مقتل العباس (عليه السلام)

مقتل العباس (عليه السلام)15%

مقتل العباس (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 394

  • البداية
  • السابق
  • 394 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 77227 / تحميل: 11576
الحجم الحجم الحجم
مقتل العباس (عليه السلام)

مقتل العباس (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

( بيان‏)

هذا هو الفصل الثاني من الآيات يعرّف الحاقّة ببعض أشراطها و نبذة ممّا يقع فيها.

قوله تعالى: ( فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ ) قد تقدّم أنّ النفخ في الصور كناية عن البعث و الإحضار لفصل القضاء، و في توصيف النفخة بالواحدة إشارة إلى مضيّ الأمر و نفوذ القدرة فلا وهن فيه حتّى يحتاج إلى تكرار النفخة، و الّذي يسبق إلى الفهم من سياق الآيات أنّها النفخة الثانية الّتي تحيي الموتى.

قوله تعالى: ( وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً ) الدكّ أشدّ الدقّ و هو كسر الشي‏ء و تبديله إلى أجزاء صغار، و حمل الأرض و الجبال إحاطة القدرة بها، و توصيف الدكّة بالواحدة للإشارة إلى سرعة تفتّتهما بحيث لا يفتقر إلى دكّة ثانية.

قوله تعالى: ( فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ ) أي قامت القيامة.

قوله تعالى: ( وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ ) انشقاق الشي‏ء انفصال شطر منه من شطر آخر، و واهية من الوهي بمعنى الضعف، و قيل: من الوهي بمعنى شقّ الأديم و الثوب و نحوهما.

و يمكن أن تكون الآية أعني قوله:( وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها ) في معنى قوله:( وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَ نُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا ) الفرقان: 25.

قوله تعالى: ( وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) قال الراغب: رجا البئر و السماء و غيرهما جانبها و الجمع أرجاء قال تعالى:( وَ الْمَلَكُ عَلى‏ أَرْجائِها ) انتهى، و الملك - كما قيل - يطلق على الواحد و الجمع و المراد به في

٦١

الآية الجمع.

و قوله:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) ضمير( فَوْقَهُمْ ) على ظاهر ما يقتضيه السياق للملائكة، و قيل: الضمير للخلائق.

و ظاهر كلامه أنّ للعرش اليوم حملة من الملائكة قال تعالى:( الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) المؤمن: 7 و قد وردت الروايات أنّهم أربعة، و ظاهر الآية أعني قوله:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) أنّ الحملة يوم القيامة ثمانية و هل هم من الملائكة أو من غيرهم؟ الآية ساكتة عن ذلك و إن كان لا يخلو السياق من إشعار ما بأنّهم من الملائكة.

و من الممكن - كما تقدّمت الإشارة إليه - أن يكون الغرض من ذكر انشقاق السماء و كون الملائكة على أرجائها و كون حملة العرش يومئذ ثمانية بيان ظهور الملائكة و السماء و العرش للإنسان يومئذ، قال تعالى:( وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) الزمر: 75.

قوله تعالى: ( يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى‏ مِنْكُمْ خافِيَةٌ ) الظاهر أنّ المراد به العرض على الله كما قال تعالى:( وعُرِضُوا عَلى‏ رَبِّكَ صَفًّا ) الكهف: 48، و العرض إراءة البائع سلعته للمشتري ببسطها بين يديه، فالعرض يومئذ على الله و هو يوم القضاء إبراز ما عند الإنسان من اعتقاد و عمل إبرازاً لا يخفى معه عقيدة خافية و لا فعلة خافية و ذلك بتبدّل الغيب شهادة و السرّ علناً قال:( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) الطارق: 9، و قال:( يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى‏ عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْ‏ءٌ ) المؤمن: 16.

و قد تقدّم في أبحاثنا السابقة أنّ ما عدّ في كلامه تعالى من خصائص يوم القيامة كاختصاص الملك بالله، و كون الأمر له، و أن لا عاصم منه، و بروز الخلق له و عدم خفاء شي‏ء منهم عليه و غير ذلك، كلّ ذلك دائميّة الثبوت له تعالى، و إنّما المراد ظهور هذه الحقائق يومئذ ظهوراً لا ستر عليه و لا مرية فيه.

٦٢

فالمعنى: يومئذ يظهر أنّكم في معرض على علم الله و يظهر كلّ فعلة خافية من أفعالكم.

قوله تعالى: ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ) قال في المجمع، هاؤم أمر للجماعة بمنزلة هاكم، تقول للواحد: هاء يا رجل، و للاثنين: هاؤما يا رجلان، و للجماعة: هاؤم يا رجال، و للمرأة: هاء يا امرأة بكسر الهمزة و ليس بعدها ياء، و للمرأتين: هاؤما، و للنساء: هاؤنّ. هذه لغة أهل الحجاز.

و تميم و قيس يقولون: هاء يا رجل مثل قول أهل الحجاز، و للاثنين: هاءا، و للجماعة: هاؤا، و للمرأة: هائي، و للنساء هاؤنّ.

و بعض العرب يجعل مكان الهمزة كافاً فيقول: هاك هاكما هاكم هاك هاكما هاكنّ، و معناه: خذ و تناول، و يؤمر بها و لا ينهى. انتهى.

و الآية و ما بعدها إلى قوله:( الْخاطِؤُنَ ) بيان تفصيليّ لاختلاف حال الناس يومئذ من حيث السعادة و الشقاء، و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ) إسراء: 71 كلام في معنى إعطاء الكتاب باليمين، و الظاهر أنّ قوله:( هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ) خطاب للملائكة، و الهاء في( كِتابِيَهْ ) و كذا في أواخر الآيات التالية للوقف و تسمّى هاء الاستراحة.

و المعنى: فأمّا من اُوتي كتابه بيمينه فيقول للملائكة: خذوا و اقرأوا كتابيه أي إنّها كتاب يقضي بسعادتي.

قوله تعالى: ( إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ ) الظنّ بمعنى اليقين، و الآية تعليل لما يتحصّل من الآية السابقة و محصّل التعليل إنّما كان كتابي كتاب اليمين و قاضياً بسعادتي لأنّي أيقنت في الدنيا أنّي ساُلاقي حسابي فآمنت بربّي و أصلحت عملي.

قوله تعالى: ( فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ) أي يعيش عيشة يرضاها فنسبة الرضا إلى العيشة من المجاز العقليّ.

٦٣

قوله تعالى: ( فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ - إلى قوله -الْخالِيَةِ ) أي هو في جنّة عالية قدراً فيها ما لا عين رأت و لا اُذن سمعت و لا خطر على قلب بشر.

و قوله:( قُطُوفُها دانِيَةٌ ) القطوف جمع قطف بالكسر فالسكون و هو ما يجتنى من الثمر و المعنى: أثمارها قريبة منه يتناوله كيف يشاء.

و قوله:( كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ ) أي يقال لهم: كلوا و اشربوا من جميع ما يؤكل فيها و ما يشرب حال كونه هنيئاً لكم بما قدّمتم من الإيمان و العمل الصالح في الدنيا الّتي تقضّت أيّامها.

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَ لَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ ) و هؤلاء هم الطائفة الثانية و هم الأشقياء المجرمون يؤتون صحيفة أعمالهم بشمالهم و قد مرّ الكلام في معناه في سورة الإسراء، و هؤلاء يتمنّون أن لو لم يكونوا يؤتون كتابهم و يدرون ما حسابهم يتمنّون ذلك لما يشاهدون من أليم العذاب المعدّ لهم.

قوله تعالى: ( يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ ) ذكروا أنّ ضمير( لَيْتَها ) للموتة الاُولى الّتي ذاقها الإنسان في الدنيا.

و المعنى: يا ليت الموتة الاُولى الّتي ذقتها كانت قاضية عليّ تقضي بعدمي فكنت انعدمت و لم اُبعث حيّاً فأقع في ورطة العذاب الخالد و اُشاهد ما اُشاهد.

قوله تعالى: ( ما أَغْنى‏ عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ ) كلمتا تحسّر يقولهما حيث يرى خيبة سعيه في الدنيا فإنّه كان يحسب أنّ مفتاح سعادته في الحياة هو المال و السلطان يدفعان عنه كلّ مكروه و يسلّطانه على كلّ ما يحبّ و يرضى فبذل كلّ جهده في تحصيلهما و أعرض عن ربّه و عن كلّ حقّ يدعى إليه و كذّب داعيه فلمّا شاهد تقطّع الأسباب و أنّه في يوم لا ينفع فيه مال و لا بنون ذكر عدم نفع ماله و بطلان سلطانه تحسّراً و توجّعاً و ما ذا ينفع التحسّر.؟

قوله تعالى: ( خُذُوهُ فَغُلُّوهُ - إلى قوله -فَاسْلُكُوهُ ) حكاية أمره تعالى الملائكة بأخذه و إدخاله النار، و التقدير يقال للملائكة خذوه إلخ، و( فَغُلُّوهُ ) أمر من الغلّ بالفتح

٦٤

و هو الشدّ بالغلّ الّذي يجمع بين اليد و الرجل و العنق.

و قوله:( ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ) أي أدخلوه النار العظيمة و ألزموه إيّاها.

و قوله:( ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ ) السلسلة القيد، و الذرع الطول، و الذراع بُعد ما بين المرفق و رأس الأصابع و هو واحد الطول و سلوكه فيه جعله فيه، و المحصّل ثمّ اجعلوه في قيد طوله سبعون ذراعاً.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ وَ لا يَحُضُّ عَلى‏ طَعامِ الْمِسْكِينِ ) الحضّ التحريض و الترغيب، و الآيتان في مقام التعليل للأمر بالأخذ و الإدخال في النار أي إنّ الأخذ ثمّ التصلية في الجحيم و السلوك في السلسلة لأجل أنّه كان لا يؤمن بالله العظيم و لا يحرّض على طعام المسكين أي يساهل في أمر المساكين و لا يبالي بما يقاسونه.

