مقتل العباس (عليه السلام)

مقتل العباس (عليه السلام)0%

مقتل العباس (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 394

مقتل العباس (عليه السلام)

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد عبد الرزاق الموسوي المقرم
تصنيف: الصفحات: 394
المشاهدات: 73899
تحميل: 10689

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 394 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 73899 / تحميل: 10689
الحجم الحجم الحجم
مقتل العباس (عليه السلام)

مقتل العباس (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الحاج علي محمّد القائني، نزيل برجند، في كتاب الكبريت الأحمر ج٣ ص٤٥: إنّ العبّاس من أكابر وأفاضل فقهاء أهل البيت، بل إنّه عالمٌ غيرُ مُتعلِّم، وليس في ذلك منافاة، لتعليم أبيهعليه‌السلام إيّاه.

وكان هذا الشيخ الجليل ثبتاً في النّقل، مُنقّباً في الحديث، يشهد بذلك كبريته، تتلمذرحمه‌الله في العراق على الفاضل الإيرواني، وميرزا حبيب اللّه الرشتي، والسيّد الشيرازي، وفي خراسان على السيّد مرتضى القائني، والعلاّمة محمّد تقي البجنردي، وكان له أربعة وثلاثون مؤلَّف.

ومن مُستطرف الأحاديث، ما حدّثني به الشيخ العلاّمة ميرزا محمّد علي الاُردبادي، عن حُجّة الإسلام السيّد ميرزا عبد الهادي آل سيّد الاُمّة الميرزا الشيرازيقدس‌سره ، عن العالم البارع السيّد ميرزا عبد الحميد البجنردي، أنّه شاهد في كربلاء المـُشرَّفة رجلاً من الأفاضل قد اغترّ بعلمه، وبلغ من غلوائه في ذلك أنّه كان في مُنتدى من أصحابه وجرى ذكر أبي الفضلعليه‌السلام ، وما حمله من المعارف الإلهيّة التي امتاز بها على سائر الشُّهداء، فصارح الرجل بأفضليته على العبّاس، واستغربَ مَن حضر هذه الجرأة، وانكروا عليه، ولاموه على هذه البادرة، فطفق الرجل يُبرهن على تهيئته بتعداد مآثره وعلومه، وما ينوء به من تهجّد وتنفّل وزهادة، وقال: إنْ كان أبو الفضل العبّاس يفضل بأمثال هذه فعنده مثلها، والشهادة يوم الطَّفِّ لا تُقابل ما تحمله من العلوم الدينيّة واُصولها ونواميسها.

١٦١

فقام الجماعة من المجلس، والرجل على ذلك الغرور والغلواء، غير نادمٍ ولا مُتهيّب.

ولمـّا أصبحوا لم يكُنْ لهم هَمٌّ إلاّ معرفة خبر الرجل، وأنّه هل بقي على غيّه أو أنّ الهداية الإلهيّة شملته؟ فقصدوا داره وطرقوا الباب، فقيل لهم: إنّ الرجل في حرم العبّاسعليه‌السلام ، فتوجّهوا إليه ليستبروا خبره، فإذا الرجل قد ربط نفسه في الضريح الأقدس بحبلٍ شدّ طرفه بعنقه، والآخر بالضريح، وهو تائب نادم ممّا فرَّط.

فسألوه عن شأنه وخبره، فقال: لمـّا نمتُ البارحة، وأنا على الحال الذي فارقتكم عليه، رأيت نفسي في مجتمع من أهل الفضل، وإذا رجل دخل النّادي وهو يقول: إنّ أبا الفضل قادمٌ عليكم. فأخذ ذكره من القلوب مأخذاً حتّى دخلعليه‌السلام والنّور الإلهي يسطع من أسارير جبهته، والجمال العلوي يزهو في مُحيّاه، فاستقرّ على كرسي في صدر النّادي، والحضور كُلّهم خاضعون لجلالته، وخصَّتني من بينهم رهبةٌ عظيمة، وفَرقٌ مُقلق؛ لما أتذكّره من تفريطي في جنب ولي اللّه، فطفقعليه‌السلام يُحيّي أهل النّادي واحداً واحداً حتّى وصلت النّوبة إليَّ.

ثُمّ قال لي: ماذا تقول أنت؟ فكاد أن يرتجّ عليّ القول، ثُمّ راجعت نفسي، وقلتُ: في المصارحة منتدحاً عن الارتباك وفوزاً بالحقيقة، فأنهيت إليه ما ذكرتُه لكم بالأمس من البرهنة.

فقالعليه‌السلام : أمّا أنا فقد درستُ عند أبي أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وأخوي الإمامين الحسن والحسينعليهما‌السلام ، وأنا على يقين من ديني بما تلقّيته من مشيختي من الحقائق ونواميس الإسلام، وأنت شاكٌّ في دينك، شاكٌّ في إمامك، أليس الأمر هكذا؟ فلم يسعني إنكار ما يقوله.

١٦٢

ثُمّ قالعليه‌السلام : وأمّا شيخك الذي قرأت عليه، وأخذت منه فهو أتعس منك حالاً، وما عسى أنْ يكون عندك من اُصول وقواعد مضروبة للجاهل بالأحكام، يعمل بها إذا أعوزه الوصول إلى الواقع، وإنّي غيرُ محتاج إليها؛ لمعرفتي بواقع الأحكام من مصدر الوحي الإلهي.

