مقتل العباس (عليه السلام)

مقتل العباس (عليه السلام)15%

مقتل العباس (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 394

  • البداية
  • السابق
  • 394 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 77208 / تحميل: 11570
الحجم الحجم الحجم
مقتل العباس (عليه السلام)

مقتل العباس (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

ولمـّا نزل في بدر بأقرب ماء هناك، قال له الحباب بن المنذر: أرأيت يا رسول اللّه هذا المنزل؟ منزلاً أنزلك اللّه به أمْ هو الرأي والمكيدة والحرب؟

فقال:« هو الرأي والحرب » .

فأشار عليه بأنْ ينهض ويأتي أدنى منزل من القوم فينزل على الماء، ثُمّ يعمل حوضاً يملأه ماءً يشرب منه المسلمون، ولا يشرب منه أعداؤهم. فأخذ برأيه وارتحل حتّى أتى الماء ونزل عليه(١) .

ولمـّا قصده الأحزاب أراد أنْ يُصالح عيينة بن حصين، والحارث بن عوف على ثلث أثمار المدينة؛ ليرجعا بمَنْ معهما من غطفان، فشاور في ذلك سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وسعد بن فزارة، فأشاروا عليه ألاّ يُعطيهم شيئاً، فعمل بمشورتهم، وكان الفتح له(٢) . كُلّ ذلك إيذاناً وتنبيهاً بما هو اللازم من التريّث والأخذ بحقائق الاُمور.

وسار الأئمّة من آله على هذا النّهج، فكان الإمام الرضاعليه‌السلام يذكر أباه موسى بن جعفرعليه‌السلام ويقول:« كان عقلُهُ لا يُوازَن به العقول، وربما شاورَ بعضَ عبيدِهِ فيُشير عليه من الضَّيعةِ والبُستانِ فيعمل به، فقيل له: أتشاورُ مثل هذا؟! فقال عليه‌السلام : رُبما فُتح على لسانِهِ » (٣) .

ولمـّا كتب إليه عليُّ بنُ يقطين بما عزم عليه موسى الهادي من

____________________

(١) اُسد الغابة ١ / ٣٦٥، تاريخ الطبري ٢ / ١٤٤، تاريخ الإسلام للذهبي ٢ / ٥٣، الثقات لابن حبّان ١ / ١٦٢، إمتاع الأسماع للمقريزي ٩ / ٢٤٣.

(٢) تاريخ الإسلام ٣ / ٣٤٨، إمتاع الأسماع للمقريزي ١ / ٢٣٩.

(٣) المحاسن للبرقي ٢ / ٦٠٢ بلفظ:« وربما شاور الأسودَ مِنْ سُودانِهِ » .

٢١

الفتك به، وأنّه سمعه يقول: قتلني اللّه إنْ لم أقتل موسى بن جعفر، فلمـّا ورد الكتاب عليه، شاور أهل بيته وشيعته وأطلعهم على الكتاب، وقال لهم:« ما تُشيرون عليَّ؟ » .

قالوا: نشير عليك - أصلحك اللّه - أنْ تُباعد شخصك من هذا الجبّار. فلم يتباعد عن مشورتهم، ولكنّه أوقفهم على غامض أسرار اللّه من هلاك الطاغي، فكان كما قال(١) .

وكان الأئمّةعليهم‌السلام - وهم العالمون بما كان وما يكون - يتّخذون الوسائل العادية لدفع الأضرار عنهم إذا علموا تأخّر القضاء؛ من مراجعة الطبيب، أو الشخوص نحو المـُهيمن جلّ شأنُه، أو الشكوى إلى جدّهم النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله . ولما سُقي الإمام الحسنعليه‌السلام العسلَ المسمومَ وأعتلّ، تداوى بالحليب فعُوفي، وحين عادت إليه العلّةُ أخذ يسيراً من تُربة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ومزجها بالماء فشربه وعوفي(٢) .

وقال الإمام الهاديعليه‌السلام لأبي هاشم الجعفري حين مرض بسامراء:« ابعثوا رجلاً إلى (الحائر) يدعو اللّه لي بالشّفاء من العلّة » . فقال علي بن بلال: ما يصنع بالحير، أليس هو الحير(٣) ؟! فلم يدرِ أبو هاشم ما يُجيبه حتّى دخل على الهاديعليه‌السلام وحكى له قوله. فقالعليه‌السلام :« ألا قُلتَ له: إنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يطوفُ بالبيت ويُقبّل الحَجَر، وحرمةُ النّبيِّ والمؤمنِ أعظمُ من حُرمة البيتِ. وأمرَه

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٨ / ١٥١.

(٢) الكامل للبهائي / ٤٥٣.

(٣) هكذا وردت مفردة ( الحير ) في الأصل، ولعلّها ( الحائر ) كما في بعض المصادر.( موقع معهد الإمامَين الحسنَين)

٢٢

اللّه تعالى أنْ يقف بعرفات، وإنّما هي مواطن يُحبّ اللّه أنْ يُذكر فيها، وأنا اُحبّ أنْ يُدعَى لي حيثُ يُحبُّ اللّهُ أنْ يُدعَى فيها » (١) .

والغرض من هذا كلِّه، التعريف بأنّه لم يجب في التكوينات إلاّ جري الاُمور على مجاريها العاديّة وأسبابها الطبيعيّة، وأنّه لا غناء عنها لأيّ أحد، وأنّ الأئمّة من أهل البيتعليهم‌السلام وإنْ أمكنهم إعمال ما أقدرهم عليه اللّه سبحانه من التصرّفات حسبما يُريدون، لكنّهم في جميع أدوارهم مُقتدى الاُمّةِ، ومُسيّروهم إلى ما يُراد منهم من أمر الدِّين والدُّنيا، فعلى نهجهم يسير النّاس، وبأفعالهم يتأسّى البشر، وبإرشادهم تُرفع حُجبُ الأوهام.

وعلى هذا الأساس مشى أمير المؤمنينعليه‌السلام في اختيار الزوجة الصالحة.

____________________

(١) الكافي ٤ / ٥٦٧، ٥٦٨، ح٣، كامل الزيارات / ٤٥٩، ح [٦٩٧] ١، وسائل الشيعة ١٤ / ٥٣٨ ح (١٩٧٧٥) ٣، ونصُّ الرواية كالتالي: « عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن أبي هاشم الجعفري قال: بعث إليّ أبو الحسنعليه‌السلام في مرضه، وإلى محمّد بن حمزة، فسبقني إليه محمّد بن حمزة وأخبرني محمّد: مازال يقول:« ابعثوا إلى الحير، ابعثوا إلى الحير ». فقلتُ لمحمّد: ألا قلت له أنا أذهب إلى الحير. ثمّ دخلت عليه، وقلت له: جُعلت فداك! أنا أذهب إلى الحير؟ فقال:« انظروا في ذاك » . ثمّ قال لي:« إنّ محمّداً ليس له سرٌّ من زيد بن علي، وأنا أكره أنْ يسمع ذلك » .

قال: فذكرت ذلك لعليِّ بن بلال، فقال: ما كان يصنع [بـ] الحير وهو الحير. فقدمت العسكر، فدخلت عليه، فقال لي:« اجلس » . حين أردت القيام، فلمـّا رأيتُه أنِس بي، ذكرتُ له قول علي بن بلال، فقال لي:« ألا قلتَ له: إنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يطوف بالبيت ويُقبّل الحَجَر، وحرمةُ النّبيِّ والمؤمن أعظم من حرمة البيت. وأمَرَه اللّه عزّ وجل أنْ يقف بعَرَفة، وإنّما هي مواطن يُحبّ اللّه أنْ يُذكر فيها، فأنا اُحبُّ أنْ يُدعى [ اللّه ] لي حيث يُحب اللّه أنْ يُدعى فيها... » .

٢٣

على أنّ التأمّل في كلامه يُفيدنا عدم الاستشارة من أخيه؛ فإنّه قال لعقيل:« انظُرْ لي امرأةً قد ولدتها الفحُولةُ من العرب » . فهوعليه‌السلام في مقام الطلب من أخيه أنْ يخطب امرأةً تصلح له، لا أنّه في مقام الاستشارة والاستطلاع منه؛ لكونه عالماً بأنساب العرب، وعارفاً ببيوتات الشرف والمنعة والفروسيّة.

٢٤

سلسلة الآباء:

هو العبّاس بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام بن عبد المـُطّلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النّضر بن كنانة بن خُزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نِزار بن معد بن عدنان.

إلى هنا يقف الباحث عن الإتيان بباقي الآباء الأكارم إلى آدمعليه‌السلام ، بعد ما يقرأ قول النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله :« إذا بَلغ نَسبي إلى عدنانَ فامسكُوا » (١) . وكأنّه نظر إلى غرابة تلكم الأسماء وتعاصيها على نطق العامّة، فكان التصحيف إليها أسرع شيء، فيعود وهناً في ساحة جلالتهم، وخفّةً في مقدارهم، وقد ولدوا الرّسول الأعظم والوصيَّ المـُقدّم صلّى اللّه عليهم أجمعين.

وكيف كان فالمـُهمّ الذي يجب الهتاف به هو كون كُلّ واحد من هؤلاء الأنجاب غير مُدنّس بشيء من رجس الجاهليّة، ولا موصوماً بعبادة وثنٍ، وهو الذي يرتضيه علماء الحقّ؛ لكونهم صدّيقين بين أنبياء وأوصياء.

وقد نزّههم اللّه تعالى في خطابه لنبيّه الأقدسصلى‌الله‌عليه‌وآله :( وَتَقَلُّبَكَ فِي

____________________

(١) مناقب آل أبي طالب ١ / ١٣٤، كشف الغُمّة ١ / ١٥.

