الجنائز ، و زُر المقابر ، وتذكّر الموت وما بعده من الأهوال فتأخذ حذرك .

يا بني استعذ بالله من شرار النساء ، وكن من خيارهنّ على حذر ، يا بني لا تفرح بظلم أحد بل احزن على ظلم من ظلمته ، يا بني الظلم ظلمات ويوم القيامة حسرات ، وإذا دعتك القدرة إلى ظلم من هو دونك فاذكر قدرة الله عليك .

يا بني تعلّم من العلماء ما جهلت ، وعلّم الناس ممّا علمت تذكر بذلك في الملكوت ، يا بني أغنى الناس مَن قنع بما في يديه ، وأفقرهم مَن مد عينيه إلى ما في أيدي الناس ، وعليك يا بني باليأس ممّا في أيدي الناس ، والوثوق بوعد الله ، واسع فيما فرض عليك ، ودع السعي فيما ضمن لك ، وتوكّل على الله في كل أُمورك يكفيك ، وإذا صلّيت فصلّ صلاة مودّع تظنّ أن لا تبقى بعدها أبداً .

وإيّاك وما يُعتذر منه فإنّه لا يُعتذر من خير ، وأحبب للناس ما تحب لنفسك ، واكره لهم ما تكرهه لنفسك ، ولا تقل ما لا تعلم ، واجهد أن يكون اليوم خيراً لك من أمس ، وغداً خيراً لك من اليوم ، فإنّه مَن استوى يوماه فهو مغبون ، ومَن كان يومه شرّاً من أمسه فهو ملعون ، وارض بما قسّم الله لك فإنّه سبحانه يقول : أعظم عبادي

____________

(١) في ( ب ) : لم لا تستحي منهم .

١٤٨

ذنباً مَن لم يرض بقضائي ، ولم يشكر نعمائي ، ولم يصبر على بلائي .

وأوصى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معاذ بن جبل ، فقال له : أوصيك باتقاء الله ، وصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وخفض الجناح ، والوفاء بالعهد ، وترك الخيانة ، وحسن الجوار ، وصلة الأرحام ، ورحمة اليتيم ، ولين الكلام ، وبذل السلام وحسن العمل ، وقصر الأمل ، وتوكيد الإيمان ، والتفقّه في الدين ، وتدبّر القرآن ، وذكر الآخرة ، والجزع من الحساب ، وكثرة ذكر الموت ، ولا تسب مسلماً ، ولا تطع آثماً ، ولا تقطع رحماً ، ولا ترض بقبيح تكن كفاعله ، واذكر الله عند كل شجر ومدر وبالأسحار وعلى كل حال يذكرك ، فإنّ الله تعالى ذاكر مَن ذكره ، وشاكر مَن شكره ، وجدّد لكل ذنب توبة ، السرّ بالسرّ والعلانية بالعلانية .

واعلم أنّ أصدق الحديث كتاب الله(١) ، وأوثق العرى التقوى ، وأشرف الذكر ذكر الله تعالى ، وأحسن القصص القرآن ، وشرّ الأمور محدثاتها ، وأحسن الهدى هدى الأنبياء ، وأشرف الموت الشهادة ، وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى ، وخير العلم ما نفع ، وشرّ العمى عمى القلب ، واليد العليا خير من اليد السفلى ، وما قلّ وكفى خير ممّا كثر وألهى .

وشرّ المعذرة عند الموت ، وشرّ الندامة يوم القيامة ، ومن أعظم الخطايا اللسان الكذوب ، وخير الغنى غنى النفس ، وخير الزاد التقوى ، ورأس الحكمة مخافة الله تعالى في السر والعلانية ، وخير ما أُلقي في القلب اليقين ، وأنّ جماع الإثم الكذب والارتياب ، والنساء حبائل الشيطان ، والشباب شعبة من الجنون ، وشرّ الكسب كسب الربا ، وشرّ المأثم أكل مال اليتيم .