ثُمّ قالعليه‌السلام : وفيّ نفسيّاتٌ كريمةٌ، وأخذ يُعدّدها: من كرم وصبر، ومواساة وجهاد، إلى غيرها، ولو قُسّمت على جميعكم لما أمكنك حمل شيء منها. على أنّ فيك ملكاتٌ رذيلة؛ من حسد ومراء ورياء.

ثُمّ ضرب بيده الشريفة على فم الرجل، فانتبه فزعاً نادماً، مُعترفاً بالتقصير، ولم يجد منتدحاً إلاّ بالتوسل بهِ والإنابة إليه، صلوات اللّه عليه وعلى آبائه.

١٦٣

اليقين:

لقد كان أبو الفضلعليه‌السلام أحدَ الأفذاذ العلويّين الذين لم تكن المفاخر مزايا زائدة على ذاتّياتهم وإنْ مُدحوا بآثارها؛ لأنّهم زبدُ المخض، حازوا شرف النّبوَّة وفضيلة الخلافة، تتنضّد بهم جُملُ العلم، وتعتدل موازينُ العمل، وتترنّح بهم صهوات المنابر. فكان سلام اللّه عليه مُتربّعاً على منصّة المجد، ومِلْءُ النّدي هيبة، ومِلْءُ العيون بهجة، ومِلْءُ المسامع ذكره الجميل، ومِلْءُ القلوب محبّة، وحشو أهابه علمٌ وعمل، وحشو الردى سؤددٌ وشرف.

وإنّ الإحاطة بما حواه من اليقين الثابت والبصيرة النّافذة بأحد طريقين:

الأوّل : سبر أحواله، ومواقع إقدامه وإحجامه، ومواضع بطشه وأناته، وموارد صفحه وانتقامه. ولا بدّ أنْ يكون المـُنقّب عند ذلك مُميّزاً بين مدراج الرأي ومساقط الخطل، بصيراً بمراقي الحلم ومهاوي البطش.

والثاني : إخبار مَن وقف على ذلك بمباشرة وافية وعلم مُتّسع، تمّ شكلُهُ وظهر إنتاجُهُ، أو تعليم إلهي، أو أخذ عمّن له صلة بذلك التعليم.

وغير خفيٍّ أنّ قمر بني هاشم مُلتقى ذينك الطرفين، في البصيرة واليقين، في دينه وعقله، في معارفه وأخلاقه، في حلّه

١٦٤

وارتحاله، وكان ينظر إلى جملة الأحوال بين البصيرة التي تخرق الحُجب، وتُبصر ما وراءها من أسرار وخبايا، لا بناظر البصر الذي تحجبه الحواجز وتمنعه السّدول، فيردّ عن الإدراك خاسئاً، فلا يكون أمر تهالك دونه إلاّ بعلم ثابت ويقين راسخ، وإيمان لا يشوبه شكٌّ؛ فإنّه:

سِرُّ أبيهِ وهَو سرُّ البَاري

مَلِيكُ عَرْشٍ عَالِمُ الأسرارِ

وارِثُ مَن حَازَ مَواريِثَ الرُسلْ

أبَو العُقُولِ والنّفُوسِ والمـُثُلْ

وكَيفَ لا وَذاتُهُ القُدْسيَّهْ

مَجمُوعةُ الفَضائِلِ النّفسيَّهْ

لقد كان أبو الفضل يعرف العراقيّين ونزعات أهل الكوفة، منذ عهد أبيه وأخيه السّبط المجتبىعليهما‌السلام ، بالتجارب الصحيحة، وإنّهم تجمعهم الأماني وتُفرّقهم الرضائخ، ويُشاهد الاُمويِّين وقوّة سلطانهم، وتوغّلهم في إراقة الدماء، وبطشهم في النّاس، وطيشهم في الاُمور، ويرى ضعف جانب ( أبيِّ الضيمعليه‌السلام ) وقلّة أنصاره، وطبع الحال يحدو مثله إلى التحيّز إلى فئة اُخرى، ولا أقلّ من التقاعد عن أيّ الفريقين، وما كان مثله لو سالم الاُمويِّين يعدم ولاية أو قيادة لجيوشهم، أو عيشة راضية يقضي بها أيّامه.

( لكنّ عباس اليقين ) لم يكن له طمعٌ في شيء من حطام الدُّنيا، فلم يرقه إلاّ الالتحاق بأخيه سيّد الشهداءعليه‌السلام ، موطِّناً نفسه الكريمة لأي كارثة أو شدّة مؤلمة.

