مقتل العباس (عليه السلام)

مقتل العباس (عليه السلام)15%

مقتل العباس (عليه السلام) مؤلف:
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 394

  • البداية
  • السابق
  • 394 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 77250 / تحميل: 11579
الحجم الحجم الحجم
مقتل العباس (عليه السلام)

مقتل العباس (عليه السلام)

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

للبطش بالمسلمين والفتك بهم.

وكما قلنا سابقا ، فإنّ هذه الطائفة هي الوحيدة من الطوائف الثلاث (بنو القينقاع ، وبنو النضير ، وبنو قريظة) التي بقيت في المدينة عند نشوب معركة الأحزاب ، فقد طردت الطائفتان الأوّليان في السنة الثّانية والرّابعة للهجرة ، وكان يجب أن تعاقب هذه الطائفة على أعمالها الخبيثة وجرائمها ، لأنّها كانت أوقح من الجميع وأكثر علانية في نقضها لميثاقها واتّصالها بأعداء الإسلام.

٢ ـ أحداث غزوة بني قريظة

قلنا : إنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد امر بعد انتهاء معركة الأحزاب مباشرة أن يحاسب بني قريظة على أعمالهم ، ويقال : إنّ المسلمين قد تعجّلوا الوصول إلى حصون بني قريظة بحيث إنّ البعض قد غفل عن صلاة العصر فاضطّروا إلى قضائها فيما بعد ، فقد أمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن تحاصر حصونهم ، ودام الحصار خمسة وعشرين يوما ، وقد ألقى اللهعزوجل الرعب الشديد في قلوب اليهود ، كما يتحدّث القرآن عن ذلك.

فقال «كعب بن أسد» ـ وكان من زعماء اليهود ـ : إنّي على يقين من أنّ محمّدا لن يتركنا حتّى يقاتلنا ، وأنا أقترح عليكم ثلاثة امور اختاروا أحدها :

إمّا أن نبايع هذا الرجل ونؤمن به ونتّبعه ، فإنّه قد ثبت لكم أنّه نبي الله ، وأنتم تجدون علاماته في كتبكم ، وعند ذلك ستصان أرواحكم وأموالكم وأبناؤكم ونساؤكم ، فقالوا : لا نرجع عن حكم التوراة أبدا ، ولا نقبل بدلها شيئا.

قال : فإذا رفضتم ذلك ، فتعالوا نقتل نساءنا وأبناءنا بأيدينا حتّى يطمئن بالنا من قبلهم ، ثمّ نسلّ السيوف ونقاتل محمّدا وأصحابه ونرى ما يريده الله ، فإن قتلنا لم نقلق على أبنائنا ونسائنا ، وإن انتصرنا فما أكثر النساء والأولاد. فقالوا : أنقتل هؤلاء المساكين بأيدينا؟! إذن لا خير في حياتنا بعدهم.

قال كعب بن أسد : فإن أبيتم هذا أيضا فإنّ الليلة ليلة السبت ، وأنّ محمّدا

٢٢١

وأصحابه يظنون أنّنا لا نهجم عليهم الليلة ، فهلمّوا نبيّتهم ونباغتهم ونحمل عليهم لعلّنا ننتصر عليهم. فقالوا : ولا نفعل ذلك ، لأنّا لا نهتك حرمة السبت أبدا.

فقال كعب : ليس فيكم رجل يعقل ليلة واحدة منذ ولدته امّه.

بعد هذه الحادثة طلبوا من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يرسل إليهم «أبا لبابة» ليتشاوروا معه ، فلمّا أتاهم ورأى أطفال اليهود يبكون أمامه رقّ قلبه ، فقال الرجال : أترى لنا أن نخضع لحكم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ فقال أبو لبابة : نعم ، وأشار إلى نحره ، أي إنّه سيقتلكم جميعا!

يقول أبو لبابة : ما إن تركتهم حتّى انتبهت لخيانتي ، فلم آت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مباشرة ، بل ذهبت إلى المسجد وأوثقت نفسي بعمود فيه وقلت : لن أبرح مكاني حتّى يقبل الله توبتي ، فقبل الله توبته لصدقه وغفر ذنبه وأنزل( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ) .(١)

وأخيرا اضطرّ بنو قريظة إلى أن يستسلموا بدون قيد أو شرط ، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : «ألا ترضون أن يحكم فيكم سعد بن معاذ»؟ قالوا : بلى ،فقال سعد : قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم.

ثمّ أخذ سعد الإقرار من اليهود مجدّدا بأنّهم يقبلون بما يحكم ، وبعدها التفت إلى حيث كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله واقفا فقال : حكمي فيهم نافذ؟ قال : نعم ، فقال : انّني أحكم بقتل رجالهم المحاربين ، وسبي نسائهم وذراريهم ، وتقسيم أموالهم.

وقد أسلم جمع من هؤلاء فنجوا(٢) .

٣ ـ نتائج غزوة بني قريظة

إنّ الإنتصار على أولئك القوم الظالمين العنودين قد حمل معه نتائج مثمرة للمسلمين ، ومن جملتها :

__________________

(١) سورة التوبة ، الآية ١٠٢.

(٢) سيرة ابن هشام ، المجلّد ٣ ، صفحة ٢٤٤ وما بعدها ، والكامل لابن الأثير ، ج ٢ ، ص ١٨٥ وما بعدها بتلخيص.

٢٢٢

أ ـ تطهير الجبهة الداخلية للمدينة ، واطمئنان المسلمين وتخلّصهم من جواسيس اليهود.

ب ـ سقوط آخر دعامة لمشركي العرب في المدينة ، وقطع أملهم من إثارة القلاقل والفتن داخليا.

ج ـ تقوية بنية المسلمين المالية بواسطة غنائم هذه الغزوة.

د ـ فتح آفاق جديدة للانتصارات المستقبلية ، وخاصة فتح «خيبر».

ه ـ تثبيت مكانة الحكومة الإسلامية وهيبتها في نظر العدوّ والصديق ، في داخل المدينة وخارجها.

٤ ـ الآيات وتعبيراتها العميقة!

إنّ من جملة التعبيرات التي تلاحظ في الآيات أعلاه أنّها تقول في مورد قتلى هذه الحرب :( فَرِيقاً تَقْتُلُونَ ) أي أنّها قدّمت (فريقا) على (تقتلون) في حين أنّها أخّرت (فريقا) عن الفعل «تأسرون»!

وقال بعض المفسّرين في تفسير ذلك : إنّ سبب هذا التعبير هو التأكيد على الأشخاص في مسألة القتلى ، لأنّ رؤساءهم كانوا في جملة القتلى ، أمّا الأسرى فإنّهم لم يكونوا أناسا معروفين ليأتي التأكيد عليهم. إضافة إلى أنّ هذا التقديم والتأخير أدّى إلى أن يقترن «القتل والأسر» ـ وهما عاملا الإنتصار على العدو ـ ويكون أحدهما إلى جنب الآخر ، مراعاة للانسجام بين الأمرين أكثر.

وكذلك ورد إنزال اليهود من «صياصيهم» قبل جملة :( وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ) في حين أنّ الترتيب الطبيعي على خلاف ذلك ، أي أنّ الخطوة الاولى هي إيجاد الرعب ، ثمّ إنزالهم من الحصون المنيعة. وسبب هذا التقديم والتأخير هو أنّ المهمّ بالنسبة للمسلمين ، والمفرّح لهم ، والذي كان يشكّل الهدف الأصلي هو تحطيم هذه القلاع المحصّنة جدّا.

٢٢٣

والتعبير بـ( أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ ) يبيّن حقيقة أنّ الله سبحانه قد سلّطكم على أراضيهم وديارهم وأموالهم دون أن تبذلوا كثير جهد في هذه الغزوة.

وأخيرا فإنّ التأكيد على قدرة اللهعزوجل في آخر آية :( وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً ) إشارة إلى أنّه سبحانه قد هزم الأحزاب بالرياح والعواصف والجنود الغيبيين يوما ، وهزم ناصريهم ـ أي يهود بني قريظة ـ بجيش الرعب والخوف يوما آخر.

* * *

٢٢٤

الآيات

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١) )

سبب النّزول

ذكر المفسّرون أسباب نزول عديدة للآيات أعلاه ، وهي لا تختلف عن بعضها كثيرا من جهة النتيجة.

ويستفاد من أسباب النّزول هذه أنّ نساء النّبي قد طلبن منه طلبات مختلفة فيما يتعلّق بزيادة النفقة ، أو لوازم الحياة المختلفة ، بعد بعض الغزوات التي وفّرت للمسلمين غنائم كثيرة.

٢٢٥

وطبقا لنقل بعض التفاسير فإنّ «أمّ سلمة» طلبت من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله خادما لها ، وطلبت «ميمونة» حلّة ، وأرادت «زينب بنت جحش» قماشا يمنيا خاصّا ، و «حفصة» لباسا مصريا ، و «جويرية» لباسا خاصّا ، و «سودة» بساطا خيبريا! والنتيجة أنّ كلا منهنّ طلبت شيئا. فامتنع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عن تلبية طلباتهنّ ، وهو يعلم أنّ الاستسلام أمام هذه الطلبات التي لا تنتهي سيحمل معه عواقب وخيمة ، واعتزلهنّ شهرا ، فنزلت الآيات أعلاه وخاطبتهنّ بنبرة التهديد والحزم الممتزج بالرأفة والرحمة ، بأنكنّ إن كنتنّ تردن حياة مملوءة بزخارف الدنيا وزبارجها فبإمكانكن الانفصال عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والذهاب إلى حيث تردن ، وإن فضّلتنّ علاقتكنّ بالله ورسوله واليوم الآخر ، واقتنعتنّ بحياة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله البسيطة والباعثة على الفخر ، فابقين معه ، وتنعمنّ بمواهب الله العظيمة.

بهذا الجواب القاطع أجابت الآيات نساء النّبي اللائي كن يتوقّعن رفاهية العيش ، وخيّرتهنّ بين «البقاء» مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله و «مفارقته».

* * *

التّفسير

أمّا السعادة الخالدة أو زخارف الدنيا!