السعيد مَن وُعظ بغيره ، وليس لجسم نبت على الحرام إلاّ النار ، ومَن تغذّى بالحرام فالنار أولى به ، ولا يستجاب له دعاء ، والصلاة نور ، والصدقة حرز ،

____________

(١) في ( ب ) : كلام الله .

١٤٩

والصوم جُنّة حصينة ، والسكينة مغنم وتركها مغرم ، وعلى العاقل أن يكون له ساعة يناجي فيها ربّه ، وساعة يتفكّر فيها في صنع الله ، وساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يتخلّى فيها لحاجته من حلال .

وعلى العاقل أن لا يكون ضاعناً(١) إلاّ في ثلاث(٢) : تزوّد لمعاد ، ومرمّة لمعاش ، لذّة في غير محرّم ، وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه ، مقبلاً على شأنه ، حافظاً للسانه .

وفي توراة موسىعليه‌السلام : عجبت لمَن أيقن بالموت كيف يفرح ، ولمَن أيقن بالحساب كيف يذنب ، ولمَن أيقن بالقدر كيف يحزن ، ولمَن أيقن بالنار كيف يضحك ، ولمَن رأى تقلّب الدنيا بأهلها كيف يطمئنّ إليها ، ولمَن أيقن بالجزاء كيف لا يعمل ، لا عقل كالدين ، ولا ورع كالكف ، ولا حسب كحسن الخلق .

وقال أبو ذر : أوصاني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم [ بسبع خصال ](٣) : حب المساكين والدنو منهم ، وهجران الأغنياء ، وأن أصل رحمي ، وأن لا أتكلّم بغير الحق ، ولا أخاف في الله لومة لائم ، وأن أنظر إلى مَن هو دوني ولا أنظر إلى مَن هو فوقي ، وأن أكثر من قول : ( سبحان الله والحمد الله ولا اله إلاّ الله والله اكبر ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم ) فهنّ الباقيات الصالحات .

وقال بعضهم : مَن سلك الجدد أمن العثار ، والصبر مطيّة السلامة ، والجزع مطيّة الندامة ، ومرارة الحلم أعذب من مرارة(٤) الانتقام ، وثمرة الحقد الندامة ، ومَن صبر على ما يكره أدرك ما يحب ، والصبر على المصيبة مصيبة للشامت بها ، والجزع عليها مصيبة ثانية لفوات الثواب وهي أعظم المصائب .

____________

(١) ضعن : سار (القاموس) .

(٢) في ( ج ) : أن يكون ساعياً في ثلاث .

(٣) أثبتناه من ( ب ) و ( ج ) .

(٤) في ( ج ) : حلاوة .

١٥٠

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :خير الرزق ما يكفي ، وخير الذكر ما يخفى ، وإنّي أوصيكم بتقوى الله ، وبحسن النظر لأنفسكم ، وقلّة الغفلة عن معادكم ، وابتياع ما يبقى بما يفنى .

واعلموا أنّها أيّام معدودة ، وأرزاق مقسومة ، وآجال معلومة ، والآخرة أبد لا أمد له ، وأجل لا منتهى له ، ونعيم لا زوال له ، فاعرفوا ما تريدون وما يُراد بكم ، واتركوا من الدنيا ما يشغلكم عن الآخرة ، واحذروا حسرة المفرطين ، وندامة المغترّين ، واستدركوا فيما بقي ما فات ، وتأهّبوا للرحيل من دار البوار إلى دار القرار ، واحذروا الموت أن يفجأكم على غرّة ويعجلكم عن التأهّب والاستعداد ، إنّ الله تعالى قال : ( فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ) (١) .

فربّ ذي عقل شغله هواه عمّا خُلق له حتّى صار كمن لا عقل له ، ولا تعذروا أنفسكم في خطائها ، ولا تجادلوا بالباطل فيما يوافق هواكم ، واجعلوا همّكم نصر الحق من جهتكم أو من جهة مَن يجادلكم ، فإنّ الله تعالى يقول :( يا أيّها الذين آمنوا كونوا أنصار الله ) (٢) . فلا تكونوا أنصاراً لهواكم والشيطان .