هذا والتَّكهّن بمصير أمر الحسينعليه‌السلام في مسيره نصب عينه، والمغّيبات المأثورة عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنينعليه‌السلام ، والمسموعات من أخويه الإمامينعليهما‌السلام مِلْءُ اُذنه، فلم يبرح مع ( أخيه الشهيدعليه‌السلام ) يفترع ربوةً ويسفّ إلى وادٍ، لا يرى في هاتيك الثنايا والعقبات إلاّ تصديقاً

١٦٥

لما عرفه، ويقيناً بمنتهى أمره وغايته حتّى بلغهم نبأُ فاجعة مسلم بن عقيل، فعرف القوم انثيال الكوفيّين عن الحقِّ ورضوخهم إلى حكم الطاغية، هنالك خارت العزائم وأخفقت الظنون، وطفق أهل المطامع والشره يتفرّقون عن السّبط المـُقدّس، يميناً وشمالاً(١) ، إلاّ مَن حداهم إلى المسير حقُّ اليقين، وفي الطليعة منهم سيّدنا العبّاسعليه‌السلام ؛ فإنّه لم يزدد إلاّ بصيرة في النّهضة الكريمة، وسروراً باُزوف الغاية المتوخّاة.

فسار به وبهم ( شهيد العظمة )، وهو لا يشاهد، كما أنّهم لا يرون كُلّما قربوا من الكوفة إلاّ تدبّر النّاس وتألبّهم عليهم، وتتوارد عليهم الأنباء بما هو أشدّ، لكن لم يثنِ ذلك من عزائمهم شيئاً ولا يكدي أملاً، بل كانوا يخفّفون الخُطا ويُسرعون السّير؛ لينتهوا إلى معانقة الرماح ومصافحة الصفاح، أكثر ممّا يُسرع الصبُّ إلى الخود الرداح، ومرشدُهم إلى ذلك بعد إمام الهدىعليه‌السلام ( أبو الفضل ).

رَكبٌ حِجَازيِّوُنَ بَينَ رِحَالِهم

تَسرِي المَنَايَا أنجَدُوا أو أتهَمُوا

يَحدُونَ فِي هَزجِ التِّلاوةِ عَيسَهمْ

والكُلُّ فِي تَسَبِيحِهِ يَترَنَّمُ

____________________

(١) اللهوف في قتلى الطفوف / ٤٥.

١٦٦

الأصحاب:

هبط موكب العظمة عراص الغاضريّات، وهو يضمّ الفتية من آل عبد المـُطّلب، والاُباة الصفوة من الأصحاب، فكانوا فرحين بما أتاهم المولى من فضله، واختصّهم به من المنحة الكبرى، حيثُ جعل أثر ميتتهم حياة للدّين ومدحرة للأضاليل، فكانوا رضوان اللّه عليهم بما أودع اللّه تعالى فيهم من النّيات الصادقة، لا يهابون في سبيل السّير إليه تعالى عقبة كأداء أو نبأً مُوحشاً؛ من تخاذل القوم، وتدابر النّفوس، وتضاءل القوى؛ لما عرفوه من أنّها موهبة لا يحظى بها إلاّ الأمثل فالأمثل، فقابلوا الأخطار بجأش طامن وجنان ثابت، لا تزجره أيّ هائلة، وكُلّما اشتدّ المأزق الحرج أعقب فيهم انشراحاً وانبساطاً، بين ابتسامة ومداعبة، ومن فرح إلى نشاط.

وَمُذ أخَذَتْ فِي نَينَوى مِنهُمُ النَّوَى

ولاَحَ بِهَا للغَدرِ بَعضُ الَعلاَئِمِ

غَدا ضَاحِكَاً هَذَا وذَا مُتبسِّماً

سُرُوراً ومَا ثَغرُ المَنُونِ بِبِاسِمِ(١)

____________________

(١) من قصيدة للشيخ صالح الكوّاز الحلّي، وقيل: للتميمي. راجع أعيان الشيعة ٧ / ٣٧١.

١٦٧

هازل بريرُ بن خضير عبدَ الرحمن الأنصاري، فقال له عبد الرحمن: ما هذه ساعة باطل! فقال برير: واللّه، لقد علم قومي أنّي ما أحببت الباطل شابّاً ولا كهلاً، ولكنّي لَمُستبشر بما نحن لاقون. واللّه، ما بيننا وبين الحور العين إلاّ أنْ يميل علينا هؤلاء بأسيافهم، ولوددت أنّهم مالوا علينا السّاعة(١) .

وخرج حبيب بن مظاهر يضحك، فقال له يزيد بن الحُصين: ما هذه ساعة ضحك! قال حبيب: وأيّ موضع أحقّ بالسّرور من هذا؟! ما هو إلاّ أنْ يميل علينا هؤلاء الطغاة بسيوفهم فنعانق الحور(٢) .

وناهيك بعابس بن أبي شبيب الشاكري حينما برز إلى الحرب، وقد أحجم القوم عنه؛ لأنّهم عرفوه بالإقدام والبسالة، فلمـّا رأى أنّه لم يبارزه أحدٌ ألقى ما عليه من درع ولامة، فاغتنمها القوم فرصة، ومع ذلك لم يبرز إليه أحد، لكنّهم رموه بالسّهام والحجارة، وأنّه ليطرد أكثر من مئتين فَرِحاً مبتهجاً بما يلاقيه من حبور ونعيم.

وإنّي لأعجب من الرواة حملة التاريخ إذا توسّعوا في النّقل، وقذفوا اُولئك الاُباة الصفوة، والغُلب المصاليت، بما تندى منه وجه الإنسانيّة، ويأباه الوجدان الصادق، فقيل: كان القوم بحالة ترتعد فرائصهم وتتغيّر ألوانهم كُلِّما اشتدّ الحال وضاق المجال، إلاّ الحسين؛ فإنّ أسرّة وجهه تشرق كالبدر المنير(٣) .