لم يعزب عن أذهانكم أنّ الآيات الاولى من هذه السورة قد توّجت نساء النّبي بتاج الفخر حيث سمّتهنّ بـ (أمهات المؤمنين) ومن البديهي أنّ المناصب والمقامات الحسّاسة التي تبعث على الفخر تصاحبها مسئوليات ثقيلة ، فكيف يمكن أن تكون نساء النّبي امّهات المؤمنين وقلوبهنّ وأفكارهنّ مشغولة بحبّ الدنيا ومغرياتها؟

وهكذا ظننّ ، فإنّ الغنائم إذا سقطت في أيدي المسلمين فلا شكّ أنّ نصيبهنّ سيكون أفخرها وأثمنها كبقيّة نساء الملوك والسلاطين ، ويعطى لهنّ ما ناله

٢٢٦

المسلمون بتضحيات الفدائيين الثائرين ودماء الشهداء الطاهرة ، في الوقت الذي يعيش هنا وهناك أناس في غاية العسرة والشظف.

وبغضّ النظر عن ذلك ، فإنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يجب أن لا يكون لوحده أسوة للناس بحكم الآيات السابقة ، بل يجب أن تكون عائلته أسوة لباقي العوائل أيضا ، ونساؤه قدوة للنساء المؤمنات حتّى تقوم القيامة ، فليس النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ملكا وإمبراطورا ليكون له جناح خاصّ للنساء ، ويغرق نساءه بالحليّ والمجوهرات الثمينة النفيسة.

وربّما كان هناك جماعة من المسلمين المهاجرين الذين وردوا المدينة لا يزالون يقضون ليلهم على الصفّة (وهي مكان خاصّ كان إلى جنب مسجد النّبي) حتّى الصباح ، ولم يكن لهم في تلك المدينة أهل ولا دار ، وفي مثل هذه الأحوال لا يمكن أن يسمح النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأزواجه أن يتوقّعن كلّ تلك الرفاهية والتوقّعات الاخرى.

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ بعض أزواجه قد كلّمنه بكلام خشن جاف ، حتّى أنّهنّ قلن : لعلّك تظنّ إن طلّقتنا لا نجد زوجا من قومنا غيرك(١) . هنا امر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يواجه هذه المسألة بحزم تامّ ، ويوضّح لهنّ حاله الدائمي ، فخاطبت الآية الاولى من الآيات أعلاه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وقالت :( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً ) .

«امتّعكن» من مادّة متعة ، وكما قلنا في الآية (٢٣٦) من سورة البقرة ، فإنّها تعني الهدية التي تلائم أحوال المرأة. والمراد هنا المقدار المناسب الذي يضاف على المهر ، وإن لم يكن المهر معيّنا فإنّه يعطيها هدية لائقة بحالها بحيث ترضيها وتسرّها ، ويتمّ طلاقها وفراقها في جوّ هادئ مفعم بالحبّ.

«السراح» في الأصل من مادّة (سرح) أي الشجرة التي لها ورق وثمر ، و

__________________

(١) كنز العرفان ، المجلّد ٢ ، ص ٢٣٨.

٢٢٧

«سرّحت الإبل» ، أي : أطلقتها لتأكل من الأعشاب وأوراق الشجر ، ثمّ أطلقت بمعنى أوسع على كلّ نوع من السراح ولكلّ شيء وشخص ، وتأتي أحيانا كناية عن الطلاق ، ويطلق (تسريح الشعر) على تمشيط الشعر وترجيله ، وفيه معنى الإطلاق أيضا. وعلى كلّ حال فإنّ المراد من «السراح الجميل» في الآية طلاق النساء وفراقهنّ فراقا مقترنا بالإحسان ، وليس فيه جبر وقهر.

وللمفسّرين وفقهاء المسلمين هنا بحث مفصّل في أنّه هل المراد من هذا الكلام أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد خيّر نساءه بين البقاء والفراق ، وإذا ما انتخبن الفراق فإنّه يعتبر طلاقا بحدّ ذاته فلا يحتاج إلى إجراء صيغة الطلاق؟ أم أنّ المراد هو أنّهنّ يخترن أحد السبيلين ، فإن أردن الفراق أجرى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله صيغة الطلاق ، وإلّا يبقين على حالهنّ؟

ولا شكّ أنّ الآية لا تدلّ على أيّ من هذين الأمرين ، وما تصوّره البعض من أنّ الآية شاهد على تخيير نساء النّبي ، وعدّوا هذا الحكم من مختصّات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنّه لا يجري في سائر الناس ، لا يبدو صحيحا ، بل إنّ الجمع بين الآية أعلاه وآيات الطلاق يوجب أن يكون المراد الفراق عن طريق الطلاق.

وهذه المسألة مورد نقاش بين فقهاء الشيعة والسنّة ، إلّا أنّ القول الثّاني ـ أي الفراق عن طريق الطلاق ـ يبدو أقرب لظواهر الآيات ، إضافة إلى أنّ لتعبير (أسرحكنّ) ظهورا في أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقدّم على تسريحهنّ ، خاصّة وأنّ مادّة «التسريح» قد استعملت بمعنى الطلاق في موضع آخر من القرآن الكريم (سورة البقرة / الآية ٢٢٩)(١) .

وتضيف الآية التالية :( وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً ) .

__________________

(١) طالع التوضيح الأكثر في هذا الباب في الكتب الفقهية ، وخاصة كتاب الجواهر ، المجلّد ٢٩ ، صفحة ١٢٢ وما بعدها.

٢٢٨

لقد جمعت هذه الآية كلّ أسس الإيمان وسلوكيات المؤمن ، فمن جهة عنصر الإيمان والإعتقاد بالله والرّسول واليوم الآخر ، ومن جهة اخرى البرنامج العملي وكون الإنسان في صفّ المحسنين والمحسنات ، وبناء على هذا فإنّ إظهار عشق الله وحبّه ، والتعلّق بالنّبي واليوم الآخر لا يكفي لوحده ، بل يجب أن تنسجم البرامج العملية مع هذا الحبّ والعشق.

وبهذا فقد بيّن الله سبحانه تكليف نساء النّبي وواجبهنّ في أن يكنّ قدوة وأسوة للمؤمنات على الدوام ، فإن هنّ تحلين بالزهد وعدم الاهتمام بزخارف الدنيا وزينتها ، واهتممن بالإيمان والعمل الصالح وتسامي الروح ، فإنّهن يبقين أزواجا للنبي ويستحقّنّ هذا الفخر ، وإلّا فعليهنّ مفارقته والبون منه.

ومع أنّ المخاطب في هذه الآية هو نساء النّبي إلّا أنّ محتوى الآيات ونتيجتها تشمل الجميع ، وخاصّة من كان في مقام قيادة الناس وإمامتهم وأسوة لهم ، فإنّ هؤلاء على مفترق الطرق دائما ، فإمّا أن يستغلّوا المنصب الظاهري للوصول إلى الحياة المادية المرفّهة ، أو البقاء على حرمانهم لنوال رضى الله سبحانه وهداية خلقه.

ثمّ تتناول الآية التالية بيان موقع نساء النّبي أمام الأعمال الصالحة والطالحة ، وكذلك مقامهنّ الممتاز ، ومسئولياتهنّ الضخمة بعبارات واضحة ، فتقول :( يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً ) .

فأنتنّ تعشن في بيت الوحي ومركز النبوّة ، وعلمكنّ بالمسائل الإسلامية أكثر من عامّة الناس لارتباطكنّ المستمر بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ولقائه ، إضافة إلى أنّ الآخرين ينظرون إليكنّ ويتّخذون أعمالكنّ نموذجا وقدوة لهم. بناء على هذا فإنّ ذنبكنّ أعظم عند الله ، لأنّ الثواب والعقاب يقوم على أساس المعرفة ، ومعيار العلم ، وكذلك مدى تأثير ذلك العمل في البيئة ، فإنّ لكنّ حظّا أعظم من العلم ، ولكنّ موقع

٢٢٩

حسّاس له تأثيره في المجتمع.

ويضاف إلى ذلك أنّ مخالفتكنّ تؤذي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من جهة ، ومن جهة اخرى توجّه ضربة إلى كيانه ومركزه ، ويعتبر هذا بحدّ ذاته ذنبا آخر ، ويستوجب عذابا آخر.

والمراد من «الفاحشة المبيّنة» الذنوب العلنية ، ونعلم أنّ المفاسد التي تنجم عن الذنوب التي يقترفها أناس مرموقون تكون أكثر حينما تكون علنية.

ولنا بحث في مورد «الضعف» و «المضاعف» سيأتي في البحوث.

أمّا قولهعزوجل :( وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً ) فهو إشارة إلى أن لا تظنّن أنّ عذابكنّ وعقابكنّ عسير على الله تعالى ، وأنّ علاقتكنّ بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ستكون مانعة منه ، كما هو المتعارف بين الناس حيث يغضّون النظر عن ذنوب الأصدقاء والأقرباء ، أو يعيرونها أهميّة قليلة كلّا ، فإنّ هذا الحكم سيجري في حقّكنّ بكلّ صرامة.

أمّا في الطرف المقابل ، فتقول الآية :( وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً ) .

«يقنت» من القنوت ، وهو يعني الطاعة المقرونة بالخضوع والأدب(١) ، والقرآن يريد بهذا التعبير أن يأمرهنّ بأن يطعن الله ورسوله ، ويراعين الأدب مع ذلك تماما.

ونواجه هنا هذه المسألة مرّة اخرى ، وهي أنّ مجرّد ادّعاء الإيمان والطاعة لا يكفي لوحده ، بل يجب أن تلمس آثاره بمقتضى( وَتَعْمَلْ صالِحاً ) .

«الرزق الكريم» له معنى واسع يتضمّن كلّ المواهب المادية والمعنوية ، وتفسيره بالجنّة باعتبارها مجمعا لكلّ هذه المواهب.

* * *

__________________

(١) المفردات للراغب ، مادّة قنوت.

٢٣٠

بحث

لما ذا يضاعف ثواب وعقاب المرموقين؟

قلنا : إنّ هذه الآيات وإن كانت تتحدّث عن نساء النّبي بأنّهنّ إن أطعن الله فلهنّ أجر مضاعف ، وإن ارتكبن ذنبا مبيّنا فلهنّ عذاب الضعف بما اكتسبن ، إلّا أنّ الملاك والمعيار الأصلي لما كان امتلاك المقام والمكانة المرموقة ، والشخصية الاجتماعية البارزة ، فإنّ هذا الحكم صادق في حقّ الأفراد الآخرين الذين لهم مكانة ومركز اجتماعي مهمّ.

إنّ مثل هؤلاء الأفراد لا يرتبط سلوكهم وتصرفاتهم بهم خاصّة ، بل إنّ لوجودهم بعدين : بعد يتعلّق بهم ، وبعد يرتبط بالمجتمع ، ويمكن أن يكون نمط حياتهم سببا لهداية جماعة من الناس ، أو ضلال اخرى.