واعلموا أنّه ما هدم الدين مثل إمام ضلالة وضلّ وأضلّ ، وجدالِ منافق بالباطل ، والدنيا قطعت رقاب طالبيها والراغبين إليها ، واعلموا أنّ القبر روضة من رياض الجنّة ، أو حفرة من حفر النار ، فمهّدوه بالعمل الصالح ، فمثل أحدكم يعمل الخير كمثل الرجل ينفذ كلامه يمهّد له ، قال الله تعالى : ( فلأنفسهم يمهدون ) (٣) .

وإذا رأيتم الله يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على المعصية ، فاعلموا أنّ ذلك استدراج له ، قال الله تعالى : ( سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ) (٤) .

____________

(١) يس : ٥٠ .

(٢) الصف : ١٤ .

(٣) الروم : ٤٤ .

(٤) الأعراف : ١٨٢ .

١٥١

وسئل ابن عباس عن صفة الذين صدقوا الله المخافة ، فقال : هم قوم قلوبهم من الخوف قرحة ، وأعينهم باكية ، ودموعهم على خدودهم جارية ، يقولون : كيف نفرح والموت من ورائنا ، والقبر موردنا ، والقيامة موعدنا ، وعلى الله عرضنا ، وشهودنا جوارحنا ، والصراط على جهنّم طريقنا ، وعلى الله حسابنا .

فسبحان الله وتعالى ، فإنّا نعوذ به من ألسن واصفة ، وأعمال مخالفة مع قلوب عارفة ، فإنّ العمل ثمرة العلم ، والخشية والخوف ثمرة العمل ، والرجاء ثمرة اليقين ، ومَن اشتاق إلى الجنّة اجتهد في أسباب الوصول إليها ، ومَن حذر النار تباعد ممّا يدني إليها ، ومَن أحبّ لقاء الله استعدّ للقائه .

وروي أنّ الله تعالى يقول في بعض كتبه :يا ابن آدم أنا حيٌّ لا أموت ، أطعني فيما أمرتك أجعلك حيّاً لا تموت ، يا ابن آدم أنا أقول للشيء كن فيكون ، أطعني فيما أمرتك أجعلك تقول للشيء كن فيكون (١) .

ولذلك قال الله تعالى في كتابه العزيز :( ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون * نزلاً من غفور رحيم ) (٢) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ثلاث مهلكات وثلاث منجيات ، فأمّا المهلكات : فشحٌّ مطاع ، وهوىً متّبع ، وإعجاب المرء بنفسه ، وأمّا المنجيات : فخشية الله في السر والعلانية ، والقصد في الغنى والفقر ، والعدل في الرضا والغضب (٣) .

وقال الحسنعليه‌السلام :لقد أصحبت (٤) أقواماً كأنّهم كانوا ينظرون إلى الجنّة ونعيمها ، والنار وجحيمها ، يحسبهم الجاهل مرضى وما بهم من مرض ، أو قد خولطوا وإنّما خالطهم أمر عظيم ، خوف الله ومهابته في قلوبهم .

____________

(١) عنه مستدرك الوسائل ١١ : ٢٥٨ ح١٢٩٢٨ .

(٢) فصلت : ٣١ـ٣٢ .

(٣) الخصال : ٨٤ ح١١ باب٣ ، عنه البحار ٧٠ : ٦ ح٢ .

(٤) في ( ألف ) و ( ج ) : أصبحت .

