مقتل العباس (عليه السلام)

مقتل العباس (عليه السلام)15%

مقتل العباس (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 394

  • البداية
  • السابق
  • 394 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 77255 / تحميل: 11579
الحجم الحجم الحجم
مقتل العباس (عليه السلام)

مقتل العباس (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

فكان ذوو الألويات يحرصون على رفعها؛ لكونها معقد الجيش، وبها يتمّ نظامهم وتتطامن نفوسُهم، ولم ينكسر الجيش إلاّ بقتل صاحب الراية وسقوطها.

ومن هنا نعرف مكانة أبي الفضل من البسالة، وموقفه من الشهامة، ومحلّه من الشرف، ومبوءه من الدِّين، ومنزلته من الغيرة، ومرتقاه من السّؤدد يوم عبّأ الحسينعليه‌السلام أصحابه، فأعطى رايته أخاه ( العبّاس ) مع أنّ للعبّاس إخوة من اُمّه وأبيه، وهناك من أولاد أبيه مَن لا يُسلّم اللّواء، كما أنّ في الأصحاب مَن هو أكبر سنّاً منه، مع صدق المفادات، ولكن سيّد الشُّهداءعليه‌السلام وجد أخاه أبا الفضل أكفى ممّن معه لحملها، وأحفظهم لذمامه وأرأفهم به، وأدعاهم إلى مبدئه وأوصلهم لرحمه، وأحماهم لجواره وأثبتهم للطعان، وأربطهم جأشاً وأشدّهم مراساً.

فكان ( صاحب الراية ) عند معتقد أخيه الإمامعليه‌السلام ، ثابت الجأش في ذلك الموقف الرهيب، ثبات الأسد الخادر، وهذا بيان مُطَّرد تلهج به الألسن، وإلاّ فما موقف الأسد منه! ومِن أين له طمأنينة هذا البطل المغوار الثابت فيما يفرُّ عنه الضّرغام؟!

وَلَولا اِحتِقارُ الاُسدِ شَبَّهتُها بِهِم

وَلَكِنَّها مَعدودَةٌ في البَهائِمِ

نعم، أنسب تشبيه يليق بمقامه: أنّه كان يصول ومعه صولةُ أبيه المرتضىعليه‌السلام .

وللعبّاس مزيّة على مَن حمل اللّواء وبارز الأبطال وتقدّم للطعان؛ فإنّهعليه‌السلام قد ألمّت به الكوارث والمحن من نواحي مُتعدّدة؛ من جروح وعطش، وفئة صرعى وحرائر ولهى، وأطفال أمضّ

٢٤١

بها الظمأ، والواحدة منها كافية في أنْ تهدي إلى البطل ضعفاً، وإلى الباسل فراراً، لكن ( صريخة بني هاشم ) بالرغم من كُلِّ هاتيك الرزايا كان يزحف بالراية في جحفل من بأسه، وصارم من عزمه، وكان في حدِّ حسامه الأجلُ المـُتاح، وملكُ الموت طوع يمينه، إذاً فليس من الغريب إذا ظهر في غصن الخلافة ما يبهر العقول!

قَسماً بِصارمِهِ الصَّقيلِ وإنَّني

في غَيرِ صاعقةِ السَّما لا اُقسمُ

لَولا القَضا لَمحى الوُجودَ بِسَيفِهِ

وَاللَهِ يَقضِي ما يَشاءُ وَيحكمُ

٢٤٢

موقفُهُ قبل الطَّفِّ:

يسترسل بعض الكتّاب عن موقفه قبل الطَّفِّ، فيُثبت له منازلة الأقران والضرب والطعن، وبالغوا في ذلك حتّى حُكي عن ( المنتخب ) أنّه يقول: كان كالجبلِ العظيمِ، وقلبُهُ كالطّود الجسيم؛ لأنّه كان فارساً هُماماً، وجسوراً على الضرب والطعن في ميدان الكفّار.

ويُحدّث صاحب الكبريت الأحمر ج٣ ص٢٤ عن بعض الكتب المعتبرة لتتبّع صاحبها: أنّهعليه‌السلام كان عضداً لأخيه الحسينعليه‌السلام يوم حمل على الفرات، وأزاح عنه جيش معاوية ومَلَك الماء.

قال: وممّا يُروى: أنّه في بعض أيّام صفّين خرج من جيش أمير المؤمنينعليه‌السلام شابٌّ على وجهه نقاب، تعلوه الهيبة، وتظهر عليه الشجاعة، يُقدّر عمره بالسّبع عشرة سنة، يطلب المبارزة، فهابه النّاس، وندب معاوية إليه أبا الشعثاء، فقال: إنّ أهل الشام يعدّونني بألف فارس، ولكن أرسل إليه أحد أولادي - وكانوا سبعة - وكُلّما خرج أحد منهم قتله حتّى أتى عليهم، فساء ذلك أبا الشعثاء وأغضبه، ولمـّا برز إليه ألحقه بهم، فهابه الجمع ولم يجرأ أحد على مبارزته، وتعجّب أصحاب أمير المؤمنينعليه‌السلام من هذه البسالة التي لا تعدو الهاشميِّين، ولم يعرفوه لمكان نقابه، ولمـّا رجع إلى مقرّه دعاه أبوه أمير المؤمنينعليه‌السلام وأزال النّقاب عنه، فإذا هو ( قمر بني هاشم ) ولده العبّاسعليه‌السلام .

٢٤٣

قال صاحب الكبريت بعد هذه الحكاية: وليس ببعيد صحة الخبر؛ لأنّ عمره يقدر بالسّبع عشرة سنة، وقد قال الخوارزمي: كان تامّاً كاملاً.

وهذا نصّ الخوارزمي في المناقب ص١٤٧: خرج من عسكر معاوية رجل يُقال له: كُريب، كان شجاعاً قويّاً يأخذ الدرهم فيغمزه بإبهامه فتذهب كتابته، فنادى: ليخرج إليّ عليٌّ. فبرز إليه مرتفع بن وضّاح الزبيدي فقتله، ثُمّ برز إليه شرحبيل بن بكر فقتله، ثُمّ برز إليه الحرث بن الحلاّج الشيباني فقتله، فساء أمير المؤمنينعليه‌السلام ذلك، فدعا ولده العبّاسعليه‌السلام ، وكان تامّاً كاملاً من الرجال، وأمره أنْ ينزل عن فرسه وينزع ثيابه، فلبس عليٌّعليه‌السلام ثياب ولده العبّاس وركب فرسه، وألبس ابنه العبّاس ثيابه وأركبه فرسه؛ لئلا يجبن كُريب عن مبارزته إذا عرفه، فلمـّا برز إليه أمير المؤمنينعليه‌السلام ذكّره الآخرة، وحذّره بأس اللّه وسخطه.

فقال كُريب: لقد قتلتُ بسيفي هذا كثيراً من أمثالك، ثُمّ حمل على أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فاتّقاه بالدرقة وضربه عليٌّعليه‌السلام على رأسه فشقّه نصفين، ورجع أمير المؤمنينعليه‌السلام وقال لولده محمّد بن الحنفيّة:« قفْ عندَ مصرعِ كُريب؛ فإنّ طالبَ وترِهِ يأتيك » . فامتثل محمّدٌ أمر أبيهعليه‌السلام ، فأتاه أحد بني عمّه وسأله عن قاتل كُريب، قال محمّد: أنا مكانه. فتجاولا ثُمّ قتله محمّدٌ، وخرج إليه آخر فقتله محمّد حتّى أتى على سبعة منهم(١) .

وفي ص١٠٥ من المناقب ذكر حديث العبّاس بن الحارث بن عبد المـُطّلب: وقد برز إليه عثمان بن وائل الحميري فقتله

____________________

(١) المناقب للخوارزمي / ٢٢٨، والنّقل بالمعنى.

٢٤٤

العبّاس، فبرز إليه أخوه حمزة - وكان شجاعاً قوياً - فنهاه أمير المؤمنينعليه‌السلام عن مبارزته، وقال له:« انزعْ ثيابَكَ وناولنِي سلاحَكَ وقفْ مكانَكَ، وأنا أخرجُ إليهِ » . فتنكّر أمير المؤمنينعليه‌السلام وبرز إليه وضربه على رأسه، فقطع نصف رأسه ووجهه وإبطه وكتفه، فتعجّب اليمانيُّون من هذه الضربة وهابوا العبّاس بن الحارث(١) .

هذا ما حدّث به في المناقب، ومنه نعرف أنّ هناك واقعتين جرتا لأمير المؤمنينعليه‌السلام مع ولده العبّاس ومع العبّاس بن الحارث؛ فإنكار شيخنا الجليل المـُحدّث النّوري في حضور العبّاس في صفّين، مُدّعياً اشتباه الأمر على بعض الرواة بالعبّاس بن الحارث، في غير محلّه؛ فإنّ الحجّة على تفنيد الخبر غير تامّة؛ لأنّ آحاد هذا البيت ورجالاتهم قد فاقوا الكُلَّ في الفضائل جميعها، وجاؤوا بالخوارق في جميع المراتب، فليس من البِدع إذا صدر من أحدهم ما يمتنع مثله عن الشجعان وإنْ لم يبلغوا مبالغ الرجال.

فهذا القاسم بن الحسن السّبطعليه‌السلام لم يبلغ الحلم يوم الطَّفِّ، وقد ملأ ذلك المشهد الرهيب هيبةً، وأهدى إلى قلوب المقارعين فَرَقاً، وإلى الفرائص ارتعاداً، وإلى النّفوس خَوراً، غير مبالٍ بالجحفل الجرّار، ولا بمكترثٍ بمزدحم الرجال حتّى قتل خمسة وثلاثين فارساً(٢) ، وبطبع الحال فيهم مَن هو أقوى منه، لكنّ البسالةَ وراثةٌ بين أشبال ( عليعليه‌السلام ) على حدٍّ سواء، فهم فيها كأسنان المشط،

____________________

(١) المناقب للخوارزمي / ٢٣١، والنّقل بالمعنى.