بناء على هذا فإنّ لأعمالهم أثرين : أحدهما فردي ، والآخر اجتماعي ، ولكلّ منهما ثواب وعقاب بهذا اللحاظ ، ولذلك نقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد»(١) !

ومضافا إلى ذلك ، فإنّ العلاقة وثيقة بين مستوى العلمية ومقدار الثواب والعقاب ، كما ورد ذلك في بعض الأحاديث الشريفة ، حيث نقرأ : «إنّ الثواب على قدر العقل»(٢) .

وجاء في حديث آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام : «إنّما يداقّ الله العباد في الحساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا»(٣) .

بل ورد في رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام : إذا بلغت النفس هاهنا ـ وأشار بيده إلى حلقه ـ لم يكن للعالم توبة ، ثمّ قرأ :( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ

__________________

(١) اصول الكافي ، المجلد الأول ، ص ٣٧ باب لزوم الحجة على العالم.

(٢) اصول الكافي ، الجزء الأول ، صفحة ٩ كتاب العقل والجهل.

(٣) المصدر السابق.

٢٣١

بِجَهالَةٍ ) (١) .

ومن هنا يتّضح أنّه ربّما كان معنى المضاعف والمرتين هنا هو الزيادة ، فقد تكون ضعفين حينا ، وتكون أضعافا مضاعفة حينا آخر ، تماما كما في الأعداد التي لها صفة التكثير ، خاصّة وأنّ الراغب يقول في مفرداته في معنى الضعف : ضاعفته : ضممت إليه مثله فصاعدا ـ تأمّلوا بدقّة ـ

والرواية التي ذكرناها قبل قليل حول التفاوت بين ذنب العالم والجاهل إلى سبعين ضعفا شاهد آخر على هذا الادّعاء.

إنّ تعدّد مراتب الأشخاص واختلاف تأثيرهم في المجتمع نتيجة اختلاف مكاناتهم الاجتماعية ، وكونهم أسوة يوجب أن يكون الثواب والعقاب الإلهي بتلك النسبة.

وننهي هذا البحث بحديث عن الإمام السجّاد عليّ بن الحسينعليهما‌السلام ، وذلك أنّ رجلا قال له : إنّكم أهل بيت مغفور لكم ، فغضب الإمام وقال : «نحن أحرى أن يجري فينا ما أجرى الله في أزواج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من أن نكون كما تقول ، إنّا نرى لمحسننا ضعفين من الأجر ، ولمسيئنا ضعفين من العذاب ، ثمّ قرأ الآيتين»(٢) .

* * *

__________________

(١) اصول الكافي ، المجلّد الأوّل ، صفحة ٣٨ باب لزوم الحجّة على العالم ، والآية (١٧) من سورة النساء.

(٢) مجمع البيان ، المجلّد ٨ ، صفحة ٣٥٤ ذيل الآية مورد البحث.

٢٣٢

الآيات

( يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤) )

التّفسير

هكذا يجب أن تكون نساء النّبي!

كان الكلام في الآيات السابقة عن موقع نساء النّبي ومسئولياتهنّ الخطيرة ، ويستمرّ هذا الحديث في هذه الآيات ، وتأمر الآيات نساء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بسبعة أوامر مهمّة.

فيقول سبحانه في مقدّمة قصيرة :( يا ـ نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ

٢٣٣

اتَّقَيْتُنَ ) فإنّ انتسابكنّ إلى النّبي من جانب ، ووجودكنّ في منزل الوحي وسماع آيات القرآن وتعليمات الإسلام من جانب آخر ، قد منحكن موقعا خاصّا بحيث تقدرن على أن تكن نموذجا وقدوة لكلّ النساء ، سواء كان ذلك في مسير التقوى أم مسير المعصية ، وبناء على هذا ينبغي أن تدركن موقعكنّ ، ولا تنسين مسئولياتكنّ الملقاة على عاتقكنّ ، واعلمن أنّكنّ إن اتقيتنّ فلكنّ عند الله المقام المحمود.

وبعد هذه المقدّمة التي هيّأتهنّ لتقبّل المسؤوليات وتحمّلها ، فإنّه تعالى أصدر أوّل أمر في مجال العفّة ، ويؤكّد على مسألة دقيقة لتتّضح المسائل الاخرى في هذا المجال تلقائيا ، فيقول :

( فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ) بل تكلّمن عند تحدثكنّ بجدّ وبأسلوب عاديّ ، لا كالنساء المتميّعات اللائي يسعين من خلال حديثهنّ المليء بالعبارات المحرّكة للشهوة ، والتي قد تقترن بترخيم الصوت وأداء بعض الحركات المهيّجة ، أن يدفعن ذوي الشهوات إلى الفساد وارتكاب المعاصي.

إنّ التعبير بـ( الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ) تعبير بليغ جدّا ، ومؤدّ لحقيقة أنّ الغريزة الجنسية عند ما تكون في حدود الاعتدال والمشروعية فهي عين السلامة ، أمّا عند ما تتعدّى هذا الحدّ فإنّها ستكون مرضا قد يصل إلى حدّ الجنون ، والذي يعبّرون عنه بالجنون الجنسي ، وقد فصّل العلماء اليوم أنواعا وأقساما من هذا المرض النفسي الذي يتولّد من طغيان هذه الغريزة ، والخضوع للمفاسد الجنسية والبيئات المنحطّة الملوّثة.

ويبيّن الأمر الثّاني في نهاية الآية فيقولعزوجل : يجب عليكنّ التحدّث مع الآخرين بشكل لائق ومرضي لله ورسوله ، ومقترنا مع الحقّ والعدل :( وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً ) .

إنّ جملة( فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ ) إشارة إلى طريقة التحدّث ، وجملة :( وَقُلْنَ قَوْلاً

٢٣٤

مَعْرُوفاً ) إشارة إلى محتوى الحديث.

«القول المعروف» له معنى واسع يتضمّن كلّ ما قيل ، إضافة إلى أنّه ينفي كلّ قول باطل لا فائدة فيه ولا هدف من ورائه ، وكذلك ينفي المعصية وكلّ ما خالف الحقّ.

ثمّ إنّ الجملة الأخيرة قد تكون توضيحا للجملة الأولى لئلّا يتصوّر أحد أنّ تعامل نساء النّبي مع الأجانب يجب أن يكون مؤذيا وبعيدا عن الأدب الإسلامي ، بل يجب أن يتعاملن بأدب يليق بهنّ ، وفي الوقت نفسه يكون خاليا من كلّ صفة مهيّجة.

ثمّ يصدر الأمر الثالث في باب رعاية العفّة ، فيقول :( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى ) .

«قرن» من مادّة الوقار ، أي الثقل ، وهو كناية عن التزام البيوت. واحتمل البعض أن تكون من مادّة (القرار) ، وهي لا تختلف عن المعنى الأوّل كثيرا(١) .

و «التبرّج» يعني الظهور أمام الناس ، وهو مأخوذ من مادّة (برج) ، حيث يبدو ويظهر لأنظار الجميع.

لكن ما هو المراد من «الجاهلية»؟

الظاهر أنّها الجاهلية التي كانت في زمان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم تكن النساء محجّبات حينها كما ورد في التواريخ ، وكنّ يلقين أطراف خمرهن على ظهورهنّ مع إظهار نحورهنّ وجزء من صدورهنّ وأقراطهنّ وقد منع القرآن الكريم أزواج النّبي من مثل هذه الأعمال.

ولا شكّ أنّ هذا الحكم عامّ ، والتركيز على نساء النّبي من باب التأكيد الأشدّ ، تماما كما نقول لعالم : أنت عالم فلا تكذب ، فلا يعني هذا أنّ الكذب مجاز ومباح

__________________

(١) طبعا يكون فعل الأمر (أقررن) في صورة كونها من مادّة القرار ، وحذفت الراء الاولى للتخفيف ، وانتقلت فتحة الراء إلى القاف ، ومع وجودها لا نحتاج إلى الهمزة ، وتصبح (قرن) ـ تأمّلوا جيّدا ـ

٢٣٥

للآخرين ، بل المراد أنّ العالم ينبغي أن يتّقي هذا العمل بصورة آكد.

إنّ هذا التعبير يبيّن أنّ جاهلية اخرى ستأتي كالجاهلية الاولى التي ذكرها القرآن ، ونحن نرى اليوم آثار هذا التنبّؤ القرآني في عالم التمدّن المادّي ، إلّا أنّ المفسّرين القدامى لم يتنبّؤوا ويعلموا بمثل هذا الأمر ، لذلك فقد جهدوا في تفسير هذه الكلمة ، ولذلك اعتبر البعض منهم الجاهلية الاولى هي الفاصلة بين «آدم» و «نوح» ، أو الفاصلة بين عصر «داود» و «سليمان» حيث كانت النساء تخرج بثياب يتّضح منها البدن ، وفسّروا الجاهلية العربية قبل الإسلام بالجاهلية الثّانية!

ولكن لا حاجة إلى هذه الكلمات كما قلنا ، بل الظاهر أنّ الجاهلية الاولى هي الجاهلية قبل الإسلام ، والتي أشير إليها في موضع آخر من القرآن الكريم ـ في الآية (١٤٣) من سورة آل عمران ، والآية (٥٠) من سورة المائدة ، والآية (٢٦) من سورة الفتح ـ والجاهلية الثّانية هي الجاهلية التي ستكون فيما بعد ، كجاهلية عصرنا. وسنبسط الكلام حول هذا الموضوع في بحث الملاحظات.

وأخير يصدر الأمر الرابع والخامس والسادس ، فيقول سبحانه :( وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ ) .

إذا كانت الآية قد أكّدت على الصلاة والزكاة من بين العبادات ، فإنّما ذلك لكون الصلاة أهمّ وسائل الاتّصال والارتباط بالخالقعزوجل ، وتعتبر الزكاة علاقة متينة بخلق الله ، وهي في الوقت نفسه عبادة عظيمة. وأمّا جملة :( أَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ ) فإنّه حكم كلّي يشمل كلّ البرامج الإلهية.

إنّ هذه الأوامر الثلاثة تشير إلى أنّ الأحكام المذكورة ليست مختّصة بنساء النّبي ، بل هي للجميع ، وإن أكّدت عليهنّ.

ويضيف الله سبحانه في نهاية الآية :( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) .

إنّ التعبير بـ (إنّما) والذي يدلّ على الحصر عادة ـ دليل على أنّ هذه المنقبة

٢٣٦

خاصّة بأهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله . وجملة (يريد) إشارة إلى إرادة الله التكوينية ، وإلّا فإنّ الإرادة التشريعية ـ وبتعبير آخر لزوم تطهير أنفسهم ـ لا تنحصر بأهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّ كلّ الناس مكلّفون بأن يتطهّروا من كلّ ذنب ومعصية.