١٥٢

كانوا يقولون ليس لنا في الدنيا من حاجة ، ليس لها خُلقنا ولا بالسعي لها أُمرنا ، أنفقوا أموالهم ، وبذلوا دماءهم ، اشتروا بذلك رضى خالقهم ، علموا أنّ الله اشترى منهم أموالهم وأنفسهم بالجنّة فباعوه ، ربحت تجارتهم ، وعظمت سعادتهم ، أفلحوا وأنجحوا ، فاقتفوا آثارهم رحمكم الله ، واقتدوا بهم فإنّ الله تعالى وصف لنبيّه صفة آبائه إبراهيم وإسماعيل وذرّيتهما ، وقال : ( فبهداهم اقتده ) (١) .

واعلموا عباد الله أنّكم مأخوذون بالإقتداء بهم والإتباع لهم ، فجدّوا واجتهدوا واحذروا أن تكونوا أعواناً للظالم ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : مَن مشى (٢) مع ظالم ليعينه على ظلمه فقد خرج من ربقة الإسلام ، ومَن حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد حادّ الله ورسوله ، ومَن أعان ظالماً ليبطل حقّاً لمسلم فقد برئ من ذمّة الإسلام ومن ذمّة الله ومن ذمّة رسوله .

ومَن دعا لظالم بالبقاء فقد أحبّ أن يعصى الله ، ومَن ظُلم بحضرته مؤمن أو اغتيب وكان قادراً على نصره ولم ينصره فقد باء بغضب من الله ورسوله ، ومَن نصره فقد استوجب الجنّة من الله تعالى .

وإنّ الله أوحى إلى داودعليه‌السلام :قل لفلان الجبّار : إنّي لم أبعثك لتجمع الدنيا على الدنيا ، ولكن لترد عنّي دعوة المظلوم وتنصره ، فإنّي آليت على نفسي أن أنصره وأنتصر له ممّن ظُلم بحضرته ولم ينصره (٣) .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :مَن آذى مؤمناً ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوباً بين عينيه : آيساً من رحمة الله ، وكان كمَن هدم الكعبة والبيت المقدس ، وقتل عشرة آلاف من الملائكة .

____________

(١) الأنعام : ٩٠ .

(٢) في ( ج ) : مضى .

(٣) عنه البحار ١٤ : ٤٠ ح٢٤ .

١٥٣

وقال رفاعة بن أعين : قال لي الصادقعليه‌السلام :ألا أخبرك بأشد الناس عذاباً يوم القيامة ؟ قلت : بلى يا مولاي ، قال : أشد الناس عذاباً يوم القيامة مَن أعان على مؤمن بشطر كلمة ، ثم قال : ألا أخبرك بأشد من ذلك ؟ فقلت : بلى يا سيّدي ، فقال : مَن أعاب على شيء من قوله أو فعله .

ثم قال :اُدن منّي أزدك أحرفاً أُخر ، ما آمن بالله ولا برسوله ولا بولايتنا أهل البيت من أتاه المؤمن في حاجة لم يضحك في وجهه ، فإن كان عنده قضاها له ، وإن لم تكن عنده تكلّفها له حتّى يقضيها له ، فإن لم يكن كذلك فلا ولاية بيننا وبينه ولو علم الناس ما للمؤمن عند الله لخضعت له الرقاب ، وإنّ الله تعالى اشتق للمؤمن اسماً من أسمائه ، فالله تعالى هو المؤمن سبحانه وسمّى عبده مؤمناً تشريفاً له وتكريماً ، وأنّه يوم القيامة يؤمن على الله تعالى فيجيز إيمانه (١) .

وقال الله تعالى :ليأذن بحرب منّي مَن آذى مؤمناً وأخافه .

وكان عيسىعليه‌السلام يقول :يا معشر الحواريين تحبّبوا إلى الله ببغض أهل المعاصي ، وتقرّبوا إلى الله بالبعد عنهم ، والتمسوا رضاه في غضبهم ، وإذا جلستم فجالسوا مَن يزيد في عملكم منطقه ، ويذكركم الله رؤيته ، ويرغبكم في الآخرة عمله (٢) .