قوله تعالى: ( فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ - إلى قوله -الْخاطِؤُنَ ) الحميم الصديق و الآية تفريع على قوله:( إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ ) إلخ، و المحصّل: أنّه لمّا كان لا يؤمن بالله العظيم فليس له اليوم ههنا صديق ينفعه أي شفيع يشفع له إذ لا مغفرة لكافر فلا شفاعة.

و قوله:( وَ لا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ) الغسلين الغسالة و كأنّ المراد به ما يسيل من أبدان أهل النار من قيح و نحوه و الآية عطف على قوله في الآية السابقة:( حَمِيمٌ ) و متفرّع على قوله:( وَ لا يَحُضُّ ) إلخ، و المحصّل: أنّه لمّا كان لا يحرّض على طعام المسكين فليس له اليوم ههنا طعام إلّا من غسلين أهل النار.

و قوله:( لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ ) وصف لغسلين و الخاطؤن المتلبّسون بالخطيئة و الإثم.

٦٥

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، في قوله تعالى:( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يحمله اليوم أربعة و يوم القيامة ثمانية.

أقول: و في تقييد الحاملين في الآية بقوله:( يَوْمَئِذٍ ) إشعار بل ظهور في اختصاص العدد بالقيامة.

و في تفسير القمّيّ، و في حديث آخر قال: حمله ثمانية أربعة من الأوّلين و أربعة من الآخرين فأمّا الأربعة من الأوّلين فنوح و إبراهيم و موسى و عيسى، و أمّا الأربعة من الآخرين فمحمّد و عليّ و الحسن و الحسينعليهم‌السلام .

أقول: و في غير واحد من الروايات أنّ الثمانية مخصوصة بيوم القيامة، و في بعضها أنّ حملة العرش - و العرش العلم - أربعة منّا و أربعة ممّن شاء الله.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّه إذا كان يوم القيامة يدعى كلّ اُناس بإمامه الّذي مات في عصره فإن أثبته اُعطي كتابه بيمينه لقوله:( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ‏ ) فمن اُوتي كتابه بيمينه فاُولئك يقرؤن كتابهم، و اليمين إثبات الإمام لأنه كتابه يقرؤه - إلى أن قال - و من أنكر كان من أصحاب الشمال الّذين قال الله:( وَ أَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ وَ حَمِيمٍ وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ) إلخ.

أقول: و في عدّة من الروايات تطبيق قوله:( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ) إلخ، على عليّعليه‌السلام ، و في بعضها عليه و على شيعته، و كذا تطبيق قوله:( وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ ) إلخ، على أعدائه، و هي من الجري دون التفسير.

و في الدرّ المنثور، أخرج الحاكم و صحّحه عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لو أنّ دلوا من غسلين يهراق في الدنيا لأنتن بأهل الدنيا.

و فيه، أخرج البيهقيّ في شعب الإيمان عن صعصعة بن صوحان قال: جاء أعرابي

٦٦

إلى عليّ بن أبي طالب فقال: كيف هذا الحرف: لا يأكله إلّا الخاطون؟ كلّ و الله يخطو. فتبسّم عليّ و قال: يا أعرابيّ( لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ ) قال: صدقت و الله يا أميرالمؤمنين ما كان الله ليسلم عبده.

ثمّ التفت عليّ إلى أبي الأسود فقال: إنّ الأعاجم قد دخلت في الدين كافّة فضع للناس شيئاً يستدلّون به على صلاح ألسنتهم فرسم لهم الرفع و النصب و الخفض.

و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه في الدروع الواقية في حديث عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و لو أنّ ذراعاً من السلسلة الّتي ذكرها الله في كتابه وضع على جميع جبال الدنيا لذابت عن حرّها.

٦٧

( سورة الحاقّة الآيات 38 - 52)

فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ( 38 ) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ ( 39 ) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ( 40 ) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ ( 41 ) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ( 42 ) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ( 43 ) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ( 44 ) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ( 45 ) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ( 46 ) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ( 47 ) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ( 48 ) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ ( 49 ) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ ( 50 ) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ( 51 ) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ( 52 )

( بيان‏)

هذا هو الفصل الثالث من آيات السورة يؤكّد ما تقدّم من أمر الحاقّة بلسان تصديق القرآن الكريم ليثبت بذلك حقّيّة ما أنبأ به من أمر القيامة.

قوله تعالى: ( فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَ ما لا تُبْصِرُونَ ) ظاهر الآية أنّه إقسام بما هو مشهود لهم و ما لا يشاهدون أي الغيب و الشهادة فهو إقسام بمجموع الخليقة و لا يشمل ذاته المتعالية فإنّ من البعيد من أدب القرآن أن يجمع الخالق و الخلق في صفّ واحد و يعظّمه تعالى و ما صنع تعظيماً مشتركاً في عرض واحد.

و في الإقسام نوع تعظيم و تجليل للمقسم به و خلقه تعالى بما أنّه خلقه جليل جميل لأنّه تعالى جميل لا يصدر منه إلّا الجميل و قد استحسن تعالى فعل نفسه و أثنى

٦٨

على نفسه بخلقه في قوله:( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ ) الم السجدة: 7، و قوله:( فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ) المؤمنون: 14 فليس للموجودات منه تعالى إلّا الحسن و ما دون ذلك من مساءة فمن أنفسها و بقياس بعضها إلى بعض.

و في اختيار ما يبصرون و ما لا يبصرون للأقسام به على حقّيّة القرآن ما لا يخفى من المناسبة فإنّ النظام الواحد المتشابك أجزاؤه الجاري في مجموع العالم يقضي بتوحّده تعالى و مصير الكلّ إليه و ما يترتّب عليه من بعث الرسل و إنزال الكتب و القرآن خير كتاب سماويّ يهدي إلى الحقّ في جميع ذلك و إلى طريق مستقيم.

و ممّا تقدّم يظهر عدم استقامة ما قيل: إنّ المراد بما تبصرون و ما لا تبصرون الخلق و الخالق فإنّ السياق لا يساعد عليه، و كذا ما قيل: إنّ المراد النعم الظاهرة و الباطنة، و ما قيل: إنّ المراد الجنّ و الإنس و الملائكة أو الأجسام و الأرواح أو الدنيا و الآخرة أو ما يشاهد من آثار القدرة و ما لا يشاهد من أسرارها فاللفظ أعمّ مدلولاً من جميع ذلك.

قوله تعالى: ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) الضمير للقرآن، و المستفاد من السياق أنّ المراد برسول كريم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو تصديق لرسالته قبال ما كانوا يقولون إنّه شاعر أو كاهن.

و لا ضير في نسبة القرآن إلى قوله فإنّه إنّما ينسب إليه بما أنّه رسول و الرسول بما أنّه رسول لا يأتي إلّا بقول مرسلة، و قد بيّن ذلك فضل بيان بقوله بعد:( تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) .

و قيل: المراد برسول كريم جبريل، و السياق لا يؤيّده إذ لو كان هو المراد لكان الأنسب نفي كونه ممّا نزلت به الشياطين كما فعل في سورة الشعراء.

على أنّ قوله بعد:( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ) و ما يتلوه إنّما يناسب كونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو المراد برسول كريم.

قوله تعالى: ( وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ ) نفي أن يكون القرآن

٦٩

نظماً ألّفه شاعر و لم يقل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شعراً و لم يكن شاعراً.

و قوله:( قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ ) توبيخ لمجتمعهم حيث إنّ الأكثرين منهم لم يؤمنوا و ما آمن به إلّا قليل منهم.

قوله تعالى: ( وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ) نفي أن يكون القرآن كهانة و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كاهنا يأخذ القرآن من الجنّ و هم يُلقونه إليه.

و قوله:( قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ) توبيخ أيضاً لمجتمعهم.

قوله تعالى: ( تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ) أي منزل من ربّ العالمين و ليس من صنع الرسول نسبه إلى الله كما تقدّمت الإشارة إليه.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ - إلى قوله -حاجِزِينَ ) يقال: تقوّل على فلان أي اختلق قولاً من نفسه و نسبه إليه، و الوتين - على ما ذكره الراغب - عرق يسقي الكبد و إذا انقطع مات صاحبه، و قيل: هو رباط القلب.

و المعنى:( وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا ) هذا الرسول الكريم الّذي حمّلناه رسالتنا و أرسلناه إليكم بقرآن نزّلناه عليه و اختلق( بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ) و نسبه إلينا( لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ) كما يقبض على المجرم فيؤخذ بيده أو المراد قطعنا منه يده اليمنى أو المراد لانتقمنا منه بالقوّة كما في رواية القمّيّ( ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ ) و قتلناه لتقوّله علينا( فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ‏ ) تحجبونه عنّا و تنجونه من عقوبتنا و إهلاكنا.

و هذا تهديد للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تقدير أن يفتري على الله كذباً و ينسب إليه شيئاً لم يقله و هو رسول من عنده أكرمه بنبوّته و اختاره لرسالته.

فالآيات في معنى قوله:( لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً ) إسراء: 75، و كذا قوله في الأنبياء بعد ذكر نعمه العظمى عليهم:( وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) الأنعام: 88.

فلا يرد أنّ مقتضى الآيات أنّ كلّ من ادّعى النبوّة و افترى على الله الكذب أهلكه الله و عاقبه في الدنيا أشدّ العقاب و هو منقوض ببعض مدّعي النبوّة من الكذّابين.

٧٠

و ذلك أنّ التهديد في الآية متوجّه إلى الرسول الصادق في رسالته لو تقوّل على الله و نسب إليه بعض ما ليس منه لا مطلق مدّعي النبوّة المفتري على الله في دعواه النبوّة و إخباره عن الله تعالى.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ) يذكّرهم كرامة تقواهم و معارف المبدأ و المعاد بحقائقها، و يعرّفهم درجاتهم عند الله و مقاماتهم في الآخرة و الجنّة و ما هذا شأنه لا يكون تقوّلاً و افتراء فالآية مسوقة حجّة على كون القرآن منزّهاً عن التقوّل و الفرية.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ وَ إِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ ) ستظهر لهم يوم الحسرة.