(٢) لواعج الأشجان للأمين / ١٧٤، بحار الأنوار ٤٥ / ٣٤، وفيه: فقَتلَ على صغر سنّه خمسة وثلاثين رجلاً. بدلَ فارسٍ.

٢٤٥

صغيرهم وكبيرهم، كما أنّهم في الأنفة عن الدنية سيان، فلم يغتالوا الشبل الباسل حتّى وقف يشدُّ شسع نعله، وهو لا يزن الحرب إلاّ بمثله، وقد أنف ( شبل الوصيِّ ) أنْ يحتفي في الميدان.

أهوى يشدُّ حذاءَهُ

والحربُ مُشرعةٌ لأجْلِهْ

ليَسُومَها ما إنْ غلتْ

هَيْجاؤهَا بِشراكِ نَعْلِهْ

مُتقلِّداً صمْصامَه

مُتفيِّئاً بظلالِ نصْلِهْ

لا تَعْجَبنَّ لفعِلهِ

فالفرعُ مُرتَهنٌ بأصلِهْ

السّحُب يَخلفُها الحَيا

والليّثُ مَنظورٌ بشبلِهْ

يُردِي الطَّليعةَ مِنهُمُ

ويُريهُمُ آياتَ فِعْلِهْ(١)

وهذا عبد اللّه بن مسلم بن عقيل بن أبي طالب، بارز يوم الطَّفِّ الاُلوف مع صغر سنِّه حتّى قتل منهم - على رواية محمّد بن أبي طالب - ثلاثةً وتسعين رجلاً، بثلاث حملات.

وهذا محمّد بن الحنفيّة، فإنّ له مواقفاً محمودة في الجمل وصفِّين والنّهروان، وكانت الراية معه، فأبلى بلاءً حسناً سجَّله له التاريخ وشكره الإسلام، وكان صغير السّنِّ على ما يظهر من السّبط في تذكرة الخواصّ، وابن كثير في البداية ج٩ ص٣٨(٢) ، فإنّهما نصّا على وفاته سنة ٨١ عن خمسٍ وستّين، فتكون ولادته سنة ١٦ للهجرة، وله يوم البصرة الواقع سنة ٣٦ هـ عشرون سنة.

____________________

(١) للعلاّمة السيّد مير علي أبو طبيخرحمه‌الله .

(٢) البداية والنّهاية لابن كثير ٩ / ٣٢، تذكرة الخواصّ ٢ / ٢٩٨.

٢٤٦

وحينئذ فلا غرابة في التحدّث عن موقف أبي الفضلعليه‌السلام وما أبداه من كرٍّ وإقدام؛ خصوصاً بعد ما أوقَفَنا النّص النّبوي الآتي على ما حواه وُلدُ أبي طالب من بسالة وبطولة.

وأمّا يوم شهادة أخيه الإمام المجتبىعليه‌السلام فله أربع وعشرون سنة، وقد ذكر صاحب كتاب ( قمر بني هاشم ) ص٨٤: أنّه لمـّا رأى جنازة سيّد شباب أهل الجنّةعليه‌السلام تُرمى بالسّهام، عظمَ عليه الأمر، ولم يطقْ صبراً دون أنْ جرَّد سيفه وأراد البطش بأصحاب ( البغلة ) لولا كراهيةُ السّبط الشهيدعليه‌السلام الحرب؛ عملاً بوصية أخيهعليه‌السلام :« لا تُهرقْ في أمرِي مَحْجَمةً مِنْ دمٍ » (١) .

فصبر أبو الفضلعليه‌السلام على أحرِّ من جمر الغضا، ينتظرُ الفرصة ويترقَّبُ الوعدَ الإلهي، فأجهد النّفس، وبذل النّفس في مشهد ( النّواويس )، وحاز كلتا الحُسنيين.

____________________

(١) دلائل الإمامة / ١٦٢، الإرشاد للشيخ المفيد / ١٧، عمدة الطالب لابن عنبة / ٦٧ باختلاف الألفاظ.

٢٤٧

موقفُهُ في الطَّفِّ:

ربما يستعصي البيان عن الإفاضة في القول في هذا الفصل لشدّة وضوحه، وربما أعقب الظهور خفاءً؛ فإنّ منْ أبرز الصفات الحميدة في الهاشميِّين الشجاعة، وقد جُبلوا عليها، وبالأخص الطالبيِّين، وقد أوقفنا على هذه الظاهرة الحديث النّبويّ:« لو ولدَ النّاسَ أبو طالبٍ كُلَّهمْ لكانوا شُجعاناً » (١) .

إذاً فما ظنّك بطالبيٍّ أبوه أمير المؤمنينعليه‌السلام قاتل عمر بن عبد ود، ومزهق مرحب، وقالع باب خيبر، وقد عرق في ولده البسالة كُلّها والشهامة بأسرها، وعلّمه قراع الكتائب، فنشأ بين حروبٍ طاحنة وغارات شعواء، وخؤولته العامريّون الذين شهد لهم عقيل بالفروسية؟!

وللخؤولة كالعمومة عرق ضارب في الولد، ومن هنا قالت العرب:( فلان مُعِمٌّ مُخْوِلٌ ) إذا كان كريمهم، وحوى المزايا الحميدة عنهما(٢) ، ولم يعقد أمير المؤمنينعليه‌السلام على اُمِّ البنين إلاّ

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٠ / ٧٨، كشف الغُمَّة ٢ / ٢٣٥ باختلاف ألفاظ الرواية بلفظ:« للّه درُّ أبي طالب! لو وَلد النّاسَ كلَّهم كانوا شُجعاناً » . كما في كشف الغُمَّة للأربلي، أو:« لو ولدَ أبو طالبٍ النّاسَ كُلَّهُمْ لكانُوا شُجعاناً » . كما في شرح النّهج.

(٢) لسان العرب ١١ / ٢٢٤، تاج العروس ١٤ / ٢١٦. وقد نظم هذه الخاصّة أبو بكر محمّد بن العبّاس الخوارزمي، المـُتوفّى سنة ٣٧٣، ففي مُعجم البلدان ١ / ٥٧ بمادة ( آمل ) إنّه قال:

بآملَ مولدِي وبنُو جريرِ

فأخوالِي ويحكِي المرءُ خالَهْ

فها أنا رافضيٌّ عنْ تُراثٍ

وغيرِي رافضيٌّ عنْ كَلالَهْ

عرّض بابن جرير صاحب التاريخ؛ فإنّه أخو اُمّه، وكان من أهل السُّنّة، وإنّما نسبه إلى التشيّع الحنابلة لتصحيحه حديث الغدير، فتشيّعه ادّعائي، وهو المـُعبّر عنه بـ ( الكلالة )؛ فإنّها في اللغة: ما لمْ يكن من النّسب لحاً. فقول الحموي في المـُعجم: ( كذب الخوارزمي؛ لأنّ ابن جرير من أعلام السُّنّة ) مبنيٌّ على عدم فهمه الغرض من البيت، فالخوارزمي لمْ يعترف بتشيعهِ.

وقال الذهبي في تاريخه ٢٧ / ٦٨، وقال الحاكم في تاريخه: كان واحد عصره في حفظ اللغة والشعر، وكان يُذاكرني بالأسماء والكنى حتّى يُحيّرني حفظه...

٢٤٨

لتلد له هذا الفارس المغوار والبطل المـُجرّب، فما أخطأت إرادته الغرض، ولا عدى سهمه المرمى.

فكان أبو الفضل رمز البطولة ومثال الصولات، يلوح البأس على أسارير جبهته، فإذا يَمّم كميّاً قصده الموت معه، أو التقى بمُقبل ولاّه دبره، ولم يبرح هكذا تشكره الحرب والضرب، وتشكوه الهامات والأعناق، ما خاض ملحمة إلاّ وكان ليلها المعتكر، ولم يلفَ في معركة إلاّ وقابل ببشره وجهها المـُكفهر.

يُمثّلُ الكرّارَ في كرَّاتِه

بلْ في المعانِي الغُرِّ مِنْ صفاتِهِ

ليسَ يدُ اللّهِ سِوى أبيه

وقُدرةُ اللّهِ تَجلَّتْ فيهِ

فَهو يدُ اللّهِ وهذا ساعدُه

تُغنِيكَ عَنْ إثباتِهِ مشاهدُهْ

صَولتُهُ عندَ النّزالِ صولتُهْ

لولا الغُلوُّ قُلتُ جلَّتْ قُدرتُه

وهل في وسع الشاعر أنْ ينضد خياله، أو يتسنّى للكاتب أنْ يسترسل في وصف تلك البسالة الحيدريّة، وجوهر الحقيقة قائمٌ بنفسه، ماثلٌ أمامَ الباحث بأجلى مِن كُلّ هاتيك المعرفات في مشهد يوم الطَّفِّ؟!

٢٤٩

ولَعمري، إنّ حديث كربلاء لم يُبقِ لسابقٍ في الشجاعة سبقاً، ولا للاحقٍ طريقاً إلاّ الالتحاق به، فلقد استملينا أخبار الشجعان في الحروب والمغازي يوم شأوا الأقران في الفروسيّة، فلم يعدهم في الغالب الاستظهار بالعدد، وتوفّر العتاد، وتهيء ممدّات الحياة من المطعم والمشرب، وفي الغالب إنّ الكفاية بين الجيشين المتقابلين موجودة.