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام لأبي ذر :ألزم قلبك الفكر ، ولسانك الذكر ، وجسدك العبادة ، وعينيك البكاء من خشية الله ، ولا تهتم برزق غد ، والزم المساجد فإنّ عمّارها هم أهل الله ، وخاصّته قرّاء كتابه والعاملون به .

وقالعليه‌السلام :المروءة ست ، ثلاث في السفر وثلاث في الحضر : فالذي في الحضر تلاوة القرآن ، وعمارة المساجد ، واتخاذ الإخوان في الله ، وأمّا الذي في

____________

(١) البحار ٧٥ : ١٧٦ ح١٢ باختلاف .

(٢) مجموعة ورام ٢ : ٢٣٥ ، عنه البحار ١٤ : ٢٣٠ ح٦٥ باختصار .

١٥٤

السفر : بذل الزاد ، وحسن الخلق ، والمعاشرة بالمعروف (١) .

وكان الحسنعليه‌السلام يقول :يا ابن آدم مَن مثلك وقد خلّى ربّك بينه وبينك ، متى شئت أن تدخل عليه توضّأت وقمت بين يديه ، ولم يجعل بينك وبينه حجّاباً ولا بوّاباً ، تشكو إليه همومك وفاقتك ، وتطلب منه حوائجك ، وتستعينه على أمورك ، وكان يقول :أهل المسجد زوّار الله ، وحق على المزور التحفة لزائره .

وروي : إنّ المتنخّم في المسجد يجد بها خزياً في وجهه يوم القيامة .

وكان الناس في المساجد ثلاثة أصناف : صنف في الصلاة ، وصنف في تلاوة القرآن ، وصنف في تعليم العلوم ، فأصبحوا صنف في البيع والشراء ، وصنف في غيبة الناس ، وصنف في الخصومات وأقوال الباطل .

وقالعليه‌السلام :ليعلم الذي يتنخّم في القبلة أنّه يُبعث وهي في وجهه .

وقال : يقول الله تعالى :المصلّي يناجيني ، والمنفق يقرضني [ في الغنى ] (٢) ، والصائم يتقرّب إليّ .

وقال :إنّ الرجلين يكونان في صلاة واحدة وبينهما مثل ما بين السماء والأرض من فضل الثواب .

____________

(١) الخصال : ٣٢٤ ح١١ باب ٦ ، عنه البحار ٧٦ : ٣١١ ح٢ .

(٢) أثبتناه من ( ج ) .

١٥٥

الباب العشرون : في قراءة القرآن المجيد

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :إن هذه القلوب لتصدئ كما يصدئ الحديد ، وأنّ جلاءها قراءة القرآن (١) .

وقال ابن عباس : قارئ القرآن التابع له لا يضل في الدنيا ، ولا يشقى في الآخرة .

وقال : ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون ، وبنهاره إذا الناس غافلون ، وببكائه إذا الناس ضاحكون ، وبورعه إذا الناس يطمعون ، وبخشوعه إذا الناس يمزحون ، وبحزنه إذا الناس يفرحون ، وبصمته إذا الناس يخوضون .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :القرآن على خمسة أوجه ، حلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال ، فاعملوا بالحلال ، واجتنبوا الحرام ، واتبعوا المحكم ، وآمنوا بالمتشابه ، واعتبروا بالأمثال ، وما آمن بالقرآن مَن استحلّ محارمه ، وشرّ الناس

____________

(١) كنز العمّال ١ : ٥٤٥ ح٢٤٤١ .

١٥٦

مَن يقرأ القرآن ولا يرعوي عن شيء به .

وقال جعفر بن محمدعليهما‌السلام في قوله تعالى :( الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته ) (١) قال : يرتلون آياته ، ويتفقّهون فيه ، ويعملون بأحكامه ، ويرجون وعده ، ويخافون وعيده ، ويعتبرون بقصصه ، ويأتمرون بأوامره ، ويتناهون عن نواهيه .