قوله تعالى: ( وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) قد تقدّم كلام في نظيرتي الآيتين في آخر سورة الواقعة، و السورتان متّحدتان في الغرض و هو وصف يوم القيامة و متّحدتان في سياق خاتمتهما و هي الإقسام على حقّيّة القرآن المنبئ عن يوم القيامة، و قد ختمت السورتان بكون القرآن و ما أنبأ به عن وقوع الواقعة حقّ اليقين ثمّ الأمر بتسبيح اسم الربّ العظيم المنزّه عن خلق العالم باطلاً لا معاد فيه و عن أن يبطل المعارف الحقّة الّتي يعطيها القرآن في أمر المبدأ و المعاد.

٧١

( سورة المعارج مكّيّة و هي أربع و أربعون آية)

( سورة المعارج الآيات 1 - 18)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ( 1 ) لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ( 2 ) مِّنَ اللهِ ذِي الْمَعَارِجِ ( 3 ) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ( 4 ) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ( 5 ) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ( 6 ) وَنَرَاهُ قَرِيبًا ( 7 ) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ( 8 ) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ( 9 ) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ( 10 ) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ( 11 ) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ ( 12 ) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ( 13 ) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ ( 14 ) كَلَّا إِنَّهَا لَظَىٰ ( 15 ) نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ ( 16 ) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ ( 17 ) وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ ( 18 )

( بيان‏)

الّذي يعطيه سياق السورة أنّها تصف يوم القيامة بما اُعدّ فيه من أليم العذاب للكافرين. تبتدئ السورة فتذكر سؤال سائل سأل عذاباً من الله للكافرين فتشير إلى أنّه واقع ليس له دافع قريب غير بعيد كما يحسبونه ثمّ تصف اليوم الّذي يقع فيه و العذاب الّذي اُعدّ لهم فيه و تستثني المؤمنين الّذين قاموا بوظائف الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح.

٧٢

و هذا السياق يشبه سياق السور المكّيّة غير أنّ المنقول عن بعضهم أنّ قوله:( وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ) مدني و الاعتبار يؤيّده لأنّ ظاهره الزكاة و قد شرّعت بالمدينة بعد الهجرة، و كون هذه الآية مدنيّة يستتبع كون الآيات الحافّة بها الواقعة تحت الاستثناء و هي أربع عشرة آية (قوله:إِلَّا الْمُصَلِّينَ - إلى قوله -فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ‏ ) مدنيّة لما في سياقها من الاتّحاد و استلزام البعض للبعض.

و مدنيّة هذه الآيات الواقعة تحت الاستثناء تستدعي ما استثنيت منه و هو على الأقل ثلاث آيات (قوله:إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً - إلى قوله -مَنُوعاً ).

على أنّ قوله:( فَما لِلَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ) متفرّع على ما قبله تفرّعاً ظاهراً و هو ما بعده إلى آخر السورة ذو سياق واحد فتكون هذه الآيات أيضاً مدنيّة.

و من جهة اُخرى مضامين هذا الفصل من الآيات تناسب حال المنافقين الحافّين حول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن اليمين و عن الشمال عزين و هم الرادّون لبعض ما أنزل الله من الحكم و خاصّة قوله:( أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ ) إلخ، و قوله:( عَلى‏ أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ ) إلخ على ما سيجي‏ء، و موطن ظهور هذا النفاق المدينة لا مكّة، و لا ضير في التعبير عن هؤلاء بالّذين كفروا فنظير ذلك موجود في سورة التوبة و غيرها.

على أنّهم رووا أنّ السورة نزلت في قول القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) الأنفال: 32 و قد تقدّم في تفسير الآية أنّ سياقها و الّتي بعدها سياق مدنيّ لا مكّي. لكنّ المرويّ عن الصادقعليه‌السلام أنّ المراد بالحقّ المعلوم في الآية حق يسمّيه صاحب المال في ماله غير الزكاة المفروضة.

و لا عبرة بما نسب إلى اتّفاق المفسّرين أنّ السورة مكّيّة على أنّ الخلاف ظاهر و كذا ما نسب إلى ابن عبّاس أنّها نزلت بعد سورة الحاقّة.

قوله تعالى: ( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) السؤال بمعنى الطلب و الدعاء، و لذا عدّي بالباء كما في قوله:( يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ ) الدخان: 55 و قيل: الفعل مضمّن معنى الاهتمام و الاعتناء و لذا عدّي بالباء، و قيل: الباء زائدة للتأكيد،

٧٣

و مآل الوجوه واحد و هو طلب العذاب من الله كفراً و عتوّاً.

و قيل: الباء بمعنى عن كما في قوله:( فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً ) الفرقان: 59، و فيه أنّ كونها في الآية المستشهد بها بمعنى عن ممنوع. على أنّ سياق الآيات التالية و خاصّة قوله:( فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا ) لا يلائم كون السؤال بمعنى الاستفسار و الاستخبار.

فالآية تحكي سؤال العذاب و طلبه عن بعض من كفر طغياناً و كفراً، و قد وصف العذاب المسؤل من الأوصاف بما يدلّ على إجابة الدعاء بنوع من التهكّم و التحقير و هو قوله:( واقِعٍ ) و قوله:( لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) .

و المعنى سأل سائل من الكفّار عذاباً للكافرين من الله سيصيبهم و يقع عليهم لا محالة و لا دافع له أي إنّه واقع عليهم سأل أو لم يسأل ففيه جواب تحقيريّ و إجابة لمسؤله تهكّماً.

قوله تعالى: ( لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) للكافرين متعلّق بعذاب و صفة له، و كذا قوله:( لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) و قد مرّت الإشارة إلى معنى الآية.

قوله تعالى: ( مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ ) الجارّ و المجرور متعلّق بقوله:( دافِعٌ ) أي ليس له دافع من جانب الله و من المعلوم أنّه لو اندفع لم يندفع إلّا من جانب الله سبحانه، و من المحتمل أن يتعلّق بقوله:( بِعَذابٍ ) .

و المعارج جمع معرج و فسّروه بالمصاعد و هي الدرجات و هي مقامات الملكوت الّتي يعرج إليها الملائكة عند رجوعهم إلى الله سبحانه على ما يفسّره قوله بعد:( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ ) إلخ فله سبحانه معارج الملكوت و مقاماتها المترتّبة علوّاً و شرفاً الّتي تعرج فيها الملائكة و الروح بحسب قربهم من الله و ليست بمقامات وهميّة اعتباريّة.

و قيل: المراد بالمعارج الدرجات الّتي يصعد فيها الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح قال تعالى:( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) الفاطر 10، و قال:( وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى‏ مِنْكُمْ ) الحجّ: 37.

و قيل: المراد به مقامات القرب الّتي يعرج إليها المؤمنون بالإيمان و العمل

٧٤

الصالح قال تعالى:( هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَ اللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ ) آل عمران: 163 و قال:( لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ ) الأنفال: 4 و قال:( رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ ) المؤمن: 15.

و الحقّ أنّ مآل الوجهين إلى الوجه الأوّل، و الدرجات المذكورة حقيقيّة ليست بالوهميّة الاعتباريّة.

قوله تعالى: ( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) المراد بهذا اليوم يوم القيامة على ما يفيده سياق الآيات التالية.

و المراد بكون مقدار هذا اليوم خمسين ألف سنة على ما ذكروا أنّه بحيث لو وقع في الدنيا و انطبق على الزمان الجاري فيها كان مقداره من الزمان خمسين ألف سنة من سني الدنيا.

و المراد بعروج الملائكة و الروح إليه يومئذ رجوعهم إليه تعالى عند رجوع الكلّ إليه فإنّ يوم القيامة يوم بروز سقوط الوسائط و تقطّع الأسباب و ارتفاع الروابط بينها و بين مسبّباتها و الملائكة وسائط موكّلة على اُمور العالم و حوادث الكون فإذا تقطّعت الأسباب عن مسبّباتها و زيّل الله بينهم و رجع الكلّ إلى الله عزّ اسمه رجعوا إليه و عرجوا معارجهم فحفّوا من حول عرش ربّهم و صفّوا قال تعالى:( وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ) الزمر 75، و قال:( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا ) النبأ: 38.

و الظاهر أنّ المراد بالروح الروح الّذي هو من أمره تعالى كما قال:( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) إسراء: 85 و هو غير الملائكة كما هو ظاهر قوله تعالى:( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) النحل: 2.

فلا يعبأ بما قيل: إنّ المراد بالروح جبرئيل و إن اُطلق عليه الروح الأمين و روح القدس في قوله:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى‏ قَلْبِكَ ) الشعراء: 194 و قوله:( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ ) النحل: 103 فإنّ المقيّد غير المطلق.

قوله تعالى: ( فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا ) لمّا كان سؤال السائل للعذاب عن تعنّت

٧٥

و استكبار و هو ممّا يشقّ تحمّله أمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر و وصفه بالجميل - و الجميل من الصبر ما ليس فيه شائبة الجزع و الشكوى - و علّله بأنّ اليوم بما فيه من العذاب قريب.

قوله تعالى: ( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَراهُ قَرِيباً ) ضميراً( يَرَوْنَهُ ) و( نَراهُ ) للعذاب أو ليوم القيامة بما فيه من العذاب الواقع و يؤيّد الأوّل قوله فيما بعد:( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) إلخ.

و المراد بالرؤية الاعتقاد بنوع من العناية المجازيّة و رؤيتهم ذلك بعيداً ظنّهم أنّه بعيد من الإمكان فإنّ سؤال العذاب من الله سبحانه استكباراً عن دينه و ردّاً لحكمه لا يجامع الإيمان بالمعاد و إن تفوّه به السائل، و رؤيته تعالى ذلك قريباً علمه بتحقّقه و كلّ ما هو آت قريب.

و في الآيتين تعليل أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر الجميل فإنّ تحمّل الأذى و الصبر على المكاره يهون على الإنسان إذا استيقن أنّ الفرج قريب و تذكّر ذلك فالكلام في معنى قولنا فاصبر على تعنّتهم و استكبارهم في سؤالهم العذاب صبراً جميلاً لا يشوبه جزع و شكوى فإنّا نعلم أنّ العذاب قريب على خلاف ما يستبعدونه، و علمنا لا يتخلّف عن الواقع بل هو نفس الواقع.

قوله تعالى: ( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) المهل المذاب من المعدنيّات كالنحاس و الذهب و غيرهما، و قيل: درديّ الزيت، و قيل: عكر القطران(1) .

