مقتل العباس (عليه السلام)

مقتل العباس (عليه السلام)15%

مقتل العباس (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 394

  • البداية
  • السابق
  • 394 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 77248 / تحميل: 11579
الحجم الحجم الحجم
مقتل العباس (عليه السلام)

مقتل العباس (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

وليس لقبور إخوته وأهله الذين سمّيناهم أثرٌ، وإنّما يزورهم الزائر من عند قبر الحسينعليه‌السلام ، ويومئ إلى الأرض التي نحو رجليهِ بالسّلام، وعلي بن الحسين في جملتهم، ويُقال: إنّه أقربهم دفناً إلى الحسينعليه‌السلام . فأمّا أصحاب الحسينعليه‌السلام الذين قُتلوا معه، فإنّهم دُفنوا حوله، ولسنا نحصل لهم أجداثاً على التحقيق، إلاّ أنّا لا نشكّ أنّ الحائر محيطٌ بهم(١) .

وعلى هذا مشى العلماء المـُحقّقون والمـُنقّبون في الآثار من كون مشهده بحذاء الحائر الشريف، قريباً من شطّ الفرات، نصّ عليه الطبرسي في إعلام الورى ص١٤٧، والسيّد الجزائري في الأنوار النّعمانيّة ص٣٤٤، والشيخ الطُّريحي في المنتخب، والسيّد الداودي في عمدة الطالب ص٣٤٩، وحكاه في رياض الأحزان ص٣٩ عن كامل السّقيفة(٢) .

وهو الظاهر من ابن إدريس في السّرائر، والعلاّمة في المنتهى، والشهيد الأوّل في مزار الدروس، والأردبيلي في شرح الإرشاد، والسّبزواري في الذخيرة، والشيخ آقا رضا في مصباح الفقيه؛ فإنّهم نقلوا كلام المفيد ساكتين عليه(٣) .

____________________

(١) الإرشاد للشيخ المفيد ٢ / ١٢٦.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٣ / ٢٥٦.

(٣) السّرائر ١ / ٣٤٢، منتهى المطلب ١ / ٣٩٥، ذخيرة العباد / ٤١٣، غنائم الأيّام ٢ / ١٣٢، جواهر الكلام ١٤ / ٣٤٠، مصباح الفقيه ٢ / ٧٦١، كتاب الصلاة للشيخ الحائري / ٦٥٥، مُستمسك العروة الوثقى للحكيم ٨ / ١٨٨.

وفي مزار الدروس ٢ / ٢٥:... ثُمّ يزور الشُّهداء، ثمّ يأتي العبّاس بن عليٍّعليه‌السلام فيزوره...

٢٦١

ملاحظة:

تقدّم في نقل البحار أنّ الحُرَّ الرياحي حُمل من الميدان ووُضع أمام الحسينعليه‌السلام ، وعليه يكون مدفوناً في الحائر الأطهر.

ولكن في الكبريت الأحمر ج٣ ص١٢٤ جاءت الرواية عن مدينة العلم للسيّد الجزائري: إنّ السجّادعليه‌السلام دفنه في موضعه، مُنحازاً عن الشُّهداء. وفي ص٧٥ ذكر أنّ جماعة من عشيرته نقلوه عن مصرع الشُّهداء؛ لئلاّ يُوطأ بالخيل إلى حيث مشهده، ويُقال: إنّ اُمّه كانت معه، فأبعدته عن مجتمع الشُّهداء.

وإذا صحّ حمل العشيرة إيّاه إلى حيث مشهده، فلا يتمّ ما في مدينة العلم من دفن السجّادعليه‌السلام له؛ فإنّه من البعيد جداً أنْ تحمله العشيرة ثُمّ تترك عميدها في البيداء عرضة للوحوش، بل لم يعهد ذلك في أي اُمّةٍ وملّة.

وعلى كُلٍّ، فهذا المشهد المعروف له ممّا لا ريب في صحته؛ للسيرة المستمرة بين الشيعة على زيارته في هذا المكان، وفيهم العلماء والمـُتديّنون.

ويظهر من الشهيد الأوّل المصادقة عليه؛ فإنّه قال في مزار الدروس: وإذا زار الحسينعليه‌السلام فليزر عليَّ بن الحسين، وهو الأكبر على الأصح، وليزر الشُّهداء وأخاه العبّاسَ والحُرَّ بنَ يزيد(١) .

____________________

(١) الدروس للشهيد الأوّل ٢ / ١١ والعبارة بالمعنى، الينابيع الفقهيّة ٣٠ / ٤٩٣.

٢٦٢

ووافقه العلاّمة النّوري في اللؤلؤ والمرجان ص١١٥، واعتماد السّلطنة محمّد حسن المراغي - من رجال العهد النّاصري - في حجّة السّعادة على حجّة الشهادة ص٥٦ طبع تبريز.

وقال المجلسي في مزار البحار عند قولهعليه‌السلام في زيارة الشُّهداء العامّة: فإنّ هناك حومة الشُّهداء. المراد منه معظمهم أو أكثرهم، لخروج العبّاس والحُرِّ عنهم(١) .

ويشهد له ما في الأنوار النّعمانية ص٣٤٥: إنّ الشاه إسماعيل لمـّا ملكَ بغداد، وزار قبر الحسينعليه‌السلام ، وبلغه طعن بعض العلماء على الحُرِّ، أمرَ بنبشه لكشف الحقيقة، ولمـّا نبشوه رآه بهيئته لمـّا قُتل، ورأى على رأسه عصابة قيل له: إنّها للحسينعليه‌السلام ، فلمـّا حلّها نبع الدَّمُ كالميزاب، وكُلّما عالج قطعة بغيرها لم يتمكّن، فأعادها إلى محلّها، وتبيّنت الحقيقة، فبنى عليه قبَّةً وعيّن له خادماً، وأجرى لها وقفاً.

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٥ / ٦٥، و٩٨ / ٣٦٩، المزار للمشهدي / ٤٨٦، إقبال الأعمال ٣ / ٧٣.

٢٦٣

الحائر:

جاء في حديث الصادقعليه‌السلام لفظ الحَيْر، فإنّه قال:« وهو على شطِّ الفُراتِ بحذاء الحَيْر » .

والحَيْر، بالفتح فالسّكون كالحائر: هو المكان المـُنخفض الذي يسيل إليه ماء الأمطار ويجتمع فيه. وفي تاج العروس بمادة حور: الحائر: اسمُ موضع فيه مشهد الإمام المظلوم الشهيد أبي عبد اللّه الحسين(١) .

ولم تحدث التسمية بالحائر من استدارة الماء حول القبر المـُقدّس حين اُجري عليه بأمر المـُتوكِّل العبّاسي؛ لأنّ لفظ الحائر والحَيْر وقع في لسان الصادق والكاظمعليهما‌السلام قبل استخلاف المـُتوكِّل.

نعم، إنّ اللّه سبحانه أكرم حُجّته ووليَّه المذبوح دون دينه القويم، ممنوعاً من ورود الماء الذي جُعل شرعاً سواء لعامّة المخلوقات، باستدارة الماء حول قبره يوم اُجري عليه؛ لإعفاء أثره ومحو رسمه ( ولن يزداد أثره إلاّ علوّاً )(٢) .

____________________

(١) لسان العرب ٤ / ٢٢٣، تاج العروس ٦ / ٣٢١، مجمع البحرين ١ / ٦٠٥.

(٢) أقول: ( وأنا العبد الفقير إلى اللّه تعالى مُحقّق هذا الكتاب محمّد الحسّون ) من بعد غيبة طويلة وفراق مرير انجلت سُحب الآهات عن قلبي، وارتوى ضماي بمعين النّظر إلى قبرٍ ضمَّ خيرَ ناصرٍ لأبي الأحرار الحسينعليه‌السلام ، وشُفي غليلي بالنّزول بقعوةِ مُغيَّبهِ، فاستشممتُ عطرَ الملائكة الحافّين بتربته؛ حيث وفَّقني الباري تعالى أنْ أزور قبر قمر بني هاشم أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، الواقع في السّرداب المـُقدّس الكائن تحت القبَّة الشريفة، فتغشّتني رحمةُ ربِّي تعالى بمُشاهدة الماء الذي يأتي في سَاقيةٍ من جهة قبر سيّد الشُّهداء أبي عبد اللّه الحسينعليه‌السلام - الذي لم يذقْ من بردِهِ شربةً، وقد مضى بقلبٍ حزّته أشفارُ الظما كما حزّ خنجرُ الضبابي منحَره الشريف - ثمّ يدور حول قبر السّقّاء الذي آثر ألم الظما على الرواء، وارتوى بروح الوفاء لأخيه وابن بنت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث الكلمة الخالدة:

يا نفسُ مِنْ بعدِ الحُسينِ هُوني

وبعدَهُ لا كُنتِ أنْ تكوني

هذا حُسينٌ واردُ المنونِ

وتَشْرَبينَ باردَ المعينِ

واللهِ ما هذا فعالُ دينِي

ولا فعالُ صادقِ اليقينِ

ومن بعد قرون متطاولةٍ يستمر دوران الماء دورةً كاملة حول قبر الشهيد الظامي، والأخ المواسي لأخيه، ثمّ يخرج من خلال ساقية إلى خارج كربلاء المـُقدّسة.

٢٦٤

ولقد شعّت هذه الآية الباهرة، فاستضاءت منها الحقب والأعوام، واهتزّت لها الأندية والمحافل ارتياحاً، وتناقلها العلماء المـُنقّبون في جوامعهم، منهم الشهيد الأوّل في الذكرى، والأردبيلي في شرح الإرشاد، والسّبزواري في الذخيرة، والشيخ الطُّريحي في المنتخب، والشيخ المـُحقّق في الجواهر.

وكم لآل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله من براهين كاثرت النّجوم بكثرتها، وقد اجتهد أهل العناد في إغفالها أو افتعال نظائرها لأئمّتهم؛ حقداً وحسداً: ( وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ ) (١) .

مَنْ يُباريهمُ وفي الشَّمسِ معنىً

مُجهدٌ مُتعبٌ لِمَنْ باراهَا

ورثُوا من مُحمّدٍ سبقَ اُولا

هَا وحازُوا ما لَمْ تَحزْ اُخراهَا

قادةٌ علمُهُمْ ورأيُ حِجاهُمْ

مُسْمِعاً كُلَّ حكمةٍ منْظراهَا

علماءٌ أئمَّةٌ حُكماءٌ

يهتدي النّجمُ باتِّباعِ هُداهَا

____________________

(١) سورة التوبة / ٣٢.

٢٦٥

يتحدّث اليافعي في مرآة الجنان ج٤ ص٢٧٣ عن كرامةٍ لأحمد بن حنبل، فيقول: زادت دجلة زيادة مفرطة حتّى خربت مقبرة أحمد بن حنبل، سوى البيت الذي فيه ضريحه؛ فإنّ الماء دخل في الدهليز علوّ ذراع ووقف بإذن اللّه، وبقيت البواري عليها الغبار حول القبر، صحّ الخبر.

هكذا يرتاح لهذه الكرامة ويُصحّح الخبر، ولكنّه يتوقّف عن إثبات تلك الكرامة لسيّد شباب أهل الجنّة، وفلذة كبد الإسلام، وريحانة النّبيِّ الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله . وما أدري بماذا يعتذر يوم جرفت دجلة قبر ابن حنبل ومحت أثره حتّى لم يُعرف له ضريح إلى اليوم(١) ؟!