من الممكن أن يقال : إنّ الإرادة التكوينية توجب أن يكون ذلك جبرا ، إلّا أنّ جواب ذلك يتّضح من ملاحظة البحوث التي أوردناها في مسألة كون الأنبياء والأئمّة معصومين ، ويمكن تلخيص ذلك هنا بأنّ للمعصومين أهلية اكتسابية عن طريق أعمالهم ، ولهم لياقة ذاتية موهوبة لهم من قبل الله سبحانه ، ليستطيعوا أن يكونوا أسوة للناس.

وبتعبير آخر فإنّ المعصومين نتيجة للرعاية الإلهية وأعمالهم الطاهرة ، لا يقدمون على المعصية مع امتلاكهم القدرة والإختيار في إتيانها ، تماما كما لا نرى عاقلا يرفع جمرة من النار ويضعها في فمّه ، مع أنّه غير مجبر ولا مكره على الامتناع عن هذا العمل ، فهذه الحالة تنبعث من أعماق وجود الإنسان نتيجة المعلومات والاطلاع ، والمبادئ الفطرية والطبيعية ، من دون أن يكون في الأمر جبر وإكراه.

ولفظة «الرجس» تعني الشيء القذر ، سواء كان نجسا وقذرا من ناحية طبع الإنسان ، أو بحكم العقل أو الشرع ، أو جميعها(١) . وما ورد في بعض الأحيان من تفسير «الرجس» بالذنب أو الشرك أو البخل والحسد ، أو الإعتقاد بالباطل ، وأمثال ذلك ، فإنّه في الحقيقة بيان لمصاديقه ، وإلّا فإنّ مفهوم هذه الكلمة عامّ وشامل لكلّ أنواع الحماقات بحكم (الألف واللام) التي وردت هنا ، والتي تسمّى بألف ولام الجنس.

و «التطهير» الذي يعني إزالة النجس ، هو تأكيد على مسألة إذهاب الرجس

__________________

(١) ذكر الراغب في مفرداته ، في مادّة (رجس) المعنى المذكور أعلاه ، وأربعة أنواع كمصاديق له.

٢٣٧

ونفي السيّئات ، ويعتبر ذكره هنا بصيغة المفعول المطلق تأكيدا آخر على هذا المعنى.

وأمّا تعبير( أَهْلَ الْبَيْتِ ) فإنّه إشارة إلى أهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله باتّفاق علماء الإسلام والمفسّرين ، وهو الشيء الذي يفهم من ظاهر الآية ، لأنّ البيت وإن ذكر هنا بصيغة مطلقة ، إلّا أنّ المراد منه بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بقرينة الآيات السابقة واللاحقة(١) .

إلّا أنّ هناك اختلافا في المقصود بأهل بيت النّبي هنا؟

اعتقد البعض أنّ هذا التعبير مختصّ بنساء النّبي ، لأنّ الآيات السابقة واللاحقة تتحدّث حول أزواج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاعتبروا ذلك قرينة على مدّعاهم.

غير أنّ الانتباه إلى مسألة في الآية ينفي هذا الادّعاء ، وهي : أنّ الضمائر التي وردت في الآيات السابقة واللاحقة ، جاءت بصيغة ضمير النسوة ، في حين أنّ ضمائر هذه القطعة من الآية قد وردت بصيغة جمع المذكر ، وهذا يوحي بأنّ هناك معنى آخر هو المراد ، ولذلك خطا جمع آخر من المفسّرين خطوة أوسع واعتبر الآية شاملة لكلّ أفراد بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله رجالا ونساء.

ومن جهة اخرى فإنّ الرّوايات الكثيرة جدّا الواردة في كتب الفريقين تنفي شمول الآية لكلّ أهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتقول : إنّ المخاطبين في الآية هم خمسة أفراد فقط ، وهم : محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام ومع وجود النصوص الكثيرة التي تعتبر قرينة على تفسير الآية ، فإنّ التّفسير الذي يمكن قبوله هو التّفسير الثالث فقط ، أي اختصاص الآية بالخمسة الطيّبة.

والسؤال الوحيد الذي يبقى هنا هو : كيف يمكن أن يطرح مطلب في طيّات البحث في واجبات نساء النّبي ولا يشملهنّ هذا المطلب؟

__________________

(١) ما ذكره البعض من أنّ «البيت» هنا إشارة الى بيت الله الحرام ، وأهله هم «المتّقون» لا يتناسب مطلقا مع سياق الآيات. لأنّ الكلام في هذه الآيات عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأزواجه ، لا عن بيت الله الحرام ، ولا يوجد أيّ دليل على قولهم.

٢٣٨

وقد أجاب المفسّر الكبير العلّامة «الطبرسي» في مجمع البيان عن هذا السؤال فقال: ليست هذه المرّة الاولى التي نرى فيها في آيات القرآن أن تتّصل مع بعضها وتتحدّث عن مواضيع مختلفة ، فإنّ القرآن مليء بمثل هذه البحوث ، وكذلك توجد شواهد كثيرة على هذا الموضوع في كلام فصحاء العرب وأشعارهم.

وأضاف المفسّر الكبير صاحب الميزان جوابا آخر ملخّصه : لا دليل لدينا على أنّ جملة :( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ ) قد نزلت مع هذه الآيات ، بل يستفاد جيّدا من الرّوايات أنّ هذه القطعة قد نزلت منفصلة ، وقد وضعها الإمام مع هذه الآيات لدى جمعه آيات القرآن في عصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أو بعده.

والجواب الثالث الذي يمكن أن يجاب به عن هذا السؤال هو : أنّ القرآن يريد أن يقول لزوجات النّبي : إنكنّ بين عائلة بعضها معصومون ، والذي يعيش في ظلّ العصمة ومنزل المعصومين فإنّه ينبغي له أن يراقب نفسه أكثر من الآخرين ، ولا تنسين أنّ انتسابكنّ إلى بيت فيه خمسة معصومين يلقي على عاتقكنّ مسئوليات ثقيلة ، وينتظر منه الله وعباده انتظارات كثيرة.

وسنبحث في الملاحظات القادمة ـ إن شاء الله تعالى ـ روايات السنّة والشيعة الواردة في تفسير هذه الآية.

وبيّنت الآية الأخيرة ـ من الآيات مورد البحث ـ سابع وظيفة وآخرها من وظائف نساء النّبي ، ونبّهتهن على ضرورة استغلال أفضل الفرص التي تتاح لهنّ في سبيل الإحاطة بحقائق الإسلام والعلم بها وبأبعادها ، فتقول :( وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ ) .

فإنكنّ في مهبط الوحي ، وفي مركز نور القرآن ، فحتّى إذا جلستن في البيوت فأنتنّ قادرات على أن تستفدن جيّدا من الآيات التي تدوّي في فضاء بيتكنّ ، ومن تعليمات الإسلام وحديث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي كان يتحدّث به ، فإنّ كل نفس من أنفاسه درس ، وكلّ لفظ من كلامه برنامج حياة!

وفيما هو الفرق بين «آيات الله» و «الحكمة»؟ قال بعض المفسّرين : إنّ كليهما

٢٣٩

إشارة إلى القرآن ، غاية ما في الأمر أنّ التعبير بـ (الآيات) يبيّن الجانب الإعجازي للقرآن ، والتعبير بـ (الحكمة) يتحدّث عن المحتوى العميق والعلم المخفي فيه.

وقال البعض الآخر : إنّ «آيات الله» إشارة إلى آيات القرآن ، و «الحكمة» إشارة إلى سنّة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مواعظه وإرشاداته الحكيمة.

ومع أنّ كلا التّفسيرين يناسب مقام وألفاظ الآية ، إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو أقرب ، لأنّ التعبير بالتلاوة يناسب آيات الله أكثر ، إضافة إلى أنّ تعبير النّزول قد ورد في آيات متعدّدة من القرآن في مورد الآيات والحكمة ، كالآية (٢٣١) من سورة البقرة :( وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ ) ويشبهه ما جاء في الآية (١١٣) من سورة النساء.

وأخيرا تقول الآية :( إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً ) وهي إشارة إلى أنّه سبحانه مطّلع على أدقّ الأعمال وأخفاها ، ويعلم نيّاتكم تماما ، وهو خبير بأسراركم الدفينة في صدوركم.

هذا إذا فسّرنا «اللطيف» بالمطّلع على الدقائق والخفيات ، وأمّا إذا فسّر بصاحب اللطف ، فهو إشارة إلى أنّ الله سبحانه لطيف ورحيم بكنّ يا نساء النّبي ، وهو خبير بأعمالكنّ أيضا.

ويحتمل أيضا أن يكون التأكيد على «اللطيف» من جانب إعجاز القرآن ، وعلى «الخبير» باعتبار محتواه الحكمي. وفي الوقت نفسه لا منافاة بين هذه المعاني ويمكن جمعها.

* * *

بحوث

١ ـ آية التطهير برهان واضح على العصمة :

اعتبر بعض المفسّرين «الرجس» في الآية المذكورة إشارة إلى الشرك أو الكبائر ـ كالزنا ـ فقط ، في حين لا يوجد دليل على هذا التحديد ، بل إنّ إطلاق

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

وليس لقبور إخوته وأهله الذين سمّيناهم أثرٌ، وإنّما يزورهم الزائر من عند قبر الحسينعليه‌السلام ، ويومئ إلى الأرض التي نحو رجليهِ بالسّلام، وعلي بن الحسين في جملتهم، ويُقال: إنّه أقربهم دفناً إلى الحسينعليه‌السلام . فأمّا أصحاب الحسينعليه‌السلام الذين قُتلوا معه، فإنّهم دُفنوا حوله، ولسنا نحصل لهم أجداثاً على التحقيق، إلاّ أنّا لا نشكّ أنّ الحائر محيطٌ بهم(١) .

وعلى هذا مشى العلماء المـُحقّقون والمـُنقّبون في الآثار من كون مشهده بحذاء الحائر الشريف، قريباً من شطّ الفرات، نصّ عليه الطبرسي في إعلام الورى ص١٤٧، والسيّد الجزائري في الأنوار النّعمانيّة ص٣٤٤، والشيخ الطُّريحي في المنتخب، والسيّد الداودي في عمدة الطالب ص٣٤٩، وحكاه في رياض الأحزان ص٣٩ عن كامل السّقيفة(٢) .