و الظرف متعلّق بقوله:( واقِعٍ ) على ما يفيده السياق.

قوله تعالى: ( وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ ) العهن مطلق الصوف، و لعلّ المراد المنفوش منه كما في قوله تعالى:( وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ) القارعة: 5.

و قيل: هو الصوف الأحمر، و قيل: المصبوغ ألواناً لأنّ الجبال ذات ألوان مختلفة فمنها جدد بيض و حمر و غرابيب سود(2) .

____________________

(1) أي ردية و خبيثه‏.

(2) كما في الآية من سورة فاطر.

٧٦

قوله تعالى: ( وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ) الحميم القريب الّذي تهتمّ بأمره و تشفق عليه.

إشارة إلى شدّة اليوم فالإنسان يومئذ تشغله نفسه عن غيره حتّى أنّ الحميم لا يسأل حميمه عن حاله لاشتغاله بنفسه.

قوله تعالى: ( يُبَصَّرُونَهُمْ ) الضميران للأحماء المعلوم من السياق و التبصير الإراءة و الإيضاح أي يُرى و يوضح الأحماء للأحماء فلا يسألونهم عن حالهم اشتغالاً بأنفسهم.

و الجملة مستأنفة في معنى الجواب عن سؤال مقدّر كأنّه لمّا قيل: لا يسأل حميم حميماً سئل فقيل: هل يرى الأحماء يومئذ أحماءهم؟ فاُجيب: يبصّرونهم و يمكن أن يكون( يُبَصَّرُونَهُمْ ) صفة( حَمِيماً ) .

و من ردي‏ءً التفسير قول بعضهم: إنّ معنى قوله:( يُبَصَّرُونَهُمْ ) يبصّر الملائكة الكفّار، و ما قيل: إنّ المعنى يبصّر المؤمنون أعداءهم من الكفّار و ما هم فيه من العذاب فيشمتون بهم، و ما قيل: إنّ المعنى يبصّر أتباع الضلالة رؤساءهم. و هي جميعاً وجوه لا دليل عليها.

قوله تعالى: ( يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَ صاحِبَتِهِ وَ أَخِيهِ وَ فَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ ) قال في المجمع: المودّة مشتركة بين التمنّي و بين المحبّة يقال: وددت الشي‏ء أي تمنّيته و وددته أي أحببته أودّ فيهما جميعاً. انتهى، و يمكن أن يكون استعماله بمعنى التمنّي من باب التضمين.

و قال: و الافتداء الضرر عن الشي‏ء ببدل منه انتهى، و قال: الفصيلة الجماعة المنقطعة عن جملة القبيلة برجوعها إلى اُبوّة خاصّة عن اُبوّة عامّة. انتهى، و ذكر بعضهم أنّ الفصيلة عشيرته الأقربين الّذين فصل عنهم كالآباء الأدنين.

و سياق هذه الآيات سياق الإضراب و الترقّي بالنسبة إلى قوله:( وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ) فيفيد أنّ المجرم يبلغ به شدّة العذاب إلى أن يتمنّى أن يفتدي من العذاب بأحبّ أقاربه و أكرمهم عليه بنيه و صاحبته و أخيه و فصيلته و جميع من في الأرض ثمّ ينجيه الافتداء فيودّ ذلك فضلاً عن عدم سؤاله عن حال حميمه.

٧٧

و المعنى( يَوَدُّ ) و يتمنّى( الْمُجْرِمُ ) و هو المتلبّس بالأجرام أعمّ من الكافر( لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ ) و هذا هو الّذي يتمنّاه، و الجملة قائمة مقام مفعول يودّ.( بِبَنِيهِ ) الّذين هم أحبّ الناس عنده( وَ صاحِبَتِهِ ) الّتي كانت سكنا له و كان يحبّها و ربّما قدّمها على أبويه( وَ أَخِيهِ ) الّذي كان شقيقه و ناصره( وَ فَصِيلَتِهِ ) من عشيرته الأقربين( الَّتِي تُؤْوِيهِ ) و تضمّه إليها( وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) من اُولي العقل( ثُمَّ يُنْجِيهِ ) هذا الافتداء.

قوله تعالى: ( كَلَّا إِنَّها لَظى‏ نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى وَ جَمَعَ فَأَوْعى) كلّا للردع، و ضمير( إِنَّها ) لجهنّم أو للنار و سمّيت لظى لكونها تتلظّى و تشتعل، و النزّاعة اسم مبالغة من النزع بمعنى الاقتلاع، و الشوى الأطراف كاليد و الرجل يقال: رماه فأشواه أي أصاب شواه كذا قال الراغب، و إيعاء المال إمساكه في وعاء.

فقوله:( كَلَّا ) ردع لتمنّيه النجاة من العذاب بالافتداء و قد علّل الردع بقوله:( إِنَّها لَظى) إلخ و محصّله أنّ جهنّم نار مشتعلة محرقة للأطراف شأنها أنّها تطلب المجرمين لتعذّبهم فلا تصرف عنهم بافتداء كائناً ما كان.

فقوله:( إِنَّها لَظى‏ ) أي نار صفتها الاشتعال لا تنعزل عن شأنها و لا تخمد، و قوله:( نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ ) أي صفتها إحراق الأطراف و اقتلاعها لا يبطل ما لها من الأثر فيمن تعذّبه.

و قوله:( تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى وَ جَمَعَ فَأَوْعى‏ ) أي تطلب من أدبر عن الدعوة الإلهيّة إلى الإيمان بالله و أعرض عن عبادته تعالى و جمع المال فأمسكه في وعائه و لم ينفق منه للسائل و المحروم.

و هذا المعنى هو المناسب لسياق الاستثناء الآتي و ذكر الصلاة و الإنفاق فيه.

٧٨

( بحث روائي‏)

في المجمع، حدّثنا السيّد أبوالحمد قال: حدّثنا الحاكم أبوالقاسم الحسكاني و ساق السند عن جعفر بن محمّد الصادق عن آبائهعليهم‌السلام قال: لما نصب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا و قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، طار ذلك في البلاد فقدم على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النعمان بن الحارث الفهريّ.

فقال: أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلّا الله و أنّك رسول الله و أمرتنا بالجهاد و الحجّ و الصوم و الصلاة و الزكاة فقبلناها ثمّ لم ترض حتّى نصبت هذا الغلام فقلت: من كنت مولاه فعليّ مولاه، فهذا شي‏ء منك أو أمر من عند الله؟ فقال: و الله الّذي لا إله إلّا هو إنّ هذا من الله.

فولى النعمان بن الحارث و هو يقول: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فرماه الله بحجر على رأسه فقتله و أنزل الله تعالى:( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ) .

أقول: و هذا المعنى مروي بغير طريق من طرق الشيعة، و قد ردّ الحديث بعضهم بأنّه موضوع لكون سورة المعارج مكّيّة، و قد عرفت الكلام في مكّيّة السورة.

و في الدرّ المنثور، أخرج الفاريابيّ و عبد بن حميد و النسائيّ و ابن أبي حاتم و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه عن ابن عبّاس في قوله:( سَأَلَ سائِلٌ ) قال هو النضر بن الحارث قال: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن السدّيّ: في قوله:( سَأَلَ سائِلٌ ) قال. نزلت بمكّة في النضر بن الحارث و قد قال:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية و كان عذابه يوم بدر.

أقول: و هذا المعنى مرويّ أيضاً عن غير السدّيّ، و في بعض رواياتهم أنّ

٧٩

القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية هو الحارث بن علقمة رجل من عبد الدار، و في بعضها أنّ سائل العذاب هو أبوجهل بن هشام سأله يوم بدر و لازمه مدنيّة السورة و المعتمد على أيّ حال نزول السورة بعد قول القائل:( اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) الآية و قد تقدّم كلام في سياق الآية.

و في أمالي الشيخ، بإسناده إلى أبي عبداللهعليه‌السلام في حديث: ألا فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا فإنّ في القيامة خمسين موقفاً كلّ موقف مثل ألف سنة ممّا تعدّون ثمّ تلا هذه الآية( فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) .

أقول: و روي هذا المعنى في روضة الكافي، عن حفص بن غياث عنهعليه‌السلام .

و في المجمع، روى أبوسعيد الخدريّ قال: قيل لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أطول هذا اليوم فقال: و الّذي نفس محمّد بيده إنّه ليخفّ على المؤمن حتّى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة يصلّيها في الدنيا.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن عدّة من الجوامع عن أبي سعيد عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ) قال: الرصاص الذائب و النحاس كذلك تذوب السماء.

و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( يُبَصَّرُونَهُمْ ) يقول: يعرّفونهم ثمّ لا يتساءلون.

و فيه في قوله تعالى:( نَزَّاعَةً لِلشَّوى‏ ) قال: تنزع عينه و تسودّ وجهه.

و فيه في قوله تعالى:( تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى ) قال: تجرّه إليها.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

وفي سرّ السّلسلة لأبي نصر البخاري: والشهيد أبو الفضل العبّاس بن علي، اُمّه اُمّ البنين(١) . ثُمّ روى عن معاوية بن عمّار الزيدي، قال: قُلتُ للصادقعليه‌السلام : كيف قسّمتم نِحلةَ فدكٍ بعد ما رجعت عليكم؟ قال:« أعْطينا وُلدَ عُبيدِ اللّهِ بنِ العبّاس الشَّهيدِ الرُّبعَ، والباقي لِوُلدِ فاطمةَ، فأصابَ بني العبّاسِ بن عليٍّ أربعةُ أسهمٍ، الحصّةُ أربعة نفر، ورثوا عليّاً عليه‌السلام » (٢) .

وكان الحريُّ بأرباب المقاتل والنّسب أنْ يُدوّنوا له هذا اللّقب المـُعرب عن أسمى منزلة له، وهو ( العبدُ الصالح )، كما خاطبه الإمام الصادقعليه‌السلام في الزيارة المخصوصة به التي رواها أبو حمزة الثّمالي، حيث يقولعليه‌السلام :« السّلامُ عليكَ أيُّها العبدُ الصَّالحُ » (٣) .

