مقتل العباس (عليه السلام)

مقتل العباس (عليه السلام)15%

مقتل العباس (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 394

  • البداية
  • السابق
  • 394 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 77237 / تحميل: 11577
الحجم الحجم الحجم
مقتل العباس (عليه السلام)

مقتل العباس (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

ولعلّ ما جاء في زيارة الشُّهداء يشهد له:« السّلامُ عليكُمْ أيُّها الرَّبّانيّونَ، أنتُمْ لنا فرطٌ وسَلفٌ ونحنُ لكُمْ أتباعٌ وأنصارٌ، أنتُمْ سادةُ الشُّهداءِ في الدُّنيا والآخرةِ » (١) . وكذلك قولهعليه‌السلام فيهم: إنّهم لم يسبقهم سابقٌ، ولا يلحقهم لاحقٌ. فقد أثبت لهم السّيادة على جميع الشُّهداء، أنّهم لم يسبقهم ولا يلحقهم أيُّ أحدٍ، وأبو الفضل في جملتهم بهذا التفضيل، وقد انفرد عنهم بما أثبته له الإمام السّجادعليه‌السلام من المنزلة التي لم تكن لأيِّ شهيد.

ولهذه الغايات الثمينة والمراتب العُليا؛ كان أهلُ البيتعليهم‌السلام يُدخلونه في أعالي اُمورهم ما لا يتدخّل فيه إنسانٌ عادي، فمِن ذلك: مُشاطرتُه الحسينَعليه‌السلام في غسل الحسنعليه‌السلام (٢) .

وأنتَ بعد ما علمت مرتبة الإمامة، وموقف صاحبها من العظمة، وأنّه لا يلي أمره إلاّ إمامٌ مثله، فلا ندحة لك إلاّ الإيمان بأنّ مَن له أيّ تدخل في ذلك - بالخدمة من جلب الماء وما يقتضيه الحال - [ هو ] أعظم رجلٍ في العالم بعد أئمّة الدِّينعليهم‌السلام ؛ فإنّ جثمان المعصومعليه‌السلام عند سيره إلى المبدأ الأعلى - تقدّست أسماؤه - لا يُمكن أنْ يقربَ أو ينظر إليه مَن تقاعس عن تلك المرتبة؛ إذ هو مقامُ قابَ قوسين أو

____________________

(١) كامل الزيارات / ٣٧٢، تهذيب الأحكام ٦ / ٦٥، المزار للمفيد / ١٢٠، المزار للمشهدي / ٣٨٨.

(٢) ورد في ذخائر العقبى / ١٤١، والذرِّيَّة الطّاهرة للدولابي / ١٢٠، وكشف الغُمَّة ٢ / ١٧١، وبحار الأنوار ٤٤ / ١٣٧: وولّى غُسلَهُ الحسينُ ومحمّدٌ والعبّاسُ إخوتُه... ولمْ يردْ في مصدر أنّ المـُشارك للحسينعليه‌السلام العبّاس فقط.

٢٠١

أدنى، ذلك الذي لم يطق الروح الأمين أنْ يصل إليه حتّى تقهقر، وغاب النّبيُّ الأقدس في سبحات الملكوت والجلال وحدهُ إلى أنْ وقف الموقف الرهيب. وهكذا خلفاء النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله المشاركون له في المآثر كُلِّها ما خلا النّبوَّة والأزواج(١) ، ومنه حال انقطاعهم عن عالَم الوجود بانتهاء أمد الفيض المـُقدّس.

وممّا يشهد له أنّ الفضل بن العبّاس بن عبد المـُطّلب كان يحمل الماء عند تغسيل النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، معاوناً لأمير المؤمنينعليه‌السلام على غسله، ولكنّه عصبَ عينيه؛ خشية العمَى إنْ وقع نظرُهُ على ذلك الجسد الطّاهر.

ومثله ما جاء في الأثر عن الإشراف على ضريح رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ حذراً أنْ يرى النّاظر شيئاً فيعمى(٢) ، وقد اشتهر ذلك بين أهل المدينة، فكان إذا سقط في الضريح شيءٌ أنزلوا صبيّاً وشدّوا عينيه بعصابة فيخرجه.

وهذه أسرار لا تصل إليها أفكار البشر، وليس لنا إلاّ التسليم على الجملة، ولا سبيل لنا إلى الإنكار بمجرّد بُعدنا عن إدراك مثلها، خصوصاً بعد استفاضة النّقل في أنّ للنّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّةعليهم‌السلام بعد وفاتهم أحوالاً غريبةً ليس لسائر الخلق معهم شركة، كحرمة

____________________

(١) في الحديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام :« كلُّ ما كانَ للرَّسولِ صلى‌الله‌عليه‌وآله فلنَا مثلُهُ، إلاّ النّبوَّةَ والأزواجَ » . المحتضر / ٤٧.

(٢) فقه الإمام الرضاعليه‌السلام لابن بابويه / ١٨٨، مُستدرَك الوسائل ٢ / ١٩٧، المـُسترشد لابن جرير / ٣٣٦، بحار الأنوار ٢٢ / ٤٩٢.

٢٠٢

لحومهم على الأرض، وصعود أجسادهم إلى السّماء، ورؤية بعضهم بعضاً، وإحيائهم الأموات منهم بالأجساد الأصليّة عند الاقتضاء؛ إذ لا يمنع العقل منه مع دلالة النّقل الكثير عليه واعتراف الأصحاب به(١) ، فيصار التحصّل: إنّ الحواس الظاهرة العاديّة لا تتحمّل مثل تلك الأمثلة القُدسية - وهي في حال صعودها إلى سبحات القُدس - إلاّ نفوس المعصومينعليهم‌السلام بعضها مع بعض دون غيرهم، مهما بلغ من الخشوع والطاعة.

لكنّ ( عباس المعرفة ) الذي منحه الإمامعليه‌السلام في الزيارة أسمى صفة حظي بها الأنبياء والمقرّبونعليهم‌السلام ، وهي: ( العبد الصالح ) تسنّى له التوصّل إلى ذلك المحل الأقدس من دون أنْ يُذكر له تعصيبُ عينٍ أو إغضاءُ طرفٍ، فشارك السّبط الشهيدعليه‌السلام ، والرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ووصيه

____________________

(١) قال الشيخ المفيد في أوائل المقالات / ٧٢: والأئمّةعليهم‌السلام من عترته خاصّة لا يخفى عليهم بعد الوفاة أحوال شيعتهم في دار الدنيا، بإعلام اللّه تعالى لهم ذلك حالاً بعد حال، ويسمعون كلام المـُناجي لهم في مشاهدهم المـُكرَّمة.

وقال العلاّمة المجلسي في بحار الأنوار ٢٧ / ٣٠١، بعد ما نقل كلام الشيخ المفيد المـُتقدّم: وهذا مذهبُ فقهاء الإماميّة كافّة وحملة الآثار منهم، ولستُ أعرف فيه لمُتكلّميهم من قبل مقالاً.

وفي كنز الفوائد للكراجكي ١ / ٢٤٦، ومنهج الرَّشاد لمَن أراد السّداد / ٥٦٢، وبصائر الدرجات للصفّار / ٤٤٥: إنّ لحومهم مُحرّمة على الأرض، وإنّها ترتفع إلى السّماء بعد ثلاثة أيّام.

وحُكي عن الشيخ الأعظم قدوة السّالكين المولى فتح علي ابن المولى حسن السّلطان آبادي: أنّه لمـّا زار أمير المؤمنينعليه‌السلام ورجع إلى مشهد الحسينعليه‌السلام أسف على عدم مذاكرته مع علماء النّجف في مسألة بقاءِ جسد الإمامعليه‌السلام طريّاً أو أنّه يبلى، فرأى في المنام أنّه داخلٌ إلى الروضة، فرأى جسداً موضوعاً على الحصير والدَّمُ يجري من أعضائه، فسأل عنه، فقيل: إنّه جسد الحسينعليه‌السلام ، أما علمت أنّ أجسادَهم لا تبلى.

٢٠٣

المـُقدّم مع الروح الأمينعليه‌السلام ، وجملةَ الملائكة في غسل الإمام المجتبى الحسن السّبط صلوات اللّه عليهم أجمعين(١) . وهذه هي المنزلة الكبرى التي لا يحظى بها إلاّ ذَوو النّفوس القُدسيّة من الحُجج المعصومينعليهم‌السلام ، ولا غرو إنْ غبط أبا الفضل الصّدِّيقون والشُّهداء الصالحون.

وإذا قرأنا قول الحسين للعبّاسعليهما‌السلام ، لمـّا زحف القوم على مخيّمه عشيّة التاسع من المـُحرّم:« اركَبْ بنفسِي أنتَ يا أخي حتّى تَلقاهُمْ... وتسألَهُمْ عمّا جاءَ بِهم » . فاستقبلهم العبّاس في عشرين فارساً، فيهم حبيب وزهير، وسألهم عن ذلك، فقالوا: إنّ الأمير يأمر إمّا النّزول على حكمه أو المـُنازلة.

فأخبر الحسينَعليه‌السلام ، فأرجعه ليُرجئهم إلى غد(٢) .

____________________

(١) روى الصفّار في بصائر الدرجات / ٢٤٥ عن الباقرعليه‌السلام : أنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام شاهد جبرائيلَ والملائكة يُعينونه على غسل النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله وتكفينهِ، وحفر القبر ونزولهم معه في القبر، وكذا شاهدَهم مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الحسنُ والحسينُعليهما‌السلام يُعينونهما على غسل أمير المؤمنينعليه‌السلام وتكفينه، وشاهدَهم الحسينُعليه‌السلام مع النّبي وأمير المؤمنين (صلوات الله عليهما وآلهما) يُعينونه على غسل الحسنعليه‌السلام ، وشاهدهم الباقرُعليه‌السلام مع النّبيِّ وأمير المؤمنين، والحسن والحسين (صلوات الله عليهم) يُعينونه على غسل أبيه السجّادعليه‌السلام .

(٢) تاريخ الطبري، ونصّ العبارة، قال: وأقبل العبّاسُ بن عليٍّ يركض حتّى انتهى إليهم، فقال: يا هؤلاء القوم، إنّ أبا عبد اللّه يسألُكم أنْ تنصرفوا هذه العشيّة حتّى ينظر في هذا الأمر؛ فإنّ هذا أمرٌ لمْ يجرِ بينكم وبينه فيه منطقٌ، فإذا أصبحنا التقينا إنْ شاء اللّه؛ فإمّا رضيناه فأتينا بالأمر الذي تسألونه وتسومونه، أو كرهنا فرددناه.

وإنّما أراد بذلك أنْ يردّهم عنه تلك العشيّة حتّى يأمر بأمره ويُوصي أهله، فلمـّا أتاهم العبّاس بنُ عليٍّ بذلك، قال عمر بن سعد: ما ترى يا شمر؟ قال: ما ترى أنت؛ أنت الأمير والرَّأيُ رأيُك. قال: أردت ألاّ أكون.

ثُمّ أقبل على النّاس، فقال: ماذا ترَون؟ فقال عمرو بن الحجّاج بن سلمة الزبيدي: سبحان اللّه! واللّه، لو كانوا من الدَّيلم ثمّ سألوك هذه المنزلة لكان ينبغي لك أنْ تُجيبهم إليها... وكان العبّاسُ بنُ عليٍّ حين أتى حُسيناً بما عرض عليه عمر بن سعد، قال:« ارجعْ إليهِمْ، فإنْ استطعتَ أنْ تُؤخِّرَهُمْ إلى غدْوَةٍ وتدفَعَهُمْ عنّا العشيّةَ؛ لَعلَّنا نُصلِّي لربِّنا اللَّيلةَ ونَدعُوهُ ونَستغفِرُهُ؛ فهو يعلمُ أنِّي كُنتُ اُحبُّ الصّلاةَ له وتلاوةَ كتابِهِ، وكثرةَ الدُّعاءِ والاسْتغفارِ ».

٢٠٤

فإنّك ترى الفكر يسفُّ عن مدى هذه الكلمة، وأنّى له أنْ يُحلّق إلى ذروة الحقيقة من ذاتٍ مُطهّرة تفتدى بنفس الإمامعليه‌السلام علّة الكائنات، وهو الصادرُ الأوّل، والمـُمكنُ الأشرف، والفيض الأقدس للمُمكنات:« بكُمْ فتَحَ اللّهُ وبكُمْ يَخْتمُ » (١) .

نعم، عرفها البصير النّاقد بعد أنْ جرّبها بمحكِّ النّزاهة، فوجدها غير مشوبة بغير جنسها، ثُمّ أطلق تلك الكلمة الذهبيّة الثمينة ( ولا يعرف الفضلَ إلاّ أهلُهُ ).