٢٥

السّاجِدِينَ ) (١) . فإنّه أثبت لهم جميعاً - بلفظ الجمع المـُحلّى باللام - السّجودَ الحقَّ الذي يرتضيه لهم. وإنّ ما يؤثر عنهم من أشياء مستغربة لابدّ أنْ يكون من الشريعة المشروعة لهم، أو يكون له معنىً تُظهره الدراية والتنقيب.

وليس آزر - الذي كان ينحت الأصنام وكاهن نمرود - أبا إبراهيم الخليل عليه‌السلام (٢) ، الذي نزل من ظهره؛ لأنّ أباه اسمه تارخ، وآزد:

____________________

(١) سورة الشعراء / ٢١٩.

(٢) اختلفوا في أنّ الذي قيل له: (عرق الثرى) إبراهيم أمْ إسماعيل، فالذي عليه السّهيلي في الروض الاُنف ١ / ٨، إنّه إبراهيم، وعلّله: بأنّ الثرى لا تأكله النّار، وإبراهيم لا تأكله النّار.

ويظهر من الإمام الصادقعليه‌السلام ، لمـّا تخطّى النّار، وقال:« أنا ابنُ أعراق الثَّرى، أنا ابنُ إبراهيم خليل الرّحمن » ، الإشارة إليه.

الكافي ١ / ٤٧٣، نوادر المعجزات لابن جرير / ١٥٤.

ونصّ عليه في البحار ٣٥ /٤١ في باب نسب أبي طالب، قال: وإبراهيم (عرق الثرى). وفي ٤٤/١٠٤ عند قول الإمام الحسنعليه‌السلام :« أنا وهو، أين ابنُ أعراق الثّرى... » .

قال: رأيت في بعض الكتب أنّ عرق الثرى إبراهيم؛ لكثرة ولده في البادية. ولعلّ عبد اللّه بن أيوب الخريبي الشاعر في مرثية الإمام الرضاعليه‌السلام يُشير إليه، كما في البحار ٤٩ / ٣٢٥ في باب مراثيه:

يابنَ الذَبيِحِ ويَابنَ أعراقِ الثّرى

طَابَتْ أروُمَتَهُ وطَابَ عُرُوقُها

ولكن في نصّ الطبري ٢ / ٢٨، والبداية والنّهاية ٢ / ٢٤٥، والبحار ١٥ / ١٠٥، عن اُمّ سلمة: إنّ عرق الثرى إسماعيل.

وقد جاء ذكر الثرى في شعر امرئ القيس والفرزدق، ولم يُعلم منه المراد. قال امرؤ القيس على ما في أمالي المرتضى ١ / ١١٩:

فَبَعضَ اللّومِ عاذِلَتي فَإِنّي

سَتَكفيني التَّجارِبُ وَاِنتِسابي

إِلى عِرقِ الثَّرى وَشَجَت عُروقي

وَهَذا المَوتُ يَسلِبُني شَبابي

وقال الفرزدق كما في كامل ابن الأثير ٣ / ٤٦٩:

أَنا اِبنُ الجِبالِ الشُّمِّ في عَدَدِ الحَصى

وَعِرقُ الثَّرى عِرقي فَمَنْ ذا يُحاسِبُهْ

وفي أخبار الزمان / ٨٠، عدنان ابن عرق الثرى، وأيضاً تجده في: اُسد الغابة لابن الأثير ١ / ٣٧٩، حياة الإمام الحسن للقرشي / ١٣٠.

٢٦

إمّا أنْ يكون عمّه، كما يرتئيه جماعة من المؤرّخين، وإطلاق الأب على العمّ شائع على المجاز، وجاء به الكتاب المجيد:( أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ ) (١) . فأطلق على إسماعيل لفظ الأب، ولم يكن أبا يعقوب وإنَّما هو عمُّه، كما اُطلق على إبراهيم لفظ الأب وهو جدّه.

وإمّا أنْ يكون آزر جدَّ إبراهيم لاُمّه كما يراه المنقّبون، والجدُّ للاُمّ أبٌ في الحقيقة، ويؤيّد أنّه غير أبيه قوله تعالى:( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ ) (٢) . فميّزه باسمه، ولو أراد أباه الذي نزل من ظهره لاستغنى بإضافة الاُبوّة عن التسمية بآزر.

وصرّح الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بطهارة آبائه عن رجس الجاهليّة وسفاح الكفر، فقال:« لمـّا أراد اللّه أنْ يخلقنا، صوّرنا عمودَ نورٍ في صُلب آدم، فكان ذلك النّور يلمع في جبينه، ثمّ انتقل إلى وصيّه شيث. وفيما أوصاه به: ألاّ يضع هذا النّور إلاّ في أرحام المـُطهّرات من النّساء، ولم تزلْ هذه الوصيّةُ معمولاً بها يتناقلها كابرٌ عن كابر، فولَدَنا الأخيارُ من الرجال والخيِّراتُ المـُطهّرات المـُهذّبات من النّساء حتّى

____________________

(١) سورة البقرة / ١٣٣.

(٢) سورة الأنعام / ٧٤.

٢٧

انتهينا إلى صُلب عبد المـُطّلب، فجعله نصفين؛ نصفاً في عبد اللّه فصار إلى آمنة، ونصفاً في أبي طالب فصار إلى فاطمةَ بنتِ أسد » .

أمّا ( عدنان ) فقد أوضح في خطبه عن ظهور النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّه من ذُرّيّته وأوصى باتّباعه.

وكان ابنه ( معد ) صاحب حروب وغارات على بني إسرائيل ممّن حاد عن التوحيد، ولم يُحارب أحداً إلاّ رجح عليه بالنّصر والظفر، ولكونه على دين التوحيد ودين إبراهيم الخليل، أمر اللّه أرميا أنْ يحمله معه على البراق كيلا تُصيبه نقمة بختنصّر، وقال سبحانه لأرميا:« إنّي سأخرجُ مِنْ صُلبِهِ نبيّاً كريماً أختمُ به الرُّسلَ » . فحمله إلى أرض الشام إلى أنْ هدأت الفتن بموت بختنصّر(١) .

وكان السّبب في التسمية بـ ( نزار ): إنّ أباه لمـّا نظر إلى نور النّبوّة يشعُّ من جبهته سرّه ذلك، فأطعم النّاس لأجله، وقال: إنّه نزرٌ في حقّه(٢) . وورد النّهي عن سبّ ربيعة ومضر؛ لأنّهما مؤمنان. ومن كلام مضر: مَن يزرع شرّاً يحصد ندامةً.

و ( إلياس بن مضر ) كبيرُ قومه وسيّدُ عشيرته، وكان لا يُقضى أمرٌ دونه، وهو أوّل مَن هدى البُدنَ إلى البيت الحرام، وأوّل مَن ظفر بمقام إبراهيم لمـّا غرق البيت في زمن نوح، وكان مؤمناً موحّداً وردّ النّهي عن سبّه(٣) .

وقد أدرك مدركة بن إلياس كلَّ عزٍّ وفخر كان لآبائه، وكان فيه

____________________

(١) السّيرة الحلبيّة ١ / ٢٠.

(٢) الروض الاُنف ١ / ٨.

(٣) الروض الاُنف ١ / ٨.

٢٨

نور النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

و ( كنانة ) شيخٌ عظيمُ القدر، حَسَن المنظر، كانت العرب تحجّ إليه لعلمه وفضله، وكان يقول: قد آن خروج نبيٍّ من مكّة يُدعى أحمد، يدعو إلى اللّه، وإلى البرّ والإحسان ومكارم الأخلاق، فاتّبعوه تزدادوا شرفاً وعزّاً إلى عزّكم، ولا تُكذِّبوا ما جاء به فهو الحقّ.

وممّا يؤثر عنه: رُبّ صورةٍ تخالف المـُخبرة قد غرّت بجمالها، واختُبر قبحُ فعالها، فاحذر الصور واطلب الخبر. وكان يأنف أنْ يأكل وحده.

وولده ( النّضر ) ( قريش عند الفقهاء ) فلا يُقال لأولاد مَن فوقه: قَرشي؛ وإنّما أولاده مثل مالك وفهر، فمَن وَلَده النّضر فهو قرشي، ومَن لمْ يلده فليس بقرشي(١) .

وأمّا ( فهر )، فقد حارب حسّان بن عبد كلال حين جاء من اليمن في حمير؛ لأخذ أحجار الكعبة ليبني بها بيتاً باليمن يزوره النّاس، فانتصر فهرٌ واُسّر حسّان وانهزمت حمير، وبقي حسّان في الأسر ثلاث سنين، ثمّ فدى نفسه بمال كثير وخرج، فمات بين مكّة واليمن، فهابت العرب فهراً وأعظموه وعلا أمره، خصوصاً مع ما يشاهدون في جبهته من نور النّبوّة.

ويؤثر عنه قوله لولده غالب: قليلُ ما في يدك أغنى لك من كثير ما أخلق وجهك وإنْ صار إليك. وكان مُوحّداً(٢) .

ولم يزل كعب بن لؤي يذكر النّبيَّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويُعلِمْ قريشاً أنّه من وُلده، ويأمرهم باتّباعه ويقول: اسمَعوا وعُوا، وتعلَّموا تَعلَموا، وتفهّموا

____________________

(١) السّيرة الحلبيّة ١ / ٦١.

(٢) السّيرة الحلبيّة ١ / ٢٦.