فإنّك جدّ عليمٍ بأنّ هذه الصفة أرقى مراتب الإنسان الكامل؛ لأنّها حلقة الوصل بين المولّى والعبد، وأفضل حالات أيّ فاضل، حيث يجد نفسه الطرف الرابط لموجد كيانه جلّ وعلا، وإنّ منْ أكمل مراتب الوجود فيما إذا التأمَ المـُنتهى مع المبدأ بنحو الصّلة، وهذا لا يكون إلاّ إذا بلغ العبدُ أرقى مراتب الإنسانيّة التي تلحقه بعالم البساطة، وتنتهي به إلى صقع التجرّد، فتؤهّله لأنْ يتّصل

____________________

(١) سرّ السّلسلة العلويّة / ٨٨.

(٢) سرّ السّلسلة العلويّة / ٨٩.

(٣) كامل الزيارات / ٤٤٠.

ولم يُلقّبوه بذلك؛ لأنّ هذا المعنى صفةٌ وليست اسماً ليُجعل لقباً لشخصٍ، وأهلُ السّيرِ غرضُهم مِن ذكر الألقاب التمييز، لا إطلاق الأوصاف، فتدبّر.

١٤١

بالمبدأ الأعلى، فلو فقد الإنسانُ تلك المـُلاءمة، دَحرَهُ عن حضيرةِ القداسةِ انقطاعُ النّسبةِ، وبُعدُ المرمى، وشسوعُ المسافة.

ولا نعني بهذه المرتبة أنْ يكون العبدُ مُواظباً على العبادات البسيطة المـُسقطة للخطاب، والرافعة للتعزير فحسب، وإنّما نقصدُ منه ما إذا عبدَ اللّهَ سبحانه حقَّ عبادته النّاشئة عن فقهٍ وبصيرةٍ، ومعرفةٍ بالمعبود الذي يجبُ أنْ يُعبد، من دون لحاظ مثوبةٍ أو عقوبةٍ حتّى يكون المولى هو الذي يُسمّيهِ عبداً له، ويصافقه على تصديق دعواه بالعبوديّة له. وما أسعد العبد حيث يُبصر ما بيده من سلك الطاعة، ويعرف أنّ مولاه قابضٌ على طرفه الآخر، تُزلِّفه إليه جاذبة الصلة، وأشعة القرب!

وعلى ما قلناه كانت هذه المرتبة عند الأنبياءعليهم‌السلام أرقى مراتبهم، وأرفع منصّاتهم؛ لأنّ طرف عبوديَّتهم أمنع وأشرف من طرف رسالتهم، فالطرف الأعلى في العبوديّة ( مبدأ الحقّ سُبحانه وتعالى )، والطرف الأسفل منَّتُه إلى شخص النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأمّا النّبوّة فمبدؤها الرسول ومنتهاها الاُمّة(١) .

ولولا أنّ هذه الصفة أسمى الصفات التي يتّصف بها العبدُ، لما خصّ اللّه تعالى أنبياءه بها، فقال سبحانه:( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْب مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَة مِّن مِّثْلِهِ ) (٢) .

____________________

(١) لكن حقيقة الرّسالة راجعة إلى العبوديّة وداخلة في ضمنها، فهي منها وبها وإليها. نعم، مانعيّةُ الرسالة من جهة اشتغال الرسول بتبليغ الرسالة، والدخول في عالم الكثرة، وهذا فيه نوعُ حُجبٍ على النّور الصافي فيما لو انقطع مع اللّه، ولكنّه بالتالي عبادة أقلّ من غيره، فتدبّر.

(٢) سورة البقرة / ٢٣.

١٤٢

وقال تعالى:( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى ) (١) .

وقال عزّ شأنه:( وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ) (٢) .

وقال جلّ وعلا:( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) (٣) .

وقال تعالت أسماؤه:( وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) (٤) .

وقال عزّ سبحانه:( وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ اُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ ) (٥) .

وقال عظم ذكره:( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْب وَعَذَاب ) (٦) .

وقد كان في وسع المولى تعالت أسماؤه أنْ يقول في خطاب نبيّه الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله :( وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْب مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى ) رسولنا، ونحوه ممّا يدل على النبوّة والرسالة، ولكن حيث كان حبيبُ اللّه وصفيّه مُتجرّداً عمّا يحجبه عن مُشاهدة المهيمن سبحانه، فانياً في سبيل خدمة المولى، لا يرى في الوجود غير منشئ الأكوان؛ استحقّ أنْ يهبه البارئ تعالى أرقى صفة تليق بهذا المقام.

____________________

(١) سورة الأسراء / ١

(٢) سورة الأنفال / ٤١.

(٣) سورة ص / ١٧.

(٤) سورة ص / ٣٠.

(٥) سورة ص / ٤٥.

(٦) سورة ص / ٤١.

١٤٣

ومن هنا نرى الرسول المسيح قدّم عبوديته على رسالته، فقال:( إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً ) (١) .

وأنت لا تفتأ في جميع الفرائض والنّوافل في اليوم والليل تشهد بأنّ محمّداً عبدُهُ ورسولُهُ، ولم تقلْ: خاتم الأنبياء، أو علّة الكائنات، أو سرّ الموجدات، أو حبيب اللّه وصفيّه، مع أنّها صفات لا تليق إلاّ بذاتٍ اشتُقّت من نور القُدس، ولكنّك عرفت أنّ أسمى هذه الصفات، وأجلَّ ما يليق بالعبد حال اتصاله بالمبدأ الأعلى، هو وصفُهُ بالعبوديّة لمولاه.

ومن هنا ظهر لنا إنّ من أجلى الحقائق، وأرقى مراتب الفضل الذي لا يُحلّق إليهِ طائرُ الفكر، ولا يُدرك مداه أيُّ تصوّرٍ، غير أنّ من الواجب التصديق به على الجملة، هو وصفُ سيّدنا العبّاسعليه‌السلام بهذه الصفة الكاملة ( العبد الصالح )، التي أضافها اللّه تعالى إلى أنبيائهِ ومُبلِّغي شريعته، واُمنائه على وحيه، ومنحَهُ بها الإمام الصادقعليه‌السلام .

____________________

(١) سورة مريم / ٣٠.

١٤٤

السّقّا:

الماء حياة العالم، وليست حاجةُ أي جزء من أجزائه أمسّ من الآخر، فلا جزء ولا جُزيء في الكون إلاّ وهو خاضع له في وجوده، وفي نشوئه وبقائه، وقد أعرب عنه سبحانه بقوله:( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيء حَيّ ) (١) .

وإليه استند ابن عباس في حَلِّ لغز ملك الروم؛ فإنّه وجّه إلى معاوية قارورة يطلب منه أنْ يضع فيها من كُلِّ شيء، فتحيّر معاوية واستعان بابن عباس في كشف الرمز؛ لعلمه بأنّه يستقي من بحر أمير المؤمنينعليه‌السلام المتموّج بالحكم والأسرار، فقال ابن عباس: لتملأ له ماء؛ فإنّ اللّه يقول:( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيء حَيّ ) . فاُدهش ملك الروم وتعجّب، وقال: للّه أبوه، ما أدهاه(٢) ! فلا يخالج اليقين بأهمّيته الكبرى في دور الحياة أي شكّ.

وإنّ مَن يكون معروفُهُ الذي تندى به أنامله، وتسوقه إليه جبلته، هذه المادّة الحيوية، لعلى جانب ممنع من الفضل، وقد عرقت فيه وشائج الرّقَّة، وتحلّى بغريزة العطف، ونبض فيه عرقُ الحنان، ولا يكون إسداءُ مثله إلاّ عن لينٍ ورأفةٍ على الوجود، وإنْ تفاوتت المراتب بالنّسبة إلى الموجدات الشريفة وما دونه، ولا

____________________

(١) سورة الأنبياء / ٣٠.

(٢) الكامل للمبرد ١ / ٣٠٨، والعبارة فيها تقديم وتأخير.

١٤٥

يعدو الشرف والشهامة هذا المـُتفضّل بسرّ الحياة؛ فهو شريفٌ يُحبُّ الإبقاء على مثله، أو عطوفٌ لا يجدُ على الإغاثة منَّةً، ولا على قدرته في الإعانة لسائر الموجودات جُهداً ولا عطباً.

وإذا كانت الشريعة المـُطهّرة حثّت على السّقاية ذلك الحثّ المتأكّد، فإنّما تلت على النّاس أسطراً نوريّة ممّا جُبلوا عليه، وعرَّفت الاُمّة بأنّ الدِّين يُطابق تلك النّفسيات البشريّة والغرائز الطبيعيّة، وأرشدتهم إلى ما يكون من الثواب المـُترتّب على سقي الماء في الدار الآخرة؛ ليكونوا على يقينٍ مِن أنّ عملَهم هذا موافقٌ لرضوان اللّه وزُلفى للمولى سبحانه، يستتبع الأجر الجزيل، وليس هو طبيعيّاً محضْاً؛ وهذا ما جاء عن النّبيٍّصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته المعصومينعليهم‌السلام ، من فضل بذل الماء في محلّ الحاجة إليه وعدمها، [ سواء ] كان المـُحتاجُ إليه حيواناً أو بشراً، مؤمناً كان أو كافراً.

ففي حديث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :« أفضلُ الأعمالِ - عند اللّهِ -إبرادُ الكَبد الحَرَّى » (١) . من بهيمة وغيرها ولو كان على الماء؛ فإنّه يوجب تناثر الذنوب كما ينتثر الورق من الشجر(٢) ، وأعطاه اللّه بكُلِّ قطرة يبذلها قنطاراً في الجنّة، وسقاه من الرحيق المختومِ، وإنْ كان في فَلاة من الأرض ورد حياضَ القدس مع النّبيّين(٣) .

____________________

(١) بحار الأنوار ٧١ / ٣٦٩.

(٢) تذكرة الموضوعات للفتني / ١٤٧.

(٣) مستدرك الوسائل للنوري ٧ / ٢٥٣.

١٤٦

وسأله رجل عن عمل يُقرّبه من الجنّة، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :« اشترِ سقاءً جديداً ثُمّ اسقِ فيه حتّى تخرقَها؛ فإنّك لا تخرقُها حتّى تبلغَ به عملَ الجنّة » (١) .

