مقتل العباس (عليه السلام)

مقتل العباس (عليه السلام)15%

مقتل العباس (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 394

  • البداية
  • السابق
  • 394 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 77256 / تحميل: 11579
الحجم الحجم الحجم
مقتل العباس (عليه السلام)

مقتل العباس (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

كما أن من الطبيعي أن يثير دهشتهم، ويذهلهم.. بعد أن لم يكن بينهم رجالات كفاة، يدركون ألاعيب السياسة، ودهاء ومكر الرجال. وقد عبر عن دهشتهم هذه نفس الخليفة الذي اختاروه، واستعاضوا به عن المأمون. فلقد قال ابن شكلة معاتبا العباسيين:

فـلا جزيت بنو العباس خيراً

على رغمي ولا اغتبطت بري

أتـوني مـهطعين، وقد أتاهم

بـوار الـدهر بالخبر الجلي

وقد ذهل الحواضن عن بنيها

وصـد الثدي عن فمه الصبي

وحـل عصائب الأملاك منها

فـشدت فـي رقاب بني علي

فضجت أن تشد على رؤوس

تـطالبها بـميراث النبي(١)

ب ـ ولكن دهشتهم وغضبهم لا قيمة لهما، في جانب ذهاب الخلافة عنهم بالكلية، وسفك دمائهم.. وقد أوضح لهم ذلك في رسالة منه إليهم، حيث قال: (.. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى، بعد استحقاق منه لها في نفسه، فما كان ذلك مني إلا أن أكون الحاقن لدمائكم، والذائد عنكم، باستدامة المودة بيننا وبينهم.). والرسالة مذكورة في أواخر هذا الكتاب.

وقريب من ذلك ما جاء في وثيقة العهد، مخاطباً (أهل بيت أمير المؤمنين) حيث قال لهم: (.. راجين عائدته في ذلك (أي في البيعة للرضاعليه‌السلام ) في جمع ألفتكم، وحقن دمائكم، ولم شعثكم، وسد ثغوركم.) فليغضبوا إذن قليلاً، فإنهم سوف يفرحون في نهاية الأمر كثيراً، وذلك عندما يعرفون الأهداف الحقيقية، التي كانت تكمن وراء تلك اللعبة، وأنها لم تكن إلا من أجل الإبقاء عليهم، واستمرار وجودهم في الحكم، والقضاء على أخطر خصومهم، الذين لن يكون الصدام المسلح معهم في صالحهم، إنهم دون شك عندما تؤتي تلك اللعبة ثمارها سوف يشكرونه، ويعترفون له بالجميل، ويعتبرون أنفسهم مدينين له مدى الحياة، ولسوف يذكرون دائما قوله لهم في رسالته المشار إلها آنفاً: (.. فإن تزعموا أني أردت أن يؤول إليهم (يعني للعلويين) عاقبة ومنفعة، فإني في تدبيركم، والنظر لكم، ولعقبكم، ولأبنائكم من بعدكم.).

____________

(١) التنبيه والإشراف ص ٣٠٣، والولاة والقضاة للكندي ص ١٦٨.

١٨١

ومضمون هذه العبارة بعينه ـ تقريباً ـ قد جاء في وثيقة العهد، حيث قال فيها، موجها كلامه للعباسيين، رجاء أن يلتفتوا لما يرمي إليه من لعبته تلك.. فبعد أن طلب منهم بيعة منشرحة لها صدورهم ـ قال ـ: (.. عالمين بما أراد أمير المؤمنين بها، وآثر طاعة الله، والنظر لنفسه، ولكم فيها، شاكرين الله على ما ألهم أمير المؤمنين، من قضاء حقه في رعايتكم، وحرصه على رشدكم، وصلاحكم، راجين عائدته في ذلك في جمع ألفتكم، وحقن دمائكم إلخ. ما قومناه..).

لا شك أنه إذا غضب عليه العباسيون، فإنه يقدر على إرضائهم في المستقبل، (وقد حدث ذلك بالفعل) عندما يطلعهم على حقيقة نواياه، ومخططاته، وأهدافه، ولكنه إذا خسر مركزه، وخلافته، فإنه لا يستطيع ـ فيما بعد ـ أن يستعيدها بسهولة، أو أن يعتاض عنها بشيء ذي بال.

ج ـ: إن من الإنصاف هنا أن نقول: إن اختيار المأمون للرضاعليه‌السلام ولياً للعهد، كان اختياراً موفقاً للغاية، كما سيتضح، وإنه لخير دليل على حنكته ودهائه، وإدراكه للأسباب الحقيقية للمشاكل التي كان يواجهها المأمون، ويعاني منها ما يعاني.

د ـ: إن من الأمور الجديرة بالملاحظة هنا هو أن اختيار المأمون لولي عهده، الذي لم يقبل إلا بعد التهديد بالقتل.. كان ينطوي في بادئ الرأي على مغامرة لا تنسجم مع ما هو معروف عن المأمون من الدهاء والسياسة، إذا ما أخذت مكانة الإمامعليه‌السلام ، ونفوذه بنظر الاعتبار، سيما مع ملاحظة: أنه هو الذي كان يشكل أكبر مصدر للخطر على المأمون، ونظام حكمه، حيث إنه كان يحظى بالاحترام والتقدير، والتأييد الواسع في مختلف الفئات والطبقات في الأمة الإسلامية.

ولكننا إذا دققنا الملاحظة نجد أن المأمون لم يقدم على اختيار الإمام وليا للعهد، إلا وهو على ثقة من استمرار الخلافة في بني أبيه، حيث كان الإمامعليه‌السلام يكبره بـ (٢٢) سنة، وعليه فجعل ولاية العهد لرجل بينه، وبين الخليفة الفعلي هذا الفارق الكبير بالسن، لم يكن يشكل خطراً على الخلافة، إذ لم يكن من المعروف، ولا المألوف أن يعيش ولي العهد ـ وهو بهذه السن المتقدمة ـ لو فرض سلامته من الدسائس والمؤامرات!.. إلى ما بعد الخليفة الفعلي، فإن ذلك من الأمور التي يبعد احتمالها جداً.

١٨٢

ه‍ ـ: ولهذا.. ولأن ما أقدم عليه لم يكن منتظراً من مثله، وهو الذي قتل أخاه من أجل الخلافة والملك، ولأنه من تلك السلالة المعادية لأهل البيتعليهم‌السلام .. احتاج المأمون إلى أن يثبت صدقه، وإخلاصه فيما أقدم عليه، وأن يقنع الناس بصفاء نيته، وسلامة طويته.. فأقدم لذلك. على عدة أعمال:

فأولاً: أقدم على نزع السواد شعار العباسيين، ولبس الخضرة شعار العلويين وكان يقول: إنه لباس أهل الجنة(١) . حتى إذا ما انتهى دور هذه الظاهرة بوفاة الإمام الرضاعليه‌السلام وتمكنه هو من دخول بغداد عاد إلى لبس السواد شعار العباسيين، بعد ثمانية أيام فقط من وصوله، على حد قول أكثر المؤرخين، وقيل: بل بقي ثلاثة أشهر. نزع الخضرة رغم أن العباسيين، تابعوه، وأطاعوه في لبسها، وجعلوا يحرقون كل ملبوس يرونه من السواد، على ما صرح به في مآثر الإنافة، والبداية والنهاية، وغير ذلك.

____________

(١) الإمام الرضا ولي عهد المأمون ص ٦٢ عن ابن الأثير.

١٨٣

وثانياً: ولنفس السبب(١) أيضاً نراه قد ضرب النقود باسم الإمام الرضاعليه‌السلام .

وثالثاً: أقدم للسبب نفسه على تزويج الإمام الرضاعليه‌السلام ابنته، رغم أنها كانت بمثابة حفيدة له، حيث كان يكبرها الإمامعليه‌السلام بحوالي أربعين سنة. كما أنه زوج ابنته الأخرى للإمام الجوادعليه‌السلام الذي كان لا يزال صغيراً، أي ابن سبع سنين(٢) .

ومن يدري: فلعله كان يهدف من تزويجهما أيضاً إلى أن يجعل عليهما رقابة داخلية. وأن يمهد السبيل، لكي تكون الأداة الفعالة، التي

____________

(١) التربية الدينية ص ١٠٠.

(٢) راجع مروج الذهب ج ٣ / ٤٤١، وغيره من كتب التاريخ. وفي الطبري ج ١١ / ١١٠٣، طبع ليدن، والبداية والنهاية ج ١٠ / ٢٦٩: أنهعليه‌السلام لم يدخل بها إلا في سنة ٢١٥ للهجرة، ولكن يظهر من اليعقوبي ج ٢ / ٤٥٤ ط صادر: أنه زوج الجواد ابنته بعد وصوله إلى بغداد، وأمر له بألفي ألف درهم، وقال: إني أحببت أن أكون جداً لامرئ ولده رسول الله، وعلي بن أبي طالب، فلم تلد منه انتهى. وهذا يدل على أنه قد بادر إلى تزويج الجواد بعد قتل أبيه الرضاعليه‌السلام ليبرئ نفسه من الاتهام بقتل الرضاعليه‌السلام ، حيث إن الناس كانوا مقتنعين تقريباً بذلك ومطمئنين إليه، وسيأتي في أواخر الكتاب البحث عن ظروف وملابسات وفاتهعليه‌السلام ويلاحظ: أن كلمة المأمون هذه تشبه إلى حد بعيد كلمة عمر بن الخطاب حينما أراد أن يبرر إصراره غير الطبيعي على الزواج بأم كلثوم بنت عليعليه‌السلام حتى لقد استعمل أسلوباً غير مألوف في التهديد والوعيد من أجل الوصول إلى ما يريد.

١٨٤

يستعملها في القضاء على الإمامعليه‌السلام ، كما كان الحال بالنسبة لولده الإمام الجواد، الذي قتل بالسم الذي دسته إليه ابنة المأمون، بأمر من عمها المعتصم(١) ، فيكون بذلك قد أصاب عدة عصافير بحجر واحد. كما يقولون..

ويجب أن نتذكر هنا: أن المأمون كان قد حاول أن يلعب نفس هذه اللعبة مع وزيره الفضل بن سهل، فألح عليه أن يزوجه ابنته فرفض، وكان الرأي العام معه، فلم يستطع المأمون أن يفعل شيئاً، كما سنشير إليه.. لكن الإمامعليه‌السلام لم يكن له إلى الرفض سبيل، ولم يكن يستطيع أن يصرح بمجبوريته على مثل هكذا زواج. لأن الرأي العام لا يقبل ذلك منه بسهولة.. بل ربما كان ذلك الرفض سبباً في تقليل ثقة الناس بالإمام، حيث يرون حينئذٍ أنه لا مبرر لشكوكه تلك، التي تجاوزت ـ بنظرهم حينئذٍ ـ كل الحدود المألوفة والمعروفة..

وعلى كل حال: فإن كل الشواهد والدلائل تشير إلى أن زواج الإمام من ابنة المأمون كان سياسياً، مفروضاً إلى حد ما.. كما أننا لا نستبعد أن يكون زواج المأمون من بوران بنت الحسن بن سهل سياسياً أيضاً، حيث أراد بذلك أن يوثق علاقاته مع الإيرانيين، ويجعلهم يطمئنون إليه، خصوصاً بعد عودته إلى بغداد، وتركه مروا، وليبرئ نفسه من دم الفضل بن سهل، ويكتسب ثقة أخيه الحسن بن سهل، المعرف بثرائه ونفوذه.