ما هو والله حفظ آياته ، ودرس حروفه ، وتلاوة سوره ، ودرس أعشاره وأخماسه ، حفظوا حروفه وأضاعوا حدوده ، وانّما هو تدبّر آياته ، والعمل بأحكامه ، قال الله تعالى : ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته ) (٢) .

واعلموا رحمكم الله أنّ سبيل الله سبيل واحدة وجماعها الهدى ، ومصير العامل بها الجنّة والمخالف لها النار ، وإنّما الإيمان ليس بالتمنّي ولكن ما ثبت بالقلب ، وعملت به الجوارح ، وصدّقته الأعمال الصالحة ، واليوم فقد ظهر الجفاء ، وقلّ الوفاء ، وتركت السنّة ، وظهرت البدعة ، وتواخا الناس على الفجور ، وذهب منهم الحياء ، وزالت المعرفة ، وبقيت الجهالة ، ما ترى إلاّ مترفاً صاحب دنيا ، لها يرضى ولها يغضب وعليها يقاتل ، ذهب الصالحون وبقيت تفالة كتفالة الشعير وحثالة التمر .

وقال الحسنعليه‌السلام :ما بقي في الدنيا بقيّة غير هذا القرآن ، فاتخذوه إماماً يدلّكم على هداكم ، وإنّ أحق الناس بالقرآن مَن عمل به وإن لم يحفظه ، وأبعدهم منه مَن لم يعمل به وإن كان يقرأه .

وقال :مَن قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ .

وقال :إنّ هذا القرآن يجيء يوم القيامة قائداً وسائقاً ، يقود قوماً إلى الجنّة ، أحلّوا حلاله وحرّموا حرامه وآمنوا بمتشابهه ، ويسوق قوماً إلى النار ، ضيّعوا

____________

(١) البقرة : ١٢١ .

(٢) ص : ٢٩ .

١٥٧

حدوده وأحكامه واستحلّوا محارمه .

وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :رتلوا القرآن ولا تنثروه نثراً ، ولا تهذوه هذّ الشعر (١) ، قفوا عند عجائبه وحرّكوا به القلوب ، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة .

وخطبصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال :لا خير في العيش إلاّ لعالم ناطق أو مستمع واع ، أيّها الناس إنّكم في زمن هدنة وإنّ السير بكم سريع ، وقد رأيتم الليل والنهار كيف يبليان كل جديد ، ويقرّبان كل بعيد ، ويأتيان بكل موعود .

فقال له المقداد : يا نبي الله وما الهدنة ؟ فقال :دار بلاء وانقطاع ، فإذا التبست عليكم الأمور كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن ، فإنّه شافع مشفّع وشاهد مصدّق ، مَن جعله أمامه قاده إلى الجنّة ، ومَن جعله خلفه قاده (٢) إلى النار ، وهو أوضح دليل إلى خير سبيل ، ظاهره حكم وباطنه علم ، لا تحصى عجائبه ولا تنقضي غرائبه ، هو حبل الله المتين وصراطه المستقيم ، مَن قال به صدق ، ومَن حكم به عدل ، ومَن عمل به فاز ، فإنّ المؤمن الذي يقرأ القرآن كالأترجة طعمها طيّب وريحها طيّب ، وإنّ الكافر كالحنظلة طعمها مرّ ورائحتها كريهة (٣) .

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :ألا أدلّكم على أكسل الناس وأبخل الناس وأسرق الناس وأجفى الناس وأعجز الناس ؟ فقالوا : بلى يا رسول الله .

فقال :أكسل الناس عبد صحيح فارغ لا يذكر الله بشفة ولا لسان ، وأبخل الناس رجل اجتاز على مسلم فلم يسلّم عليه ، وأمّا أسرق الناس فرجل يسرق من صلاته ، تلفّ كما يلفّ الثوب الخلق فيضرب به وجهه (٤) ، وأجفى الناس رجل ذكرت بين يديه فلم يصلّ عليّ ، وأعجز الناس مَن عجز عن الدعاء (٥) .