ولا يذهب بك الظنّ - أيّها القارئ الفطن - إلى عدم الأهمّيّة في هذه الكلمة بعد القول في زيارة الشُّهداء من زيارة وارث:« بأبي أنتُمْ واُمِّي! طُبتُمْ وطابتْ الأرضُ الّتِي فيهَا دُفنتُمْ » . فإنّ الإمامعليه‌السلام في هذه الزيارة لم يكن هو المخاطِب لهم، وإنّما هوعليه‌السلام في مقام تعليم صفوان الجمّال عند زيارتهم أنْ يُخاطبهم بذلك الخطاب؛ فإنّ الرواية جاءت - كما في مصباح المتهجّد للشيخ الطوسي - أنّ صفوان قال: استأذنتُ الصادقَعليه‌السلام لزيارة الحسينعليه‌السلام وسألتُهُ أنْ يُعرّفني ما أعمل عليه.

فقالعليه‌السلام له:« يا صفوان، صُمْ قبل خروجِكَ ثلاثةَ أيّام... ». إلى أنْ

____________________

(١) الكافي ٤ / ٥٧٦، ح٢، عيون أخبار الرضعليه‌السلام ١ / ٣٠٨، تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي ٦ / ٥٥.

٢٠٥

قال:« ثُمّ إذا أتيتَ الحائرَ، فقُلْ: اللّهُ أكبرُ كبيراً » . ثُمّ ساق الزيارة إلى أنْ قال:« ثُمّ اخرُجْ مِنْ البابِ الذي يلي رجْلَي عليِّ بنِ الحُسينِ، وتوجّه إلى الشُّهداءِ، وقُلْ: السّلامُ عليكُمْ يا أولياءَ اللّهِ... » إلى آخره.

فالصادقعليه‌السلام في مقام تعليم صفوان أنْ يقول في السّلام على الشُّهداء ذلك، وليس في الرواية ما يدلّ على أنّ الصادقعليه‌السلام ماذا يقول لو أراد السّلام عليهم.

وهنا ظاهرةٌ اُخرى دلّت على منزلة كُبرى للعبّاس عند سيّد الشُّهداءعليه‌السلام ؛ ذلك أنّ الإمام الشهيدعليه‌السلام لمـّا اجتمع بعمر بن سعد ليلاً وسط العسكرين؛ لإرشاده إلى سبيل الحقِّ، وتعريفه طغيان ابن ميسون، وتذكيره بقول الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في حقِّه، أمرعليه‌السلام مَن كان معه بالتنحّي إلاّ العبّاس وابنه علياً، وهكذا صنع ابن سعد، فبقي معه ابنه وغلامه.

وأنت تعلم أنّ ميزة أبي الفضل على الصحب الأكارم، وسروات المجدِ من آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله الذين شهد لهم الحسينعليه‌السلام باليقين والصدق في النّيّة والوفاء(١) ، غير أنّهعليه‌السلام أراد أنْ يوعز إلى الملأ من بعده ما لأبي الفضل وعلي الأكبر من الصفات التي لا تحدّها العقول.

ومن هذا الباب، لمـّا خطب يوم العاشر، وعلا صراخ النّساء وعويل الأطفال حتّى كان بمسامع الحسينعليه‌السلام ، وهو ماثل أمام العسكر، أمر أخاه العبّاس أنْ يُسكتهنَّ؛ حذار شماتة القوم إذا سمعوا ذلك العويل، وغيرةً على نواميس حرم النّبوَّة أنْ يسمع أصواتهنّ الأجانب.

____________________

(١) لعلّ جواب قول المـُصنّف: وأنت تعلم... واردٌ هنا، وقد سقط من الطبعة السّابقة، وتقديره: ( معلومة )، أي: أنّ منزلة أبي الفضل... معلومةٌ.

٢٠٦

ولو رمتَ تحليلاً لتأخّر شهادة العبّاس عن جميع الشُّهداء، وهو حامل تلك النّفس النّزّاعة إلى المفادات والتهلكة دون الدِّين، فلا يمكنه حينئذ التأخّر آناً ما، فكيف بطيلة تلك المدّة، وبمرأى منه مصارعُ آل اللّه ونشيج الفواطم، وإقبال الشرّ من جميع نواحيه، واضطهاد حجّة الوقت بما يراه من المناظر الشبحية؛ والواحدة من ذلك لا تترك ( لحامل اللواء ) مساغاً عن أخذ الترات آناً ما.

لكنْ أهميّة موقفه عند أخيه السّبطعليه‌السلام هو الذي أرجأ تأخيره عن الإقدام؛ فإنّ سيّد الشُّهداءعليه‌السلام يعدّ بقاءه من ذخائر الإمامة، وأنّ موتته تفتّ في العضد، فيقول له:« إذا مَضيْتَ تفرّقَ عَسْكرِي » . حتّى إنّه في السّاعة الأخيرة لم يأذنْ له إلاّ بعد أخذٍ وردٍّ.

وإنّ حديث ( الإيقاد ) لسيّدنا المتتبّع الحجّة السيّد محمّد علي الشاه عبد العظيمقدس‌سره يوقفنا على مرتبة تُضاهي مرتبة المعصومينعليهم‌السلام ؛ ذلك لمـّا حضر السجّادعليه‌السلام لدفن الأجساد الطاهرة، ترك مساغاً لبني أسد في نقل الجثث الزواكي إلى محلِّها الأخير، عدى جسد الحسين وجثّة عمّه العبّاسعليهما‌السلام ، فتولّى وحده إنزالهما إلى مقرّهما، أو اصعادهما إلى حضيرة القدس، وقال:« إنّ مَعِي مَنْ يُعينُنِي » .

أمّا الإمامعليه‌السلام فالأمر فيه واضح؛ لأنّه لا يلي أمرَه إلاّ إمامٌ مثلُه، ولكنْ الأمر الذي لا نكاد نصل إلى حقيقته وكنهه، فعله بعمِّه الصدّيق الشهيد مثل ما فعل بأبيه الوصيِّعليهما‌السلام ، وليس ذلك إلاّ لأنّ ذلك الهيكل المـُطهّر لا يمسّهُ إلاّ ذواتٌ طاهرة في ساعة هي أقرب حالاته إلى المولى سبحانه، ولا يدنو منه مَنْ ليس مِن أهل ذلك المحلّ الأرفع.

٢٠٧

ولم تزل هذه العظمة محفوظةً له عند أهل البيتعليهم‌السلام دنياً وآخرة، حتّى إنّ الصّدِّيقة الزَّهراء سلام اللّه عليها لا تبتدأ بالشكاية بأيِّ ظُلامةٍ من ظُلامات آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله - وهي لا تُحصى - إلاّ بكفَّي أبي الفضل المقطوعتين، كما في الأسرار ص٣٢٥، وجواهر الإيقان ص١٩٤، وقد ادَّخرتهما [ ليكونا ] مِن أهم أسباب الشّفاعة يوم يقوم النّاس لربِّ العالمين.

٢٠٨

العصمة:

إنّ مِنَ المـُمكنَ جدّاً وليس بمحال على اللّه تعالى، أنْ يُنشىء كياناً لا تقترب منه العيوب، أو يخلق إنساناً لا يقترف الذنوب، ولقد أوجد جلّ شأنه ذواتاً مُقدّسةً، ونفوساً طاهرةً، وجبت فيهم العصمة من الآثام، وتنزّهوا عن كُلِّ رجس:( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (١) . وقد اتَّفق أرباب الحديث والتراجم على حصر هؤلاء المـُنزّهين بالخمسة أصحاب الكساء، وهُمْ: محمّدٌ وعليٌّ، وفاطمةُ، والحسنُ والحسينُعليهم‌السلام .

ثُمّ أثبت أصحاب السّيرة ما يُضحك الثكلى ويلحق بالخرافات، فكان للغيرِ مجالُ الطعن والمناقشة، ذكروا أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لمـّا بلغ من العمر سنتين، وكان خلف البيوت عند بني سعد مع أترابٍ له، أتاه رجلان عليهما ثيابٌ بيض، مع أحدهما طست من ذهب مملوء ثلجاً، فشقّا بطنه وقلبه، واستخرجا منه علقة سوداء هي مغمز الشيطان!

وطربوا لذلك؛ حيث إنّ اللّه بلطفه وكرمه قدّس نبيّه الكريم من هذه العلقة! ولكن ما أدري لماذا صنع به هذه العملية الدامية وهو طفلٌ صغير لا يقوى على تحمّل الآلام ومعانات الجروح الدامية؟! ألم

____________________

(١) سورة الأحزاب / ٣٣.

٢٠٩

يكُنْ في وسع القدرة الإلهيّة إيجاد ذات مقدّسة طاهرة من الأرجاس حتّى عن هذه العلقة المـُفسّرة بمغمز الشيطان؟! كيف لا وقد خلقه اللّه من نور قدسه، وبرّأه من جلال عظمته، واصطفاه من بين رسله، وفضّله على العالمين!

وفي الحديث عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله :« إنّ اللّهَ خلَقني مِنْ صفوةِ نورِهِ، ودعانِي فأطعتهُ » . وحينئذ فهل يُتصور نقصٌ في النّور الأقدس؟! تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً.

تِلكَ نَفسٌ عَزّتْ عَلى اللّهِ قَدْراً

فارتَضاهَا لِنفسهِ واصْطفَاهَا

حَازَ مِنْ جَوْهَرِ التَّقدّسِ ذَاتَاً

تاهتِ الأنبياءُ فِي مَعناهَا

لا تَجلْ فِي صِفاتِ أحمدَ فِكَراً

فَهي الصُّورةُ الّتي لَنْ تَراهَا

وأغرب من ذلك جواب السّبكي عن هذه المشكلة: بأنّ اللّه أراد أنْ يخلق نبيّه - أوّلاً - كاملاً لا نقصان فيه عن سائر النّاس حتّى في مثل هذه العلقة؛ لكونها من الأجزاء، ثُمّ بعد ذلك طهّره منها! والعجب عدّ هذه العلقة من أجزاء بدن الإنسان التي يُوجب فقدُها نقصانَ الخلقة، وقد تنزّه عنها جلال النّبوَّة! على أنّه أثبت ولادة النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله مختوناً، وهذا أظهر في النّقصان عمّا وجد عليه البشر من العلقة؛ لكونها غير مرئية.

وجواب الحلبي في السّيرة ج١ ص١١٥ بأنّه إنّما وُلد مختوناً لئلاّ يطّلع عليه المَحْرَم وتنكشف عورتُهُ، لا يرفع إشكال النّقصان عمّا عليه النّاس.

وكيف كان فقد ثبت إمكان أنْ يخلق اللّه تعالى ذواتاً مقدّسة، مُنزّهة عن الأرجاس، معصومة عن الخطأ، وقد يجب ذلك كما في الهداة المعصومينعليهم‌السلام ؛ لكي يهدي بهم النّاس(١) .

____________________

(١) السّيرة الحلبيّة ١ / ٨٧، البداية والنّهاية ٢ / ٣٢٥، إمتاع الأسماع للمقريزي ٤ / ٥٧، مجمع الزوائد للهيثمي، وهو ليس تعليلاً من النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنّما حديث مروي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله ورد فيه:« مِنْ كَرامَتي على ربِّي عزَّ وجل أنْ وُلدتُ مختوناً، ولم يرَ أحدٌ سَوأتي » . وقد اختلفوا في تصحيح هذا الخبر وتضعيفه، ففي السّيرة الحلبيّة في نفس المصدر قال:... جاءت أحاديث كثيرة في ذلك، قال الحافظ ابن كثير: فمِن الحفّاظ مَن صحَّحها، ومنهم مَن ضعَّفها...

٢١٠

وأمّا في غيرهم من الأطهار فلا يجب، ولكنّه غير ممتنع؛ فمِن المـُمكن أنْ يمنحَ الباري سبحانه أفذاذاً من البشر فيكونوا قدوةً لمَن هم دونهم، وتكون بهم الاُسوة في عمل الصالحات، وإنْ كان في مرتبة نازلة عن منزلة الأنبياء المعصومينعليهم‌السلام ؛ فإنّهم وإنْ بلغوا بسبب التفكير والذكر المتواصل، والتصفية والرياضة إلى حيث لا يُبارحون طريق الطاعة، ولا يسلكون إلى المعصية طريقاً، لكنّهم في حاجة إلى مَن يسلك بهم السّبيل الواضح، ويُميّز لهم موارد الطَّاعة وموادّها عن مساقط العصيان والتهلكة، بخلاف الحُججِ المـُقيَّضين لإنقاذ البشر، المعنيّون بالعصمة ها هنا.