وقد أجاد العلاّمة الشيخ محمّد السّماوي، إذ يقول:

ألا مِنْ عَذيرِي يا بَني العلْمِ والحِجَى

مِنَ اليافعيِّ الحنْبليِّ المـُجلّلِ

يُكذِّبُني إنْ قُلتُ قبرُ ابنِ فاطمٍ

عليهِ اسْتَدَارَ الماءُ للمُتوكِّلِ

ويَزْعُمُ حارَ الماْ ولَمْ تجلُ غبرةٌ

على حُصرٍ كانتْ بقبرِ ابنِ حَنبلِ

وإنّ لأمثال ذلك في كتبهم اُنشىء الكثير، أرادوا به المقابلة لما صدر من آل النّبيِّ المعصومينعليهم‌السلام ، والإشارة إلى بعض ما أوقفنا البحث عليه وإنْ يُخرجنا عن وضع الرسالة، إلاّ أنّ الغرض تعريف القارئ بأنّ العداء كيف يأخذ بالشخص إلى إنكار البديهي، والتَّعامي عن النّيِّرات!

____________________

(١) بغداد في عهد العباسيِّين / ١٤٦.

٢٦٦

ذكر اليافعي في مرآة الجنان ج٣ ص١١٣: إنّ أبا إسحاق الشيرازي المتوفّى سنة ٤٧٦ هجرية لمـّا ورد بلاد العجم، خرج أهلها إليه بنسائهم وأطفالهم للتبرّك به، فكانوا يمسحون أردانهم به، ويأخذون من تراب نعله فيستشفون به.

وإذا صحّ مثل هذا، فلماذا كان الاستشفاء بتربة الحسينعليه‌السلام ، وهو سيّد شباب أهل الجنّة، بدعة وضلالة؟!

ثُمّ في ج٣ ص١٣٣ منه، يعدّ من فضائل أحمد وكراماته، وما حباه اللّه عن خدمته في الدِّين: إنّ إبراهيم الحربي رأى في المنام بشر الحافي خارجاً من مسجد الرصافة وفي كمّه شيءٌ، فسأله عنه، فقال: لمـّا قدم علينا روحُ أحمد بن حنبل نثر عليه الدر والياقوت، فهذا ممّا التقطته!

أصحيح أنْ تُعدّ هذه الرؤيا من الكرامات، ويُعدّ من الباطل حديث الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله في حقّ سيّد الوصيّينعليه‌السلام ، ومَن هو منه بمنزلة هارون من موسى، ولولاه لما قام للدّين عمود، ولما أخضرّ له عود؛ وذلك لمـّا تزوّج أمير المؤمنين من سيّدة نساء العالمينعليهما‌السلام ، بأنّ اللّه تعالى أمر شجرة طوبى أنْ تحمل صكاكاً فيها براءة لمُحبّي علي وفاطمةعليهما‌السلام من النّار، وأنشأ تحتها ملائكة التقطوا ما نثرته عليهم، يحفظونه إلى يوم القيامة؛ كرامة لعلي وفاطمةعليهما‌السلام ؟!

ثُمّ يرمي راوي هذه الكرامة بالجهالة والرفض، ويعدّ الحديث من الموضوعات(١) ، مع شهرة الحديث بين المـُحدّثين والمـُنقّبين في الآثار.

____________________

(١) اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة للسيوطي ١ / ٣٦٤.

٢٦٧

وجاء السّبكي فعدَّ في طبقات الشافعيّة ج١ ص٢١٥ من فضائل أحمد بن نصر الخزاعي، الذي قتله الواثق على مسألة خلق القرآن: تكلّم رأسه بالقرآن لمـّا قُطع، وبقي يقرأه إلى أنْ اُلحق بالجسد ودُفن.

وإذ سمعوا بأنّ رأس الحسينعليه‌السلام الذي قُتل في سبيل الدعوة الإلهيّة وإحياء الدِّين، يتكلّم بالقرآن؛ لإتمام الحجّة، وتعريفاً للاُمّة طغيان اُولئك الاُمراء، ولئلاّ تذهب تلك التضحية المـُقدّسة أدراج التمويهات، طعنوا في الحديث، ونسبوا راويه إلى الرفض والجهالة، مع أنّ الحسينعليه‌السلام لم يخرج عن كونه ابن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد شهد الصادق الأمين له ولأخيه المجتبى ( صلوات الله عليهم) بأنّهما إماما هذه الاُمّة إنْ قاما وإنْ قعدا، وأنّهما سيّدا شباب أهل الجنّة، ولم يخرج أشراً ولا بطراً، ولا ظالماً للعباد، ولا غاصباً للحقوق.

ولم يقتنع بذلك حتّى ادّعى كرامة لإسماعيل الحضرمي، وأنّها من المستفيض، قال في ج٥ ص٥١ من طبقات الشافعيّة: إنّ إسماعيل بن محمّد بن إسماعيل الحضرمي كان في سفر ومعه خادمه، فأشرفت الشمس على الغروب، فقال لخادمه: قُلْ للشمس تقف حتّى نَصل المنزل ونُصلّي! فقال الخادم: إنّ الفقيه إسماعيل يقول لكِ: قفي. فوقفت حتّى بلغ المنزل وصلّى، ثُمّ قال للخادم: أما تطلق ذلك المحبوس؟! فأمرها الخادم بالغروب، فغابت وأظلم الليل في الحال!!

هكذا يقول الخبر من المستفيض في رجل قصارى ما يتخيّل فيه أنّه أحد الأولياء، وينكر حديث ردّ الشمس لأمير المؤمنينعليه‌السلام ، وكان من أعلام النّبوَّة!

٢٦٨

ويرتاح الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ج٤ ص٤٢٣ إلى حديث الوركاني بوقوع المآتم والنّوح في أربعة أصناف من النّاس: المسلمين، واليهود، والنّصارى، والمجوس، يوم وفاة أحمد بن حنبل(١) ، ولا يكون هذا من البدعة والشناعة والخروج عن أخلاق المؤمنين! كما تحاملوا بذلك على الشيعة في إقامتهم المآتم والنّياحة على سليل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وريحانته حتّى قال الغزالي في مكاشفة القلوب ص١٨٧: إيّاك أنْ تشتغل ببدع الرافضة من النّدب والنّياحة والحزن؛ فإنّ ذلك ليس من أخلاق المؤمنين!! وضرب على وتره غير واحد من المؤرّخين.

وما ذنب الشيعة والمـُشرّع الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله بكى على ولده الحسينعليه‌السلام وهو حيٌّ يُرزق لمُجرّد تذكّر ما يجري عليه، فيخرج إلى المسجد ودموعه جارية، فتبكي الصحابة لبكائه، وفيهم: أبو بكر وعمر، وأبو ذر وعمّار، ويُسأل عن سبب بكائه، فيقولصلى‌الله‌عليه‌وآله :« الآن حدّثني جبرائيلُ بما يجري على الحسين » (٢) .

ويمرّ أمير المؤمنينعليه‌السلام بوادي كربلاء في ذهابه إلى صفّين، فيقف هناك ويرسل عبرته، ويقول:« هذا مناخُ ركابِهمْ، ومهراقُ دمائِهمْ، طوبى لكِ منْ تُربةٍ تُراقُ عليك دماءُ الأحبّة! » (٣) .

____________________

(١) تاريخ بغداد ٥ / ١٨٨، الجرح والتعديل للرازي ١ / ٣١٣، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ٥ / ٣٣٣، تهذيب الكمال للمزّي ١ / ٤٦٨.

(٢) الخصائص الكبرى للسيوطي ٢ / ١٢٥.

(٣) قرب الإسناد / ٢٦، كامل الزيارات / ٤٥٣، ذخائر العقبى / ٩٧، بحار الأنوار ٤١ / ٢٩٥، كشف الغُمَّة ٢ / ٢٢٢، الخصائص الكبرى للنسائي ٢ / ١٢٦، الفصول المـُهمّة لابن الصباغ المالكي / ٧٦١، جواهر المطالب في مناقب الإمام عليٍّ للدمشقي / ٢٦٣، باختلاف الألفاظ.

٢٦٩

إذاً، فهلاّ تحسن مواساة صاحب الشريعة ووصيّه المـُقدّم بعد وقوع الحادثة على فلذة كبده صاحب النّهضة المـُقدّسة، واللّه عزّ وجل يقول:( لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ اُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (١) ؟!

على أنّ الأحاديث الصحيحة عندهم عن أئمّتهم تحثّهم على التظاهر بما فيه إحياء أمرهم؛ من الدعوة إلى سبيل الدِّين، وإظهار الجزع والبكاء والنّوح على سيّد شباب أهل الجنّةعليه‌السلام .

ويقول الإمام الصادقعليه‌السلام في دعائه الطويل وهو ساجد:« اللهمّ، ارحَمْ تلكَ الصَّرخةَ الّتِي كانتْ لنا. اللهمّ، إنّ أعداءَنا عابُوا عليهمْ خُروجَهُمْ إلينا فلَمْ يَنهَهمْ ذلك عنْ الشخوصِ إلينا؛ رغبةً في برِّنا، وصلةً لرسولِكَ، وخلافاً منهُمْ على ما خالفنا. اللهمّ، أعطِهمْ أفضلَ ما يأمَلونَ في غربتِهمْ عنْ أوطانِهمْ، وما أثرُونَا بهِ على أبنائِهمْ » (٢) .

ويقولعليه‌السلام لحمّاد الكوفي:« بلغني أنّ اُناساً من الكوفةِ وغيرِهمْ مِنْ نواحِيها يأتونَ قبرَ الحُسينِ في النّصفِ مِنْ شعبان؛ فبين قارئٍ يقرأ، وقاصٍّ يقصُّ، ومادحٍ يمدحُ، ونساءٍ يندبنَهُ؟ » . فقال حمّاد: قد شهدتُ بعضَ ما تصف. فقالعليه‌السلام :« الحمدُ للّهِ الذِي جعلَ في شيعَتِنا مَنْ يَفدُ إلينَا ويمدَحُنا ويرثي لنَا، وجعلَ في عدوِّنا مَنْ يُقبِّح ما يصنَعُون » (٣) .

____________________

(١) سورة الأحزاب / ٢١.

(٢) كامل الزيارات / ٢٢٨، والدعاء فيه تقديمٌ وتأخير.

(٣) كامل الزيارات / ٥٣٩، وسائل الشيعة ١٤ / ٥٩٩، بتقديمٍ وتأخير.

٢٧٠

ولمـّا قال له ذريح المحاربي: إنّي إذا ذكرتُ فضل زيارة الحسينعليه‌السلام لقومي وبنيَّ كذَّبوني! فقالعليه‌السلام :« دَعْ النّاسَ يذهبونَ حيثُ شاؤوا وكُنْ مَعَنا » (١) .

فإذا كان هذا وأمثاله الكثير ممّا أوجب فعل الشيعة لتلك المظاهر، فلماذا يُطعن عليهم عند إيمانهم بها؟! وما ذنبهم؟! أفلا يتأوّل عملهم - والحال هذا - كما أوّلوا عمل خالد وغيره؟! أين المـُنصفون؟!

نعم، ليس السّرُّ فيما حكموا به على الشيعة من الرياء والتصنّع، والشنعة والبدعة إلاّ قيامهم بهذه الشعائر التي فيها إظهار مظلوميّة أهل البيت العلوي، وتفظيع أعمال المناوئين لهم، وإعلام الملأ بما نشروه من الجور، واسترداد الجاهليّة الاُولى، كما اعترف به ابن كثير في البداية والنّهاية ج٨ ص٢٠٢، قال: إنّ الشيعة لمْ يُريدوا بهذه الأعمال إلاّ أنْ يُشنّعوا على دولة بني اُميّة؛ لأنّه قُتلَ في دولتهم(٢) .

وعليه فلا يكون العمل المستلزم للتشنيع على عمل الجبابرة وطواغيت الاُمّة بقتلهم سيّد شباب أهل الجنّة، وتلاعبهم بالدِّين الحنيف تلاعب الصبيان بالإكر؛ مُقرّباً للمولى زلفة، ورضىً لربِّ العالمين.

____________________

(١) كامل الزيارات / ٢٧٢، بحار الأنوار ٩٨ / ٧٥.

(٢) البداية والنّهاية لابن كثير ٨ / ٢٢٠.