____________

(١) تهدروه هدر الشعر ، (خل) .

(٢) في ( ج ) : ساقه .

(٣) أورده المصنف في أعلام الدين : ٣٣٣ ، عنه البحار ٧٧ : ١٧٧ .

(٤) في ( ب ) : وجه صاحبها .

(٥) راجع البحار ٨٤ : ٢٥٧ ح٥٥ ، عن عدة الداعي .

١٥٨

الباب الحادي والعشرون: يتضمّن خطبة بليغة على سورة

قال : أيّها الناس تدبّروا القرآن المجيد ، فقد دلّكم على الأمر الرشيد ، وسلّموا لله أمره فإنّه فعّال لما يُريد ، واحذروا يوم الوعيد ، واعملوا بطاعته فهذا شأن العبيد ، واحذروا غضبه فكم قصم من جبّار عنيد ،( ق والقرآن المجيد ) (١) .

أين مَن بنى وشاد وطول ، وتأمّر على الناس وساد في الأوّل ، وظنّ جهالة منه وجرأة أنّه لا يتحوّل ، عاد الزمان عليه سالباً ما خُوّل ، فسقوا إذ فسقوا كأساً على هلاكهم عوّل ،( أفعيينا بالخلق الأوّل بل هم في لبس من خلق جديد ) .

فيا مَن أنذره يومه وأمسه ، وحادثه بالعبر قمره وشمسه ، واستلب منه ولده وأخوه وعرسه ، وهو يسعى في الخطايا مستتر(٢) وقد دنا حبسه ( ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ) .

أما علمت أنّك مسؤول عن الزمان ، مشهود عليك يوم تنطق عليك

____________

(١) الآيات الواردة في هذا الباب كلّها من سورة ( ق ) .

(٢) في ( ج ) : مشمّراً .

١٥٩

الأركان ، محفوظ عليك ما عملت في زمان الإمكان ،( إذ يتلقّى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد * ما يلفظ من قول إلاّ لديه رقيب عتيد ) .

وكأنّك بالموت وقد اختطفك اختطاف البرق ، ولم تقدر على دفعه بملك الغرب والشرق ، وندمت على تفريطك بعد اتساع الخرق ، وتأسفت على ترك الأولى والأخرى أحق ،( وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ) .

ثم ترحّلت من القصور إلى القبور ، وبقيت وحيداً على ممرّ الدهور كالأسير المحصور ،( ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد ) ، فحينئذ أعاد الأجسام من صنعها ، وألّف أشتاتها بقدرته ، وجمعها وناداها بنفخة الصور فأسمعها ،( وجآءت كل نفس معها سائق وشهيد ) .

فهرب منك الأخ وتنسى أخاك ، ويعرض عنك الصديق ويرفضك ولاءك(١) ، ويتجافاك صاحبك ويجحد الآءك ، وتلقى من الأهوال كلّما أعجزك وساءك ، وتنسى أولادك وتنسى نساءك ،( لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ) .

وتجري دموع الأسف وابلاً ورذاذاً ، وتسقط الأكباد من الحسرات أفلاذاً ، ولهب لهيب النار إلى الكفّار فجعلهم جذاذاً ، ولا يجد العاصي من النار لنفسه ملجأً ولا معاذاً ،( وقال قرينه هذا ما لديّ عتيد ) .

يوم تقوم الزبانية إلى الكفّار ، ويبادر مَن يسوقهم سوقاً عنيفاً والدموع تتحادر ، وتثب النار [ إلى الكفار ](٢) كوثوب الليث إذا استاخر(٣) ، فيذلّ زفيرها كل مَن عزّ وفاخر ،( الذي جعل مع الله إلهاً آخر فألقياه في العذاب الشديد ) .

____________

(١) في ( ج ) : يرفض ولاءك .

(٢) أثبتناه من ( ج ) .

(٣) في ( ج ) : شاخر .

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394