فمَن كانت عصمتُهُ واجبةً - كما في المعصومينعليهم‌السلام - سُمّيت عصمته استكفائية؛ لأنّه لا يحتاج في سلوكه إلى الغير، لكونه في غنىً عن أيّ حجّة؛ لتوفّر ما اُفيض عليهم من العلم والبصائر، ومَن لم تكنْ فيه العصمة واجبة، وكان مُحتاجاً إلى غيره في سلوكه وطاعته، سُمّيت عصمته غير استكفائية، على تفاوتٍ في مراتبهم من حيث المعرفة والعلم واليقين.

وحينئذ ليس من البدع إذا قلنا: إنّ ( قمر بني هاشم ) كان مُتحلِّياً بهذه الحلية، بعد أنْ يكون مُصاغاً من نور القداسة الذي لا يمازجه أيُّ شين، وعلى هذا كان معتقد شيخ الطَّائفة وإمامها

٢١١

الحجّة الشيخ محمّد طه نجفقدس‌سره ؛ فإنّه قال بترجمة العبّاس من كتاب (إتقان المقال) ص٧٥: هو أجلّ من أنْ يُذكر في المقام، بل المناسب أنْ يُذكر عند ذكر أهل بيته المعصومين عليه وعليهم أفضل التحية والسّلام.

فتراه لم يقلْ عند ذكر رجالات أهل بيته الأعاظم، بل أثبت المعصومينعليهم‌السلام منهم، وليس هذا العدول إلاّ لأنّه يرتأي أنْ يجعله في صفِّهم، ويعدُّه منهم.

وتابعه على ذلك العلاّمة ميرزا محمّد علي الاُوردبادي، فقال من قصيدته المـُتقدّمة:

أجلَّ عبّاسَ الكِتَابُ والهُدَى

والعِلْمُ والدَّينُ وأصحَابُ العَبا

عَنْ أنْ يطِيشَ سَهمُهُ فَينثَنِي

والإثمُ قَد أثقَلَ مِنهُ مَنْكِبَا

لم نَشتَرِط فِي ابنِ النّبيِّ عُصمةً

ولا نَقولُ إنّه قَد أذْنَبَا

وَلا أَقولُ غَيرَ مَا قَالَ بِهِ

( طَه الإمامُ ) فِي الرِّجَالِ النُّجبَا

فَالفِعْلُ مِنهُ حُجّةٌ كَقولِهِ

فِي الكُلِّ يَروِي عَن ذَويِهِ النُّقَبَا

وهذه النّظرية في أبي الفضل لم ينكرها عالمٌ من علماء الشيعة نعرفه بالثقافة العلميّة، والتقدّم بالأفكار النّاضجة، وقد استضأنا من اُرجوزة آية اللّه الحجّة الشيخ محمّد حسين الأصفهانيرحمه‌الله ، التي ستقرأها في فصل المديح، حقائقَ راهنة وكرائمَ نفيسة سمت بأبي الفضل إلى أوج العظمة، وأخذت به إلى حظائر القدس، وصعدت به إلى أعلى مرتبة من العصمّة.

وممّا يزيدنا بصيرة في عصمته، ما ذكرناه سابقاً في شرح قول الصادقعليه‌السلام :« لَعنَ اللّهُ اُمّةً استحلَّتْ منكَ المَحارمَ، وانْتَهكَتْ في قتلِكَ حُرمةَ الإسلامِ » .

٢١٢

فإنّ حُرمة الإسلام لا تُنتهك بقتل أيِّ مسلم مهما كان عظيماً، ومهما كان أثره في الإسلام مشكوراً، إلاّ أنْ يكون هو الإمام المعصومعليه‌السلام ، فلو لم يبلغ العبّاس المراتب السّماوية في العلم والعمل لمقام أهل البيتعليهم‌السلام لما استحقّ هذا الخطاب، وهذا معنى العصمة؛ نعم، هي غير واجبة.

وممّا يستأنس منه العصمة له ما تقدّم من قول السجّادعليه‌السلام :« وإنّ لعمّي العبّاسِ منزلةً يغبطُهُ عليها جميعُ الشُّهداء يومَ القيامة » (١) . ويدخل في عموم لفظ الشُّهداء صريحة بيت الوحي ( أبو الحسن علي الأكبر ) الذي أفضنا القول في عصمته.

وإذا كان العبّاس غير معصوم، كيف يغبطه المعصومعليه‌السلام على ما اُعطي من رفعة ومقام عالي؛ لأنّ المعصوم لا يغبط غيره؟! فلا بدّ أن للعبّاس أعلى مرتبة من العصمة كما عرفت، ومن هنا غبط منزلته التي اُعدّت له جميع الشُّهداء حتّى مَن كان معصوماً كعلي الأكبر وأمثاله، غير الأئمة صلوات اللّه عليهم أجمعين.

____________________

(١) الأمالي للشيخ الصدوق / ٥٤٨، الخصال / ٦٨، بحار الأنوار ٢٢ / ٢٧٤، والنّص:« وإنّ للعبّاسِ عند اللّه تبارك وتعالى منزلةً عظيمةً يغبطُهُ بها جميعُ الشُّهداءِ يومَ القيامة » .

٢١٣

الكرامات:

من سُنن اللّه الجارية في أوليائه:( ولَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً ) (١) إكرامهم بإظهار ما لهم من الكرامة عليه والزلفى منه، وذلك غير ما ادّخره لهم من المثوبات الجزيلة في الآجلة؛ تقديراً لعملهم، وإصحاراً بحقيقة أمرهم ومبلغ نفوسهم من القوّة، وحثّاً للملأ على اقتفاء آثارهم في الطاعة.

ومهما كان العبد يخفي الصالحات من أعماله فالمولى سبحانه يراغم ذلك الإخفاء بإشهار فضله، كما يقتضيه لطفه الشامل ورحمته الواسعة وبرّه المتواصل، وأنّه - جلّت آلاؤه - يُظهر الجميل من أفعال العباد، ويزوي القبيح؛ رأفة منه وحناناً عليهم.

ومن هذا الباب ما نجده على مشاهد المـُقرّبين وقباب المـُستشهَدين في سبيل طاعته؛ من آثار العظمة، وآيات الجلالة، من إنجاح المـُتوسّل بهم إليه تعالى شأنه، وإجابة الدعوات تحت قبابهم المـُقدّسة، وإزالة المثُلات ببركاتهم، وتتأكّد الحالة إذا كان المشهد لأحد رجالات البيت النّبويِّ؛ لأنّه جلّت حكمته ذرأ العالمين لأجلهم، ولأنْ يعرفوا مكانتهم، فيحتذوا أمثالهم في الأحكام والأخلاق، فكان من المـُحتّم في باب لطفه وكرمه - عظمت نعمُهُ - أنْ يصحرَ النّاس بفضلهم الظاهر.

____________________

(١) سورة فاطر / ٤٣.

٢١٤

ومن سادات ذلك البيت الطاهر، الذي أذن اللّه أنْ يُرفع فيه اسمه، أبو الفضل العبّاس، فإنّه في الطليعة من اُولئك السّادات، وقد بذل في اللّه ما عزّ لديه وهان حتّى اتّصلت النّوبة إلى نفسه الكريمة التي لفظها نصب عينه - عزّ ذكره -، فأجرى سنَّته الجارية في الصدِّيقين فيه بأجلى مظاهره؛ ولذلك تجد مشهده المـُقدّس في آناء الليل وأطراف النّهار مزدلف أرباب الحوائج؛ من عافٍ يستمنحه برَّه، إلى عليلٍ يتطلّب عافيته، إلى مُضطَهدٍ يتحرّى كشف ما به من غمٍّ، إلى خائفٍ ينضوي إلى حمى أمنه، إلى أنواع من أهل المقاصد المتنوّعة، فينكفأ ثلج الفؤاد بنُجح طلبته، قرير العين بكفاية أمره إلى مُتنجّز بإعطاء سؤله، كلّ هذا ليس على اللّه بعزيز، ولا من المـُقرّبين من عباده ببعيد.

ولكثرة كراماته وآيات مرقده التي لا يأتي عليها الحصر، نذكر بعضاً منها تيمّناً؛ ولئلاّ يخلو الكتاب منها، وتعريفاً للقرَّاء بما جاد به قطبُ السّخاء على مَن لاذ به واستجار بتربته:

الاُولى:

ما يُحدّث به الشيخ الجليل العلاّمة المتبحّر الشيخ عبد الرحيم التستري، المـُتوفّى سنة ١٣١٣ هـ، من تلامذة الشيخ الأنصاري أعلى اللّه مقامه، قال:

زرتُ الإمام الشهيد أبا عبد اللّه الحسينعليه‌السلام ، ثُمّ قصدت أبا الفضل العبّاسعليه‌السلام ، وبينا أنا في الحرم الأقدس إذ رأيتُ زائراً من الأعراب ومعه غلامٌ مشلولٌ، وربطه بالشباك، وتوسّل به وتضرّع، وإذا الغلام قد نهض وليس به علّة، وهو يصيح: شافاني العبّاس. فاجتمع النّاس عليه، وخرّقوا ثيابه للتبرّك به.

٢١٥

فلمـّا أبصرت هذا بعيني، تقدّمت نحو الشباك وعاتبته عتاباً مُقذعاً، وقلت: يغتنم ( المعيدي ) الجاهل منك المـُنى وينكفأ مسروراً، وأنا مع ما أحمله من العلم والمعرفة فيك، والتأدّب في المثول أمامك، أرجع خائباً لا تقضي حاجتي؟! فلا أزورك بعد هذا أبداً. ثُمّ راجعتني نفسي، وتنبّهت لجافّي عتبي، فاستغفرت ربي سبحانه ممّا أسأت مع ( عباس اليقين والهداية ).

ولمـّا عُدت إلى النّجف الأشرف، أتاني الشيخ المرتضى الأنصاري، قدّس اللّه روحه الزاكية، وأخرج صرّتين، وقال: هذا ما طلبته من أبي الفضل العبّاس، اشتري داراً، وحجّ البيت الحرام، ولأجلهما كان توسّلي بأبي الفضل(١) .

ومَا عَجِبتُ مِنْ أبي الفَضلِ كَما

عَجبتُ مِنْ اُستَاذِنَا إذ عَلما

لأنّ شِبلَ المـُرتَضى لَمْ يَغربِ

إذا أتى بمُعجِزٍ أو مُعْجَبِ

بِكُلِّ يَومٍ بَلْ بِكُلِّ سَاعهْ

لَمَن أتَاهُ قَاصِداً رِبَاعَهْ

وهُوَ مِن الشَّيخِ عَجِيبٌ بَيّنْ

لكنَّ نُورَ اللّهِ يَرنُو المـُؤمِنْ(٢)

الثانية:

ما في أسرار الشهادة ص٣٢٥، قال: حدّثني السيّد الأجل، العلاّمة الخبير، السيّد أحمد ابن الحُجّة المـُتتبّع السيّد نصر اللّه المـُدرّس الحائري، قال: بينا أنا في جمع من الخُدّام في صحن أبي الفضلعليه‌السلام ، إذ رأينا رجلاً خارجاً من الحرم مُسرعاً، واضعاً يده على أصل خنصره والدَّم يسيل منه، فأوقفناه نتعرّف خبره،

____________________

(١) طُبعت هذه الكرامة مع صلاة الشيخ الأنصاري، وذكرها في الكبريت الأحمر ج٣ ص٥٠، قال: وذكرها عنه جماعة من أكابر العلماء والثّقات المـُتديّنين.

(٢) للعلاّمة الشيخ محمّد السّماوي.

٢١٦

فأعلمنا بأنّ العبّاس قطعه، فرجعنا إلى الحرم فإذا الخنصر معلّق بالشباك ولم يقطر منه دمٌ، كأنّه قُطع من ميّت، ومات الرجل من الغد؛ وذلك لصدور إهانة منه في الحرم المـُقدّس.

الثالثة:

ما حدّثني به العلاّمة البارع الشيخ حسن دخيل حفظه اللّه عمّا شاهده بنفسه في حرم أبي الفضلعليه‌السلام ، قال: زرت الحسينعليه‌السلام في غير أيّام الزيارة، وذلك في أواخر أيّام الدولة العثمانيّة في العراق، في فصل الصّيف، وبعد أنْ فرغت من زيارة الحسينعليه‌السلام توجّهت إلى زيارة العبّاسعليه‌السلام قرب الزوال، فلم أجد في الصحن الشريف والحرم المـُطهّر أحداً، لحرارة الهواء، غير رجل من الخَدَمة واقف عند الباب الأوّل، يُقدّر عمره بالسّتّين سنة، كأنّه مراقبٌ للحرم، وبعد أنْ زرتُ صلّيت الظهر والعصر، ثُمّ جلست عند الرأس المـُقدّس مُفكِّراً في الاُبّهة والعظمة التي نالها قمر بني هاشم عن تلك التضحية الشريفة.