٢٧١

نهرُ العلقمي:

لم يذكر أصحاب المعاجم هذا الوصف، وأهمله المؤرّخون، كما لم يصفه حديث الصادقعليه‌السلام في الزيارة المـُتقدّمة؛ فإنّ فيها:« وهو مدفونٌ بشطِّ الفُراتِ بحذاء الحَيْر » (١) .

لكنّ شيخنا الطُّريحي ذكر في المـُنتخب ص٩١: أنّ رجلاً من أهل الكوفة حدّاداً قال: خرجت في البعث الذي سار إلى كربلاء، فخيّمنا على شاطئ العلقمي، وحموا الماء عن الحسين ومَن معه حتّى قُتِلوا وأهله وأنصاره عِطاشى، ثُمّ رجعنا إلى الكوفة، وبعد أنْ سيّر ابن زياد السّبايا إلى الشام رأيت في المنام كأنّ القيامة قامت، والنّاس يموجون وقد أخذهم العطش، وأنا أعتقد بأنّي أشدّهم عطشاً، مع شدّة حرارة الشمس والأرض تغلي كالقار، إذ رأيت رجلاً عمَّ الموقف نوره، وفي إثره فارسٌ وجهه أنور من البدر، وبينا أنا واقفٌ إذ أتاني رجلٌ وقادني بسلسلة إليه، فقلتُ له: اُقسم عليك بمَن أمَرَك، مَن تكون؟

قال: أنا من الملائكة.

قلتُ: ومَن هذا الفارس؟

قال: هذا عليٌّ أميرُ المؤمنين.

قلتُ: ومَن ذلك الرجل؟

قال: محمّدٌصلى‌الله‌عليه‌وآله .

____________________

(١) كامل الزيارات / ٤٤٠، بحار الأنوار ٩٨ / ٢٧٧، والعبارة:« إذا أردتَ زيارةَ قبرِ العبّاس عليه‌السلام ، وهو على شطِّ الفُراتِ بحذاءِ الحائر... » .

٢٧٢

ثُمّ رأيت عمرَ بن سعد وقوماً لم أعرفهم في أعناقهم سلاسل من حديد، والنّار تخرج من أعينهم وآذانهم، ورأيت النّبيّين والصّدّيقين قد أحدقوا بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعليٍّ:« ما صنعتَ؟ » . قال:« لمْ أتركْ أحداً مِن قاتلِي الحسينِ إلاّ جئتُ بهِ » . فقدَّموهم أمام رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يسألهم عمّا صنعوا بولده يوم كربلاء، فواحدٌ يقول: أنا حميت الماء عنه، والآخر يقول: أنا رميته، والثالث يقول: أنا وطأت صدره، ورابع يقول: أنا قتلت ولده.

وهو يبكي حتّى بكى مَن حوله لبكائه، ثمّ أمر بهم إلى النّار.

وجيء برجلٍ، قالصلى‌الله‌عليه‌وآله له:« ما صنعت؟ » . قال كنتُ نجّاراً، وما حاربتُ ولا [ قاتلتُ ]. فقال:« لقد كثّرتَ السّوادَ على وَلدِي » . فأمر به إلى النّار، ثُمّ قدّموني إليه، فحكيت له فِعلي، فأمر بي إلى النّار.

فلمـّا قصّ الرؤيا على مَن حضر عنده، يبس لسانُه ومات نصفُه، وهلك بأسوأ حال، وقد تبرّأ منه كُلُّ مَن سمع وشاهد.

وفي مدينة المعاجز ص٢٦٣ باب ١٢٧: روي عن رجل أسدي قال: كنتُ زارعاً على نهر العلقمي بعد ارتحال عسكر بني اُميّة، فرأيت عجائباً لا أقدر أنْ أحكي إلاّ بعضاً منها: إذا هبّت الريح تمرّ علىّ نفحات كنفحات المسك والعنبر، وأرى نجوماً تنزل من السّماء وتصعد مثلها من الأرض، ورأيتُ عند غياب الشمس أسداً هائل المنظر يتخطّى القتلى حتّى وقف على جسد جلّلته الأنوار،

٢٧٣

فكان يُمرّغ وجهه وجسده بدمه، وله صوت عالٍ، ورأيت شموعاً مُعلّقة وأصواتاً عالية، وبكاءً وعويلاً، ولا أرى أحداً(١) .

وفي مناقب ابن شهر آشوب ج٢ ص١٩٠: روى جماعة من الثّقات: أنّه لمـّا أمر المـُتوكّل بحرث قبر الحسينعليه‌السلام ، وأنْ يجري عليه الماء من العلقمي، أتى زيد المجنون وبهلول المجنون إلى كربلاء ونظرا إلى القبر لم يتغيّر بما صنعوا(٢) .

وفي هذا دلالة على وصف النّهر بالعلقمي في تلك الأيّام، ويؤكّد ذلك ما في مزار البحار ص١٦١ عن مزارَي المفيد وابن المشهدي من ورود روايةٍ بزيارة العبّاسعليه‌السلام غير مُقيّدة بوقت، وفيها: إذا وردتَ أرض كربلاء فانزل منهما بشاطئ العلقمي، ثُمّ اخلع ثياب سفرك واغتسل غسل الزيارة مندوباً، وقل...(٣) .

وفي تحيّة الزائر ص١٣٥، ذكر عنهما وعن الشهيد الأوّل وابن طاووس ورود روايةٍ بزيارةٍ للحسينعليه‌السلام ، وقالوا: إذا وردت قنطرة العلقمي، فقُلْ: إليك اللهمّ قصد القاصد...(٤) .

والظاهر منه ورود لفظ العلقمي في الرواية وليس من كلام العلماء؛ خصوصاً بعد العلم بأنّهم لا يذكرون إلاّ ما يعتمدون عليه في الروايات، ومنه نعرف أنّ نهر العلقمي كان معروفاً في الأزمنة السّابقة على زمان ابن [ طاووس ] الذي هو في القرن السّابع.

____________________

(١) مدينة المعاجز ٤ / ٧٠، الباب ١٢٧، بحار الأنوار ٤٥ / ١٩٣.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٣ / ٢٢١، وعنه بحار الأنوار ٤٥ / ٤٠١، والعوالم / ٧٢٧.

(٣) المزار للشيخ المفيد / ٩٩، المزار للمشهدي / ٣٧٠.

(٤) المزار للمشهدي / ٤١٨، بحار الأنوار ٩٨ / ٢٣٢.

٢٧٤

وجاء في نصّ الشيخ الطوسي، ففي مصباح المتهجد ص٤٩٩: إنّ الصادقعليه‌السلام قال لصفوان الجمّال:« إذا أتيتَ الفُراتَ ( أعني شرعة الصادق بالعلقمي )، فقُلْ: اللهمّ، أنتَ خيرُ مَنْ وفدَ... » (١) .

وعلى هذا يكون قول الفاضل السيّد جعفر الحلّي على الحقيقة:

وَهوَى بِجَنبِ العلْقميِّ فَلَيتَهُ

لِلشَّاربينَ بِهِ يُدافُ العلقمُ

نعم، لم يُعرف السّبب في التسمية به، وما قيل في وجهه: ( إنّ الحافر للنَّهر رجلٌ من بني علقمة، بطن من تميم، ثُمّ من دارمٍ جدّهم علقمة بن زرارة بن عدس ) لا يُعتمد عليه؛ لعدم الشاهد الواضح.

ومثله في ذكر السّبب: كثرة العلقم حول حافَتَي النّهر، وهو كالقول بأنّ عضد الدولة أمر بحفر النّهر ووكله إلى رجل اسمه علقمة؛ فإنّها دعاوى لا تعضدها قرينة، على أنّك عرفت أنّ التسمية كانت قبل عضد الدولة.

وحُكي في الكبريت الأحمر ج٢ ص١١٢ عن السيّد مجد الدِّين محمّد المعروف بمجدي - من معاصري الشيخ البهائي - في كتابه زينة المجالس، المـُؤلَّف سنة ١٠٠٤: أنّ الوزير السّعيد ابن العلقمي لمـّا بلغه خطاب الصادقعليه‌السلام للنهر:« إلى الآنَ تجري وقدْ حُرمَ جدِّي منك! » . أمر بسدّ النّهر وتخريبه، ومنْ أجله حصل خراب الكوفة؛ لأنّ ضياعها كانت تُسقى منه.

____________________

(١) مصباح المتهجد للشيخ الطوسي / ٧١٨، المزار للشهيد الأوّل / ١١٨.

٢٧٥

مشهدُ الرأس:

 ذكر أربابُ المقاتل: أنّ عمر بن سعد أمر بالرؤوس فقُطعت، فكانت ثمانية وسبعين رأساً، أخذت كندة ثلاثة عشر [ رأساً ]، وأقبلت هوازن باثني عشر [ رأساً ]، وجاءت تميم بسبعة عشر رأساً، وأقبلت بنو أسد بستّة عشر رأساً، واختصَّت مذحج بسبعة، ولسائر الجيش ثلاثة عشر رأساً(١) .

 وساروا بها إلى الكوفة، ثُمّ سيّر ابن زياد رأس الحسينعليه‌السلام ورؤوس مَن قُتل معه من أهله وصحبه مع السّبايا إلى يزيد بالشام(٢) .

____________________

(١) اللهوف في قتلى الطفوف / ٨٥، لواعج الأشجان / ١٩٧.

(٢) تاريخ الطبري ٤ / ٣٥١، الكامل في التاريخ لابن الأثير ٤ / ٨٣ الثقات لابن حبّان ٢ / ٣١٣، ينابيع المودَّة للقندوزي الحنفي ٣ / ٢٩، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٤ / ٢٨٠، بلاغات النّساء لابن طيفور / ٢١، البداية والنّهاية لابن كثير ٨ / ٢٠٩.

وقد تعصّب ابن تيمية فأنكر بعث ابن زياد للسبايا والرؤوس إلى يزيد، وهو إنكارٌ باطلٌ ردّه كثيرٌ من المـُحدّثين والمؤرِّخين.

قال الذهبي في السّير ٣ / ٣١٩: أحمد بن محمّد بن حمزة: حدّثني أبي عن أبيه، قال: أخبرني أبي حمزة بن يزيد الحضرمي، قال: رأيت امرأة من أجمل النّساء وأعقلهنَّ، يُقال لها: ( ريّا )، حاضنة يزيد - يُقال: بلغت مئة سنة -، قالت: دخل رجلٌ على يزيد، فقال: أبشر، فقد أمكنك اللّه من الحسين، وجيء برأسه. قالت: فوضع في طست، فأمر الغلام فكشف، فحين رآه خمر وجهه كأنه شمّ منه. فقلتُ لها: أقرعَ ثناياه بقضيبٍ؟ قالتْ: أي واللّه. وقد حدّثني بعض أهلنا أنّه رأى رأس الحسين مصلوباً بدمشق ثلاثة أيّام، وحدّثتني ريّا أنّ الرأس مكث في خزائن السّلاح حتّى ولي سلمان، فبعث فجيء به، وقد بقي عظاماً أبيضَ، فجعله في سفط وطيَّبه وكفّنه ودفنه في مقابر المسلمين، فلمـّا دخلت ( المـُسوِّدة ) سألوا عن موضع الرأس فنبشوه وأخذوه، فاللّه أعلم ما صُنع به.

وذكر باقي الحكاية، وهي قوية الإسناد. يحيى بن بكير، حدّثني الليث قال: أبى الحُسينعليه‌السلام أنْ يستأسر حتّى قُتل بالطَّفِّ، وانطلقوا ببنيه عليٍّ وفاطمة وسُكينة إلى يزيد، فجعل سكينة خلف سريره لئلاّ ترى رأس أبيها، وعليَّاً في غلٍّ، فضرب على ثنيَّتي الحسين وتمثّل بذلك البيت... وفي مجمع الزوائد للهيثمي ٩ / ١٩٥ رواية الليث المـُتقدّمة، وقال عقبها: رواه الطبراني ورجاله ثقات. والرواية في المـُعجم الكبير للطبراني ٣ / ١٠٤، وكذلك في تاريخ الإسلام للذهبي ٧ / ٤٤٢، وتاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ٧٠/١٥، والكامل في التاريخ لابن الأثير ٤/٨٦.