ورابعاً: وللسبب نفسه أيضاً كان يظهر الاحترام والتبجيل للإمامعليه‌السلام ـ وإن كان يضيق عليه في الباطن(٢) ـ وكذلك كانت الحال بالنسبة لإكرامه للعلويين، حيث قد صرح هو نفسه بأن إكرامه لهم ما كان إلا سياسة منه ودهاء، ومن أجل الوصول إلى أهداف سياسية معينة، فقد قال في رسالته للعباسيين، المذكورة في أواخر هذا الكتاب: (.. وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى.. فما كان ذلك مني، إلا أن أكون الحاقن لدمائكم، والذائد عنكم، باستدامة المودة بيننا وبينهم. وهي الطريق أسلكها في إكرام آل أبي طالب، ومواساتهم في الفيء، بيسير ما يصيبهم منه.).

____________

(١) ولعله قد استفاد ذلك من سلفه معاوية، وما جرى له مع الإمام الحسن السبطعليه‌السلام .

(٢) وقد سبقه إلى مثل ذلك سليمان عم الرشيد، عندما أرسل غلمانه، فأخذوا جنازة الكاظمعليه‌السلام من غلمان الرشيد، وطردوهم. ثم نادوا عليه بذلك النداء المعروف، اللائق بشأنه، فمدحه الرشيد، واعتذر إليه، ولام نفسه، حيث لم يأخذ في اعتباره ما يترتب على ما أقدم عليه من ردة فعل لدى الشيعة، ومحبي أهل البيتعليهم‌السلام ، والذين قد لا يكون للرشيد القدرة على مواجهتهم. وتبعه أيضاً المتوكل، حيث جاء بالإمام الهاديعليه‌السلام إلى سامراء، فكان يكرمه في ظاهر الحال، ويبغي له الغوائل في باطن الأمر، فلم يقدره الله عليه.. على ما صرح به ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة ص ٢٢٦، والمجلسي في البحار ج ٥٠ / ٢٠٣، والمفيد في الإرشاد ص ٣١٤.

١٨٥

ويذكرني قول المأمون: (ومواساتهم في الفيء إلخ..) بقول إبراهيم بن العباس الصولي ـ وهو كاتب القوم وعاملهم ـ في الرضا عندما قربه المأمون:

يـمن عـليكم بأموالكم

وتعطون من مئة واحدا

و ـ: إن المأمون ـ ولا شك ـ كان يعلم: أن ذلك كله ـ حتى البيعة للإمام ـ لا يضره ما دام مصمما على التخلص من ولي عهده هذا بأساليبه الخاصة. بعد أن ينفذ ما تبقى من خطته الطويلة الأجل، للحط من الإمام قليلاً قليلاً، حتى يصوره للرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر ـ كما صرح هو نفسه(١) ، وكما صرح بذلك أيضاً عبد الله بن موسى في رسالته إلى المأمون، والتي سوف نوردها في أواخر هذا الكتاب إن شاء الله، حيث يقول له فيها: (.. وكنت ألطف حيلة منهم. بما استعملته من الرضا بنا، والتستر لمحننا، تختل واحداً فواحداً منا إلخ.)(٢) .

إلى غير ذلك من الشواهد والدلائل، التي لا تكاد تخفى على أي باحث، أو متتبع..

أهداف المأمون من البيعة:

هذا.. وبعد كل الذي قدمناه، فإننا نستطيع في نهاية المطاف: أن نجمل أهداف المأمون، وما كان يتوخاه من أخذ البيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد بعده.. على النحو التالي:

الهدف الأول:

أن يأمن الخطر الذي كان يتهدده من قبل تلك الشخصية الفذة، شخصية الإمام الرضاعليه‌السلام الذي كانت كتبه تنفذ في المشرق والمغرب، وكان الأرضى في الخاصة والعامة ـ باعتراف نفس المأمون ـ، حيث لا يعود باستطاعة الإمامعليه‌السلام أن يدعو الناس إلى الثورة ولا أن يأتي بأية حركة ضد الحكم، بعد أن أصبح هو ولي العهد فيه. ولسوف لا ينظر الناس إلى أية بادرة عدائية منه لنظام الحكم القائم إلا على أنها نكران للجميل، لا مبرر لها، ولا منطق يدعمها.

____________

(١) سنتكلم في القسم الرابع من هذا الكتاب، حول تصريحات المأمون، وخططه بنوع من التفصيل إن شاء الله تعالى.

(٢) مقاتل الطالبيين ص ٦٢٩.

١٨٦

وقد أشار المأمون إلى ذلك، عندما صرح بأنه: خشي إن ترك الإمام على حاله: أن ينفتق عليه منه ما لا يسده، ويأتي منه عليه ما لا يطيقه فأراد أن يجعله ولي عهده ليكون دعاؤه له. كما سيأتي بيانه في فصل: مع بعض خطط المأمون إن شاء الله تعالى.

الهدف الثاني:

أن يجعل هذه الشخصية تحت المراقبة الدقيقة، والواعية من قرب، من الداخل والخارج، وليمهد الطريق من ثم إلى القضاء عليها بأساليبه الخاصة. وقد أشرنا فيما سبق، إلى أننا لا نستبعد أن يكون من جملة ما كان يهدف إليه من وراء تزويجه الإمام بابنته، هو: أن يجعل عليه رقيبا داخليا موثوقا عنده هو، ويطمئن إليه الإمام نفسه.

وإذا ما لاحظنا أيضاً، أن: (المأمون كان يدس الوصائف هدية ليطلعنه على أخبار من شاء..)(١) ، وأنه كان: للمأمون على كل واحد صاحب خبر(٢) . (.. فإننا نعرف السر في إرساله بعض جواريه إلى الإمام الرضاعليه‌السلام بعنوان: هدية.. وقد أرجعها الإمامعليه‌السلام إليه مع عدة أبيات من الشعر، عندما رآها اشمأزت من شيبه)(٣) .

ولم يكتف بذلك، بل وضع على الإمامعليه‌السلام عيوناً آخرين، يخبرونه بكل حركة من حركاته، وكل تصرف من تصرفاته.

فقد كان: (هشام بن إبراهيم الراشدي من أخص الناس عند الرضاعليه‌السلام ، وكانت أمور الرضا تجري من عنده، وعلى يده، ولكنه لما حمل إلى مرو اتصل هشام بن إبراهيم بذي الرئاستين، والمأمون،

____________

(١) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٥ جلد ٢ ص ٥٤٩، نقلاً عن: العقد الفريد ج ١ / ١٤٨.

(٢) تاريخ التمدن الإسلامي ج ٤ جلد ٢ ص ٤٤١، نقلاً عن: المسعودي ج ٢ / ٢٢٥، وطبقات الأطباء ج ١ / ١٧١، (٣) البحار ج ٤٩ / ١٦٤، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ١٧٨.

١٨٧

فحظي بذلك عندهما. وكان لا يخفي عليهما شيئاً من أخباره، فولاه المأمون حجابة الرضا. وكان لا يصل إلى الرضا إلا من أحب، وضيق على الرضا، فكان من يقصده من مواليه، لا يصل إليه. وكان لا يتكلم الرضا في داره بشيء إلا أورده هشام على المأمون، وذي الرئاستين..)(١) وعن أبي الصلت: أن الرضا (كان يناظر العلماء، فيغلبهم، فكان الناس يقولون: والله، إنه أولى بالخلافة من المأمون، فكان أهل الأخبار يرفعون ذلك إليه..)(٢) وأخيراً.. فإننا نلاحظ: أن جعفر بن محمد بن الأشعث، يطلب من الإمامعليه‌السلام : أن يحرق كتبه إذا قرأها، مخافة أن تقع في يد غيره، ويقول الإمامعليه‌السلام مطمئناً له: «إني إذا قرأت كتبه إلي أحرقتها.)(٣) إلى غير ذلك من الدلائل والشواهد الكثيرة، التي لا نرى أننا بحاجة إلى تتبعها واستقصائها.

الهدف الثالث:

أن يجعل الإمامعليه‌السلام قريباً منه، ليتمكن من عزله عن الحياة الاجتماعية، وإبعاده عن الناس، وإبعاد الناس عنه، حتى لا يؤثر عليهم بما يمتلكه من قوة الشخصية، وبما منحه الله إياه من العلم، والعقل، والحكمة. ويريد أن يحد من ذلك النفوذ له، الذي كان يتزايد باستمرار، سواء في خراسان، أو في غيرها.

وأيضاً.. أن لا يمارس الإمام أي نشاط لا يكون له هو دور رئيس فيه، وخصوصاً بالنسبة لرجال الدولة، إذ قد يتمكن الإمامعليه‌السلام من قلوبهم، ومن ثم من تدبير شيء ضد النظام القائم. دون أن يشعر أحد.

____________

(١) البحار ج ٤٩ / ١٣٩، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ٧٧، ٧٨، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ١٥٣.

(٢) شرح ميمية أبي فراس ص ٢٠٤، والبحار ج ٤٩ / ٢٩٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢٣٩.

(٣) كشف الغمة ج ٣ / ٩٢، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ١٨٧، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢١٩.

١٨٨

والأهم من ذلك كله:

أنه كان يريد عزل الإمامعليه‌السلام عن شيعته، ومواليه، وقطع صلاتهم به، وليقطع بذلك آمالهم، ويشتت شملهم، ويمنع الإمام من أن يصدر إليهم من أوامره، ما قد يكون له أثر كبير على مستقبل المأمون، وخلافته.

وبذلك يكون أيضاً قد مهد الطريق للقضاء على الإمامعليه‌السلام نهائياً، والتخلص منه بالطريقة المناسبة، وفي الوقت المناسب.

وقد قال المأمون إنه: (يحتاج لأن يضع من الإمام قليلاً قليلا، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر. ثم يدبر فيه بما يحسم عنه مواد بلائه.) كما سيأتي.

وقد قرأنا آنفاً أنه: (كان لا يصل إلى الرضا إلا من أحب ـ أي هشام بن إبراهيم ـ وضيق على الرضا، فكان من يقصده من مواليه، لا يصل إليه).

كما أن الرضا نفسه قد كتب في رسالته منه إلى أحمد بن محمد البيزنطي، يقول:((وأما ما طلبت من الإذن علي، فإن الدخول إلي صعب، وهؤلاء قد ضيقوا علي في ذلك الآن، فلست تقدر الآن، وسيكون إن شاء الله...)) (١) .

____________

(١) رجال المامقاني ج ١ / ٧٩، وعيون أخبار الرضا ج ٢ / ٢١٢.

١٨٩

كما أننا نرى أنه عندما وصل إلى القادسية، وهو في طريقه إلى مرو، يقول لأحمد بن محمد بن أبي نصر: (إكتر لي حجرة لها بابان: باب إلى الخان، وباب إلى خارج، فإنه أستر عليك..)(١) .

ولعل ذلك هو السبب في طلبه من الإمامعليه‌السلام ، ومن رجاء بن أبي الضحاك: أن يمرا عن طريق البصرة، فالأهواز إلخ.. ما سيأتي: ولا نستبعد أيضاً أن يكون عزل الإمام عن الناس، هو أحد أسباب إرجاع الإمام الرضا عن صلاة العيد مرتين(٢) . وللسبب نفسه أيضاً فرق عنه تلامذته، عندما أخبر أنه يقوم بمهمة التدريس، وحتى لا يظهر علم الإمام، وفضله.. إلى آخر ما هنالك من صفحات تاريخ المأمون السوداء.

الهدف الرابع:

إن المأمون في نفس الوقت الذي يريد فيه أن يتخذ من الإمام مجناً يتقي به سخط الناس على بني العباس، ويحوط نفسه من نقمة الجمهور. يريد أيضاً، أن يستغل عاطفة الناس ومحبتهم لأهل البيت ـ والتي زادت ونمت بعد الحالة التي خلفتها الحرب بينه وبين أخيه ـ ويوظف ذلك في صالحه هو، وصالح الحكم العباسي بشكل عام.