وبينا أنا في هذا إذ رأيت امرأة مُحجّبة من القرن إلى القدم، عليها آثار الجلالة، وخلفها غلام يُقدّر بالسّتّة عشر سنة بزيِّ أشراف الأكراد، جميل الصورة، فطافت بالقبر والولد تابع، ثُمّ دخل بعدهما رجل طويل القامة، أبيض اللون مُشرباً بحمرة، ذو لحيةٍ، شعره أشقر يُخالطه شعرات بيض، جميل البزّة، كردي اللباس والزَّيِّ، فلم يأت بما تصنعه الشيعة من الزيارة أو السُّنّة من الفاتحة، فاستدبر القبر المـُطهّر، وأخذ ينظر إلى السّيوف والخناجر والدرق المـُعلّقة في الحضرة، غير مُكترثٍ بعظمة صاحب الحرم المنيع، فتعجّبتُ منه أشدّ العجب، ولم أعرف الملّة التي ينتحلها، غير أنّي اعتقدت أنّه من مُتعلّقي المرأة والولد،

٢١٧

وظهر لي من المرأة، عند وصولها في الطواف إلى جهة الرأس الشريف، التعجّب ممّا عليه الرجل من الغواية، ومن صبر أبي الفضلعليه‌السلام عنه، فما رأيت إلاّ ذلك الرجل الطويل القامة قد ارتفع عن الأرض، ولم أرَ مَن رفعه وضرب به الشباك المـُطهّر، وأخذ ينبح ويدور حول القبر وهو يقفز، فلا هو بملتصقٍ بالقبر ولا بمُبتعدٍ عنه، كأنّه مُتكهربٌ به، وقد تشنّجت أصابعُ يديه، وأحمرّ وجههُ حُمرةً شديدة، ثُمّ صار أزرقاً، وكانت عنده ساعة علّقها برقبته بزنجيل فضّة، فكُلّما يقفز تضرب بالقبر حتّى تكسّرت، وحيث إنّه أخرج يده من عباءته لم تسقط إلى الأرض؛ نعم، سقط الطرف الآخر إلى الأرض، وبتلك القفزات تخرّقت.

أمّا المرأة، فحينما شاهدت هذه الكرامة من أبي الفضلعليه‌السلام قبضت على الولد، وأسندت ظهرها إلى الجدار، وهي تتوسّل به بهذه اللهجة: ( أبو الفضل دخيلك أنا وولدي ).

فأدهشني هذا الحال، وبقيت واقفاً لا أدري ما أصنع، والرجل قويُّ البدن، وليس في الحرم أحدٌ يقبض عليه، فدار حول القبر مرّتين وهو ينبح ويقفز، فرأيت ذلك السيّد الخادم الذي كان واقفاً عند الباب الأوّل دخل الروضة الشريفة، فشاهد الحال فرجع، وسمعته يُنادي رجلاً اسمه جعفر - من السّادة الخُدّام في الروضة - فجاءا معاً، فقال السيّد الكبير لجعفر: اقبض على الطرف الآخر من الحزام - وكان طول الحزام يبلغ ثلاثة أذرع - فوقفا عند القبر حتّى إذا وصل إليهما وضعا الحزام في عنقه وأداراه عليه، فوقف طيِّعاً لكنّه ينبح، فأخرجاه من حرم العبّاس، وقالا للمرأة: اتبعينا إلى ( مشهد الحسين ).

فخرجوا جميعاً وأنا معهم، ولم يكنْ أحدٌ في

٢١٨

الصحن الشريف، فلمـّا صرنا في السّوق بين ( الحَرَمين ) تبعنا الواحد والاثنان من النّاس؛ لأنّ الرجل كان على حالته من النّبح والاضطراب، مكشوفَ الرأس، ثُمّ تكاثر النّاس.

فأدخلوه ( المشهد الحُسيني ) وربطوه بشباك ( علي الأكبر )، فهدأت حالته ونام، وقد عرق عَرقاً شديداً، فما مضى إلاّ ربع ساعة فإذا به قد انتبه مرعوباً، وهو يقول: أشهد أنْ لا إله إلاّ الله وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله، وأنّ أمير المؤمنين عليَّ بن أبي طالب خليفةُ رسول اللّه بلا فصل، وأنّ الخليفة من بعده ولده الحسنُ، ثُمّ أخوه الحسينُ، ثُمّ عليُّ بنُ الحسين. وعدّ الأئمّة إلى الحُجّة المهدي عجّل اللّه فرجه.

فسُئل عن ذلك، قال: إنّي رأيت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله الآن وهو يقول لي:« اعتَرِفْ بهؤلاء وعدَّهُمْ عليَّ، وإنْ لمْ تفعلْ يُهلككَ العبّاسُ » . فأنّا أشهد بهم وأتبرّأ من غيرهم.

ثُمّ سُئل عمّا شاهده هناك، فقال: بينا أنا في حرم العبّاس إذ رأيت رجلاً طويل القامة قَبض عليَّ، وقال لي: يا كلب إلى الآن بعدك على الضلال. ثُمّ ضرب بي القبر، ولم يزل يضربني بالعصا في قفاي وأنا أفرّ منه.

ثُمّ سألت المرأة عن قصّة الرجل، فقالت: إنّها شيعية من أهل بغداد، والرجل سُنّي من أهل السّليمانيّة ساكن في بغداد، مُتديّن بمذهبه، لا يعمل الفسوق والمعاصي، يُحب الخصال الحميدة، ويتنزّه عن الذميمة، وهو ( بندرجي تُتن )، وللمرأة أخوان حرفتهما بيع التُّتن، ومعاملتهما مع الرجل، فبلغ دَينُهُ عليهما مئتا ( ليرة عثمانية )، فاستقرّ رأيهما على بيع الدار منه والمهاجرة من بغداد،

٢١٩

فأحضراه في دارهما ( ظهراً )، وأطلعاه على رأيهما، وعرّفاه أنّه لم يكن دَين عليهما لغيره، فعندها أبدى من الشهامة شيئاً عجيباً، فأخرج الأوراق وخرّقها ثُمّ أحرقها، وطمأنهما على الإعانة مهما يحتاجان.

فطارا فرحاً، وأرادا مجازاته في الحال، فذاكرا المرأة على التزويج منه، فوجدا منه الرغبة فيه؛ لوقوفها على هذا الفضل مع ما فيه من التمسّك بالدِّين واجتناب الدَّنايا، وقد طلب منهما مراراً اختيار المرأة الصالحة له، فلمـّا ذكرا له ذلك زاد سروره، وانشرح صدره بحصول اُمنيته، فعقدا له من المرأة وتزوّج منها.

ولمـّا حصلت عنده، طلبت منه زيارة الكاظميَّينعليهما‌السلام إذ لم تزرهما مدّة كونها بلا زوج، فلم يجبها، مُدَّعياً أنّه من الخرافات، ولمـّا ظهر عليها الحمل سألته أنْ ينذر الزيارة إنْ رُزق ولداً، ففعل، ولمـّا جاءت بالولد طالبته بالزيارة، فقال: لا أفِ بالنّذر حتّى يبلغ الولد. فأيست المرأة، ولمـّا بلغ الولد السّنة الخامسة عشر طلب منها اختيار الزوجة، فأبت ما دام لم يفِ بالنّذر، فعندها وافقها على الزيارة مكرهاً، وطلبت من الجوادَينعليهما‌السلام الكرامة الباهرة ليعتقد بإمامتهما، فلم ترَ منهما ما يسرّها، بل أساءها سخريته واستهزاؤه.

ثُمّ ذهب الرجل بالمرأة والولد إلى العسكريَّينعليهما‌السلام وتوسّلت بهما، وذكرت قصة الرجل، فلم تشرق عليه أنوارهما، وزادت السّخرية منه، ولمـّا وصلا كربلاء قالت المرأة: نقدّم زيارة العبّاسعليه‌السلام ، وإذا لم تظهر منه الكرامة، وهو أبو الفضل وباب الحوائج، لا أزور أخاه الشهيد، ولا أباه أمير المؤمنين، وارجع إلى بغداد. وقصّت على

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

فتحصّنوا عنه بالحصون، وتمادى بهم التحصّن قريباً من سنة ونصف حتّى ظهر فيهم القحط والوباء.

وأصرّ بخت نصّر على المحاصرة حتّى فتح الحصون، وذلك في سنة خمسمائة وستّ وثمانين قبل المسيح، وقتل نفوسهم، وخرب ديارهم وخرّبوا بيت الله وأفنوا كلّ آية وعلامة دينيّة وبدّلوا هيكلهم تلّاً من تراب، وفقدت عند ذلك التوراة والتابوت الّذي كانت تجعل فيه.

وبقى الأمر على هذا الحال خمسين سنة تقريباً وهم قاطنون ببابل وليس من كتابهم عين ولا أثر ولا من مسجدهم وديارهم إلّا تلال ورياع.

ثمّ لمّا جلس كورش من ملوك فارس على سرير الملك وكان من أمره مع البابليّين ما كان وفتح بابل ودخله أطلق اُسراء بابل من بني اسرائيل وكان عزرا المعروف من المقرّبين عنده فأمّره عليهم وأجاز له أن يكتب لهم كتابهم التوراة ويبني لهم الهيكل ويعيدهم إلى سيرتهم الاُولى وكان رجوع عزرا بهم إلى بيت المقدس سنة أربعمائة وسبعة وخمسين قبل المسيح وبعد ذلك جمع عزرا كتب العهد العتيق وصحّحها وهي التوراة الدائرة اليوم(١) .

وأنت ترى بعد التدبّر في القصّة أنّ سند التوراة الدائرة اليوم مقطوعة غير متّصلة بموسى (عليه السلام) إلّا بواحد (وهو عزرا) لا نعرفه أوّلاً ولا نعرف كيفيّة اطّلاعه وتعمّقه ثانياً ولا نعرف مقدار أمانته ثالثاً، ولا نعرف من أين أخذ ما جمعه من أسفار التوراة رابعاً، ولا ندري بالاستناد إلى أيّ مستند صحّح الأغلاط الواقعة أو الدائرة خامساً.

وقد أعقبت هذه الحادثة المشئومة أثراً مشئوماً آخر وهو إنكار عدّة من باحثي المورّخين من الغربيّين وجود موسى وما يتبعه، وقولهم: إنّه شخص خياليّ كما قيل

____________________

(١) مأخوذ من قاموس الكتاب المقدّس تأليف مستر هاكس الامريكائي الهمداني ومآخذ اُخرى من التواريخ.

٣٤١

نظيره في المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام. لكنّ ذلك لا يسع لمسلم فإنّ القرآن الشريف يصرّح بوجوده (عليه السلام) وينصّ عليه.

٢ - قصّة المسيح والإنجيل:

اليهود مهتمون بتاريخ قوميّتهم وضبط الحوادث الظاهرة في الأعصار الّتي مرّت بهم، ومع ذلك فإنّك لو تتبّعت كتبهم ومسفوراتهم لم تعثر فيها على ذكر المسيح عيسى بن مريم (عليه السلام): لا على كيفيّة ولادته ولا على ظهوره ودعوته ولا على سيرته والآيات الّتي أظهرها الله على يديه ولا على خاتمة حياته من موت أو قتل أو صلب أو غير ذلك. فما هو السبب في ذلك؟ وما هو الّذي أوجب خفاء أمره عليهم أو إخفائهم أمره؟

والقرآن يذكر عنهم أنّهم قذفوا مريم ورموها بالبهتان في ولادة عيسى، وأنّهم ادّعوا قتل عيسى. قال تعالى:( وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً وقولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم وإنّ الّذين اختلفوا فيه لفي شكّ منه ما لهم به من علم إلّا اتّباع الظنّ وما قتلوه يقيناً ) النساء - ١٥٧.

فهل كانت دعواهم تلك مستندة إلى حديث دائر بينهم كانوا يذكرونه بين قصصهم القوميّة من غير أن يكون مودعاً في كتاب؟ وعند كلّ اُمّة أحاديث دائرة من واقعيّات وأساطير لا اعتبار بها ما لم تنته إلى مآخذ صحيحة قويمة.

