مقتل العباس (عليه السلام)

مقتل العباس (عليه السلام)10%

مقتل العباس (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 394

  • البداية
  • السابق
  • 394 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 77218 / تحميل: 11571
الحجم الحجم الحجم
مقتل العباس (عليه السلام)

مقتل العباس (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

الحاج علي محمّد القائني، نزيل برجند، في كتاب الكبريت الأحمر ج٣ ص٤٥: إنّ العبّاس من أكابر وأفاضل فقهاء أهل البيت، بل إنّه عالمٌ غيرُ مُتعلِّم، وليس في ذلك منافاة، لتعليم أبيهعليه‌السلام إيّاه.

وكان هذا الشيخ الجليل ثبتاً في النّقل، مُنقّباً في الحديث، يشهد بذلك كبريته، تتلمذرحمه‌الله في العراق على الفاضل الإيرواني، وميرزا حبيب اللّه الرشتي، والسيّد الشيرازي، وفي خراسان على السيّد مرتضى القائني، والعلاّمة محمّد تقي البجنردي، وكان له أربعة وثلاثون مؤلَّف.

ومن مُستطرف الأحاديث، ما حدّثني به الشيخ العلاّمة ميرزا محمّد علي الاُردبادي، عن حُجّة الإسلام السيّد ميرزا عبد الهادي آل سيّد الاُمّة الميرزا الشيرازيقدس‌سره ، عن العالم البارع السيّد ميرزا عبد الحميد البجنردي، أنّه شاهد في كربلاء المـُشرَّفة رجلاً من الأفاضل قد اغترّ بعلمه، وبلغ من غلوائه في ذلك أنّه كان في مُنتدى من أصحابه وجرى ذكر أبي الفضلعليه‌السلام ، وما حمله من المعارف الإلهيّة التي امتاز بها على سائر الشُّهداء، فصارح الرجل بأفضليته على العبّاس، واستغربَ مَن حضر هذه الجرأة، وانكروا عليه، ولاموه على هذه البادرة، فطفق الرجل يُبرهن على تهيئته بتعداد مآثره وعلومه، وما ينوء به من تهجّد وتنفّل وزهادة، وقال: إنْ كان أبو الفضل العبّاس يفضل بأمثال هذه فعنده مثلها، والشهادة يوم الطَّفِّ لا تُقابل ما تحمله من العلوم الدينيّة واُصولها ونواميسها.

١٦١

فقام الجماعة من المجلس، والرجل على ذلك الغرور والغلواء، غير نادمٍ ولا مُتهيّب.

ولمـّا أصبحوا لم يكُنْ لهم هَمٌّ إلاّ معرفة خبر الرجل، وأنّه هل بقي على غيّه أو أنّ الهداية الإلهيّة شملته؟ فقصدوا داره وطرقوا الباب، فقيل لهم: إنّ الرجل في حرم العبّاسعليه‌السلام ، فتوجّهوا إليه ليستبروا خبره، فإذا الرجل قد ربط نفسه في الضريح الأقدس بحبلٍ شدّ طرفه بعنقه، والآخر بالضريح، وهو تائب نادم ممّا فرَّط.

فسألوه عن شأنه وخبره، فقال: لمـّا نمتُ البارحة، وأنا على الحال الذي فارقتكم عليه، رأيت نفسي في مجتمع من أهل الفضل، وإذا رجل دخل النّادي وهو يقول: إنّ أبا الفضل قادمٌ عليكم. فأخذ ذكره من القلوب مأخذاً حتّى دخلعليه‌السلام والنّور الإلهي يسطع من أسارير جبهته، والجمال العلوي يزهو في مُحيّاه، فاستقرّ على كرسي في صدر النّادي، والحضور كُلّهم خاضعون لجلالته، وخصَّتني من بينهم رهبةٌ عظيمة، وفَرقٌ مُقلق؛ لما أتذكّره من تفريطي في جنب ولي اللّه، فطفقعليه‌السلام يُحيّي أهل النّادي واحداً واحداً حتّى وصلت النّوبة إليَّ.

ثُمّ قال لي: ماذا تقول أنت؟ فكاد أن يرتجّ عليّ القول، ثُمّ راجعت نفسي، وقلتُ: في المصارحة منتدحاً عن الارتباك وفوزاً بالحقيقة، فأنهيت إليه ما ذكرتُه لكم بالأمس من البرهنة.

فقالعليه‌السلام : أمّا أنا فقد درستُ عند أبي أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وأخوي الإمامين الحسن والحسينعليهما‌السلام ، وأنا على يقين من ديني بما تلقّيته من مشيختي من الحقائق ونواميس الإسلام، وأنت شاكٌّ في دينك، شاكٌّ في إمامك، أليس الأمر هكذا؟ فلم يسعني إنكار ما يقوله.

١٦٢

ثُمّ قالعليه‌السلام : وأمّا شيخك الذي قرأت عليه، وأخذت منه فهو أتعس منك حالاً، وما عسى أنْ يكون عندك من اُصول وقواعد مضروبة للجاهل بالأحكام، يعمل بها إذا أعوزه الوصول إلى الواقع، وإنّي غيرُ محتاج إليها؛ لمعرفتي بواقع الأحكام من مصدر الوحي الإلهي.

ثُمّ قالعليه‌السلام : وفيّ نفسيّاتٌ كريمةٌ، وأخذ يُعدّدها: من كرم وصبر، ومواساة وجهاد، إلى غيرها، ولو قُسّمت على جميعكم لما أمكنك حمل شيء منها. على أنّ فيك ملكاتٌ رذيلة؛ من حسد ومراء ورياء.

ثُمّ ضرب بيده الشريفة على فم الرجل، فانتبه فزعاً نادماً، مُعترفاً بالتقصير، ولم يجد منتدحاً إلاّ بالتوسل بهِ والإنابة إليه، صلوات اللّه عليه وعلى آبائه.

١٦٣

اليقين:

لقد كان أبو الفضلعليه‌السلام أحدَ الأفذاذ العلويّين الذين لم تكن المفاخر مزايا زائدة على ذاتّياتهم وإنْ مُدحوا بآثارها؛ لأنّهم زبدُ المخض، حازوا شرف النّبوَّة وفضيلة الخلافة، تتنضّد بهم جُملُ العلم، وتعتدل موازينُ العمل، وتترنّح بهم صهوات المنابر. فكان سلام اللّه عليه مُتربّعاً على منصّة المجد، ومِلْءُ النّدي هيبة، ومِلْءُ العيون بهجة، ومِلْءُ المسامع ذكره الجميل، ومِلْءُ القلوب محبّة، وحشو أهابه علمٌ وعمل، وحشو الردى سؤددٌ وشرف.

وإنّ الإحاطة بما حواه من اليقين الثابت والبصيرة النّافذة بأحد طريقين:

الأوّل : سبر أحواله، ومواقع إقدامه وإحجامه، ومواضع بطشه وأناته، وموارد صفحه وانتقامه. ولا بدّ أنْ يكون المـُنقّب عند ذلك مُميّزاً بين مدراج الرأي ومساقط الخطل، بصيراً بمراقي الحلم ومهاوي البطش.

والثاني : إخبار مَن وقف على ذلك بمباشرة وافية وعلم مُتّسع، تمّ شكلُهُ وظهر إنتاجُهُ، أو تعليم إلهي، أو أخذ عمّن له صلة بذلك التعليم.

وغير خفيٍّ أنّ قمر بني هاشم مُلتقى ذينك الطرفين، في البصيرة واليقين، في دينه وعقله، في معارفه وأخلاقه، في حلّه

١٦٤

وارتحاله، وكان ينظر إلى جملة الأحوال بين البصيرة التي تخرق الحُجب، وتُبصر ما وراءها من أسرار وخبايا، لا بناظر البصر الذي تحجبه الحواجز وتمنعه السّدول، فيردّ عن الإدراك خاسئاً، فلا يكون أمر تهالك دونه إلاّ بعلم ثابت ويقين راسخ، وإيمان لا يشوبه شكٌّ؛ فإنّه:

سِرُّ أبيهِ وهَو سرُّ البَاري

مَلِيكُ عَرْشٍ عَالِمُ الأسرارِ

وارِثُ مَن حَازَ مَواريِثَ الرُسلْ

أبَو العُقُولِ والنّفُوسِ والمـُثُلْ

وكَيفَ لا وَذاتُهُ القُدْسيَّهْ

مَجمُوعةُ الفَضائِلِ النّفسيَّهْ

لقد كان أبو الفضل يعرف العراقيّين ونزعات أهل الكوفة، منذ عهد أبيه وأخيه السّبط المجتبىعليهما‌السلام ، بالتجارب الصحيحة، وإنّهم تجمعهم الأماني وتُفرّقهم الرضائخ، ويُشاهد الاُمويِّين وقوّة سلطانهم، وتوغّلهم في إراقة الدماء، وبطشهم في النّاس، وطيشهم في الاُمور، ويرى ضعف جانب ( أبيِّ الضيمعليه‌السلام ) وقلّة أنصاره، وطبع الحال يحدو مثله إلى التحيّز إلى فئة اُخرى، ولا أقلّ من التقاعد عن أيّ الفريقين، وما كان مثله لو سالم الاُمويِّين يعدم ولاية أو قيادة لجيوشهم، أو عيشة راضية يقضي بها أيّامه.

( لكنّ عباس اليقين ) لم يكن له طمعٌ في شيء من حطام الدُّنيا، فلم يرقه إلاّ الالتحاق بأخيه سيّد الشهداءعليه‌السلام ، موطِّناً نفسه الكريمة لأي كارثة أو شدّة مؤلمة.

هذا والتَّكهّن بمصير أمر الحسينعليه‌السلام في مسيره نصب عينه، والمغّيبات المأثورة عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنينعليه‌السلام ، والمسموعات من أخويه الإمامينعليهما‌السلام مِلْءُ اُذنه، فلم يبرح مع ( أخيه الشهيدعليه‌السلام ) يفترع ربوةً ويسفّ إلى وادٍ، لا يرى في هاتيك الثنايا والعقبات إلاّ تصديقاً

١٦٥

لما عرفه، ويقيناً بمنتهى أمره وغايته حتّى بلغهم نبأُ فاجعة مسلم بن عقيل، فعرف القوم انثيال الكوفيّين عن الحقِّ ورضوخهم إلى حكم الطاغية، هنالك خارت العزائم وأخفقت الظنون، وطفق أهل المطامع والشره يتفرّقون عن السّبط المـُقدّس، يميناً وشمالاً(١) ، إلاّ مَن حداهم إلى المسير حقُّ اليقين، وفي الطليعة منهم سيّدنا العبّاسعليه‌السلام ؛ فإنّه لم يزدد إلاّ بصيرة في النّهضة الكريمة، وسروراً باُزوف الغاية المتوخّاة.