يسترسل المؤرّخون لذكر شجعان الجاهليّة والحالة كما وصفناها، واهتزّوا طرباً لقصة ربيعة بن مكدم، وهي: إنّ ربيعة بن مكدم بن عامر بن حرثان من بني مالك بن كنانة كان أحد فرسان مضر المعدودين، خرج بالظعينة وفيها اُمّه اُمّ سنان من بني أشجع بن عامر بن ليث بن بكر بن كنانة، واُخته اُمّ عزَّة، وأخوه أبو القرعة، ورأى الظعينة دُريد بن الصمّة، فقال لرجل معه: صح بالرجل أنْ خَلِّ الظعينة وانجُ بنفسك. وهو لا يعرفه.

فلمـّا رأى ربيعة أنّ الرجل قد ألحّ عليه، ألقى زمام النّاقة وحمل على الرجل فصرعه، فبعث دريد آخر فصرعه ربيعة، فبعث الثالث ليعلم خبر الأوَّلَين فقتله ربيعة وقد انكسر رمحه، فلمـّا وافاه دُريد ورأى الثلاثة صرعى ورمحه مكسوراً، قال له: يا فتى، مثلُكَ لا يُقتل، وهؤلاء يثأرون ولا رمح لك، ولكنْ خُذ رمحي وانجُ بنفسك والظعينة. ثُمّ دفع إليه رمحه ورجع دريد إلى القوم، وأعلمهم أنّ الرجل قتل الثلاثة وغلبه على رمحه، وقد منع بالظعينة، فلا طمع لكم فيه(١) .

هذا الذي حفظته السّيرة مأثرة لربيعة بن مكدم بتهالكه دون الظعائن حتّى انكسر رمحه، ولكنْ أين هو من ( حامى الظعينة ) يوم

____________________

(١) الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ١٦ / ٣١٢.

٢٥٠

قاتل الاُلوف، وزعزع الصفوف عن المشرعة حتّى ملك الماء وملأ القربة، والكُلّ يرونه ويحذرونه؟!

وأنّى لربيعة من بواسل ذلك المشهد الرهيب فضلاً عن سيّدهم أبي الفضلعليه‌السلام ، فلقد كان جامع رأيهم، فلم يقدهم إلاّ إلى محلِّ الشرف، مُنكباً بهم عن خطَّة الخسف والضّعة، على حين أنّ الأبطال تتقاذف بهم سكرات الموت؟!

هذا وللسبط المـُقدّسعليه‌السلام طرف شاخص إلى صنوه البطل المـُقدام كيف يرسب ويطفو بين بُهمِ الرجال، ووجهُهُ مُتهلّلٌ لكرّاته، ولحرائر بيت النّبوَّة أملٌ موطَّد لحاميةِ الظعائن.

وإليك مثالاً من بسالته الموصوفة في ذلك المشهد الدامي، وهي لا تدعك إلاّ مُذعناً بما له من ثبات ممنع عند الهزاهز، وطُمأنينة لدى الأهوال.

الأوّل: في اليوم السّابع من المـُحرَّم حُوصر سيّد الشُّهداءعليه‌السلام ومَن معه، وسُدّ عنهم باب الورود، ونفذ ما عندهم من الماء، فعاد كُلٌّ منهم يعالج لهب الأوام(١) ، وبطبع الحال كانوا بين أنّةٍ وحنّة، وتضوّرٍ ونشيج، ومُتطلّبٍ للماء إلى متحرٍّ ما يبلّ غلته، وكُلُّ ذلك بعين ( أبي عليعليه‌السلام ) والغيارى من آله، والأكارم من صحبه، وما عسى أنْ يجدوا لهم وبينهم وبين الماء رماحٌ مُشرعة وبوارقٌ مُرهفة في جمعٍ كثيف يرأسهم عمرو بن الحجّاج، لكنْ ( ساقي العِطاشى ) لمْ يتطامن على تحمّل تلك الحالة.

أَو تَشتَكي العَطشَ الفَواطمُ عِندَهُ

وَبصدرِ صعدَتِهِ الفراتُ المـُفعمُ

وَلو اِستَقَى نَهرَ المَجرَّةِ لارتَقَى

وَطَويلُ ذابلِهِ إِلَيها سُلمُ

____________________

(١) الأوام: العطش. راجع: لسانَ العرب ١٢ / ٣٨، القاموس المحيط ٤ / ٧٧، مجمع البحرين للطّريحي ١ / ١٣٥، تاج العروس ١٦ / ٣٨.

٢٥١

لَو سَدُّ ذي القَرنينِ دُونَ ورودِهِ

نَسَفتْهُ هِمَّتُهُ بِما هوَ أَعظَمُ

في كَفِّهِ اليُسرى السَّقاءُ يقلُّهُ

وَبِكَفِّهِ اليُمنَى الحسامُ المِخْذَمُ

مثل السَّحابةِ لِلفَواطمِ صَوبُهُ

ويُصيبُ حاصبُهُ العَدوَّ فَيُرجَمُ

هناك قيّض الحسينعليه‌السلام لهذه المـُهمّة أخاه العبّاس، في حين أنّ نفسه الكريمة تُنازعه إلى ذلك قبل الطلب، ويحدوه إليه حفاظه المـُرُّ، فأمره أنْ يستقي للحرائر والصبية وإنْ كان دونه شقّ المرائر وسفك المـُهج، وضمّ إليه ثلاثين فارساً وعشرين راجلاً، وبعث معهم عشرين قربة، وتقدّم أمامهم نافع بن هلال الجملي، فمضوا غير مبالين وكُلّ بحفظ الشريعة؛ لأنّهم محتفون بشتيم من آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فتقدّم نافع باللّواء، وصاح به عمرو بن الحجّاج: مَن الرجل؟ وما جاء بك؟

قال: جئنا نشرب من هذا الماء الذي حلأتمونا عنه. فقال له: اشرب هنيئاً. قال نافع: لا واللّه، لا أشرب منه قطرة والحسين ومَن ترى من آله وصحبه عِطاشى. فقال: لا سبيل إلى سقي هؤلاء، وإنّما وُضعنا هاهنا لنمنعهم الماء. ثُمّ صاح نافع بأصحابه: املأوا قربكم.

وشدّ عليهم أصحاب ابن الحجّاج، فكان بعض القوم يملأ القرب وبعضٌ يُقاتل، وحاميهم ( ابنُ بجدتها ) مُسدّد الكماة، المـُتربِّي في حجر البسالة الحيدريّة والمـُرتضع من لبانها ( أبو الفضل )، فجاؤوا بالماء وليس في القوم المناوئين مَن تُحدّثه نفسه بالدنوِّ منهم؛ فرقاً من ذلك البطل المغوار، فبُلّت غلّة الحرائر والصبية الطيِّبة من ذلك الماء، وابتهجت به النّفوس(١) .

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣١٢، مقتل الحسين لأبي مخنف / ٩٨.

٢٥٢

ولكنْ لا يفوت القارئ معرفة: إنّ تلك الكميّة القليلة من الماء ما عسى أنْ تُجدي اُولئك الجمع الذي هو أكثر من مئة وخمسين، رجالاً ونساءً وأطفالاً، أو أنّهم ينيفون على المئتين على بعض الروايات؟! ومِنَ المقطوع به أنّه لم تروِ أكبادهم إلاّ مرّة واحدة، أو أنّها كمصّة الوشل، فسرعان أنْ عاد إليهم الظمأ، وإلى اللّه سبحانه المـُشتكى.

الثاني: كان أصحاب الحسينعليه‌السلام بعد الحملة الاُولى التي استشهد فيها خمسون، يخرج الاثنان والثلاثة والأربعة، وكُلٌّ يحمي الآخر من كيد عدوّه، فخرج الجابريان وقاتلا حتّى قُتلا، وخرج الغفّاريان فقاتلا معاً حتّى قُتلا، وقاتل الحُرُّ الرياحي ومعه زهير بن القَين يحمي ظهره حتّى فعلا ذلك ساعة، فكان إذا شدّ أحدهما واستلحم، شدَّ الآخر واستنقذه حتّى قُتل الحُرُّ(١) .

وفي تاريخ الطبري ج٦ ص٢٥٥: إنّ عمرو بن خالد الصيداوي وسعد مولاه، وجابر بن الحارث السّلماني، ومجمع بن عبد اللّه العائذي شدّوا جميعاً على أهل الكوفة، فلمـّا أوغلوا فيهم عطف عليهم النّاس من كُلِّ جانب وقطعوهم عن أصحابهم، فندب إليهم الحسينعليه‌السلام أخاه العبّاس، فاستنقذهم بسيفه، وقد جُرحوا بأجمعهم، وفي أثناء الطريق اقترب منهم العدو، فشدّوا بأسيافهم مع ما بهم من الجراح وقاتلوا حتّى قُتلوا في مكان واحد، وفازوا بالسّعادة الخالدة.

____________________

(١) تاريخ الطبري ٤ / ٣٤٠، مقتل الحسين لأبي مخنف / ١٦٠.

٢٥٣

الشهادة:

لم يفتأ لقمر بني هاشم دؤب على مناصرة الحقّ في شمم وإباء عن النّزول على حكم الدنيّة، منذ كان يرتضع لبان البسالة، وتربّى في حجر الإمامة، فترعرع ونُصبَ عينه أمثلة الشجاعة والتضحية دون النّواميس الإلهيّة، لمطاردة الرجال ومجالدة الأبطال؛ فإمّا فوز بالظفر أو ظفر بالشهادة، فمن الصعب عنده النّزول على الضيم، وهو يرى الموت تحت مشتبك الأسنّة أسعد من حياة تحت الاضطهاد، فكان لا يرى للبقاء قيمةً و( إمام الحقّ ) مكثور، وعقائل بيت الوحي قد بلغ منهنّ الكرب كُلَّ مبلغ.

ولكنْ لمـّا كان - سلام اللّه عليه - أنفس الذخائر عند السّبط الشهيدعليه‌السلام وأعزّ حامته لديه، وطمأنينة الحرم بوجوده وبسيفه الشاهر، ولوائه الخفاق وبطولتِهِ المعلومة، لم يأذن له إلى النّفس الأخير من النّهضة المـُقدّسة، فلا الحسينعليه‌السلام يسمح به، ولا العائلة الكريمة تألف بغيره، ولا الحالة تدعه لأنْ يُغادر وحرائر أبيه بين الوحوش الكواسر.