٢٩

تَفهَموا. ليلٌ داجٍ ونهارٌ ساجٍ، والأرضُ مهادٌ والجبالُ أوتادٌ، والأوّلون كالآخرين، كلُّ ذلك إلى بلاء، فصلوا أرحامكم، وأصلحوا أحوالكم، فهل رأيتم مَن هلك رجع، أو ميّتاً نُشر؟ الدّار أمامكم، والظنّ خلاف ما تقولون، زيّنوا حرمكم وعظّموه، وتمسّكوا به ولا تفارقوه، فسيأتي له نبأٌ عظيم، وسيخرج منه نبيٌّ كريم، ثمّ قال:

نهارٌ وليلٌ واختلافُ حوادثٍ

سواءٌ عَلينا حلوُها ومريرُها

يؤوبانِ بالأَحداثِ حتّى تأوّبا

وبالنِّعمِ الضافي علينا ستُورُها

على غفلةٍ يأتِي النّبيُّ محمّدٌ

فيُخبرُ أخباراً صَدُوقاً خبيرُها

ثمّ قال:

يَاليتني شاهِدٌ فَحْواءَ دعوتهِ

حينَ العشيرةُ تبغي الحقَّ خُذلانا(١)

ولجلالته وشرفه في قومه؛ أرّخوا بموته، ثمّ أرّخوا بعام الفيل، ثمّ بموت عبد المـُطّلب. وهو أوّل مَن سمّى: يوم الجمعة؛ لاجتماع قريش فيه، وكان اسمه في الجاهليّة العَروبة. ولمـّا جاء الإسلام أمضاه(٢) .

و ( كلاب بن مرّة ) الجدُّ الثالث لآمنة اُمّ النّبيِّ، والرابع لأبيه عبد اللّه، كان معروفاً بالشجاعة، ونور النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله لائح في جبهته.

ولا تسل عن سيّد الحرم ( قَصي )، فلقد جمع قومه من منازلهم وأسكنهم أرض مكّة، وأمرهم بالبناء حول البيت لتهابهم العرب، فبنَوا حول جوانبه الأربعة، وجعلوا لهم أبواباً تخصُّهم؛ فباب لبني شيبة، وباب لبني جَمح، وباب لبني مخزوم، وباب لبني سهم،

____________________

(١) السّيرة الحلبيّة ١ / ٢٥، السّيرة النّبويّة لابن كثير ١ / ١٦٧.

(٢) السّيرة الحلبيّة ٣ / ١٦٩.

٣٠

وتركوا قدر الطّواف بالبيت. وبنى قصيٌّ دار النّدوة للمشاورة والتَّفاهم فيما يعرض عليهم من المـُهمّات، وتيمّنت قريش برأيه؛ وسُمّي مجمعاً.

وعند مجيء الحاجِّ، قال لقريش: هذا أوانُ الحجِّ، وقد سَمعتْ العربُ بما صنعتم وهم لكم مُعظّمون، ولا أعلمُ مَكرُمةً عند العرب أعظم من الطعام، فليخرج كلُّ إنسانٍ منكم مِن ماله خرجاً. ففعلوا وجمع مالاً كثيراً، ولمـّا جاء الحاجُّ نحر لهم على كلِّ طريقٍ من طُرق مكّة جزوراً، غير ما نحره بمكّة، وأوقد النّار بالمزدلفة ليراها النّاس(١) ، وصنع للناس طعاماً أيام منى، وجرى عليه الحال حتّى جاء الإسلام، فالطعام الذي يصنعه السّلطان أيام منى كلَّ عامٍ من آثار قَصي(٢) .

ومن هنا خضعت خُزاعة لقصي، وسلّمت له أمر الحرم وسدانة البيت الحرام بعد أنْ كانت عند حليلٍ، وعند قصيٍّ ابنته، وهي اُمّ أولاده.

تولّى قصيٌّ سدانة البيت؛ إمّا بوصاية من حليل - عند الموت - إليه، أو أنّها كانت عند ابنته زوج قصي بالوراثة، فقام زوجها بتدبير شؤون البيت لعجز المرأة عن القيام بهذه الخدمة، أو أنّ أبا غبشان الخُزاعي كان وصيَّ حليلٍ على هذه السّدانة، فعاوضه عليها قصيٌّ بأثواب وأذواد من الإبل.

هذا هو الصحيح المأثور في ولاية قصي سدانة البيت، ويتّفق

____________________

(١) السّيرة الحلبيّة ١ / ٢١.

(٢) تاريخ الطبري ٢ / ١٨٥.

٣١

مع العقل الحاكم بنزاهة جدّ الرسول الأقدس خاتم الأنبياءصلى‌الله‌عليه‌وآله عمّا تأباه شريعة إبراهيم الخليلعليه‌السلام من المعاوضة بالخمر المـُحرّم في جميع الأديان.

أيجوز لجدّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أنْ يجعل للخمر قيمة - وثمنها سحتٌ - وهو المانع عنها، المـُحذّر قومه منها؟! فإنّه قال لولده وقومه: اجتنبوا الخمر؛ فإنّها لا تُصلحُ الأبدانَ، وتُفسدُ الأذهان. فكيف يعاوض بها؟! بل لا يتحيّل إلى مطلوبه بالخمر، وهو القائل: مَن استحسن قبيحاً نزل إلى قُبحهِ، ومَن أكرم لئيماً أشركه في لؤمهِ، ومَن لمْ تُصلحه الكرامةُ أصلحه الهوانُ، ومَن طلب فوق قدرِهِ استحقّ الحرمانُ، والحسودُ هو العدوّ الخفي(١) .

وقد جمع أطراف المجد والشرف ( عبد مناف ) ابن قصي؛ ولبهائه وجمال منظره قيل له: ( قمرُ البطحاء ). وكان سَمحاً جواداً لا يعدم أحداً من ماله حتّى في أيام أبيه، فقيل له: ( الفيّاض ). ويُسمّى منافاً؛ لأنّه أناف على النّاس وعلا أمرُهُ حتّى ضربت له الركبان من أطراف الأرض(٢) ، وكان اسمه عبد، ثمّ اُضيف إلى مناف، فقيل له: عبد مناف. وهذا هو الصحيح المأثور.

وأمّا ما أثبته ابن دحلان في السّيرة النّبويّة مِن أنّ اُمّه أخدمته صنماً اسمه مناف، بعيد عن الصواب؛ إذ لا شكّ في نزاهة آباء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله واُمّهاته في جميع أدوار حياتهم من الخضوع للأصنام؛ كرامة لحبيبه وصفيّه الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فليس بصحيح ما يُقال: من أنّ في آباء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله واُمّهاته مَن يعبد الصنم، أو يخضع له؛ لشهادة ما تقدّم من

____________________

(١) السّيرة الحلبيّة ١ / ٢١.

(٢) إثبات الوصية / ٧٥.

٣٢

الأحاديث عليه، وإليه أشار البوصيري:

لمْ تَزَلْ في ضمائرِ الكونِ تُختَا

رُ لك الأُمهاتُ والآباءُ(١)

على أنّه لم يكن من الأصنام اسمه ( مناف )، وإنّما الموجود ( مناة ) بالتاء المـُثناة من فوق؛ ومن هنا كان يقول ابن الكلبي في كتاب الأصنام: ٣٢: لا أدري أين كان هذا الصنم؟ ولمَنْ كان؟ ومَن نصبه؟(٢) .

ومنه نعرف الغلط في قول البرقي والزبير: أنّ اُمّه أخدمته مناة ( بالتاء المثناة من فوق ) فسُمّي عبد مناة، ولكن رأي قصي يوافق عبد مناة بن كنانة فحوّله عبد مناف.

وكان بيت عبد مناف أشرف بيوتات قريش(٣) ، ولسيادته كان عنده قوس إسماعيل ولواء نزار.

ومن وصيّته ما وُجد مكتوباً في بعض الأحجار: اُوصي قريشاً بتقوى اللّه جلّ جلاله، وصلة الرحم(٤) .

وجرى ابنه هاشم على سيرته حتّى فاق قريشاً وسائر العرب، وأذعنوا له، وكان يُطعم الحاجَّ كما كان يصنع أبوه. وأصابت قريشاً سنة مُجدِبة، فخرج هاشم إلى الشام واشترى الدقيق والكعك، فهشم الخبز ونحر الجزر، وأطعم النّاس حتّى أشبعهم، وكانت مائدته منصوبةً لا ترفع في السّراء والضرّاء، وكان يحمل ابن السّبيل، ويؤمن الخائف، وإذا أهلّ هلالّ ذي الحجّة قام في صبيحته وأسند

____________________

(١) السّيرة الحلبيّة ١ / ٧١.

(٢) معجم البلدان للحموي ٥ / ٢٠٣ والعبارة التي فيه: ولا أدري أين كان؟ ولا مَن كان نصبه؟

(٣) سُبل الهدى والرشاد ١ / ٢٧٢.

(٤) السّياسة الشرعيّة لابن تيمية ١ / ٥٧.

٣٣

ظهره إلى الكعبة من تلقاء بابها وخطب النّاس، فقال:

يا معشر قريش، إنّكم سادة العرب؛ أحسنها وجوهاً، وأعظمها أحلاماً، وأوسطها نسباً، وإنّكم جيران بيت اللّه، أكرمكم اللّه بولايته، وخصّكم بجواره دون بني إسماعيل، وإنّه يأتيكم زوّارُ اللّه يُعظّمون بيته فهم أضيافه، وحقّ مَنْ أكرم أضياف اللّه أنتم، فأكرموا ضيفه وزوّاره؛ فإنّهم يأتونه غبراً مِن كلِّ بلد على ضوامر كالقداح.