أو أنّهم سمعوا من النصارى الذكر المكرّر من المسيح وولادته وظهوره ودعوته فأخذوا ذلك من أفواههم وباهتوا مريم، وادّعوا قتل المسيح؟ لا طريق إلى استبانة شئ من ذلك غير أنّ القرآن - كما يظهر بالتدبّر في الآية السابقة - لا ينسب إليهم صريحاً إلّا دعوى القتل دون الصلب، ويذكر أنّهم على ريب من الأمر وأنّ هناك اختلافاً.

وأمّا حقيقة ما عند النصارى من قصّة المسيح وأمر الإنجيل والبشارة فهي أنّ قصّته (عليه السلام) وما يتعلّق بها تنتهي عندهم إلى الكتب المقدّسة عندهم وهي الأناجيل الأربعة الّتي هي أناجيل متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا، وكتاب أعمال الرسل للوقا،

٣٤٢

وعدّة رسائل لبولس وبطرس ويعقوب ويوحنّا ويهودا. واعتبار الجميع ينتهي إلى اعتبار الأناجيل فلنشتغل بها:

أمّا إنجيل متّى فهو أقدم الأناجيل في تصنيفه وانتشاره ذكر بعضهم أنّه صنّف سنة ٣٨ الميلاديّة، وذكر آخرون أنّه كتب ما بين سنة ٥٠ إلى سنة ٦٠(١) فهو مؤلّف بعد المسيح.

والمحقّقون من قدمائهم ومتأخّريّهم على أنّه كان أصله مكتوباً بالعبرانيّة ثمّ ترجم إلى اليونانيّة وغيرها أمّا النسخة الأصليّة العبرانيّة فمفقودة، وأمّا الترجمة فلا يدري حالها، ولا يعرف مترجمها(٢) .

وأمّا إنجيل مرقس: فمرقس هذا كان تلميذاً لبطرس، ولم يكن من الحواريّين وربّما ذكروا أنّه إنّما كتب إنجيله بإشارة بطرس وأمره، وكان لا يرى إلهيّة المسيح(٣) ولذلك ذكر بعضهم أنّه إنّما كتب إنجيله للعشائر وأهل القرى فعرّف المسيح تعريف رسول إلهيّ مبلّغ لشرائع الله(٤) وكيف كان فقد كتب إنجيله سنة ٦١ ميلاديّة.

وأما إنجيل لوقا: فلوقا هذا لم يكن حواريّاً ولا رأى المسيح وإنّما تلقّن النصرانيّة من بولس، وبولس كان يهوديّاً متعصّباً على النصرانيّة يوذي المؤمنين بالمسيح ويقلّب الاُمور عليهم ثمّ اتّفق مفاجأة أن ادّعى أنّه صرع وفي حال الصرع لمسه المسيح ولامه وزجره عن الإساءة إلى متّبعيه وأنّه آمن بالمسيح وأرسله المسيح ليبشّر بإنجيله.

____________________

(١) قاموس الكتاب المقدّس للمستر هاكس مادّة - متى.

 (٢) كتاب ميزان الحقّ واعتراف به على تردّد في قاموس الكتاب المقدّس.

 (٣) نقل ذلك عبد الوهّاب النجّار في قصص الأنبياء عن كتاب مروج الاخبار في تراجم الاخبار لبطرس قرماج.

(٤) ذكره في قاموس الكتاب المقدّس. يقول فيه: إن نصّ تواتر السلف على أن مرقس كتب إنجيله برومية وانتشر بعد وفاة بطرس وبولس لكنّه ليس له كثير اعتبار لأن ظاهر إنجيله أنّه كتبه لأهل القبائل والقرويين لا لأهل البلاد وخاصّة الروميّة. فتدبّر في كلامه !

٣٤٣

وبولس هذا هو الّذي شيّد أركان النصرانيّة الحاضرة على ما هي عليها(١) فبني التعليم على أنّ الإيمان بالمسيح كاف في النجاة من دون عمل وأباح لهم أكل الميتة ولحم الخنزير ونهى عن الختنة وكثير ممّا في التوراة(٢) مع أنّ الإنجيل لم يأت إلّا مصدّقاً لما بين يديه من التوراة، ولم يحلّل إلّا أشياء معدودة. وبالجملة إنّما جاء عيسى ليقوّم شريعة التوراة ويردّ إليها المنحرفين والفاسقين لا ليبطل العمل ويقصر السعادة على الإيمان الخالي.

وقد كتب لوقا إنجيله بعد إنجيل مرقس. وذلك بعد موت بطرس وبولس. وقد صرّح جمع بأنّ إنجيله ليس كتاباً إلهاميّاً كسائر الأناجيل(٣) كما يدلّ عليه ما وقع في مبتدء إنجيله.

وأمّا إنجيل يوحنّا فقد ذكر كثير من النصارى أنّ يوحنّا هذا هو يوحنّا بن زبديّ الصيّاد أحد التلاميذ الإثنى عشر (الحواريّين) الّذي كان يحبّه المسيح حبّاً شديداً(٤) .

وذكروا أنّ (شيرينطوس) و(أبيسون) وجماعتهما لمّا كانوا يرون أنّ المسيح ليس إلّا إنساناً مخلوقاً لا يسبق وجوده وجود اُمّه اجتمعت أساقفة آسيا وغيرهم في سنة ٩٦

____________________

(١) راجع مادّة بولس من قاموس الكتاب المقدّس.

(٢) راجع كتاب أعمال الرسل ورسائل بولس.

(٣) قال في أوّل إنجيل لوقا:( لأجل أن كثيرين راموا كتب قصص الاُمور الّتي نحن بها عارفون كما عهد الينا اولئك الأوّلون الّذين كانوا من قبل معاينين وكانوا خداما للكلمة رأيت أنا أيضاً إذ كنت تابعا لكلّ شئ بتحقيق أن أكتب اليك أيّها العزيز ثاوفيلا) ودلالته على كون الكتاب نظريا غير إلهامي ظاهرة وقد نقل ذلك أيضاً عن مستر كدل في رسالة اللّهمّ وصرح جيروم أن بعض القدماء كانوا يشكون في البابين الأوّلين من إنجيل لوقا وأنّهما ما كانا في نسخة فرقة مارسيوني وجزم إكهارن في كتابه ص ٩٥ أن من ف ٤٣ إلى ٤٧ من الباب ٢٢ من إنجيل لوقا الحاقية وذكر إكهارن أيضاً في ص ٦١ من كتابه: قد اختلط الكذب الروائي ببيان المعجزات الّتي نقلها لوقا والكاتب ضمه على طريق المبالغة الشاعرية لكن تمييز الصدق عن الكذب في هذا الزمان عسير وقول:( كلي مي شيس أن متّى ومرقس يتخالفان في التحرير وإذا اتفقا ترجح قولهما على قول لوقا) نقل عن قصص الأنبياء للنجّار - ص ٤٧٧.

(٤) راجع قاموس الكتاب المقدّس مادّة يوحنّا.

٣٤٤

ميلاديّة عند يوحنّا والتمسوا منه أن يكتب ما لم يكتبه الآخرون في أناجيلهم ويبيّن بنوع خصوصيّ لاهوت المسيح فلم يسعه أن ينكر إجابة طلبهم(١) .

وقد اختلفت كلماتهم في السنة الّتي اُلّف فيها هذا الإنجيل فمن قائل أنّها سنة ٦٥ وقائل أنّها سنة ٩٦ وقائل أنّها سند ٩٨.

وقال جمع منهم إنّه ليس تأليف يوحنّا التلميذ: فبعضهم على أنّه تأليف طالب من طلبة المدرسة الاسكندريّة(٢) وبعضهم على أنّ هذا الإنجيل كلّه وكذا رسائل يوحنّا ليست من تصنيفه بل إنّما صنّفه بعضهم في ابتداء القرن الثاني، ونسبه إلى يوحنّا ليعتربه الناس(٣) وبعضهم على أنّ إنجيل يوحنّا كان في الأصل عشرين باباً فألحقت كنيسة (أفاس) الباب الحادي والعشرين بعد موت يوحنّا(٤) فهذه حال هذه الأناجيل الأربعة وإذا أخذنا بالقدر المتيقّن من هذه الطرق انتهت إلى سبعة رجال هم: متّى، مرقس، لوقا، يوحنّا، بطرس، بولس، يهوذا، ينتهي ركونهم كلّه إلى هذه الأناجيل الأربعة وينتهي الأربعة إلى واحد هو أقدمها وأسبقها وهو إنجيل متّى وقد مرّ أنّه ترجمة مفقود الأصل لا يدري من الّذي ترجمه؟ وكيف كان أصله. وعلى ما ذا كان يبني تعليمه أبرسالة المسيح أم باُلوهيّته.

وهذا الإنجيل الموجود يترجم أنّه ظهر في بني إسرائيل رجل يدعى عيسى بن يوسف النجّار وأقام الدعوة إلى الله، وكان يدّعي أنّه ابن الله مولود من غير أب بشريّ وأنّ أباه أرسله ليفدي به الناس عن ذنوبهم بالصلب والقتل، وأنّه أحيى الميّت وأبرء الأكمه والأبرص وشفى المجانين بإخراج الجنّ من أبدانهم، وأنّه كان له إثنا عشر تلميذاً: أحدهم متّى صاحب الإنجيل بارك لهم وأرسلهم للدعوة وتبليغ الدين المسيحيّ إلخ.

____________________

(١) نقله في قصص الأنبياء عند جرجس زوين الفتوحي اللبناني في كتابه.

 (٢) نقل ذلك من كتاب (كاتلك هر الد) في المجلد السابع المطبوع سنة ١٨٤٤ ص ٢٠٥ نقله عن استادلن (عن القصص) وأشار إليه في القاموس في مادّة يوحنّا.

 (٣) قال ذلك (بر طشنيدر) على ما نقل عن كتاب الفاروق المجلد الأوّل (عن القصص).

(٤) المدرك السابق.

٣٤٥

 فهذا ملخّص ما تنتهى إليه الدعوة المسيحيّة على انبساطها على شرق الأرض وغربها، وهو لا يزيد على خبر واحد مجهول الاسم والرسم، مبهم العين والوصف.

وهذا الوهن العجيب في مبدء القصّة هو الّذي أوجب لبعض أحرار الباحثين من اُروبه أن أدّعى أنّ المسيح عيسى بن مريم شخص خياليّ صوّره بعض النزعات الدينيّة على حكومات الوقت أو لها وتأيّد ذلك بموضوع خرافيّ آخر يشبهه كلّ الشبه في جميع شئون القصّة وهو موضوع (كرشنا) الّذي تدّعي وثنيّة الهند القديمة أنّه ابن الله نزل عن لاهوته، وفدى الناس بنفسه صلباً ليخلّصهم من الأوزار والخطايا كما يدّعى في عيسى المسيح حذو النعل بالنعل (كما سيجئ ذكره).

وأوجب لآخرين من منتقدي الباحثين أن يذهبوا إلى أنّ هناك شخصين مسمّيين بالمسيح: المسيح غير المصلوب، والمسيح المصلوب. وبينهما من الزمان ما يزيد على خمسة قرون.

وأنّ التاريخ الميلاديّ الّذي سنتنا هذه سنة الف وتسعمائة وستّة وخمسين منه لا ينطبق على واحد منهما بل المسيح الأوّل غير المصلوب يتقدّم عليه بما يزيد على مأتين وخمسين سنة وقد عاش نحواً من ستّين سنة والمسيح الثاني المصلوب يتأخّر عنه بما يزيد على مأتين وتسعين سنة وقد عاش نحواً من ثلاث وثلاثين سنة(١)

على أنّ عدم انطباق التاريخ الميلاديّ على ميلاد المسيح في الجملة ممّا لم يسع للنصارى إنكاره(٢) وهو سكتة تاريخيّة.

على أنّ هيهنا اُموراً مريبة موهمة اُخرى فقد ذكروا أنّه كتب في القرنين الأوّلين من الميلاد أناجيل كثيرة اُخرى ربّما أنهوها إلى نيّف ومائة من الأناجيل والأناجيل الأربعة منها ثمّ حرّمت الكنيسة جميع تلك الأناجيل إلّا الأناجيل الأربعة

____________________

(١) وقد فصل القول في ذلك الزعيم الفاضل (بهروز) في كتاب ألفه جديداً في البشارات النبوّية وأرجو أن أوفق لايداع شذرة منه في تفسير آخر سورة النساء من هذا الكتاب والقدر المتيقن (الّذي يهمنا منه) اختلال التاريخ المسيحي.

(٢) راجع مادّة مسيح من قاموس الكتاب المقدس.

٣٤٦

الّتي عرفت قانونيّة لموافقة متونها تعليم الكنيسة(١) .

ومن جملة الأناجيل المتروكة إنجيل برنابا الّذي ظهرت نسخة منها منذ سنين فترجمت إلى العربيّة والفارسيّة، وهو يوافق في عامّة قصصه ما قصّه القرآن في المسيح عيسى بن مريم(٢) .