وفي الإصابة ٢ / ٧١: كان آخر ذلك أنْ قُتل واُتي برأسه إلى عبيد اللّه، فأرسله ومَن بقي من أهل بيته إلى يزيد، ومنهم عليّ بن الحسين وكان مريضاً، ومنهم عمَّته زينب، فلمـّا قدموا على يزيد أدخلهم على عياله.

وكذلك في تاريخ الطبري ٤ / ٣٥٢، وغيرها من المصادر الكثيرة التي نطقت بهذا الأمر، فالتعلّل بعدم إرسالهم إليه تعلّلٌ باطلٌ لمْ يُستند إلى دليل بعدما أثبت المـُحدّثون والمؤرّخون ذلك.

٢٧٦

ولم يترك سيّد الشُّهداءعليه‌السلام الدعوة إلى الدِّين، وتفنيد عمل الظالمين حتّى في هذا الحال، وهو مرفوع على القناة، فكان مُتمّماً لنهضته المـُقدّسة التي أراق فيها دمه الطاهر، وقد استضاء خلق كثير من إشراقات رأسه الأزهر.

لهفي لرأسِكَ فوق مسلوبِ القَنَا

يكسوهُ مِنْ أنوارِهِ جلْبابَا

يتلُو الكتَابَ على السِّنانِ وإنّمَا

رفعُوا به فوقَ السِّنانِ كتابَا

٢٧٧

ولا غرابة بعد أنْ كان سيّد الشُّهداءعليه‌السلام دعامة من دعائم الدِّين ومنار هداه، وعنه يأخذ تعاليمه ومنه يتلقَّى معارفه، وهو صراطه المستقيم ومنهجه القويم، دونه كانت مفاداته، وفي سبيله سبقت تضحيته، فهو حليف القرآن منذ اُنشئ كيانه؛ لأنّهما ثقلا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله وخليفتاه على اُمّته، وقد نصّ المـُشرّع الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّهما لنْ يفترقا حتّى يردا عليه الحوض؛ فبذلك كان سلام اللّه عليه غير مبارح تلاوته طول حياته؛ في تهذيبه وإرشاده، في دعوته وتبليغه، في حلّه ومرتحله حتّى في موقفه يوم الطَّفِّ - ذلك المأزق الحرج بين ظهراني اُولئك الطغاة المـُتجمهرين عليه - ليتمّ عليهم الحجّة، ويوضّح لهم المحجّة.

هكذا كان يسير إلى غايته المـُقدّسة سيراً حثيثاً، حتّى طفق يتلو القرآنَ رأسُهُ الكريم فوق عامل السّنان، عسى أنْ يحصل مَن يُكهربه نورُ الحقّ، غير أنّ داعية الحقّ والرشاد لمْ يُصادف إلاّ قصراً في الإدراك، وطبعاً في القلوب، وصمماً في الآذان:( خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ) (١) .

 وبلغ من غلواء ابن زياد وتيهه في الضّلال أنْ أمر بالرأس الشريف فطيفَ به في شوارع الكوفة وسككها(٢) .

 يقول زيد بن أرقم: كنتُ في غرفة لي، فمرّوا بالرأس على رمح، فسمعته يقرأ:( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً ) (٣) . فوقف شعري، وقلتُ: رأسك أعجب وأعجب(٤) !

____________________

 (١) سورة البقرة / ٧.

 (٢) تاريخ الطبري ٤ / ٣٤٨.

 (٣) سورة الكهف / ٩.

 (٤) الإرشاد للشيخ المفيد ٢ / ١١٧، إعلام الورى بأعلام الهدى للطبرسي / ٤٧٣، الدّر النّظيم / ٥٦١.

٢٧٨

 ولمـّا صُلب في سوق الصّيارفة، وهناك ضوضاء، فأرادعليه‌السلام لفت الأنظار نحوه، تنحنح تنحنحاً عالياً، فاتَّجه النّاس نحوه، وأبهرهم الحال، فشرع في قراءة سورة الكهف إلى قوله تعالى:( اِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً ) (١)(٢) . وعجب الحاضرون؛ إذ لم تعهد هذه الفصاحة والإتيان على مقتضى الحال من رأس مقطوعٍ، وبقي النّاس واجمون لا يدرون ما يصنعون.

 ولمـّا صُلب على شجرة بالكوفة، سُمع يقرأ قوله تعالى:( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَب يَنقَلِبُونَ ) (٣) .

 قال هلال بن معاوية: سمعت رأس الحسينعليه‌السلام يخاطب حامله، ويقول:« فرّقتَ رأسِي وبَدني، أفرقَ اللّهُ بينَ لحمِكَ وعظمِكَ، وجعلكَ آيةً ونكالاً للعالمين » . فرفع اللعينُ سوطاً وأخذ يضرب بين رأسه المـُطهّر(٤) .

 وحدّث سلمة بن الكهيل: أنّه سمع رأس الحسينعليه‌السلام بالكوفة يقرأ، وهو مرفوع على الرمح:( فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (٥)(٦) .

____________________

 (١) سورة الكهف / ١٣.

 (٢) مناقب آل أبي طالب ٣ / ٢١٨.

 (٣) سورة الشعراء / ٢٢٧.

 (٤) مدينة المعاجز للبحراني ٤ / ١٠٠.

 (٥) سورة البقرة / ١٣٧.

 (٦) نهاية الدراية للصدر / ٢١٧، الوافي بالوفيات للصفدي ١٥ / ٢٠١، نَفَس الرحمن في فضائل سلمان للطبرسي / ٣٦٢، شرح إحقاق الحقّ للمرعشي ٣٣ / ٦٩٤.

٢٧٩

 كما سمعه ابن وكيدة يقرأ القرآن فشكّ أنّه صوته؛ حيث لم يعهد مثله يتكلّم، فإذا الإمامعليه‌السلام يخاطبه:« يابنَ وكيدة، أما علمتّ أنَّ معاشرَ الأئمّة أحياءٌ عند ربِّهم يُرزقون » . فزاد تعجّبه وحدّث نفسه أنْ يسرق الرأس ويدفنُه، فنهاه الإمامعليه‌السلام وقال:« يابنَ وكيدة، ليس إلى ذلك سبيلٌ، إنّ سفكَهمْ دَمي أعظمُ عندَ اللّه مِن إشهارهم رأسي، فذرهم : ( فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ ) » (١) .

وفي طريقهم إلى الشام نزلوا عند صومعة راهب، وفي الليل أشرف عليهم الراهب فرأى نوراً ساطعاً من الرأس الشريف، وسمع تسبيحاً وتقديساً وتهليلاً، وقائلاً يقول: السّلام عليك يا أبا عبد اللّه. فتعجّب الراهب ولم يعرف الحال، حتّى إذا أصبح وأراد القوم الرحيل سألهم عن الرأس، فأخبروه أنّه رأس الحسين بن علي بن أبي طالب، واُمّه فاطمة، وجدّه محمّد المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فطلب الرأسَ من خولي الأصبحي، فأبى عليه، فاسترضاه بمال كثير دفعه إليه، وأخذ الراهب الرأس الشريف وقبّله وبكى، وقال: تباً لكم أيَّتها الجماعة، لقد صدقت الأخبار في قوله: إذا قُتل هذا الرجل تمطر السّماءُ دماً.

ثُمّ أسلم ببركة الرأس الطاهر، وبعد أنْ ارتحلوا نظروا إلى الدراهم فإذا هي خزف مكتوب عليها:( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَب يَنقَلِبُونَ ) (٢) .

____________________

 (١) مدينة المعاجز للبحراني ٣ / ٤٦٢، [ والآية هي من سورة غافر/٧٠ - ٧١ ].

 (٢) مدينة المعاجز ٤ / ١٠٤.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

الموقف التاسع:

شروطهعليه‌السلام على المأمون لقبول ولاية العهد، وهي:

((أن لا يولي أحداً، ولا يعزل أحداً، ولا ينقض رسماً، ولا يغير شيئاً مما هو قائم، ويكون في الأمر مشيراً من بعيد)) (١) ، فأجابه المأمون إلى ذلك كله!!!.

وفي ذلك تضييع لجملة من أهداف المأمون.. إذ إن:

١ ـ السلبية تعني الاتهام:

فإن من الطبيعي أن تثير سلبيته هذه الكثير من التساؤلات لدى الناس، ولسوف تكون سبباً في وضع علامات استفهام كبيرة، حول الحكم، والحكام. وكل أعمالهم وتصرفاتهم، إذ إن السلبية إنما تعني: أن نظام الحكم لا يصلح حتى للتعاون معه، بأي نحو من أنحاء التعاون، وإلا فلماذا يرفض ـ حتى ولي العهد ـ التعاون مع نظام هو ولي العهد فيه، ويأبى التأييد لأي من تصرفاته وأعماله؟!.

____________

(١) الفصول المهمة، لابن الصباغ المالكي ص ٢٤١، ونور الأبصار من ص ١٤٣، وعيون أخبار الرضا ج ١ ص ٢٠، و ج ٢ ص ١٨٣، ومواضع أخرى، ومناقب آل أبي طالب ج ٤ ص ٣٦٣، وعلل الشرايع ج ١، ص ٢٣٨، وإعلام الورى ص ٣٢٠، والبحار ج ٤٩ ص ٣٤ و ٣٥، وغيرها، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٩، وإرشاد المفيد ص ٣١٠، وأمالي الصدوق ص ٤٣، وأصول الكافي ص ٤٨٩، وروضة الواعظين ج ١ ص ٢٦٨، ٢٦٩، ومعادن الحكمة ص ١٨٠، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥.

٣٠١

٢ ـ رفض الاعتراف بشرعية ذلك النظام:

ولقد قدمنا: أن من جملة أهداف المأمون هو أن يحصل من الإمامعليه‌السلام على اعتراف ضمني بشرعية حكمه وخلافته، كما صرح هو نفسه بذلك (وليعترف بالملك، والخلافة لنا).

والإمام.. بشروطه تلك يكون قد رفض الاعتراف بشرعية النظام القائم. بأي نحو من أنحاء الاعتراف، ولم يعد قبوله بولاية العهد يمثل اعترافا بذلك، ولا يدل على أن ذلك الحكم يمثل الحكم الإسلامي الأصيل.

هذا.. وقد عضد شروطه هذه، بسلوكه السلبي مع المأمون، والهيئة الحاكمة، طيلة فترة ولاية العهد، يضاف إلى ذلك تصريحاته المتكررة، التي تحدثنا عنها فيما سبق.

٣ ـ النظام القائم لا يمثل وجهة نظره في الحكم:

والأهم من كل ذلك: أن شروطه هذه كانت بمثابة الرفض القاطع لتحمل المسؤولية عن أي تصرف يصدر من الهيئة الحاكمة. وليس للناس ـ بعد هذا ـ أن ينظروا إلى تصرفات وأعمال المأمون وحزبه، على أنها تحظى برضى الإمامعليه‌السلام وموافقته. ولا يمكن لها ـ من ثم ـ أن تعكس وجهة نظرهعليه‌السلام في الحكم ورأيه في أساليبه، التي هي في الحقيقة وجهة نظر الإسلام الصحيح فيه. الإسلام.. الذي يعتبر الأئمةعليه‌السلام الممثلين الحقيقيين له، في سائر الظروف، ومختلف المجالات..

وانطلاقاً مما تقدم: نراهعليه‌السلام يرفض ما كان يعرضه عليه المأمون، من: كتابة بتولية أو عزل إلى أي إنسان.. ويرفض أيضاً: أن يؤم الناس في الصلاة مرتين.. إلى آخر ما سيأتي بيانه.