فوربَّ هذه البَنيَّة، لو كان لي مالٌ يحتمل ذلك لكفيتموه، وأنا مُخرجٌ من طيب مالي وحلالي ما لم يُقطع فيه رحمٌ، ولم يُؤخذ بظلمٍ، ولم يدخل فيه حرام، فمن شاء منكم أنْ يفعل مثل ذلك فعل. وأسألكم بحرمة هذا البيت، أنْ لا يخرج رجل منكم من ماله - لكرامة زوّار بيت اللّه وتقويتهم - إلاّ طيّباً؛ لم يقطع فيه رحم، ولم يُؤخذ غصباً.

فكانوا يجتهدون في ذلك، ويخرجون من أموالهم ويضعونه في دار النّدوة(١) .

وكان هاشم يطعم الحاجّ بمكّة ومنى وعرفة وجُمع(٢) ، وهو أوّل مَن سنّ لقريش الرحلتين؛ رحلة إلى اليمن ورحلة إلى الشام، وأخذ لهم من ملوك الروم وغسّان ما يعتصمون به(٣) ؛ وذلك إنّ تجّار قريش لمْ تعُد تجارتُهم نفس مكّة وضواحيها، وإنّما تقدمُ عليهم الأعاجم بالسّلع فيشترونها حتّى رحل هاشم إلى الشام

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٥ / ٢١١، السّيرة الحلبيّة ١ / ٩، سُبل الهدى والرشاد ١ / ٢٧٠.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٥ / ٢١١، تاريخ الطبري ٢ / ١٢.

(٣) تاريخ الطبري ٢ / ١٢، الكامل في التاريخ ٢ / ١٦.

٣٤

ونزل على قيصر، فأعجبه حُسنُ خلقه وجمال هيئته وكرمه المنهمر، فلم يحجبه، وأذن له بالقدوم عليه بالتجارة، وكتب أماناً بينهم، فارتقت منزلة هاشم بين النّاس، فكان يسافر في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام.

وشرك في تجارته رؤساء القبائل من العرب ومن ملوك اليمن والشام، وجعل له معهم ربحاً، وساق لهم إبلاً مع إبله، وكفاهم مؤونة الأسفار على أنْ يكفوه مؤنة الأعداء في طريقه ومنصرفه، فكان في ذلك صلاح عام للفريقين، فكان المـُقيم رابحاً، والمـُسافر محفوظاً، فأخصبت قريش بذلك، وأتاها الخير من البلاد العالية والسّافلة ببركة هاشم، وهذا هو الإيلاف المذكور في القرآن المجيد(١) .

وكان يقول في خطبته: أيُّها النّاس، نحن آلُ إبراهيم وذُرّيّة إسماعيل، وبنو النّضر بن كنانة، وبنو قصي بن كلاب، وأرباب مكّة وسُكّان الحرم؛ لنا ذروة الحسب ومعدن المجد، ولكُلٍّ في كلِّ حلفٍ يجب عليه نصرتُهُ وإجابةُ دعوتهِ، إلاّ ما دعا إلى عقوق عشيرة وقطع رحم.

يا بني قَصي، أنتم كغصنَي شجرة أيّهما كُسر أوحش صاحبَهُ، والسّيف لا يُصان إلاّ بغمده، ورامي العشيرة يُصيبه سهمُهُ، ومَن أمحكه اللّجاجُ أخرجه إلى البغي.

أيّها النّاس، الحلمُ شرفٌ، والصبرُ ظفرٌ، والمعروفُ كنزٌ، والجُودُ سُؤددٌ، والجهلُ سَفَهٌ، والأيامُ دُولٌ، والدَّهرُ غِيرٌ. والمرءُ منسوبٌ إلى فعله ومأخوذ بعمله، فاصطنعوا المعروفَ تكسبوا الحمد، ودعوا الفضولَ تُجانبكم السّفهاءُ، وأكرموا الجليسَ يعمر

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٥ / ٢١٠.

٣٥

ناديكم، وحاموا الخليط يُرغب في جواركم، وأنصفوا من أنفسكم يُوثق بكم. وعليكم بمكارم الأخلاق فإنّها رفعة، وإيّاكم والأخلاق الدنيّة فإنّها تضع الشرفَ وتهدم المجد، وإنّ نهنهة الجاهل أهون من جريرته، ورأس العشيرة يحمل أثقالها، ومقام الحليم عضة لمَن انتفع به(١) .

ولنور النّبوّة الحالّ في جبهته؛ كان وجهه يضيء في الليلة الظلماء، ولم يمرُّ بحَجرٍ ولا شجر إلاّ ناداه: أبشر يا هاشم، سيظهر مِن ذُرّيّتك أكرم خلق اللّه مُحمّد خاتم النّبيّينصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وأوصاه أبوه عبدُ مناف بما أوصاه به أبوه قصي: أنْ لا يضع نور النّبوّة إلاّ في الأرحام الطاهرات من النّساء، وأخذَ عليه العهد بذلك، فقبل.

وقد تقدّم أنّها موروثة من آدمعليه‌السلام ؛ ومن هنا رغب الأشراف من الأكاسرة والقياصرة في مصاهرة هاشم وهو يأبى، حتّى إذا رأى في المنام قائلاً يقول: عليك بسلمى بنت عمرو بن لبيد بن حداث بن زيد بن عامر بن غنم بن مازن من بني النّجّار؛ فإنّها طاهرة مُطهّرة الأذيال، ليس لها مشبه من النّساء، فادفع المهر الجزيل؛ فإنّك تُرزق منها ولداً يكون منه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فمشى هاشم وأخوه المـُطّلب وبنو عمِّه إلى المدينة ومعهم لواء نزار، وعليهم أفخر الثّياب والدروع، ولمـّا اجتمع القوم خطب المـُطّلب بن عبد مناف، فقال: نحن وفدُ بيت اللّه الحرام، والمشاعر العظام، وإلينا سعت الأقدام، وأنتم تعلمون شرفنا وسُؤددنا، وما خصّنا به اللّه من النّور السّاطع والضياء

____________________

(١) جمهرة خطب العرب لأحمد زكي صفوت ١ / ٧٣، نقلاً عن آباء الأنبياء كلّهم مؤمنون، مركز المصطفى.

٣٦

اللامع، ونحن بنو لؤي بن غالب، قد انتقل هذا النّور إلى عبد مناف، ثُمّ إلى أخينا هاشم، وهو معنا من آدمعليه‌السلام ، وقد ساقه اللّه إليكم، وأقدمه عليكم، فنحن لكريمتكم خاطبون، وفيكم راغبون.

فأجابه عمرو - أبو سلمى - بالقبول والإنعام، وساقوا المهر كما أرادوا.

ولمـّا تزوّج منها هاشم ودخل بها، وحملت بعبد المـُطّلب انتقل إليها النّور، وما زالت تسمع البشائر بولادة خير البشر فأفزعها ذلك، إلاّ أنّ هاشماً عرّفها أمر النّبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

فلمـّا ولدت عبد المـُطّلب كان يُدعى (شيبة الحمد) لكثرة حمد النّاس له؛ لكونه مفزع قريش في النّوائب، وملجأهم في الاُمور، فكان شريف قومه وسيّدهم كمالاً ورفعةً، غيرَ مُدافعٍ عن ذلك، وهو من حُلماء قريش وحُكمائها.

وقد سنّ أشياء أمضاها له الإسلام؛ حرّم نساء الآباء على الأبناء، ووجد كنزاً أخرج خمسه وتصدّق به، وسنّ في القتل مئة من الإبل، ولم يكن للطواف عدد عند قريش فسنّه سبعة أشواط، وقطع يد السّارق، وحرّم الخمر والزِّنا، وأنْ لا يطوف بالبيت عريانُ، ولا يُستقسم بالأزلام، ولا يُؤكل ما ذُبح على النَّصَب(٢) .

وممّا يؤثر عنه: الظلوم لنْ يخرج من الدُّنيا حتّى يُنتقم منه، وإنّ وراء هذه الدارِ دارٌ يُجزى فيها المـُحسنُ بإحسانه والمـُسيء بإساءته، وإذا لم تصب الظلومَ في الدُّنيا عقوبةٌ فهي مُعدّة له في

____________________

(١) بحار الأنوار ١٥ / ٤٠.

(٢) الخصال / ٣١٣، الدّر النّظيم / ٧٩٨.

٣٧

الآخرة(١) .

وقيل له: الفيّاض؛ لكثرة جوده ونائله، حتّى إنّ مائدته يأكلُ منها الراكب، ثُمّ تُرفع إلى جبل أبي قُبيس لتأكل منها الطير والوحوش(٢) .

ولعزّه المنيع وشرفه الباذخ؛ كان يُفرش له بإزاء الكعبة ولم يُفرش لأيّ أحد غيره، ولا يُجالسه على بساط الاُبّهة إلاّ نبيُّ العظمة(٣) ، وإذا أراد أحدُ أعمامه أنْ يُنحِّيه صاح به عبد المـُطّلب، وقال: إنّ له لشأناً ومُلكاً عظيماً(٤) .

ولا غرو في ذلك بعد أنْ كان وصيّاً من الأوصياء، وقارئاً للكتب السّماويّة، ولقد أخبر أبو طالب رسولَ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: كان أبي يقرأ الكتب جميعاً، وقال: إنّ مِن صُلبي نبيّاً، لوددت أنّي أدركتُ ذلك الزمان فآمنت به، فمَن أدركه من وُلدي فليؤمن به(٥) .

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام :« واللّه، ما عَبدَ أبي ولا جدّي عبدُ المـُطّلب، ولا عبدُ مناف ولا هاشم صنماً، وإنّما كانوا يعبدون اللّه، ويُصلّون إلى البيت على دين إبراهيم مُتمسّكين به » (٦) .