أي أنه كان يهدف من وراء لعبته تلك، والتي كان يحسب أنها سوف تكون رابحة جداً ـ إلى أن يحصل على قاعدة شعبية، واسعة، وقوية. حيث كان يعتقد ويقدر: أن نظام حكمه سوف ينال من التأييد، والقوة، والنفوذ، بمقدار ما كان لتلك الشخصية من التأييد، والنفوذ والقوة.. وإذا ما استطاع في نهاية الأمر أن يقضي عليها، فإنه يكون قد أمن خطراً عظيماً، كان يتهدده من قبلها، بمقدار ما كان لها من العظمة والخطر.

____________

(١) بصائر الدرجات ص ٢٤٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ / ١٥٥.

(٢) هذه القضية معروفة ومشهورة، فراجع: الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص ٢٤٦، ٢٤٧، ومطالب السؤول، لمحمد بن طلحة الشافعي، طبعة حجرية ص ٨٥، وإثبات الوصية للمسعودي ص ٢٠٥، ومعادن الحكمة ص، ١٨٠، ١٨١، ونور الأبصار ص ١٤٣، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥، وإعلام الورى ص ٣٢٢، ٣٢٣، وروضة الواعظين ج ١ / ٢٧١، ٢٧٢، وأصول الكافي ج ١ / ٤٨٩، ٤٩٠، والبحار ج ٤٩ / ١٣٥، ١٣٦، ١٧١، ١٧٢، وعيون أخبار الرضا، وإرشاد المفيد، وأعيان الشيعة، وكشف الغمة، وغير ذلك.

ولسوف يأتي فصل: خطة الإمام، وغيره من الفصول، ما يتعلق بذلك إن شاء الله تعالى.

١٩٠

إن المأمون قد اختار لولاية عهده رجلاً يحظى بالاحترام والتقدير من جميع الفئات والطبقات، وله من النفوذ، والكلمة المسموعة، ما لم يكن لكل أحد سواه في ذلك الحين. بل لقد كان الكثيرون يرون: أن الخلافة حق له، وينظرون إلى الهيئة الحاكمة على أنها ظالمة له وغاصبة لذلك الحق:

يقول الدكتور الشيبي، وهو يتحدث عن الرضاعليه‌السلام : (إن المأمون جعله ولي عهده، لمحاولة تألف قلوب الناس ضد قومه العباسيين، الذين حاربوه، ونصروا أخاه..)(١) .

ويقول:. (.. وقد كان الرضا من قوة الشخصية، وسمو المكانة: أن التف حوله المرجئة، وأهل الحديث، والزيدية، ثم عادوا إلى مذاهبهم بعد موته.)(٢) .

وكذلك هو يقول ـ وهو مهم فيما نحن بصدده ـ: (.. إن الرضا لم يكن بعد توليته العهد إمام الشيعة وحدهم، وإنما مر بنا:

____________

(١) الصلة بين التصوف والتشيع ص ٢٢٣، ٢٢٤.. ونحن لا نوافق الدكتور الشيبي على أنه كان يريد التقوي بذلك على العباسيين، كما اتضح، وسيتضح إن شاء الله.

(٢) المصدر السابق ص ٢١٤.

١٩١

أن الناس، حتى أهل السنة، والزيدية، وسائر الطوائف الشيعية المتناحرة.. قد اجتمعت على إمامته، وإتباعه، والالتفاف حوله.)(١) .

وهذا كما ترى تصريح واضح منه بهدف المأمون، الذي نحن بصدد بيانه.

ويقول محمد بن طلحة الشافعي مشيراً إلى ذلك، في معرض حديثه عن الإمام الرضاعليه‌السلام : (.. نما إيمانه، وعلا شأنه، وارتفع مكانه، وكثر أعوانه، وظهر برهانه، حتى أدخله الخليفة المأمون محل مهجته، وأشركه في مملكته.)(٢) .

وتقدم أنهعليه‌السلام كان ـ باعتراف المأمون ـ (الأرضى في الخاصة والعامة) وأن كتبه كانت تنفذ في المشرق والمغرب، حتى إن البيعة له بولاية العهد، لم تزده في النعمة شيئاً.. وأنه كان له من قوة الشخصية ما دفع أحد أعدائه لأن يقول في حقه للمأمون: (هذا الذي بجنبك والله صنم يعبد دون الله) إلى آخر ما هنالك، مما قدمنا (غيضاً من فيض منه).

كما وتقدم أيضاً قول المأمون في رسالته للعباسيين: (.. وإن تزعموا: أني أردت أن يؤول إليهم عاقبة ومنفعة ـ يعني للعلويين ـ، فإني في تدبيركم، والنظر لكم. ولعقبكم، وأبنائكم من بعدكم..)، وأيضاً عبارته التي كتبها المأمون بخط يده في وثيقة العهد، فلا نعيد.

وهكذا.. فما على العباسيين إلا أن ينعموا بالاً، ويقروا عيناً، فإن المأمون كان يدبر الأمر لصالحهم ومن أجلهم.. وليس كما يقوله الدكتور الشيبي، وغيره من أنه أراد أن يحصل على التأييد الواسع، ليقابل العباسيين، ويقف في وجههم.

____________

(١) المصدر السابق ص ٢٥٦.

(٢) مطالب السؤول ص ٨٤، ٨٥. وقريب منه ما في: الإتحاف بحب الأشراف ص ٥٨.

١٩٢

إشارة هامة لا بد منها:

هذا.. ويحسن بنا أن نشير هنا: إلى ما قاله ابن المعتز في الروافض. وإلقاء نظرة فاحصة على السبب الذي جعلهم مستحقين لهذه الحملة الشعواء منه.. فهو يقول:

لـقد قـال الروافض في علي

مـقالاً جـامعاً كـفراً وموقا

زنـادقة أرادت كـسب مـال

مـن الـجهال فـاتخذته سوقا

وأشـهـد أنـه مـنهم بـريّ

وكـان بـأن يـقتلهم خـليقا

كـما كـذبوا عـليه وهو حي

فـأطعم نـاره مـنهم فـريقا

وكـانوا بالرضا شغفوا زماناً

وقـد نفخوا به في الناس بوقا

وقـالـوا: إنـه رب قـديرا

فكم لصق السواد به لصوقا(١)

وهذه الأبيات تعبر عن مدى صدمة ابن المعتز، وخيبة أمله في الروافض، الذين ضايقه جداً امتداد دعوتهم في طول البلاد الإسلامية، وعرضها. وخصوصاً في زمن الرضا. والذي لم يجد شيئاً يستطيع أن ينتقص به إمامهم الرضاعليه‌السلام سوى أنه كان أسود اللون، وأن الروافض قالوا: إنه رب قدير.. وسر حنقه هذا على الروافض ليس هو إلا عقيدتهم في عليعليه‌السلام ـ التي كان يراها خطراً حقيقياً على القضية العباسية ـ والتي تتلخص بأنهعليه‌السلام : يستحق الخلافة بالنص. وهذه العقيدة والمقالة هي التي جعلتهم يستحقون من ابن المعتز أن يجمع لهم بين وصفي الكفر والزندقة، واتهامه لهم، بأنهم يقصدون بذلك كسب المال من الجهال. ثم يتهمهم بأنهم قد قالوا بنفس هذه المقالة في علي الرضاعليه‌السلام ، فقالوا: إنه الإمام الثابت إمامته بالنص، وشهروا بذلك، حتى علم به عامة الناس، ونفخوا به في الناس بوقاً.. وحتى لقد التف حوله أهل الحديث، والزيدية. بل والمرجئة، وأهل السنة، على حد تعبير الشيبي، وقالوا: بإمامة أبيه، ثم بإمامته.

____________

(١) ديوان ابن المعتز ص ٣٠٠، ٣٠١، والأدب في ظل التشيع ص ٢٠٦.

١٩٣

وبديهي.. أن لا يرتاح ابن المعتز، الذي كان في صميم الأسرة العباسية لهذا الامتداد للتشيع، ولمقالة الروافض، حيث إن ذلك يعني أن الأئمة الذين هم بين الرضا، وعلي أمير المؤمنينعليهما‌السلام ، كلهم تثبت إمامتهم بالنص.

ولقد بلغ من حنقه عليهم، بسبب ذلك الامتداد الواسع لعقيدتهم ـ وخصوصاً في زمان الرضا ـ أن دفعه إلى أن يخلط عن عمد، أو عن غير عمد بين عقيدة الروافض هذه، وبين عقيدة الغلاة، حيث أضاف إلى مقالة الروافض تلك مقالة أخرى، هي: القول بإلوهية عليعليه‌السلام .

وإذا كنا واثقين من أن الفرق الشاسع بين عقيدة الروافض، وعقيدة الغلاة، لم يكن ليخفى على مثل ابن المعتز، بل على من هو أقل منه بمراتب، فإننا سوف ندرك بما لا مجال معه للشك: أن يقصد بهذا الخلط المتعمد: التشنيع على الروافض، وتهجين عقيدتهم، إذ أنه يقصد ب‍ـ (الروافض)، ـ حسبما هو صريح كلامه ـ خصوص القائلين بإمامة الرضا، وإمامة علي أمير المؤمنين، ومن بينهما. وهو يعلم وكل أحد يعلم: أنه ليس فيهم من يقول بإلوهية أحدهما، أو إلوهيتهما، أو إلوهية غيرهما من أئمة أهل البيتعليهم‌السلام .

وأخيراً.. فإن قول واعتراف ابن المعتز هذا ـ وهو من نعلم ـ لخير دليل على مدى تحرر الشيعة في زمن الرضا، واتساع نفوذهم، وعلى أن شخصية الرضاعليه‌السلام ، كانت قد استقطبت قطاعاً واسعاً، إن لم نقل: أنه القطاع الأكبر من الأمة الإسلامية، في طول البلاد وعرضها، في تلك الفترة من الزمن، وقد تقدم بعض ما يدل على ذلك، فلا نعيد.

الهدف الخامس:

هذا.. ونستطيع أن نقول أيضاً: إنه كان يريد أن يقوي من دعائم حكمه، حيث قد أصبح الحكم يمتلك شخصية تعنو لها الجباه بالرضا والتسليم، ولقد كان الحكم بأمس الحاجة إلى شخصية من هذا القبيل. في مقابل أولئك المتزلفين القاصرين، الذين كانوا يتجمعون حول الحكم العباسي، طلبا للشهرة، وطمعا بالمال، والذين لم يعد يخفى على أحد حالهم ومآلهم.. وعلى الأخص بعد أن رأى فشلهم في صد حملات علماء الملل الأخرى، والذين كانوا قد ضاعفوا نشاطاتهم، عندما رأوا ضعف الدولة، وتمزقها، وتفرقها إلى جماعات وأحزاب.

نعم.. لقد كان الحكم يحتاج إلى العلماء الأكفاء، والأحرار في تفكيرهم، وفي نظرتهم الواعية للإنسان والحياة، ولم يعد بحاجة إلى المتزلفين، والجامدين، والانهزاميين، ولهذا نراه يستبعد أصحاب الحديث الجامدين، الذين كان أكثرهم في الجهة المناوئة له، يشدون من أزرها، ويقيمون أودها..

١٩٤

ويقرب المعتزلة: كبشر المريسي، وأبي الهذيل العلاف وأضرابهما. ولكن الشخصية العلمية، التي لا يشك أحد في تفوقها على جميع أهل الأرض علماً وزهدا، وورعاً وفضلاً الخ. كانت منحصرة في الإمام الرضاعليه‌السلام ، باعتراف من نفس المأمون، كما قدمنا، ولهذا فقد كان الحكم يحتاج إليها أكثر من احتياجه لأية شخصية أخرى، مهما بلغت.

الهدف السادس:

ولعل من الأهمية بمكان بالنسبة إليه، أنه يكون في تلك الفترة المليئة بالقلاقل والثورات، قد أتى الأمة بمفاجئة مثيرة، من شأنها أن تصرف أنظار الناس عن حقيقة ما يجري، وما يحدث، وعن واقع المشاكل التي كان يعاني الحكم والأمة منها، وما أكثرها.