وقال الصادقعليه‌السلام :« مَن سقى الماءَ في موضعٍ يُوجدُ فيه الماءُ كان كمَنْ أعتقَ رقبةً، ومَنْ سقَى الماءَ في موضعٍ لا يُوجدُ فيه الماءُ كان كمَنْ أحيَى نفساً، ومَنْ أحيَى نفساً فكأنّما أحيَى النّاسَ أجمعين » (٢) .

وقد دلّت هذه الآثار على فائدة السّقي بما هو حياة العالم ونظام الوجود؛ ومِنْ هنا كان النّاسُ فيه شرعاً سواء، كالكلاء والنّار، فلا يختصّ اللطفُ منه جلّ وعلا بطائفةٍ دون طائفة. وقد كشف الإمام الصادقعليه‌السلام السّرَّ في جواب مَن قال له: ما طعم الماء؟ فقالعليه‌السلام :« طعمُ الحياة » (٣) .

فالسّقاية أشرف شيء في الشريعة المـُطهّرة، تلك أهميتها عند الحقيقة، ومكانتها من النّفوس؛ ولهذه الأهمية ضُرب المثل بـ ( كعب بن مامة الإيادي )(٤) . وأضحت السّقاية العامّة لا ينوء بعبئها إلاّ مَن حلّ وسطاً من السّؤدد والشرف، وأعالي الاُمم لا ساقتها؛ ولذا أذعنت قريش لقَصي بسقاية الحاجِّ، فكان يطرح الزبيبَ في الماء ويسقيهم الماءَ المـُحلَّى كما كان يسقيهم اللبن(٥) .

____________________

(١) الأمالي للشيخ الطوسي / ٣١٠، الكافي للكُليني ٤ / ٥٧، ح٣، مَن لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق ٢ / ٦٤.

(٢) المـُعجم الكبير للطبراني ١٢ / ٨٢، مجمع الزوائد للهيثمي ٣ / ١٣٢.

(٣) الكافي ٦ / ٣٨١، ح٧، مناقب آل أبي طالب ٢ / ٢٠٣.

(٤) الأعلام للزركلي ٥ / ٢٢٩، مُعجم البلدان للحموي ٣ / ٢٦٦.

(٥) السّيرة الحلبيّة ١ / ٢١.

١٤٧

وكان ينقل الماء إلى مكّة من آبار خارجها، ثُمّ حفَرَ بئراً اسمها ( العجول ) في الموضع الذي كانت دار اُمّ هاني فيها، وهي أوّل سقاية حُفرت بمكّة، وكانت العرب إذا استقوا منها ارتجزوا:

نَروي على العجولِ ثُمّ نَنطلقْ

إنّ قَصياً قَدْ وفَى وقَدْ صَدقْ(١)

ثُمّ حفر قَصيٌّ بئراً سمّاها ( سِجلة )، وقال فيها(٢) :

أنا قَصيٌّ وحَفرتُ سِجلهْ

تروي الحجيجَ زغلةً فزغلهْ

وكان هاشم أيّام الموسم يجعل حياضاً من أدم في موضع زمزم لسقاية الحاجِّ، ويحمل الماء إلى مِنى لسقايتهم، وهو يومئذ قليل(٣) . ثُمّ إنّه حفر بئراً سمّاها ( البندر )(٤) ، وقال: إنّها بلاغ للناس، فلا يُمنع منها أحداً(٥) .

وأمّا عبد المطّلب، فقد قام بما كان آباؤه يفعلونه من سقاية الحاجِّ، وزاد على ذلك أنّه لمـّا حفر زمزم وكثر ماؤها أباحها للنّاس، فتركوا الآبار التي كانت خارج مكّة؛ لمكانها من المسجد الحرام، وفضلها على مَن سواها؛ لأنّها بئر إسماعيل(٦) ، وبنى عليها

____________________

(١) مُعجم البلدان ٤ / ٨٨، فتوح البلدان للبلاذري ١ / ٥٦، سُبل الهدى والرشاد ١ / ٢٧٥.

(٢) مُعجم ما استعجم للأندلسي ٣ / ٧٢٤.

(٣) السّيرة الحلبيّة ١ / ٢٢.

(٤) مُعجم البلدان ١ / ٣٦١، تاج العروس ٦ / ٦٨، وقال، قالوا: هو من التبذير، وهو التفريق، فلعلَّ ماءها كان يخرج مُتفرِّقاً من غير مكان واحد.

(٥) في مُعجم البلدان ١ / ٣٦١، ومُعجم ما استعجم ١ / ٢٣٥، وقال حين حفره:

أنبطتُ بذراً بماءِ قلاسِ

جعلتُ ماءَها بلاغاً للنّاسِ!

 (٦) تاريخ الطبري ٢ / ١٢، تاريخ ابن الأثير ٢ / ١٢، سيرة ابن إسحاق / ٥، السّيرة الحلبيّة ١ / ٥١.

١٤٨

حوضأً، فكان هو وابنه الحرث ينزعان الماء ويملأن الحوض، فحسدته قريش على ذلك، وعمدوا إلى الحوض بالليل فكسروه، فكان عبد المطّلب يُصلحه بالنّهار وهم يكسرونه بالليل، فلمـّا أكثروا عليه إفساده دعا عبد المطّلب ربّه سبحانه وتعالى، فرأى في المنام قائلاً يقول:« قُلْ لقريشٍ إنّي لا أحلُّها لمُغتسلٍ، وهي لشاربٍ حلٌّ وبلٌّ » . فنادى في المسجد بما رأى، فلم يفسد أحد من قريش حوضه إلاّ رُمي بداء بجسده حتّى تركوا حوضه وسقايته(١) ، وفي ذلك يقول خويلد بن أسد(٢) :

أقولُ ومَا قَولِي عَليهمْ بسُبَّةٍ

إليكَ ابنُ سَلمَى أنتَ حَافِرُ زَمزَمِ

حَفيرةُ إبراهِيمَ يَومَ ابنِ هَاجَرٍ

وَركضَةِ جِبريِلٍ عَلى عَهدِ آدَمِ

ولمـّا وافق قريشاً على المحاكمة عند كاهنة بني سعد بن هذيم، وكان بمشارف الشام، وسار عبد المطّلب بمَن معه من قومه، حيث إذا كانوا بمفازة لا ماء فيها ونفد ماؤهم استسقوا ممّن كان معهم من قريش، فأبوا أنْ يسقوهم؛ حفظاً على الماء، فأمر عبد المطّلب أصحابَهُ أنْ يحفروا قبوراً لهم، ويُدفن مَن يموت منهم عطشاً في حفرته ويبقى واحد؛ فضيعة واحد أيسر من ضيعة جماعة، وبعد أنْ فرغوا من الحفر، قال عبد المطّلب: إنّ هذا منّا لعجزٌ، لنضربنّ في الأرض عسى اللّه أنْ يرزقنا ماءً.

فركب راحلته،

____________________

(١) المـُصنّف للصنعاني ٥ / ١١٤، تاريخ اليعقوبي ١ / ٢٤٧، تاريخ ابن خلدون ٢ / ٣٣٨، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٥ / ٢١٦، السّيرة النّبويّة لابن كثير ١ / ١٧٣، السّيرة الحلبيّة ١ / ٥٧.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٥ / ٢١٧، مُعجم البلدان للحموي ٣ / ١٤٩، سُبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي ١ / ١٩١.

١٤٩

فلمـّا انبعث نبع من تحت خفها ماءٌ عذبٌ، فكبّر عبد المطّلب، وشرب أصحابه وملؤوا أسقيتهم، ودعا قريشاً أنْ يستقوا من الماء، فأكثروا منه، ثُمّ قالوا: إنّ اللّه قد قضى لك علينا، ولا نُخاصمك في زمزم، إنّ الذي سقاك في هذه الفلاة هو الذي سقاك زمزم، فارجع راشداً. وزاد عبد المطّلب في سقاية الحاجِّ بالماء أنْ طرح الزَّبيب فيه، وكان يحلب الإبل، فيضع اللبن مع العسل في حوض من أدم عند زمزم، لسقاية الحاجّ(١) .

ثُمّ قام أبو طالب مقامه بسقي الحاجّ(٢) ، وكان يجعل عند رأس كُلِّ جادّة حوضاً فيه الماء ليستقي منه الحاجّ، وأكثر من حمل الماء أيّام الموسم، ووفّره في المشاعر: فقيل له: ( ساقي الحجيج ).

أمّا أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فقد حوى أكثر ممّا حواه والده الكريم من هذه المكرُمة، وكم له من موارد للسقاية لا يستطيع أحد على مثلها، وذلك يوم بدر وقد أجهد المسلمين العطشُ، وأحجموا عن امتثال أمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في طلب الماء؛ فرقاً من قريش، لكن نهضت بأبي الريحانتين غيرتُه الشمّاء، وثار به كرمُهُ المـُتدفق، فلبّى دعاءَ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وانحدر نحو القليب، وجاء بالماء حتّى أروى المسلمين(٣) .

____________________

(١) السّيرة الحلبيّة ١ / ٥٥، السّيرة النّبويّة لابن هشام ١ / ٩٤، السّيرة النّبويّة لابن كثير ١ / ١٦٩، سُبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي ١ / ١٨٩، الكامل في التاريخ ٢ / ١٣، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٥ / ٢٢٩.

(٢) السّيرة الحلبيّة ٣ / ٥٢.

(٣) مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ٢ / ٨٠.