وكان أبو طالب سيّد البطحاء شبيهاً بأبيه شيبة الحمد، عالماً بما جاء به الأنبياءعليهم‌السلام ، وأخبرت به اُممُهم من حوادث وملاحم؛ لأنّه

____________________

(١) الغدير ٧ / ٣٥٣، عقيدة أبي طالب للرفاعي / ٧٢.

(٢) السّيرة الحلبيّة ١ / ٦.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٢.

(٤) المصدر نفسه.

(٥) بحار الأنوار ٣٥ / ١٤٧.

(٦) كمال الدِّين وتمام النّعمة / ١٧٥، بحار الأنوار ١٥ / ١٤٤ وغيرهما من المصادر.

٣٨

وصيٌّ من الأوصياء، وأمينٌ على وصايا الأنبياء حتّى سلّمها إلى النّبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

قال درست بن منصور: قلتُ لأبي الحسن الأوّلعليه‌السلام : أكان رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله محجوجاً بأبي طالب؟ قال:« لا، ولكنْ كان مُستودَعَ الوصايا فدفعها إلى النّبيِّ صلى‌الله‌عليه‌وآله » . قلتُ: دفعها إليه على أنّه محجوج به؟ قالعليه‌السلام :« لو كانَ محجوجاً به ما دفعها إليه » . قلتُ: فما كان حال أبي طالب؟ قال:« أقرّ بالنّبيِّ وبما جاء به حتّى مات » (٢) .

وقال المجلسي: أجمعت الشيعة على أنّ أبا طالب لم يعبد صنماً قطّ، وأنّه كان من أوصياء إبراهيم الخليلعليه‌السلام (٣) . وحكى الطبرسي إجماع أهل البيتعليهم‌السلام على ذلك، ووافقه ابن بطريق في كتاب المستدرك.

وقال الصدوق: كان عبد المـُطّلب وأبو طالب من أعرف العلماء وأعلمهم بشأن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكانا يكتمان ذلك عن الجُهّال والكفرة(٤) .

وممّا يشهد على أنّه كان على دين التوحيد وملّة إبراهيم، أنّ قريشاً لمـّا أبصرت العجائب ليلة ولادة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، خصوصاً لمـّا أتوا بالآلهة إلى جبل أبي قُبيس ليسكن بهم ما شاهدوه، ارتجّ الجبل

____________________

(١) بحار الأنوار ٣٥ / ٧٤.

(٢) الكافي ١ / ٤٤٥، ح١٨.

(٣) بحار الأنوار ٣٥ / ١٣٨، والعبارة فيها تقديمٌ وتأخير.

(٤) كمال الدِّين وتمام النّعمة / ١٧١، الخرائج والجرائح ٣ / ١٠٧٤، وفي آخر الحديث: عن الجُهّال، وأهل الكفر والضلال.

٣٩

وتساقطت الأصنام، ففزعوا إلى أبي طالب؛ لأنّه مفزع اللاجىء وعصمة المـُستجير، وسألوه عن ذلك، فرفع يديه مبتهلاً إلى المولّى جلّ شأنه، قائلاً: إلهي، أسألك بالمحمّديّة المحمودة، والعلويّة العالية، والفاطميّة البيضاء إلاّ تفضّلت على تهامة بالرأفة والرحمة. فسكن ما حلّ بهم، وعرفت قريش هذه الأسماء قبل ظهورها؛ فكانت العرب تكتب هذه الأسماء وتدعو بها عند المـُهمّات، وهي لا تعرف حقيقتها(١) .

ومن هنا اعتمد عليه عبد المـُطّلب في كفالة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وخصّه به دون بنيه، وقال:

وصَّيتُ مَنْ كَنَّيتهُ بطالبِ

عبدَ منافٍ وهو ذو تجاربِ

بابنِ الحبيبِ أكرمِ الأقاربِ

بابن الّذي قَدْ غابَ غيرَ آيبِ

فقال أبو طالب:

لا تُوصني بلازم وواجبِ

إنّي سمعتُ أعجبَ العجائبِ

مِنْ كُلِّ حَبرٍ عالمٍ وكاتبِ

بانَ بحمدِ اللّهِ قولُ الرَّاهبِ(٢)

فقال عبد المـُطّلب: انظر يا أبا طالب، أنْ تكون حافظاً لهذا الوحيد الّذي لم يَشمّ رائحة أبيه، ولم يذقْ شفقة اُمّه، انظر أنْ يكون مِن جسدك بمنزلة كبدك؛ فإنّي قد تركت بنيّ كُلَّهم وخصصتك به؛ لأنّك من اُمّ أبيه. واعلم فإنّ استطعت أنْ تتبعه فافعل، وانصره بلسانك ويدك ومالك؛ فإنّه واللّه، سيسودكم ويملك ما لا يملك أحد من آبائي، هل قبلت وصيّتي؟

قال: نعم، قد قبلتُ، واللّه على ذلك شاهد.

____________________

(١) روضة الواعظين / ٧٨، مناقب آل أبي طالب ٢ / ٢٢، الدّر النّظيم / ٢٣١.

(٢) مناقب آل أبي طالب ١ / ٣٤، بحار الأنوار ٣٥ / ٨٥، الدّر النّظيم / ٢١١.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

مشاهد غريبة ورهيبة بين المسلمين ، فقد شوهدت جثث بعض المسلمين بلا رؤوس وهو اقل ما جرىٰ علىٰ المسلمين ، وكانت وجوه بعض المسلمين ، تثقبت مثل الغربال من الجراح والنبال التي اصابتهم ، فكانوا يلقون بأنفسهم من أعلىٰ الحصار والحصن الىٰ اسفله ، فيبقىٰ بعضهم علىٰ جراحه حتىٰ يلقون به في النار فيما ميادين مدينة القدس مليئة ، بأكوام من الرؤوس والايدي والارجل المقطعة ، حيث يعبر المسيحيين من فوقها ، وجميع ذلك جانب صغير من مجازر المسيحيين في القدس ».

ويضيف أحد القساوسة المسيح فيقول :

« قتل عشرة آلاف شخص من المسلمين كانوا قد التجأوا في احد المساجد ، وفي احد المعابد القديمة ، كان الدم بحدّ ، بحيث كانت جثث القتلىٰ المقطعة والموزعة الىٰ ايدي وارجل ورؤوس تسبح في بركة كبيرة ، لا يمكن تشخيص جثة سالمة واحدة منها ، حتىٰ ان الجنود الاوروبيين الجناة الذين قاموا بتلك المجزرة كانوا يهربون من بخار الدم الذي ملأ فضاء المعبد.

يقول الدكتور غوستاف لوبون :

« بعد جميع تلك المجازر التي ارتكبها الصليبيين ، كانوا يقومون بأعمال لمجرد التسلية ، شنيعة وقبيحة بحدّ ، جعل المؤرخين النصارىٰ ورغم دفاعهم عن الصليبيين ، يغضبون وينفرون من تلك الاعمال المخجلة ، فيصفون اتباع دينهم بأوصاف شديدة جداً ، علىٰ سبيل المثال ، يصفهم

٢٤١

برنارد(1) بأنهم مجانين ، ويشبههم بافدين(2) بالحيوانات التي تسبح في بولها وغائطها » وفي وصفه لمجازر المسيحيين ضد المسلمين في الاندلس ( اسبانيا ).

يقول الدكتور لوبون :

« كانت نهاية مما قام به القادة المسيحيين الاوروبيين الذي لم يكن لهم هدف سوىٰ جمع المال والثروة ، بتدمير تلك البلاد ( الاندلس ) بسرعة عجيبة ، بعد ان كانت عامرة في ظل حكم العرب والمسلمين العقلاء.

وقد بلغت قسوة المسيحيين في الاندلس حدّاً انهم كانوا يحرقون المسلمين ، بل وصل الامر الىٰ حدّ اصدر فيه اسقف طليطلة(3) الكبير والذي كان رئيساً للمحكمة المقدسة(4) أيضاً ، حكماً بقتل جميع العرب رجالاً ونساءً واطفالاً ».

أيُّها السادة المحترمون !

كانت تلك نماذج من معاملة المسيحيين الاوروبيين للمسلمين عندما سيطروا علىٰ بلاد المسلمين !

________________

(1) Birnard

(2) Bavdin

(3) من أهم محافظات الاندلس ( اسبانيا ).

(4) محاكم اقامها القساوسة للتحقيق في عقائد الاشخاص ، وكل من يثبت انه مسلم تصدر بحقه اشد العقوبات.

٢٤٢

لقد عاملهم المسلمون برجولة وشهامة عندما فتحوا بلدانهم ، وهو من مفاخر التاريخ العسكري والحربي الانساني ولم يشاهد مثله في اي نقطة من العالم ، لكنه عندما دارت الايام وانتصر الاوروبيون علىٰ المسلمين ، بدأوا بمجازرهم الوحشية التي لا مثيل لها في تاريخ البشرية حسب تعابير مؤرّخيهم.

٢٤٣

اواني الذهب والفضة

الدكتور : سيادة العقيد ، تسمح لنا الآن ، بان نشبع بطوننا الفارغة ، ببعض الاكل ؟

العقيد : مستعد ، ولكن ما الذي سنأكل ؟

الدكتور : جميع الاصدقاء مدعون للغداء معي ، لأن مضيفي البارحة اعدّ لغدائي اليوم قدراً كبيراً من الرز ، ووضع فوق الرز دجاجة كبيرة مشويّة ، وهو كاف لجميعنا.