ومن العجيب أنّ الموادّ التاريخيّة المأثورة عن غير اليهود أيضاً ساكتة عن تفاصيل ما ينسبه الإنجيل إلى الدعوة المسيحيّة من حديث البنوّة والفداء وغيرهما. ذكر المورّخ الإمريكيّ الشهير (هندريك ويلم وان لون) في تأليفه في تاريخ البشر كتاباً كتبه الطبيب (إسكولابيوس كولتلوس) الروميّ سنة ٦٢ الميلاديّة إلى ابن أخيه (جلاديوس أنسا) وكان جنديّاً في عسكر الروم بفلسطين، يذكر فيه أنّه عاد مريضاً بروميّة يسمّى بولس فأعجبه كلامه وقد كان بولس كلّمه بالدعوة المسيحيّة، وذكر له طرفاً من أخبار المسيح ودعوته.

ثمّ يذكر أنّه ترك بولس ولم يره حتّى سمع بعد حين أنّه قتل في طريق (أوستى) ثمّ يسأل ابن أخيه أن يبحث عن أخبار هذا النبيّ الاسرائيليّ الّذي كان يذكره بولس وعن أخبار بولس نفسه ويكتب إليه ما بلغه من ذلك.

____________________

(١) ولقد لام (شيلسوس) الفيلسوف في القرن الثاني النصارى في كتابه (الخطاب الحقيقي) على تلاعبهم بالاناجيل، ومحوهم بالغد ما أدرجوه بالامس، وفي سنة ٣٨٤ م أمر البابا داماسيوس أن تحرر ترجمة لاتينية جديدة من العهدين القديم والحديث تعتبر قانونيّة في الكنائس وكان تيودوسيس الملك قد ضجر من المخاصمات الجدلية بين الاساقفة، وتمت تلك الترجمة الّتي تسمى (فولكانا) وكان ذلك خاصّا بالاناجيل الاربعة: متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا وقد قال مرتب تلك الاناجيل: (بعد أن قابلنا عددا من النسخ اليونانية القديمة رتبناها بمعنى أننا نقحنا ماكان فيها مغايرا للمعنى، وأبقينا الباقي على ماكان عليه) ثمّ إن هذه الترجمة قد ثبتها المجمع (التريدنتيني) سنة ١٥٤٦ أي بعدها بأحد عشر قرنا، ثمّ خطأها سيستوس الخامس سنة ١٥٩٠ وأمر بطبع نسخ جديدة ثمّ خطأ كليمنضوس الثامن هذه النسخة الثانية أيضاً، وأمر بطبعة جديدة منقحة هي الدارجة اليوم عند الكاثوليكيين (تفسير الجواهر - الجزء الثاني - ص ١٢١ الطبعة الثانية).

(٢) وقد وجد هذا الانجيل بالخط الايطالي منذ سنين وترجمه إلى العربيّة الدكتور خليل سعاده بمصر وترجمه إلى الفارسيّة الحبر الفاضل (سردار كابلي) بإيران.

٣٤٧

فكتب إليه (جلاديوس أنسا) بعد ستّة أسابيع من معسكر الروم باُورشليم: أنّي سألت عدّة من شيوخ البلد ومعمّريهم عن عيسى المسيح فوجدتهم لا يحسنون مجاوبتي فيما أسألهم( هذا والسنة سنة ٦٢ ميلاديّة وهم شيوخ !) .

حتّى لقيت بيّاع زيتون فسألته هل يعرفه؟ فأنعم لي في الجواب ثمّ دلّني على رجل اسمه يوسف، و ذكر أنّه كان من أتباعه ومحبّيه وأنّه خبير بقصصه بصير بأخباره يستطيع أن يجيبك فيما تسأله عنه.

فلقيت يوسف اليوم بعد ما تفحّصت أيّاماً فوجدته شيخاً هرماً وقد كان قديماً يصطاد السمك في بعض البحيرات من هذه الناحية.

كان الرجل على كبر سنّه صحيح المشاعر جيّد الحافظة وقصّ لي جميع الأخبار والقضايا الحادثة في ذلك الأوان، أوان الاغتشاش والفتنة.

ذكر أنّ فونتيوس فيلاطوس كان حاكماً على سامرا ويهوديّه في عهد القيصر (تي بريوس).

فاتّفق أن وقع أيّام حكومته فتنة في اُورشليم فسافر فونتيوس فيلاطوس إليه لإخماد ما فيه من نار الفتنة وكانت الفتنة هي ما شاع يومئذ أنّ ابن نجّار من أهل الناصرة يدعو الناس ويستنهضهم على الحكومة.

فلمّا تحقّقوا أمره تبيّن أنّ ابن النجّار المتّهم شابّ عاقل متين لم يرتكب ما يوجب عليه سياسة غير أنّ رؤساء المذهب من اليهود كانوا يخالفونه ويباغضونه بأشدّ ما يكون وقد قالوا لفيلاطوس إنّ هذا الشابّ الناصريّ يقول: لو أنّ يونانيّاً أو روميّاً أو فلسطينيّاً عامل الناس وعاشرهم بالعدالة والشفقة كان عند الله كمن صرف عمره في مطّلعة كتاب الله وتلاوة آياته.

وكأنّ هذه التعرّضات والاقتراحات لم تؤثّر في فيلاطوس أثرها لكنّه لما سمع ازدحام الناس قبال المعبد وهم يريدون أن يقبضوا على عيسى وأصحابه ويقطّعوهم إرباً إرباً رأى أنّ الأصلح أن يقبض هو على هذا الشابّ النجّار ويسجنة حتّى لا يقتل بأيدي الناس في غوغائهم.

٣٤٨

وكان فيلاطوس لم يتّضح له سبب ما ينقمه الناس من عيسى كلّ الاتّضاح وكلّما كلّم الناس في أمره وسألهم واستوضحهم علت أصواتهم وتنادوا (هو كافر) (هو ملحد) (هو خائن) فلم ينته الأمر إلى طائل.

حتّى استقرّ رأي فيلاطوس أن يكلّم عيسى بنفسه فأشخصه وكلّمه وسأله عمّا يقصده بما يبلّغه من الدين فأجابه عيسى أنّه لا يهتمّ بأمر الحكومة والسياسة ولا له في ذلك غرض وأنّه يهتمّ بالحياة الروحانيّة أكثر ممّا يهتمّ بأمر الحياة الجسمانيّة وأنّه يعتقد أنّ الإنسان يجب أن يحسن إلى الناس ويعبد الله الفرد الواحد وحده الّذي هو في حكم الأب لجميع أرباب الحياة من المخلوقات.

وكان فيلاطوس ذا خبرة في مذاهب الرواقيّين وسائر فلاسفة يونان فكأنّه لم ير في ما كلّمه به عيسى موضع غمضة ولا محلّ مؤاخذة ولذلك عزم ثانياً أن يخلّص هذا النبيّ السليم المتين من شرّ اليهود وسوّف في حكم قتله وإنجازه.

لكنّ اليهود لم يرضوا بذلك ولم يتركوه على حاله بل أشاعوا عليه أنّه فتن بأكاذيب عيسى وأقاويله وأنّ فيلاطوس يريد الخيانة على قيصر، وأخذوا يستشهدون عليه ويسجّلون الطوامير على ذلك يريدون به عزله من الحكومة، وقد كان برز قبل ذلك فتن وانقلابات في فلسطين. والقوى المؤمّنة القيصريّة قليلة العدّة لا تقوى على إسكات الناس فيها كلّ القوّة.

وكان على الحكّام وسائر المأمورين من ناحية قيصر أن لا يعاملوا الناس بما يجلب شكواهم وعدم رضايتهم.

فلهذه الأسباب لم ير فيلاطوس بدّاً من أن يفدي هذا الشابّ المسجون للأمن العامّ، ويجيب الناس فيما سألوه من قتله.

وأمّا عيسى فإنّه لم يجزع من الموت بل استقبله على شهامة من نفسه وقد عفى قبل موته عمّن تسبّب إلى قتله من اليهود ثمّ قضى به على الصليب و الناس يسخرون منه ويشتمونه ويسبّونه.

٣٤٩

قال (جلاديوس أنسا) هذا ما قصّ لي يوسف من قصّة عيسى ودموعه تجري على خدّيه وحين ودّعني للمفارقة قدّمت إليه شيئاً من المسكوك الذهبيّ لكنّه أبى أن يأخذه، وقال لي يوجد هيهنا من هو أفقر منّي فأعطه إيّاه.

وسألته عن بولس رفيقك المعهود فما كان يعرفه معرفة تامّة. والقدر الّذي تبيّن من أمره أنّه كان رجلاً خيّاماً ثمّ ترك شغله واشتغل بالتبليغ لهذا المذهب الجديد مذهب الربّ الرؤوف الرحيم الإله الّذي بينه وبين (يهوّه) إله يهود الّذي لا نزال نسمعه من علماء اليهود من الفرق ما هو أبعد ممّا بين السماء والأرض.

والظاهر أنّ بولس سافر أوّلاً إلى آسيا الصغرى ثمّ إلى يونان وأنّه كان يقول للعبيد والأرقّاء إنّهم جميعاً أبناء لأب يحبّهم ويرأف بهم وأنّ السعادة ليست تخصّ بعض الناس دون بعض بل تعمّ جميع الناس من فقير وغنيّ بشرط أن يعاشروا على المواخاة ويعيشوا على الطهارة والصداقة انتهى ملخّصاً.

هذه عامّة فقرات هذا الكتاب ممّا يرتبط بما نحن فيه من البحث.

وبالتأمّل في جمل مضامين هذا الكتاب يتحصّل للمتأمّل أنّ ظهور الدعوة المسيحيّة كيف كان في بني إسرائيل بعيد عيسى (عليه السلام). وأنّه لم يكن إلّا ظهور دعوة نبويّة بالرسالة من عند الله لا ظهور دعوة إلهيّة بظهور اللاهوت ونزولها إليهم وتخليصهم بالفداء!

ثمّ إنّ عدّة من تلامذة عيسى أو المنتسبين إليه كبولس وتلامذة تلامذتهم سافروا بعد وقعة الصلب إلى مختلف أقطار الأرض من الهند وإفريقيّة وروميّة وغيرها وبسطوا الدعوة المسيحيّة لكنّهم لم يلبثوا دون أن اختلفوا في مسائل أصليّة من التعليم كلاهوت المسيح وكفاية الإيمان بالمسيح عن العمل بشريعة موسى وكون دين الإنجيل ديناً أصيلاً ناسخاً لدين موسى أو كونه تابعاً لشريعة التوراة مكمّلاً إيّاها(١) فافترقوا عند ذلك فرقاً.

____________________

(١) يشير إليه كتاب الرسل ووسائل بولس، وقد اعترضت به النصارى

٣٥٠

والّذي يجب الإمعان فيه أنّ الاُمم الّتي بسطت الدعوة المسيحيّة وظهرت فيها أوّل ظهورها كالروم والهند وغيرهما كانوا قبلها منتحلين بالوثنيّة الصابئة أو البرهمنيّة أو البوذائيّة وفيها اُصول من مذاق التصوّف من جهة والفلسفة البرهمنيّة من جهة وفيها جميعاً شطر وافر من ظهور اللاهوت في مظهر الناسوت. على أنّ القول بتثليث الوحدة ونزول اللاهوت في لباس الناسوت وتحمّلها الصلب(١) والعذاب فدائا كان دائراً بين القدماء من وثنيّة الهند والصين ومصر وكلدان والآشور والفرس وكذا قدماء وثنيّة الغرب كالرومان والاسكندناويّين وغيرهم على ما يوجد في الكتب المؤلّفة في الاديان والمذاهب القديمة.

ذكر (دوان) في كتابه (خرافات التوراة وما يماثلها في الأديان الاُخرى): إذا رجعنا البصر إلى الهند نرى أنّ أعظم وأشهر عبادتهم اللاهوتيّة هو التثليث ويسمّون هذا التعليم بلغتهم (ترى مورتى) وهي عبارة مركّبة من كلمتين بلغتهم السنسكريتيّة (ترى) ومعناها الثلاثة و(مورتى) ومعناها هيآت أو أقانيم وهي (برهما، وفشنو، وسيفا) ثلاثة أقانيم متّحدة لا ينفكّ عن الوحدة فهي إله واحد بزعمهم.

ثمّ ذكر: أنّ برهما عندهم هو الأب وفشنو هو الابن، وسيفا هو روح القدس.