فسار به وبهم ( شهيد العظمة )، وهو لا يشاهد، كما أنّهم لا يرون كُلّما قربوا من الكوفة إلاّ تدبّر النّاس وتألبّهم عليهم، وتتوارد عليهم الأنباء بما هو أشدّ، لكن لم يثنِ ذلك من عزائمهم شيئاً ولا يكدي أملاً، بل كانوا يخفّفون الخُطا ويُسرعون السّير؛ لينتهوا إلى معانقة الرماح ومصافحة الصفاح، أكثر ممّا يُسرع الصبُّ إلى الخود الرداح، ومرشدُهم إلى ذلك بعد إمام الهدىعليه‌السلام ( أبو الفضل ).

رَكبٌ حِجَازيِّوُنَ بَينَ رِحَالِهم

تَسرِي المَنَايَا أنجَدُوا أو أتهَمُوا

يَحدُونَ فِي هَزجِ التِّلاوةِ عَيسَهمْ

والكُلُّ فِي تَسَبِيحِهِ يَترَنَّمُ

____________________

(١) اللهوف في قتلى الطفوف / ٤٥.

١٦٦

الأصحاب:

هبط موكب العظمة عراص الغاضريّات، وهو يضمّ الفتية من آل عبد المـُطّلب، والاُباة الصفوة من الأصحاب، فكانوا فرحين بما أتاهم المولى من فضله، واختصّهم به من المنحة الكبرى، حيثُ جعل أثر ميتتهم حياة للدّين ومدحرة للأضاليل، فكانوا رضوان اللّه عليهم بما أودع اللّه تعالى فيهم من النّيات الصادقة، لا يهابون في سبيل السّير إليه تعالى عقبة كأداء أو نبأً مُوحشاً؛ من تخاذل القوم، وتدابر النّفوس، وتضاءل القوى؛ لما عرفوه من أنّها موهبة لا يحظى بها إلاّ الأمثل فالأمثل، فقابلوا الأخطار بجأش طامن وجنان ثابت، لا تزجره أيّ هائلة، وكُلّما اشتدّ المأزق الحرج أعقب فيهم انشراحاً وانبساطاً، بين ابتسامة ومداعبة، ومن فرح إلى نشاط.

وَمُذ أخَذَتْ فِي نَينَوى مِنهُمُ النَّوَى

ولاَحَ بِهَا للغَدرِ بَعضُ الَعلاَئِمِ

غَدا ضَاحِكَاً هَذَا وذَا مُتبسِّماً

سُرُوراً ومَا ثَغرُ المَنُونِ بِبِاسِمِ(١)

____________________

(١) من قصيدة للشيخ صالح الكوّاز الحلّي، وقيل: للتميمي. راجع أعيان الشيعة ٧ / ٣٧١.

١٦٧

هازل بريرُ بن خضير عبدَ الرحمن الأنصاري، فقال له عبد الرحمن: ما هذه ساعة باطل! فقال برير: واللّه، لقد علم قومي أنّي ما أحببت الباطل شابّاً ولا كهلاً، ولكنّي لَمُستبشر بما نحن لاقون. واللّه، ما بيننا وبين الحور العين إلاّ أنْ يميل علينا هؤلاء بأسيافهم، ولوددت أنّهم مالوا علينا السّاعة(١) .

وخرج حبيب بن مظاهر يضحك، فقال له يزيد بن الحُصين: ما هذه ساعة ضحك! قال حبيب: وأيّ موضع أحقّ بالسّرور من هذا؟! ما هو إلاّ أنْ يميل علينا هؤلاء الطغاة بسيوفهم فنعانق الحور(٢) .

وناهيك بعابس بن أبي شبيب الشاكري حينما برز إلى الحرب، وقد أحجم القوم عنه؛ لأنّهم عرفوه بالإقدام والبسالة، فلمـّا رأى أنّه لم يبارزه أحدٌ ألقى ما عليه من درع ولامة، فاغتنمها القوم فرصة، ومع ذلك لم يبرز إليه أحد، لكنّهم رموه بالسّهام والحجارة، وأنّه ليطرد أكثر من مئتين فَرِحاً مبتهجاً بما يلاقيه من حبور ونعيم.

وإنّي لأعجب من الرواة حملة التاريخ إذا توسّعوا في النّقل، وقذفوا اُولئك الاُباة الصفوة، والغُلب المصاليت، بما تندى منه وجه الإنسانيّة، ويأباه الوجدان الصادق، فقيل: كان القوم بحالة ترتعد فرائصهم وتتغيّر ألوانهم كُلِّما اشتدّ الحال وضاق المجال، إلاّ الحسين؛ فإنّ أسرّة وجهه تشرق كالبدر المنير(٣) .

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣٢١، الكامل في التاريخ ٤ / ٦٠، مثير الأحزان لابن نما / ٣٩.

(٢) رجال الكشّي ١ / ٢٩٣، تفسير جوامع الجامع ١ / ١٣٠.

(٣) تاريخ الطبري ٤ / ٣١٠.

١٦٨

وذلك بعد أنْ أعوزتهم الوقعة في شهيد الإباء، فلم يجدوا للغمز فيه نصيباً، فمالوا على أصحابه وأهل بيتهعليهم‌السلام الذين قال فيهم الإمامعليه‌السلام :« إنّي لا أعلمُ أصحاباً خيراً مِنْ أصحابي، ولا أهلَ بيتٍ أبرَّ وأوفى من أهل بيتي » (١) .« وقَدْ [بلوتُهُمْ ](٢) فما وجدتُ فيهمْ إلاّ الأشوسَ الأقعسَ، يستأنسونَ بالمنيّة دوني، استيناسَ الطّفلِ إلى محالبِ اُمّه » (٣) .

وليس ذلك إلاّ من الدَّاء الدفين بين أضالع قوم دافوا السُّمَّ في الدّسم إلى سُذَّجٍ آخرين حسبوه حقيقة راهنة؛ فشوّهوا وجه التاريخ، غير أنّ البصير النّاقد لا تخفى عليه نفسيّةُ القوم، ولا ما جاؤوا به. وأعجب من ذلك، قول محفر ليزيد: إنّا أحطنا بهم، وهم يلوذون عنّا بالآكام والحفر، لواذَ الحمام من الصقر(٤) .

بفيك الكثك أيّها القائل! كأنّك لم تشاهد ذلك الموقف الرهيب، فترى ما للقوم من بسالة وإقدام، ومفادات دون الدِّين الحنيف، حتّى أغفل يومهم مع ابن المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله أيّام صفّين، وما شاكلها من حروبٍ داميةٍ ووقائعٍ هائلة، وحتّى أخذت أندية الكوفة لا تتحدّث إلاّ عن شجاعتهم.

أجل، إنّ تلك الأهوال أدهشتك فلم تدرِ ما تقول، أو إنّ الشقّة بعدت عليك فنسيت ما كان، ولكن هل غاب عن سمعك

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣١٧.

(٢) وردت المـُفردة في المصدر الأساس( استلمتُهُمْ ) ، ولعلّه خطأٌ مطبعيٌّ، أو اشتباه من النّسّاخ؛ خصوصاً وأنّنا لم نعثر على مَن ذكر هذه المفردة في غير هذا المكان، وما أثبتناه فهو من معالي السبطين ١ / ٣٤٥، وغيره الكثير من المصادر الاُخرى.(موقع معهد الإمامَين الحسنَين)

(٣) الدمعة السّاكبة / ٣٢٥.

(٤) تاريخ الطبري ٤ / ٣٥١، تاريخ مدينة دمشق ١٨ / ٤٤٥، الكامل في التاريخ ٤ / ٨٣، الوافي بالوفيات ١٤ / ١٢٧، البداية والنّهاية ٨ / ٢٠٨ الفتوح لابن أعثم ٥ / ١٢٧.

١٦٩

صراخ الأيامى، وعويل الأيتام في دور الكوفة، حتّى طبق أرجاءها من جرّاء ما أوقعه اُولئك الصفوة بأعداء اللّه ورسوله، بسيوفهم الماضيّة؟! والعذر لك، أنّك أدركت ساعة العافية، فطفقت تشوّه مقامهم المشكور، طلباً لمرضاة ( يزيد الخمور ).

ولقد صرّح عن صدق نيّاتهم وإخلاصهم في التضحية عدوُّهم الألدّ عمرو بن الحجّاج مُحرّضاً قومه: أتدرون مَن تُقاتلون؟! تُقاتلون فرسانَ المصر وأهلَ البصائر، تُقاتلون قوماً مُستميتين، لا يبرز إليهم أحد منكم إلاّ قتلوه، على قلَّتهم! واللّه، لو لم ترموهم إلاّ بالحجارة لقتلتموهم. فقال عمر بن سعد: قد صدقت، الرأي ما رأيت. أرسل في النّاس مَن يعزم عليهم أنْ لا يُبارزهم رجلٌ منهم(١) ، ولو خرجتم إليهم وحداناً لأتوا عليكم(٢) .

وقيل لرجل شهد يوم الطَّفِّ مع عمر بن سعد: ويحك! أقتلتم ذرِّيَّة رسول اللّه؟ فقال: عضضتَ بالجندل! إنّك لو شهدت ما شهدنا، لفعلت ما فعلنا؛ ثارت علينا عصابةٌ أيديها في مقابض سيوفها، كالاُسود الضارية، تُحطّم الفرسان يميناً وشمالاً، وتلقي أنفسها على الموت، لا تقبل الأمان ولا ترغب في المال، ولا يحول حائلٌ بينها وبين حياض المنيّة، أو الاستيلاء على المـُلك، فلو كففنا عنها رويداً لأتت على نفوس العسكر بحذافيرها، فما كُنّا فاعلين، لا اُمّ لك(٣) ؟!

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣٣١، الكامل في التاريخ ٤ / ٦٧.

(٢) بحار الأنوار ٤٥ / ١٩.

(٣) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٣ / ٣٦٣.

١٧٠

وأيّ فرد منهم أقلقه الحال حتّى ارتعدت فرائصه؟! أهو زهير بن القَين الذي وضع يده على منكب الحسينعليه‌السلام ، وقال مُستأذناً:

أقدِمْ هُدِيتَ هَادِياً مَهديَّا

فَاليَومَ أَلقى جَدّكَ النّبيَّا؟!

أمْ ابن عوسجة الذي يوصي حبيب بن مظاهر بنصرة الحسينعليه‌السلام وهو في آخر رمق من الحياة، فكأنّه لم يقنعه عن المفادات كُلَّ ما لاقاه من جهد وبلاء؟!