وقد عبر إبراهيم بن المهدي، عن دهشة بني العباس في أبياته المتقدمة. حتى لقد ذهل ـ على حد قوله ـ الحواضن عن بنيها! وصد الثدي عن فمه الصبي!

وبعد هذا. فلسنا بحاجة إلى كبير عناء، لإدراك مدى دهشة غيرهم: ممن رأوا وسمعوا بمعاملة العباسيين لأبناء عمهم. ولسوف ندرك مدى عظمة دهشتهم تلك إذا ما لاحظنا: أنهم كانوا سياسياً أقل وعيا وتجربة من مثل إبراهيم بن المهدي، الذي عاش في أحضان الخلافة. وكان بمرأى ومسمع من ألاعيب السياسة، ومكر الرجال.

الهدف السابع:

طبيعي بعد هذا: أنه قد أصبح يستطيع أن يدعي، بل لقد ادعى بالفعل ـ على ما في وثيقة العهد ـ: أن جميع تصرفاته، وأعماله، لم يكن يهدف من ورائها، إلا الخير للأمة، ومصلحة المسلمين، وحتى قتله أخاه، لم يكن من أجل الحكم، والرياسة، بقدر ما كان من أجل خير المسلمين، والمصلحة العامة، يدل على ذلك: أنه عندما رأى أن خير الأمة، إنما هو في إخراج الخلافة من بني العباس كلية، وهم الذين ضحوا الكثير في سبيلها، وقدموا من أجلها ما يعلمه كل أحد ـ عندما رأى ذلك ـ وأن ذلك لا يكون إلا بإخراجها إلى ألد أعدائهم، سارع إلى ذلك، بكل رضى نفس، وطيبة خاطر.. وليكون بذلك قد كفر عن جريمته النكراء، والتي كانت أحد أسباب زعزعة ثقة الناس به، ألا وهي: قتله أخاه الأمين، العزيز على العباسيين والعرب. وليكون بذلك، قد ربط الأمة بالخلافة، وكسب ثقتها فيها، وشد قلوب الناس، وأنظارهم إليها، حيث أصبح باستطاعتهم أن ينتظروا منها أن تقيم العدل، وترفع الظلم، وأن تكون معهم، وفي خدمتهم، وتعيش قضاياهم. وليكون لها من ثم من المكانة والتقدير، وما يجعلها في منأى ومأمن من كل من يتحينون بها الفرص، ويبغون لها الغوائل.

١٩٥

ويدل على ذلك ـ عدا عما ورد في وثيقة العهد ـ ما ورد من أن المأمون كتب إلى عبد الجبار بن سعد المساحقي، عامله على المدينة: أن اخطب الناس، وادعهم إلى بيعة الرضا، فقام خطيبا، فقال:

(يا أيها الناس، هذا الأمر الذي كنتم فيه ترغبون، والعدل الذي كنتم تنتظرون، والخير الذي كنتم ترجون، هذا علي بن موسى، بن جعفر، بن محمد، بن علي، بن الحسين، بن علي بن أبي طالب:

ســتـة آبــاؤهـم مــا هــم

من أفضل من يشرب صوب الغمام(١)

وقد أكد ذلك بحسن اختياره، إذ قد اختار هذه الشخصية، التي تمثل ـ في الحقيقة ـ أمل الأمة، ورجاءها، في حاضرها، ومستقبلها، وتكون النتيجة ـ بعد ذلك ـ أنه يكون قد حصل على حماية لكل تصرف يقدم عليه في المستقبل، وكل عمل يقوم به.. مهما كان غريباً، ومهما كان غير معقول، فإن على الأمة أن تعتبره صحيحاً وسليماً، لا بد منه، ولا غنى عنه، وإن لم تعرف ظروفه، ودوافعه الحقيقية. بل وحتى مع علمها بها، فإن عليها أن تؤول ما يقبل التأويل، وإلا. فإن عليها أن تدفن رأسها في التراب، وتتناسى ما تعلم. أو أن تعتبر نفسها قاصرة عن إدراك المصالح الحقيقية الكامنة في تلك التصرفات الغريبة، وأن ما أدركته ـ ولو كان حقاً ـ لا واقع له، ولا حقيقة وراءه. ويدل على ذلك بشكل واضح أبيات ابن المعتز الآتية ص ٣٠٥/٣٠٦ يقول ابن المعتز:

وأعـطاكم الـمأمون حـق خلافة

لـنا حـقها لـكنه جـاد بـالدنيا

لـيعلمكم أن الـتي قـد حرصتموا

عليها وغودرتم على أثرها صرعى

يـسير عـليه فـقدها غـير مكثر

كـما ينبغي للصالحين ذوي التقوى

____________

(١) العقد الفريد ج ٣ / ٣٩٢، طبع مصطفى محمد بمصر سنة ١٩٣٥ و (ما) في البيت زائدة.. ولا يخفى ما في البيت، وقد أثبتناه، كما وجدناه.

١٩٦

وعلى كل حال، فإنه يتفرع على ما ذكرناه:

أولاً: إنه بعد أن أقدم على ما أقدم عليه، فليس من المنطقي بعد للعرب أن يسخطوا عليه، بسبب معاملة أبيه، أو أخيه، وسائر أسلافه لهم، فإن المرء بما كسب هو، لا بما كسب أهله، ولا تزر وازرة وزر أخرى.

وكيف يجوز لهم أن يغضبوا بعد، وهو قد أرجع الخلافة إليهم، بل وإلى أعرق بيت فيهم. وعرفهم عملا: أنه لا يريد لهم، ولغيرهم، إلا الصلاح والخير..

وليس لهم بعد حق في أن ينقموا عليه معاملته القاسية لهم، ولا قتله أخاه، ولا أن يزعجهم، ويخيفهم تقريبه للإيرانيين، ولا جعله مقر حكمه مروا إلى آخر ما هنالك.. ما دام أن الخلافة قد عادت إليهم، على حسب ما يشتهون، وعلى وفق ما يريدون.

ومن هنا.. فلا يجب أن نعجب كثيراً، حين نراهم: قد تلقوا بيعة الرضا بنفوس طيبة، وقلوب رضية. حتى أهل بغداد نرى أنهم قد تقبلوها إلى حد كبير، فقد نص المؤرخون ـ ومنهم الطبري، وابن مسكويه ـ على أن بعضهم وافق، والبعض الآخر ـ وهم أنصار بني العباس ـ رفض. وهذا يدل دلالة واضحة: على أن بغداد، معقل العباسيين الأول، كانت تتعاطف مع العلويين إلى درجة كبيرة..

١٩٧

بل ونص المؤرخون، على أن: إبراهيم بن المهدي، المعروف بابن شكلة، الذي بويع له في بغداد غضبا من تولية الرضا للعهد: لم يستطع أن يسيطر إلا على بغداد، والكوفة والسواد(١) ، بل وحتى الكوفة قد استمرت الحرب قائمة فيها على ساق وقدم أشهراً عديدة بين أنصار المأمون، وعليهم الخضرة، وأنصار العباسيين وعليهم السواد(٢) .

وثانياً: وأما الإيرانيون عامة، والخراسانيون خاصة، والمعروفون بتشيعهم للعلويين، فقد ضمن المأمون استمرار تأييدهم له، وثقتهم به، بعد أن حقق لهم غاية أمانيهم. وأغلى أحلامهم، وأثبت لهم عملاً، حبه لمن يحبون، ووده لمن يودون.. وأن لا ميزة عنده لعباسي على غيره، ولا لعربي على غيره، وأن الذي يسعى إليه، هو ـ فقط خير الأمة، ومصلحتها، بجميع فئاتها، ومختلف طبقاتها، وأجناسها.

ملاحظة هامة:

إن من الجدير بالملاحظة هنا: أن الرضاعليه‌السلام كان قد قدم إلى إيران قبل ذلك. والظاهر أنه قدمها في حدود سنة ١٩٣ ه‍. أي في الوقت المناسب لوفاة الرشيد، فقد ذكر الرضي المعاصر للمجلسي في كتابه: ضيافة الإخوان: أن علياً الرضاعليه‌السلام كان مستخفياً في قزوين في دار داوود بن سليمان الغازي أبي عبد الله، ولداوود نسخة يرويها عن الرضاعليه‌السلام ، وأهل قزوين يروونها عن داوود، كإسحاق بن محمد، وعلي بن مهرويه(٣) .

وقال الرافعي في التدوين: (وقد اشتهر اجتياز علي بن موسى الرضا بقزوين. ويقال: إنه كان مستخفيا في دار داوود بن سليمان الغازي، روى عنه النسخة المعروفة، وروى عنه إسحاق بن محمد، وعلي بن مهرويه، وغيرهما.

____________

(١) راجع البداية والنهاية ج ١٠ / ٢٤٨، وغيره من كتب التاريخ. وزاد أحمد شلبي في كتابه: التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ج ٣ / ١٠٥ ـ زاد على ذلك: المدائن أيضاً.

(٢) راجع: الكامل لابن الأثير ج ٥ / ١٩٠، والبداية والنهاية ج ١٠ / ٢٤٨، وغير ذلك.

(٣) راجع كتاب: ضيافة الإخوان مخطوط في مكتبة المدرسة الفيضية في قم، في ترجمة أبي عبد الله القزويني، وعلي بن مهرويه القزويني.

١٩٨

قال الخليل: وابنه المدفون في مقبرة قزوين، يقال: إنه كان ابن سنتين، أو أصغر)(١) انتهى كلام الرافعي.

والمراد بالخليل في كلامه، هو الخليل بن عبد الله بن أحمد بن إبراهيم الخليلي، القزويني، وهو الحافظ المشهور، مصنف كتاب الإرشاد، وكتاب تاريخ قزوين، الذي فرغ من تأليفه حوالي سنة أربعمائة هجرية، وكانت وفاته سنة ٤٤٦ ه‍.

الهدف الثامن:

لقد كان من نتائج اختياره الإمام، والبيعة له بولاية العهد ـ التي كان يتوقعها ـ: أن أخمد ثورات العلويين في جميع الولايات والأمصار.

ولعله لم تقم أية ثورة علوية ضد المأمون ـ بعد البيعة للرضا، سوى ثورة عبد الرحمان بن أحمد في اليمن. وكان سببها ـ باتفاق المؤرخين ـ هو فقط: ظلم الولاة وجورهم، وقد رجع إلى الطاعة بمجرد الوعد بتلبية مطالبه.

بل لا بد لنا أن نضيف إلى ذلك:

أ ـ : إنه ليس فقط أخمد ثوراتهم. بل لقد حصل على ثقة الكثيرين منهم، ومن والاهم، وشايعهم. والخراسانيون منهم، ويشير المأمون إلى هذا المعنى في رسالته، التي أرسلها إلى عبد الله بن موسى، حيث يقول:

(.. ما ظننت أحداً من آل أبي طالب يخافني، بعد ما عملته بالرضا) والرسالة مذكورة في أواخر هذا الكتاب.. كما أنه كتب للعباسيين في بغداد في رسالته، التي أشرنا إليها غير مرة، يقول لهم: إنه يريد بذلك أن يحقن دماءهم، ويذود عنهم، باستدامة المودة بنيهم، وبين العلويين.

ب: بل ونزيد هنا على ما تقدم: أنه قد بايعه منهم ومن أشياعهم من لم يكن بعد قد بايعه، وهم قسم كبير جداً، بل لقد بايعه أكثر المسلمين، ودانوا له بالطاعة، بعد أن كانوا مخالفين له ممتنعين عن بيعته، حسبما قدمناه.

وهذه دون شك هي إحدى أمنيات المأمون، بل هي أجل أمنياته وأغلاها.