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣٢١، الكامل في التاريخ ٤ / ٦٠، مثير الأحزان لابن نما / ٣٩.

(٢) رجال الكشّي ١ / ٢٩٣، تفسير جوامع الجامع ١ / ١٣٠.

(٣) تاريخ الطبري ٤ / ٣١٠.

١٦٨

وذلك بعد أنْ أعوزتهم الوقعة في شهيد الإباء، فلم يجدوا للغمز فيه نصيباً، فمالوا على أصحابه وأهل بيتهعليهم‌السلام الذين قال فيهم الإمامعليه‌السلام :« إنّي لا أعلمُ أصحاباً خيراً مِنْ أصحابي، ولا أهلَ بيتٍ أبرَّ وأوفى من أهل بيتي » (١) .« وقَدْ [بلوتُهُمْ ](٢) فما وجدتُ فيهمْ إلاّ الأشوسَ الأقعسَ، يستأنسونَ بالمنيّة دوني، استيناسَ الطّفلِ إلى محالبِ اُمّه » (٣) .

وليس ذلك إلاّ من الدَّاء الدفين بين أضالع قوم دافوا السُّمَّ في الدّسم إلى سُذَّجٍ آخرين حسبوه حقيقة راهنة؛ فشوّهوا وجه التاريخ، غير أنّ البصير النّاقد لا تخفى عليه نفسيّةُ القوم، ولا ما جاؤوا به. وأعجب من ذلك، قول محفر ليزيد: إنّا أحطنا بهم، وهم يلوذون عنّا بالآكام والحفر، لواذَ الحمام من الصقر(٤) .

بفيك الكثك أيّها القائل! كأنّك لم تشاهد ذلك الموقف الرهيب، فترى ما للقوم من بسالة وإقدام، ومفادات دون الدِّين الحنيف، حتّى أغفل يومهم مع ابن المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله أيّام صفّين، وما شاكلها من حروبٍ داميةٍ ووقائعٍ هائلة، وحتّى أخذت أندية الكوفة لا تتحدّث إلاّ عن شجاعتهم.

أجل، إنّ تلك الأهوال أدهشتك فلم تدرِ ما تقول، أو إنّ الشقّة بعدت عليك فنسيت ما كان، ولكن هل غاب عن سمعك

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣١٧.

(٢) وردت المـُفردة في المصدر الأساس( استلمتُهُمْ ) ، ولعلّه خطأٌ مطبعيٌّ، أو اشتباه من النّسّاخ؛ خصوصاً وأنّنا لم نعثر على مَن ذكر هذه المفردة في غير هذا المكان، وما أثبتناه فهو من معالي السبطين ١ / ٣٤٥، وغيره الكثير من المصادر الاُخرى.(موقع معهد الإمامَين الحسنَين)

(٣) الدمعة السّاكبة / ٣٢٥.

(٤) تاريخ الطبري ٤ / ٣٥١، تاريخ مدينة دمشق ١٨ / ٤٤٥، الكامل في التاريخ ٤ / ٨٣، الوافي بالوفيات ١٤ / ١٢٧، البداية والنّهاية ٨ / ٢٠٨ الفتوح لابن أعثم ٥ / ١٢٧.

١٦٩

صراخ الأيامى، وعويل الأيتام في دور الكوفة، حتّى طبق أرجاءها من جرّاء ما أوقعه اُولئك الصفوة بأعداء اللّه ورسوله، بسيوفهم الماضيّة؟! والعذر لك، أنّك أدركت ساعة العافية، فطفقت تشوّه مقامهم المشكور، طلباً لمرضاة ( يزيد الخمور ).

ولقد صرّح عن صدق نيّاتهم وإخلاصهم في التضحية عدوُّهم الألدّ عمرو بن الحجّاج مُحرّضاً قومه: أتدرون مَن تُقاتلون؟! تُقاتلون فرسانَ المصر وأهلَ البصائر، تُقاتلون قوماً مُستميتين، لا يبرز إليهم أحد منكم إلاّ قتلوه، على قلَّتهم! واللّه، لو لم ترموهم إلاّ بالحجارة لقتلتموهم. فقال عمر بن سعد: قد صدقت، الرأي ما رأيت. أرسل في النّاس مَن يعزم عليهم أنْ لا يُبارزهم رجلٌ منهم(١) ، ولو خرجتم إليهم وحداناً لأتوا عليكم(٢) .

وقيل لرجل شهد يوم الطَّفِّ مع عمر بن سعد: ويحك! أقتلتم ذرِّيَّة رسول اللّه؟ فقال: عضضتَ بالجندل! إنّك لو شهدت ما شهدنا، لفعلت ما فعلنا؛ ثارت علينا عصابةٌ أيديها في مقابض سيوفها، كالاُسود الضارية، تُحطّم الفرسان يميناً وشمالاً، وتلقي أنفسها على الموت، لا تقبل الأمان ولا ترغب في المال، ولا يحول حائلٌ بينها وبين حياض المنيّة، أو الاستيلاء على المـُلك، فلو كففنا عنها رويداً لأتت على نفوس العسكر بحذافيرها، فما كُنّا فاعلين، لا اُمّ لك(٣) ؟!