وهو الظاهر من ابن إدريس في السّرائر، والعلاّمة في المنتهى، والشهيد الأوّل في مزار الدروس، والأردبيلي في شرح الإرشاد، والسّبزواري في الذخيرة، والشيخ آقا رضا في مصباح الفقيه؛ فإنّهم نقلوا كلام المفيد ساكتين عليه(٣) .

____________________

(١) الإرشاد للشيخ المفيد ٢ / ١٢٦.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٣ / ٢٥٦.

(٣) السّرائر ١ / ٣٤٢، منتهى المطلب ١ / ٣٩٥، ذخيرة العباد / ٤١٣، غنائم الأيّام ٢ / ١٣٢، جواهر الكلام ١٤ / ٣٤٠، مصباح الفقيه ٢ / ٧٦١، كتاب الصلاة للشيخ الحائري / ٦٥٥، مُستمسك العروة الوثقى للحكيم ٨ / ١٨٨.

وفي مزار الدروس ٢ / ٢٥:... ثُمّ يزور الشُّهداء، ثمّ يأتي العبّاس بن عليٍّعليه‌السلام فيزوره...

٢٦١

ملاحظة:

تقدّم في نقل البحار أنّ الحُرَّ الرياحي حُمل من الميدان ووُضع أمام الحسينعليه‌السلام ، وعليه يكون مدفوناً في الحائر الأطهر.

ولكن في الكبريت الأحمر ج٣ ص١٢٤ جاءت الرواية عن مدينة العلم للسيّد الجزائري: إنّ السجّادعليه‌السلام دفنه في موضعه، مُنحازاً عن الشُّهداء. وفي ص٧٥ ذكر أنّ جماعة من عشيرته نقلوه عن مصرع الشُّهداء؛ لئلاّ يُوطأ بالخيل إلى حيث مشهده، ويُقال: إنّ اُمّه كانت معه، فأبعدته عن مجتمع الشُّهداء.

وإذا صحّ حمل العشيرة إيّاه إلى حيث مشهده، فلا يتمّ ما في مدينة العلم من دفن السجّادعليه‌السلام له؛ فإنّه من البعيد جداً أنْ تحمله العشيرة ثُمّ تترك عميدها في البيداء عرضة للوحوش، بل لم يعهد ذلك في أي اُمّةٍ وملّة.

وعلى كُلٍّ، فهذا المشهد المعروف له ممّا لا ريب في صحته؛ للسيرة المستمرة بين الشيعة على زيارته في هذا المكان، وفيهم العلماء والمـُتديّنون.

ويظهر من الشهيد الأوّل المصادقة عليه؛ فإنّه قال في مزار الدروس: وإذا زار الحسينعليه‌السلام فليزر عليَّ بن الحسين، وهو الأكبر على الأصح، وليزر الشُّهداء وأخاه العبّاسَ والحُرَّ بنَ يزيد(١) .

____________________

(١) الدروس للشهيد الأوّل ٢ / ١١ والعبارة بالمعنى، الينابيع الفقهيّة ٣٠ / ٤٩٣.

٢٦٢

ووافقه العلاّمة النّوري في اللؤلؤ والمرجان ص١١٥، واعتماد السّلطنة محمّد حسن المراغي - من رجال العهد النّاصري - في حجّة السّعادة على حجّة الشهادة ص٥٦ طبع تبريز.

وقال المجلسي في مزار البحار عند قولهعليه‌السلام في زيارة الشُّهداء العامّة: فإنّ هناك حومة الشُّهداء. المراد منه معظمهم أو أكثرهم، لخروج العبّاس والحُرِّ عنهم(١) .

ويشهد له ما في الأنوار النّعمانية ص٣٤٥: إنّ الشاه إسماعيل لمـّا ملكَ بغداد، وزار قبر الحسينعليه‌السلام ، وبلغه طعن بعض العلماء على الحُرِّ، أمرَ بنبشه لكشف الحقيقة، ولمـّا نبشوه رآه بهيئته لمـّا قُتل، ورأى على رأسه عصابة قيل له: إنّها للحسينعليه‌السلام ، فلمـّا حلّها نبع الدَّمُ كالميزاب، وكُلّما عالج قطعة بغيرها لم يتمكّن، فأعادها إلى محلّها، وتبيّنت الحقيقة، فبنى عليه قبَّةً وعيّن له خادماً، وأجرى لها وقفاً.

____________________

(١) بحار الأنوار ٤٥ / ٦٥، و٩٨ / ٣٦٩، المزار للمشهدي / ٤٨٦، إقبال الأعمال ٣ / ٧٣.

٢٦٣

الحائر:

جاء في حديث الصادقعليه‌السلام لفظ الحَيْر، فإنّه قال:« وهو على شطِّ الفُراتِ بحذاء الحَيْر » .

والحَيْر، بالفتح فالسّكون كالحائر: هو المكان المـُنخفض الذي يسيل إليه ماء الأمطار ويجتمع فيه. وفي تاج العروس بمادة حور: الحائر: اسمُ موضع فيه مشهد الإمام المظلوم الشهيد أبي عبد اللّه الحسين(١) .

ولم تحدث التسمية بالحائر من استدارة الماء حول القبر المـُقدّس حين اُجري عليه بأمر المـُتوكِّل العبّاسي؛ لأنّ لفظ الحائر والحَيْر وقع في لسان الصادق والكاظمعليهما‌السلام قبل استخلاف المـُتوكِّل.

نعم، إنّ اللّه سبحانه أكرم حُجّته ووليَّه المذبوح دون دينه القويم، ممنوعاً من ورود الماء الذي جُعل شرعاً سواء لعامّة المخلوقات، باستدارة الماء حول قبره يوم اُجري عليه؛ لإعفاء أثره ومحو رسمه ( ولن يزداد أثره إلاّ علوّاً )(٢) .

____________________

(١) لسان العرب ٤ / ٢٢٣، تاج العروس ٦ / ٣٢١، مجمع البحرين ١ / ٦٠٥.

(٢) أقول: ( وأنا العبد الفقير إلى اللّه تعالى مُحقّق هذا الكتاب محمّد الحسّون ) من بعد غيبة طويلة وفراق مرير انجلت سُحب الآهات عن قلبي، وارتوى ضماي بمعين النّظر إلى قبرٍ ضمَّ خيرَ ناصرٍ لأبي الأحرار الحسينعليه‌السلام ، وشُفي غليلي بالنّزول بقعوةِ مُغيَّبهِ، فاستشممتُ عطرَ الملائكة الحافّين بتربته؛ حيث وفَّقني الباري تعالى أنْ أزور قبر قمر بني هاشم أبي الفضل العبّاسعليه‌السلام ، الواقع في السّرداب المـُقدّس الكائن تحت القبَّة الشريفة، فتغشّتني رحمةُ ربِّي تعالى بمُشاهدة الماء الذي يأتي في سَاقيةٍ من جهة قبر سيّد الشُّهداء أبي عبد اللّه الحسينعليه‌السلام - الذي لم يذقْ من بردِهِ شربةً، وقد مضى بقلبٍ حزّته أشفارُ الظما كما حزّ خنجرُ الضبابي منحَره الشريف - ثمّ يدور حول قبر السّقّاء الذي آثر ألم الظما على الرواء، وارتوى بروح الوفاء لأخيه وابن بنت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث الكلمة الخالدة:

يا نفسُ مِنْ بعدِ الحُسينِ هُوني

وبعدَهُ لا كُنتِ أنْ تكوني

هذا حُسينٌ واردُ المنونِ

وتَشْرَبينَ باردَ المعينِ

واللهِ ما هذا فعالُ دينِي

ولا فعالُ صادقِ اليقينِ

ومن بعد قرون متطاولةٍ يستمر دوران الماء دورةً كاملة حول قبر الشهيد الظامي، والأخ المواسي لأخيه، ثمّ يخرج من خلال ساقية إلى خارج كربلاء المـُقدّسة.

٢٦٤

ولقد شعّت هذه الآية الباهرة، فاستضاءت منها الحقب والأعوام، واهتزّت لها الأندية والمحافل ارتياحاً، وتناقلها العلماء المـُنقّبون في جوامعهم، منهم الشهيد الأوّل في الذكرى، والأردبيلي في شرح الإرشاد، والسّبزواري في الذخيرة، والشيخ الطُّريحي في المنتخب، والشيخ المـُحقّق في الجواهر.

وكم لآل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله من براهين كاثرت النّجوم بكثرتها، وقد اجتهد أهل العناد في إغفالها أو افتعال نظائرها لأئمّتهم؛ حقداً وحسداً: ( وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ ) (١) .

مَنْ يُباريهمُ وفي الشَّمسِ معنىً

مُجهدٌ مُتعبٌ لِمَنْ باراهَا

ورثُوا من مُحمّدٍ سبقَ اُولا

هَا وحازُوا ما لَمْ تَحزْ اُخراهَا

قادةٌ علمُهُمْ ورأيُ حِجاهُمْ

مُسْمِعاً كُلَّ حكمةٍ منْظراهَا

علماءٌ أئمَّةٌ حُكماءٌ

يهتدي النّجمُ باتِّباعِ هُداهَا

____________________

(١) سورة التوبة / ٣٢.

٢٦٥

يتحدّث اليافعي في مرآة الجنان ج٤ ص٢٧٣ عن كرامةٍ لأحمد بن حنبل، فيقول: زادت دجلة زيادة مفرطة حتّى خربت مقبرة أحمد بن حنبل، سوى البيت الذي فيه ضريحه؛ فإنّ الماء دخل في الدهليز علوّ ذراع ووقف بإذن اللّه، وبقيت البواري عليها الغبار حول القبر، صحّ الخبر.

هكذا يرتاح لهذه الكرامة ويُصحّح الخبر، ولكنّه يتوقّف عن إثبات تلك الكرامة لسيّد شباب أهل الجنّة، وفلذة كبد الإسلام، وريحانة النّبيِّ الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله . وما أدري بماذا يعتذر يوم جرفت دجلة قبر ابن حنبل ومحت أثره حتّى لم يُعرف له ضريح إلى اليوم(١) ؟!

وقد أجاد العلاّمة الشيخ محمّد السّماوي، إذ يقول:

ألا مِنْ عَذيرِي يا بَني العلْمِ والحِجَى

مِنَ اليافعيِّ الحنْبليِّ المـُجلّلِ

يُكذِّبُني إنْ قُلتُ قبرُ ابنِ فاطمٍ

عليهِ اسْتَدَارَ الماءُ للمُتوكِّلِ

ويَزْعُمُ حارَ الماْ ولَمْ تجلُ غبرةٌ

على حُصرٍ كانتْ بقبرِ ابنِ حَنبلِ

وإنّ لأمثال ذلك في كتبهم اُنشىء الكثير، أرادوا به المقابلة لما صدر من آل النّبيِّ المعصومينعليهم‌السلام ، والإشارة إلى بعض ما أوقفنا البحث عليه وإنْ يُخرجنا عن وضع الرسالة، إلاّ أنّ الغرض تعريف القارئ بأنّ العداء كيف يأخذ بالشخص إلى إنكار البديهي، والتَّعامي عن النّيِّرات!