ج: قال ابن القفطي في معرض حديثه عن عبد الله بن سهل ابن نوبخت:

(.. هذا منجم مأموني، كبير القدر في صناعته، يعلم المأمون قدره في ذلك. وكان لا يقدم إلا عالما مشهودا له، بعد الاختيار..

____________

(١) التدوين قسم ٢ ورقة ٢٣٥ مخطوط في مكتبة دار التبليغ الإسلامي في قم، ترجمة علي الرضا..

١٩٩

وكان المأمون قد رأى آل أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب متخشين، متخفين، من خوف المنصور، ومن جاء بعده من بني العباس. ورأى العوام قد خفيت عنهم أمورهم بالاختفاء، فظنوا ما يظنونه بالأنبياء، ويتفوهون بما يخرجهم عن الشريعة، من التغالي.

فأراد معاقبة العامة على هذا الفعل.

ثم فكر: أنه إذا فعل هذا بالعوام زادهم إغراء به، فنظر نظراً دقيقاً، وقال: لو ظهروا للناس، ورأوا فسق الفاسق منهم، وظلم الظالم، لسقطوا من أعينهم، ولانقلب شكرهم لهم ذماً.

ثم قال: إذا أمرناهم بالظهور خافوا، واستتروا، وظنوا بنا سوءاً، وإنما الرأي: أن نقدم أحدهم، ويظهر لهم إماماً، فإذا رأوا هذا أنسوا، وظهروا، وأظهروا ما عندهم من الحركات الموجودة في الآدميين، فيحقق للعوام حالهم، وما هم عليه، مما خفي بالاختفاء، فإذا تحقق ذلك أزلت من أقمته، ورددت الأمر إلى حالته الأولى. وقوي هذا الرأي عنده، وكتم باطنه عن خواصه.. وأظهر للفضل ابن سهل: أنه يريد أن يقيم إماماً من آل أمير المؤمنين علي (صلوات الله عليه).

وفكر هو وهو: فيمن يصلح، فوقع إجماعهما على الرضا، فأخذ الفضل بن سهل في تقرير ذلك. وترتيبه وهو لا يعلم باطن الأمر. وأخذ في اختيار وقت لبيعة الرضا، فاختار طالع السرطان، وفيه المشتري الخ)(١) .

ثم ذكر أن عبد الله بن سهل أراد اختبار المأمون، فأخبره أن البيعة لا تتم إذا وقعت في ذلك الوقت، فهدده المأمون بالقتل إن لم تقع البيعة في ذلك الوقت بالذات، لأنه سوف يعتبر أنه هو الذي أفسد عليه ما كان دبره الخ..

وابن القفطي هنا، لا يبدو أنه يعتبر الإمام الرضاعليه‌السلام من أولئك الذين يريد المأمون إظهار تفاهاتهم للناس، ولكنه يوجه نظره إلى بقية العلويين في ذلك.. ونحن إن كنا لا نستبعد من المأمون ما ذكره ابن القفطي هنا لكننا لا نستطيع أن نعتبر أن هذا كان من الأسباب الرئيسية لدى المأمون، إذ لا نعتقد أن المأمون كان من السذاجة بحيث يجهل أن بقية العلويين لم يكونوا ـ إجمالاً ـ على الحال التي كان يريد أن يظهرهم عليها للناس، وأنهم كانوا أكثر تديناً والتزاماً من أي فئة أخرى على الإطلاق..

____________

(١) تاريخ الحكماء ص ٢٢١، ٢٢٢.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

فكان ذوو الألويات يحرصون على رفعها؛ لكونها معقد الجيش، وبها يتمّ نظامهم وتتطامن نفوسُهم، ولم ينكسر الجيش إلاّ بقتل صاحب الراية وسقوطها.

ومن هنا نعرف مكانة أبي الفضل من البسالة، وموقفه من الشهامة، ومحلّه من الشرف، ومبوءه من الدِّين، ومنزلته من الغيرة، ومرتقاه من السّؤدد يوم عبّأ الحسينعليه‌السلام أصحابه، فأعطى رايته أخاه ( العبّاس ) مع أنّ للعبّاس إخوة من اُمّه وأبيه، وهناك من أولاد أبيه مَن لا يُسلّم اللّواء، كما أنّ في الأصحاب مَن هو أكبر سنّاً منه، مع صدق المفادات، ولكن سيّد الشُّهداءعليه‌السلام وجد أخاه أبا الفضل أكفى ممّن معه لحملها، وأحفظهم لذمامه وأرأفهم به، وأدعاهم إلى مبدئه وأوصلهم لرحمه، وأحماهم لجواره وأثبتهم للطعان، وأربطهم جأشاً وأشدّهم مراساً.

فكان ( صاحب الراية ) عند معتقد أخيه الإمامعليه‌السلام ، ثابت الجأش في ذلك الموقف الرهيب، ثبات الأسد الخادر، وهذا بيان مُطَّرد تلهج به الألسن، وإلاّ فما موقف الأسد منه! ومِن أين له طمأنينة هذا البطل المغوار الثابت فيما يفرُّ عنه الضّرغام؟!

وَلَولا اِحتِقارُ الاُسدِ شَبَّهتُها بِهِم

وَلَكِنَّها مَعدودَةٌ في البَهائِمِ

نعم، أنسب تشبيه يليق بمقامه: أنّه كان يصول ومعه صولةُ أبيه المرتضىعليه‌السلام .

وللعبّاس مزيّة على مَن حمل اللّواء وبارز الأبطال وتقدّم للطعان؛ فإنّهعليه‌السلام قد ألمّت به الكوارث والمحن من نواحي مُتعدّدة؛ من جروح وعطش، وفئة صرعى وحرائر ولهى، وأطفال أمضّ

٢٤١

بها الظمأ، والواحدة منها كافية في أنْ تهدي إلى البطل ضعفاً، وإلى الباسل فراراً، لكن ( صريخة بني هاشم ) بالرغم من كُلِّ هاتيك الرزايا كان يزحف بالراية في جحفل من بأسه، وصارم من عزمه، وكان في حدِّ حسامه الأجلُ المـُتاح، وملكُ الموت طوع يمينه، إذاً فليس من الغريب إذا ظهر في غصن الخلافة ما يبهر العقول!

قَسماً بِصارمِهِ الصَّقيلِ وإنَّني

في غَيرِ صاعقةِ السَّما لا اُقسمُ

لَولا القَضا لَمحى الوُجودَ بِسَيفِهِ

وَاللَهِ يَقضِي ما يَشاءُ وَيحكمُ

٢٤٢

موقفُهُ قبل الطَّفِّ:

يسترسل بعض الكتّاب عن موقفه قبل الطَّفِّ، فيُثبت له منازلة الأقران والضرب والطعن، وبالغوا في ذلك حتّى حُكي عن ( المنتخب ) أنّه يقول: كان كالجبلِ العظيمِ، وقلبُهُ كالطّود الجسيم؛ لأنّه كان فارساً هُماماً، وجسوراً على الضرب والطعن في ميدان الكفّار.

ويُحدّث صاحب الكبريت الأحمر ج٣ ص٢٤ عن بعض الكتب المعتبرة لتتبّع صاحبها: أنّهعليه‌السلام كان عضداً لأخيه الحسينعليه‌السلام يوم حمل على الفرات، وأزاح عنه جيش معاوية ومَلَك الماء.

قال: وممّا يُروى: أنّه في بعض أيّام صفّين خرج من جيش أمير المؤمنينعليه‌السلام شابٌّ على وجهه نقاب، تعلوه الهيبة، وتظهر عليه الشجاعة، يُقدّر عمره بالسّبع عشرة سنة، يطلب المبارزة، فهابه النّاس، وندب معاوية إليه أبا الشعثاء، فقال: إنّ أهل الشام يعدّونني بألف فارس، ولكن أرسل إليه أحد أولادي - وكانوا سبعة - وكُلّما خرج أحد منهم قتله حتّى أتى عليهم، فساء ذلك أبا الشعثاء وأغضبه، ولمـّا برز إليه ألحقه بهم، فهابه الجمع ولم يجرأ أحد على مبارزته، وتعجّب أصحاب أمير المؤمنينعليه‌السلام من هذه البسالة التي لا تعدو الهاشميِّين، ولم يعرفوه لمكان نقابه، ولمـّا رجع إلى مقرّه دعاه أبوه أمير المؤمنينعليه‌السلام وأزال النّقاب عنه، فإذا هو ( قمر بني هاشم ) ولده العبّاسعليه‌السلام .

٢٤٣

قال صاحب الكبريت بعد هذه الحكاية: وليس ببعيد صحة الخبر؛ لأنّ عمره يقدر بالسّبع عشرة سنة، وقد قال الخوارزمي: كان تامّاً كاملاً.

وهذا نصّ الخوارزمي في المناقب ص١٤٧: خرج من عسكر معاوية رجل يُقال له: كُريب، كان شجاعاً قويّاً يأخذ الدرهم فيغمزه بإبهامه فتذهب كتابته، فنادى: ليخرج إليّ عليٌّ. فبرز إليه مرتفع بن وضّاح الزبيدي فقتله، ثُمّ برز إليه شرحبيل بن بكر فقتله، ثُمّ برز إليه الحرث بن الحلاّج الشيباني فقتله، فساء أمير المؤمنينعليه‌السلام ذلك، فدعا ولده العبّاسعليه‌السلام ، وكان تامّاً كاملاً من الرجال، وأمره أنْ ينزل عن فرسه وينزع ثيابه، فلبس عليٌّعليه‌السلام ثياب ولده العبّاس وركب فرسه، وألبس ابنه العبّاس ثيابه وأركبه فرسه؛ لئلا يجبن كُريب عن مبارزته إذا عرفه، فلمـّا برز إليه أمير المؤمنينعليه‌السلام ذكّره الآخرة، وحذّره بأس اللّه وسخطه.

فقال كُريب: لقد قتلتُ بسيفي هذا كثيراً من أمثالك، ثُمّ حمل على أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فاتّقاه بالدرقة وضربه عليٌّعليه‌السلام على رأسه فشقّه نصفين، ورجع أمير المؤمنينعليه‌السلام وقال لولده محمّد بن الحنفيّة:« قفْ عندَ مصرعِ كُريب؛ فإنّ طالبَ وترِهِ يأتيك » . فامتثل محمّدٌ أمر أبيهعليه‌السلام ، فأتاه أحد بني عمّه وسأله عن قاتل كُريب، قال محمّد: أنا مكانه. فتجاولا ثُمّ قتله محمّدٌ، وخرج إليه آخر فقتله محمّد حتّى أتى على سبعة منهم(١) .

وفي ص١٠٥ من المناقب ذكر حديث العبّاس بن الحارث بن عبد المـُطّلب: وقد برز إليه عثمان بن وائل الحميري فقتله

____________________

(١) المناقب للخوارزمي / ٢٢٨، والنّقل بالمعنى.

٢٤٤

العبّاس، فبرز إليه أخوه حمزة - وكان شجاعاً قوياً - فنهاه أمير المؤمنينعليه‌السلام عن مبارزته، وقال له:« انزعْ ثيابَكَ وناولنِي سلاحَكَ وقفْ مكانَكَ، وأنا أخرجُ إليهِ » . فتنكّر أمير المؤمنينعليه‌السلام وبرز إليه وضربه على رأسه، فقطع نصف رأسه ووجهه وإبطه وكتفه، فتعجّب اليمانيُّون من هذه الضربة وهابوا العبّاس بن الحارث(١) .