أمْ أبو ثمامة الصائدي الذي لم يهمّه في سبيل السّير إلى ربِّه سبحانه، كُلّ ما هناك من فوادح وآلام إلاّ الصلاة التي دنا وقتها، فقال للحسينعليه‌السلام : نفسي لك الفداء! إنّي أرى هؤلاء قد اقتربوا منك، ولا واللّه، لا تُقتل حتّى اُقتل دونك، واُحبُّ أنْ ألقى اللّه وقد صلّيتُ هذه الصلاة التي دنا وقتها. فقال الحسينعليه‌السلام :« ذكرتَ الصَّلاةَ، جعلكَ اللّهُ مِنَ المـُصلِّينَ الذَّاكرين » (١) ؟!

أمْ سعيد الحنفي الذي تقدّم أمامَ الحسينعليه‌السلام وقت الصلاة واستهدف لهم، فأخذوا يرمونه بالنّبل يميناً وشمالاً حتّى سقط؛ لكثرة نزف الدَّم(٢) ، فقال للحسينعليه‌السلام : أوفيت يابن رسول اللّه؟ قال:« نعم، أنتَ أمامي في الجنّة » ؟!

أمْ ابن شبيب الشاكري الذي ألقى جميعَ لامته لتقرب منه الرجال، فيموت، في حين نرى الكُماة الأبطال، المعروفين بالشجاعة والإقدام، يتدرَّعون للحرب كي لا يخلص إليهم ما يزهق نفوسهم؟!

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣٣٤، الكامل في التاريخ ٤ / ٧٠.

(٢) تاريخ الطبري ٤ / ٣٣٦، الكامل في التاريخ ٤ / ٧١، إلى قوله: حتّى سقط.

١٧١

أمْ الغفّاريّان اللّذان استأذنا الحسينعليه‌السلام في الحملة وهما يبكيان، فقالعليه‌السلام لهما:« ما يُبكيكُما؟! فواللّه، إنّي لأرجو أنْ تكونا بعدَ ساعةٍ قريرَي العين » . فقالا: ما على أنفسنا نبكي، ولكن نبكي عليك أبا عبد اللّه؛ نراك قد اُحيط بك، ولا نقدر على الدفع عنك والذبِّ عن حرمك(١) . فجزاهما الحسينعليه‌السلام خيراً؟!

وإذا تأمّلنا قول الإمام أبي جعفر الباقرعليه‌السلام :« إنّ أصحابَ جدّي الحسينِ لمْ يجدوا ألمَ مسِّ الحديد » (٢) . وضحَ لنا ما عليه اُولئك الأطائب من الثبات، وأنّهم غير مكترثين بما لاقوه من ألم الجراح؛ ولعاً منهم بالغاية، وشوقاً إلى جوار المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله . ولا يستغربُ هذا مَن يعرف حالة العاشق، وأنّه عند توجّه مشاعره نحو المحبوب لا يشعر بكُلِّ ما يلاقيه من عناء ونكد.

حكى المؤرّخون: أنّ عزّة دخلت على كثير الشاعر وهو في خبائه يبري سهاماً له، ولمـّا نظر إليها أدهشه الحال وأبهره الجمال، فأخذ يبري أصابعه، وسالت الدّماءُ وهو لا يحسّ بالألم(٣) .

وأكبر مثال على ذلك، حكاية الكتاب المجيد حالة النّسوة حينما شاهدنَ جمال الصدّيق يوسفعليه‌السلام ، فقال تعالى:( فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ) (٤) .

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣٣٧، الكامل في التاريخ ٤ / ٧٢.

(٢) الخرائج والجرائح للراوندي ٢ / ٨٤٨، والعبارة بمعناها.

(٣) الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ٩ / ٢٢.

(٤) سورة يوسف / ٣١.

١٧٢

وإذا كانت النّسوة لمْ يشعرن بألم قطع المـُدية أيديهنّ لمحض جمال الصّدِّيق، فليس من الغريب ألاّ يجد أصحابُ الحسينعليه‌السلام - وهُم زبدُ العالَمِ كُلِّه - ألمَ مسِّ الحديد عند نهاية عشقِهم لمظاهر الجمال الإلهي، ونزوع أنفسهم إلى الغاية القصوى من القداسة بعد التّكهرب بولاء سيّد الشهداءعليه‌السلام .

هذا ما عليه الأصحاب من سرّ المفادات، وقد كان مُرشدهم إلى ذلك، والمـُقدّم فيهم ( حامل اللواء )؛ إذ لم يكن هيّاباً بما شاهده من لَغطٍ وصَخَبٍ، وضوضاءٍ وصهيلٍ، وجحفلٍ مُجرٍّ يتبعه جيشٌ لجب، وقد أخذ ابنُ ميسونَ عليهم أقطار الأرض وآفاق السّماء.

بِجَحافِلٍ بالطّفِّ أوَّلُهَا

وأخيرُهَا بالشّامِ مُتَّصِلُ

فلا يرى إلاّ وجوهاً عابسة، كُلّ يتحرّى استئصال شأفة الإمامة، وإزهاق مَن يجنح إليها، و ( قمر الهاشميّين ) أسرّة وجهه تشرق كالبدر المنير؛ لأنّهعليه‌السلام يجدُ ببصيرته الهادية له إلى المفادات قربَ الأجل المضروب، وحصول الضَّالة المنشودة، وهذا كُلّه بعد العلم بأنّه إذا فارق أخاه في ذلك الموقف يكون في سعةٍ من الخطر.

وأنّى لكبر موقفه وثباته، حينما قال لهم أبو عبد اللّهعليه‌السلام :« هذا اللَّيلُ قدْ غَشيَكُمْ فاتَّخذوهُ جَمَلاً، فأنتم في إذنٍ منّي؛ فإنّ القومَ لَمْ يطلبُوا غَيري، ولو ظفروا بِي لَذَهَلوا عَنْ طلبِ غيري، وليأخذ كُلُّ رَجُلٍ منكم بيدِ رجلٍ مِنْ أهلِ بيتِي، وتَفَرَّقوا في سوادِكُمْ هذا » (١) .

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣١٧، الكامل في التاريخ ٤ / ٥٧، البداية والنّهاية لابن كثير ٨ / ١٩١.

١٧٣

هنا كان لعبّاس الشرف والحفاظ موقفُهُ المشهود الذي أظهر فيه مِن قوّة الإيمان، وغزارة العلم، وعوامل الشَّهامة، ما أوقف جوَّالة الفكر وحَيّر نفَّاذة الحلم؛ حيث ابتدر الجماعة بقوله: ولِمَ نفعل ذلك؟! لا أبقانا اللّه بعدك. وتابعه الهاشميّون الصفوة والصحب الأكارم، مُتَّخذين قوله حقيقةً راهنةً، مِن مُعلِّمٍ هذّبته المعرفة وبصَّرته التجارب، وإنّه لَمْ يَرد بقوله إلاّ التَّضحية الخالصة والسّعادة الخالدة، فأجابوا بما انحنت عليه الأضالع من إيثار موتة العزِّ دون سبط الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله على حياةٍ مُخدجة بعده، وإنْ كانت محفوفةً بنعومةٍ من العيش.

فقال آلُ عقيل: قبّح اللّه العيش بعدك، نُفديك بأنفسنا وأهالينا. وقال ابن عوسجة: لو لم يكنْ معي سلاحٌ لقذفتهم بالحجارة حتّى أموت دونك. وقال سعيد الحنفي: أنحن نُخلّي عنك؟! لا واللّه، حتّى يعلمَ اللّهُ أنّا قد حفظنا وصيّة رسول اللّه فيك. ولو علمتُ أنّي اُقتل ثُمّ اُحيى، ثُمّ اُقتل، ثُمّ اُحرق حيّاً، ثُمّ اُذرَّى، يُفعل بي سبعين مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حِمامي دونك. وكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة، ثُمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً!

وتكلّم الجماعة بما يُشبه ذلك(١) .

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣١٧ - ٣١٨، الكامل في التاريخ ٤ / ٥٨، البداية والنّهاية لابن كثير ٨ / ١٩١.

١٧٤

فأجَادُوا الجَوابَ واختَرَطُوا البيْ

ضَ اهتَياجَاً إلى جِلادِ الأعَادِي

وانْثَنَوا للوغَى غِضَابَ اُسودٍ

عَصفتْ فِي العِدى بصَرْصرِ عَادِ

حَرسُوهُ حتّى احتَسَوا جُرعَ المَوْ

تِ ببيضِ الظُّبَا وسُمرِ الصّعَادِ

سَمحَوُا بالنّفُوسِ فِي نُصرةِ الدْ

دِينِ وأدّوا فِي اللّهِ حَقَّ الجِهَاد

وبعد أنْ عرف الحسينعليه‌السلام منهم صدق النّيّة والإخلاص في المفادات، أوقفهم على غامض القضاء، وقال:« إنّي اُقتلُ وكلُّكُمْ تُقتلونَ حتّى القاسمُ وعبدُ اللّه الرَّضيع، إلاّ السَّجّادَ؛ فإنّهُ أبو الأئمَّة » . ثُمّ كشف عن أبصارهم، فرأوا ما حباهم اللّه من نعيم الجنان، وعرّفهم منازلهم فيها(١) .

وليس ذلك في القدرة الإلهيّة بعزيز، ولا في تصرّفات الإمام بغريب، ولقد حكى المؤرّخون وقوع نظير هذا لسَحَرة فرعون لمـّا آمنوا بموسىعليه‌السلام وأراد فرعون قتلهم؛ فإنّهم شاهدوا منازلهم في الجنّة(٢) .

____________________

(١) الخرائج والجرائح ١ / ٢٥٥، بحار الأنوار ٤٥ / ٨٩، علل الشرائع ١ / ٢٢٩، والنّص منقول بالمعنى.

(٢) تفسير ابن أبي حاتم ٥ / ١٥٣٦، تفسير ابن كثير ٣ / ١٦٦، الدّر المنثور للسيوطي ٣ / ١٠٧، تفسير الألوسي ٩ / ٢٨، البداية والنّهاية لابن كثير ١ / ٢٩٦.

١٧٥

الأمان:

لمْ تزل هذه الفضيلة نفسيّة أبي الفضل في جميع مواقفه عند ذلك المشهد الرهيب، لاسيّما حين بلغه كتاب عبيد اللّه بن زياد بالأمان له ولإخوته الذي أخذه عبد اللّه بن أبي المحل بن حزام، وكانت اُمّ البنين عمّته، وبعثه مع مولاه كزمان، فلمـّا قدم كربلاء قال للعبّاس وإخوته: هذا أمانٌ من ابن زياد، بعثه إليكم خالكم عبد اللّه. فقالوا له: أبلغ خالنا السّلام، وقل له: لا حاجة لنا في أمانكم؛ أمانُ اللّه خيرٌ من أمان ابن سُميّة(١) .