____________________

(١) بغداد في عهد العباسيِّين / ١٤٦.

٢٦٦

ذكر اليافعي في مرآة الجنان ج٣ ص١١٣: إنّ أبا إسحاق الشيرازي المتوفّى سنة ٤٧٦ هجرية لمـّا ورد بلاد العجم، خرج أهلها إليه بنسائهم وأطفالهم للتبرّك به، فكانوا يمسحون أردانهم به، ويأخذون من تراب نعله فيستشفون به.

وإذا صحّ مثل هذا، فلماذا كان الاستشفاء بتربة الحسينعليه‌السلام ، وهو سيّد شباب أهل الجنّة، بدعة وضلالة؟!

ثُمّ في ج٣ ص١٣٣ منه، يعدّ من فضائل أحمد وكراماته، وما حباه اللّه عن خدمته في الدِّين: إنّ إبراهيم الحربي رأى في المنام بشر الحافي خارجاً من مسجد الرصافة وفي كمّه شيءٌ، فسأله عنه، فقال: لمـّا قدم علينا روحُ أحمد بن حنبل نثر عليه الدر والياقوت، فهذا ممّا التقطته!

أصحيح أنْ تُعدّ هذه الرؤيا من الكرامات، ويُعدّ من الباطل حديث الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله في حقّ سيّد الوصيّينعليه‌السلام ، ومَن هو منه بمنزلة هارون من موسى، ولولاه لما قام للدّين عمود، ولما أخضرّ له عود؛ وذلك لمـّا تزوّج أمير المؤمنين من سيّدة نساء العالمينعليهما‌السلام ، بأنّ اللّه تعالى أمر شجرة طوبى أنْ تحمل صكاكاً فيها براءة لمُحبّي علي وفاطمةعليهما‌السلام من النّار، وأنشأ تحتها ملائكة التقطوا ما نثرته عليهم، يحفظونه إلى يوم القيامة؛ كرامة لعلي وفاطمةعليهما‌السلام ؟!

ثُمّ يرمي راوي هذه الكرامة بالجهالة والرفض، ويعدّ الحديث من الموضوعات(١) ، مع شهرة الحديث بين المـُحدّثين والمـُنقّبين في الآثار.

____________________

(١) اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة للسيوطي ١ / ٣٦٤.

٢٦٧

وجاء السّبكي فعدَّ في طبقات الشافعيّة ج١ ص٢١٥ من فضائل أحمد بن نصر الخزاعي، الذي قتله الواثق على مسألة خلق القرآن: تكلّم رأسه بالقرآن لمـّا قُطع، وبقي يقرأه إلى أنْ اُلحق بالجسد ودُفن.

وإذ سمعوا بأنّ رأس الحسينعليه‌السلام الذي قُتل في سبيل الدعوة الإلهيّة وإحياء الدِّين، يتكلّم بالقرآن؛ لإتمام الحجّة، وتعريفاً للاُمّة طغيان اُولئك الاُمراء، ولئلاّ تذهب تلك التضحية المـُقدّسة أدراج التمويهات، طعنوا في الحديث، ونسبوا راويه إلى الرفض والجهالة، مع أنّ الحسينعليه‌السلام لم يخرج عن كونه ابن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد شهد الصادق الأمين له ولأخيه المجتبى ( صلوات الله عليهم) بأنّهما إماما هذه الاُمّة إنْ قاما وإنْ قعدا، وأنّهما سيّدا شباب أهل الجنّة، ولم يخرج أشراً ولا بطراً، ولا ظالماً للعباد، ولا غاصباً للحقوق.

ولم يقتنع بذلك حتّى ادّعى كرامة لإسماعيل الحضرمي، وأنّها من المستفيض، قال في ج٥ ص٥١ من طبقات الشافعيّة: إنّ إسماعيل بن محمّد بن إسماعيل الحضرمي كان في سفر ومعه خادمه، فأشرفت الشمس على الغروب، فقال لخادمه: قُلْ للشمس تقف حتّى نَصل المنزل ونُصلّي! فقال الخادم: إنّ الفقيه إسماعيل يقول لكِ: قفي. فوقفت حتّى بلغ المنزل وصلّى، ثُمّ قال للخادم: أما تطلق ذلك المحبوس؟! فأمرها الخادم بالغروب، فغابت وأظلم الليل في الحال!!

هكذا يقول الخبر من المستفيض في رجل قصارى ما يتخيّل فيه أنّه أحد الأولياء، وينكر حديث ردّ الشمس لأمير المؤمنينعليه‌السلام ، وكان من أعلام النّبوَّة!

٢٦٨

ويرتاح الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ج٤ ص٤٢٣ إلى حديث الوركاني بوقوع المآتم والنّوح في أربعة أصناف من النّاس: المسلمين، واليهود، والنّصارى، والمجوس، يوم وفاة أحمد بن حنبل(١) ، ولا يكون هذا من البدعة والشناعة والخروج عن أخلاق المؤمنين! كما تحاملوا بذلك على الشيعة في إقامتهم المآتم والنّياحة على سليل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وريحانته حتّى قال الغزالي في مكاشفة القلوب ص١٨٧: إيّاك أنْ تشتغل ببدع الرافضة من النّدب والنّياحة والحزن؛ فإنّ ذلك ليس من أخلاق المؤمنين!! وضرب على وتره غير واحد من المؤرّخين.

وما ذنب الشيعة والمـُشرّع الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله بكى على ولده الحسينعليه‌السلام وهو حيٌّ يُرزق لمُجرّد تذكّر ما يجري عليه، فيخرج إلى المسجد ودموعه جارية، فتبكي الصحابة لبكائه، وفيهم: أبو بكر وعمر، وأبو ذر وعمّار، ويُسأل عن سبب بكائه، فيقولصلى‌الله‌عليه‌وآله :« الآن حدّثني جبرائيلُ بما يجري على الحسين » (٢) .

ويمرّ أمير المؤمنينعليه‌السلام بوادي كربلاء في ذهابه إلى صفّين، فيقف هناك ويرسل عبرته، ويقول:« هذا مناخُ ركابِهمْ، ومهراقُ دمائِهمْ، طوبى لكِ منْ تُربةٍ تُراقُ عليك دماءُ الأحبّة! » (٣) .

____________________

(١) تاريخ بغداد ٥ / ١٨٨، الجرح والتعديل للرازي ١ / ٣١٣، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ٥ / ٣٣٣، تهذيب الكمال للمزّي ١ / ٤٦٨.

(٢) الخصائص الكبرى للسيوطي ٢ / ١٢٥.

(٣) قرب الإسناد / ٢٦، كامل الزيارات / ٤٥٣، ذخائر العقبى / ٩٧، بحار الأنوار ٤١ / ٢٩٥، كشف الغُمَّة ٢ / ٢٢٢، الخصائص الكبرى للنسائي ٢ / ١٢٦، الفصول المـُهمّة لابن الصباغ المالكي / ٧٦١، جواهر المطالب في مناقب الإمام عليٍّ للدمشقي / ٢٦٣، باختلاف الألفاظ.

٢٦٩

إذاً، فهلاّ تحسن مواساة صاحب الشريعة ووصيّه المـُقدّم بعد وقوع الحادثة على فلذة كبده صاحب النّهضة المـُقدّسة، واللّه عزّ وجل يقول:( لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ اُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (١) ؟!

على أنّ الأحاديث الصحيحة عندهم عن أئمّتهم تحثّهم على التظاهر بما فيه إحياء أمرهم؛ من الدعوة إلى سبيل الدِّين، وإظهار الجزع والبكاء والنّوح على سيّد شباب أهل الجنّةعليه‌السلام .

ويقول الإمام الصادقعليه‌السلام في دعائه الطويل وهو ساجد:« اللهمّ، ارحَمْ تلكَ الصَّرخةَ الّتِي كانتْ لنا. اللهمّ، إنّ أعداءَنا عابُوا عليهمْ خُروجَهُمْ إلينا فلَمْ يَنهَهمْ ذلك عنْ الشخوصِ إلينا؛ رغبةً في برِّنا، وصلةً لرسولِكَ، وخلافاً منهُمْ على ما خالفنا. اللهمّ، أعطِهمْ أفضلَ ما يأمَلونَ في غربتِهمْ عنْ أوطانِهمْ، وما أثرُونَا بهِ على أبنائِهمْ » (٢) .

ويقولعليه‌السلام لحمّاد الكوفي:« بلغني أنّ اُناساً من الكوفةِ وغيرِهمْ مِنْ نواحِيها يأتونَ قبرَ الحُسينِ في النّصفِ مِنْ شعبان؛ فبين قارئٍ يقرأ، وقاصٍّ يقصُّ، ومادحٍ يمدحُ، ونساءٍ يندبنَهُ؟ » . فقال حمّاد: قد شهدتُ بعضَ ما تصف. فقالعليه‌السلام :« الحمدُ للّهِ الذِي جعلَ في شيعَتِنا مَنْ يَفدُ إلينَا ويمدَحُنا ويرثي لنَا، وجعلَ في عدوِّنا مَنْ يُقبِّح ما يصنَعُون » (٣) .

____________________

(١) سورة الأحزاب / ٢١.

(٢) كامل الزيارات / ٢٢٨، والدعاء فيه تقديمٌ وتأخير.

(٣) كامل الزيارات / ٥٣٩، وسائل الشيعة ١٤ / ٥٩٩، بتقديمٍ وتأخير.

٢٧٠

ولمـّا قال له ذريح المحاربي: إنّي إذا ذكرتُ فضل زيارة الحسينعليه‌السلام لقومي وبنيَّ كذَّبوني! فقالعليه‌السلام :« دَعْ النّاسَ يذهبونَ حيثُ شاؤوا وكُنْ مَعَنا » (١) .

فإذا كان هذا وأمثاله الكثير ممّا أوجب فعل الشيعة لتلك المظاهر، فلماذا يُطعن عليهم عند إيمانهم بها؟! وما ذنبهم؟! أفلا يتأوّل عملهم - والحال هذا - كما أوّلوا عمل خالد وغيره؟! أين المـُنصفون؟!