ثمّ ذكر أنّهم يدعون سيفا (كرشنا)(٢) الربّ المخلّص والروح العظيم الّذي ولد منه (فشنو) الإله الّذي ظهر بالناسوت على الأرض ليخلّص الناس فهو أحد الأقانيم الثلاثة الّتي هي الإله الواحد.

____________________

(١) القتل بالصلب على الصليب من القواعد القديمة جدّاً فقد كانوا يقتلون من اشتدّ جرمه وفظع دنبه بالصلب الّذي هو من أشدّ أسباب القتل عذاباً وأسوئها ذكراً، وكانت الطريقة فيه أن يصنع من خشبتين تقاطع إحديهما الاُخرى ما هو على شكل الصليب المعروف بحيث ينطبق عليه إنسان لو حمل عليه ثمّ يوضع المجرم عليه مبسوط اليدين ويدق من باطن راحتيه على طرفي الخشبة المعترضة بالمسامير، وكذا تدق قدماه على الخشبة وربّما شدتا من غير دقّ ثمّ تقام الخشبة بنصب طرفها على الأرض بحيث يكون ما بين قدمه إلى الأرض ما يقرب من ذراعين فيبقى الصليب على ذلك يوماً أو أيّاماً ثمّ تكسر قدماه من الساقين ويقتل على الصليب أو ينزل فيقتل بعد الانزال، وكان المصلوب يعذب قبل الصلب بالجلد أو المثلة وكان من العار الشنيع على قوم أن يقتل واحد منهم بالصلب.

(٢) وهو المعبر عنه ابلانكليزية (كرس) وهو المسيح المخلص.

٣٥١

 وذكر أيضاً: أنّهم يرمزون للاُقنوم الثالث بصورة حمامة كما يقوله النصارى.

وقال مستر (فابر) في كتابه (أصل الوثنيّة) كما نجد عند الهنود ثالوثاً مؤلّفاً من (برهما) و(فشنو) و(سيفا) نجد عند البوذيّين ثالوثاً فإنّهم يقولون: إنّ (بوذ) إله له ثلاثة أقانيم. وكذلك بوذيو (جينست) يقولون: إنّ (جيفا) مثلّث الأقانيم.

قال: والصينيّون يعبدون بوذه ويسمّونه (فو) ويقولون إنّه ثلاثة أقانيم كما تقول الهنود.

وقال دوان في كتابه المتقدّم ذكره: وكان قسّيسوا هيكل منفيس بمصر يعبّرون عن الثالوث المقدّس للمبتدئين بتعلّم الدين بقولهم: إنّ الأوّل خلق الثاني والثاني خلق الثالث وبذلك تمّ الثالوث المقدّس.

وسأل توليسو ملك مصر الكاهن تنيشوكي أن يخبره: هل كان قبله أحد أعظم منه؟ وهل يكون بعده أحد أعظم منه فأجابه الكاهن: نعم يوجد من هو أعظم وهو الله قبل كلّ شئ ثمّ الكلمة ومعهما روح القدس ولهذه الثلاثة طبيعة واحدة، وهم واحد بالذات وعنهم صدرت القوّة الأبديّة فاذهب يا فاني يا صاحب الحياه القصيرة.

وقال بونويك في كتابه (عقائد قدماء المصريّين) أغرب كلمة عمّ انتشارها في ديانة المصريّين هي قولهم بلاهوت الكلمة، وأنّ كلّ شئ حصل بواسطتها، وأنّها منبثقة من الله، وأنّها هي الله انتهى. وهذا عين العبارة الّتي يبتدي بها إنجيل يوحنّا.

وقال (هيجين) في كتاب (الإنكلوساكسون) كان الفرس يدعون متروساً الكلمة والوسيط ومخلّص الفرس.

ونقل عن كتاب سكّان اُوروبة الأوّلين: أنّه كان الوثنيّون القدماء يقولون: إنّ الإله مثلّث الأقانيم.

ونقل عن اليونان والرومان والفنلنديّين والاسكندناويّين قضيّة الثالوث السابق الذكر وكذا القول بالكلمة عن الكلدانيّين والآشوريّين والفينيقيّين.

وقال دوان في كتابه (خرافات التوراة وما يقابلها من الديانات الاُخرى) (ص ١٨١ - ١٨٢) ما ترجمته بالتلخيص:

٣٥٢

(إنّ تصوّر الخلاص بواسطة تقديم أحد الآلهة ذبيحة فدائا عن الخطيئة قديم العهد جدّاً عند الهنود الوثنيّين وغيرهم) وذكر شواهد على ذلك:

منها قوله: يعتقد الهنود أنّ كرشنا المولود البكر - الّذي هو نفس الإلهة فشنو الّذى لا ابتداء له ولا انتهاء على رأيهم - تحرّك حنوّاً كي يخلّص الأرض من ثقل حملها فأتاها وخلّص الإنسان بتقديم ذبيحة عنه.

وذكر أنّ (مسترمور) قد صوّر كرشنا مصلوباً كما هو مصوّر في كتب الهنود مثقوب اليدين والرجلين، وعلى قميصه صورة قلب الإنسان معلّقاً، ووجدت له صورة مصلوباً وعلى رأسه إكليل من الذهب. والنصارى تقول: إن يسوع صلب وعلى رأسه إكليل من الشوك.

وقال (هوك) في ص ٣٢٦ من المجلد الأوّل من رحلته: ويعتقد الهنود الوثنيّون بتجسّد بعض الآلهة وتقديم ذبيحة فداء للناس من الخطيئة.

وقال (موريفور ليمس) في ص ٢٦ من كتابه (الهنود) ويعتقد الهنود الوثنيّون بالخطيئة الأصليّة وممّا يدلّ على ذلك ما جاء في مناجاتهم وتوسّلاتهم الّتي يتوسّلون بها بعد (الكياتري) وهو إنّي مذنب ومرتكب الخطيئة، وطبيعتي شريرة، وحملتني اُمّي بالإثم فخلّصني يا ذا العين الحندقوقيّة يا مخلّص الخاطئين من الآثام والذنوب.

وقال القسّ (جورج كوكس) في كتابه (الديانات القديمة) في سياق الكلام عن الهنود: ويصفون كرشنا بالبطل الوديع المملوء لاهوتاً لأنّه قدّم شخصه ذبيحة.

ونقل (هيجين) عن (اندارا دا الكروزوبوس) وهو أوّل اُوروبيّ دخل بلاد التيبال والتبّت: أنّه قال في الإله (اندرا) الّذي يعبدونه: أنّه سفك دمه بالصلب وثقب المسامير لكي يخلّص البشر من ذنوبهم وأنّ صورة الصلب موجودة في كتبهم.

وفي كتاب (جورجيوس) الراهب صورة الإله (اندرا) هذا مصلوباً، وهو بشكل صليب أضلاعه متساوية العرض متفاوتة الطول فالرأسيّ اقصرها - وفيه صورة وجهه - والسفلى أطولها ولو لا صورة الوجه لما خطر لمن يرى الصورة أنّها تمثّل شخصاً هذا.

٣٥٣

وأمّا ما يروى عن البوذيّين في بوذا فهو أكثر انطباقاً على ما يرويه النصارى عن المسيح من جميع الوجوه حتّى أنّهم يسمّونه المسيح، والمولود الوحيد، ومخلّص العالم ويقولون إنّه إنسان كامل وإله كامل تجسّد بالناسوت، وأنّه قدّم نفسه ذبيحة ليكفّر ذنوب البشر ويخلّصهم من ذنوبهم فلا يعاقبوا عليها، ويجعلهم وارثين لملكوت السماوات بيّن ذلك كثير من علماء الغرب: منهم (بيل) في كتابه و(هوك) في رحلته و(موالر) في كتابه تاريخ الآداب السنسكريتيّة وغيرهم.(١)

فهذه نبذة أو اُنموذجة من عقيدة تلبّس اللاهوت بالناسوت، وحديث الصلب والفداء في الديانات القديمة الّتي كانت الاُمم متمسّكين بها منكبّين عليها يوم شرعت الديانة النصرانيّة تنبسط على الأرض وأخذت الدعوة المسيحيّة تأخذ بمجامع القلوب في المناطق الّتي جال الدعاة المسيحيّون فيها فهل هذا إلّا أنّ الدعاة المسيحيّين أخذوا اُصول المسيحيّة وأفرغوها في قالب الوثنيّة واستمالوا بذلك قلوب الناس في تقبّل دعوتهم وهضم تعليمهم؟

ويؤيّد ذلك ما ترى في كلمات بولس وغيره من الطعن في حكمة الحكماء وفلسفتهم والإزراء بطرق الاستدلالات العقليّة وأنّ الإله الربّ يرجّح بلاهة الأبله على عقل العاقل.

وليس ذلك إلّا لأنّهم قابلوا بتعليمهم مكاتب التعقّل والاستدلال فردّه أهله بأنّه لا طريق إلى قبوله بل إلى تعقّله الصحيح من جهة الاستدلال فوضعوا الأساس على المكاشفة والامتلاء بالروح المقدّس فشاكلوا بذلك ما يصرّ به جهلة المتصوّفة أنّ طريقتهم طور وراء طور العقل.

ثمّ إنّ الدعاة منهم ترهبوا وجالوا في البلاد (على ما يحكيه كتاب أعمال الرسل والتواريخ) وبسطوا الدعوة المسيحيّة واستقبلتهم في ذلك العامّة في شتات البلاد، كان من سرّ موفّقيّتهم وخاصّة في إمبراطوريّة الروم هي الضغطة الروحيّة الّتي عمّت

____________________

(١) يجد القارئ هذه المنقولات في تفسير المنار - الجزء السادس في تفسير النساء وفي دوائر المعارف وفي كتاب العقائد الوثنيّة في الديانة النصرانيّة وغيرها.

٣٥٤

البلاد من فشوّ الظلم والتعدّي، وشمول أحكام الاسترقاق والاستعباد، والبون البعيد في حياة الطبقة الحاكمة والمحكومة والآمرة والمأمورة والفصل الشاسع بين عيشة الاغنياء وأهل الإتراف والفقراء والمساكين والأرقّاء.

وقد كانت الدعاة تدعو إلى المواخاة والمحابّة و التساوي والمعاشرة الجميلة بين الناس ورفض الدنيا وعيشتها الكدرة الفانية والاقبال على الحياة الصافية السعيدة الّتي في ملكوت السماء ولهذا بعينه ما كان يعني بحالهم الطبقة الحاكمة من الملوك والقياصرة كلّ العناية، ولا يقصدونهم بالأذى والسياسة والطرد.

فلم يزالوا يزيدون عدداً من غير تظاهر وتنافس وينمون قوّة وشدّة حتّى حصل لهم جمّ غفير في إمبراطوريّة الروم وإفريقيّة والهند وغيرها من البلاد. ولم يزالوا كلّما بنوا كنيسة وفتحوا بابها على وجوه الناس هدموا بذلك واحداً من بيوت الأوثان وأغلقوا بابه.

وكانوا لا يعتنون بمزاحمة رؤساء الوثنيّة في هدم أساسهم، ولا بملوك الوقت وحكّامه في التعالي عن خضوعهم وفي مخالفة أحكامهم ودساتيرهم وربّما كان ذلك يؤدّيهم إلى الهلاك والقتل والحبس والعذاب فكان لا تزال تقتل طائفة وتسجن اُخرى وتشرّد ثالثة.

وكان الأمر على هذه الصفة إلى أوان ملك القيصر (كنستانتين) فآمن بالملّة المسيحيّة وأعلن بها فأخذ التنصّر بالرسميّة وبنيت الكنائس في الروم وما يتبع إمبراطوريّته من الممالك وذلك في النصف الأخير من القرن الرابع الميلاديّ.

تمركزت النصرانيّة يومئذ في كنيسة الروم وأخذت تبعث القسّيسين إلى أكناف الأرض من البلاد التابعة يبنون الكنائس والديرات ومدارس يدرسون بها التعليم الإنجيليّ.

والّذي يجب إلتفات النظر إليه أنّهم وضعوا البحث على اُصول مسلّمة إنجيليّة فأخذوا التعاليم الإنجيليّة كمسألة الأب والابن والروح، ومسألة الصلب والفداء وغير ذلك اُصولاً مسلّمة وبنوا البحث والتنقير عليها.

٣٥٥

وهذا أوّل ما ورد على أبحاثهم الدينيّة من الوهن والوهي فإنّ استحكام البناء المبنيّ وإن بلغ ما بلغ واستقامته لا يغني عن وهن الأساس المبنيّ عليه شيئاً وما بنوا عليه من مسألة تثليث الوحدة والصلب والفداء أمر غير معقول.