وفي كل مرة كان يرفض فيها مطالب المأمون هذه نراه يحتج عليه بشروطه تلك، فلا يجد المأمون الحيلة لما يريده، وتضيع الفرصة من يده، ولا بد من ملاحظة: أنه عندما أصر عليه المأمون بأن يؤم الناس في الصلاة، ورأىعليه‌السلام : أنه لا بد له من قبول ذلك ـ نلاحظ ـ: أنه اشترط عليه أن يخرج كما كان يخرج جده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا كما يخرج الآخرون..

٣٠٢

ولم يكن المأمون يدرك مدى أهمية هذا الشرط، ولا عرف أهداف الإمام من وراء اشتراطه هذا، فقال له ولعله بدون اكتراث: أخرج كيف شئت.. وكانت نتيجة ذلك.. أنهعليه‌السلام قد أفهم الناس جميعاً:

أن سلوكه وأسلوبه، وحتى مفاهيمه، تختلف عن كل أساليب ومفاهيم وسلوك الآخرين. وأن خطه هو خط محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنهاجه هو منهاج عليعليه‌السلام ، ربيب الوحي، وغذي النبوة، وليس هو خط المأمون وسواه من الحكام، الذين اعتاد الناس عليهم، وعلى تصرفاتهم وأعمالهم.

ولم يعد يستطيع المأمون، أن يفهم الناس: أن الحاكم: من كان، ومهما كان، هذا هو سلوكه، وهذه هي تصرفاته. وأن كل شخصية: من ومهما كانت، وإن كانت قبل أن تصل إلى الحكم تتخذ العدل، والحرية: والمساواة، وغير ذلك شعارات لها، إلا أنها عندما تصل إلى الحكم، لا يمكن إلا أن تكون قاسية ظالمة، مستأثرة بكل شيء، ومستهترة بكل شيء، ولذا فليس من مصلحة الناس أن يتطلعوا إلى حكم أفضل مما هو قائم، حتى ولو كان ذلك هو حكم الإمامعليه‌السلام المعروف بعلمه وتقواه وفضله الخ.. فضلاً عن غيره من العلويين أو من غيرهم ـ لم يعد يستطيع أن يقول ذلك ـ لأن الواقع الخارجي قد أثبت عكس ذلك تماماً، إذ قد رأينا: كيف أن الإمامعليه‌السلام بشروطه تلك، وبسائر مواقفه من المأمون ونظام حكمه.. يضيع على المأمون هذه الفرصة، ولم تجده محاولاته فيما بعد شيئاً، بل إن كثيراً منها كان سوءا ووبالاً عليه، كما سيأتي.

٤ ـ لا مجال بعد للمأمون لتنفيذ مخططاته:

ولعل من الواضح: أن شروطه تلك قد مكنته من أن يقطع الطريق على المأمون، ولا يمكنه من استغلال الظروف لتنفيذ بقية حلقات مؤامرته، إذ لم يعد بإمكانه أن يصر على الإمام أن يقوم بأعمال تنافي وتضر بقضيته هو، وقضية العلويين، ومن ثم تؤثر على الأمة بأسرها.. وعدا عن ذلك فإن هذه الشروط، قد حفظت لهعليه‌السلام حياته في حمام سرخس، حيث كان المأمون قد حاك مؤامرته للتخلص من وزيره وولي عهده مرة واحدة، كما سيأتي بيانه.. مما يعني أن سلبيتهعليه‌السلام مع النظام كانت أمراً لابد منه، إذا أراد أن لا يعرض نفسه إلى مشاكل، وأخطار هو في غنى عنها.. والذي أمن له هذه السلبية ليس إلا شروطه تلك، التي جعلت من لعبة ولاية العهد لعبة باهتة مملة لا حياة فيها، ولا رجاء..

٣٠٣

ولعل الأهم من كل ذلك.. أنها ضيعت على المأمون الكثير من أهدافه من البيعة، التي صرح الإمامعليه‌السلام أنه كان عارفاً بها، ولم يكن له خيار في تحملها، والصبر عليها، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

وعدا عن ذلك كله أن تعاونه مع النظام إنما يعني أن يحاول تصحيح السلوك، وتلافي الأخطاء، التي كان يقع فيها الحكم، والهيئة الحاكمة. وذلك معناه أن ينقلب جهاز الحكم كله ضد الإمام، ويجد المأمون ـ من ثم ـ العذر، والفرصة لتصفيتهعليه‌السلام من أهون سبيل، فشروطه تلك أبعدت عنه الخطر ـ إلى حد ما ـ الذي كان يتهدده من قبل المأمون وأشياعه، وجعلته ـ كما قلنا ـ في منأى ومأمن من كل مؤامراتهم ومخططاتهم.

٥ ـ الإمام.. لا ينفذ إرادات الحكم:

ولعل من الأهمية بمكان.. أن نشير إلى أنهعليه‌السلام كان يريد بشروطه تلك أن يفهم المأمون: أنه ليس على استعداد لتنفيذ إرادات الحكم، والحاكم، ولا على استعداد لأن يقتنع بالتشريفات، والأمور الشكلية، فإنه.. بصفته القائد والمنقذ الحقيقي للأمة، لا يمكن أن يرضى بديلاً عن أن ينقذ الأمة، ويرتفع بها من مستواها الذي أوصلها إليه الطواغيت والظلمة، الذين جلسوا في مكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأوصيائهعليهم‌السلام ، وحكموا بغير ما أنزل الله.

إنه يريد أن يخدم الأمة، ويحقق لها مكاسب تضمن لها الحياة الفضلى، والعيش الكريم، ولا يريد أن يخدم نفسه، ويحقق مكاسب شخصيته على حساب الآخرين، ولذلك فهو لا يستطيع أن يقتنع بالسطحيات والشكليات التي لا تسمن، ولا تغني من جوع..

٦ ـ لا زهد أكثر من هذا:

إنه مضافاً إلى أن مجرد رفض الإمام كلا عرضي المأمون: الخلافة، وولاية العهد، دليل قاطع على زهده فيه. فإن هذه الشروط كان لها عظيم الفائدة، وجليل الأثر في الإظهار لكل أحد أن الإمام ليس رجل دنيا، ولا طالب جاه ومقام. وما أراده المأمون من إظهار الإمام على أنه لم يزهد بالدنيا، وإنما الدنيا هي التي زهدت فيه.. لم يكن إلا هباء اشتدت به الريح في يوم عاصف.. ولم تفلح بعد محاولات المأمون وعمله الدائب، من أجل تشويه الإمام والنيل من كرامته.

٣٠٤

ولقد قدمنا: أن الإمامعليه‌السلام قد واجه نفس المأمون بحقيقة نواياه، وأفهمه أن خداعه لن ينطلي عليه، ولن تخفى عليه مقاصده، ولذا فإن من الأفضل والأسلم له أن يكف عن كل مؤامراته ومخططاته.. وإلا فإنه إذا ما أراد إجبار الإمام على التعاون معه، فلسوف يجد أنهعليه‌السلام على استعداد لفضحه، وكشف حقيقته وواقعه أمام الملأ، وإفهام الناس السبب الذي من أجله يجهد المأمون ليزج بالإمامعليه‌السلام في مجالات لا يرغب، بل واشترط عليه أن لا يزج فيها ـ كما فعل في مناسبات عديدة ـ الأمر الذي لن يكون أبداً في صالح المأمون، ونظام حكمه..

ومن هنا رأيناهعليه‌السلام يجيب الريان عندما سأله عن سر قبوله بولاية العهد، وإظهاره الزهد بالدنيا ـ يجيبه ـ: ببيان أنه مجبر على هذا الأمر، ويذكره بالشروط هذه، التي يعني أنه قد دخل فيه دخول خارج منه، كما تقدم..

وهكذا.. وبعد أن كانعليه‌السلام سلبياً مع النظام، وبعد رفضه لكلا عرضي المأمون، وبعد أن اشترط هذه الشروط للدخول في ولاية العهد، فليس من السهل على المأمون، ولا على أي إنسان آخر أن ينسب إليهعليه‌السلام : أنه رجل دنيا فقط، وأنه ليس زاهدا في الدنيا، وإنما هي التي زهدت فيه.

وعلى كل حال: ورغم كل محاولات المأمون تلك.. فقد استطاع الإمامعليه‌السلام ، بفضل وعيه، ويقظته، وإحكام خطته: أن يبقى القمة الشامخة للزهد، والورع، والنزاهة، والطهر، وكل الفضائل الإنسانية، وإلى الأبد.

الموقف العاشر:

موقفهعليه‌السلام في صلاتي العيد.. ففي إحداهما:

(بعث المأمون له يسأله: أن يصلي بالناس صلاة العيد، ويخطب، لتطمئن قلوب الناس، ويعرفوا فضله، وتقر قلوبهم على هذه الدولة المباركة، فبعث إليه الرضاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال:((قد علمت ما كان بيني وبينك من الشرط في دخولي في هذا الأمر، فأعفني من الصلاة بالناس، فقال المأمون: إنما أريد بهذا أن يرسخ في قلوب العامة، والجند، والشاكرية هذا الأمر، فتطمئن قلوبهم، ويقروا بما فضلك الله تعالى به..

٣٠٥

ولم يزل يراده الكلام في ذلك. فلما ألح عليه قال:يا أمير المؤمنين، إن أعفيتني من ذلك، فهو أحب إلي، وإن لم تعفني خرجت كما كان يخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكما خرج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام )) قال المأمون: أخرج كيف شئت..

وأمر المأمون القواد، والحجاب، والناس: أن يبكروا إلى باب أبي الحسنعليه‌السلام ، فقعد الناس لأبي الحسن في الطرقات، والسطوح: من الرجال، والنساء، والصبيان، وصار جميع القواد، والجند إلى بابهعليه‌السلام ، فوقفوا على دوابهم حتى طلعت الشمس.

فلما طلعت الشمس قام الرضاعليه‌السلام فاغتسل، وتعمم بعمامة بيضاء من قطن، وألقى طرفاً منها على صدره، وطرفاً بين كتفيه، ومس شيئاً من الطيب، وتشمر. ثم قال لجميع مواليه:((افعلوا مثل ما فعلت)) .

ثم أخذ بيده عكازة، وخرج، ونحن بين يديه، وهو حاف قد شمر سراويله إلى نصف الساق، وعليه ثياب مشمرة..

فلما قام، ومشينا بين يديه، رفع رأسه إلى السماء، وكبر أربع تكبيرات، فخيل إلينا: أن الهواء والحيطان تجاوبه، والقواد والناس على الباب، قد تزينوا، ولبسوا السلاح، وتهيئوا بأحسن هيئة..

فلما طلعنا عليهم بهذه الصورة: حفاة، قد تشمرنا. وطلع الرضا وقف وقفة على الباب، وقال:((.. الله أكبر، الله أكبر على ما هدانا، الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام، والحمد لله على ما أبلانا)) . ورفع بذلك صوته، ورفعنا أصواتنا.

فتزعزعت مرو بالبكاء، فقالها: ثلاث مرات، فلما رآه القواد والجند على تلك الصورة، وسمعوا تكبيره سقطوا كلهم من الدواب إلى الأرض، ورموا بخفافهم، وكان أحسنهم حالاً من كان معه سكين قطع بها شرابة جاجيلته ونزعها، وتحفى.. وصارت مرو ضجة واحدة، ولم يتمالك الناس من البكاء والضجة.

فكان أبو الحسن يمشي، ويقف في كل عشر خطوات وقفة يكبر الله أربع مرات: فيتخيل إلينا: أن السماء، والأرض، والحيطان تجاوبه.

وبلغ المأمون ذلك، فقال له الفضل بن سهل ذو الرئاستين: يا أمير المؤمنين: إن بلغ الرضا المصلى على هذا السبيل افتتن به الناس، وخفنا كلنا على دمائنا، فالرأي أن تسأله أن يرجع..

٣٠٦

فبعث المأمون إلى الإمام يقول له: إنه قد كلفه شططا، وأنه ما كان يحب أن يتعبه، ويطلب منه: أن يصلي بالناس من كان يصلي بهم..

فدعا أبو الحسن بخفه، فلبسه، ورجع.