نعم، ليس السّرُّ فيما حكموا به على الشيعة من الرياء والتصنّع، والشنعة والبدعة إلاّ قيامهم بهذه الشعائر التي فيها إظهار مظلوميّة أهل البيت العلوي، وتفظيع أعمال المناوئين لهم، وإعلام الملأ بما نشروه من الجور، واسترداد الجاهليّة الاُولى، كما اعترف به ابن كثير في البداية والنّهاية ج٨ ص٢٠٢، قال: إنّ الشيعة لمْ يُريدوا بهذه الأعمال إلاّ أنْ يُشنّعوا على دولة بني اُميّة؛ لأنّه قُتلَ في دولتهم(٢) .

وعليه فلا يكون العمل المستلزم للتشنيع على عمل الجبابرة وطواغيت الاُمّة بقتلهم سيّد شباب أهل الجنّة، وتلاعبهم بالدِّين الحنيف تلاعب الصبيان بالإكر؛ مُقرّباً للمولى زلفة، ورضىً لربِّ العالمين.

____________________

(١) كامل الزيارات / ٢٧٢، بحار الأنوار ٩٨ / ٧٥.

(٢) البداية والنّهاية لابن كثير ٨ / ٢٢٠.

٢٧١

نهرُ العلقمي:

لم يذكر أصحاب المعاجم هذا الوصف، وأهمله المؤرّخون، كما لم يصفه حديث الصادقعليه‌السلام في الزيارة المـُتقدّمة؛ فإنّ فيها:« وهو مدفونٌ بشطِّ الفُراتِ بحذاء الحَيْر » (١) .

لكنّ شيخنا الطُّريحي ذكر في المـُنتخب ص٩١: أنّ رجلاً من أهل الكوفة حدّاداً قال: خرجت في البعث الذي سار إلى كربلاء، فخيّمنا على شاطئ العلقمي، وحموا الماء عن الحسين ومَن معه حتّى قُتِلوا وأهله وأنصاره عِطاشى، ثُمّ رجعنا إلى الكوفة، وبعد أنْ سيّر ابن زياد السّبايا إلى الشام رأيت في المنام كأنّ القيامة قامت، والنّاس يموجون وقد أخذهم العطش، وأنا أعتقد بأنّي أشدّهم عطشاً، مع شدّة حرارة الشمس والأرض تغلي كالقار، إذ رأيت رجلاً عمَّ الموقف نوره، وفي إثره فارسٌ وجهه أنور من البدر، وبينا أنا واقفٌ إذ أتاني رجلٌ وقادني بسلسلة إليه، فقلتُ له: اُقسم عليك بمَن أمَرَك، مَن تكون؟

قال: أنا من الملائكة.

قلتُ: ومَن هذا الفارس؟

قال: هذا عليٌّ أميرُ المؤمنين.

قلتُ: ومَن ذلك الرجل؟

قال: محمّدٌصلى‌الله‌عليه‌وآله .

____________________

(١) كامل الزيارات / ٤٤٠، بحار الأنوار ٩٨ / ٢٧٧، والعبارة:« إذا أردتَ زيارةَ قبرِ العبّاس عليه‌السلام ، وهو على شطِّ الفُراتِ بحذاءِ الحائر... » .

٢٧٢

ثُمّ رأيت عمرَ بن سعد وقوماً لم أعرفهم في أعناقهم سلاسل من حديد، والنّار تخرج من أعينهم وآذانهم، ورأيت النّبيّين والصّدّيقين قد أحدقوا بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعليٍّ:« ما صنعتَ؟ » . قال:« لمْ أتركْ أحداً مِن قاتلِي الحسينِ إلاّ جئتُ بهِ » . فقدَّموهم أمام رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يسألهم عمّا صنعوا بولده يوم كربلاء، فواحدٌ يقول: أنا حميت الماء عنه، والآخر يقول: أنا رميته، والثالث يقول: أنا وطأت صدره، ورابع يقول: أنا قتلت ولده.

وهو يبكي حتّى بكى مَن حوله لبكائه، ثمّ أمر بهم إلى النّار.

وجيء برجلٍ، قالصلى‌الله‌عليه‌وآله له:« ما صنعت؟ » . قال كنتُ نجّاراً، وما حاربتُ ولا [ قاتلتُ ]. فقال:« لقد كثّرتَ السّوادَ على وَلدِي » . فأمر به إلى النّار، ثُمّ قدّموني إليه، فحكيت له فِعلي، فأمر بي إلى النّار.

فلمـّا قصّ الرؤيا على مَن حضر عنده، يبس لسانُه ومات نصفُه، وهلك بأسوأ حال، وقد تبرّأ منه كُلُّ مَن سمع وشاهد.

وفي مدينة المعاجز ص٢٦٣ باب ١٢٧: روي عن رجل أسدي قال: كنتُ زارعاً على نهر العلقمي بعد ارتحال عسكر بني اُميّة، فرأيت عجائباً لا أقدر أنْ أحكي إلاّ بعضاً منها: إذا هبّت الريح تمرّ علىّ نفحات كنفحات المسك والعنبر، وأرى نجوماً تنزل من السّماء وتصعد مثلها من الأرض، ورأيتُ عند غياب الشمس أسداً هائل المنظر يتخطّى القتلى حتّى وقف على جسد جلّلته الأنوار،

٢٧٣

فكان يُمرّغ وجهه وجسده بدمه، وله صوت عالٍ، ورأيت شموعاً مُعلّقة وأصواتاً عالية، وبكاءً وعويلاً، ولا أرى أحداً(١) .

وفي مناقب ابن شهر آشوب ج٢ ص١٩٠: روى جماعة من الثّقات: أنّه لمـّا أمر المـُتوكّل بحرث قبر الحسينعليه‌السلام ، وأنْ يجري عليه الماء من العلقمي، أتى زيد المجنون وبهلول المجنون إلى كربلاء ونظرا إلى القبر لم يتغيّر بما صنعوا(٢) .

وفي هذا دلالة على وصف النّهر بالعلقمي في تلك الأيّام، ويؤكّد ذلك ما في مزار البحار ص١٦١ عن مزارَي المفيد وابن المشهدي من ورود روايةٍ بزيارة العبّاسعليه‌السلام غير مُقيّدة بوقت، وفيها: إذا وردتَ أرض كربلاء فانزل منهما بشاطئ العلقمي، ثُمّ اخلع ثياب سفرك واغتسل غسل الزيارة مندوباً، وقل...(٣) .

وفي تحيّة الزائر ص١٣٥، ذكر عنهما وعن الشهيد الأوّل وابن طاووس ورود روايةٍ بزيارةٍ للحسينعليه‌السلام ، وقالوا: إذا وردت قنطرة العلقمي، فقُلْ: إليك اللهمّ قصد القاصد...(٤) .

والظاهر منه ورود لفظ العلقمي في الرواية وليس من كلام العلماء؛ خصوصاً بعد العلم بأنّهم لا يذكرون إلاّ ما يعتمدون عليه في الروايات، ومنه نعرف أنّ نهر العلقمي كان معروفاً في الأزمنة السّابقة على زمان ابن [ طاووس ] الذي هو في القرن السّابع.

____________________

(١) مدينة المعاجز ٤ / ٧٠، الباب ١٢٧، بحار الأنوار ٤٥ / ١٩٣.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٣ / ٢٢١، وعنه بحار الأنوار ٤٥ / ٤٠١، والعوالم / ٧٢٧.

(٣) المزار للشيخ المفيد / ٩٩، المزار للمشهدي / ٣٧٠.

(٤) المزار للمشهدي / ٤١٨، بحار الأنوار ٩٨ / ٢٣٢.

٢٧٤

وجاء في نصّ الشيخ الطوسي، ففي مصباح المتهجد ص٤٩٩: إنّ الصادقعليه‌السلام قال لصفوان الجمّال:« إذا أتيتَ الفُراتَ ( أعني شرعة الصادق بالعلقمي )، فقُلْ: اللهمّ، أنتَ خيرُ مَنْ وفدَ... » (١) .

وعلى هذا يكون قول الفاضل السيّد جعفر الحلّي على الحقيقة:

وَهوَى بِجَنبِ العلْقميِّ فَلَيتَهُ

لِلشَّاربينَ بِهِ يُدافُ العلقمُ

نعم، لم يُعرف السّبب في التسمية به، وما قيل في وجهه: ( إنّ الحافر للنَّهر رجلٌ من بني علقمة، بطن من تميم، ثُمّ من دارمٍ جدّهم علقمة بن زرارة بن عدس ) لا يُعتمد عليه؛ لعدم الشاهد الواضح.

ومثله في ذكر السّبب: كثرة العلقم حول حافَتَي النّهر، وهو كالقول بأنّ عضد الدولة أمر بحفر النّهر ووكله إلى رجل اسمه علقمة؛ فإنّها دعاوى لا تعضدها قرينة، على أنّك عرفت أنّ التسمية كانت قبل عضد الدولة.

وحُكي في الكبريت الأحمر ج٢ ص١١٢ عن السيّد مجد الدِّين محمّد المعروف بمجدي - من معاصري الشيخ البهائي - في كتابه زينة المجالس، المـُؤلَّف سنة ١٠٠٤: أنّ الوزير السّعيد ابن العلقمي لمـّا بلغه خطاب الصادقعليه‌السلام للنهر:« إلى الآنَ تجري وقدْ حُرمَ جدِّي منك! » . أمر بسدّ النّهر وتخريبه، ومنْ أجله حصل خراب الكوفة؛ لأنّ ضياعها كانت تُسقى منه.

____________________

(١) مصباح المتهجد للشيخ الطوسي / ٧١٨، المزار للشهيد الأوّل / ١١٨.

٢٧٥

مشهدُ الرأس:

 ذكر أربابُ المقاتل: أنّ عمر بن سعد أمر بالرؤوس فقُطعت، فكانت ثمانية وسبعين رأساً، أخذت كندة ثلاثة عشر [ رأساً ]، وأقبلت هوازن باثني عشر [ رأساً ]، وجاءت تميم بسبعة عشر رأساً، وأقبلت بنو أسد بستّة عشر رأساً، واختصَّت مذحج بسبعة، ولسائر الجيش ثلاثة عشر رأساً(١) .

 وساروا بها إلى الكوفة، ثُمّ سيّر ابن زياد رأس الحسينعليه‌السلام ورؤوس مَن قُتل معه من أهله وصحبه مع السّبايا إلى يزيد بالشام(٢) .

____________________

(١) اللهوف في قتلى الطفوف / ٨٥، لواعج الأشجان / ١٩٧.