هذا ما حدّث به في المناقب، ومنه نعرف أنّ هناك واقعتين جرتا لأمير المؤمنينعليه‌السلام مع ولده العبّاس ومع العبّاس بن الحارث؛ فإنكار شيخنا الجليل المـُحدّث النّوري في حضور العبّاس في صفّين، مُدّعياً اشتباه الأمر على بعض الرواة بالعبّاس بن الحارث، في غير محلّه؛ فإنّ الحجّة على تفنيد الخبر غير تامّة؛ لأنّ آحاد هذا البيت ورجالاتهم قد فاقوا الكُلَّ في الفضائل جميعها، وجاؤوا بالخوارق في جميع المراتب، فليس من البِدع إذا صدر من أحدهم ما يمتنع مثله عن الشجعان وإنْ لم يبلغوا مبالغ الرجال.

فهذا القاسم بن الحسن السّبطعليه‌السلام لم يبلغ الحلم يوم الطَّفِّ، وقد ملأ ذلك المشهد الرهيب هيبةً، وأهدى إلى قلوب المقارعين فَرَقاً، وإلى الفرائص ارتعاداً، وإلى النّفوس خَوراً، غير مبالٍ بالجحفل الجرّار، ولا بمكترثٍ بمزدحم الرجال حتّى قتل خمسة وثلاثين فارساً(٢) ، وبطبع الحال فيهم مَن هو أقوى منه، لكنّ البسالةَ وراثةٌ بين أشبال ( عليعليه‌السلام ) على حدٍّ سواء، فهم فيها كأسنان المشط،

____________________

(١) المناقب للخوارزمي / ٢٣١، والنّقل بالمعنى.

(٢) لواعج الأشجان للأمين / ١٧٤، بحار الأنوار ٤٥ / ٣٤، وفيه: فقَتلَ على صغر سنّه خمسة وثلاثين رجلاً. بدلَ فارسٍ.

٢٤٥

صغيرهم وكبيرهم، كما أنّهم في الأنفة عن الدنية سيان، فلم يغتالوا الشبل الباسل حتّى وقف يشدُّ شسع نعله، وهو لا يزن الحرب إلاّ بمثله، وقد أنف ( شبل الوصيِّ ) أنْ يحتفي في الميدان.

أهوى يشدُّ حذاءَهُ

والحربُ مُشرعةٌ لأجْلِهْ

ليَسُومَها ما إنْ غلتْ

هَيْجاؤهَا بِشراكِ نَعْلِهْ

مُتقلِّداً صمْصامَه

مُتفيِّئاً بظلالِ نصْلِهْ

لا تَعْجَبنَّ لفعِلهِ

فالفرعُ مُرتَهنٌ بأصلِهْ

السّحُب يَخلفُها الحَيا

والليّثُ مَنظورٌ بشبلِهْ

يُردِي الطَّليعةَ مِنهُمُ

ويُريهُمُ آياتَ فِعْلِهْ(١)

وهذا عبد اللّه بن مسلم بن عقيل بن أبي طالب، بارز يوم الطَّفِّ الاُلوف مع صغر سنِّه حتّى قتل منهم - على رواية محمّد بن أبي طالب - ثلاثةً وتسعين رجلاً، بثلاث حملات.

وهذا محمّد بن الحنفيّة، فإنّ له مواقفاً محمودة في الجمل وصفِّين والنّهروان، وكانت الراية معه، فأبلى بلاءً حسناً سجَّله له التاريخ وشكره الإسلام، وكان صغير السّنِّ على ما يظهر من السّبط في تذكرة الخواصّ، وابن كثير في البداية ج٩ ص٣٨(٢) ، فإنّهما نصّا على وفاته سنة ٨١ عن خمسٍ وستّين، فتكون ولادته سنة ١٦ للهجرة، وله يوم البصرة الواقع سنة ٣٦ هـ عشرون سنة.

____________________

(١) للعلاّمة السيّد مير علي أبو طبيخرحمه‌الله .

(٢) البداية والنّهاية لابن كثير ٩ / ٣٢، تذكرة الخواصّ ٢ / ٢٩٨.

٢٤٦

وحينئذ فلا غرابة في التحدّث عن موقف أبي الفضلعليه‌السلام وما أبداه من كرٍّ وإقدام؛ خصوصاً بعد ما أوقَفَنا النّص النّبوي الآتي على ما حواه وُلدُ أبي طالب من بسالة وبطولة.

وأمّا يوم شهادة أخيه الإمام المجتبىعليه‌السلام فله أربع وعشرون سنة، وقد ذكر صاحب كتاب ( قمر بني هاشم ) ص٨٤: أنّه لمـّا رأى جنازة سيّد شباب أهل الجنّةعليه‌السلام تُرمى بالسّهام، عظمَ عليه الأمر، ولم يطقْ صبراً دون أنْ جرَّد سيفه وأراد البطش بأصحاب ( البغلة ) لولا كراهيةُ السّبط الشهيدعليه‌السلام الحرب؛ عملاً بوصية أخيهعليه‌السلام :« لا تُهرقْ في أمرِي مَحْجَمةً مِنْ دمٍ » (١) .

فصبر أبو الفضلعليه‌السلام على أحرِّ من جمر الغضا، ينتظرُ الفرصة ويترقَّبُ الوعدَ الإلهي، فأجهد النّفس، وبذل النّفس في مشهد ( النّواويس )، وحاز كلتا الحُسنيين.

____________________

(١) دلائل الإمامة / ١٦٢، الإرشاد للشيخ المفيد / ١٧، عمدة الطالب لابن عنبة / ٦٧ باختلاف الألفاظ.

٢٤٧

موقفُهُ في الطَّفِّ:

ربما يستعصي البيان عن الإفاضة في القول في هذا الفصل لشدّة وضوحه، وربما أعقب الظهور خفاءً؛ فإنّ منْ أبرز الصفات الحميدة في الهاشميِّين الشجاعة، وقد جُبلوا عليها، وبالأخص الطالبيِّين، وقد أوقفنا على هذه الظاهرة الحديث النّبويّ:« لو ولدَ النّاسَ أبو طالبٍ كُلَّهمْ لكانوا شُجعاناً » (١) .

إذاً فما ظنّك بطالبيٍّ أبوه أمير المؤمنينعليه‌السلام قاتل عمر بن عبد ود، ومزهق مرحب، وقالع باب خيبر، وقد عرق في ولده البسالة كُلّها والشهامة بأسرها، وعلّمه قراع الكتائب، فنشأ بين حروبٍ طاحنة وغارات شعواء، وخؤولته العامريّون الذين شهد لهم عقيل بالفروسية؟!

وللخؤولة كالعمومة عرق ضارب في الولد، ومن هنا قالت العرب:( فلان مُعِمٌّ مُخْوِلٌ ) إذا كان كريمهم، وحوى المزايا الحميدة عنهما(٢) ، ولم يعقد أمير المؤمنينعليه‌السلام على اُمِّ البنين إلاّ

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٠ / ٧٨، كشف الغُمَّة ٢ / ٢٣٥ باختلاف ألفاظ الرواية بلفظ:« للّه درُّ أبي طالب! لو وَلد النّاسَ كلَّهم كانوا شُجعاناً » . كما في كشف الغُمَّة للأربلي، أو:« لو ولدَ أبو طالبٍ النّاسَ كُلَّهُمْ لكانُوا شُجعاناً » . كما في شرح النّهج.

(٢) لسان العرب ١١ / ٢٢٤، تاج العروس ١٤ / ٢١٦. وقد نظم هذه الخاصّة أبو بكر محمّد بن العبّاس الخوارزمي، المـُتوفّى سنة ٣٧٣، ففي مُعجم البلدان ١ / ٥٧ بمادة ( آمل ) إنّه قال:

بآملَ مولدِي وبنُو جريرِ

فأخوالِي ويحكِي المرءُ خالَهْ

فها أنا رافضيٌّ عنْ تُراثٍ

وغيرِي رافضيٌّ عنْ كَلالَهْ

عرّض بابن جرير صاحب التاريخ؛ فإنّه أخو اُمّه، وكان من أهل السُّنّة، وإنّما نسبه إلى التشيّع الحنابلة لتصحيحه حديث الغدير، فتشيّعه ادّعائي، وهو المـُعبّر عنه بـ ( الكلالة )؛ فإنّها في اللغة: ما لمْ يكن من النّسب لحاً. فقول الحموي في المـُعجم: ( كذب الخوارزمي؛ لأنّ ابن جرير من أعلام السُّنّة ) مبنيٌّ على عدم فهمه الغرض من البيت، فالخوارزمي لمْ يعترف بتشيعهِ.

وقال الذهبي في تاريخه ٢٧ / ٦٨، وقال الحاكم في تاريخه: كان واحد عصره في حفظ اللغة والشعر، وكان يُذاكرني بالأسماء والكنى حتّى يُحيّرني حفظه...

٢٤٨

لتلد له هذا الفارس المغوار والبطل المـُجرّب، فما أخطأت إرادته الغرض، ولا عدى سهمه المرمى.

فكان أبو الفضل رمز البطولة ومثال الصولات، يلوح البأس على أسارير جبهته، فإذا يَمّم كميّاً قصده الموت معه، أو التقى بمُقبل ولاّه دبره، ولم يبرح هكذا تشكره الحرب والضرب، وتشكوه الهامات والأعناق، ما خاض ملحمة إلاّ وكان ليلها المعتكر، ولم يلفَ في معركة إلاّ وقابل ببشره وجهها المـُكفهر.

يُمثّلُ الكرّارَ في كرَّاتِه

بلْ في المعانِي الغُرِّ مِنْ صفاتِهِ

ليسَ يدُ اللّهِ سِوى أبيه

وقُدرةُ اللّهِ تَجلَّتْ فيهِ

فَهو يدُ اللّهِ وهذا ساعدُه

تُغنِيكَ عَنْ إثباتِهِ مشاهدُهْ

صَولتُهُ عندَ النّزالِ صولتُهْ

لولا الغُلوُّ قُلتُ جلَّتْ قُدرتُه

وهل في وسع الشاعر أنْ ينضد خياله، أو يتسنّى للكاتب أنْ يسترسل في وصف تلك البسالة الحيدريّة، وجوهر الحقيقة قائمٌ بنفسه، ماثلٌ أمامَ الباحث بأجلى مِن كُلّ هاتيك المعرفات في مشهد يوم الطَّفِّ؟!

٢٤٩

ولَعمري، إنّ حديث كربلاء لم يُبقِ لسابقٍ في الشجاعة سبقاً، ولا للاحقٍ طريقاً إلاّ الالتحاق به، فلقد استملينا أخبار الشجعان في الحروب والمغازي يوم شأوا الأقران في الفروسيّة، فلم يعدهم في الغالب الاستظهار بالعدد، وتوفّر العتاد، وتهيء ممدّات الحياة من المطعم والمشرب، وفي الغالب إنّ الكفاية بين الجيشين المتقابلين موجودة.

يسترسل المؤرّخون لذكر شجعان الجاهليّة والحالة كما وصفناها، واهتزّوا طرباً لقصة ربيعة بن مكدم، وهي: إنّ ربيعة بن مكدم بن عامر بن حرثان من بني مالك بن كنانة كان أحد فرسان مضر المعدودين، خرج بالظعينة وفيها اُمّه اُمّ سنان من بني أشجع بن عامر بن ليث بن بكر بن كنانة، واُخته اُمّ عزَّة، وأخوه أبو القرعة، ورأى الظعينة دُريد بن الصمّة، فقال لرجل معه: صح بالرجل أنْ خَلِّ الظعينة وانجُ بنفسك. وهو لا يعرفه.

فلمـّا رأى ربيعة أنّ الرجل قد ألحّ عليه، ألقى زمام النّاقة وحمل على الرجل فصرعه، فبعث دريد آخر فصرعه ربيعة، فبعث الثالث ليعلم خبر الأوَّلَين فقتله ربيعة وقد انكسر رمحه، فلمـّا وافاه دُريد ورأى الثلاثة صرعى ورمحه مكسوراً، قال له: يا فتى، مثلُكَ لا يُقتل، وهؤلاء يثأرون ولا رمح لك، ولكنْ خُذ رمحي وانجُ بنفسك والظعينة. ثُمّ دفع إليه رمحه ورجع دريد إلى القوم، وأعلمهم أنّ الرجل قتل الثلاثة وغلبه على رمحه، وقد منع بالظعينة، فلا طمع لكم فيه(١) .