هكذا كان أبو الفضل بين نزوعٍ إلى الكفاح بمقتضى غريزته، وتأخّرٍ عن الحركة لباعثٍ دينيٍّ وهو طاعة الإمامعليه‌السلام ، حتّى بلغ الأمر نصابه، فلم يكن لجاذب الغيرة أو دافعها مكافئ، وكان مِلْءُ سمعه ضوضاء الحرم من العطش تارة، ومن البلاء المـُقبل اُخرى، ( ومركز الإمامة ) دارت عليه الدوائر، وتقطّعت عنه خطوط المدد، وتفانى صحبه وذووه.

٢٥٤

هنالك هاج ( صاحب اللّواء ) - ولا يلحقه الليث عند الهياج - فمثل أمام أخيه الشهيد يستأذنه، فلم يجد أبو عبد اللّهعليه‌السلام بُدّاً من الإذنْ، حيث وجد نفسه لَتسبق جسمه؛ إذ ليس في وسعه البقاء على تلك الكوارث المـُلمّة من دون أنْ يأخذ ثأره من اُولئك المَرَدة، فعرّفه الحسينعليه‌السلام أنّه مهما ينظر اللّواء مرفوعاً كأنّه يرى العسكر مُتّصلاً والمدد مُتتابعاً، والأعداء تحذر صولته وترهب إقدامه، وحرائر النّبوَّة مُطمئنة بوجوده، فقال له:« أنتَ صاحبُ لوائِي، ولكنْ اطلبْ لهؤلاءِ الأطفالِ قليلاً مِن الماءِ » .

فذهب العبّاسعليه‌السلام إلى القوم ووعظهم وحذّرهم غضب الجبّار، فلم ينفع، فرجع إلى أخيه وأخبره، فسمع الأطفال يتصارخون من العطش، فنهضت بـ ( ساقي العِطاشى ) غيرته الشمّاء وأخذ القربة، وركب فرسه وقصد الفرات، فلم يرعه الجمع المـُتكاثر، وكشفَهم شبلُ عليٍّ عن الماء ومَلَك الشريعة، ومذ أحسّ ببرده تذكّر عطش الحسينعليه‌السلام ، فرأى من واجبه ترك الشرب؛ لأنّ الإمامعليه‌السلام ومَن معه أضرّ بهم العطش، فرمى الماء من يده وأسرع بالقربة محافظاً على مهجة الإمامعليه‌السلام ولو في آن يسير، وقال(١) :

يا نفسُ مِنْ بعدِ الحُسينِ هُوني

وبعدَهُ لا كُنتِ أنْ تكوني

هذا الحُسينُ واردُ المنونِ

وتشْرَبينَ باردَ المعينِ

تـاللّهِ مـا هـذا فعالُ دينِي

فتكاثروا عليه وقطعوا طريقه، فلم يُبالِ بهم، وجعل يضرب فيهم بسيفه، ويقول:

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٥ / ٤٢، مقتل الحسين لأبي مخنف / ١٧٩، ينابيع المودّة لذوي القربى للقندوزي ٣ / ٦٧.

٢٥٥

لا أرْهبُ المَوتَ إذا الموتُ زقا

حتّى اُوارَى في المصاليتِ لَقَى

إنِّي أنَا العبّاسُ أغْدو بالسّقا

ولا أهابُ المَوتَ يومَ المـُلتَقَى

فكمنَ له زيد بن الرقّاد الجهني، وعاونه حكيم بن الطفيل السّنبسي، فضربه على يمينه فقطعها، فأخذ السّيف بشماله وجعل يضرب فيهم، ويقول:

واللّهِ إنْ قَطعتُمُ يَمينِي

إنّي اُحامِي أبداً عَنْ دِينِي

وعَنْ إمامٍ صادقِ اليَقينِ

نجلِ النَّبيِّ الطَّاهرِ الأمينِ

فكمنَ له حكيم بن الطفيل من وراء نخلة، فضربه على شماله فبراها، فضمّ اللّواء إلى صدره.

فعند ذلك أمنوا سطوته وتكاثروا عليه، وأتته السّهام كالمطر؛ فأصاب القربة سهمٌ واُريق ماؤها، وسهمٌ أصاب صدره، وسهمٌ أصاب عينه، وحمل عليه رجلٌ بعمودٍ من حديد وضربه على رأسه المـُقدّس.

وَهوَى بِجَنبِ العَلقميِّ فَلَيتَهُ

لِلشَّاربينَ بِهِ يُدافُ العَلْقمُ

ونادى بصوت عالٍ: عليك منّي السّلام يا أبا عبد اللّه(١) . فأتاه الحسينعليه‌السلام ، ويا ليتني علمتُ بماذا أتاه، أبحياة مُستطارة منه بذلك الفادح الجلل، أو بجاذب من الاُخوّة إلى مصرع صنوه المحبوب!

نعم، حصل الحسينعليه‌السلام عنده وهو يُبصر هيكل البسالة وقربان القداسة فوق الصعيد، وقد غشيته الدِّماء السّائلة وجلّلته النّبال، ورأى ذلك الغصن الباسق قد ألمّ به الذبول، فلا يمينٌ تبطش ولا

____________________

(١) ينابيع المودة لذوي القربى للقندوزي ٣ / ٦٨.

٢٥٦

منطقٌ يرتجز، ولا صولةٌ ترهبُ ولا عينٌ تُبصر، ومرتكز الدماغ على الأرض مبدّدٌ.

أصحيح أنّ الحسينعليه‌السلام ينظر إلى تلكم الفجائع ومعه حياة تقدمه، أو عافية تنهض به؟ لا واللّه، لم يبقَ الحسينعليه‌السلام بعد أبي الفضل إلاّ هيكلاً شاخصاً مُعرّى عن لوازم الحياة، وقد أعرب سلام اللّه عليه عن هذا الحال بقوله:« الآن انكسرَ ظَهرِي، وقلَّتْ حِيلَتِي، وشمتَ بِي عدوِّي » .

وبانَ الانكسارُ فِي جبينِهِ

فاندكّتْ الجِبالُ مِنْ حَنينِهِ

كافلُ أهلِهِ وساقِي صبْيتِهْ

وحاملُ اللِّوا بعالِي همَّتِهْ

وكيفَ لا وهوَ جمالُ بهجتِهْ

وفي مُحيَّاهُ سرورُ مُهجَتِهْ

ورجع إلى المـُخيّم مُنكسراً حزيناً باكياً يُكفكف دموعه بكُمِّه كي لا تراه النّساء(١) ، وقد تدافعت الرِّجال على مخيمه، فنادى بصوت عالٍ:« أمَا مِنْ مُجيرٍ يُجيرُنا؟ أمَا مِنْ مُغيثٍ يُغيثُنا؟ أمَا مِنْ طالبِ حقٍّ يَنصُرُنا؟ أمَا مِنْ خائفٍ مِنَ النّارِ فيذبُّ عنّا؟ » .

كُلّ هذا لإبلاغ الحُجّة، وإقامة العذر حتّى لا يعتذر أحدٌ بالغفلة يوم يقوم النّاس لربِّ العالمين.

ولمـّا رأته سُكينة مُقبلاً أخذت بعنان جواده، وقالت: أينَ عمّي العبّاس، أراه أبطأ بالماء؟ فقال لها:« إنَّ عمَّكِ قُتلْ » . فسمعته زينب فنادت: وا أخاه! وا عبّاساه! وا ضيعتنا بعدك! وبكين النّسوة وبكى الحسينعليه‌السلام معهنّ، ونادى:« وا ضيْعَتَنا بعدَكَ أبا الفضلِ » .

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٥ / ٤٢.

٢٥٧

المشهد المـُطهَّر:

ممّا لا شكّ فيه أنّ الإمام الشهيد أبا عبد اللّهعليه‌السلام لم يترك القتلى في حومة الميدان، وإنّما كان يأمر بحملهم إلى الفسطاط الذي يقاتلون دونه، وهذا وإنْ لم نجده صريحاً في كُلِّ واحد من المـُستشهدين إلاّ أنّ التأمّل فيما يؤثر في الواقعة يقتضيه، وإنّ طبع الحال يستدعيه، ويؤيّده ما في البحار من حمل الحُرِّ حتّى وُضع بين يديّ الحسينعليه‌السلام ، وعند سقوط علي الأكبر أمر الحسينعليه‌السلام فتيانه أنْ يحملوه إلى الفسطاط الذي يُقاتلون دونه، وقد حمل القاسم بنفسه المـُقدّسة حتّى وضعه مع ابنه الأكبر، وقتلى حوله من أهل بيتهعليهم‌السلام .

هذا لفظ ابن جرير وابن الأثير، ومن البعيد جدّاً أنْ يحمل سيّد الشُّهداءعليه‌السلام أهل بيته خاصّة إلى الفسطاط ويترك اُولئك الصفوة الأكارم الذين قال فيهم:« لا أعلمُ أصحاباً أولَى ولا خيراً مِنْ أصحابي » . ففضّلهم على كُلِّ أحد حتّى على أصحاب جدّه وأبيه (صلوات الله عليهما وآلهما)، وإنّ كُلّ أحد لا يرضى من نفسه هذه الفعلة، فكيف بذلك السيّد الكريم الذي علّم النّاس الشّمم والإباء والغيرة؟!

على أنّ الفاضل القزويني يحكي في تظلّم الزهراءعليها‌السلام ص١١٨ عن غيبة النّعماني: أنّ أبا جعفر الباقرعليه‌السلام يقول:« كان الحسينُ يضع قتلاه بعضَهُمْ معَ بعضٍ، ويقول: قتلةٌ مثلُ قتلةِ النَّبيِّينَ وآلِ النَّبيِّين » (١) .