كيف يتنازل أبو الفضل للدنيّة وهو ينظر بعين غير أعين النّاس، ويسمع باُذنه الواعية غير ما يسمعونه؛ يُشاهد نصب عينه الرضوانَ الأكبر مع ( خلف النّبيِّ المـُرسلصلى‌الله‌عليه‌وآله )، ويسمع هتاف الملكوت من شتّى جوانبه بالبشرى له بذلك كُلِّه عند استمراره مع أخيه الإمامعليه‌السلام .

نعم، وجد ( عبّاسُ المعرفة ) نفسَه المـُكهْربة بعالم الغيب، المجذوبة بجاذب مركز القداسة إلى التّضحية دون حجّة الوقت لا محالة، فرفض ذلك الأمان الخائب إلى أمان الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وهنالك طمع الشمر فيه وفي إخوته أنْ يفصلهم عن مستوى الفضيلة، فناداهم: أين بنو اُختنا؟ أين العبّاس وإخوته؟ فاعرضوا

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣١٤، الكامل في التاريخ ٤ / ٥٦.

١٧٦

عنه، فقال الحسينعليه‌السلام :« أجيبوه ولو كان فاسقاً » .

قالوا: ما شأنك، وما تُريد؟ قال: يا بني اُختي، أنتم آمنون، لا تقتلوا أنفسكم مع الحسين، والزموا طاعة أمير المؤمنين يزيد. فقال له العبّاس: لعنك اللّه ولعن أمانك، تُؤمننا وابن رسول اللّه لا أمان له(١) ! وتأمرنا أنْ ندخل في طاعة اللّعناء وأولاد اللعناء. فرجع الشمر مُغضباً(٢) .

إنّ هذا الجلف الجافي قد أساء الظنّ بهؤلاء الفتية، نجوم الأرض من آل عبد المـُطّلب، فحسب أنّهم ممّن يستهويهم الأمن والدّعة، أو تروقهم الحياة مع أبناء البغايا، هيهات! خاب الرّجس ففشل، وأخفق ظنّه، وأكدى أمله، ولم يسمع في الجواب منهم إلاّ لعنك اللّه، وتبّت يداك، ولُعن ما جئت به.

وحيث إنّ ابن ذي الجوشن يفقد البصيرة التي وجدها أبو الفضل، والنّفسيّة التي يحملها، والسّؤدد المـُتحلّي به، والحفاظ اللائح على وجناته؛ طمع أنْ يستهوي رجل الغيرة ويجرّه إلى الخسف والهوان، والحياة مع الظالمين.

أيظنّ أنّ أبا الفضل ممّن يستبدل النّور بالظُّلمة، ويستعيض عن الحقّ بالباطل، ويدع علم النّبوَّة وينضوي إلى راية ابن مرجانة؟! كلاّ.

____________________

(١) الإرشاد للشيخ المفيد ٢ / ٨٩، بحار الأنوار ٤٤ / ٣٩١، تاريخ الطبري ٤ / ٣١٥، الكامل في التاريخ ٤ / ٥٦.

(٢) مثير الأحزان لابن نما الحلّي / ٤١، اللهوف في قتلى الطفوف / ٥٤، لواعج الأشجان / ١١٦.

١٧٧

ولمـّا رجع العبّاس وإخوته إلى الحسينعليه‌السلام وأعلموه بما أراده الماجن منهم، قام زهير بن القَين إلى العبّاس وحدّثه بحديث، قال فيه:

إنّ أباك أمير المؤمنينعليه‌السلام طلب من أخيه عقيل - وكان عارفاً بأنساب العرب وأخبارها - أنْ يختار له امرأةً ولدتها الفحولة من العرب وذوو الشجاعة منهم؛ ليتزوّجها فتلد غلاماً فارساً شجاعاً، ينصر الحسين بطفّ كربلاء، وقد ادّخرك أبوك لمثل هذا اليوم، فلا تُقصّر عن نصرة أخيك وحماية إخوتك.

فغضب العبّاس، وقال: يا زهير، تُشجّعني هذا اليوم! فواللّه، لأرينّك شيئاً ما رأيته(١) . فجدّل أبطالاً، ونكّس رايات في حالة لم يكنْ همّه من القتال ولا منازلة الأبطال، بل كان همّه إيصال الماء إلى أطفال أخيه، ولكن لا مردّ للقضاء، ولا دافع للأجل المحتوم.

ولا يَهمّهُ السّهامُ حَاشَا

مَنْ هَمُّهُ سِقايَةُ العِطَاشَى

فَجادَ باليَمِينِ والشِّمَالِ

لِنُصرةِ الدِّينِ وحِفظِ الآلِ

____________________

(١) الأنوار العلويّة للنقدي / ٤٤٤، أسرار الشهادة للدربندي ٢ / ٤٩٧.

١٧٨

المواساة:

لا يسع الباحث في حديث مشهد الطَّفِّ المـُقدّر فيه ( قمر بني هاشم ) حقّ قدره إلاّ البخوع له بتحقيق هذه الغريزة الكريمة، أعني المواساة بأجلى مظاهرها، وأنت إذا أعرت لما أفضنا القول في البصيرة اُذناً واعية، عرفت كيف كان مقامه مع أخيه سيّد شباب أهل الجنّة، وإيثاره التفاني معه على الحياة الرغيدة، وتهالكه في المفادات منذ مغادرته الحجاز إلى هبوطه أرض كربلاء، وحتّى لفظ نفسه الأخير تحت مشتبك النّصول، فلا تجد مناصاً عن الإذعان بأنّهعليه‌السلام كان على أعلا ذروة من المواساة لأخيه الإمامعليه‌السلام ، يربوا على المواسين معه جميعاً؛ لأنّ مواساته كانت عن بصيرة، هي أنفذ البصائر يومئذ بشهادة الإمام الصادقعليه‌السلام :« كان عمُّنا العبّاسُ نافذَ البصيرةِ، صلبَ الإيمان » (١) .

وقد شهد له بهذه المواساة إمامان معصومان واقفان على الضمائر، ويعرفان مقادير الرجال، فيقول الحجّة عجّل اللّه فرجه في زيارة النّاحية:« السّلام على أبي الفضلِ العبّاس، المواسي أخاه بنفسِهِ، الآخذ لغدهِ مِن أمسهِ، الواقي لهُ، السّاعي إليه بمائِهِ، المقطوعة يداه. لعن اللّهُ قاتلَهُ يزيدَ بنَ الرّقادِ الجهني، وحكيمَ بن الطّفيل السّنبسي الطائي » .

____________________

(١) سرّ السّلسلة العلويّة لأبي نصر البخاري / ٨٩.

١٧٩

ويقول الصادقعليه‌السلام في الزيارة المتلوة عند ضريحه الأقدس:« أشهدُ لقد نصحتَ للّه ولرسولِهِ ولأخيك، فنعم الأخ المواسي! » .

فجعلعليه‌السلام الشهادة له بالمواساة المـُنعم بها نتيجة نصحه للّه الذي هو مقتضى دينه ويقينه، ونصحه لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي هو تمام التوحيد، والنّصح لأخيه الإمام الذي هو الجزء الأخير للعلّة، وبه كمال الدِّين وتمام النّعمة: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) (١) . وبه قبول الأعمال.

« لو أنّ عبداً صام وصلّى وزكّى، ولم يأتِ بالولاية، ما قبل اللّه له عملاً أبداً »(٢) . فرضى الربّ والرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وطاعتهما منوطان بطاعة وليِّ الأمر:( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (٣) .

فأراد الإمام الصادقعليه‌السلام بذلك الخطاب أنّ نُصح ( عباس الهداية ) لأخيه المظلوم على حدّ نصحه للّه ولرسوله، مع حفظ المرتبة في كُلِّ منهما، فالطاعة شرع سواء في الثلاثة تحت جامع واحد، هو: وجوب الخضوع لهم والتسليم لأمرهم، غاية الأمر تختلف المراتب؛ فإنّه تجب الطاعة أولاً وبالذات بالنّسبة إليه سبحانه وتعالى، وبما أنّ الرسول مبعوثٌ من قبله وجبت بالنّسبة إلى الرسول، وبما أنّ الإمام خليفة لهذا المبعوث المـُرسل لعدم بقائه إلى الأبد، وعدم إهمال العباد كالبهائم، وعدم وضوح الكتاب المجيد؛ لوجود المـُخصّص والمـُقيّد، والنّاسخ والمتشابه، وعدم

____________________

(١) سورة المائدة / ٣.

(٢) هكذا ورد هذا المقطع من العبارة وهو ما بين قوسين، وبعد التّتبع لم نصلْ الى كونه حديثاً عن النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله أو أحد المعصومينعليهم‌السلام ، والأقرب أنّه مضمونُ حديثٍ صادرٍ عن أهل بيت العصمة والطّهارة.(موقع معهد الإمامَين الحسنَين)

(٢) سورة المائدة / ٥٥.

١٨٠

وفائه بالأحكام الشرعيّة بالبداهة؛ وجب على الاُمّة إطاعة هذا الإمام، فالمراد من المؤمنين في هذه الآية، ومن اُولي الأمر في قوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) (١) . شيءٌ واحد، وقد انحصر مصداقه في سيّد الوصيّين وأبنائه المعصومين الأحد عشرعليهم‌السلام بالتواتر عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فالنّصح الذي أشار إليه الإمامعليه‌السلام في الزيارة هو لازم تلك الطاعة ومقتضى الولاية تحت جامع واحد، وهو: لزوم مناصرة الدِّين والصادع به، المـُنبسط على ذات الباري تعالى والرسول والإمام كُلٍّ في مرتبته.

وقد أفادنا هذا الخطاب أنّ مفادات أبي الفضل ومواساته لم تكُنْ لمحض الرحم الماسّة والإخاء الواشج، ولا لأنّ الحسينعليه‌السلام سيّدُ اُسرته وكبيرُ قومه، وإنْ كان في كُلٍّ منها يُمدح عليه هذا النّاهض، لكنّها جمعاء كانت مُندكّة في جنب ما أثاره ( عباسُ البصيرة ) من لزوم مواساة صاحب الدِّين، والتهالك دون دعوته، سواء كانت المفادات بعين المـُشرّع سبحانه، أو تحت راية الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو إمام الوقت، وكُلّ بعين اللّه وعن مرضاته جلّ شأنه، وقد اجتمعت في مشهد الطَّفِّ تحت راية الحسينعليه‌السلام .