١٥٠

ولا يُنسى يوم صفِّين وقد شاهد من عدوه ما تندى منه جبهة كُلِّ غيور؛ فإنّ معاوية لمـّا نزل بجيشه على الفرات، منع أهل العراق من الماء حتّى كضَّهم الظمأ، فأنفذ إليه أمير المؤمنين (ع ) صعصعة بن صوحان وشبث بن ربعي، يسألانه أنْ لا يمنع الماء الذي أباحه اللّه تعالى لجميع المخلوقات، وكُلّهم فيه شرعٌ سواء، فأبى معاوية إلاّ التردِّي في الغواية والجهل، فعندها قال أمير المؤمنينعليه‌السلام :« اروُوا السّيوفَ مِنَ الدِّماءِ تَروَوا مِنَ الماءِ » (١). ثُمّ أمر أصحابه أنْ يحملوا على أهل الشام حملة واحدة، فحمل الأشترُ والأشعثُ في سبعة عشر ألفاً، والأشترُ يقول:

مِيعَادُنَا اليَومَ بَياضُ الصُبْحِ

هَل يَصلُحُ الزَادُ بغَيرِ مِلحِ؟

والأشعث يقول:

لأورِدنَّ خَيلِيَ الفرَاتا

شِعثَ النّواصِي أو يُقَالَ مَاتَا

فلمـّا أجلوهم أهلُ العراق عن الفرات ونزلوا عليه وملكوه، أبى صاحب النّفسيّة المـُقدّسة التي لا تعدوها أي مأثرة، أنْ يسير على نهج عدوِّه حتّى أباح الماء لأعدائه، ونادى بذلك في أصحابه(٢) ، ولم يدعه كرم النّفس أنْ يرتكب ما هو من سياسة الحرب من التضييق على العدوِّ بأيّ صورة.

هذه جملة من موارد السّقاية الصادرة من شرفاء سادةٍ، مُتبوّئين على منصّات المجد والخطر، مُتَّكئين على أرائك العزِّ

____________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٢ / ٣٥١.

(٢) المعيار والموازنة للاسكافي / ١٤٦، الفتوح لابن أعثم الكوفي ٣ / ٥.

١٥١

والمنعة، وما كانت تدعهم دماثةُ أخلاقهم وطهارةُ أعراقهم أنْ يكونوا خُلوّاً من هذه المكرُمة؛ وقد افتخر بذلك عبدُ مناف على غيرهم.

وأنت إذا استشففت الخصوصيّات المكتنفة بكُلٍّ منها، فإنّ الصراحة لا تدعك إلاّ أنْ تقول بتفاوت المراتب فيها من ناحية الفضيلة؛ كما لا تجد منتدحاً عن تفضيل الحسينعليه‌السلام على غيره يوم سقى الحُرَّ وأصحابه في ( شراف )(١) ، وهو عالمٌ بحراجة الموقف، ونفاذ الماء بسقي كتيبة فيها ألفُ رجل مع خيولهم، ووخامة المستقبل، وإنّ الماء غداً دونه تسيل النّفوس وتشق المرائر، لكن العنصر النّبوي والآصرة العلويّة لم يتركا صاحبهما إلاّ أنْ يحوز الفضل.

وإنّي أحسب أنّ ما ناء به أبو الفضلعليه‌السلام في أمر السّقاية لا يوازنه شيءٌ من ذلك، يوم ناطح جبالاً من الحديد ببأسه الشديد حتّى اخترق الصفوف، وزعزع هاتيك الاُلوف، وليس له هَمّ في ذلك المأزق الحرج، إلاّ إغاثة شخصيّة الرّسالة المـُنتشرة في تلك الأمثال القُدسيّة من الذُّرِّيَّة الطيّبة، ولم تقثعه هذه الفضيلة حتّى أبت نفسيَّته الكريمة أنْ يلتذّ بشيءٍ من الماء قبل أنْ يلتذّ به أخوه الإمامعليه‌السلام وصبيته الأزكياء.

____________________

(١) موضع، وقيل: ماءٌ لبني أسد. راجع لسان العرب ٩ / ١٧٤، ويذكر المؤرّخون - كالطبري ٤ / ٣٠٢، وابن الأثير في الكامل ٤ / ٤٦ وغيرهما - إنّه التقى مع جيش الحُرِّ بعد الخروج من ( شراف ).

١٥٢

هنالك حداه إيمانه المشفوع باليقين، وحنانه المرتبط بالكرم إلى أنْ ينكفىء إلى المـُخيّم، ولا يحمل إلاّ مزادة من ماء يدافع عنها بصارمه الذَّكر، ويزنيهِ المـُثقّفِ، ولواءُ الحمد يرفّ على رأسه، غير أنّ ما يحمله هو أنفس عنده من نفسه الكريمة، بلحاظ ما يُريده من المحافظة على تلك المزادة الملأى.

وراقه أنْ تكون هي الذخيرة الثمينة، مشفوعة بما هو أعظم عند اللّه تعالى، فسمح بيمينه وشماله - وكلتاهما يمنٌ - أنْ تُقطعا بعين اللّه في كلاءة ما يتهالك دونه؛ لينال الاُمنية قبل المنيّة، وما خارت عزيمة العبّاسعليه‌السلام إلاّ حين أحبّ أنْ لو كانت المراقة نفسه لا القربة. فيا أبعد اللّه سهماً أسال ماءها! ولم يكن ( سعد العشيرة ) طالباً للحياة بعده لو لم يأته العمود الطائش، ألا لعنة اللّه على الظالمين.

ومن أجل مجيئه بالماء إلى عيال أخيه وصحبهعليهم‌السلام في الأيّام العشرة؛ سُمّي ( السّقّا ). نصّ عليه أبو الحسن في المـُجدي، والداودي في عمدة الطالب، وابن إدريس في مزار السّرائر، وأبو الحسن الديار البكري في تاريخ الخميس ج٢ ص٣١٧، والنّويري في نهاية الأرب ج٢ ص٣٤١، والشبلنجي في نور الأبصار ص٩٣، والعلاّمة الحُجّة محمّد باقر القايني في الكبريت الأحمر ج٢ ص٣٤(١) .

____________________

(١) عمدة الطالب لابن عنبة / ٣٥٦، مقاتل الطالبيين / ٥٥، الأنوار العلويّة للنقدي / ٤٤١، السّرائر ١ / ٦٥٦.

١٥٣

ولصاحب هذا اللّقب فيوضاتٌ على الاُمّة لا تُحدُّ، وبركاتٌ لا تُحصَر.

هو البَحرُ مِن أيِّ النّواحِي أتَيتَهُ

فِلجَّتُهُ المَعرُوفِ والجُودِ سَاحِلهْ

ومن ذلك ما ذكره العلاّمة السّند السيّد محمّد ابن آية اللّه السيّد مهدي القزوينيقدس‌سره في كتاب ( طروس الإنشاء )، قال: في سنة ١٣٠٦ هـ انقطع نهر الحُسينيّة، وعاد أهل كربلاء يقاسون شحّة الماء وكضّة الظمأ، فأمرت الحكومة العثمانيّة بحفر نهر في أراضي السيّد النّقيب السيّد سلمان، فمنع النّقيب ذلك، واتّفق أنْ زرتُ كربلاء، فطلب أهلُها أنْ أكتُبَ إلى النّقيب، فكتبتُ إليه ما يُشجيه، وعلى حالهم يُبكيه:

في كَربلا لَكَ عُصبةٌ تَشكُوا الظَّمَأ

مِنْ فَيضِ كَفِّكَ تستمِدُ رَوُاءَهَا

وأراكَ يَا سَاقِي عِطَاشَى كَربَلا

وأبوُكَ سَاقِي الحَوضَ تَمنعُ مَاءَهَا(١)

فأجاز النّقيب حفر النّهر، وانتفع أهل كربلاء ببركة هذا اللقب الشريف ( السّقّا ).

____________________

(١) نقل جزء من القصّة السيّد محسن الأمين في أعيان الشيعة ١٠ / ٧٢.

١٥٤

نشأته:

ممّا لا شكّ فيه أنّ لنفسيات الآباء ونزعاتهم، وكمّياتهم من العلم والخطر، أو الانحطاط والضّعة، دخلاً تامّاً في نشأة الأولاد وتربيتهم، إنْ لم نقل إنّ مقتضاهما هو العامل الوحيد في تكيّف نفسيّات النّاشئة بكيفيّاتٍ فاضلة أو رذيلة، فلا يكاد يرتأي صاحب أيِّ خطّة إلاّ أنْ يكون خَلَفُهُ على خطَّته، ولا أنّ الخلفَ يتحرّى غير ما وجد عليه سلفه؛ ولذلك تجد في الغالب مشاكلة بين الجيل الأوّل والثاني في العادات والأهواء، والمعارف والعلوم، اللهمّ إلاّ أنْ يسود هناك تطوّرٌ يكبح ذلك الاقتضاء.

وعلى هذا النّاموس يسعنا أنْ نعرف مقدار ما عليه أبو الفضلعليه‌السلام من العلم والمعرفة وحُسن التربية، بنشوئه في البيت العلوي مُنبَثق أنوار العلم، ومحطّ أسرار اللاهوت، ومختبأ نواميس الغيب، فهو بيتُ العلم والعمل، بيتُ الجهاد والورع، بيتُ المعرفة والإيمان:

بَيتٌ عَلاَ سَمكَ الضّراحِ رِفعَةً

فَكانَ أعَلاَ شَرفَاً وأمَنعَا

أعزَّهُ اللّهُ فَما تَهبِطُ فِيْ

كَعبَتهِ الأملاكُ إلاّ خَضعَا

بَيتٌ مِن القُدسِ ونَاهيِك بِهِ

مَحطُ أسرِارِ الهُدى ومَوضِعَا

وكَان مأوى المـُرتَجي والمـُلتَجى

فَما أعزَّ شَأنهُ وأرفَعَا(١)

____________________

(١) من قصيدة للعلاّمة السيّد محمّد حسين الكيشوانرحمه‌الله .

١٥٥

وبسيف صاحب هذا البيت المنيع انجلت غواشي الإلحاد، وببيانه تقشّعت غيومُ الشُّبَهِ والأوهام.

إذن، فطبع الحال يدلّنا على أنّ سيّد الأوصياءعليه‌السلام لم يبغِ بابنه بدلاً في حُسن التربية الإلهيّة، ولا أنّ شظية الخلافة يروقه غير اقتصاص أثر أبيه الأقدس، فلك هاهنا أنْ تُحدّث عن بقيّة أمير المؤمنينعليه‌السلام في أيّ ناحية من نواحي الفضيلة، ولا حرج.