(٢) تاريخ الطبري ٤ / ٣٥١، الكامل في التاريخ لابن الأثير ٤ / ٨٣ الثقات لابن حبّان ٢ / ٣١٣، ينابيع المودَّة للقندوزي الحنفي ٣ / ٢٩، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٤ / ٢٨٠، بلاغات النّساء لابن طيفور / ٢١، البداية والنّهاية لابن كثير ٨ / ٢٠٩.

وقد تعصّب ابن تيمية فأنكر بعث ابن زياد للسبايا والرؤوس إلى يزيد، وهو إنكارٌ باطلٌ ردّه كثيرٌ من المـُحدّثين والمؤرِّخين.

قال الذهبي في السّير ٣ / ٣١٩: أحمد بن محمّد بن حمزة: حدّثني أبي عن أبيه، قال: أخبرني أبي حمزة بن يزيد الحضرمي، قال: رأيت امرأة من أجمل النّساء وأعقلهنَّ، يُقال لها: ( ريّا )، حاضنة يزيد - يُقال: بلغت مئة سنة -، قالت: دخل رجلٌ على يزيد، فقال: أبشر، فقد أمكنك اللّه من الحسين، وجيء برأسه. قالت: فوضع في طست، فأمر الغلام فكشف، فحين رآه خمر وجهه كأنه شمّ منه. فقلتُ لها: أقرعَ ثناياه بقضيبٍ؟ قالتْ: أي واللّه. وقد حدّثني بعض أهلنا أنّه رأى رأس الحسين مصلوباً بدمشق ثلاثة أيّام، وحدّثتني ريّا أنّ الرأس مكث في خزائن السّلاح حتّى ولي سلمان، فبعث فجيء به، وقد بقي عظاماً أبيضَ، فجعله في سفط وطيَّبه وكفّنه ودفنه في مقابر المسلمين، فلمـّا دخلت ( المـُسوِّدة ) سألوا عن موضع الرأس فنبشوه وأخذوه، فاللّه أعلم ما صُنع به.

وذكر باقي الحكاية، وهي قوية الإسناد. يحيى بن بكير، حدّثني الليث قال: أبى الحُسينعليه‌السلام أنْ يستأسر حتّى قُتل بالطَّفِّ، وانطلقوا ببنيه عليٍّ وفاطمة وسُكينة إلى يزيد، فجعل سكينة خلف سريره لئلاّ ترى رأس أبيها، وعليَّاً في غلٍّ، فضرب على ثنيَّتي الحسين وتمثّل بذلك البيت... وفي مجمع الزوائد للهيثمي ٩ / ١٩٥ رواية الليث المـُتقدّمة، وقال عقبها: رواه الطبراني ورجاله ثقات. والرواية في المـُعجم الكبير للطبراني ٣ / ١٠٤، وكذلك في تاريخ الإسلام للذهبي ٧ / ٤٤٢، وتاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ٧٠/١٥، والكامل في التاريخ لابن الأثير ٤/٨٦.

وفي الإصابة ٢ / ٧١: كان آخر ذلك أنْ قُتل واُتي برأسه إلى عبيد اللّه، فأرسله ومَن بقي من أهل بيته إلى يزيد، ومنهم عليّ بن الحسين وكان مريضاً، ومنهم عمَّته زينب، فلمـّا قدموا على يزيد أدخلهم على عياله.

وكذلك في تاريخ الطبري ٤ / ٣٥٢، وغيرها من المصادر الكثيرة التي نطقت بهذا الأمر، فالتعلّل بعدم إرسالهم إليه تعلّلٌ باطلٌ لمْ يُستند إلى دليل بعدما أثبت المـُحدّثون والمؤرّخون ذلك.

٢٧٦

ولم يترك سيّد الشُّهداءعليه‌السلام الدعوة إلى الدِّين، وتفنيد عمل الظالمين حتّى في هذا الحال، وهو مرفوع على القناة، فكان مُتمّماً لنهضته المـُقدّسة التي أراق فيها دمه الطاهر، وقد استضاء خلق كثير من إشراقات رأسه الأزهر.

لهفي لرأسِكَ فوق مسلوبِ القَنَا

يكسوهُ مِنْ أنوارِهِ جلْبابَا

يتلُو الكتَابَ على السِّنانِ وإنّمَا

رفعُوا به فوقَ السِّنانِ كتابَا

٢٧٧

ولا غرابة بعد أنْ كان سيّد الشُّهداءعليه‌السلام دعامة من دعائم الدِّين ومنار هداه، وعنه يأخذ تعاليمه ومنه يتلقَّى معارفه، وهو صراطه المستقيم ومنهجه القويم، دونه كانت مفاداته، وفي سبيله سبقت تضحيته، فهو حليف القرآن منذ اُنشئ كيانه؛ لأنّهما ثقلا رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله وخليفتاه على اُمّته، وقد نصّ المـُشرّع الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّهما لنْ يفترقا حتّى يردا عليه الحوض؛ فبذلك كان سلام اللّه عليه غير مبارح تلاوته طول حياته؛ في تهذيبه وإرشاده، في دعوته وتبليغه، في حلّه ومرتحله حتّى في موقفه يوم الطَّفِّ - ذلك المأزق الحرج بين ظهراني اُولئك الطغاة المـُتجمهرين عليه - ليتمّ عليهم الحجّة، ويوضّح لهم المحجّة.

هكذا كان يسير إلى غايته المـُقدّسة سيراً حثيثاً، حتّى طفق يتلو القرآنَ رأسُهُ الكريم فوق عامل السّنان، عسى أنْ يحصل مَن يُكهربه نورُ الحقّ، غير أنّ داعية الحقّ والرشاد لمْ يُصادف إلاّ قصراً في الإدراك، وطبعاً في القلوب، وصمماً في الآذان:( خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ) (١) .

 وبلغ من غلواء ابن زياد وتيهه في الضّلال أنْ أمر بالرأس الشريف فطيفَ به في شوارع الكوفة وسككها(٢) .

 يقول زيد بن أرقم: كنتُ في غرفة لي، فمرّوا بالرأس على رمح، فسمعته يقرأ:( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً ) (٣) . فوقف شعري، وقلتُ: رأسك أعجب وأعجب(٤) !

____________________

 (١) سورة البقرة / ٧.

 (٢) تاريخ الطبري ٤ / ٣٤٨.

 (٣) سورة الكهف / ٩.

 (٤) الإرشاد للشيخ المفيد ٢ / ١١٧، إعلام الورى بأعلام الهدى للطبرسي / ٤٧٣، الدّر النّظيم / ٥٦١.

٢٧٨

 ولمـّا صُلب في سوق الصّيارفة، وهناك ضوضاء، فأرادعليه‌السلام لفت الأنظار نحوه، تنحنح تنحنحاً عالياً، فاتَّجه النّاس نحوه، وأبهرهم الحال، فشرع في قراءة سورة الكهف إلى قوله تعالى:( اِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً ) (١)(٢) . وعجب الحاضرون؛ إذ لم تعهد هذه الفصاحة والإتيان على مقتضى الحال من رأس مقطوعٍ، وبقي النّاس واجمون لا يدرون ما يصنعون.

 ولمـّا صُلب على شجرة بالكوفة، سُمع يقرأ قوله تعالى:( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَب يَنقَلِبُونَ ) (٣) .

 قال هلال بن معاوية: سمعت رأس الحسينعليه‌السلام يخاطب حامله، ويقول:« فرّقتَ رأسِي وبَدني، أفرقَ اللّهُ بينَ لحمِكَ وعظمِكَ، وجعلكَ آيةً ونكالاً للعالمين » . فرفع اللعينُ سوطاً وأخذ يضرب بين رأسه المـُطهّر(٤) .

 وحدّث سلمة بن الكهيل: أنّه سمع رأس الحسينعليه‌السلام بالكوفة يقرأ، وهو مرفوع على الرمح:( فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (٥)(٦) .

____________________

 (١) سورة الكهف / ١٣.

 (٢) مناقب آل أبي طالب ٣ / ٢١٨.

 (٣) سورة الشعراء / ٢٢٧.

 (٤) مدينة المعاجز للبحراني ٤ / ١٠٠.

 (٥) سورة البقرة / ١٣٧.

 (٦) نهاية الدراية للصدر / ٢١٧، الوافي بالوفيات للصفدي ١٥ / ٢٠١، نَفَس الرحمن في فضائل سلمان للطبرسي / ٣٦٢، شرح إحقاق الحقّ للمرعشي ٣٣ / ٦٩٤.

٢٧٩

 كما سمعه ابن وكيدة يقرأ القرآن فشكّ أنّه صوته؛ حيث لم يعهد مثله يتكلّم، فإذا الإمامعليه‌السلام يخاطبه:« يابنَ وكيدة، أما علمتّ أنَّ معاشرَ الأئمّة أحياءٌ عند ربِّهم يُرزقون » . فزاد تعجّبه وحدّث نفسه أنْ يسرق الرأس ويدفنُه، فنهاه الإمامعليه‌السلام وقال:« يابنَ وكيدة، ليس إلى ذلك سبيلٌ، إنّ سفكَهمْ دَمي أعظمُ عندَ اللّه مِن إشهارهم رأسي، فذرهم : ( فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ ) » (١) .

وفي طريقهم إلى الشام نزلوا عند صومعة راهب، وفي الليل أشرف عليهم الراهب فرأى نوراً ساطعاً من الرأس الشريف، وسمع تسبيحاً وتقديساً وتهليلاً، وقائلاً يقول: السّلام عليك يا أبا عبد اللّه. فتعجّب الراهب ولم يعرف الحال، حتّى إذا أصبح وأراد القوم الرحيل سألهم عن الرأس، فأخبروه أنّه رأس الحسين بن علي بن أبي طالب، واُمّه فاطمة، وجدّه محمّد المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فطلب الرأسَ من خولي الأصبحي، فأبى عليه، فاسترضاه بمال كثير دفعه إليه، وأخذ الراهب الرأس الشريف وقبّله وبكى، وقال: تباً لكم أيَّتها الجماعة، لقد صدقت الأخبار في قوله: إذا قُتل هذا الرجل تمطر السّماءُ دماً.

ثُمّ أسلم ببركة الرأس الطاهر، وبعد أنْ ارتحلوا نظروا إلى الدراهم فإذا هي خزف مكتوب عليها:( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَب يَنقَلِبُونَ ) (٢) .

____________________

 (١) مدينة المعاجز للبحراني ٣ / ٤٦٢، [ والآية هي من سورة غافر/٧٠ - ٧١ ].

 (٢) مدينة المعاجز ٤ / ١٠٤.

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394