إنّ من الواجب إمعان النّظر في عمله النّاصع حين ملك الشريعة فاغترف غرفة من الماء ليشرب، ولكن ألزمه حقُّ اليقين وقوّةُ الإيمان أنْ ينفض الماء من يده، حيث لم يَرَ له مساغاً في التأخير عن سقاية حجّة الوقت الإمام المعصوم، وحرم النّبوَّة، ولو

____________________

(١) سورة النّساء / ٥٩.

١٨١

بمقدار التروِّي من الماء هُنيئة، بل عرف أنّ الواجب عليه الإبقاء على مهجة خليفة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بسقايته ولو في آنٍ يسير، إذ الحالة شرع سواء بين قليل الزَّمان وكثيره؛ ولذلك نُسب فعله هذا إلى الدِّين، حيث يقول: تاللّهِ ما هذا فعالُ ديني.

على أنّ شيخنا العلاّمة الشيخ عبد الحسين الحلّي يُحدّث في النّقد النّزيه ج١ ص١٠٠، عن فخر الذاكرين الثقة الثبت الشيخ ميرزا هادي الخراساني النّجفي، نقلاً عن ( عدّة الشهور ): إنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام دعا العبّاس وضمّه إليه وقبّل عينيه، وأخذ عليه العهد إذا ملك الماء يوم الطَّفِّ أنْ لا يذوق منه قطرة واُخوه الحسينعليه‌السلام عطشان.

فقول أرباب المقاتل: نفضَ الماء من يده ولم يشرب، إنّما هو لأجل الوصيّة من أبيه المرتضى (ع).

لَم يَذُقْ الفُراتَ اُسوةً بِهِ

مُيمِّمَاً بمائِهِ نَحوُ الخِبَا

لَم يَرَ فِي الدِّينِ يَبلُّ غُلَّةً

وصُنُوهُ فيِهِ الظَّمَا قَد ألهَبَا

والمـُرتَضَى أَوصَى إليهِ فِي ابنِهِ

وصيّةً صَدّتْهُ عَن أنْ يَشْرَبَا

لذَاكَ قَدْ أسنَدَهُ لِدينِهِ

وعَنْ يَقيِنٍ فِيهِ لَنْ يَضْطَرِبَا

هَذا مِنَ الشَّرعِ يَرى فِعلَتَهُ

ومِن صِراطِ أحمدٍ مَا ارتَكَبَا

وَمِثلُهُ الحُسينُ لَمّا مَلكَ ال

مَاءَ فَقِيلَ رَحلُهُ قَد نُهِبَا

أمَّ الخِيامَ نَافِضَاً لِماِئهِ

إذ عَظُمَ الأمرُ بِهِ واعَصُوصَبَا

فَكانَ للعَبّاسِ فِيهِ اُسوةٌ

إذ فَاضَ شَهمَاً غَيرَ مَفلُولِ الشِّبَا

١٨٢

عثرةُ التأريخ:

لقد كان من نفوذ بصيرة العبّاسعليه‌السلام أنّه لم تقنعه هاتيك التضحية المشهودة منه، والجهاد البالغ حدّه حتّى راقه أنْ يفوز بتجهيز المجاهدين في ذلك المأزق الحرج، والدعوة إلى السّعادة الخالدة في رضوان اللّه الأكبر، وأنْ يحظى باُجور الصابرين على ما يَلمّ به من المصاب بفقد الأحبّة، فدعا إخوته من اُمّه وأبيه، وهم: عبد اللّه، وجعفر، وعثمان، وقال لهم: تقدّموا حتّى أراكم قد نصحتم للّه ولرسوله؛ فإنّه لا ولد لكم(١) .

فإنّه أراد بذلك تعريف إخوته حقّ المقام، وأنّ مثولهم بهذا الموقف لم يكنْ مصروفاً إلاّ إلى جهة واحدة، وهي: المفادات والتضحية في سبيل الدِّين، إذ لم يكن لهم أي شائبة أو شاغلة تلهيهم عن القصد الأسنى من عوارض الدنيا؛ من مراقبة أمر الأولاد بعدهم، ومَن يرأف بهم ويُربِّيهم، فاللازم حينئذ السّير إلى الغاية الوحيدة، وهي: الموت دون حياة الشريعة المـُقدّسة، فكانوا كما شاء ظنُّه الحَسَن بهم، حيث لم يألوا جهداً في الذبِّ عن قُدس الدِّين حتّى قضوا كراماً مُتلفّعين بدم الشهادة.

____________________

(١) الإرشاد للشيخ المفيد ٢ / ٢٠٩، مُثير الأحزان لابن نما / ٥٠، لواعج الأشجان / ١٧٨.

١٨٣

لكنْ هلمّ واقرأ العجيب الغريب فيما ذكر ابن جرير الطبري في التاريخ ج٦ ص٢٥٧، قال: وزعموا أنّ العبّاس بن علي قال لإخوته من اُمّه وأبيه؛ عبد اللّه وجعفر وعثمان: يا بني اُمّي، تقدّموا حتّى أرثكم؛ فإنّه لا ولد لكم. ففعلوا وقُتلوا(١) .

وقال أبو الفرج في مقاتل الطالبيين: قدّم أخاه جعفر بين يديه؛ لأنّه لم يكن له ولدٌ ليحوز ميراثه العبّاس، فشدّ عليه هاني بن ثبيت فقتله(٢) . وفي مقتل العبّاس، قال: قدّم إخوته لاُمّه وأبيه فقُتلوا جميعاً، فحاز مواريثهم، ثُمّ تقدّم وقُتل فورثهم وإيّاه عبيدُ اللّه، ونازعه في ذلك عمّه عمر بن علي، فصولح على شيء رضي به(٣) .

هذا غاية ما عندهم، وقد تفرّدا به من بين المؤرّخين وأرباب المقاتل، ولا يخفى على مَن له بصيرة وتأمّل بعدُهُ عن الصواب. وما أدري كيف خفي عليهما حيازة العبّاس ميراث إخوته مع وجود اُمّهم اُمّ البنين، وهي من الطبقة المـُتقدّمة على الأخ، ولم يجهل العبّاس شريعة تربّى في خلالها؟!

على أنّ هذه الكلمة لا تصدر من أدنى النّاس، سيّما في ذلك الموقف الذي يذهل الواقف عن نفسه وماله، فأيّ شخص كان يدور في خُلدهِ ذلك اليوم حيازة المواريث بتعريض ذويه وإخوته للقتل، وعلى الأخصّ يصدر ذلك من رجل يعلم أنّه لا يبقى بعدهم ولا يتهنّأ بمالهم، بل يكون فعله لمحض أنْ تتمتّع به أولاده؟!

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣٤٢، الكامل في التاريخ ٤ / ٧٦.

(٢) مقاتل الطالبيين لأبي الفرج / ٥٤.

(٣) مقاتل الطالبيين لأبي الفرج / ٥٥.

١٨٤

بئست الكلمة القبيحة التي راموا أنْ يُلوّثوا بها ساحة ذلك السيّد الكريم!

فهل ترغب أنت أنْ يقال لك: عرّضت إخوتك وبني اُمّك لحومة الوغى لتحوز مواريثهم؟! أمْ أنّ هذا من الدَّناءة والخسّة فلا ترضاه لنفسك، كما لا يرغب به سوقة النّاس وأدناهم، فكيف ترضى أيّها المـُنصف ذلك لمَن علّم النّاس الشّهامة وكرم الأخلاق، وواسى حجّة وقته بنفسه الزاكية؟! وكيف يُنسب هذا لخرّيج تلك الجامعة العُظمى والمدرسة الكبرى؛ جامعة النّبّوة ومدرسة الإمامة، وتربّى بحجر أبيهعليه‌السلام ، وأخذ المعارف منه ومن أخويه الإمامينعليهما‌السلام ؟!

ولو تأمّلنا جيداً في تقديمه إيّاهم للقتل، لعرفنا كبر نفسه، وغاية مفاداته عن أخيه السّبطعليه‌السلام ، فلذّة كبد النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومهجة البتولعليها‌السلام ، فإنّ من الواضح البيّن أنّ غرضه من تقديمهم للقتل:

١ - إمّا لأجل أنْ يشتدّ حزنه، ويعظم صبره، ويُرزأ بهم، ويكون هو المطالب بهم يوم القيامة، إذ لا ولد لهم يُطالبون بهم.

٢ - وإمّا لأجل حصول الاطمئنان والثقة من المفادات دون الدِّين أمامَ سيّد الشُّهداءعليه‌السلام ، ويشهد له ما ذكره الشيخ المفيد في الإرشاد، وابن نما في مُثير الأحزان من قوله لهم: تقدّموا حتّى أراكم قد نصحتم للّه ولرسوله؛ فإنّه لا ولد لكم. ولم يقصد بهم المخايل، وإنمّا رام أبو الفضل أنْ يتعرّف مقدار ولائهم لقتيل العبرة؛ وهذا منهعليه‌السلام إرفاق بهم وحنان عليهم، وأداء لحقّ الاُخوّة بإرشادهم إلى ما هو الأصلح لهم.

١٨٥

٣ - وإمّا لأجل أنْ يكون غرضه الفوز بأجر الشهادة بنفسه، والتجهيز للجهاد بتقديم إخوته ليُثاب أيضاً بأجر الصابرين، ويحوز كلتا السّعادتين، وربما يدلّ عليه ما ذكره أبو الفرج في مقتل عبد اللّه من قول العبّاس له: تقدّم بين يدَي حتّى أراك قتيلاً واحتسبك. فكان أوّل مَن قُتل من إخوته.

وذكر أبو حنيفة الدينوري، أنّ العبّاس قال لإخوته: تقدّموا بنفسي أنتم، وحاموا عن سيّدكم حتّى تموتوا دونه. فتقدّموا جميعاً وقُتلوا.

ولو أراد أبو الفضل من تقديمهم للقتل حيازة مواريثهم - وحاشاه - لم يكن لاحتساب أخيه عبد اللّه معنى، كما لا معنى لتفديتهم بنفسه الكريمة كما في الأخبار الطوال(١) .

وهناك مانع آخر من ميراث العبّاس لهم وحده حتّى لو قلنا على بُعدٍ ومنعٍ بوفاة اُمّ البنين يوم الطَّفِّ؛ فإنّ ولد العبّاس لم يكنْ هو الحائز لمواريثهم، لوجود الأطراف وعبيد اللّه بن النّهشلية؛ فإنهّما يشتركان مع العبّاس في الميراث، كما يُشاركهم سيّد شباب أهل الجنّة وزينب العقيلة، واُمُّ كلثوم ورقيّة، وغيرهنّ من بنات أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فكيف والحال هذا يختصّ العبّاس بالميراث وحده؟!

هذا كُلّه إنْ قلنا بوفاة اُمّ البنّين يوم الطَّفِّ، ولكنَّ التاريخ يُثبت حياتها يومئذ وأنّها بقيت بالمدينة، وهي التي كانت ترثي أولادها الأربعة.