واختلف أمر الناس في ذلك اليوم، ولم ينتظم في صلاتهم إلخ..)(١) .

ولقد قال البحري يصف هذه الحادثة والظاهر أنه يمين بن معاوية العائشي الشاعر على ما في تاج العروس:

ذكـروا بطلعتك النبي، فهللوا

لما طلعت من الصفوف وكبروا

حتى انتهيت إلى المصلى لابساً

نـور الهدى يبدو عليك فيظهر

ومـشيت مشية خاشع متواضع

لـله، ولا يـزهى، ولا يـتكبر

ولـوان مـشتاقا تكلف غير ما

في وسعه لمشى إليك المنبر(٢)

ومما يلاحظ هنا: أنه في هذه المرة أرسل إليه من يطلب منه أن يرجع. ولكننا في مرة أخرى نراه يسارع بنفسه، ويصلي بالناس، رغم تظاهره بالمرض..

وعلى كل حال.. فإننا وإن كنا قد تحدثنا في هذا الفصل، وفي فصل: ظروف البيعة وسنتحدث فيما يأتي عن بعض ما يتعلق بهذه الرواية، إلا أننا سوف نشير هنا إلى نقطتين فقط.. وهما:

١ ـ الأثر العاطفي، والقاعدة الشعبية:

فنلاحظ: أننا حتى بعد مرور اثني عشر قرنا على هذه الواقعة، لا نملك أنفسنا ونحن نقرأ وقائعها، من الانفعال والتأثر بها، فكيف إذن كانت حال أولئك الذين قدر لهم أن يشهدوا ذلك الموقف العظيم؟!.

____________

(١) قد ذكرنا بعض مصادر هذه الرواية في فصل: ظروف البيعة.. فراجع..

(٢) مناقب آل أبي طالب. لابن شهر آشوب ج ٤ ص ٣٧٢، ولكن هذا الشعر ينسب أيضاً للبحتري في المتوكل عندما خرج لصلاة العيد.. وانتحال الشعر، وكذلك الاستشهاد بشعر الآخرين، في المواضع المناسبة ظاهرة شائعة في تلك الفترة ومن يدري فلعل الشعر للبحتري ونسب للبحري أو لعله للبحري وانتحله أو نسب للبحتري، ولعل البحتري قد صحف وصار: البحري.. ولعل العكس.

٣٠٧

وغني عن البيان هنا: أن شأن هذه الواقعة هو شأن واقعة نيشابور، من حيث دلالتها دلالة قاطعة على كل ما كان للرضا من عظمة وتقدير في نفوس الناس وقلوبهم، وعلى مدى اتساع القاعدة الشعبية لهعليه‌السلام ..

٢ ـ لماذا يجازف المأمون بإرجاعهعليه‌السلام :

وإذا كان هدف المأمون من الإصرار على الإمام بأن يصلي بالناس هو أن يخدع الخراسانيين والجند والشاكرية، ويجعلهم يطمئنون على دولته المباركة فإنه من الواضح أيضاً أن إرجاع المأمون للإمامعليه‌السلام في مثل تلك الحالة، وذلك التجمع الهائل، وتلك الثورة العاطفية في النفوس، كان ينطوي على مجازفة ومخاطرة لم تكن لتخفى على المأمون، وأشياعه، حيث لا بد وأن يثير تصرفه هذا حنق تلك الجماهير التي كانت في قمة الهيجان العاطفي، ويؤكد كراهيتها له.. وعلى الأقل لن تكون مرتاحة لتصرفه هذا على كل حال.

وبعد هذا.. فإنه إذا كان المأمون يخشى من مجرد إقامة الإمام للصلاة.. فلا معنى لأن يلح عليه هو بقبولها.. وكذلك لا معنى لأن يخشى ذلك الهيجان العاطفي، وتلك الحالة الروحية، التي أثارها فعل الإمامعليه‌السلام وتصرفه في هذا الموقف.. فذلك إذن ما لم يكن يخافه ويخشاه.. فمن أي شيء خاف المأمون إذن؟! إنه كان يخشى ما هو أعظم وأبعد أثراً، وأشد خطراً.. إنه خشي من أن الرضا إذا ما صعد المنبر، وخطب الناس، بعد أن هيأهم نفسيا، وأثارهم عاطفيا إلى هذا الحد ـ خشي ـ أن يأتي بمتمم لكلامه الذي أورده في نيشابور:((وأنا من شروطها..)) وأنه ظهر إليهم على الهيئة التي كان يخرج عليها النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووصيه عليعليه‌السلام وهو أمر جديد عليهم.. ما من شأنه أن يجعل المأمون وأشياعه لا يأمنون بعد على أنفسهم، كما ذكر الفضل بن سهل.. ولسوف يحول الإمام مرواً من معقل للعباسيين والمأمون، وعاصمة، وحصن قوي لهم ضد أعدائهم ـ من العرب وغيرهم ـ سوف يحولها إلى حصن لأعداء العباسيين والمأمون، حصن لأئمة أهل البيت. ففضل المأمون: أن يختار إرجاعهعليه‌السلام عن الصلاة، لأنه رأى أن ذلك هو أهون الشرين، وأقل الضررين..

ولقد جرب المأمون الرضا أكثر من مرة، وأصبح يعرف أنه مستعد لأن يعلن رأيه صراحة في أي موقف تؤاتيه فيه الفرصة، ويقتضي الأمر فيه ذلك. ولم ينس بعد موقفه في نيشابور، ولا ما كتبه في وثيقة العهد، ولا غير ذلك من مواقفهعليه‌السلام وتصريحاته في مختلف الأحوال والظروف..

٣٠٨

الموقف الحادي عشر:

وأخيراً.. فقد كان سلوك الإمامعليه‌السلام العام، سواء بعد عقد ولاية العهد له، أو قبلها. يمثل ضربة لكل خطط المأمون ومؤامراته، ذلك السلوك المثالي، الذي لم يتأثر بزبارج الحكم وبهارجه.. ويكفي أن نذكر هنا ما وضعه به إبراهيم بن العباس، كاتب القوم وعاملهم، حيث قال: (ما رأيت أبا الحسن جفا أحداً بكلامه قط، وما رأيته قطع على أحد كلامه حتى يفرغ منه. وما رد أحداً عن حاجة يقدر عليها، ولا مد رجليه بين يدي جليس له قط. ولا اتكأ بن يدي جليس له قط، ولا شتم أحداً من مواليه ومماليكه قط، ولا رأيته تفل قط، ولا رأيته يقهقه في ضحكه قط، بل كان ضحكه التبسم. وكان إذا خلا، ونصبت مائدته أجلس معه على مائدته مماليكه، حتى البواب والسائس.

وكان قليل النوم بالليل، يحيى أكثر لياليه من أولها إلى الصبح. وكان كثير الصيام، فلا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر، ويقول:((ذلك صوم الدهر)) . وكان كثير المعروف والصدقة في السر، وأكثر ذلك يكون منه في الليالي المظلمة، فمن زعم أنه رأى مثله في فضله، فلا تصدقوه..)(١) .

وهذه الصفات بلا شك قد أسهمت إسهاماً كبيراً في أن يكون الإمامعليه‌السلام هو الأرضى في الخاصة والعامة، وأن تنفذ كتبه في المشرق والمغرب، إلى غير ذلك مما تقدم..

الحكم ليس امتيازاً وإنما هو مسؤولية:

وقد اعترض عليه بعض أصحابه، عندما رآه يأكل مع خدمه وغلمانه، حتى البواب والسائس، فأجابهعليه‌السلام :((مه، إن الرب تبارك وتعالى واحد، والأم واحدة، والأب واحد، والجزاء بالأعمال..)) (٢) .

وقال له أحدهم: أنت والله خير الناس، فقال له الإمام:((لا تحلف يا هذا، خير مني من كان أتقى لله تعالى. وأطوع له، والله ما

____________

(١) كلام إبراهيم بن العباس هذا معروف ومشهور، تجده في كثير من كتب التاريخ والرواية، ولذا فلا نرى أننا بحاجة إلى تعداد مصادره.

(٢) البحار ج ٤٩ ص ١٠١، والكافي الكليني، ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

٣٠٩

نسخت هذه الآية: ( وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ.. ) )) (١) .

وقال لإبراهيم العباسي إنه لا يرى أن قرابته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجعله خيراً من عبد أسود، إلا أن يكون له عمل صالح فيفضله به(٢) .

وقال رجل له: ما على وجه الأرض أشرف منك إباء. فقال:((التقوى شرفتهم، وطاعة الله أحظتهم))( ٣) .

وما نريد أن نشير إليه ونؤكد عليه هنا، هو أنهعليه‌السلام يريد بذلك أن يفهم الملأ: أن الحكم لا يعطي للشخص ـ من كان، ومهما كان ـ امتيازاً، ولا يجعل له من الحقوق ما ليس لغيره، وإنما الامتياز ـ فقط ـ بالتقوى والفضائل الأخلاقية.. وكل شخص حتى الحاكم سوف يلقى جزاء أعماله: إن خيراً فخير، وإن شرا فشر، وعليه فما يراه الناس من سلوك الحكام، ليس هو السلوك الذي يريده الله، وتحكم به النواميس الأخلاقية، والإنسانية. والامتيازات التي يجعلونها لأنفسهم، ويستبيحون بها ما ليس من حقهم لا يقرها شرع، ولا يحكم بها قانون..

وبكلمة مختصرة: إن الإمامعليه‌السلام يرى: أن الحكم ليس امتيازاً، وإنما هو مسؤولية.

وعلى كل حال.. فإن سلوك الإمامعليه‌السلام ، لخير دليل على ما كان يتمتع به من المزايا الأخلاقية، والفضائل النفسية.. ويكفي أنه لم يظهر منهعليه‌السلام طيلة الفترة التي عاشها في الحكم إلا ما ازداد به فضلاً بينهم، ومحلاً في نفوسهم، على حد تعبير أبي الصلت. وعلى حد تعبير شخص آخر: أقام بينهم لا يشركهم في مأثم من مآثم الحكم.. بل لقد كان لوجوده أثر كبير في تصحيح جملة من الأخطاء والانحرافات التي اعتادها الحكام آنئذٍ.. حتى لقد استطاع أن يؤثر على نفس المأمون، ويمنعه من الشراب والغناء، طيلة الفترة التي عاشها معه، إلى آخر ما هنالك، مما لسنا هنا في صدد تتبعه واستقصائه.

____________

(١) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

(٢) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٧.

(٣) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٣٦. ومسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٦.

٣١٠

وفي نهاية المطاف نقول:

وحسبنا هنا ما ذكرنا من الأمثلة، التي نحسب أنها تكفي لأن تلقي ضوءاً كاشفاً على الخطة التي اتبعها الإمامعليه‌السلام في مواجهة خطط المأمون ومؤامراته.. تلك الخطة التي كانت تكفي لأن لا تبقى الصورة التي أرادها المأمون في أذهان الناس، ولا مبرر للشكوك لأن تبقى تراود نفوسهم.

ولقد نجحت تلك الخطة نجاحا أذهل المأمون، وأعوانه، وجعلهم يتصرفون بلا روية، ويقعون بالمتناقضات.. حتى لقد أشرف المأمون منه على الهلاك. حسبما صرح به المأمون نفسه. وكانت النتيجة أن دبر فيه المأمون بما يحسم عنه مواد بلائه، كما وعد حميد بن مهران، وجماعة من العباسيين.

القسم الرابع

من خلال الأحداث

١ ـ مع بعض خطط المأمون..

٢ ـ كاد المريب أن يقول خذوني.

٣ ـ ما يقال حول وفاة الإمام..

٤ ـ دعبل والمأمون.

٥ ـ كلمة ختامية.

مع بعض خطط المأمون

التوجيهات الراضية غير مقبولة:

كل ما تقدم يلقي لنا ضوءاً على بعض نوايا المأمون مع الإمامعليه‌السلام ، وعلى كثير من الأحداث التي اكتنفت ذلك الحدث التاريخي الهام.