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣٣١، الكامل في التاريخ ٤ / ٦٧.

(٢) بحار الأنوار ٤٥ / ١٩.

(٣) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٣ / ٣٦٣.

١٧٠

وأيّ فرد منهم أقلقه الحال حتّى ارتعدت فرائصه؟! أهو زهير بن القَين الذي وضع يده على منكب الحسينعليه‌السلام ، وقال مُستأذناً:

أقدِمْ هُدِيتَ هَادِياً مَهديَّا

فَاليَومَ أَلقى جَدّكَ النّبيَّا؟!

أمْ ابن عوسجة الذي يوصي حبيب بن مظاهر بنصرة الحسينعليه‌السلام وهو في آخر رمق من الحياة، فكأنّه لم يقنعه عن المفادات كُلَّ ما لاقاه من جهد وبلاء؟!

أمْ أبو ثمامة الصائدي الذي لم يهمّه في سبيل السّير إلى ربِّه سبحانه، كُلّ ما هناك من فوادح وآلام إلاّ الصلاة التي دنا وقتها، فقال للحسينعليه‌السلام : نفسي لك الفداء! إنّي أرى هؤلاء قد اقتربوا منك، ولا واللّه، لا تُقتل حتّى اُقتل دونك، واُحبُّ أنْ ألقى اللّه وقد صلّيتُ هذه الصلاة التي دنا وقتها. فقال الحسينعليه‌السلام :« ذكرتَ الصَّلاةَ، جعلكَ اللّهُ مِنَ المـُصلِّينَ الذَّاكرين » (١) ؟!

أمْ سعيد الحنفي الذي تقدّم أمامَ الحسينعليه‌السلام وقت الصلاة واستهدف لهم، فأخذوا يرمونه بالنّبل يميناً وشمالاً حتّى سقط؛ لكثرة نزف الدَّم(٢) ، فقال للحسينعليه‌السلام : أوفيت يابن رسول اللّه؟ قال:« نعم، أنتَ أمامي في الجنّة » ؟!

أمْ ابن شبيب الشاكري الذي ألقى جميعَ لامته لتقرب منه الرجال، فيموت، في حين نرى الكُماة الأبطال، المعروفين بالشجاعة والإقدام، يتدرَّعون للحرب كي لا يخلص إليهم ما يزهق نفوسهم؟!

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣٣٤، الكامل في التاريخ ٤ / ٧٠.

(٢) تاريخ الطبري ٤ / ٣٣٦، الكامل في التاريخ ٤ / ٧١، إلى قوله: حتّى سقط.

١٧١

أمْ الغفّاريّان اللّذان استأذنا الحسينعليه‌السلام في الحملة وهما يبكيان، فقالعليه‌السلام لهما:« ما يُبكيكُما؟! فواللّه، إنّي لأرجو أنْ تكونا بعدَ ساعةٍ قريرَي العين » . فقالا: ما على أنفسنا نبكي، ولكن نبكي عليك أبا عبد اللّه؛ نراك قد اُحيط بك، ولا نقدر على الدفع عنك والذبِّ عن حرمك(١) . فجزاهما الحسينعليه‌السلام خيراً؟!

وإذا تأمّلنا قول الإمام أبي جعفر الباقرعليه‌السلام :« إنّ أصحابَ جدّي الحسينِ لمْ يجدوا ألمَ مسِّ الحديد » (٢) . وضحَ لنا ما عليه اُولئك الأطائب من الثبات، وأنّهم غير مكترثين بما لاقوه من ألم الجراح؛ ولعاً منهم بالغاية، وشوقاً إلى جوار المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله . ولا يستغربُ هذا مَن يعرف حالة العاشق، وأنّه عند توجّه مشاعره نحو المحبوب لا يشعر بكُلِّ ما يلاقيه من عناء ونكد.

حكى المؤرّخون: أنّ عزّة دخلت على كثير الشاعر وهو في خبائه يبري سهاماً له، ولمـّا نظر إليها أدهشه الحال وأبهره الجمال، فأخذ يبري أصابعه، وسالت الدّماءُ وهو لا يحسّ بالألم(٣) .

وأكبر مثال على ذلك، حكاية الكتاب المجيد حالة النّسوة حينما شاهدنَ جمال الصدّيق يوسفعليه‌السلام ، فقال تعالى:( فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ) (٤) .

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣٣٧، الكامل في التاريخ ٤ / ٧٢.

(٢) الخرائج والجرائح للراوندي ٢ / ٨٤٨، والعبارة بمعناها.

(٣) الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ٩ / ٢٢.

(٤) سورة يوسف / ٣١.

١٧٢

وإذا كانت النّسوة لمْ يشعرن بألم قطع المـُدية أيديهنّ لمحض جمال الصّدِّيق، فليس من الغريب ألاّ يجد أصحابُ الحسينعليه‌السلام - وهُم زبدُ العالَمِ كُلِّه - ألمَ مسِّ الحديد عند نهاية عشقِهم لمظاهر الجمال الإلهي، ونزوع أنفسهم إلى الغاية القصوى من القداسة بعد التّكهرب بولاء سيّد الشهداءعليه‌السلام .