هذا الذي حفظته السّيرة مأثرة لربيعة بن مكدم بتهالكه دون الظعائن حتّى انكسر رمحه، ولكنْ أين هو من ( حامى الظعينة ) يوم

____________________

(١) الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ١٦ / ٣١٢.

٢٥٠

قاتل الاُلوف، وزعزع الصفوف عن المشرعة حتّى ملك الماء وملأ القربة، والكُلّ يرونه ويحذرونه؟!

وأنّى لربيعة من بواسل ذلك المشهد الرهيب فضلاً عن سيّدهم أبي الفضلعليه‌السلام ، فلقد كان جامع رأيهم، فلم يقدهم إلاّ إلى محلِّ الشرف، مُنكباً بهم عن خطَّة الخسف والضّعة، على حين أنّ الأبطال تتقاذف بهم سكرات الموت؟!

هذا وللسبط المـُقدّسعليه‌السلام طرف شاخص إلى صنوه البطل المـُقدام كيف يرسب ويطفو بين بُهمِ الرجال، ووجهُهُ مُتهلّلٌ لكرّاته، ولحرائر بيت النّبوَّة أملٌ موطَّد لحاميةِ الظعائن.

وإليك مثالاً من بسالته الموصوفة في ذلك المشهد الدامي، وهي لا تدعك إلاّ مُذعناً بما له من ثبات ممنع عند الهزاهز، وطُمأنينة لدى الأهوال.

الأوّل: في اليوم السّابع من المـُحرَّم حُوصر سيّد الشُّهداءعليه‌السلام ومَن معه، وسُدّ عنهم باب الورود، ونفذ ما عندهم من الماء، فعاد كُلٌّ منهم يعالج لهب الأوام(١) ، وبطبع الحال كانوا بين أنّةٍ وحنّة، وتضوّرٍ ونشيج، ومُتطلّبٍ للماء إلى متحرٍّ ما يبلّ غلته، وكُلُّ ذلك بعين ( أبي عليعليه‌السلام ) والغيارى من آله، والأكارم من صحبه، وما عسى أنْ يجدوا لهم وبينهم وبين الماء رماحٌ مُشرعة وبوارقٌ مُرهفة في جمعٍ كثيف يرأسهم عمرو بن الحجّاج، لكنْ ( ساقي العِطاشى ) لمْ يتطامن على تحمّل تلك الحالة.

أَو تَشتَكي العَطشَ الفَواطمُ عِندَهُ

وَبصدرِ صعدَتِهِ الفراتُ المـُفعمُ

وَلو اِستَقَى نَهرَ المَجرَّةِ لارتَقَى

وَطَويلُ ذابلِهِ إِلَيها سُلمُ

____________________

(١) الأوام: العطش. راجع: لسانَ العرب ١٢ / ٣٨، القاموس المحيط ٤ / ٧٧، مجمع البحرين للطّريحي ١ / ١٣٥، تاج العروس ١٦ / ٣٨.

٢٥١

لَو سَدُّ ذي القَرنينِ دُونَ ورودِهِ

نَسَفتْهُ هِمَّتُهُ بِما هوَ أَعظَمُ

في كَفِّهِ اليُسرى السَّقاءُ يقلُّهُ

وَبِكَفِّهِ اليُمنَى الحسامُ المِخْذَمُ

مثل السَّحابةِ لِلفَواطمِ صَوبُهُ

ويُصيبُ حاصبُهُ العَدوَّ فَيُرجَمُ

هناك قيّض الحسينعليه‌السلام لهذه المـُهمّة أخاه العبّاس، في حين أنّ نفسه الكريمة تُنازعه إلى ذلك قبل الطلب، ويحدوه إليه حفاظه المـُرُّ، فأمره أنْ يستقي للحرائر والصبية وإنْ كان دونه شقّ المرائر وسفك المـُهج، وضمّ إليه ثلاثين فارساً وعشرين راجلاً، وبعث معهم عشرين قربة، وتقدّم أمامهم نافع بن هلال الجملي، فمضوا غير مبالين وكُلّ بحفظ الشريعة؛ لأنّهم محتفون بشتيم من آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فتقدّم نافع باللّواء، وصاح به عمرو بن الحجّاج: مَن الرجل؟ وما جاء بك؟

قال: جئنا نشرب من هذا الماء الذي حلأتمونا عنه. فقال له: اشرب هنيئاً. قال نافع: لا واللّه، لا أشرب منه قطرة والحسين ومَن ترى من آله وصحبه عِطاشى. فقال: لا سبيل إلى سقي هؤلاء، وإنّما وُضعنا هاهنا لنمنعهم الماء. ثُمّ صاح نافع بأصحابه: املأوا قربكم.

وشدّ عليهم أصحاب ابن الحجّاج، فكان بعض القوم يملأ القرب وبعضٌ يُقاتل، وحاميهم ( ابنُ بجدتها ) مُسدّد الكماة، المـُتربِّي في حجر البسالة الحيدريّة والمـُرتضع من لبانها ( أبو الفضل )، فجاؤوا بالماء وليس في القوم المناوئين مَن تُحدّثه نفسه بالدنوِّ منهم؛ فرقاً من ذلك البطل المغوار، فبُلّت غلّة الحرائر والصبية الطيِّبة من ذلك الماء، وابتهجت به النّفوس(١) .

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣١٢، مقتل الحسين لأبي مخنف / ٩٨.

٢٥٢

ولكنْ لا يفوت القارئ معرفة: إنّ تلك الكميّة القليلة من الماء ما عسى أنْ تُجدي اُولئك الجمع الذي هو أكثر من مئة وخمسين، رجالاً ونساءً وأطفالاً، أو أنّهم ينيفون على المئتين على بعض الروايات؟! ومِنَ المقطوع به أنّه لم تروِ أكبادهم إلاّ مرّة واحدة، أو أنّها كمصّة الوشل، فسرعان أنْ عاد إليهم الظمأ، وإلى اللّه سبحانه المـُشتكى.

الثاني: كان أصحاب الحسينعليه‌السلام بعد الحملة الاُولى التي استشهد فيها خمسون، يخرج الاثنان والثلاثة والأربعة، وكُلٌّ يحمي الآخر من كيد عدوّه، فخرج الجابريان وقاتلا حتّى قُتلا، وخرج الغفّاريان فقاتلا معاً حتّى قُتلا، وقاتل الحُرُّ الرياحي ومعه زهير بن القَين يحمي ظهره حتّى فعلا ذلك ساعة، فكان إذا شدّ أحدهما واستلحم، شدَّ الآخر واستنقذه حتّى قُتل الحُرُّ(١) .

وفي تاريخ الطبري ج٦ ص٢٥٥: إنّ عمرو بن خالد الصيداوي وسعد مولاه، وجابر بن الحارث السّلماني، ومجمع بن عبد اللّه العائذي شدّوا جميعاً على أهل الكوفة، فلمـّا أوغلوا فيهم عطف عليهم النّاس من كُلِّ جانب وقطعوهم عن أصحابهم، فندب إليهم الحسينعليه‌السلام أخاه العبّاس، فاستنقذهم بسيفه، وقد جُرحوا بأجمعهم، وفي أثناء الطريق اقترب منهم العدو، فشدّوا بأسيافهم مع ما بهم من الجراح وقاتلوا حتّى قُتلوا في مكان واحد، وفازوا بالسّعادة الخالدة.

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣٤٠، مقتل الحسين لأبي مخنف / ١٦٠.

٢٥٣

الشهادة:

لم يفتأ لقمر بني هاشم دؤب على مناصرة الحقّ في شمم وإباء عن النّزول على حكم الدنيّة، منذ كان يرتضع لبان البسالة، وتربّى في حجر الإمامة، فترعرع ونُصبَ عينه أمثلة الشجاعة والتضحية دون النّواميس الإلهيّة، لمطاردة الرجال ومجالدة الأبطال؛ فإمّا فوز بالظفر أو ظفر بالشهادة، فمن الصعب عنده النّزول على الضيم، وهو يرى الموت تحت مشتبك الأسنّة أسعد من حياة تحت الاضطهاد، فكان لا يرى للبقاء قيمةً و( إمام الحقّ ) مكثور، وعقائل بيت الوحي قد بلغ منهنّ الكرب كُلَّ مبلغ.

ولكنْ لمـّا كان - سلام اللّه عليه - أنفس الذخائر عند السّبط الشهيدعليه‌السلام وأعزّ حامته لديه، وطمأنينة الحرم بوجوده وبسيفه الشاهر، ولوائه الخفاق وبطولتِهِ المعلومة، لم يأذن له إلى النّفس الأخير من النّهضة المـُقدّسة، فلا الحسينعليه‌السلام يسمح به، ولا العائلة الكريمة تألف بغيره، ولا الحالة تدعه لأنْ يُغادر وحرائر أبيه بين الوحوش الكواسر.

هكذا كان أبو الفضل بين نزوعٍ إلى الكفاح بمقتضى غريزته، وتأخّرٍ عن الحركة لباعثٍ دينيٍّ وهو طاعة الإمامعليه‌السلام ، حتّى بلغ الأمر نصابه، فلم يكن لجاذب الغيرة أو دافعها مكافئ، وكان مِلْءُ سمعه ضوضاء الحرم من العطش تارة، ومن البلاء المـُقبل اُخرى، ( ومركز الإمامة ) دارت عليه الدوائر، وتقطّعت عنه خطوط المدد، وتفانى صحبه وذووه.

٢٥٤

هنالك هاج ( صاحب اللّواء ) - ولا يلحقه الليث عند الهياج - فمثل أمام أخيه الشهيد يستأذنه، فلم يجد أبو عبد اللّهعليه‌السلام بُدّاً من الإذنْ، حيث وجد نفسه لَتسبق جسمه؛ إذ ليس في وسعه البقاء على تلك الكوارث المـُلمّة من دون أنْ يأخذ ثأره من اُولئك المَرَدة، فعرّفه الحسينعليه‌السلام أنّه مهما ينظر اللّواء مرفوعاً كأنّه يرى العسكر مُتّصلاً والمدد مُتتابعاً، والأعداء تحذر صولته وترهب إقدامه، وحرائر النّبوَّة مُطمئنة بوجوده، فقال له:« أنتَ صاحبُ لوائِي، ولكنْ اطلبْ لهؤلاءِ الأطفالِ قليلاً مِن الماءِ » .

فذهب العبّاسعليه‌السلام إلى القوم ووعظهم وحذّرهم غضب الجبّار، فلم ينفع، فرجع إلى أخيه وأخبره، فسمع الأطفال يتصارخون من العطش، فنهضت بـ ( ساقي العِطاشى ) غيرته الشمّاء وأخذ القربة، وركب فرسه وقصد الفرات، فلم يرعه الجمع المـُتكاثر، وكشفَهم شبلُ عليٍّ عن الماء ومَلَك الشريعة، ومذ أحسّ ببرده تذكّر عطش الحسينعليه‌السلام ، فرأى من واجبه ترك الشرب؛ لأنّ الإمامعليه‌السلام ومَن معه أضرّ بهم العطش، فرمى الماء من يده وأسرع بالقربة محافظاً على مهجة الإمامعليه‌السلام ولو في آن يسير، وقال(١) :

يا نفسُ مِنْ بعدِ الحُسينِ هُوني

وبعدَهُ لا كُنتِ أنْ تكوني

هذا الحُسينُ واردُ المنونِ

وتشْرَبينَ باردَ المعينِ

تـاللّهِ مـا هـذا فعالُ دينِي

فتكاثروا عليه وقطعوا طريقه، فلم يُبالِ بهم، وجعل يضرب فيهم بسيفه، ويقول:

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٥ / ٤٢، مقتل الحسين لأبي مخنف / ١٧٩، ينابيع المودّة لذوي القربى للقندوزي ٣ / ٦٧.