وإننا حتى لو سلمنا جدلاً، وغضضنا النظر عن كل تلك الأسئلة، وعلامات الاستفهام التي يمكن استخلاصها مما تقدم.. فإننا لا نستطيع ـ مع ذلك ـ أن نعتبر البيعة صادرة عن حسن نية، وسلامة طوية.

٣١١

ولا أن نقبل بالتوجيهات الراضية عن تصرفاته، طيلة فترة ولاية العهد، وبعدها تجاه الإمام، الذي كان يكبر المأمون بـ (٢٢‍) سنة، والذي كان مجبراً على قبول هذا الأمر، ومهددا بالقتل إن لم يقبل. ولم يتركه وشأنه ما دام أنه لا يريد أن يتقلد هذا الشرف الذي تتهافت النفوس عليه، وتزهق الأرواح من أجله.

نعم.. إننا لا نستطيع أن نسلم بذلك، ونحن نرى منه تلك التصرفات والمواقف المشبوهة، بل والمفضوحة تجاه الإمامعليه‌السلام ، والتي لا تبقي مجالاً للشك في حقيقة نواياه وأهدافه من كل ما أقدم وما كان عاقداً العزم على الإقدام عليه..

وهذا الفصل معقود للحديث عن بعض تلك التصرفات، ومن أجل بيان تلك الخطط.

المأمون يفضح نفسه:

وقد تعجب إذا قلنا لك: إن المأمون نفسه يصرح ببعض خططه، التي كانت تصرفاته تدور في فلكها، ويعلن بعض الدوافع، ويبوح ببعض النوايا تجاه الإمام، وبالنسبة لقضية ولاية العهد فإليك ما أجاب به حميد بن مهران، وجمعاً من العباسيين، عندما عاتبوه ولاموه على ما أقدم عليه، من البيعة للرضاعليه‌السلام يقول المأمون:

(.. قد كان هذا الرجل مستتراً عنا، يدعو إلى نفسه، فأردنا أن نجعله ولي عهدنا، ليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالملك والخلافة لنا، وليعتقد فيه المفتونون به بأنه ليس مما ادعى في قليل ولا كثير، وأن هذا الأمر لنا دونه.

وقد خشينا إن تركناه على تلك الحال: أن ينفتق علينا منه ما لا نسده، ويأتي علينا ما لا نطيقه..

والآن.. فإذ قد فعلنا به ما فعلنا، وأخطأنا في أمره بما أخطأنا. وأشرفنا من الهلاك بالتنويه باسمه على ما أشرفنا، فليس يجوز التهاون في أمره. ولكننا نحتاج إلى أن نضع منه قليلاً، قليلاً، حتى نصوره عند الرعية بصورة من لا يستحق هذا الأمر، ثم ندبر فيه بما يحسم عنا مواد بلائه..).

ثم طلب منه حميد بن مهران: أن يسمح له بمجادلة الإمامعليه‌السلام ، ليفحمه، وينزله منزلته، ويبين للناس قصوره، وعجزه، فقال المأمون: (لا شيء أحب إلي من هذا).

٣١٢

ثم كانت النتيجة عكس ما كان يتوقعه المأمون والعباسيون، وأشياعهم وباءوا كلهم بالفشل الذريع، والخيبة القاتلة(١) .

والذي يعنينا الحديث عنه هنا:

هو قوله: وقد خشينا إن تركناه على تلك الحال.. إلى آخر ما نقلناه عنه آنفاً، فإنها أوضحت أن المأمون الذي كان يخشى الإمام خشية شديدة، كان يخطط أولاً إلى أخذ زمام المبادرة من الإمام، وتحاشي الاصطدام معه ثم كان يخطط بعد ذلك إلى الوضع منهعليه‌السلام قليلاً قليلاً إلى آخر ما تقدم..

ولا يرد: أن كلام المأمون مع حميد بن مهران ظاهره: أنه لم يكن يريد في بادئ الأمر الحط من الإمامعليه‌السلام ، وإنما بدا له ذلك حين قوي مركز الإمامعليه‌السلام ، واستحكم أمره.. لا يرد ذلك..

لأن كلامه هذا لا ينفي أنه كان يريد من أول الأمر ذلك. بل هو يؤكد ذلك. لأنه يصرح فيه: أنه إنما قدم على ما أقدم عليه، عندما رأى افتتان الناس بهعليه‌السلام ، فأراد أن يعمل عملا يفقد الإمامعليه‌السلام مركزه، ويقضي على كل نشاطاته، ويذهب بماله من القدرة والنفوذ نهائياً، وإلى الأبد.

ولقد تحدثنا فيما سبق عن بعض تصرفاته التي تدور في فلك خطط تلك مثل: فرضه للرقابة على الإمامعليه‌السلام ، والتضييق عليه، فلا يصل إليه إلا من أحب، وعزله عن شيعته ومواليه، وأيضاً تفريقه الناس عنه، عندما أخبر أنه يقوم بمهمة التدريس، وكذلك قضية صلاة العيد، وغير ذلك ما تقدم.

____________

(١) راجع: شرح ميمية أبي فراس ص ١٩٦، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٧٠، والبحار ج ٤٩ ص ١٨٣، ومسند الإمام الرضا ج ٢ ص ٩٦.

٣١٣

نزيد هنا بعض الأمور الأخرى، التي وإن كان قد سبق الحديث عن بعضها، ولكنه كان حديثا من زاوية أخرى، ومن أجل استفادة أمور غير الأمور التي نحاول استفادتها منها هنا. وذلك أمر طبيعي، ولا يكون تكراراً ما دام أن الواقعة الواحدة قد يكون لها دلالات متعددة، وإفادات مختلفة.. ولذا فإننا نقول:

لماذا على البصرة فالأهواز:

إن من جملة الأمور التي كانت من جملة خطط المأمون للتأثير على مكانة الإمامعليه‌السلام وحتى على معنوياته النفسية.. الطريق الذي أمر رجاء ابن أبي الضحاك(١) قرابة الفضل بن سهل، والذي كان من قواد المأمون، وولاته ـ أمره ـ بسلوكه، عندما أرسله ليأتي بالإمامعليه‌السلام من المدينة إلى مرو مهما كلفه الأمر..

فقد أمره: أن يجعل طريقه بالإمام (على البصرة، والأهواز، ففارس. وحذره كثيراً من المرور على طريق الكوفة، والجبل، وقم)(٢) .

____________

(١) وذكر أبو الفرج، والمفيد: أن المرسل هو الجلودي، ولكن الصحيح هو الذي ذكرناه.. إذ من الخطأ أن يرسله المأمون لإحضار الرضاعليه‌السلام ، لأن ذلك يضر بقضيته، ويفسد عليه ما كان دبره، لأنه موجب لسوء ظن الرضاعليه‌السلام ، والعلويين، وسائر الناس، وتنبههم مبكرا لحقيقة الأمر، وواقع القضية.

وذلك لأن الجلودي هو الذي أمره الرشيد: أن يغير على دور آل أبي طالب، ويسلب نساءهم إلخ ما تقدم.. كما أنه كان عدواً متجاهراً للإمامعليه‌السلام ، وقد سجنه المأمون بسبب معارضته للبيعة للرضاعليه‌السلام بولاية العهد! ولعل سر خطأهم هو أن الجلودي كان والياً على المدينة من قبل المأمون، حين استقدام المأمون للإمام إلى مرو، حسبما جاء في كتاب: الإمام الرضا ولي عهد المأمون ص ٣٥.

(٢) تهذيب التهذيب ج ٧ ص ٣٨٧، وتاريخ اليعقوبي ج ٣ ص ١٧٦، وينابيع المودة ص ٣٨٤، والخرائج والجرائح طبعة حجرية ص ٢٣٦. وإثبات الوصية ص ٢٠٥.

وإعلام الورى ص ٣٢٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٩، ١٨٠، والكافي ج ١ ص ٤٨٦، ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ٤٠ والبحار ج ٤٩ ص ٩١، ٩٢ ١١٨ و ١٣٤، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٥، وغير ذلك كثير.

٣١٤

بل لقد ورد: أن المأمون قد كتب إلى الرضا نفسه، يقول له: (لا تأخذ على طريق الجبل وقم. وخذ على طريق البصرة، فالأهواز، ففارس..)(١) .

وسر ذلك واضح، فإن أهل الكوفة، وقم، كانوا معروفين بالتشيع للعلويين(٢) وأهل البيت، ومرور الإمام عليه‌السلام من هذين البلدين، وخصوصاً الكوفة، التي كانت تعتبر من المراكز الحساسة جداً في الدولة.. سوف يكون من نتيجته: أن يستقبله أهلها بما يليق بشأنه: من الإجلال، والإعزاز والتكريم.

____________

(١) أصول الكافي ج ١ ص ٤٨٩، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٤٩ و ١٨٠، وشرح ميمية أبي فراس ص ١٦٥، ومعادن الحكمة ص ١٨٠، وإثبات الوصية للمسعودي ص ٢٠٤، ومسند الإمام الرضا ج ١ ص ٧٣، والبحار ج ٤٩ ص ١٣٤.

(٢) تشيع أهل الكوفة وقم أشهر من أن يحتاج إلى بيان، أو إقامة برهان.. لكننا نورد ـ مع ذلك ـ بعض الشواهد، تبصرة للقارئ، فنقول: أما الكوفة: فقد تقدم قول محمد بن علي العباسي أنها وسوادها شيعة علي وولده.. وفي الطبري، وابن الأثير، وغيرهما تجد قول عبد الله بن علي للمنصور، عندما استشاره في أمر محمد بن عبد الله بن الحسن: (.. ارتحل الساعة حتى تأتي الكوفة، فاجثم على أكتافهم، فإنهم شيعة أهل هذا البيت، وأنصاره الخ)، وفي قضية وفاة السيد الحميري، التي ذكرها المرزباني في كتابه أخبار السيد الحميري دلالة واضحة على تشيع الكوفيين، وانحراف البصريين..

ولأجل ذلك نرى المأمون يستقبل وفدا من أهل الكوفة في منتهى الغلظة والجفاء، فراجع مروج الذهب ج ٣ ص ٤٢١. وفي البداية والنهاية ج ١٠ ص ٩٣: أن المنصور قد اعترف بأن لإبراهيم بن عبد الله بن الحسن في الكوفة مئة ألف سيف مغمدة، وأعرب عن مخاوفه من تشيع أهل الكوفة للعلويين، وولائهم لهم.. بل إننا لا نستبعد أن يكون بناء المنصور لبغداد هو من أجل أن يبتعد عن الكوفة، وأهلها، ويأمن على نفسه، قال البلاذري في فتوح البلدان ص ٤٠٥: (أخذ المنصور أهل الكوفة بحفر خندقها. وألزم كل امرئ للنفقة عليه أربعين درهما. وكان ذاما لهم. لميلهم إلى الطالبيين، وإرجافهم بالسلطان..) وقد تقدم أنه عندما ذهب إليهم العباس بن موسى، أخو الإمام الرضاعليه‌السلام يدعوهم للبيعة، لم يجبه إلا البعض منهم، وقال له آخرون: (إن كنت تدعو للمأمون، ثم من بعده لأخيك، فلا حاجة لنا في دعوتك. وإن كنت تدعو إلى أخيك، أو بعض أهل بيتك، أو إلى نفسك أجبناك..).

وعلى كل حال.. فقد كانت الكوفة مصدرا لثورات كثيرة على الأمويين والعباسيين على حد سواء، تلك الثورات التي كانت كلها تقريباً بقيادة علوي، أو داعية إلى علوي..

ولم ينس المأمون بعد ثورة أبي السرايا التي كادت تغير الموازين، وتقلب مجريات الأحداث.. إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه واستقصائه. =

٣١٥

= وأما تشيع القميين، فذلك أعرف وأشهر. وقضيتهم مع جبة دعبل التي أهداه إياه الإمام لا يكاد يجهلها أحد. وعندما طلب المأمون من الريان أن يحدث بفضائل عليعليه‌السلام ، وأجاب بأنه لا يحسن شيئاً، قال المأمون: (سبحان الله! ما أجد أحداً يعينني على هذا الأمر لقد هممت أن أجعل أهل قم شعاري ودثاري).