____________________

(١) الغيبة للنعماني / ٢١٩، والنّص:« كان الحسينُ بنُ عليٍّ يضعُ قتلاه بعضَهُمْ إلى بعضٍ، ويقول: قتلانا قتلَى النَّبيِّين » .

٢٥٨

نعم، ممّا لا شكّ فيه أنّهعليه‌السلام ترك أخاه العبّاس في محلّ سقوطه قريباً من المسنّاة، لا لما يمضي في بعض الكتب من كثرة الجروح وتقطّع الأوصال، فلم يقدر على حمله؛ لأنّ في وسع الإمامعليه‌السلام أنْ يُحرّك ذلك الشلو المـُبضَّع إلى حيث أراد ومتى شاء؛ وإلاّ لِما قيل: من أنّ العبّاس أقسم عليه بجدّه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يتركه في مكانه؛ لأنّه وعد سكينة بالماء ويستحي منها(١) ؛ لعدم الشاهد الواضح على كُلِّ منهما.

بل إنّما تركه لسرّ دقيقٍ، ونكتة لا تخفى على المتأمّل ومَن له ذوق سليم، ولولاه لم يعجز الإمامعليه‌السلام عن حمله مهما يكن الحال، وقد كشفت الأيّام عن ذلك السّرّ المصون، وهو: أنْ يكون له مشهد يُقصد بالحوائج والزيارات، وبقعة يزدلف إليها النّاس وتتزلّف إلى المولى سبحانه تحت قبته التي تحك السّماء رفعةً وسناءً؛ فتظهر هنالك الكرامات الباهرة، وتعرف الاُمّة مكانته السّامية ومنزلته عند اللّه؛ فتُقدّره حقّ قدره، وتؤدّي ما وجب عليهم من الحبّ المتأكّد والزورة المتواصلة، ويكونعليه‌السلام حلقة الوصل بينهم وبين اللّه تعالى، وسبب الزلفى لديه.

فشاء المهيمن تعالى شأنه، وشاء وليُّه وحُجّته أنْ تكون منزلة أبي الفضل الظاهريّة شبيهة بالمنزلة المعنويّة الاُخرويّة، فكان كما شاءا وأحبّا.

____________________

(١) الدمعة السّاكبة ٤ / ٣٢٤، قال: أقول: وفي بعض الكتب المعتبرة: إنّ من كثرة الجراحات الواردة على العبّاسعليه‌السلام لم يقدر الحسينعليه‌السلام أنْ يحملهُ إلى محل الشُّهداء، فترك جسده في محلّ قتله ورجع باكياً حزيناً إلى الخيام.

٢٥٩

ولو حمله سيّد الشُّهداءعليه‌السلام إلى حيث مجتمع الشُّهداء في الحائر الأقدس لغمره فضل الإمام الحُجّةعليه‌السلام ، ولم تظهر له هذه المنزلة التي ضاهت منزلة الحُجّج الطاهرينعليهم‌السلام ، خصوصاً بعد ما أكّد ذلك الإمام الصادقعليه‌السلام بإفراد زيارة مُختصّة به، وإذناً بالدخول إلى حرمه الأطهر كما شُرّع ذلك لأئمّة الهدىعليهم‌السلام ، غير ما يُزار به جميع الشُّهداء بلفظ واحد، وليس هو إلاّ لمزايا اختُصّت به.

وقد أرشدتنا آثار أهل البيتعليهم‌السلام على هذا الموضع من مرقده الطيّب، ففي كامل الزيارات لابن قولويه ص٢٥٦ بسند صحيح عن أبي حمزة الثمالي، عن الصادقعليه‌السلام قال:« إذا أردتَ زيارةَ العبّاسِ بنِ عليٍّ وهو على شطِّ الفُراتِ بحذاء الحَيْر، فقف على باب السّقيفة، وقل: سلامُ اللّهِ وسلامُ ملائكتِهِ... » .

وحكى المجلسي - أعلى اللّه مقامه - في مزار البحار، عن الشيخ المفيد وابن المشهدي زيارةً اُخرى له في هذا المشهد الذي أشار إليه الصادقعليه‌السلام ، برواية غير مُقيّدة بوقت من الأوقات. وهكذا حُكي عن المفيد والشهيد والسيّد ابن طاووس في زيارة النّصف من رجب، وليلة القدر، ويومَي العيدين، ومثله العلاّمة النّوري في تحيّة الزائر.

وعبارة المفيد في الإرشاد صريحة فيما نصّت به رواية أبي حمزة الثمالي؛ فإنّه قال عند ذكر مَن قُتل من آلِ الحسينعليه‌السلام : وكلُّهم مدفونون ممّا يلي رجلَي الحسينعليه‌السلام في مشهده، حُفر لهم حفيرة واُلقوا فيها جميعاً... إلاّ العبّاس بن عليٍّ رضوان اللّه عليه، فإنّه دُفن في موضع مقتله على المسنّاة بطريق الغاضريّة، وقبره ظاهرٌ،

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

وأمّا عن سبب عمى ابن عباس ، فقد ذكرت في الجزء الرابع من الحلقة الأولى ما يغني عن إعادته.

وأمّا عن مشاورته عائشة وأم سلمة وأبا هريرة وجماعة من الصحابة فلم يرخصوا له في إجراء العملية ، وقالوا له : أرأيت إن متّ في هذه الأيام كيف تصنع بصلاتك؟

وبهذا أثبت الراوي جهل ابن عباس بوظيفته الشرعية ، فهو لا يعلم كيف يعمل فيستفتي عائشة وأبا هريرة وبعض الصحابة!!

فأين أثر دعاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم له بأن يفقهه في الدين ويعلّمه الحكمة؟!

وأين صارت شهادة عائشة في سنة ( 35 هـ ) فسألت : من ولي أمارة الموسم؟ فقيل لها : ابن عباس ، قالت : أنّه أعلم الناس بالحج! فكيف صار الآن لا يعرف تكليفه الشرعي؟!

وهو الذي قال عنه طاووس : ( رأيت سبعين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا تدارؤا صاروا إلى قول ابن عباس ).

وقد مرّت بنا هذه الأقوال وغيرها في الجزء الثاني من هذه الحلقة فراجعها تجدها مع مصادرها.

وقد قرأنا شواهد ومشاهد في أعقاب حرب الجمل فيها مواقف متشنجة بين ابن عباس وعائشة ، فكيف نستغفل عقولنا ونقبل ما رواه الرواة ممن طُبعوا على حبّ أم المؤمنين ، فصارا يبنون لها أهرامات من الفضائل تفوق أهرامات مصر الفرعونية!

٣٠١

( الحديث الرابع ) :

ما رواه الزركشي عن ابن عباس في بدعية صلاة ركعتين بعد العصر ، حيث روي : ( أنّ معاوية صلى صلاة العصر ثم قام ابن الزبير فصلى بعدها ، فقال معاوية : يا بن عباس ما هاتان الركعتان؟ فقال : بدعة وصاحبها صاحب بدعة ، ولمّا فرغ ابن الزبير سألهما عما قالاه فأخبراه ، قال : ما ابتدعت ، ولكن حدثتني خالتي عائشة. فأرسل معاوية إليها ، فقالت : صدق ، حدثتني أم سلمة ، فأرسل إلى أم سلمة : أنّ عائشة حدثتنا عنكِ بكذا ، فذكرت أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم صلى ذات يوم بعد العصر ( فقمت وراءه فصليت ) فلما أنفتل قال : ما شأنك؟ قلت : رأيتك يا نبيّ الله صليت وصليت معك ، فقال : إنّ عاملاً لي على الصدقات قدم عليَّ فجمعت عليه ).

ثم روى الزركشي عن الصحيحين ، عن كريب : أنّ ابن عباس وابن أزهر والمسور أرسلوا إلى عائشة لأنّهم أخبروا أنّها تصليها والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم نهى عنها ، فقالت : سلوا أم سلمة ثم ذكر نحو ما سبق.

فهذا الحديث يدلّ على مخالفة عائشة لنهي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عن الإتيان بهما ، وأنّ ابن عباس كان هو وعمر يضربان الناس عنها. فالأحرى أن يعدّ الزركشي هذا الحديث ممّا إستدركه ابن عباس على عائشة لا العكس! لكن الزركشي شغوف بلملمة أخبار عائشة مع الصحابة وإن إستلزم ذلك توهيناً لها من حيث يدري ولا يدري.

٣٠٢

( الحديث الخامس ) :

ما رواه الزركشي عن ابن عباس فهو لا يستبطن كذبه متناً فقط ، بل تكفي آفة سنده ، فقد أعلّه المنذري بيزيد بن أبي زياد ، وقال غير واحد من الأئمة أنّه لا يحتج بحديثه ، ومهما يكن حال السند ، فإنّ ما رواه ابن عباس كما في المتن هو أولى بالقبول لحضوره مع أهل البيت مراسيم الدفن.

ولكن هلّم الخطب فيما روته عائشة فهو محلّ الشك في صدقه ، إذ لم تكن حاضرة حين التكفين! أليس هي التي كانت مع النساء اللواتي يلتدمن كما تقول هي فيما رواه أحمد في مسنده عنها ، قالت : ( مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين سحري ونحري ، وفي دولتي لم أظلم فيه أحداً ، فمن سفهي وحداثة سني أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبض وهو في حجري ، ثم وضعت رأسه على وسادة وقمت التدم مع النساء وأضرب وجهي )(1) ، وقد قالت أيضاً : ( ما علمنا بدفن رسول الله حتى سمعنا صوت المساحي من جوف الليل ( ليلة الأربعاء )(2) .

فمتى حضرت التكفين ورأت ثياب الكفن؟!