وقد اعترف عدّة من باحثيهم في التثليث بأنّه أمر غير معقول لكنّهم اعتذروا عنه بأنّه من المسائل الدينيّة الّتي يجب أن تقبل تعبّداً فكم في الأديان من مسألة تعبديّة تحيلها العقول.

وهو من الظنون الفاسدة المتفرّعة على أصلهم الفاسد، وكيف يتصوّر وقوع مسألة مستحيلة في دين حقّ؟ ونحن إنّما نقبل الدين ونميّز كونه دين حقّ بالعقل وكيف يمكن عند العقل أن تشتمل العقيدة الحقّة على أمر يبطله العقل ويحيله؟ وهل هذا إلّا تناقض صريح؟

نعم يمكن أن يشتمل الدين على ممكن يخرق العادة الجارية، والسنّة الطبيعيّة القائمة، وأمّا المحال الذاتيّ فلا البتّة.

وهذا الطريق المذكور من البحث هو الّذي أوجب وقوع الخلاف والمشاجرة بين الباحثين المتفكّرين منهم في أوائل انتشار صيت النصرانيّة وانكباب المحصّلين على الأبحاث المذهبيّة في مدارس الروم والإسكندريّة وغيرهما.

فكانت الكنيسة تزيد كلّ يوم في مراقبتها لوحدة الكلمة وتهيّئ مجمعاً مشكّلاً عند ظهور كلّ قول حديث وبدعة جديدة من البطارقة والأساقفة لإقناعهم بالمذهب العامّ وتكفيرهم ونفيهم وطردهم وقتلهم إذا لم يقنعوا.

وأوّل مجمع عقدوه مجمع نيقيه لمّا قال أريوس: إنّ اُقنوم الابن غير مساو لاُقنوم الأب وإنّ القديم هو الله والمسيح مخلوق.

اجتمعت البطارقة والمطارنة والأساقفة في قسطنطينيّة بمحضر من القيصر كنستانتين وكانوا ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً واتّفقوا على هذه الكلمة( نؤمن بالله الواحد الأب مالك كلّ شئ وصانع ما يرى وما لا يرى وبالابن الواحد يسوع المسيح

٣٥٦

ابن الله الواحد، بكر الخلائق كلّها، وليس بمصنوع، إله حقّ من إله حقّ، من جوهر أبيه الّذي بيده اُتقنت العوالم وكلّ شئ، الّذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسّد من روح القدس، وولد من مريم البتول، وصلب أيّام فيلاطوس، ودفن، ثمّ قام في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعدّ للمجئ تارة اُخرى للقضاء بين الأموات والأحياء ونؤمن بروح القدس الواحد، روح الحقّ الّذي يخرج من أبيه، وبمعموديّة(١) واحدة لغفران الخطايا، وبجماعة واحدة قدسيّة مسيحيّة - جاثليقيّة وبقيام أبداننا(٢) والحياة أبد الآبدين(٣) ) .

هذا هو المجمع الأوّل، وكم من مجمع بعد ذلك عقدوه للتبرّي عن المذاهب المستحدثة كمذهب النسطوريّة واليعقوبيّة والأليانيّة واليليارسيّة و المقدانوسيّة والسباليوسيّة والنوئتوسيّة والبولسيّة وغيرها.

ومع هذا كانت الكنيسة تقوم بالواجب من مراقبتها، ولا تتوانى ولا تهن في دعوتها وتزيد كلّ يوم في قوّتها وسيطرتها حتّى وفّقت لجلب سائر دول اُوروبه إلى التنصّر كفرنسا و الإنجليز والنمسا والبروس والإسبانيا والبرتغال والبلجيك وهولاندا وغيرهم إلّا الروسيا أواخر القرن الخامس الميلاديّ سنة ٤٩٦.

ولم تزل تتقدّم وترتقي الكنيسة من جانب، ومن جانب آخر كانت تهاجم الاُمم الشماليّة والعشائر البدويّة على الروم، والحروب والفتن تضعّف سلطنة القياصرة،

____________________

(١) المراد بالمعمودية طهارة الباطن وقداسته.

(٢) أورد عليه أنّه يستلزم القول بالمعاد الجسمانيّ والنصارى تقول بالمعاد الروحانيّ كما يدلّ عليه الانجيل وأظنّ أنّ الانجيل إنّما يدلّ على عدم وجود اللذائذ الجسمانيّة الدنيويّة في القيامة وأمّا كون الإنسان روحاً مجرّداً من غير جسم فلا دلالة فيه عليه بل يدلّ على أنّ الإنسان يصير في المعاد كالملائكة لا ازدواج بينهم وظاهر العهدين أنّ الله سبحانه وملائكته جميعاً أجسام فضلا عن الإنسان يوم القيامة.

(٣) الملل والنجل للشهرستاني.

٣٥٧

وآل الأمر إلى أن أجمعت أهل الروم والاُمم المتغلّبة على إلقاء زمام اُمور المملكة إلى الكنيسة كما كانت زمام اُمور الدين بيدها فاجتمعت السلطنة الروحانيّة والجسمانيّة لرئيس الكنيسة اليوم وهو (البابا جريجوار) وكان ذلك سنة ٥٩٠ الميلاديّة.

وضارت كنيسة الروم لها الرئاسة المطلقة للعالم المسيحيّ غير أنّ الروم لمّا كانت انشعبت إمبراطوريّته إلى الروم الغربيّ الّذي عاصمتها رومة، والروم الشرقيّ الّذي عاصمتها قسطنطينيّة كانت قياصرة الروم الشرقيّ يعدّون أنفسهم رؤساء دينيّين لمملكتهم من غير أن يتّبعوا كنيسة روما وهذا مبدأ انشعاب المسيحيّة إلى الكاثوليك، أتباع كنيسة روما والأرثوذوكس وهم غيرهم.

وكان الأمر على ذلك حتّى إذا فتحت قسطنطينيّة بيد آل عثمان، وقتل القيصر (بالي اُولوكوس) وهو آخر قياصرة الروم الشرقيّ وقسّيس الكنيسة اليوم (قتل في كنيسة(أياصوفيا)).

وادّعى وراثة هذا المنصب الدينيّ أعني رئاسة الكنيسة قياصرة روسيا لقرابة سببيّة كانت بينهم وبين قياصرة الروم، وكانت الروس تنصّرت في القرن العاشر الميلاديّ فصارت ملوك روسيا قسّيسي كنيسة أرضهم غير تابعة لكنيسة رومة، وكان ذلك سنة ١٤٥٤ الميلاديّة.

وبقي الأمر على هذا الحال نحواً من خمسة قرون حتّى قتل (تزار نيكولا) وهو آخر قياصرة الروسيا قتل هو وجميع أهل بيته سنة ١٩١٨ الميلاديّة بيد الشيوعيّين فعادت كنيسة رومة تقريباً إلى حالها قبل الانشعاب.

لكنّ الكنيسة في أثر ما كانت تحاول رؤسائها السلطة على جميع جهات حياة الناس في القرون الوسطى الّتي كانت الكنيسة فيها في أوج ارتقائها وإرتفاعها ثار عليها جماهير من المتديّنين تخلّصاً من القيود الّتي كانت تحملها عليهم الكنيسة.

فخرجت طائفة عن تبعيّة أحكام رؤساء الكنيسة والباباوات وطاعتهم مع البقاء على طاعة التعليم الإنجيليّ على ما يفهمه مجامعهم، ويقرّره اتّفاق علمائهم وقسّيسهم وهؤلاء هم الأرثوذكس.

٣٥٨

 وطائفة خرجت عن متابعة كنيسة رومة أصلاً فليسوا بتابعين في التعليم الإنجيليّ لكنيسة رومة ولا معتنين للأوامر الصادرة منها وهؤلاء هم البروتستانت.

فأنشعب العالم المسيحيّ اليوم إلى ثلاث فرق: الكاثوليك وهي التابعة لكنيسة رومة وتعليمها والاُورثوذكس وهي التابعة لتعليم الكنيسة دون نفسها وقد حدثت شعبتهم بحدوث الانشعاب في الكنيسة وخاصّة بعد انتقال كنيسة قسطنطينيّة إلى مسكو بالروسيا (كما تقدّم) والبروتستانت وهي الخارجة عن تبعيّة الكنيسة وتعليمها جميعاً. وقد استقلّت طريقتهم وتظاهرت في القرن الخامس عشر الميلاديّ.

هذا إجمال ما جرى عليه الدعوة المسيحيّة في زمان يقرب من عشرين قرناً والبصير بالغرض الموضوع له هذا الكتاب يعلم أنّ القصد من ذكر جمل تاريخهم:

أوّلا: أن يكون الباحث على بصيرة من التحوّلات التاريخيّة في مذهبهم والمعاني الّتي يمكن أن تنتقل إلى عقائدهم الدينيّة بنحو التوارث أو السراية أو الانفعال بالامتزاج أو الإلف والعادة من عقائد الوثنيّة والأفكار الموروثة منهم أو المأخوذة عنهم.

وثانياً: أنّ اقتدار الكنيسة وخاصّة كنيسة رومة بلغ بالتدريج في القرون الوسطى الميلاديّة إلى نهاية أوجه حتّى كانت لهم سيطرة الدين والدنيا وانقادت لهم كراسيّ الملك بأوربه فكان لهم عزل من شاءوا ونصب من شاءوا(١) .

يروى أنّ البابا مرّة أمر إمبراطور آلمانيا أن يقف ثلاثة أيّام حافياً على باب قصره في فصل الشتاء لزلّة صدرت منه يريد ان يغفرها له(٢) .

ورفس البابا مرّة تاج الملك برجله حيث جائه جاثياً يطلب المغفرة(٣) .

وقد كانوا وصفوا المسلمين لأتباعهم وصفاً لم يدعهم إلّا أن يروا دين الإسلام دين الوثنيّة يستفاد ذلك من الشعارات والأشعار الّتي نظموها في استنهاض النصارى و

____________________

(١) الفتوحات الإسلاميّة.

(٢) المدرك السابق.

(٣) المدرك السابق.

٣٥٩

تهييجهم على المسلمين في الحروب الصليبيّة الّتي نشبت بينهم وبين المسلمين سنين متطاولة.

فإنّهم كانوا(١) يرون أنّ المسلمين يعبدون الأصنام وأنّ لهم آلهة ثلاثة أسماؤها على الترتيب (ماهوم) ويسمّى بافوميد وماهومند وهو أوّل الآلهة وهو (محمّد) وبعده (ايلين) وهو الثاني وبعده (ترفاجان) وهو الثالث وربّما يظهر من بعض كلماتهم أنّ للمسلمين إلهين آخرين وهما (مارتوان) و(جوبين) ولكنّهما بعد الثلاثة المتقدّمة رتبة وكانوا يقولون: إنّ محمّداً بنى دعوته على دعوى الاُلوهيّة وربّما قالوا: إنّه كان اتّخذ لنفسه صنماً من ذهب.

وفي أشعار ريشار الّتي قالها لاستنهاض الإفرنج على المسلمين: (قوموا وقلّبوا ماهومند وترفاجان وألقوهما في النار تقرّباً من إلهكم).

وفي أشعار رولان في وصف (ماهوم) إله المسلمين: (إنّه مصنوع تامّاً من الذهب والفضّة ولو رأيته أيقنت أنّه لا يمكن لصانع أن يصوّر في خياله أجمل منه ثمّ يصنعه عظيمة جثّته جيّدة صنعته وفي سيمائه آثار الجلالة ظاهرة ماهوم مصنوع من الذهب والفضّة يكاد سنا برقه يذهب بالبصر. وقد اُقعد على فيل هو من أحسن المصنوعات وأجودها بطنه خال وربّما أحسّ الناظر من بطنه ضوءاً هو مرصّعة بالأحجار الثمينة المتلالئة، يرى باطنه من ظاهره ولا يوجد له في جودة الصنعة نظير.

ولمّا كانت آلهة المسلمين يوحون إليهم في مواقع الشدّة وقد انهزم المسلمون في بعض حروبهم بعث قائد القوم واحداً في طلب إلههم الّذي كان بمكّة (يعني محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم)). يروي بعض من شاهد الواقعة: أنّ الإله (يعني محمّداً) جائهم وقد أحاط به جمّ غفير من أتباعه وهم يضربون الطبول والعيدان والمزامير والبوقات المعمولة من فضّة ويتغنّون ويرقصون حتّى أتوا به إلى المعسكر بسرور وترح ومرح، وقد كان خليفته منتظراً لقدومه فلمّا رآه قام على ساقه، واشتغل بعبادته بخضوع وخشوع.

____________________

(١) هذا وما بعده إلى آخر الفصل منقول عن ترجمة كتاب (هنري دوكاستري) في الديانة الإسلاميّة الفصل الأوّل منه.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394