لم تكنْ كُلُّ البصائر في أبي الفضلعليه‌السلام اكتسابيّة، بل كان مُجتبلاً من طينة القداسة التي مزيجُها النّور الإلهي حتّى تكوَّنت في صُلب مَن هو مثال الحقِّ، ذلك الذي لو كُشف عنه الغطاء ما ازداد يقيناً، فلم يصل أبو الفضلعليه‌السلام إلى عالم الوجود إلاّ وهو معدن الذكاء والفطنة، واُذنٌ واعيةٌ للمعارف الإلهيّة، ومادةٌ قابلة لصور الفضائل كُلّها، فاحتضنه حِجرُ العلم والعمل، حجرُ اليقين والإيمان، وعادت أرومته الطيّبة هيكلاً للتوحيد، يُغذّيه أبوه بالمعرفة، فتشرق عليه أنوار الملكوت وأسرار اللاهوت، وتهب عليه نَسماتُ الغيب، فيستنشق منها الحقائق.

دعاه أبوهعليه‌السلام في عهد الصبا وأجلسه في حجره، وقال له:« قُلْ واحد » . فقال: واحد. فقال له:« قُلْ اثنين » . قال: استحي أنْ أقولَ باللّسان الذي قُلتُ واحداً، اثنان(١) .

وإذا أمعنّا النّظر في هذه الكلمة - وهو على عهد نعومةٍ من أظفاره، في حين أنّ نظراءه في السّنِّ لا يبلغون إلى ما هو دون ذلك الشأو البعيد - فلا نجد بُدّاً من البخوع بأنّها من أشعَّة تلك

____________________

(١) مُستدرك الوسائل ١٥ / ٢١٥، مقتل الحسين للخوارزمي ١ / ١٧٩.

١٥٦

الإشراقات الإلهيّة، فما ظنّك إذن حينما يلتقي مع المبادئ الفيّاضة من أبيه سيّد الوصيينعليه‌السلام ، وأخويه الإمامينعليهما‌السلام سيّدي شباب أهل الجنّة، فلا يقتني من خزائن معارفهم إلاّ كُلَّ دُرٍّ ثمين، ودُرّيٍّ لامع؟!

وغير خفيٍّ ما أراده سيّدنا العبّاسعليه‌السلام ، فإنّه أشار إلى أنّ الوحدانيّة لا تليق إلاّ بفاطر السّماوات والأرضين، ويجلّ مثله المتفرّع من دوح الإمامة أنْ يجري على لسانه النّاطق بالوحدانيّة لباري الأشياء صفة تنزَّه عنها سبحانه وتعالى، وعنها ينطق كتابه المجيد:( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاّ اللّهُ لَفَسَدَتَا ) (١) .

وممّا زاد في سرور أبيه أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّ زينب العقيلة كانت حاضرة حينذاك، وهي صغيرة، فقالت لأبيها: أتحبّنا؟ قال:« بلى » . فقالت: لا يجتمع حُبّان في قلب مؤمن: حبُّ اللّه، وحبُّ الأولاد، وإنْ كان ولا بُدّ فالحبّ للّه تعالى والشفقة للأولاد. فأعجبه كلامها وزاد في حُبّه وعطفه عليهما(٢) .

أمّا العلم، فهو رضيع لبانه، وناهيك في حِجر أبيه مدرسة يتخرّج منها مثل أبي الفضلعليه‌السلام ! وما ظنّك بهذا التلميذ المـُصاغ من جوهر الاستعداد، وذلك الاُستاذ الذي هو عيبة العلم الإلهي، وعلبة أسرار النّبوّة، وهو المـُقيّض لنشر المعارف الربوبيّة، وتعلّم الأخلاق الفاضلة، ونشر أحكام الإسلام، ودحض الأوهام والوساوس؟!

____________________

(١) سورة الأنبياء / ٢٢.

(٢) مقتل الحسين للخوارزمي ١ / ١٧٩ باختلاف الألفاظ، وفي مستدرك الوسائل ١٥ / ٢١٥ قال، وقيل: بل القائل الحُسسينعليه‌السلام .

١٥٧

وإذا كان الإمامعليه‌السلام يُربّي البُعداء الأجانب بتلك التربية الصحيحة المأثورة حتّى استفادوا منه أسرار التكوين، ووقفوا على غامض ما في النّشأتين، وكان عندهم بواسطة تلك التربية علم المنايا والبلاي، كحبيب بن مظاهر وميثمِ التمّار، ورشيد الهجري وكميل بن زياد، وأمثالهم؛ فهل من المعقول أنْ يذر قرّة عينه، وفلذة كبده خلوّاً مِن أي علم؟! أو أنّ قابلية المحلِّ تربى باُولئك الأفراد دون سيّدنا العبّاسعليه‌السلام ؟

لا واللّه، ما كان سيّد الأوصياءعليه‌السلام يضنّ بشيء من علومه، لا سيّما على قطعة فؤاده، ولا أنّ غيره ممّن انضوى إلى أبيه علم الهداية يشقّ له غباراً في القابلية والاستعداد. فهنالك التقى مبدأٌ فيّاض، ومحلٌّ قابل للإفاضة، وقد ارتفعت عامّة الموانع؛ فذلك برهان على أنّ ( عبّاس اليقين ) من أوعية العلم، ومن الراسخين فيه.

ثُمَّ هلمّ معي إلى جامعتين للعلوم الإلهيّة، ملازمتين للجامعة الاُولى في نشر المعارف، وتقيّضهما لإفاضة التعاليم الحقَّة لكُلِّ تلميذ، والرُّقي به إلى أوج العظمة في العلم والعمل، ألا وهما ( كُلّيتا ) السّبطين الحسن والحسينعليهما‌السلام . وانظر إلى ملازمته لأخويه بعد أبيه سيّد الأوصياءعليهم‌السلام ، ملازمة الظلِّ لذيه، فهناك يتجلّى لكَ أنّ سماءَ عِلمِهما لم تهطل وبالاً إلاّ وعاد لؤلؤاً رَطباً في نفسه، ولا أنفقا شيئاً من ذلك الكنز الخالد إلاّ واتّخذه ثروة علميّة لا تنفد.

١٥٨

أضف إلى ذلك ما كان يرويه عن عقيلة بيت الوحي، زينب الكبرى، وهي العالمة غير المـُعلَّمة بنصّ الإمام زين العابدين (ع)(١) .

وبعد هذا كُلِّه، فقد حوى أبو الفضل من صفاء النّفس والجبلّة الطيّبة، والعنصر الزاكي والإخلاص في العمل، والدّؤوب على العبادة؛ ما يفتح له أبواباً من العلم، ويُوقفه على كنوز المعرفة، فيتفرّع من كُلِّ أصلٍ فرعٌ، وتنحلّ عنده المشكلات.

وإذا كان الحديث ينصّ على أنّ مَن أخلص للّه أربعين صباحاً انفجرت ينابيعُ الحكمة من قلبه على لسانه؛ إذنْ فما ظَنّك بمَن أخلص للّه سبحانه طيلة عُمره، وهو مُتخلٍّ عن كُلِّ رذيلة، ومُتحلٍّ بكُلِّ فضيلة، فهل يبقى إلاّ أنْ تكون ذاته المـُقدّسة متجلّية بأنوار العلوم والفضائل، وإلاّ أنْ يكون علمه تحقّقاً لا تعلّقاً؟! وبعد ذلك فما أوشك أنْ يكون علمه وجدانيّاً وإنْ برع في البرهنة وتنسيق القياس، ومن هنا جاء المأثور عن المعصومينعليهم‌السلام :« إنّ العبّاس بن علي زُقَّ العِلمُ زقّاً » (٢) .

وهذا من أبدع التشبيه والاستعارة؛ فإنّ الزقَّ يُستعمل في تغذية الطائر فرخه حين لم يقوَ على الغذاء بنفسه، وحيث استعمل الإمامعليه‌السلام - وهو العارف بأساليب الكلام - هذه اللفظة هنا، نعرف أنّ أبا الفضلعليه‌السلام كان محلَّ القابليّة لتلقِّي العلوم والمعارف مُنذ كان طفلاً ورضيعاً، كما هو كذلك بلا ريب.

____________________

(١) الاحتجاج للطبرسي ٢ / ٣١.

(٢) أسرار الشهادة / ٣٢٤.

١٥٩

فلم يكن أبو الفضل بِدْعَاً من أهل هذا البيت الطّاهر الذي حوى العلم المـُتدفّق مُنذ الصغر، كما شهد بذلك أعداؤهم، ففي الحديث عن الصادقعليه‌السلام :

« إنّ رجلاً مرّ بعثمان بن عفان وهو قاعد على باب المسجد، فسأله، فأمر له بخمسة دراهم، فقال له الرجل: أرشدني. قال عثمان: دونك الفتية الذين تراهم، وأومأ بيده إلى ناحيةٍ من المسجد فيها الحسن والحسين وعبد اللّه بن جعفر، فمضى الرجل نحوهم وسألهم، فقال له الحسنُ: يا هذا، المسألةُ لا تحلُّ إلاّ في ثلاث: دمٍ مُفجع، أو دَينٍ مُقرح، أو فقرٍ مُدقع. أيّتُها تسأل؟ فقال: في واحدة من هذه الثلاث. فأمر له الحسنُ بخمسين ديناراً، والحسينُ بتسعة وأربعين ديناراً، وعبدُ اللّه بن جعفر بثمانية وأربعين، فانصرف الرجل ومرّ بعثمان، فحكى له القصّة وما أعطوه، فقال له: ومَن لك بمثل هؤلاء الفتية، اُولئك فُطموا العلمَ فطماً، وحازوا الخير والحكمة » .

قال الصدوق بعد الخبر: معنى ( فُطموا العلم ): أي قطعوه عن غيرهم وجمعوه لأنفسهم(١) .

وجاء في الأثر، أنّ يزيد بن معاوية قال في حقّ السّجادعليه‌السلام : إنّه منْ أهلِ بيتٍ زُقُّوا العلم زقّاً.

ومن أجل ذلك قال العلاّمة المـُحقّق، الفقيه المولى، محمّد باقر ابن المولى محمّد حسن ابن المولى أسد اللّه ابن الحاج عبد اللّه ابن

____________________

(١) الخصال / ١٣٥ باختلاف في بعض الألفاظ.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394