٢٥٥

لا أرْهبُ المَوتَ إذا الموتُ زقا

حتّى اُوارَى في المصاليتِ لَقَى

إنِّي أنَا العبّاسُ أغْدو بالسّقا

ولا أهابُ المَوتَ يومَ المـُلتَقَى

فكمنَ له زيد بن الرقّاد الجهني، وعاونه حكيم بن الطفيل السّنبسي، فضربه على يمينه فقطعها، فأخذ السّيف بشماله وجعل يضرب فيهم، ويقول:

واللّهِ إنْ قَطعتُمُ يَمينِي

إنّي اُحامِي أبداً عَنْ دِينِي

وعَنْ إمامٍ صادقِ اليَقينِ

نجلِ النَّبيِّ الطَّاهرِ الأمينِ

فكمنَ له حكيم بن الطفيل من وراء نخلة، فضربه على شماله فبراها، فضمّ اللّواء إلى صدره.

فعند ذلك أمنوا سطوته وتكاثروا عليه، وأتته السّهام كالمطر؛ فأصاب القربة سهمٌ واُريق ماؤها، وسهمٌ أصاب صدره، وسهمٌ أصاب عينه، وحمل عليه رجلٌ بعمودٍ من حديد وضربه على رأسه المـُقدّس.

وَهوَى بِجَنبِ العَلقميِّ فَلَيتَهُ

لِلشَّاربينَ بِهِ يُدافُ العَلْقمُ

ونادى بصوت عالٍ: عليك منّي السّلام يا أبا عبد اللّه(١) . فأتاه الحسينعليه‌السلام ، ويا ليتني علمتُ بماذا أتاه، أبحياة مُستطارة منه بذلك الفادح الجلل، أو بجاذب من الاُخوّة إلى مصرع صنوه المحبوب!

نعم، حصل الحسينعليه‌السلام عنده وهو يُبصر هيكل البسالة وقربان القداسة فوق الصعيد، وقد غشيته الدِّماء السّائلة وجلّلته النّبال، ورأى ذلك الغصن الباسق قد ألمّ به الذبول، فلا يمينٌ تبطش ولا

____________________

(١) ينابيع المودة لذوي القربى للقندوزي ٣ / ٦٨.

٢٥٦

منطقٌ يرتجز، ولا صولةٌ ترهبُ ولا عينٌ تُبصر، ومرتكز الدماغ على الأرض مبدّدٌ.

أصحيح أنّ الحسينعليه‌السلام ينظر إلى تلكم الفجائع ومعه حياة تقدمه، أو عافية تنهض به؟ لا واللّه، لم يبقَ الحسينعليه‌السلام بعد أبي الفضل إلاّ هيكلاً شاخصاً مُعرّى عن لوازم الحياة، وقد أعرب سلام اللّه عليه عن هذا الحال بقوله:« الآن انكسرَ ظَهرِي، وقلَّتْ حِيلَتِي، وشمتَ بِي عدوِّي » .

وبانَ الانكسارُ فِي جبينِهِ

فاندكّتْ الجِبالُ مِنْ حَنينِهِ

كافلُ أهلِهِ وساقِي صبْيتِهْ

وحاملُ اللِّوا بعالِي همَّتِهْ

وكيفَ لا وهوَ جمالُ بهجتِهْ

وفي مُحيَّاهُ سرورُ مُهجَتِهْ

ورجع إلى المـُخيّم مُنكسراً حزيناً باكياً يُكفكف دموعه بكُمِّه كي لا تراه النّساء(١) ، وقد تدافعت الرِّجال على مخيمه، فنادى بصوت عالٍ:« أمَا مِنْ مُجيرٍ يُجيرُنا؟ أمَا مِنْ مُغيثٍ يُغيثُنا؟ أمَا مِنْ طالبِ حقٍّ يَنصُرُنا؟ أمَا مِنْ خائفٍ مِنَ النّارِ فيذبُّ عنّا؟ » .

كُلّ هذا لإبلاغ الحُجّة، وإقامة العذر حتّى لا يعتذر أحدٌ بالغفلة يوم يقوم النّاس لربِّ العالمين.

ولمـّا رأته سُكينة مُقبلاً أخذت بعنان جواده، وقالت: أينَ عمّي العبّاس، أراه أبطأ بالماء؟ فقال لها:« إنَّ عمَّكِ قُتلْ » . فسمعته زينب فنادت: وا أخاه! وا عبّاساه! وا ضيعتنا بعدك! وبكين النّسوة وبكى الحسينعليه‌السلام معهنّ، ونادى:« وا ضيْعَتَنا بعدَكَ أبا الفضلِ » .

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٥ / ٤٢.

٢٥٧

المشهد المـُطهَّر:

ممّا لا شكّ فيه أنّ الإمام الشهيد أبا عبد اللّهعليه‌السلام لم يترك القتلى في حومة الميدان، وإنّما كان يأمر بحملهم إلى الفسطاط الذي يقاتلون دونه، وهذا وإنْ لم نجده صريحاً في كُلِّ واحد من المـُستشهدين إلاّ أنّ التأمّل فيما يؤثر في الواقعة يقتضيه، وإنّ طبع الحال يستدعيه، ويؤيّده ما في البحار من حمل الحُرِّ حتّى وُضع بين يديّ الحسينعليه‌السلام ، وعند سقوط علي الأكبر أمر الحسينعليه‌السلام فتيانه أنْ يحملوه إلى الفسطاط الذي يُقاتلون دونه، وقد حمل القاسم بنفسه المـُقدّسة حتّى وضعه مع ابنه الأكبر، وقتلى حوله من أهل بيتهعليهم‌السلام .

هذا لفظ ابن جرير وابن الأثير، ومن البعيد جدّاً أنْ يحمل سيّد الشُّهداءعليه‌السلام أهل بيته خاصّة إلى الفسطاط ويترك اُولئك الصفوة الأكارم الذين قال فيهم:« لا أعلمُ أصحاباً أولَى ولا خيراً مِنْ أصحابي » . ففضّلهم على كُلِّ أحد حتّى على أصحاب جدّه وأبيه (صلوات الله عليهما وآلهما)، وإنّ كُلّ أحد لا يرضى من نفسه هذه الفعلة، فكيف بذلك السيّد الكريم الذي علّم النّاس الشّمم والإباء والغيرة؟!

على أنّ الفاضل القزويني يحكي في تظلّم الزهراءعليها‌السلام ص١١٨ عن غيبة النّعماني: أنّ أبا جعفر الباقرعليه‌السلام يقول:« كان الحسينُ يضع قتلاه بعضَهُمْ معَ بعضٍ، ويقول: قتلةٌ مثلُ قتلةِ النَّبيِّينَ وآلِ النَّبيِّين » (١) .

____________________

(١) الغيبة للنعماني / ٢١٩، والنّص:« كان الحسينُ بنُ عليٍّ يضعُ قتلاه بعضَهُمْ إلى بعضٍ، ويقول: قتلانا قتلَى النَّبيِّين » .

٢٥٨

نعم، ممّا لا شكّ فيه أنّهعليه‌السلام ترك أخاه العبّاس في محلّ سقوطه قريباً من المسنّاة، لا لما يمضي في بعض الكتب من كثرة الجروح وتقطّع الأوصال، فلم يقدر على حمله؛ لأنّ في وسع الإمامعليه‌السلام أنْ يُحرّك ذلك الشلو المـُبضَّع إلى حيث أراد ومتى شاء؛ وإلاّ لِما قيل: من أنّ العبّاس أقسم عليه بجدّه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يتركه في مكانه؛ لأنّه وعد سكينة بالماء ويستحي منها(١) ؛ لعدم الشاهد الواضح على كُلِّ منهما.

بل إنّما تركه لسرّ دقيقٍ، ونكتة لا تخفى على المتأمّل ومَن له ذوق سليم، ولولاه لم يعجز الإمامعليه‌السلام عن حمله مهما يكن الحال، وقد كشفت الأيّام عن ذلك السّرّ المصون، وهو: أنْ يكون له مشهد يُقصد بالحوائج والزيارات، وبقعة يزدلف إليها النّاس وتتزلّف إلى المولى سبحانه تحت قبته التي تحك السّماء رفعةً وسناءً؛ فتظهر هنالك الكرامات الباهرة، وتعرف الاُمّة مكانته السّامية ومنزلته عند اللّه؛ فتُقدّره حقّ قدره، وتؤدّي ما وجب عليهم من الحبّ المتأكّد والزورة المتواصلة، ويكونعليه‌السلام حلقة الوصل بينهم وبين اللّه تعالى، وسبب الزلفى لديه.

فشاء المهيمن تعالى شأنه، وشاء وليُّه وحُجّته أنْ تكون منزلة أبي الفضل الظاهريّة شبيهة بالمنزلة المعنويّة الاُخرويّة، فكان كما شاءا وأحبّا.

____________________

(١) الدمعة السّاكبة ٤ / ٣٢٤، قال: أقول: وفي بعض الكتب المعتبرة: إنّ من كثرة الجراحات الواردة على العبّاسعليه‌السلام لم يقدر الحسينعليه‌السلام أنْ يحملهُ إلى محل الشُّهداء، فترك جسده في محلّ قتله ورجع باكياً حزيناً إلى الخيام.

٢٥٩

ولو حمله سيّد الشُّهداءعليه‌السلام إلى حيث مجتمع الشُّهداء في الحائر الأقدس لغمره فضل الإمام الحُجّةعليه‌السلام ، ولم تظهر له هذه المنزلة التي ضاهت منزلة الحُجّج الطاهرينعليهم‌السلام ، خصوصاً بعد ما أكّد ذلك الإمام الصادقعليه‌السلام بإفراد زيارة مُختصّة به، وإذناً بالدخول إلى حرمه الأطهر كما شُرّع ذلك لأئمّة الهدىعليهم‌السلام ، غير ما يُزار به جميع الشُّهداء بلفظ واحد، وليس هو إلاّ لمزايا اختُصّت به.

وقد أرشدتنا آثار أهل البيتعليهم‌السلام على هذا الموضع من مرقده الطيّب، ففي كامل الزيارات لابن قولويه ص٢٥٦ بسند صحيح عن أبي حمزة الثمالي، عن الصادقعليه‌السلام قال:« إذا أردتَ زيارةَ العبّاسِ بنِ عليٍّ وهو على شطِّ الفُراتِ بحذاء الحَيْر، فقف على باب السّقيفة، وقل: سلامُ اللّهِ وسلامُ ملائكتِهِ... » .

وحكى المجلسي - أعلى اللّه مقامه - في مزار البحار، عن الشيخ المفيد وابن المشهدي زيارةً اُخرى له في هذا المشهد الذي أشار إليه الصادقعليه‌السلام ، برواية غير مُقيّدة بوقت من الأوقات. وهكذا حُكي عن المفيد والشهيد والسيّد ابن طاووس في زيارة النّصف من رجب، وليلة القدر، ويومَي العيدين، ومثله العلاّمة النّوري في تحيّة الزائر.

وعبارة المفيد في الإرشاد صريحة فيما نصّت به رواية أبي حمزة الثمالي؛ فإنّه قال عند ذكر مَن قُتل من آلِ الحسينعليه‌السلام : وكلُّهم مدفونون ممّا يلي رجلَي الحسينعليه‌السلام في مشهده، حُفر لهم حفيرة واُلقوا فيها جميعاً... إلاّ العبّاس بن عليٍّ رضوان اللّه عليه، فإنّه دُفن في موضع مقتله على المسنّاة بطريق الغاضريّة، وقبره ظاهرٌ،

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394