ولعل تشيع أهل قم هذا هو الذي دفع بالمأمون لأن يوجه إليهم عامله علي بن هشام، لينكل بهم، ويحاربهم حتى يهزمهم، ويدخل البلد، ويهدم سورها، ويجعل على أهلها مبلغ سبعة ملايين درهم، بدلا من مليونين، وهو ما لم يكن يدفعه أي بلد آخر يضاهي بلدهم في عدد السكان وغير ذلك من المميزات، فكيف بالسبعة.. ومع أنه كان قد خفض الخراج عن السواد، وبعد البلدان الأخرى، فلما سمعوا بذلك طالبوا بتخفيض الخراج عنهم أيضاً، ففعل ذلك.. وكان تخفيضه عنهم بزيادة المليونين إلى سبعة، كما قلنا.. راجع في تفصيل ذلك: الطبري ج ١١ ص ١٠٩٣، والكامل لابن الأثير ج ٥ ص ٢١٢، وتاريخ ابن خلدون ج ٣ ص ٢٥٥، والنجوم الزاهرة ج ٢ ص، ١٩٠ وتاريخ التمدن الإسلامي مجلد ١ جزء ٢ ص ٣٣٧، وفتوح البلدان للبلاذري ص ٤٤٠، وتجارب الأمم ج ٦ ص ٤٦٠.

٣١٦

ولا شك أن الإمامعليه‌السلام سوف يستطيع أن يستقطب المزيد من الناس، ويؤثر عليهم بما حباه الله من الفضائل والكمالات الأخلاقية، وبما آتاه الله من العلم والحكمة، والورع والتقوى، الذي سار ذكره في الآفاق، حتى لا يكاد يجهله أحد.. وإذا كان أهل نيشابور، بل وحتى أهل مرو، معقل العباسيين والمأمون، قد كان منهم تجاه الإمام ما لا يجهله أحد. حتى إنهم كانوا بين صارخ، وباك ومتمرغ في التراب إلخ.. وحتى لقد خاف المأمون وأشياعه على دمائهم ـ إذا كان هؤلاء هكذا ـ فكيف ترى سوف تكون حالة أهل الكوفة وقم، معقلي العلويين، والمحبين لأهل البيت، والمتفانين فيهم، لو أنهم رأوا الإمامعليه‌السلام بينهم، وبالقرب منهم..

يقول الراوندي في ذلك: (إن المأمون أمر رجاء بن أبي الضحاك: أن لا يمر بالإمام عن طريق الكوفة، لئلا يفتتن به أهلها..)(١) !.

والمأمون لا يريد أن يفتتن الناس بالإمام، وإنما الذي يريده هو عكس ذلك تماماً.. إنه يريد أن يضع من الإمام لا أن يرفع.

أما أهل البصرة: فعثمانية، يدينون بالكف، ويقولون: كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل.. بل لقد كانت البصرة معقلاً مهما للعباسيين، الذين حرق دورهم زيد النار، ابن الإمام الكاظمعليه‌السلام ، كما قدمنا، ولهذا نلاحظ: أن دور البصريين في التشيع لم يكن يضارع دور غيرهم، لا روائياً، ولا كلامياً..

وأما ما ربما يحتمله البعض: من أن المأمون كان يأمل أن يخرج من البصرة، أو غيرها من يخلصه من الإمامعليه‌السلام نهائياً.. فلا أرى أنه يتفق مع أهداف وأغراض المأمون، التي كان يرمي إليها من وراء لعبته تلك..

____________

(١) الخرائج والجرائح، طبعة حجرية ص ٢٣٦.

٣١٧

الإمام يرفض كل مشاركة تعرض عليه:

إنه برغم شروط الإمام على المأمون، والتي أشرنا إليها فيما سبق، فإننا نرى المأمون كل مدة يحاول أن يجري اختبارا للإمام، ليعرف حقيقة نواياه، وأنه هل أصبح له طمع بالخلافة، وطموح لها(١) ، ليعجل عليه بما يحسم عنه مواد بلائه.. أم لا. فكان يأتي كل مدة إليه، يطلب منه أن يولي فلانا، أو أن يعزل فلاناً، أو أن يصلي بالناس.. بل لقد طلب منه بعد مقتل الفضل أن يساعده في إدارة شؤون الخلافة(٢) بحجة أنه يعجز وحده أن يقوم بأعباء الحكم. ويدير دفة السلطان!

هذا.. إن لم نقل: أنه كان يريد من وراء ذلك: أن يجعل ذلك ذريعة للقضاء على الإمام، بحجة أنه نقض الشرط، وليكون بذلك قد قضى على العلويين جميعاً، وإلى الأبد.

أو على الأقل كان يريد بذلك: أن يوجد للإمام أعداء في الأوساط ذات القوة والنفوذ..

وأياً ما كانت نوايا المأمون وأهدافه، فإن الإمامعليه‌السلام كان يرفض ذلك كله بكل عزم وإصرار، ويذكره بالشروط تلك، ويقول له:((إن وفيت لي وفيت لك)) . وهذا تهديد صريح له من الإمامعليه‌السلام . ولا نعجب كثيراً ـ بعد أن اتضحت لنا نوايا المأمون وأهدافه ـ إذا رأينا المأمون يتحمل هذا التهديد، بل ويخضع له، ويقول: (بل أفي لك)!.

وهكذا.. فقد كان الإمامعليه‌السلام يضيع على المأمون ما كان يحسب أنه فرصة مؤاتية له، ولا يمكنه من معرفة ما يريد معرفته، ولا من تنفيذ ما يريد تنفيذه.

____________

(١) وما أشبه الليلة بالبارحة، فقد رأينا الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، يسأل ابن عباس عن عليعليه‌السلام : إن كان لا يزال يطمح إلى الخلافة، ويأمل فيها.. أم لا!.

(٢) الكافي ج ٨ ص ١٥١، وكشف الغمة ج ٣ ص ٦٨ و ٨٧، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٦٤ و ١٦٦ و ١٦٧ والبحار ج ٤٩ ص ١٤٤ و ١٥٥ و ١٧١، وغير ذلك.

٣١٨

الاختبار لشعبية الإمامعليه‌السلام :

كما أنه كان كل مدة يقوم بعملية اختبار لشعبية الإمامعليه‌السلام ، ولمدى ما يتمتع به من تأييد في الأوساط الشعبية، ليعرف إن كان أصبحعليه‌السلام يشكل خطراً حقيقياً، ليعجل بالقضاء عليه أم لا.. فكان كل مدة يكلفه بأن يؤم الناس بالصلاة للعيد. أو ما شاكل.. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى ما يعتمر قلب المأمون من الخوف والخشية منهعليه‌السلام . (راجع: السبب الثالث من فصل البيعة، والموقف العاشر في فصل: خطة الإمامعليه‌السلام ).

سؤال.. وجوابه:

ولعلك تقول: إذا كان المأمون يخشى الإمامعليه‌السلام إلى هذا الحد، لما يعلمه من نفوذه ومكانته، فلماذا لا يتخلص منه بذلك الأسلوب التقليدي الذي انتهجه أسلافه من الأمويين، والعباسيين، وتبعهم عليه هو فيما بعد، وكذلك من أتى بعده.. وذلك بأن يدس إليه شربة من السم، وهو في المدينة، من دون أن يحتاج إلى اشخاصه إلى مرو، والبيعة له بولاية العهد، وتزويجه ابنته، إلى غير ذلك من الأمور التي من شأنها أن تعزز من مركز الإمام، وترفع من شأنه، وتوجه إليه الأنظار والقلوب، حتى يضطر في نهاية الأمر لأن يعود إلى ما جرت عليه عادة أسلافه، وأتباعه..

ولكن الجواب على هذا قد اتضح مما قدمناه، فإن المأمون لم يكن يريد في بادئ الأمر موت الإمام، ولا كان يستطيع أن يفعل ذلك.

ولو أن ذلك كان قد حدث لوقع المأمون في ورطة، لها أول وليس لها آخر، حيث إنه كان بأمس الحاجة إلى حياة الإمامعليه‌السلام ، وذلك لما قدمناه من الأسباب والظروف التي كانت تحتم على المأمون أن يلعب لعبته تلك، التي وإن كانت تنطوي على مخاطرة جريئة، إلا أنه كان ـ كما قدمنا ـ قد رسم الخطة، وأحكم التدبير للتخلص من الإمامعليه‌السلام بمجرد أن يحقق مآربه، وأهدافه، بالطريقة التي لا تثير شك أحد، ولا توجب تهمة أحد، وقد حدث ذلك بالفعل، كما سيمر علينا..

وأما كتمه لفضائل الإمامعليه‌السلام :

ومن جملة الأمور التي كانت تدور في فلك خطة المأمون، التي لخصها بأنه يريد الوضع من الإمام قليلاً قليلا، حتى يصوره أمام الرعية بصورة من لا يستحق لهذا الأمر ـ محاولاته كتم فضائل الإمامعليه‌السلام ومزاياه عن الناس ما استطاع إلى ذلك سبيلاً..

٣١٩

وقد تقدم: أنه عندما سأل رجاء بن أبي الضحاك، الذي تولى إشخاص الرضاعليه‌السلام من المدينة إلى مرو، عن حال الرضاعليه‌السلام في الطريق، فأخبره عما شاهده من عبادتهعليه‌السلام ، وزهده وتقواه، وما ظهر له من الدلائل والبراهين، قال له المأمون: (.. بلى يا ابن أبي الضحاك، هذا خير أهل الأرض، وأعلمهم، وأعبدهم، فلا تخبر أحداً بما شهدت منه، لئلا يظهر فضله إلا على لساني..)!.

وهكذا: فإن المأمون وإن استطاع أن يمرر الكثير، إلا أنه لم يكن يجد بداً في كثير من الأحيان من أن يظهر على حقيقته وواقعه. وهذا هو أحد تلك المواقف التي مرت وسيمر معنا بعضها، والتي اضطر فيها المأمون لأن يكشف عن وجهه الحقيقي،.. وإن كان قد حاول ـ مع ذلك ـ أن يتستر بما لا يسمن ولا يغني من جوع.

ولا أعتقد أن المأمون كان يجهل: أن ما يأتي به لم يكن لينطلي كله على أعين الناس، بل كان يعلم ذلك حق العلم، ولكن كما يقولون: (الغريق يتشبث بالطحلب).

ولكن.. بالرغم من محاولات المأمون تلك.. فإننا نرى أن فضائل الإمام ومزاياه كانت كالعرف الطيب، لم تزل تظهر، وتنتشر وتذاع.. بل ولعل محاولات المأمون تلك التي كانت ترمي للحط من الإمام وإسقاطه، قد أسهمت كثيراً وساعدت على إظهار فضائله، وشيوعها، كما سيتضح.

الشائعات الكاذبة!

وكان بالإضافة إلى ما تقدم يحاول ترويج شائعات كاذبة، من شأنها أن تنفر الناس من العلويين عامة، ومن الإمامعليه‌السلام ، وسائر الأئمةعليهم‌السلام خاصة.

فهذا أبو الصلت يسأل الإمامعليه‌السلام فيقول: (يا ابن رسول الله، ما شيء يحكيه الناس عنكم؟!.

قالعليه‌السلام :((ما هو؟!.

قال: يقولون: إنكم تدعون: أن الناس لكم عبيد!.

قالعليه‌السلام :يا عبد السلام، إذا كان الناس كلهم عبيدنا ـ على ما حكوه ـ فممن نبيعهم)) ؟! إلخ(١) .

____________

(١) مسند الإمام الرضا ج ١ قسم ١ ص ٤٥، والبحار ج ٤٩ ص ١٧٠، وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ١٨٤.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394