الطالب الجامعي حسن : دكتور ، اخاف ان يكون الرز والدجاج مثل الحلويات والفاكهة التي اعدها مضيفك لك من قبل ، فضحك الجميع لذلك.

الدكتور ، وبعد ضحكة طويلة ، قال : هذه المرّة اطمئن اصدقائي الىٰ انني سأقدم لهم وجبة اكل جيدة ، ثم نهض الدكتور وفتح حقيبته فأخرج صموناً وملاعقاً ورفع غطاء القدر وبدأ بتقسيم الأكل ، ومن المصادفة كانت بعض اواني الدكتور من الفضة ، فأنتبه الشيخ الىٰ ذلك ، وخاطب الدكتور معترضاً :

سعادة الدكتور ، ارجوا ان لا تستخدم الاواني الفضية ، لأن استعمال الذهب والفضة غير جائز في الاسلام ، كبيعها وشراءها.

الدكتور : ايها الشيخ ، هل لك ان تحدثنا بشكل موجز عن فلسفة ذلك

٢٤٤

التحريم.

الشيخ : اتصوّر ان قليل من التأمّل يوضح فلسفة حرمتها ، لأن الذهب والفضة ثمن وليستا مثمنتان ، اي انها ليست كالاثاث والملابس وسائر ادواة الحياة ، فالذهب والفضة هما محور العجلة الاقتصادية في جميع العالم وعلىٰ امتداد التاريخ ، لذلك لا يسمح الاسلام بأحتكار مثل هذان الشيئان القيمان اللذان تحدد قيمة العديد من الاشياء الاخرىٰ على اساسها ، او ان يوضعا علىٰ رفوف ، فهذه الثروة تعتبر الاسلام في اقتصاد العالم وليس من الصحيح تعطيلها وخزنها في بيت غني مغرور ، في حين انه لو استخدمت بشكل صحيح في المجالات الاقتصادية ، نتاج مجالات عمل لملايين الاشخاص ، وتنجوا الآف العوائل من الفقر والضياع.

سعادة الدكتور ! وكانت في هذا البلد حكومة اسلامية قوية وحقيقية ، وقامت بأخراج تلك الاواني الذهبية والفضية من رفوف الاغنياء علىٰ الرغم منهم ، ووظفتها في السوق الاقتصادية العالمية ، ألا سيكون بأمكانها انشاء عشرات المصانع والمعامل داخل البلاد ، وتسدّ حاجة البلاد الىٰ الكثير من الواردات التي تنهال علينا من الغرب ، وفي نفس الوقت نتاج فرص العمل لآلاف الاشخاص العاطلين وبالنتيجة ستحصل مئات العوائل علىٰ مستوىٰ جيد من الرفاه ؟

أليس من المخجل في بلاد يعيش اكثر من نصفها الفقر والحرمان واغلب قراها لا تحصل علىٰ قدح واحد من ماء الشرب الصحي ، في حين ثروتها من الذهب والفضة مكدسة علىٰ شكل كؤوس واواني في بيوت الاغنياء ، يضعونها للفخر والتباهي وتكون وسيلة للعمالة والتبعية ، فلماذا لا يحرم الذهب

٢٤٥

والفضة ؟ ولماذا يحلل بيعهما وشراءهما فالذهب والفضة اكثر قيمة من الاوراق النقدية ، لأن قيمة الورقة النقدية تحدد علىٰ ضوءهما ، لانهما يوفران الدعم لها. فلو قام أحد الاغنياء بتكديس اوراقه النقدية علىٰ رفوف بيته ليفتخر بها امام ضيوفه وتكون وسيلة لعمالته ، ألا يقال ان هذا الرجل اصيب بجنون مالي ؟! اي انه حيوان مغرور ابعدته الثروة عن كل فضيلة انسانية ، فهل نتوقع من نظام لا يقبل بالتمايز اساساً ان يبقىٰ متفرجاً دون عمل مقابل تلك الاعمال الدنيئة ؟!

الاصدقاء جميعهم : كلامك صحيح ومنطقي تماماً ، ولو اجري هذا القانون الاسلامي ، لكان خطوة اقتصادية كبيرة ولوجدت آلاف الاسر المحرومة ، الحدّ الادنىٰ من متطلبات حياتها ولتخلصت من الفقر والاضطراب ، وعلىٰ اثر ذلك ، اعاد الدكتور الاواني الفضية الىٰ حقيبته ، وجلسوا يأكلون علىٰ مائدة اسلامية وبسيطة كالاخوة ، وبعد قليل من الراحة ، تابعوا حديثهم.

غاليلو يُكفّر

يعتبر غاليلو(1) من كبار علماء ايطاليا ، الذين قالوا بحركة الارض متبعاً بذلك نظرية كربونيك(2) ، لكنه وبعد ان أظهر رأيه ذلك ، صار هدفاً للّعن وشتائهم مختلف الفئات الاوروبية ، خاصة مسؤولي الكنيسة ، فأضطر ومن اجل

________________

(1) Galilee

(2) Copirnec

٢٤٦

الحفاظ علىٰ حياته ، ان يتوب مما قال في مجلس رسمي حضره البابا شخصياً ، ويعترف ان كلامه كان خلافاً للحقيقة !!

نص توبة غاليلو

وكان نص توبة غاليلو ، كالتالي :

« أنا غاليلو وفي السبعين من عمري ، اركع امام حضراتكم مخاطباً البابا والقساوسة ـ وفي حين امثل امام الكتاب المقدس ـ الانجيل ـ وألمسه بيدي ، اتوب وانكر واستنفر دعوتي الباطلة في حركة الارض »(1) .

ساعة المسلمين

في العصر الذي لم يكن في جميع انحاء العالم وجود يذكر للعلم والحضارة ، ظهر اول نتاج صناعي كبير علىٰ يد المسلمين في خلافة هارون الرشيد ، وكان ذلك صناعة الساعة. وقد اهدىٰ هارون الرشيد واحدة منها الىٰ شارلمان(2) ملك فرنسا ، وكما يقول احد كبار المؤرخين الاوروبيين ، عندما وصلت الساعة الىٰ شارلمان لم يكن في فرنسا كلها من يعرف كيف تعمل تلك الساعة.

ويضيف ذلك المؤرخ : عندما نصبوا تلك الساعة التي كان لها جرس

________________

(1) تاريخ العلوم.

(2) Charlrimagne

٢٤٧

أيضاً أعلىٰ القصر الملكي وارتفع صوت جرسها لأول مرة ، رأىٰ افراد البلاد فجأة أن اهالي باريس متّجهون نحو القصر وهم يحملون العصي والفؤوس ، فأرسل الملك مجموعة لمعرفة سبب هجومهم ، فقال لهم الباريسيون : لا نريد ان نتعرض للملك ، بل نريد تحيطم تلك الساعة ، فمنذ زمن طويل والقساوسة يحدثنوننا عن شيطان يغوينا ويدفعنا الىٰ عمل السوء ، والآن علمنا ان ذلك الشيطان موجود في تلك الساعة ، لأنه اذا لم يكن فيها شيطان ، لما خرج منها ذلك الصوت الموحش ( صوت الجرس ) ، لأن الساعة جماد ولا تستطيع بنفسها ان تخرج صوتاً ، لذلك جئنا بعصينا وفؤوسنا لنقتل ذلك الشيطان ونخلص البشرية من وجوده وشروره !!!

ويقول الدكتور غوستاف لوبون في هذا الصدد :

« كان هارون الرشيد قد ارسل هدايا كثيرة لشارلمان ملك فرنسا وامبراطور الغرب بواسطة سفرائه ، ومن اهم تلك الهدايا كانت الساعة التي يدق جرسها رأس كل ساعة ، وما ان شاهدها شارلمان وحاشيته شبه المتوحشة حتىٰ دهشوا واصبحوا في حيرة من أمرهم ، ولم يكن في فرنسا أحد يعرف كيف تعمل الساعة.

المسلمون مؤسسوا حضارة

التفت العقيد الىٰ الشيخ وقال : كلامك حول اواني الذهب والفضة مقنع تماماً ، إلّا انّ ما يبعث علىٰ التعجب ، هو انه رغم التطور العلمي في العالم الاوروبي الذي يجعلهم في مقام ومنزلة معلمي البشرية ، ورغم ان اعمالهم

٢٤٨

تعتبر قطعياً بالنسبة لنا ، الّا ان استخدام اواني الذهب والفضة شائعة هناك ، فهل يمكن انهم لم يلتفوا الىٰ ما اشرتم اليه رغم اهتمامهم بالمسائل الاقتصادية ؟!

الشيخ : سيادة العقيد ، اتصور انه لا معنىٰ لتعجبك واستغرابك ، فهل نزل الاوروبيون من السماء فيما خرجنا نحن من الارض ؟! لماذا نستصغر انفسنا الىٰ هذا الحدّ امامهم ؟ ولماذا لا نرىٰ أية قيمة لأنفسنا وافكارنا امام الاوروبيون ؟!

اصدقائي الاعزاء !

أليس عجيباً ان تستصغر اُمّة عظيمة لها تاريخ عريق وحضارة كبيرة نفسها أمام اُناس كانوا حتىٰ الامس القريب يعدون من المتوحشين الذين يسكنون الجزر ، للحد الذي نعد كل ما يصدر منهم من اعمال وحشية سنداً قاطعاً فيما ندوس علىٰ افكارنا امامهم !