فكلّ ما ورد عنها في هذا الشأن مشكوك في صحته ، لأنّها تريد إستبعاد عليّ عليه السلام وأهل البيت عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

____________________

(1) مسند أحمد 6 / 274.

(2) الإستيعاب 1 / 47.

٣٠٣

وأنكى من ذلك إستبدالهم بآل أبي بكر! فهلمّ وأقرأ ما روته من خبر الحلّة التي أشتريت ليكفن فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأدرجوه فيها ثم نزعت عنه.

فلنقرأ الخبر برواية ابن قدامة المقدسي الحنبلي في كتابه ( المغني ) وهو غير متهم عليها ، فقال في الخبر : ( وهو أصح حديث روي في كفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وعائشة أقرب إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأعرف بأحواله ، ولهذا لما ذكر لها قول الناس أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كُفن في برد ، قالت : قد أتي بالبُرد ولكنهم لم يكفنوه فيه ، فحفظت ما أغفله غيرها. وقالت أيضاً : أدرج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في حلّة يمنية كانت لعبد الله بن أبي بكر ، ثم نزعت عنه ، فرفع عبد الله بن أبي بكر الحلّة وقال : أكفن فيها ، ثم قال : لم يكفن فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتصدق بها ). قال ابن قدامة : رواه مسلم(1) .

أقول : فهل تطلب أثراً بعد عين ، وتريد سخفاً بعد ميَن؟

فعائشة وعبد الله بن أبي بكر بطلا الحضور في الإحتضار والتكفين! وليذهب أهل البيت عليهم السلام جميعاً في غيابات الحقد الدفين ، كما تريد أم المؤمنين ، وليكتب الزركشي ما يزركش به أخبارها ولو على حساب الآخرين.

على أن ابن شهاب الزهري ـ وهو غير متهم على عائشة ـ قال : ولم يله إلاّ أقاربه(2) .

____________________

(1) المغني 2 / 329.

(2) أنظر دلائل النبوة للبيهقي 7 / 234 ، عن هامش ، التمهيد لابن عبد البر 9 / 358 ط الإحياء للتراث العربي.

٣٠٤

( الحديث السادس ) :

ما رواه الزركشي عن عكرمة عن ابن عباس في حديث ( رأى ربّه مرتين ) ، وإنكار عائشة عليه الرؤية ، والخبر الذي رواه في سنده من قال فيه ابن المبارك : أرم به ، لكن الزركشي لم يرم به ، بل أطال في جميع ما يتعلق بالموضوع وحكى قول ابن خزيمة : أنّ الخطاب وقع لعائشة على قدر عقلها.

وحكى قول أحمد : ما زلت منكراً لهذا الحديث وما أدري ما وجهه.

ثم الحديث في متنه : ( قال ابن عباس : ( رأى محمد ربّه ) ، وابن عباس لم يكن يقول بالرؤية البصرية كما هو واضح من لفظ الحديث الذي ذكره الزركشي نقلا ًعن الترمذي في التفسير ، وهو مخالف لقول الله تعالى :( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (1) .

وفي سنده من هو مخدوش ، ورواية مسلم له في الصحيح لا تضفي عليه شرعية أبداً ـ فكم في كتابي الصحيح من حديث غير صحيح ـ وسيأتي عن ابن عباس في جواب نجدة بن عامر ـ عويمر ـ الخارجي وقد سأله : ( كيف معرفتك بربّك؟ فأجابه أعرفه بما عرّف به نفسه تبارك وتعالى من غير رؤية ، وأصفه بما وصف به نفسه ، لا يدرك بالحواس ، ولا يقاس بالناس ) ، فهذا ينفي صحة نسبة القول بالرؤية البصرية إليه ، وسيأتي خبره مع نجدة فيما يأتي.

____________________

(1) الأنعام / 103.

٣٠٥

ومجرد رواية الترمذي عن عكرمة ذلك ، لا يضفي عليه الصحة.

ولم لا يكون الخبر من بعض أكاذيب عكرمة على مولاه ، وقد مرّت بعض الشواهد على ذلك ، كما سيأتي غيرها.

( الحديث السابع ) :

ما ذكره الزركشي في إحالة ابن عباس معرفة الوتر عليها ـ في حديث رواه مسلم في صحيحه ـ وأنّ سعد بن هشام سأل ابن عباس عن الوتر ، فقال : ( ألا أنبئك بأعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال : نعم ، قال عائشة )(1) .

أقول : إنّ هذا الحديث الذي ذكره لا يصح الإعتماد عليه! لإختلاف النقل عن عائشة ، فقيل : الإختلاف منها ، وقيل : هو من الرواة عنها ، كما ذكره الزركشي نفسه.

وكيف نصدّق نحن بالخبر ، وابن عباس الذي كان يبيت في بيت خالته ميمونة ليحفظ ما يأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من صلاة وأذكار ـ وقد مرّت في الحلقة الأولى في الجزء الأوّل عدّة شواهد على هذا ـ فكيف صار لا يعلم عن صلاة الوتر شيئاً حتى أحال على أعلم أهل الأرض؟ يا لها من دعوى عريضة مريضة!!

لكن زوامل الأسفار يكتبون ما راق لهم ، أو يملى عليهم من السلطات الحاكمة من رفعهم عائشة إلى مقام لم تكن فيه عالمة ولا حالمة.

____________________

(1) صحيح مسلم 2 / 269 ط صبيح.

٣٠٦

( الحديث الثامن ) :

ما ذكره الزركشي من حديث عائشة وقد ردت على ابن عباس قراءته قوله تعالى :( وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) بالتخفيف ، فذكر الزركشي ما أخرجه البخاري في صحيحه في التفيسر عن ابن أبي مليكة قال ابن عباس :( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) (1) الخ بالتخفيف إلى آخر الخبر ، بينما كانت عائشة تقرؤها( كُذّبُوا ) مثقلة.

أقول : ما مرّ من إختلاف القراءة فيه نظر! فإنّ القراءة بالتخفيف هي قراءة أهل البيت عليهم السلام عليّ وزين العابدين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وزيد بن علي وابن عباس ، وهي أيضاً قراءة ابن مسعود وسعيد بن جبير وعكرمة والضحاك والأعمش وغيرهم ، وهي قراءة أهل الكوفة(2) .

وقد أطنب الطبري في تفسيره ، فساق ثماني عشرة رواية عن ابن عباس مؤداها متفق عليه بين الرواة عن ابن عباس ، وأوّلها بسند الطبري ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن ابن عباس ، في قوله :( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) (3) ، قال : ( لمّا أُيست الرسل أن يستجيب لهم قومهم ، وظنّ قومهم أنّ الرسل قد كذبوهم جاءهم النصر على ذلك ، فننجي من نشاء )(4) .

____________________

(1) يوسف / 110.

(2) مجمع البيان 5 / 465 ط الأعلمي.

(3) يوسف / 110.

(4) تفسير الطبري 13 / 82 ـ 83.

٣٠٧

وما جاء في بعضها أنّ ابن عباس قال : إنّهم ـ أي الأنبياء ـ بشر ، أي أنّهم هم الذين ظنوا ، فهذا وهم في الفهم ، فابن عباس لم يقل ذلك.

وقد ورد في ( عيون أخبار الرضا عليه السلام ) للشيخ الصدوق ، بسنده : عن علي بن محمد بن الجهم : أنّ المأمون قال لأبي الحسن ـ الرضا عليه السلام ـ : فأخبرني عن قول الله تعالى :( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا ) (1) ؟ قال الرضا عليه السلام : يقول الله : حتى إذا استيأس الرسل من قومهم فظن قومهم أنّ الرسل قد كذبوا ، جاء الرسل نصرُنا.

وهذا هو عين ما رواه ثلاثة من تلاميذ ابن عباس ، كما في ( الدر المنثور ) للسيوطي في تفسير الآية ، قال : ( أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابراهيم ، عن أبي حمزة الجزري ، قال : صنعت طعاماً فدعوت ناساً من أصحابنا منهم : سعيد بن جبير ، والضحاك بن مزاحم ، فسأل فتى من قريش سعيد بن جبير ، فقال : يا أبا عبد الله كيف تقرأ هذا الحرف ، فإنّي إذا أتيت عليه تمنيت أنّي لا أقرأ هذه السورة( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا ) ؟ قال : نعم ، حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدّقوهم وظنّ المرسَل إليهم أنّ الرسل قد كُذبوا فقال الضحاك : لو رحلت في هذه إلى اليمن لكان قليلاً )(2) .

ومهما يكن فحسب القارئ من فقاهة السيدة عائشة أنّها لم تكن ترى

____________________

(1) يوسف / 110.

(2) الدر المنثور 4 / 41.

٣٠٨

نفسها أم المؤمنين رجالاً ونساءً! بينما كانت أم المؤمنين أم سلمة ترى أنّها أم المؤمنين رجالاً ونساءاً. أخرج ابن سعد في ( الطبقات ) بسنده : ( عن مسروق ، عن عائشة في قوله :( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ) (1) . قال : فقالت لها أمرأة : يا أمه ، فقالت عائشة : أنا أم رجالكم ولست أم نسائكم ، قال : فذكرت هذا الحديث لعبد الله بن موسى المخزومي ، فقال : أخبرني مصعب بن عبد الله بن أبي أمية عن أم سلمة ، أنّها قالت : أنا أم الرجال منكم والنساء )(2) .

أقول : وأحسب أنّ عائشة قالتها في ساعة غضب على النساء اللاتي كنّ يسألنها عن شرعية خروجها في حرب الجمل كأم جميع وأضرابها.