هذا ما عليه الأصحاب من سرّ المفادات، وقد كان مُرشدهم إلى ذلك، والمـُقدّم فيهم ( حامل اللواء )؛ إذ لم يكن هيّاباً بما شاهده من لَغطٍ وصَخَبٍ، وضوضاءٍ وصهيلٍ، وجحفلٍ مُجرٍّ يتبعه جيشٌ لجب، وقد أخذ ابنُ ميسونَ عليهم أقطار الأرض وآفاق السّماء.

بِجَحافِلٍ بالطّفِّ أوَّلُهَا

وأخيرُهَا بالشّامِ مُتَّصِلُ

فلا يرى إلاّ وجوهاً عابسة، كُلّ يتحرّى استئصال شأفة الإمامة، وإزهاق مَن يجنح إليها، و ( قمر الهاشميّين ) أسرّة وجهه تشرق كالبدر المنير؛ لأنّهعليه‌السلام يجدُ ببصيرته الهادية له إلى المفادات قربَ الأجل المضروب، وحصول الضَّالة المنشودة، وهذا كُلّه بعد العلم بأنّه إذا فارق أخاه في ذلك الموقف يكون في سعةٍ من الخطر.

وأنّى لكبر موقفه وثباته، حينما قال لهم أبو عبد اللّهعليه‌السلام :« هذا اللَّيلُ قدْ غَشيَكُمْ فاتَّخذوهُ جَمَلاً، فأنتم في إذنٍ منّي؛ فإنّ القومَ لَمْ يطلبُوا غَيري، ولو ظفروا بِي لَذَهَلوا عَنْ طلبِ غيري، وليأخذ كُلُّ رَجُلٍ منكم بيدِ رجلٍ مِنْ أهلِ بيتِي، وتَفَرَّقوا في سوادِكُمْ هذا » (١) .

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣١٧، الكامل في التاريخ ٤ / ٥٧، البداية والنّهاية لابن كثير ٨ / ١٩١.

١٧٣

هنا كان لعبّاس الشرف والحفاظ موقفُهُ المشهود الذي أظهر فيه مِن قوّة الإيمان، وغزارة العلم، وعوامل الشَّهامة، ما أوقف جوَّالة الفكر وحَيّر نفَّاذة الحلم؛ حيث ابتدر الجماعة بقوله: ولِمَ نفعل ذلك؟! لا أبقانا اللّه بعدك. وتابعه الهاشميّون الصفوة والصحب الأكارم، مُتَّخذين قوله حقيقةً راهنةً، مِن مُعلِّمٍ هذّبته المعرفة وبصَّرته التجارب، وإنّه لَمْ يَرد بقوله إلاّ التَّضحية الخالصة والسّعادة الخالدة، فأجابوا بما انحنت عليه الأضالع من إيثار موتة العزِّ دون سبط الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله على حياةٍ مُخدجة بعده، وإنْ كانت محفوفةً بنعومةٍ من العيش.

فقال آلُ عقيل: قبّح اللّه العيش بعدك، نُفديك بأنفسنا وأهالينا. وقال ابن عوسجة: لو لم يكنْ معي سلاحٌ لقذفتهم بالحجارة حتّى أموت دونك. وقال سعيد الحنفي: أنحن نُخلّي عنك؟! لا واللّه، حتّى يعلمَ اللّهُ أنّا قد حفظنا وصيّة رسول اللّه فيك. ولو علمتُ أنّي اُقتل ثُمّ اُحيى، ثُمّ اُقتل، ثُمّ اُحرق حيّاً، ثُمّ اُذرَّى، يُفعل بي سبعين مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حِمامي دونك. وكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة، ثُمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً!

وتكلّم الجماعة بما يُشبه ذلك(١) .

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣١٧ - ٣١٨، الكامل في التاريخ ٤ / ٥٨، البداية والنّهاية لابن كثير ٨ / ١٩١.

١٧٤

فأجَادُوا الجَوابَ واختَرَطُوا البيْ

ضَ اهتَياجَاً إلى جِلادِ الأعَادِي

وانْثَنَوا للوغَى غِضَابَ اُسودٍ

عَصفتْ فِي العِدى بصَرْصرِ عَادِ

حَرسُوهُ حتّى احتَسَوا جُرعَ المَوْ

تِ ببيضِ الظُّبَا وسُمرِ الصّعَادِ

سَمحَوُا بالنّفُوسِ فِي نُصرةِ الدْ

دِينِ وأدّوا فِي اللّهِ حَقَّ الجِهَاد

وبعد أنْ عرف الحسينعليه‌السلام منهم صدق النّيّة والإخلاص في المفادات، أوقفهم على غامض القضاء، وقال:« إنّي اُقتلُ وكلُّكُمْ تُقتلونَ حتّى القاسمُ وعبدُ اللّه الرَّضيع، إلاّ السَّجّادَ؛ فإنّهُ أبو الأئمَّة » . ثُمّ كشف عن أبصارهم، فرأوا ما حباهم اللّه من نعيم الجنان، وعرّفهم منازلهم فيها(١) .

وليس ذلك في القدرة الإلهيّة بعزيز، ولا في تصرّفات الإمام بغريب، ولقد حكى المؤرّخون وقوع نظير هذا لسَحَرة فرعون لمـّا آمنوا بموسىعليه‌السلام وأراد فرعون قتلهم؛ فإنّهم شاهدوا منازلهم في الجنّة(٢) .