واليكم ما يقوله احد كتابنا الكبار في نقده لروح التقليد من الغرب التي تشاهد في بلادنا :

« نحن لم نخرج الىٰ العالم من تحت الصخور الصماء ونتعلم اللبس من هذا وذاك ، ولم نكن مجاميع مشتتة ليس لها تاريخ(1) نسير اينما اخذتنا الرياح ، ولم تكن لنا فكره القردة(2) حتىٰ نقلد الآخرين دون تفكير ، فجمال العالم يأتي من الذوق السليم والطبيعة اللطيفة ، لرسامينا وفنانينا ومزارعينا وفخارينا

________________

(1) كناية عن الشعب الامريكي.

(2) اشارة الىٰ الشعب الانجليزي ونظرية دارون.

٢٤٩

ونجارينا وحائكينا ومعمارينا ومهندسينا و وهذه متاحف الدنيا من لندن وباريس وبرلين حتىٰ موسكو وفينا وروما وغيرهن من مدن الدنيا مليئة بالقديم والبالي من قطيفة كاشان والاعمال اليدوية من اصفهان والازار والآذربيجاني والجيلاني والخمار اللرَّي و من الاعمال التي يزيد عددها علىٰ عدد الرمال ويعجز عن فهمها الجهّال ، تلك الآثار الخالدة التي عجز العالم المادي الذي سخر اعماق البحار والفضاء علىٰ ان يأتي بمثلها من تناسق الوانها وتناسب اشكالها وجمالها ، وهي من صنع التاريخ الايراني وسائر الشعوب الشرقية ».

اصدقائي الاعزاء !

أقول وأنا متأكد مما ادعيه : ان مصدر العديد من الآثار الحضارية السليمة في اوروبا وامريكا هم المسلمين ، فالحضارة الاسلامية هي التي ادخلت الاوروبيين المتوحشين الى المجتمع المحتضر ، كما ان العلاقة مع المسلمين هي التي عملتهم الادب والاخلاق بعد ان كانوا بعيدين كل البعد عنها ، ففي حين كان الاوروبيون يفخرون بجهلم ويغطون فيه ، كان للمسلمين جامعات ومراكز علمية في بلدانهم ، وعندما لم يكن في اوروبا حتىٰ مكتبة واحدة ، كان المسلمين اصحاب اكبر المراكز العلمية والثقافية في العالم ، وفي تلك الفترة التي كانت اوروبا تتهم علمائها بالجنون وتحاكمهم علىٰ يد قساوستها وتعلقهم على المشانق بتهمة الكفر ، كان المسلمون يمدون البشرية ، بأكبر العلماء والفلاسفة ، ممن يعدون معلمي البشرية حتىٰ يومنا هذا ، البلاط

٢٥٠

شخص يعرف كيف صنعت تلك الساعة »(1) .

ويقول بيير روسو :

« أرسل هارون الرشيد ساعة ذات جرس الىٰ شارلمان وكانت تلك الساعة تعمل اتوماتيكياً ، فكان الاوروبيون يعدونها ثامن اعجوبة في العالم »(2) .

ظلم الامريكيين

أيُّها السادة المحترمون ! انتبهوا بدقة الىٰ هذه القصة ، لكي تطلعوا علىٰ مدىٰ ظلم الشعب الاميركي النجيب ! والشريف ! والمحتضر ! ولتعلموا كيف يستفيد هذا الشعب النبيل من جهل بعض المسلمين وعدم اطلاعهم ، لينسبوا اعمال الآخرين الىٰ انفسهم ، خلاصة القصة ، هو انني كنت في عيادة احد الاطباء قبل فترة في قم ، وكانت في عيادته مجموعة مجلات منها مجلة بأسم اخبار الاسبوع الامريكية والتي تصدر اسبوعياً في طهران عن الجالية الامريكية ، فتناولتها لاقضي الوقت بتصفحها ، وفجأة جلبت انتباهي صورة ساعة كبيرة يقف رجل الىٰ جانبها ، واسفلها هذا الخبر : « اول ساعة في العالم صنعت علىٰ يد راهب فرنسي يدعى جربرت سنة 990 ميلادية ، حيث اصبح ذلك الراهب فيما بعد بابا سيلوستر ، ومع ان تلك الساعة لم تكن دقيقة ، إلّا أنّها كانت افضل من الساعات اللاتي سبقتها ، وكان ذلك تطوراً مهماً في صناعة

________________

(1) حضارة الاسلام والعرب.

(2) تاريخ العلوم.

٢٥١

الساعات في ذلك العصر ».

اصدقائي الاعزاء !

وكما تلاحظون في الخبر الذي نقلته لكم ، لقد نسب الاميركيون النجباء !! صناعة أوّل ساعة في العالم الىٰ راهب فرنسي ، ولكن وكما يقول المثل « الكذاب كثير النسيان » ولكي يتّضح ظلمهم على ايديهم ، نلاحظ في آخر الخبر العبارة التالية « ومع ان تلك الساعة لم تكن دقيقة ، إلّا انها كانت افضل من الساعات اللاتي سبقتها » افلا يوجد من يقول لهؤلاء الامريكيين النجباء ! ايها المخادعون لماذا كل هذا التناقض ، فإذا كانت هناك ساعات صنعت قبل ساعة الراهب الفرنسي ، فماذا يعني ان ساعة الراهب أول ساعة في التاريخ ؟!

علىٰ المسلمين ان ينتبهوا

سيادة العقيد ، لقب « معلمي واساتذه البشرية » يجب ان يعطى للمسلمين ، الذين اخرجوا الاوروبيين المتوحشين من همجيتهم ووضعوهم في صف ابناء البشر ، وعلموهم الاخلاق والفضيلة ، فكل ما لدىٰ اوروبا من علم واخلاق منشأه المجتمع الاسلامي ، واستطيع ان ادعي بملء فمي انك اين ما وجدت قانوناً ذا فائدة في اوروبا أو امريكا في المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والاجتماعية و ستجد النموذج الاكمل له في الاسلام وسأثبت لكم انهم اخذوه عن المسلمين واقتبسوه منهم.

٢٥٢

ولكي لا يتصور اصدقائي ان كلامي هو بدافع التعصب الديني ، أو هو نوع من الاسترسال والمبالغة ، سأضطر لنقل كلام احد كبار علماء اوروبا فيما يتعلق بفضل المسلمين علىٰ الاوروبيين في مجال التربية ، ومدىٰ تأثير الحضارة الاسلامية في الغرب ، ولكي تتضح حالة الشعوب الاوروبية قبل ارتباطها بالمسلمين وبعده ، والكتب والعلوم التي اخذوها من المسلمين.

فليقرأ المتيّمون بحضارة اوروبا وامريكا

يقول السيد ليبر(1) وهو من أشهر علماء اوروبا ، لو لم يكن للمسلمين وجود في التاريخ ، لتأخرت النهضة العلمية في اوروبا عدة قرون اُخرىٰ.

ويقول الدكتور غوستاف لوبون :

« في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين ، أي في الفترة التي كانت الحضارة الاسلامية في اوروبا تعيش عصرها الذهبي ، كانت مراكز اوروبا العلمية ، عبارة عن قلاع رديئة متخلفة يعيش فيها اجراءنا نحن الاوروبيون ورعاياهم بحالة شبه وحشية وكان يفتخرون بجهلهم واميتهم ، وكان اعلم من فيهم الرهبان الجهلة الذين كان كل همّهم يصرف في اختيار كتب اليونان والرومان القديمة من بين كتب المكتبات الموجودة في الكنائس فيمسحون كلماتها ويدونون مكانها كلماتهم واورادهم المهملة والبربرية الاوروبية استمرت اكثر مما يجب دون ان يشعروا ، طبعاً ظهرت مشاعر بين الاوروبيين في القرن الحادي عشر ، والقرن الذي يليه خاصة ، ومنذ ان شعر بعضهم

________________

(1) Libre

٢٥٣

بضرورة فك تلك القيود والخروج من ظلمة الجهل ، اتجهوا نحو المسلمين الذين كانوا يفوقونهم وافضل منهم لأقتباس العلم والمعرفة ».

ثم يضيف الدكتور لوبون :

« وفي سنة 1130 تأسست دار للترجمة في مدينة طليطلة برئاسة الاسقف الكبير رايموند ، وبدأوا بترجمة كتب اشهر العلماء المسلمين من العربية الىٰ اللاتينية ، ونجحت تلك الترجمات في تنوير أفكار الاوروبيين وفتح عيونهم علىٰ عالم جديد ، ولم تقتصر تلك الترجمة علىٰ كتب أمثال محمد بن زكريا الرازي والتباسيس وابن سينا وابن رشد الاندلسي من علماء الاسلام ، بل ترجمة أيضاً مصنفات جالينوس وديمقراطيس وافلاطون وارسطو واقليدس وارخميدس وبطليميوس التي كان المسلمون قد ترجموها من اللاتينية الىٰ العربية من قبل ».

اعتراف غريب للدكتور ليكليرك(1)

بعد ان يذكر الدكتور ليكليرك في كتابه تاريخ الطب اسم اكثر من ثلاثمائة كتاب مشهور ترجم من العربية الىٰ اللاتينية ، يقول :

« المعلومات التي حصلنا عليها من علوم اليونان في فترة القرون الوسطىٰ كانت بواسطة هذه الترجمات العربية ، وببركة هذه الترجمات استطعنا الحصول علىٰ تصانيف اليونان القديمة ، في حين ان رهباننا كانوا لا يعرفون حتىٰ اسم اليونان ، لذلك علىٰ جميع العالم ان يعترف بالجميل الذي قام به

________________

1 ـ Liclerc

٢٥٤

المسلمون في الحفاظ علىٰ هذه الكنوز الثمينة وعلىٰ الخدمة الجليلة التي قدموها للمعرفة.