وإلى هنا فلنترك الأفغاني ونبعده قصياً ، بعد أن قرأناه نَسِيّاً وفَرِيّاً. ولنبصّر القارئ بأنّ الزركشي لم يكن دقيقاً في إختياره اسم كتابه ، إذ تبيّن أنّ ما ذكره تحت عنوان ( استدراكها على ابن عباس ) لم يكن خالياً من الإلباس ، وما ذكره لو يصح ولا يَصح ـ لا يعني أنّ بين عائشة وابن عباس من الوئام ما يصح معه زعم التواصل والتساؤل في الأحكام ، بل أنّ ابن عباس وعائشة عاشا بعد حرب الجمل متهاجرَيْن تقريباً ، وبقيا على حالهما كذلك حتى ماتت عائشة ، ولعلّه اشتدت المهاجرة والمخاصمة في عهد معاوية حين تناصرت هي وإياه على عداوة أهل البيت عليهم السلام. وكان ابن

____________________

(1) الأحزاب / 6.

(2) الطبقات الكبرى 8 / 128.

٣٠٩

عباس رجل الساعة والساحة المناصر لأهل البيت عليهم السلام ، كما يظهر بوضوح من مواقفه مع الأمويين وشيعتهم ، كما كانت عائشة تدعمهم فيما ترويه لهم من أحاديث ، والشواهد على ذلك متوفرة.

فقد أخرج الحافظ الكنجي الشافعي في ( كفاية الطالب ) وعنه الأربلي في ( كشف الغمة ) قال : ( روى الكنجي بسنده المنتهى إلى أبي صالح قال : ذكر عليّ بن أبي طالب عليه السلام عند عائشة وابن عباس حاضر ، فقالت عائشة : كان من أكرم رجالنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فقال ابن عباس : وأيّ شيء يمنعه عن ذاك؟ اصطفاه الله لنصرة رسوله ، وارتضاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأخوّته ، واختاره لكريمته ، وجعله أبا ذريته ووصيّه من بعده ، فإن ابتغيتِ شرفاً فهو في أكرم منبت وأورق عود ، وإن أردتِ إسلاماً فأوفر بحظه وأجزل بنصيبه ، وإن أردتِ شجاعته فبَهمة حرب وقاضية حتم ، يصافح السيوف أنساً ، لا يجد لوقعها حسّاً ، ولا ينهنه نعنعة ، ولا تفله الجموع ، الله ينجده ، وجبرئيل يرفده ، ودعوة الرسول تعضده ، أحدّ الناس لساناً ، وأظهرهم بياناً ، وأصدعهم بالصواب في أسرع جواب ، عظته أقلّ من عمله ، وعمله يعجز عنه أهل دهره ، فعليه رضوان الله ، وعلى مبغضيه لعائن الله )(1) .

وإنّما قال ابن عباس رضي الله عنه هذا لأنّه كان يعلم من عائشة موقفها المتشنج إزاء أهل البيت عليهم السلام خصوصاً الإمام أمير المؤمنين عليه السلام وحتى

____________________

(1) كشف الغمة 1 / 363 ، كما في البحار 40 / 51 ط الجديدة.

٣١٠

الحسن والحسين عليهما السلام ، فلم تكن تأذن لهما بالدخول عليها ، وإذا أذنت احتجبت منهما ، وكان ابن عباس يشجب موقفها هذا ، فقد أخرج ابن سعد في ( الطبقات الكبير ) بسنده عن عكرمة قال : ( سمعت ابن عباس يقول ـ وبلغه أنّ عائشة احتجبت من الحسن بن علي ـ فقال : إنّ رؤيته لها لحلّ )(1) .

وقد مرّت بنا في الجزء الخامس من الحلقة الأولى محاورة ابن عباس مع عائشة عند موت الحسن عليه السلام فليرجع القارئ إليها. فهي محاورة تكشف عن مبلغ التشنج عند الطرفين المتباعدين المتباغضين.

وقد إستدام حقد عائشة حتى عند موتها ، فقد أخرج أحمد بن حنبل في مسنده بسنده عن ذكوان مولى عائشة : ( أنّه استأذن لابن عباس على عائشة وهي تموت وعندها ابن أخيها عبد الله بن عبد الرحمن ، فقال : هذا ابن عباس يستأذن عليك وهو من خير بنيك.

فقالت : دعني من ابن عباس ومن تزكيته.

فقال لها عبد الله بن عبد الرحمن : إنّه قارئ لكتاب الله فقيه في دين الله ، فأئذني له فليسلّم عليك وليودّعك.

قالت : فأئذن له إن شئت.

قال : فإذن له ، فدخل ابن عباس ثم سلّم وجلس ، وقال : أبشري أم المؤمنين

____________________

(1) الطبقات الكبرى8 / 128ط ليدن.

٣١١

فقالت : دعني يا بن عباس من هذا ، فو الله لوددت أنّي كنت نسياً منسيّاً(1) (2) . فقد جزعت حين احتضرت. فقيل لها ، فقالت : أعترض في حلقي يوم الجمل )(3) .

وإلى هنا ننهي الحديث عن ابن عباس مع عائشة ، ونستقبل بقية محاوراته مع معاوية وأشياعه.

____________________

(1) مسند أحمد 1 / 349 ط الأولى و 5 / 90 برقم ( 3262 ) ط شاكر.

(2) قال شاكر : في هامش الحديث برقم ( 2496 ) إسناده صحيح وهو مطول 1905 ، ورواه البخاري 8 / 371 ـ 372 مختصرا.

(3) ربيع الأبرار للزمخشري 3 / 345.

٣١٢

محاورات ابن عباس مع معاوية

قميصّ عثمان أضحى مضربَ المثل

لكلّ ثائرة من أخبث الحيل

في كلّ واقعة كذباً مخادعةً

صار الشعار لعيّابين في الدوَل

لو ينشر اليوم عثمانٌ لطالبهم

مع القصاص له بالغُنم من نفَل

فليته لو وعى نصحاً لجنّبه

تلك المآسي ولكن شاب عن عَذَل

فكان ما كان من أمرٍ تخيّره

شيخٌ ضعيفٌ هوى في حمأة الزَلَل

فأورث الناس آلاماً بمقتله

زلّت به النعل فالتاثته بالوَحَل

فأوّل القوم من نادوا بمقتله

ثاروا له اليوم يا للقلب الحَوِل

هم ناقموا الأمس قد جاؤا بأمّهمُ

وسيرّوا عسكراً في وقعة الجَمَل

وعاهل الشام أدلى في قليبهم

فقد رأى فرصة وافت لمهتبل

فحرب صفين قد أورى شرارتها

في النهروان فأورت كُلِّ ذي شُعلِ

حتى الطفوف وقتل السبط من ذَحل

حرق الخيام بتلك النار لم يَزل

ما ثأر عثمان أحماهم وأغضبهم

لولا الخلافة عادت للإمام عليّ

تلكم قريشُ لتأبى أن ترى رجلا

بالأمس قاتلهم واليوم فيه يلي

٣١٣

فأعصبوا قتل عثمان بحيدرة

أبناءُ من سجدوا دهراً إلى هُبل

هذا عليّ وهذي بعضُ محنته

أن يعصبوه دماً من خاتم الرّسُل

قال الزمخشري : قميص عثمان الذي قتل فيه ، مَثَلٌ فيما يهيّج الحزن ويجدّد الحسرة والبكاء ، وعن عمرو بن العاص : أنّه لمّا أحسّ من العسكر فتوراً أشار على معاوية بأن يبرز لهم قميص عثمان ، فلمّا وقعت عيونهم عليه ، ارتفعت صيحتهم بالبكاء والنحيب ، وجدّوا في الحرب فعندها قال حرّك لها حوارها تحنّ(1) .

مَن هم قتلة عثمان؟ هل هم بنو هاشم؟ أم هم بنو أمية؟

هذا سؤال قد يثير استغراباً لدى القارئ إذ لم يرد في التاريخ أنّ واحداً من هؤلاء قد شارك في قتل عثمان ، مباشرة ، فلماذا إذن السؤال؟

والجواب يُعرف من الأبيات المتقدمة ، وعلى هذا الوتر كانت أصابع معاوية تضرب وأبواقه تعزف بأنّ عليّاً قتل عثمان! وإذا حوقق قال : آوى قتلته!

ولم يكن ابن عباس بعيداً عن مرمى معاوية في حجارته لعداوته ، وسنقرأ في كثير من محارواته ما يدلّ على ذلك. وإذا بحثنا عن جذور تلك العداوات نجدها متأصلة في فرعي عبد مناف بني هاشم وبني أمية منذ عهد بعيد ، فلنقرأ بعض ما جاء في ذلك :

____________________

(1) ربيع الأبرار 4 / 32 ط أوقاف بغداد.

٣١٤

إنّ من راجع كتاب ( السفيانية ) للجاحظ ، و ( النزاع والتخاصم ) للمقريزي وأضرابهما ، يجد جذور العداوة بين بني أمية وبين بني هاشم وهم من قريش ، ضاربة في أصولها متنامية في فروعها ، ولم يخف ذلك على الباحثين من قدامى ومحدثين.

فإلى ما قاله واحد منهم وهو محمّد بن سليمان حاجب الحجاب ، وهذا الرجل لم يكن يتعصب لمذهب بعينه كما قال ابن أبي الحديد وقد رآه(1) ، فلنقرأ ما يقول وقد سأله جعفر بن مكي الحاجب عما عنده في أمر عليّ وعثمان ، فقال : ( هذه عداوة قديمة النسب بين عبد شمس وبين بني هاشم ، وقد كان حرب بن اُمية نافر عبد المطلب بن هاشم ، وكان أبو سفيان يحسد محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم وحاربه ، ولم تزل الثنتان متباغضتين وإن جمعتهما المنافية ، ثمّ إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زوّج عليّاً بابنته ، وزوّج عثمان بابنته الاُخرى ، وكان إختصاص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة أكثر من إختصاصه للبنت الأخرى ، وللثانية التي تزوجها عثمان بعد وفاة الأولى. وإختصاصه أيضاً لعليّ وزيادة قربه منه وامتزاجه به وإستخلاصه إياه لنفسه ، أكثر وأعظم من إختصاصه لعثمان ، فَنَفَس عثمان ذلك عليه فتباعد ما بين قلبيهما ).