____________________

(١) الخرائج والجرائح ١ / ٢٥٥، بحار الأنوار ٤٥ / ٨٩، علل الشرائع ١ / ٢٢٩، والنّص منقول بالمعنى.

(٢) تفسير ابن أبي حاتم ٥ / ١٥٣٦، تفسير ابن كثير ٣ / ١٦٦، الدّر المنثور للسيوطي ٣ / ١٠٧، تفسير الألوسي ٩ / ٢٨، البداية والنّهاية لابن كثير ١ / ٢٩٦.

١٧٥

الأمان:

لمْ تزل هذه الفضيلة نفسيّة أبي الفضل في جميع مواقفه عند ذلك المشهد الرهيب، لاسيّما حين بلغه كتاب عبيد اللّه بن زياد بالأمان له ولإخوته الذي أخذه عبد اللّه بن أبي المحل بن حزام، وكانت اُمّ البنين عمّته، وبعثه مع مولاه كزمان، فلمـّا قدم كربلاء قال للعبّاس وإخوته: هذا أمانٌ من ابن زياد، بعثه إليكم خالكم عبد اللّه. فقالوا له: أبلغ خالنا السّلام، وقل له: لا حاجة لنا في أمانكم؛ أمانُ اللّه خيرٌ من أمان ابن سُميّة(١) .

كيف يتنازل أبو الفضل للدنيّة وهو ينظر بعين غير أعين النّاس، ويسمع باُذنه الواعية غير ما يسمعونه؛ يُشاهد نصب عينه الرضوانَ الأكبر مع ( خلف النّبيِّ المـُرسلصلى‌الله‌عليه‌وآله )، ويسمع هتاف الملكوت من شتّى جوانبه بالبشرى له بذلك كُلِّه عند استمراره مع أخيه الإمامعليه‌السلام .

نعم، وجد ( عبّاسُ المعرفة ) نفسَه المـُكهْربة بعالم الغيب، المجذوبة بجاذب مركز القداسة إلى التّضحية دون حجّة الوقت لا محالة، فرفض ذلك الأمان الخائب إلى أمان الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وهنالك طمع الشمر فيه وفي إخوته أنْ يفصلهم عن مستوى الفضيلة، فناداهم: أين بنو اُختنا؟ أين العبّاس وإخوته؟ فاعرضوا

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣١٤، الكامل في التاريخ ٤ / ٥٦.

١٧٦

عنه، فقال الحسينعليه‌السلام :« أجيبوه ولو كان فاسقاً » .

قالوا: ما شأنك، وما تُريد؟ قال: يا بني اُختي، أنتم آمنون، لا تقتلوا أنفسكم مع الحسين، والزموا طاعة أمير المؤمنين يزيد. فقال له العبّاس: لعنك اللّه ولعن أمانك، تُؤمننا وابن رسول اللّه لا أمان له(١) ! وتأمرنا أنْ ندخل في طاعة اللّعناء وأولاد اللعناء. فرجع الشمر مُغضباً(٢) .

إنّ هذا الجلف الجافي قد أساء الظنّ بهؤلاء الفتية، نجوم الأرض من آل عبد المـُطّلب، فحسب أنّهم ممّن يستهويهم الأمن والدّعة، أو تروقهم الحياة مع أبناء البغايا، هيهات! خاب الرّجس ففشل، وأخفق ظنّه، وأكدى أمله، ولم يسمع في الجواب منهم إلاّ لعنك اللّه، وتبّت يداك، ولُعن ما جئت به.

وحيث إنّ ابن ذي الجوشن يفقد البصيرة التي وجدها أبو الفضل، والنّفسيّة التي يحملها، والسّؤدد المـُتحلّي به، والحفاظ اللائح على وجناته؛ طمع أنْ يستهوي رجل الغيرة ويجرّه إلى الخسف والهوان، والحياة مع الظالمين.

أيظنّ أنّ أبا الفضل ممّن يستبدل النّور بالظُّلمة، ويستعيض عن الحقّ بالباطل، ويدع علم النّبوَّة وينضوي إلى راية ابن مرجانة؟! كلاّ.

____________________

(١) الإرشاد للشيخ المفيد ٢ / ٨٩، بحار الأنوار ٤٤ / ٣٩١، تاريخ الطبري ٤ / ٣١٥، الكامل في التاريخ ٤ / ٥٦.

(٢) مثير الأحزان لابن نما الحلّي / ٤١، اللهوف في قتلى الطفوف / ٥٤، لواعج الأشجان / ١١٦.

١٧٧

ولمـّا رجع العبّاس وإخوته إلى الحسينعليه‌السلام وأعلموه بما أراده الماجن منهم، قام زهير بن القَين إلى العبّاس وحدّثه بحديث، قال فيه:

إنّ أباك أمير المؤمنينعليه‌السلام طلب من أخيه عقيل - وكان عارفاً بأنساب العرب وأخبارها - أنْ يختار له امرأةً ولدتها الفحولة من العرب وذوو الشجاعة منهم؛ ليتزوّجها فتلد غلاماً فارساً شجاعاً، ينصر الحسين بطفّ كربلاء، وقد ادّخرك أبوك لمثل هذا اليوم، فلا تُقصّر عن نصرة أخيك وحماية إخوتك.