____________________

(١) الأخبار الطوال / ٢٥٧.

١٨٦

والذي أظنّه أنّ منشأ ذلك التقوّل على العبّاس أنّه أوقفهم السّير على قوله لإخوته: لا ولد لكم. من غير رويّة وتفكير في غرضه ومراده، فحسبوه أنّه يُريد الميراث، فنّوه به واحد باجتهاده أو احتماله، وحسبه الآخرون رواية فشوّهوا به وجه التاريخ، ولم يفهموا المراد، ولا أصابوا شاكلة الغرض؛ فإنّ غرضه من قوله: لا ولد لكم تُراقبون حاله بعدكم، فأسرعوا في نيل الشهادة والفوز بنعيم الجنان.

على أنّ شيخنا العلاّمة الشيخ عبد الحسين الحلّي في النّقد النّزيه ج١ ص٩٩، احتمل تصحيف ( أرثكم ) من ( اُرزأ بكم ) أو ( أرزأكم )، وليس هذا ببعيد. وأقرب منه احتمال شيخنا الحجّة، الشيخ آغا بزرك مؤلّف كتاب ( الذريعة إلى تصانيف الشيعة ) تصحيف ( أرثكم ) من ( أرثيكم )، فكأنّهعليه‌السلام أرادأوّلاً : أنْ يفوز بالإرشاد إلى ناحية الحقّ،وثانياً : تجهيز المـُجاهدين،وثالثاً: البكاء عليهم ورثائهم؛ فإنّه محبوب للمولى تعالى.

ويُشبه قول العبّاس لإخوته قول عابس بن أبي شبيب الشاكري لشوذب مولى شاكر: يا شوذب، ما في نفسك أنْ تصنع؟ قال: اُقاتل معك دون ابن بنت رسول اللّه حتّى اُقتل. فقال: ذلك الظنّ بك، فتقدّم بين يدَي أبي عبد اللّه حتّى يحتسبك كما احتسبَ غيرَكَ من أصحابه، وحتّى احتسبك أنا؛ فإنّه لو كان معي السّاعة أحدٌ أنا أولى به منك لسرّني أنْ يتقدّم بين يدَي حتّى أحتسبه؛ فإنّ هذا يوم ينبغي لنا أنْ نطلب الأجر فيه بكُلِّ ما قدرنا عليه؛ فإنّه لا عمل بعد اليوم، وإنّما هو الحساب(١) . ( الطبري ج٦ ص٢٥٤ ).

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣٣٨.

١٨٧

حديث الصادقعليه‌السلام :

إنّ ما يتعرّف منه منزلة أبي الفضل العالية، وإثبات الخصال الحميدة له، إخبارُ أئمّة الدِّين العارفين بضمائر العباد وسرائرهم، الواقفين على نفسيّات الاُمّة على كَثَب بتحقّقها فيه، وقد عبثت أيدي التلف في أكثرها، فإنّ الصدوق يُحدّث في الخصال ج١ ص٣٥، بعد ذكره حديث السجّادعليه‌السلام في فضل العبّاس، أنّه أخرج الخبر بتمامه مع أخبارٍ في فضائل العبّاس في كتاب مقتل الحسينعليه‌السلام .

وظاهره أنّ هناك أخباراً كثيرة في فضل أبي الفضل زويت عنّا ككتابه المقتل، ولا غرو، فلقد اندثر بتعاقب الحوادث الكثير من المؤلّفات.

وكيف كان، فلعلّ من تلك الأخبار ما رواه في عمدة الطالب، عن الشيخ الجليل أبي نصر البخاري النّسّابة، عن المـُفضّل بن عمر، أنّه قال: قال الصادق جعفر بن محمّدعليه‌السلام :« كان عمُّنا العبّاسُ بنُ عليٍّ نافذَ البصيرة، صلبَ الإيمانِ، جاهدَ مع أبي عبد اللّهِ وأبلى بلاءً حَسَناً، ومضى شهيداً » (١) .

وكذلك قولهعليه‌السلام فيما علّم شيعته أنْ يُخاطبوه به من لفظ الزيارة المروريّة بسند صحيح مُتَّفق عليه؛ فإنّه عند التأمّل فيما

____________________

(١) عمدة الطالب لابن عنبة / ٣٥٦، مقتل الحسين لأبي مخنف / ١٧٦. الأنوار العلويّة للنقدي / ٤٤٢.

١٨٨

خاطبه به الإمام العارف بأساليب الكلام ومقتضيات الأحوال، تظهر لنا الحقيقة، ونعرف منزلةً للعبّاس سامية لا تُعدّ ومنزلة المعصومين (عليهم السلام)، فقالعليه‌السلام في صدر سلام الإذن:« سلامُ اللّهِ، وسلامُ ملائكتهِ المـُقرّبين وأنبيائِهِ المـُرسَلين، وعباده الصالحين، وجميعِ الشُّهداء والصّدّيقين، الزَّاكيات الطَّيّبات، فيما تغتَدي وتروحُ عليكَ يابنَ أميرِ المـُؤمنين » .

فإنّه أشار بهذا إلى مصبِّ سلام اللّه الذي هو رحمته المتواصلة، والعطف الغير محدود، اللَّذين لا انقطاع لهما، وسلام الملائكة المـُشاهدين لمقادير الرِّجال في ملأ القدس وحظيرة الجلال، وسلام الأنبياء الذين لا يعدّون مرضات اللّه ووحيه في أفعالهم وتروكهم، وسلام الصالحين والشُّهداء الذين أدركوا بفضل الاتّصال بالرُّسل وأوصيائهم، أو بالتَّجرّد ومشاهدة الحقائق الثابتة في عالم الغيوب، زيادةً على ما عرفوه من مقام أبي الفضل وفضله.

فكُلُّ هؤلاء يتقرّبون إلى اللّه تعالى بالدّعاء له، واستنزال الرحمة منه سبحانه، وإهداء التّسليمات إليه؛ لما عرفوا أنّه من أقرب الوسائل إليه، وحيث كانت خالصة للزّلفة، ماحضة في التقرّب إليه جلّ ذكره، عادت زاكيةً طيّبةً بنصّ الزيارة:« الزَّاكيات الطَّيّبات » .

وأمّا على رواية ابن قولويه في كامل الزيارات من زيادة ( واو العطف ) قبل الزّاكيات الطَّيّبات، فيُراد بهما العنايات الخاصّة التي ليست بدعاءٍ من أحد، ولا بأسباب عاديّة، ولا يعدم هذه الأنبياء

١٨٩

والأوصياء والأقلّون ممّن اقتفوا أثرهم، وليست هي شرعة لكُلّ واردٍ، وإنّما يحظى بها الأفذاذ ممّن كهربتهم القداسة الإلهيّة، وجذبتهم جاذبة الصقع الربوبي، وهكذا المـُقرّبون والأفذاذ عند صعودهم.

وإذا قرأنا زيارة الصادقعليه‌السلام لجدّه الحسينعليه‌السلام :« سلامُ اللّهِ وسلامُ ملائكتِهِ فيما تروحُ وتغدو، والزَّاكيات الطَّاهرات لك، وعليك سلامُ الملائكةِ المـُقرَّبينَ والمـُسلِّمين لك بقلوبهم، والنّاطقين بفضلك... » (١) . وضح لنا أنّ منزلة أبي الفضل تضاهي منزلة الحسينعليه‌السلام ؛ حيث اُثبت له مثل هذا السّلام.

ثُمّ قالعليه‌السلام :« أشهد لك بالتسليم والتصديق، والوفاء والنّصيحة لخلف النّبي المرسل » (٢) . ها هنا أثبت لأبي الفضل منزلة التسليم التي هي من أقدس منازل السّالكين، وفوق مرتبة الرضا والتوكّل؛ فإنّ أقصى مرتبة الرضا أنْ يكون محبوب المولى سبحانه محبوباً له، موافقاً لطبعه، فالطبع ملحوظ فيه.

وأقصى مراتب التوكّل أنْ يُنزل نفسه بين يدي المولى سبحانه وتعالى منزلة الميّت بين يدي الغاسل، بحيث لا إرادة له إلاّ ما يفعله الغاسل به، فصاحب التوكّل مسلوب الإرادة، وأمّا صاحب التسليم فلا يرى لغير اللّه وجوداً مع اللّه فضلاً عن نفسه، ولا يكون له طبعٌ يوافق أو يخالف في الإرادة، أو نفساً قد تنفّست بالإرادة، فهو قريب من عالم الفناء.

____________________

(١) كامل الزيارات / ٣٥٨، بحار الأنوار ٩٨ / ١٤٨.

(٢) كامل الزيارات / ٤٤٠.

١٩٠

وهذه المرتبة فوق مرتبة التوكّل، التي هي فوق مرتبة الرضا، لا تحصل إلاّ بالبصيرة النّافذة، والوصول إلى أعلى مراتب اليقين، تلك المرتبة التي أخبر عنها أمير المؤمنينعليه‌السلام :« لو كُشِف الغطاءُ ما ازدَدتُ يقيناً » .

أمّا العناوين الثلاثة، وهي:التصديق ،والوفاء ،والنّصيحة ، فلا شكّ أنّ الإمامعليه‌السلام يُريد أنّ أبا الفضل في أرقى مراتبها؛ لانبعاثها عن التسليم وهو حقّ اليقين؛ فإنّه المناسب لتصديقه بأخيه الحجّة، وبنهضته في ذلك الموقف الحرج، وهكذا وفاؤه ونصيحته؛ فإنّ وفاء شخص لآخر كما يُمكن أنْ يكون لأجل الاُخوّة والرحم والصحبة، يمكنْ أنْ يكون لأجل المعرفة التامّة بما أوجب اللّه له من الحرمة والحقّ على الاُمّة.

 وحيث إنّ الإمامعليه‌السلام أثبت لأبي الفضل أرقى مرتبة السّالكين، وهي التسليم اللازم لحقّ اليقين، فلا بدّ أنْ يكون ما صدر منه من التصديق بنهضة أخيهعليه‌السلام ، والوفاء لحقّه والمـُناصحة في العمل، منبعثاً عن حقّ اليقين بذلك الأمر الواجب، لا لأجل أنّ الحسينعليه‌السلام أخوه أو رحمه أو ابن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ فإنّ هذه المرتبة وإنْ مُدح عليها الشخص إلاّ أنّ المرتبة الاُولّى أرقى وأرفع، ولا ينالها إلاّ ذوو النّفوس القُدسيّة ممّن وجبت لهم العصمة.