إلى أن قال : ( ثمّ أتفق أنّ عليّاً عليه السلام قتل جماعة كثيرة من بني عبد

____________________

(1) وصفه ابن أبي الحديد بأنه حاجب الحجاب وقال : وكان ظريفاً أديباً وقد أشتغل بالرياضيات من الفلسفة ولم يكن يتعصب لمذهب بعينه.

٣١٥

شمس في حروب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فتأكد الشنآن ، وإذا أستوحش الإنسان من صاحبه أستوحش صاحبه منه.

ثمّ مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فصبا إلى عليّ جماعة يسيرة لم يكن عثمان منهم ، ولا حضر في دار فاطمة مع مَن حضر من المتخلّفين عن البيعة ، وكانت في نفس عليّ عليه السلام أمور من الخلافة لم يمكنه إظهارها في أيام أبي بكر وعمر لقوّة عمر وشدّته ، وانبساط يده ولسانه.

فلمّا قتل عمر وجعل الأمر شورى بين الستة ، وعدل بها عبد الرحمن عن عليّ إلى عثمان ، لم يملك عليّ نفسه فأظهر ما كان كامناً ، وأبدى ما كان مستوراً ، ولم يزل الأمر يتزايد بينهما حتى شرف وتفاقم.

ومع ذلك فلم يكن عليّ عليه السلام لينكر من أمره إلاّ منكراً ، ولا ينهاه إلاّ عما تقتضي الشريعة نهيه عنه.

وكان عثمان مستضعفاً في نفسه ، رخواً ، قليل الحزم ، واهي العقدة ، وسلّم عنانه إلى مروان يصرّفه كيف شاء ، فالخلافة له في المعنى ولعثمان في الإسم ، فلمّا انتقض على عثمان أمره استصرخ عليّاً ولاذ به ، وألقى زمام أمره إليه ، فدافع عنه حيث لا ينفع الدفاع ، وذبّ عنه حين لا يغني الذبّ ، فقد كان الأمر فسد فساداً لا يرجى صلاحه )(1) .

ومع هذه العداوة المتأصلة في جذورها كيف يبرئ معاوية وبنو أُمية الإمام عليه السلام وبني هاشم ، مع أنّهم وأعوانهم كانوا يشهدون ببراءته وبراءتهم ،

____________________

(1) أنظر شرح النهج لابن أبي الحديد 2 / 401 ط مصر الأولى.

٣١٦

ولكنها الأحقاد الأموية.

فاقرأ ما قاله عبد الله بن عمر لمن سأله : هل شرك عليّ في دم عثمان؟

فقال : ( لا والله ما علمت ذلك في سر ولا علانية ، ولكنّه كان رأساً يفزع إليه فألحق به ما لم يكن )(1) .

واقرأ لابن عمر كلمته الأُخرى في حقّ ابن عباس وبراءته من دم عثمان.

قال : ( ما زال ابن عباس ينهى عن قتل عثمان ويعظّم شأنه حتى جعلت ألوم نفسي على أن لا أكون قلت مثل ما قال )(2) .

وليس عروة بن الزبير بدون ابن عمر في نصبه ، ومع ذلك فقد كان يقول : ( كان عليّ أتقى لله من أن يعين في قتل عثمان ، وكان عثمان أتقى لله من أن يعين في قتله عليّ )(3) .

وقال ابن سيرين : ( لقد قتل عثمان يوم قتل وما أحد يتهم عليّاً في قتله )(4) .

ولكن معاوية قال لابن عباس في كتاب كتبه إليه بعد صلح الإمام الحسن عليه السلام ، جاء فيه : ( لعمري لو قتلتك بعثمان رجوت أن يكون ذلك لله رضا ، وأن يكون رأياً صواباً ، فإنّك من الساعين عليه ، والخاذلين له ، والسافكين دمه ، وما جرى بيني وبينك صلح فيمنعك منّي ولا بيدك أمان ).

____________________

(1) أنساب الأشراف 1 ق 4 / 593.

(2) نفس المصدر 4 / 595.

(3) ربيع الأبرار للزمخشري 3 / 355 ط اوقاف بغداد.

(4) أنساب الأشراف 1 ق 4 / 594.

٣١٧

فأجابه بجواب طويل جاء فيه : ( وأمّا قولك أنّي من الساعين على عثمان والخاذلين والسافكين له وما جرى بيني وبينك صلح فيمنعك منّي ، فأقسم بالله لأنت المتربّص بقتله والمحبّ لهلاكه ، والحابس الناس قبلك عنه على بصيرة من أمره ، ولقد أتاك كتابه وصريخه يستغيث بك ويستصرخ ، فما حفلت به حتى بعثت إليه معذراً بأمر أنت تعلم أنّهم لن يتركوه حتى يقتل ، فقتل كما كنت أردت ، ثمّ علمت عند ذلك أنّ الناس لن يعدلوا بيننا وبينك فطفقت تنعى عثمان وتلزمنا دمه ، وتقول قتل مظلوماً ، فإن يك قتل مظلوماً فأنت أظلم الظالمين ، ثمّ لم تزل مصوّباً ومصعّداً وجاثماً ورابضاً تستغوي الجهّال ، وتنازعنا حقنا بالسفهاء حتى أدركت ما طلبت ،( وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) (1) (2) .

نعم ، إنّ بني هاشم كانوا من الكارهين لولاية عثمان هذا أوّلاً ، لأنّهم يرون أنّ الحقّ لهم ، وكانوا أيضاً من الساخطين على سيرته ثانياً حين أسخط المسلمين عمالُه ، ولم يكونوا وحدهم قد سخطوا سيرته ، بل جميع الصحابة في المدينة وخارجها كانوا كذلك.

فقد روى شعبة بن الحجاج عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، قال : ( قلت له : كيف لم يمنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن عثمان؟ فقال : إنّما قتله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم )(3) .

____________________

(1) الأنبياء / 111.

(2) شرح النهج لابن أبي الحديد 4 / 58.

(3) نفس المصدر 1 / 231.

٣١٨

وروى عن أبي سعيد الخدري أنّه سئل عن مقتل عثمان هل شهده أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال : ( نعم شهده ثمانمائة )(1) .

فهذان القولان وإن لم يعيّنا بالاسم مَن هم أولئك الصحابة الذين قتلوا عثمان ، ومن هم الذين شهدوا مقتل عثمان ولم يمنعوا عنه ، لكن من تولى كبر قتله ، لم يكن عليّ ولا ابن عباس ولا بقية بني هاشم مع أولئك الصحابة القاتلين لعثمان ، وإذ لم يكونوا معهم ، فما بال بني أمية عصبوا قتله بهم؟ إنّهم لم يكونوا مع القاتلين ولا مع المحرّضين عليه ، بل كانوا من المدافعين عنه ، وقد ردّوا عنه كثيراً حتى أعجزهم هو حين لم يأخذ بنصائحهم ، وكان يتّهمهم لما في نفسه من جذور العداوة المتأصلة بين بيتي عبد مناف ـ بني هاشم وبني أمية ـ.

والآن إلى ما رواه البلاذري ، والطبري ، وابن الأثير ، وابن كثير ، والنويري ، نقلاً عن الواقدي من نصائح الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لعثمان ، ننقلها بلفظ الطبري :

قال ـ بعد ذكر نقمة الناس وتداعي الأمصار بالنكير على سيرة عثمان ـ : ( فاجتمع الناس وكلّموا عليّ بن أبي طالب ، فدخل على عثمان ، فقال : الناس ورائي وقد كلّموني فيك ، والله ما أدري ما أقول لك ، وما أعرف شيئاً تجهله ، ولا أدلّك على أمر لا تعرفه ، إنّك لتعلم ما علمنا ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه ، ولا خلونا بشيء فنبلّغكه ، وما خصصنا بأمر دونك ، وقد رأيتَ

____________________

(1) نفس المصدر.

٣١٩

وسمعتَ وصحبتَ رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم ونلتَ صهره.

وما ابن أبي قحافة بأولى بعمل الحقّ منك ، ولا ابن الخطاب بأولى بشيء من الخير منك ، وإنّك أقرب إلى رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم رَحِماً ، ولقد نلتَ من صهر رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم ما لم ينالا. ولا سبقاك إلى شيء ، فالله الله في نفسك ، فإنّك والله ما تُبصّر من عَمى ، ولا تعلّم من جهل ، وإنّ الطريق لواضح بيّن ، وإنّ أعلام الدين لقائمة ، تعلم يا عثمان أنّ أفضل عباد الله عند الله إمام عادل ، هُدي وهَدىَ ، فأقام سنة معلومة ، وأمات بدعة متروكة ، فوالله إن كلاً لبيّن وإنّ السنن لقائمة لها أعلام ، وإنّ البدع لقائمة لها أعلام ، وإنّ شرّ الناس عند الله إمام جائر ضلَّ وضُلّ به ، فأمات سنّة معلومة ، وأحيا بدعة متروكة. وإنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه ( وآله ) وسلّم يقول : ( يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر ، فيلقى في جهنم ، فيدور في جهنم كما تدور الرحا ، ثمّ يرتطم في غمرة جهنم ).

وإنّي أحذّرك الله ، وأحذّرك سطوته ونقماته ، فإنّ عذابه شديد أليم. وأحذّرك أن تكون إمام هذه الأمة المقتول ، فإنّه يقال : يقتل في هذه الأمة إمام ، فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة ، وتُلّبس أمورُها عليها ، ويتركهم شيعاً ، فلا يبصرون الحقّ لعلوّ الباطل ، يموجون فيها موجاً ، ويمرجون فيها مرجاً. فلا تكونن لمروان سيّقة يسوقك حيث شاء بعد جلال السنّ وتقضّي العمر.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394