فغضب العبّاس، وقال: يا زهير، تُشجّعني هذا اليوم! فواللّه، لأرينّك شيئاً ما رأيته(١) . فجدّل أبطالاً، ونكّس رايات في حالة لم يكنْ همّه من القتال ولا منازلة الأبطال، بل كان همّه إيصال الماء إلى أطفال أخيه، ولكن لا مردّ للقضاء، ولا دافع للأجل المحتوم.

ولا يَهمّهُ السّهامُ حَاشَا

مَنْ هَمُّهُ سِقايَةُ العِطَاشَى

فَجادَ باليَمِينِ والشِّمَالِ

لِنُصرةِ الدِّينِ وحِفظِ الآلِ

____________________

(١) الأنوار العلويّة للنقدي / ٤٤٤، أسرار الشهادة للدربندي ٢ / ٤٩٧.

١٧٨

المواساة:

لا يسع الباحث في حديث مشهد الطَّفِّ المـُقدّر فيه ( قمر بني هاشم ) حقّ قدره إلاّ البخوع له بتحقيق هذه الغريزة الكريمة، أعني المواساة بأجلى مظاهرها، وأنت إذا أعرت لما أفضنا القول في البصيرة اُذناً واعية، عرفت كيف كان مقامه مع أخيه سيّد شباب أهل الجنّة، وإيثاره التفاني معه على الحياة الرغيدة، وتهالكه في المفادات منذ مغادرته الحجاز إلى هبوطه أرض كربلاء، وحتّى لفظ نفسه الأخير تحت مشتبك النّصول، فلا تجد مناصاً عن الإذعان بأنّهعليه‌السلام كان على أعلا ذروة من المواساة لأخيه الإمامعليه‌السلام ، يربوا على المواسين معه جميعاً؛ لأنّ مواساته كانت عن بصيرة، هي أنفذ البصائر يومئذ بشهادة الإمام الصادقعليه‌السلام :« كان عمُّنا العبّاسُ نافذَ البصيرةِ، صلبَ الإيمان » (١) .

وقد شهد له بهذه المواساة إمامان معصومان واقفان على الضمائر، ويعرفان مقادير الرجال، فيقول الحجّة عجّل اللّه فرجه في زيارة النّاحية:« السّلام على أبي الفضلِ العبّاس، المواسي أخاه بنفسِهِ، الآخذ لغدهِ مِن أمسهِ، الواقي لهُ، السّاعي إليه بمائِهِ، المقطوعة يداه. لعن اللّهُ قاتلَهُ يزيدَ بنَ الرّقادِ الجهني، وحكيمَ بن الطّفيل السّنبسي الطائي » .

____________________

(١) سرّ السّلسلة العلويّة لأبي نصر البخاري / ٨٩.

١٧٩

ويقول الصادقعليه‌السلام في الزيارة المتلوة عند ضريحه الأقدس:« أشهدُ لقد نصحتَ للّه ولرسولِهِ ولأخيك، فنعم الأخ المواسي! » .

فجعلعليه‌السلام الشهادة له بالمواساة المـُنعم بها نتيجة نصحه للّه الذي هو مقتضى دينه ويقينه، ونصحه لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي هو تمام التوحيد، والنّصح لأخيه الإمام الذي هو الجزء الأخير للعلّة، وبه كمال الدِّين وتمام النّعمة: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) (١) . وبه قبول الأعمال.

« لو أنّ عبداً صام وصلّى وزكّى، ولم يأتِ بالولاية، ما قبل اللّه له عملاً أبداً »(٢) . فرضى الربّ والرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وطاعتهما منوطان بطاعة وليِّ الأمر:( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (٣) .

فأراد الإمام الصادقعليه‌السلام بذلك الخطاب أنّ نُصح ( عباس الهداية ) لأخيه المظلوم على حدّ نصحه للّه ولرسوله، مع حفظ المرتبة في كُلِّ منهما، فالطاعة شرع سواء في الثلاثة تحت جامع واحد، هو: وجوب الخضوع لهم والتسليم لأمرهم، غاية الأمر تختلف المراتب؛ فإنّه تجب الطاعة أولاً وبالذات بالنّسبة إليه سبحانه وتعالى، وبما أنّ الرسول مبعوثٌ من قبله وجبت بالنّسبة إلى الرسول، وبما أنّ الإمام خليفة لهذا المبعوث المـُرسل لعدم بقائه إلى الأبد، وعدم إهمال العباد كالبهائم، وعدم وضوح الكتاب المجيد؛ لوجود المـُخصّص والمـُقيّد، والنّاسخ والمتشابه، وعدم

____________________

(١) سورة المائدة / ٣.

(٢) هكذا ورد هذا المقطع من العبارة وهو ما بين قوسين، وبعد التّتبع لم نصلْ الى كونه حديثاً عن النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله أو أحد المعصومينعليهم‌السلام ، والأقرب أنّه مضمونُ حديثٍ صادرٍ عن أهل بيت العصمة والطّهارة.(موقع معهد الإمامَين الحسنَين)

(٢) سورة المائدة / ٥٥.

١٨٠