ويؤيّد ذلك تعقيب العناوين الثلاثة بقولهعليه‌السلام :« لِخَلَفِ النّبيِّ المـُرْسَل » . فإنّه لو لم يرد هذا لقال في الخطاب: ( لأخيك ) أو ( للحسين ) أو ( لابن أمير المؤمنين )، فالتعبير بخلف النّبيِّ لا يُراد منه إلاّ أنّ الدافع لأبي الفضل على التسليم والتصديق، والوفاء والنّصيحة بالمفادات إلاّ كون الحسينعليه‌السلام إماماً مفروض الطّاعة، وهذا

١٩١

مغزى لا يبعث إليه إلاّ البصيرة المميّزة لشرف الغايات المـُتحرّية لكرائمها.

ثُمّ إنّ من تخصيص الإمامعليه‌السلام الخطاب له دون غيره من الشُّهداء، بقوله:« لَعنَ اللّهُ مَنْ جَهلَ حَقّكَ، واسْتَخفَّ بحُرمَتِكَ » . نعرف أنّ غيره من الشُّهداء لم يُدرك هذا المدى، وإنْ كان لكُلٍّ منهم حقّاً وحرمة، إلاّ أنّ شبل أمير المؤمنينعليه‌السلام كانت معارفه أوسع، وإيمانه أثبت، فكان له حقٌّ في الدِّين، وحقٌّ على الاُمّة لا يُنكر، فاستحقّ بكُلٍّ منهما اللعن على جاهلِهِ والمـُستخفِ به.

فالشُّهداء وإنْ أخلصوا في التضحية والمفادات، وكان منبعثاً عن طهارة الضمائر والمعرفة بحقِّ الإمامعليه‌السلام ، فلهم حقوقٌ وحُرمات، لكنّ لحقِّ العبّاس منعةً بين هاتيك الحقوق، ولحرمته بذخ بين تلك الحرمات، بعد ما ثبت منهما لأخيه الإمام المظلومعليه‌السلام ، لنفوذ بصيرته وصلابة إيمانه بنصّ الصادقعليه‌السلام .

ثُمّ قال الصادقعليه‌السلام في الزيارة المتلوّة داخل الحرم:« أشهدُ واُشهدُ اللّهَ أنّكَ مضيتَ على مَا مضَى به البَدريّون » (١) .

لقد جرى التشبيه بالبدريّين مجرى التقريب إلى الأذهان في الإشادة بموقف أبي الفضل من البصيرة؛ فإنّ أهلَ بدر أظهر أفراد أهل البصائر؛ لأنّهم قابلوا طواغيت قريش على حين ضعف في المسلمين، وقلّة في العدّة والعتاد، فلم يملكوا إلاّ فَرسين، أحدهما: لمرثد بن أبي مرثد الغنوي، والآخر: للمقداد بن الأسود الكندي، وكانوا يتعاقبون على سبعين بعير، الاثنان والثلاثة(٢) .

____________________

(١) المزار للشيخ المفيد / ١٢٢، المزار للمشهدي / ١٦٦، بحار الأنوار ٩٧ / ٤٢٧.

(٢) الطبقات الكبرى لابن سعد ٢ / ١٢، تاريخ الطبري ٢ / ١٧٢، سُبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي ٤ / ٢٤، تفسير البغوي ١ / ٢٨٣.

١٩٢

لكنّهم خاضوا غمرات الموت تحت راية النّبوَّة، بقوّة الإيمان وعتاد البصيرة، إلاّ مَن استولى الرَّينُ على قلبه، فردّوا سيوف قريش مفلولة، ورماحهم محطّمة، وجموعهم بين قتلى وأسرى ومُشرّدين، فحظوا بأوّل فتح إسلامي قويت به دعائمُهُ، وشُيّدت معالمـُه من الإمداد:( بِخَمْسَةِ آلاف مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ ) (١) .

وأعظم من ذلك مشهد الطَّفِّ الذي التطمت فيه أمواج الموت، وكشفت الحرب عن ساقها، وكشفت عن نابها.

وللأخْطَارِ وَجهٌ مُكفَهِرٌ

يُشيِبُ لِهَولِهِ المـُردِي الغُلامُ

تَرَى الأبطَالَ مِنْ فَرقٍ سُكَارَى

يُدَارُ مِنَ الرَّدَى فِيهمْ مُدَامُ

فقابلهم عصبة الحقِّ من غير مدد يأملونه، أو نصرة يرقبونها، والعطش مُعتلج بصدورهم، ونشيج الفواطم من ورائهم، فتلقّوا جبال الحديد بكُلِّ صدرٍ رحيب وجنان طامن، فلم تسل تلك النّفوس الطّاهرة إلاّ على قتل اُميّة المنقوض، ولا اُريقت دماؤهم الزاكية إلاّ على حبلهم المـُنتكث، فلم تبرح آلُ حربٍ إلاّ كلعقة الكلب أنفه حتّى اكتُسحت معرّتُهم من أديم الأرض، وتفرّقوا أيدي سبا، فيوم الطَّفِّ فتحٌ إسلامي بعد الجاهليّة المـُستردَّة من جراء أعمال الأمويّين(٢) .

____________________

(١) سورة آل عمران / ١٢٥، قال تعالى:( بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلاف مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ ) .

(٢) لقد أجاد العلاّمة السيّد باقر نجل آية اللّه السيّد محمّد الهنديرحمه‌الله ، إذ يقول:

لَو لَمْ تَكُنْ جُمعَتْ كُلُّ العُلا فينا

لكَانَ مَا كَانَ يَومَ الطّفِّ يَكفيِنَا

يَومٌ نَهضنَا كأمثالِ الاُسودِ بهِ

وأَقبلَتْ كالدِّبا زَحفَاً أعاديِنَا

جَاؤوا بسبعيِنَ ألفاً سَلْ بَقيَّتَهُمْ

هَل قَابلونَا وَقد جِئنَا بِسبْعينَا

١٩٣

وإليه أشار الإمام الشهيدعليه‌السلام في كتابه إلى بني هاشم لمـّا حلّ أرض كربلاء:« مَن لحقَ بيْ منكُمْ اسْتُشهدْ، ومَنْ تخلّفَ عنِّي لَمْ يَبلغ الفتحَ » (١) .

فإنّهعليه‌السلام لم يُرد بالفتح إلاّ ما ترتّب على نهضته المـُقدّسة وتضحيته الكريمة؛ من نقض دعائم الإلحاد، وكسح أشواك الباطل عن صراط الشريعة المـُطهّرة، وإحياء دين جدّه الصادع به الذي لاقى المتاعب في تأييده وتشييده.

وأنت أيّها البصير، إذا استشففت الحادثة من وراء نظارةٍ في التنقيب، تجد سيّدنا أبا الفضل سيّد القوم بعد أخيه السّبطعليه‌السلام ، وهو المـُسدّد لهم في النّضال. كما أنّ الباحث إذا أعطى النّظر حقّه، يجد ضحايا ( الطَّفِّ ) أشدّ انقطاعاً عن المدد من مجاهدي يوم بدر، وأبلغ بأساً وأقلّ عدداً - مع اكتناف الكوارث بهم - وإعواز الملجأ أكثر ممّا احتفّ بأهل بدر.

مع أنّ المناوئين لشهداء ( الطَّفّ ) أوفر عدداً، وأقوى عتاداً، وأوثق مدداً، وأنّ لهم دولةً مُؤسَّسة تنضَّدت جحافلُها، وخفقت بنودُها، وتواصلت قوّاتُها بخلاف الحالة يوم بدر.

____________________

(١) بصائر الدرجات للصفّار / ٥٠٢، دلائل الإمامة للطبري الشيعي / ١٨٨، الخرائج والجرائح للراوندي ٢ / ٧٧١، مُثير الأحزان لابن نما / ٢٧.

١٩٤

فلقد كان المحاربون للمسلمين شتاتاً من طواغيت العرب، حداهم إلى الحرب بواعثُ الحُقدِ والنّخوة، ومن المـُحتمل القريب انحلال جامعتهم إذا ضربت الحرب عليهم بجرانها؛ لأنّهم كانوا يفقدون أيّ مدد من القبائل، ولم يخرجوا متأهّبين للاستمداد، حيث ظنّوا خوراً في المسلمين، وحسبوا استئصالَ شأفتهم وأنّهم كشربة ماء، ( ولكنْ لا مُبدّل لحُكمِ اللّه تعالى ).

فالموقف يوم الطَّفِّ أحرج، والكرب أكثر، والمقاسات أصعب، وبقدر المشقّة تجري الاُجور وتُقسّم الفضائل، فشهداء كربلاء أولى بالفضيلة.

وضَرب الإمامعليه‌السلام المثل لهم بأهل بدر، إذ يقول:« إنّكَ مضيتَ على ما مَضَى به البدريّون » . لا يوجب فضيلة أهل بدر عليهم، كما هي قاعدة التشبيه، وإنّما ذلك من باب التقريب إلى الأفهام، كما في قوله تعالى:( مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاة فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ... ) (١) . وأين من النّور الإلهي المشكاة ومصباحها، ولكنْ لمـّا لم تُدرك الأبصار ذلك النّور الأقدس، وإنّما تُدركه البصائر، ضرب اللّه تعالى المثل بما يُدركونه؛ تقريباً للأذهان، وهكذا الحال فيما نحن فيه.

وإلى هذه الدقيقة وقع الإيعاز منهعليه‌السلام فيما بعد هذه الفقرة من الزيارة بقولهعليه‌السلام :« فجزاكَ اللّهُ أفضلَ الجَزاءِ وأكثرَ الجَزاءِ، وأوفرَ الجَزاءِ وأوفَى جزاءِ أحَدٍ مِمّنْ وفَى ببيعتِهِ، واسْتَجابَ له دعوتَهُ، وأطاعَ ولاةَ أمرِهِ » (٢) .

____________________

(١) سورة النّور / ٣٥.

(٢) كامل الزيارات / ٤٤١، تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ٦ / ٦٦، المزار للمفيد / ١٢٢، المزار للمشهدي / ١٧٨.

١٩٥

فلو كان في المجاهدين مَن هو أوفر فضلاً من أبي الفضل العبّاس، لكان هذا الدعاء، أو الإخبار عن أمره شططاً من القول، خارجاً عن ميزان العدل، تعالى عنه كلامُ المعصوم، فإذاً لمْ يكنْ غيره من المجاهدين مطلقاً أوفر فضلاً، ولا أكثر جزاءً، ولا أوفى بيعةً إلاّ مَن أخرجه الدليل من الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام .

ثُمّ إنّ هناك مرتبة اُخرى ثبتت لأبي الفضل، خصّه بها الإمام الصادقعليه‌السلام بقوله:« أشهدُ أنّكَ قدْ بالغتَ في النَّصيحةِ، وأعطيتَ غايةَ المَجْهودِ، فبعثكَ اللّهُ في الشُّهداءِ، وجَعلَ روحَكَ مَعَ أرواحِ السُّعداءِ، وأعطاكَ مِنْ جنانِهِ أفسَحَها مَنْزلاً، وأفضلها غُرَفاً » (١) .