ويضيف أيضاً الدكتور لوبون بعد شرح مفصل لتأثير الحضارة الاسلامية في الغرب ، فيقول :

« إذا ثبت انه في القرن الميلادي العاشر ، لم يكن في اوروبا علىٰ سعتها سوىٰ الاندلس ( مركز حكومة المسلمين في اوروبا ) مركزاً للعلوم والمعرفة ، وفي ذلك العصر لم تكن هناك دولة ( ماعدا الدول الاسلامية في آسيا وافريقيا ) في القسم الغربي من الكرة الارضية غير الاندلس تدرس فيه العلوم والمعارف ، فحتىٰ القسطنطينية لم يكن فيها ذلك ، وكان رجال اوروبا يتجهون نحو الاندلس لتلقي العلوم عند علماء المسلمين ».

ويتكلم الدكتور غوستاف لوبون أيضاً عن مستوىٰ الانحطاط الفكري عند الاوروبيين آنذاك ، فيقول :

« قام غربرت 11 سنة 999 ميلادية بدراسات ، وحاز على مقام الباباوية باسم سيلوستر الثاني ، لكنه عندما اراد نشر علومه في اوروبا ، كان الامر خلافاً للطبيعة عند الاوروبيين بحيث اُتّهم ذلك المسكين بأن الشيطان حلّ في جسده وانه زاغ عن طريق رب المسيح ».

بعض كبار علماء اوروبا من تلامذة العلماء المسلمين

وفي بحث آخر يقول الدكتور غوستاف لوبون :

« حتىٰ القرن الخامس عشر ، كان علماء اوروبا ينظرون الىٰ الكلام الذي

٢٥٥

لم يأخذ عن مصنفي المسلمين ، بأنه غير موثوق ».

ثم يضيف العالم المذكور :

« ويعتبر روجر بايكون(1) وليونارد دوبيس(2) وارنافد فيلنيف(3) ، ورايموند لول(4) ، والقديس ثوماس(5) ، والبرت الكبير(6) ، والفونس العاشر(7) ، جميعهم اما من تلامذة علماء الاسلام أو ناقلين عنهم ».

ويقول السيد رنيان(8) :

« كل ما كان يعرفه البرت الكبير اخذه وتعلمه من ابو علي ابن سينا العالم الاسلامي المعروف ».

كما ان جميع فلسفة القديس توماس مأخوذة عن العالم المسلم ابن رشد الاندلسي ، وكانت كتب المسلمين هي المصادر الوحيدة التي تدرس في جامعاتنا الىٰ ماقبل خمسمائة أو ستمائة سنة ، وكانت علوم المسلمين علىٰ طول تلك الفترة هي محور دراستنا وعلومنا ، وفي بعض الفروع العلمية : مثل

________________

(1) Roger Bacon

(2) Leonard de Pise

(3) Arnavd de Villineuve

(4) Raymond Lulle

(5) Saint Thomas

(6) Albert قسيس وفيلسوف الماني معروف ، كانت افكاره عاملاً في حدوث تغييرات علىٰ الساحة الاوروبية.

(7) Alphonse

(8) Renan

٢٥٦

الطب لا تزال نظريات الاطباء المسلمين باقية ، ففي فرنسا بقيت مصنفات ابن سينا حتىٰ القرن الماضي ( التاسع عشر ) وكتبت عليها شروح وتعليقات ايضاً ، وكانت هيمنة علوم العرب في اوروبا إلى درجة كانوا يرجعون الىٰ مصنفاتهم حتىٰ في العلوم التي لم يكونوا متبحرين فيها ، ومنذ بداية القرن الثالث عشر اصبحت فلسفة العالم المسلم ابن رشد الاندلسي جزءً من المقرر الدراسي في مدارس اوروبا.

وفي سنة 1473 ميلادية حيث اقر الملك لويس الحادي عشر(1) منهجاً دراسياً ، أمر بتدريس مصنفات ابن رشد في الفلسفة ، وفي جامعات ايطاليا ، خاصة جامعة بادو(2) لم يكن نفوذ وهيمنة العلوم الاسلامية اقل من سائر الانحاء ».

________________

(1) Lovis

(2) Padove

٢٥٧

التأثير الاخلاقي للمسلمين في اوروبا

يقول الدكتور غوستاف لوبون :

« لقد تحدثنا فيما سبق عن اخلاق امراء ونبلاء النصارىٰ والاوروبيين ، وفي المقابل ماكان للمسلمين من صفات مميزة ، واثبتنا ان اسلافنا نحن الاوروبيين تركوا بربريتهم بعد ما عاشروا المسلمين وخالطوهم ، والمسلمون هو الذين علموا الشعوب الاوروبية اعطاء قيمة للأخلاق ووظائفة مثل الشفقة والعطف علىٰ الزوجة والاولاد والوفاء للعهد والالتزام بالقسم وامثالهم ، وقد اثبتت الشعوب الاوروبية في الحروب الصليبية انها مختلفة في الفضائل الانسانية فراسخ عن المسلمين ».

وفي كتابه القرآن ، يقول السيد بارثيلمي القديس هيلر(1) :

« لقد صلحت اخلاق امراءنا واشرافنا نحن الاوروبيون وكذلك عاداتهم الرديئة ، نتيجة لمعاشرتهم للعرب وتقليدهم عن المسلمين في القرون الوسطىٰ ، لقد تعلم الاوروبيون من المسلمين الصفات الحميدة التي تمتلكها الشعوب الحيّة ، وللحضارة الاسلامية تأثير محير للعقول علىٰ جميع العالم ، وبذلك ادخلت الشعوب الاوروبية المتوحشة الىٰ دائرة المدنية ، وكان تأثير ونفوذ المسلمين العقلي في العلوم والفنون والفلسفة واضحاً حيث كان الاوروبيون آنذاك جاهلون بها تماماً ، ولقد بقي المسلمون علىٰ مدىٰ ستمائة

________________

(1) Renaissance

٢٥٨

سنة اساتذة لنا نحن الاوروبيين ».

وفي بحث للدكتور غوستاف لوبون حول ، فيما لو كان المسلمون قد سيطروا علىٰ جميع اوروبا ؟ ويقول :

« من مشاهدة الاندلس يمكن معرفة ما كان سيحدث لو كان المسلمون قد سيطروا علىٰ كل اوروبا ، لأنه عندما نشاهد الاندلس ( مركز حكومة المسلمين في اوروبا ) في ذروة رقيها ، وتحضرها تحت سلطة المسلمين في الوقت الذي كانت فيه اوروبا متوحشة جميعها ، يمكن القول ، لو كان المسلمون قد سيطروا علىٰ كل اوروبا ، لاستفادة الشعوب الاوروبية كثيراً من حكمهم ولم يكن ينلهم اي ضرر أو خسارة من ذلك ، ولعدلت الرحمة والشفقة الموجودة في الاسلام خشونة الشعوب الاوروبية ، ولخلّصتهم من الدماء والمجازر وظلم محاكم التفتيش العقائدي التي ذهبت ضحية احكامها ملايين الاوروبيين ».

ثم يضيف الدكتور المذكور :

« لقد اخرجت الحروب الصليبية هذه اوروبا من خلاقها وعاداتها الرذيلة واطوارها الوحشية ، وهيأت لها الارضية بعد ذلك نقل علوم المسلمين ومعارفهم ومن ثم بسطها في جامعاتها ، وكان ذلك السبب الرئيسي في النهضة الاوروبية »(1) .

وفي آخر كتابه يقول الدكتور لوبون في هذا الصدد :

________________

(1) لمزيد الاطلاع حول نص تلك المعاهدات ، رجع : تاريخ العالم الحديث الاسلام ، تأليف الدكتور لوثروب ستودارد ( الاميركي ).

٢٥٩

« يجب ان نعلم اولاً أنه قلما يوجد قوم في العالم يفوقون اتباع الدين الاسلامي من الزاوية الحضارية ، كما ان التطور الكبير الذي بلغوه في العلوم لم يتسير لغيرهم من الشعوب في مثل تلك الفترة القصيرة ، وقد تمكنوا من ايجاد ديانة كبيرة لا تزال من اكثر ديانات العالم حيوية ، ومن حيث الخصوصيات العقلانية والاخلاقية فيكفي انهم هم الذين ربّوا اوروبا وادخلوها الىٰ دائرة الحضارة ».

اسبانيا في ظل حكم المسلمين

في حديثه عن تأثير الحضارة الاسلامية في اسبانيا وسائر انحاء اوروبا ، يقول الدكتور غوستاف لوبون :

« لقد تقدم العرب كثيراً خاصة في اواخر فتوحاتهم ، وعلىٰ مدىٰ قرن في الاندلس التي كانت مركز حكمهم في اوروبا ، قاموا باحياء الاراضي الموات وشيدوا العمارات واوجدوا شبكة من العلاقات التجارية لهم مع سائر الشعوب والاقوام ، ثم قاموا باشاعة العلم والفنون ، فترجموا الكتب اليونانية واللاتينية واسسوا المراكز العلمية والجامعات التي بقيت يستفيد منها الاوروبيون سنوات ممتدة ، كما ان احد أهم خصوصيات الحضارة الاسلامية ، هو شوقها المفرط للعلوم والفنون ، ولذلك تراهم يؤسسون المراكز العلمية والادبية والمكتبات في اي بقعة يحلّون فيها ، وقد بذلوا جهوداً كبيرة في علوم الهندسة والهيئة والطبيعيات والفيزياء والكيمياء ، وسنشرح فيما بعد التطور والتقدم الذي حصل عليه علماء المسلمين في العلوم والفنون ، وقد نجحوا في القيام باكتشافات مهمة جداً.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394