فإنّ المبالغة في أمثال المقام عبارة عن بلوغ الأمر إلى حدوده اللازمة، وكم له من نظير في استعمالات العرب ومحاوراتهم. ولا شكّ أنّ كُلَّ واحدٍ من شهداء الطَّفِّ قد بالغ في النّصيحة، ولم يألُ جهداً في أداء ما وجب عليه، ولكُلٍّ منهم في ذلك المشهد الدامي شواهد من أقواله وأعماله.

ومن المـُسلَّم أنّ المعروف بقدر المعرفة كمَّاً وكيفاً، فصاحب السّنام الأرفع في العرفان، المـُتربّع على أعلى منصّة من الإيمان، لا بدّ وأنْ يُقاسي أشدَّ ضروب الجهاد، ويتظاهر بأجمل مظاهرها؛ من الدؤوب على الحرب والضرب، وإنْ طال المدى وبعد الأمد إنْ كان الجهاد نضالاً، كما لا بدَّ له من المثابرة على مكافحة النّفس

____________________

(١) كامل الزيارات / ٤٤١، تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ٦ / ٦٦، المزار للمفيد / ١٢٢، المزار للمشهدي / ١٧٨.

١٩٦

الأمّارة وكسر شوكتها، وردّ صولتها وكبح جماحها، وترويض النّفس بالطّاعة، وإلزامها بلوازمها الشاقّة طيلة حياته إنْ كان الجهاد نفسيّاً.

وفي هذين الحالتين لا بدّ وأنْ يكتنف العمل المقارنات المطلوبة، مثل: نيّة القربة، والإخلاص فيها المنبعث عن حبِّ المولى سبحانه، الهادي إلى معرفة تؤهله إلى الطاعة، وعن معرفة نِعم الباري عزّ وجل الواجب شكره، وعن الهيبة النّاشئة عن لحاظ عظمته، إلى أمثال هذه من الملحوظات.

وقصارى القول: كما أنّ مراتبَ الإيمان والمعرفة متفاوتةٌ مقولة بالتشكيك، كذلك مراتب العمل متفاوتة حسب تفاوت تلك المراتب، فصاحب عمل كُلِّ مرتبة محدود بحدودها، وحينئذ فلا شكّ أنّ كُلَّ واحد من شهداء الطَّفِّ، وإنْ بلغ الغاية في الجهاد وأدّى حقّ النّصيحة، لكنّ ( شهيد العلقمي ) لمـّا كانت بصيرته أنفذ، وعلمه أوفر، وإيمانه أثبت، كان مداه أبعد، وغايته أسمى، وحدوده أوسع؛ ولذلك خاطبه الصادقعليه‌السلام بهذا الخطاب، وخصّه بالمبالغة في التضحية، فكان هذا كفضيلة مخصوصة به؛ لأنّ هاتيك المراتب الراقية لم توجد في غيره.

ولعلّ من ناحية هذه المراتب الثلاث ثبت لهعليه‌السلام حقٌّ في الدِّين، وحقٌّ على الاُمّة، وحرمةٌ لا تُنكر، فاستحقّ أنْ يُخاطبه الإمامعليه‌السلام في سلام الإذن بقوله:« لَعنَ اللّهُ مَنْ جَهلَ حَقّكَ، واسْتَخفَّ بحُرمَتِكَ » (١) .

____________________

(١) المزار للشهيد الأوّل / ١٦٥.

١٩٧

وهناك درجة أربى وأربع أشار إليها الصادقعليه‌السلام بقوله:« ورَفَعَ ذكْرَكَ في عِلِّيِّينْ » (١) .

فإنّ ( حامى الشريعة ) لمْ يبرح مواصلاً في الخدمات حتّى أقبل إلى اللّه تعالى مُتلفّعاً بدم الشّهادة، شهادة صكٍّ نَبؤها مسامع الملكوت حتّى أشرأب له هنالك من أنبياءَ ومُرسَلين، وحُججٍ معصومين، وملائكة مُقرّبين، وحورٍ وولدان، وأرواح مُقدّسة، ومُقدّساتٍ زاكياتٍ طيِّباتٍ، فلمْ يلقَعليه‌السلام في صعوده إليهم إلاّ ثغوراً باسمةً ووجوهاً مُستبشرةً، وايذاناً له بالبشرى الخالدة ونعيمَ الأبد؛ فطفق يرفل بين ذلك الجيل القُدسي، الزّاهر بنور العصمةِ ورونقِ العلم، وهيبةِ العظمة وسماتِ الجلالة، وشاراتِ النّزاهة وبهجةِ العطفِ الإلهي، وبهاءِ النّظر إلى الجلال السّرمدي، والاتّصالِ بالرّضوان الأكبر، وعليه اُبّهةُ الولاء وجلالةُ الطّاعة، وبلجُ التضحية وزُلفى المفادات، وزهو العلمِ والعملِ، ولذكره في ذلك المـُنتدى الرهيب رفعةٌ ومنعةٌ، وإليه يُشير الإمام الصادقعليه‌السلام في لفظ الزيارة:« ورَفَعَ ذكْرَكَ في عِلِّيِّينْ » .

فإنّ الغرضَ من هذا التعبير ليس إلاّ ما شرحناه، لا مجرّد صعود ذكرهِ الطيّب إلى ذلك الملأ الأرفع، شأن كُلِّ صالح في عالم الوجود، لكنّ الشأن كُلَّه أنْ يكون [ لذكره المجيد ](٢) هنالك بذخٌ وإكبارٌ، فيرمقه كُلُّ طرفٍ بنظر الإجلال، ويسمع الهتافَ به بإذنِ التقدير، وتنعقد الضمائر على تقديسه، ولو أراد الإمامعليه‌السلام مُجرّد ذكره إلى ذلك العالم القدسي، لقال في الخطاب: ورفع ذكرَك إلى

____________________

(١) كامل الزيارات / ٤٤١، المزار للشهيد الأوّل / ١٣٣.

(٢) وردت العبارة في الأصل بهذا النّحو: ( لذكر ما لمجيد ) ولا معنى لها، ولعلّ الصحيح ما استقربناه.(موقع معهد الإمامَين الحسنَين)

١٩٨

علِّيِّين، ولكنْ حيث إنّه أراد رفع الذكر بين أفراد اُولئك الذين أختصّ محلّهم فيه، جاء بفاء الظرفيّة، فقال:« في علِّيِّين » .

وأمّا قولهعليه‌السلام في الزيارة التي رواها المجلسي في مزار البحار ص١٦٥، عن مزار الشيخ المفيد وابن المشهدي:« لعَنَ اللّهُ اُمّةً استحلَّتْ منكَ المحارِمَ، وانْتهكتْ فيك حُرمةَ الإسلامِ » (١) . فيرشدنا إلى مكانة سامية لأبي الفضل تصعد به إلى فوق مرتبة العصمة؛ فإنّا لم نجد مثل هذا الخطاب في أيِّ واحد من الشُّهداء، مع بلوغهم أعلى مرتبة الفضل التي لم يحزها أيُّ شهيد غيرهم، حتّى استحقّوا أنْ يخاطبهم الإمامعليه‌السلام في زيارة النّصف من رجب بقوله:« السّلامُ عليكُمْ يا مَهديُّون، السّلامُ عليكُمْ يا طاهرونَ مِنَ الدَّنَس » (٢) . ويقول أيضاً:« طبتُمْ وطابَتْ الأرضُ الّتِي فيها دُفنْتُمْ » (٣) .

بل لم يخاطب بمثل ذلك عليّاً الأكبر الذي لا شكّ في عصمته، ومنه يظهر أنّ للعبّاس منزلة ومقاماً يُشارف مقام الحُجج المعصومينعليهم‌السلام ، تُناط به حرمةُ الإسلام كما تُناط بهم صلوات اللّه عليهم، وإنّها تُنتَهك بمثله كما تُنتَهك بمثلهمعليهم‌السلام ، وهذا مقام فوق العصمة المرجوّة له.

____________________

(١) بحار الأنوار ٩٨ / ٢١٩، المزار للمفيد / ١٢٤، المزار للمشهدي / ٣٩١.

(٢) بحار الأنوار ٩٨ / ٣٣٠، والوارد في الزيارة:«... السّلامُ عليكُمْ يا طاهرونَ، السّلامُ عليكُمْ يا مَهديُّونَ... » . نعم ورد في زيارات اُخرى قولهعليه‌السلام :« وطهّرَكُمْ مِنَ الدَّنسِ » . كامل الزيارات / ٥٢٧.

(٣) المزار للشهيد الأوّل / ١٢٩، المزار للمشهدي / ٤٦٥.

١٩٩

العبّاس في نظر الأئمّةعليهم‌السلام :

إنّي لا أحسب القارئ في حاجةٍ إلى الإفاضة في هذه الغاية بعد ما أوقفناه على مكانة أبي الفضلعليه‌السلام من العلم والتّقى، والملكات الفاضلة؛ من إباء وشمم، وتضحية في سبيل الهدى، وتهالك في العبادة؛ فإنّ أئمّة الهدى من أهل البيتعليهم‌السلام يُقدّرون لمَن هو دونه في تلكم الأحوال فضله، فكيف به وهو من لُحمتهم وفرعِ أرومتهم، وغصن باسق في دوحتهم؟! وقد أثبت له الإمام السّجادعليه‌السلام منزلة كبرى لم يَنلها غيره من الشُّهداء، ساوى بها عمّه الطيّار، فقالعليه‌السلام :

 « رحمَ اللّهُ عمِّي العبّاسَ بنَ عليٍّ، فلقد آثرَ وأبلَى، وفدَى أخاه بنفسِهِ حتّى قُطِعتْ يَداهُ، فأبدلَهُ اللّهُ عزّ وجل جناحينِ يطيرُ بهمَا مع الملائكةِ في الجنّةِ، كما جعلَ لجعْفرِ بنِ أبي طالبٍ. إنّ للعبّاسِ عندَ اللّهِ تباركَ وتعالى منزلةً يَغبطُهُ عليها جميعُ الشُّهداءِ يومَ القيامةِ » (١) .

ولفظ ( الجميع ) يشمل مثل حمزة وجعفر الشاهدين للأنبياء بالتبليغ وأداء الرسالة، وقد نفى البُعد عنه العلاّمة المـُحقّق المـُتبحّر في الكبريت الأحمر ص٤٧ ج٣.

____________________

(١) الأمالي للشيخ الصدوق / ٥٤٨، الخصال / ٦٨.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394